الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 829
- بتاريخ: 23 - 05 - 1949
تيتو والشيوعية (القومية)
للأستاذ عمر حليق
يقف المارشال تيتو سيد يوغسلافيا موقفاً فريداً إزاء هذه التيارات الجارفة التي تهب عليه من المعسكرين المتطاحنين: السوفيتي والغربي.
فهذا الخليط من الأقليات العنصرية والطائفية والتي تؤلف (اتحاداً جمهورياً من الشعب اليوغسلافية) يمر في فترة غريبة في خطورتها. ذلك لأن موقف التحدي الذي يقفه المارشال تيتو من الإدارة المركزية للشيوعية الدولية (الكومنفورم) الذي يعمل يوحي من موسكو جلب عليه غضب المعسكر الروسي في شرقي أوربا وأواسطها في البلقان، ولم يكسبه - إلى الآن على الأقل - بركة حلفاء الغرب ومؤازرتهم ونصرتهم. وتيتو على رغم ذلك قوى العقيدة في صلاح الماركسية الأصلية كما تنص عليها تعاليم ماركس ولينين كأساس للحياة السعيدة، وهو كافر بالنظم التي يعيش عليها المعسكر المعادي للشيوعية.
وماركسية تيتو ليست اشتراكية معتدلة على غرار المجتمعات الاسكندنافية مثلاً، أو تلك التي تحاول توطيدها في بريطانيا حكومة العمال.
فالنظام الذي يصوغ به تيتو حاضر يوغسلافيا هو نظام شيوعي أصيل في وسائله وأهدافه. وليس خلافه مع موسكو والكومنفورم يمس العقيدة الماركسية وإنما يمس تفسيرها والوسائل لتدعيمها وتحقيق مراميها.
والواقع أن تيتو (سوفياتي) أكثر من ستالين؛ فإن جوهر الخلاف بين يوغسلافيا وموسكو يعود إلى إصرار تيتو على الاعتقاد بأن نجاح الماركسية ورسوخها في الفكر والمسلك لن يتحقق في هذه المركزية الدقيقة الصارمة التي تفرضها موسكو بواسطة الكومنفورم على الأحزاب والجماعات الشيوعية التي تعيش خارج الاتحاد السوفياتي؛ بل أنه يؤمن بأن لك مجتمع ظروفاً خاصة ومؤثرات خاصة ونزعات عاطفية وتكويناً خلقياً خاصاً، فلا يمكن أن تصهر جميعا لتكون
لينة مطاوعة لتوجيهات دقيقة تصدر عن موسكو أو الكومنفورم وتمس المصلح القومية للذين اختاروا الاشتراكية نظاما للحياة.
وقد انقضت أكثر من عشرة أشهر على انفصام عرى الوئام بين المارشال تيتو وبين
موسكو والدول الشيوعية الأخرى، واتخذ هذا الخلاف صورة جدية في الأسابيع الأخيرة عندما حشدت ألبانيا وبلغاريا بعض قواتها على الحدود المشتركة مع يوغسلافيا ولكن هذه الحالة السيئة لم تضعف من مركز تيتو ولم تقلل ثقة الشعب اليوغسلافي بزعامته.
وتركز النظام الحالي في يوغسلافيا يعود إلى أسباب، منها أن الأغنياء ومترفي الطبقة الوسطى بالرغم من استيائهم من الاشتراكية التي حققها تيتو هم الآن مشلولو النشاط ليس لديهم من الآمال والأنصار ما يستطيعون بواسطته إقصاء تيتو عن الحكم. وعامة الشعب من المزارعين والعمال لا مفر لهم في يوغسلافيا من اختيار أهون الشرين: فإما ستالين وإما تيتو. وهذه الوضعية كذلك تنطبق على المثقفين. ويبدو جلياً أن الكثرة من كلا الفريقين قد رضيت بالمارشال تيتو مواطنهم. وقد فر أنصار موسكو والكومنفورم إلى خارج البلاد، ولم يعد لهم أثر في السياسة والحياة العامة.
والصعاب التي تواجه تيتو جمة؛ فقد قطعت الحكومات الشيوعية المحالفة لروسيا صلاتها الاقتصادية مع يوغسلافيا؛ وتحفظ حلفاء الغرب في تعاملهم مع تيتو في السياسة والاقتصاد. وبقي هذا الاشتراكي العنيد مصراً على ألا يساوم طرفاً من الطرفين (السوفياتي والغربي) على حساب الاشتراكية القومية التي يعمل لتوطيدها في وطنه. فتيتو يرى أن الوسائل التي يتبعها السوفيات وحلفائهم من الدول الشيوعية الأخرى لتحقيق الماركسية الصحيحة هي طريقة خاطئة تخالف تعاليم لينين من حيث أنها تراعي الخصائص الفردية لكل مجتمع، ولا تحاول أن تفرض على العالم بأسره نظاماً موحداً لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات وما هي عليه من تباين في كثير من الطبائع والميول والاتجاهات. ومع أن الماركسية تصر على بلشفة العالم في المراحل النهائية من التطور، فإن لينين رأى أن يراعي طبيعة هذا التباين الاجتماعي عندما انكب على توطيد الماركسية في الاتحاد السوفياتي أولاً تاركاً العالم الخارجي وشأنه، وهذا على عكس ما جرت عليه السياسة الروسية في سنوات ما بعد الحرب.
وتيتو كذلك لا يرى أن من الخير ليوغسلافيا أن تترك التجربة الاشتراكية الناجحة التي توطدت فيها الآن لترتمي في أحضان الرأس مالية.
وخلاف تيتو مع موسكو لا يقتصر على المبادئ الفكرية وتفاسيرها، بل أنه يمس التعامل
الاقتصادي كذلك.
فان سيطرة موسكو على منطقة نفوذها في شرقي أوربا تستدعي أن تنسق يوغسلافيا إنتاجها الزراعي والصناعي بحيث لا ينافس الصناعة والإنتاج الروسيين وإنتاج الدول الشيوعية الأخرى لئلا تنقصم عرى الوحدة الاقتصادية في منطقة النفوذ الشيوعي وتيتو لا يرى أن من المصلحة القومية أن يحصر إنتاج بلاده ونشاطها الاقتصادي في أصناف معينة أو مقادير محدودة مراعاة لمصلحة موسكو والدول الموالية لها. وهو يرى إن يوغسلافيا تستطيع أن تحقق إنتاجاً وافراً دون قيود والتزامات اختيارية أو اضطرارية فتستفيد وترفع مستوى معيشته سكانها بدل أن تضحي بذلك إرضاء لتعليمات الكومنفورم.
ويقول تيتو صراحة إن بلاده لم تتحرر على يد الجيش الروسي أو الجيوش الحلفاء من النير الطلياني والألماني، وإنما الذي حرر يوغسلافيا هم أبنائها من الثوار ورجال المقاومة السرية، ولذلك فليست يوغسلافيا مدينة لأحد، وهي ترفض الانصياع لأوامر موسكو والاستسلام لرغبات الغرب.
هذه العزلة الاقتصادية والسياسية التي اختارها تيتو لنفسه ولبلاده قد استوجبت التزامات ثقيلة. وقد أصر تيتو على أن يلمس بنفسه طبيعة هذه الالتزامات وانعكاساتها على طبقات الشعب فقام يجوب إنحاء البلاد ليتعرف مطالبها ويقف على مشكلات الأقليات العنصرية والطائفية المختلفة الميول والنزعات.
وكان لاختبار تيتو حالة الشعب ووسائل الإنتاج اختباراً شخصياً أثر بليغ في تفهمه لحقيقة الوضع ومواطن الضعف وإمكانيات القوة. كما إن اتصالاته الشخصية قد عززت مكانته في قلوب الشعب تعزيزاً متيناً. وتيتو هو أول زعيم شيوعي مسؤول يترك قصره المحاط بالحراس ويندفع في طول البلاد وعرضها يدرس ويتعرف عن كثب.
ولقد اكتشف تيتو البون الشاسع بين وضع المشروعات والبرامج على الخرائط والورق وبين حقيقة تنفيذها. فقد وجد إن العمال في المصانع والمزارع التي تملكها الدولة بطيئو النشاط قليلو الإنتاج منحطو المعنوية بسبب الظروف الصعبة التي تحيط بالحياة العمالية فعمل تيتو جاداً لزيادة نشاطهم وإنتاجهم ورفع معنوياتهم عن طريق التحسين في شؤون العمل وظروفه وشروطه الصحية وساعات الراحة وحصة في الأرباح وجوائز التفوق
وغير ذلك من المؤثرات النفسانية التي يعلمها المعنيون بشؤون العمل والعمال.
وقد أفاد تيتو كثيراً من الجولات في طول البلاد وعرضها للتعرف على الاتجاهات السياسية ومبلغ مناصرة الشعب له في موقف الضغط السوفياتي الشرقي ومن السلبية الغربية.
والظاهر أن موسكو والكومنفورم لن تترك تيتو يطبع الشيوعية بطابع قومي محلي وينفر من المركزية الصارمة التي استنتها موسكو لنفسها ولحلفائها. فبالإضافة إلى حرب الأعصاب وتجمع الجيوش الشيوعية على الحدود اليوغسلافية وحملات الدعاية والتشنيع الذي تتعرض له يوغسلافيا وعاهلها فإن تيتو يواجه حركة جدية من المعسكر السوفياتي تبتغي اقتطاع أجزاء واسعة من الأرض اليوغسلافية وضمها إلى قطاعات يونانية وبلغارية وألبانية لتأليف دولة بلقانية شيوعية جديدة تعرف باسم (مقدونيا)
وهذا التحدي السوفياتي لتيتو يلاقي منه صلابة حازمة. والى الآن لم يطلب تيتو معونة من حلفاء الغرب. ولا يبدو أن الحلفاء قد عرضوا عليه هذه المعونة، وكل ما طلبته يوغسلافيا من الحلفاء وغيرهم من الدول الحيادية هو زيادة التبادل التجاري دون التقيد بالتزامات سياسية أو عسكرية.
ومن الجدير بالإشارة إليه أنه بالرغم من هذا الاختلاف الجدي بين تيتو وموسكو فإن الوفد اليوغسلافي في الأمم المتحدة لا يحيد مطلقاً عن الأخذ بوجهة النظر السوفياتية والتصويت بجانب الكتلة السوفياتية في القضايا المعروضة على الأمم المتحدة.
وللمرء أن يتساءل عن المدى الذي قد يستطيع تيتو أن يثبت فيه على هذه الصلابة، وهل سيدفع في هذه المراحل النهائية لمحالفة المعسكر الغربي أم سيخضع لموسكو؟
الجواب في هذه الأيام الحبالى التي تلد كل عجيب. . .
(نيويورك)
عمر حليق
قطرات ندي
للأستاذ راجي الراعي
سم زعاف، والمحبة سلاف، والغرور أصداف، والحياة غلاف.
كلما رفعت ستاراً من ستائر الغيب غرد لي طائر في الجنة.
الأبراج كثيرة وأعلاها تلك التي تنتقل بينها الشمس ويقيم فيها العباقرة.
اليأس جدار يتداعى.
ثلاثة حدود لم تعرف بعد: الحد الذي عنده قدرة المرء والحد بين العقل والجنون، والحد بين الجريمة والعبقرية.
كيف ترجو أن يقوم بناؤك في الأرض والحجر في إحساسك وضميرك؟
كأني بهذه الجبال جبلت من كبرياؤك وكبريائي!
أنا في رأسي وما يحويه من ذاكرة وإرادة وعقل وشعور وخيال بين منجم وجواد وميزان وقيثارة ومجنون.
أرى في المحراث مركبة للعلاء تجر إلى الخالق.
إن المواهب رفيعة عزيزة منيعة أنيقة لا تعرف التطفل والابتذال، ولا القيد والإذلال، ولا تؤخذ رخيصة ولا يسمع لها في كل مقام مقال: اسقني خمراً لأسقيك خمراً. . . هلت لي أجوائي لآتيك بجناحي. . أرسل بطاقة الدعوى إلى العلاء، لترى وجهي في الوليمة الخالدة.
البركان تطلقه الأرض إذا جأرت بالدعاء الله.
الليل ضباب أسود.
كلما مر بي نزع الموت من طريقه إلى حجراً!
للفجر مهمته، يقوم بها في كل صباح بنشاطه المعروف: يبدأ بتلاوة سيرة الليل، ويسكب نداء، ويمهد طريق الشمس، ثم يتوارى أمامها تهيباً وإجلالاً.
العقل يهمس والهوى يصرخ.
الصدى رسم الصوت.
أين أذهب بأحلامي إذا ما أحضرت غداً؟ أأذبحها حلماً حلماً على عتبة القبر؟ ليست يدي حمراء فلا قدرة لي ولا جرأة على هذه المجزرة.
الميت أمانة نودعها التراب ولكنه لا يحفظ الوديعة.
لم تهتد بعد إلى الطريق، ولم تختر الرفيق وأنت بين ذاك الرحيق رحيق الجنة، وهذا الشهيق شهيق الجحيم؟
بين المرافئ والبحيرات صلات.
بين الأوراق والثمار ما بين الأصداف واللآلئ.
لكل دمعة؛ فإذا بكى الجبل ذرف ينبوعاً.
إن لطريق الواجب منعطفات هي الخيانات.
الفم الذي لا يشبع ولا يرتوي هو فم الشهرة الشرهة.
كلما تمثلت مرارة يومي الأخير قمت إلى الأيام بفم الشره الولهان أمتص ما فيها من الشهد.
أنا مثقل بأيامي وبلاياي ومطامعي وموتاي وأحلامي، ولا أزال مع ذلك قائماً أسعى لم أرزح بعد تحت أثقالي. . . أفي ساقي هذه القوة الجبارة وأنا احسبني ضعيفاً؟. أفي هذا العتو وأتململ، وأخاف وأشكو؟
أقدم الممالك وأشدها رسوخاً وهولاً وطغياناً مملكة الأموات، يتولاها رجل صولجانه المنجل وشريعته الغدر، وجيشه راقد وخزانته فارغة وعلمه هو العلم وعرشه من تراب تخلعه عنه بين الحين والحين يد تمتد إليه من دار الخلد.
من وثق بالله وثق بنفسه ووثق به الناس. إنها الثقة المثلثة.
كم من عبد ذليل هيل عليه التراب ألف مرة قبل يومه الأخير فانطوى قبره على ألف قبر!
في كل عاصفة وإعصار خطيب عظيم من خطباء الطبيعة يدعو إلى الثورة، وفي كل صاعقة غضبة لجوبيتر، وفي كل بركان أرض تمزق أحشائها، وفي كل فجر ستار يرفع، وفي كل جبل كبرياء مجسدة، وفي كل سهل خضوع واستسلام، وفي كل ينبوع قلب لشاعر عبقري، وفي كل نجمة عين رقيب، وفي كل ليل طليعة من طلائع الموت، وفي كل شيطان ساع من سعاة الجحيم.
لقد خلقتم أفراساً لتنطلقوا في الفضاء الرحب والسهل الفسيح حتى تبلغ الحد الذي رسمه لكم القدر.
لولا العين التي تفرقني في الدنيا لجمعت نفسي وخلوت بها وعشنا معاً في جو من الطهر
الناصع والمجد الساطع والفلسفة الجامحة التي لا رادع لها ولا وازع.
أنا حي ولكنني أحمل موتاي وموتي العتيد الذي غرز في وتداً منذ ولدت ورحل على أن يعود إلى بعد حين حاملاً خيمتي لينصبها لي هناك على رابيةٍ عساها تكون زاهرة وبين قوم أرجو ألا يكون الشياطين.
قد ترقد الفكرة أعواماً ثم تمر بها فكرة أخرى فتوقظها وتمشي الفكرتان متعانقتين كأنهما على موعدٍ في طريقهما إلى هنائك أو شقائك. . .
إذا جفت البحور أطلقها الإنسان من صدره وعينيه فزخرت ببلايا. . .
الثدي قرب الحب.
الأساطير هوس التاريخ وتهاويله.
الله هو الطيب يفوح ريحه في العبقرية.
الأصداء هي الأصوات في أبانيتها وقحتها وعنادها
الجنون عقل سقط تحت أثقاله
الرأس والصدر والبطن ثلاثة أقفاص أنا طيرها السجين.
الجبين هو الشاطئ الذي يبقى فيه الدماغ مراسيه كلما خاض عبابه التفكير وعاد من رحلته. . .
الحجر في أسس البناء تضحية ونكران، وفي زاويته سيادة وزعامة، وفي جداره شباب ومعونة، وفي سقفه عطف وحماية؛ وهو في سفح الجبل طموح، وفي شعابه مخاطرة، وفي قمته غطرسة وشمم؛ وفي الأعمدة تمرد وشموخ، وفي الخرائب حنين وذكرى، وفي القبور سأم وهجران. . .
المجنون رجل مجنون يلبس حداد عقله الميت!
البحر كأس من الماء إذا شرب هرقل.
الأمثال دنانير تضربها الحكمة وتوزعها على الناس.
الغصن الذي يحمل الثمرة اليانعة يد تشير إلى الخبرة والحنكة.
البصر بعض البصيرة أو هو أداتها.
بين السحر والغسق يوم يتقلب بين الهم والقلق، ودهر وعد وما صدق. . . ويجيئني الليل
ويأتي الأرق وما أنا إلا سهم أطلقه الحب فانطلق، ولسان نطق وقلب خفق. . . وطارق طرق وكان جزاؤه الفلق. . . والله سره في ما خلق. . .
ماذا تفعل تلك المئات من الشموس الهاجعة في المجرة. . . أتراها تنام على غارها القديم أم هي تنتظر خلائقها وأمجادها العتيدة؟
الزمان فمه لعاب الأمل ولسانه التاريخ ولقمته العمر ونابه الموت. . .
الضباب فكرة غمضت في رأس الطبيعة.
الذكرى جرس يطن في أعاق وادي النسيان.
الشمم هو ما ارتفع فيك من الهضاب والقمم.
في اليوم الواحد يتصارع العقل والجنون ألف مرة كأنهما الأسد والنمر في غابة الرأس.
النجوم وشى الليل، أو جيش غلب على أمره، أو نظرات الخالق في ما صنع، أو شهودنا ونحن نحتكم إلى الزمان أو سلك من اللآلئ انتثر، أو بقايا سيارة كان لها يومها في ما ارتطمت بما شقها ووزعها في الفضاء. . .
كلما احتك الخالق بخليقته سكنت رياح الكفر وتألق في سماء الإيمان كوكب جديد.
إن في كسوف الشمس وخسوف القمر شيئا من العياء والسأم والقنوط.
كل فكرة نبضة من نبضات الرأس.
الليل عقد ينفرط نجوما. . .
الكفن آخر هبات الناس للناس!
المهد أول اللحد، واللحد مهد الآخرة.
كلما أقمر الهلال ترنح أملي واطمأن طموحي.
من قلت شموسه وكثر ضبابه فتح له الفن ذراعيه وضمه إلى صدره.
الأعوام أعمدة الزمن.
كلما رأيت الشجرة السامقة الشامخة حسبت أن الأرض تتطاول إلى السماء لتراها وتبثها الشكوى.
من نحر الحب أكل قلبه.
ما دام هناك رقاب تنحني فلا بد من بقاء النير!
يدفنونه هنا فينهض هناك: تلك هي البطولة.
خلقت لنا الجباه لنجابه بها الدهر، فمن ألقى سلاحه أمام الحياة تخلى عن جبينه.
السهول أكتاف الجبال، والأدوية بطونها، والقمم وموسها، والشعاب عروقها، والمغاور أقفاصها، والآكام أطفالها، والثلوج شيبها، والأشجار خيالها، والرياح وحيها وتذكاراتها، والصخور ضلوعها، والرسوخ في الأرض عقلها وبقاؤها. . .
الرجل الكبير تقرأ على صحيفة قبره في كل صباح سطراً جديداً.
الموت هدنة ثم يستأنف العراك.
غضون الوجه والجبين أثلام يشقها محراث الحياة.
القراطيس لا تحمل وطأة العباقرة.
الطمع سكرة لا كؤوس لها.
الأرض التي ترحمك بسنابل خيراتها هي التي تظلمك بحديد قيودها.
كلما تعددت ذاتيتك قل عنادك.
كلما رأيت الشمس تميل إلى المغيب خشيت على ما نسجته من الأحلام.
الإيمان ذراع النفس مرتفعة إلى السماء تبتهل، والكفر ذراعها المبتورة.
المخترعون أقرب الناس إلى الخالق.
كلما فنيت أحلامي في أهدافها طاب لي البقاء.
الموت وحده هو الذي يعتقك مما أنت فيه. . إن في حريتك تراباً ولحداً.
الأبله ساعة تحطمت آلتها.
الفجر طفولة، والظهيرة كهولة، والمساء شيخوخة، والليل هو الموت.
حكاية الليل والنهار حكاية جدار تبنيه وجدار ينهار.
السماء ترمي الأرض بصواعقها فترميها الأرض ببراكينها. .
قد يكون البركان احتجاجاً على الإنسان الذي تلعب يده بأحشاء الأرض.
للكهرباء العظيم أسلاك توثقه بالخلود.
إنني أرى التراب عالقاً بالجباه الذليلة.
العقيم صفر في سفر الوجود.
النجوم عديدة ولكن هل لك بينها نجمة؟
كلما نظرت إلى الأفق الجبار شعرت أني ما أزال طفلاً.
راجي الراعي
صور من الحياة
قبعة تتفلسف
للأستاذ كامل محمد حبيب
يا صاحبي، أي شيطان وسوس لك فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذرهم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية؟
لقد كان حديثاً عجباً أن تقول (أنا لا أؤمن بالوطن ولا بالدين ولا باللغة لأنها قيود ثقال. وأحر بمن يتحرر منها أن يسود العالم كله.
أما الوطن فهو كلمة براقة تستهوي القلوب الضعيفة وتستغرق الألباب السقيمة، وتخلب العقول الجامدة. على حين أنها - في رأي الفيلسوف - فارغة من المعنى خالية من الحياة. والوطن هو نعرة بالية توارثها جيل عن جيل في غير إمعان ولا رؤية، وهو آثار فكرة التعصب العتيق حين كانت القبائل المتشعبة تنبث في فجاج الأرض ومتاهاتها، تخشى أن يتخطفها الناس من حولها، وهو لفظ جاف لا يحمل في ثناياه إلا صورة من جشع الإنسان الأول وكلبه حين اضطربت الأنانية في نفسه - لأول مرة - فاختار قطعة من الأرض ووضع حواليها الصوى والعلامات ثم قال: هذه ملكي. . هي وطني!)
ونسيت أن الوطن روح تتدفق في مسارب الدم وتخفق بين طيات القلب، وهو تأريخ حي ينبض في ملاعب الصبا ومسارح الشباب، هنالك تحت الدوحة الباسقة على شاطئ النيل، وفي ظلال شجرة الجميز على ضفة الغدير، حيث تداعبهما أنفاس الصبح الندية أو تعابثها نسمات الأصيل الهينة، والسماء صافية والجو صحو، وصوت خرير الماء يصاعد نغماً شجياً يلعب بالفؤاد ويعانق القلب ويهز المشاعر.
هناك في موكب الحياة على بساط الطبيعة السندسي وهو يتراقص في رأى العين ليوقع لحناً عذباً فيه جمال الحياة وجمال الموسيقى. . .
وقلت (أن الوطن فكرة تتفجر من خلالها ألوان من صراع القوميات العاصف وتفور من جنباتها ضروب من الحروب الطاحنة فتدفع العالم ليتردى في هاوية من الهلاك والدمار. . . هاوية ما لها من قرار. . . آه، لو أصبحت الدنيا كلها وطناً واحداً، إذن لانمحت الآثام
والشرور! والوطن هو قانون الغابة في الملكة الحيوانية لأنه للأسد بأن يحمي حوزته ويذود عن عرينه، ثم لا يتورع عن أن يقتحم كناس الظبي الوديع فيفتك به ويهدم داره)
ونسيت أن الوطن هو أم يتدفق الحنان من قلبها، وأب يتوثب العطف من حناياه، وأبناء هم نور العين وجمال الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب، وأهل تهدأ بهم النفس ويأنس إليهم الفؤاد، وهو عش الطير يأوي إليه ليجد الراحة من عناء العمل ويلمس الطمأنينة من عراك العيش ويشعر بالأرض من فزع العاصفة. أرأيت - يا صاحبي - طيراً يحوم حول بقايا عشه المتهدم بعد أن عصفت به ريح صرصر عاتية أو عبثت به يد غشوم قاسية؟ أنه - لا ريب - يتضرم أسى ولوعة ويتنزى ألماً وحسرة لأن عشه الحبيب قد تمزق فوجد - في قرارة نفسه - فقد وطنه العزيز.
هذا هو الوطن في نفس الطير، فما بال الإنسان؟ ولكنك أنت أحسست الضياع في طفولتك والحرمان في شبابك والوحدة في رجولتك، فلا عجب إن أنت كفرت بالوطن لأنك لم تستشعر معناه إلا في تلك الحجرة الضيقة المظلمة في ذلك الزقاق القذر الوضيع حيث عشت وحدك ضائعاً منبوذاً؛ فحملت لأهلك ووطنك كراهية وبغضاً، وتأرثت نفسك حقداً وحسداً، وحاولت - جاهداً - أن تضع من جمال الوطن وفتنته وأن تثلب فنونه وآدابه وأن تحتقر ذكاءه وعبقريته وأن تحطمن صفائه ورونقه عسى أن تشفى داء نفسك السقيمة أو أن تنقع غلة قلبك المريض ورحت تنافح عن الأجنبي وتشيد بعلمه وترفع من قدره لأنه نفخ فيك أنت، يا صاحبي، من روحه ووسمك بسماته وخلق منك فيلسوفاً كبيراً، تفلسفت آراؤه فخان الوطن والدين واللغة.
وسمعتك تقول: (أما الدين فهو غسل ثقيل ينحط بهمم الرجال عن أن تنهض بجلائل الأعمال، وهو خرافة الأخلاق السامية، وهو روح التخاذل والتواكل. ألا تعلم بأن اليهودي يتوسل إلى الثراء بالسرقة والربا، ثم يسيطر - بالمال - على الأمم يصرفها كيف شاءت أنانيته وأطماعه؟ وأن الدول القوية تغتر الشعوب الضعيفة بكلمات الشرف والعدل ولا رأفة وما بها غير الرياء والمكر والخداع وغير شره المال وكلب الذهب؟ وأن الأخلاق القويمة لتصطرع في نفس الرجل القوي مثلما تصطرع الأحزاب في قلب الأمة الفتية فتنهش لحمها وتعصف بحيويتها).
ونسيت أن الدين نور سماوي يهبط إلى الأرض فتنجاب له ظلمات الحياة ومتاعبها، ويتدفق في نواحي الروح فيغمرها بالسلام والطمأنينة ويجذب الإنسان عن النوازع الأرضية ويترفع به عن الوساوس الشيطانية ليلبس ثوب الملك وهو إنسان يسير على الأرض. . .
إنني أذكر - يا صاحبي - يوم أن أرغمت على أن أعيش في قرية نزل بها بلاء الحمى النخاعية الشوكية يحطم أهلها ويعصف بشبابها فانطلقت إلى طبيب القرية - وهو صديقي - أسأله دواء أتقي به شر هذا الوباء الجارف، فما راعني إلا أن أرى في نظراته علامة الدهشة، فقلت له! (ما بالك؟) قال (ألست مسلماً؟) قلت (بلى، وما للإسلام ولهذا البلاء النازل؟) قال (فأنت تتوضأ خمس مرات كل يوم، وفي كل مرة تتمضمض ثلاث مرات؟) قلت (نعم!) قال (هذا وقاء من شر هذا البلاء) ثم اندفع في حماسة يحصي الفوائد الصحية للوضوء والصلاة. هذا هو رأي العلم في بعض معاني الدين، فماذا تقول فلسفتك أنت؟
والدين يشفي الأدواء الاجتماعية مثلما يشفي الأدواء الجسمانية.
وسمعتك تقول (وأنا رجل أناني لا أعتقد إلا في الكسب المالي ولا أوقن إلا بالفوز المادي. وهذا (فلان بك) رجل عظيم، سلك إلى غايته طرقاً لا يردعه عنها دين ولا خلق، فزوجه فتاة شابة ذات جمال ودلال تمهد له السبيل الوعر وتفتح له الباب الموصد ثم تدفعه إلى الهدف وفي سهولة ويسر، وهو من ورائها يندفع حتى كاد يبلغ. ولو أنه تشبث بخرافة الدين أو تعلق بسراب الأخلاق لقعد عن الغاية وتخلف عن الركب).
ونسيت أن الرجولة والشهامة والنزاهة كلها من أمور الدين.
ثم قلت (إن من عبث الأخلاق ما نرى: فالفضائل أشياء نسبية، يتحلى بها الرجل من أوساط الناس فيبدو في أعين الناس فاضلاً كاملاً ويتمسك بها الرجل وهو من العظماء فيتمثله الناس منافقاً مخادعاً. وإن الناس ليتندرون بالرجل العظيم إن هو خلا إلى المسجد والمسبحة والمصحف بقدر ما يسخرون من الرجل العادي إن هو عكف على مجالس الخمر والقمار والفجور. وإن الرجل العظيم ليسرق الآلاف فلا تزدريه عين ولا يحتقره قلب، وإن سرق الرجل العادي درهماً واحداً كبله القيد الحديدي وأن الزعيم اللبق ليسطو على الشعب فيستلبه من ماله ومن مشاعره ليعبث بها في لذائذه ومسراته ثم لا يجد إلا التبجيل والتقديس)
ونسيت أن ميزان الأخلاق - في رأي الدين - واحد لا يتغير: فالسارق لص أبداً، ومن يفرط في عرضه فهو الديوث.
ولكن لا عجب، فأتت تريد أن تبلغ غاية المجد في غير كد ولا جهد، وأن المرء ليستطيع أن يشبع رغبات نفسه ونوازع قلبه عن طريقين: الجهاد المر المتواصل والاستخذاء الهين الوضيع. وأنت قد دأبت على أن تستخذى لرئيسك لتكون - في يوم ما - رجلاً ذا مكانة وشأن. وفاتك أن المجد الذي يقام على دعائم من المداهنة والخداع والتمويه مجد متداع يوشك أن يهوى ويتهدم.
وقلت: (أما اللغة فقد انحطت من غيرها من اللغات الحية، فماذا فيها غير كلمات صلبة جاسية وعبارات جافة قاسية وألفاظ واهية متداعية، في حين أن اللغات الغربية تموج بالحياة وتنبض بالعقل وتخفق بالثقافة وتتألق بالعلم. ونحن أمة وهى عزمها وانحلت قوتها فذهبت - في ضعف - تفخر بما تلفظ بطن الأرض من آثار وتتعلق بأهداب خيال زال منذ زمان. لقد أصابتنا كبوة لا نستطيع أن نفيق منها إلا أن تغلق أذهاننا في وجه الثقافة العربية النابضة).
ونسيت أن في اللغة مجد الأمة وعزتها القومية، وأن من خلالها تتأرث حرارة الوطنية والكرامة. هذه اللغة - يا صاحبي - قد وسعت علوم اليونان وفلسفتهم في فجر النهضة العلمية الإسلامية واقتحمت باب الرياضة والفلك والطب، ولم تقتصر عن العلوم الطبيعية والميكانيكا. . . فوضعت بذلك أسس النهضة العلمية في أوربا حين كان الغرب يغط في سبات عميق ويرسف في أغلال من الجهل والعمى.
وغفلت عن أن المكتبة العربية التي بين أيدينا الآن لا تمثل إلا خمسة في المائة من إنتاج الذهن العربي الشرقي، فلطالما عبث بها الفاتحون فأوسعوها حرقاً وتمزيقاً وقذفاً في أعماق النهر.
لعلك - يا صاحبي - تؤمن في قرارة نفسك بما أقول، ولكنك لبست القبعة ذات مرة. . . لبستها لتنزل عن كرامتك ولتنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة.
كامل محمود حبيب
الأعلام والروايات
للأستاذ أحمد رمزي بك
أرى الراية الصفراء يرمي اصطفاقها
…
بين أصفرٍ بالراعفات اللهازم
فتستبي فلسطيناً وتجبى جزائراً
…
وتملك من يونان أرض الأساحم
إن التاريخ الإسلامي بأكمله لا يزال بكراً لم يدرس بعد الدراسة العلمية الصحيحة. وأغلب ما نشر من الكتب الحديثة عنه هو من قبيل جمع المعلومات وتبويبها ولذلك جاء أكثر ما بيم أيدينا من المطبوعات وهو لا يتعرض لحل مشكلة مشكلات البحث ولا قضى بأمر نهائي في مسألة مستعصاة.
وقد أثير أخيراً في مجلة الرسالة موضوع لون الراية التي أتخذها صلاح الدين لجنوده، واتخاذه اللون الأصفر الذي بقي علماً للأيوبيين ولملوك مصر من دولتي الأتراك والشراكسة.
والكتابة عن موضوع الأعلام وألوانها، قد تكون جزءاً من الكتابة عن أنظمة الجيوش الإسلامية وتقاليدها، وقد تكون جزءاً مما أطلق عليه القدماء اسم ترتيب المملكة ونظام المواكب العظام. . .
ويدخل في ترتيب المملكة نظام الملك وتقاليده وأبهته وقواعد المراسم في الحفلات العامة.
وكل هذه المسائل لم تدرس بعد الدراسة الكافية في الدول الإسلامية ابتداء من عهد الخلفاء الراشدين إلى نهاية الدولة المملوكية أو إلى نهاية الدولة العثمانية، ثم قيام الأسرة العلوية بمصر.
وقد تعرض لمثل هذه الأبحاث المرحوم جورجي زيدان بك في كتابه عن تاريخ التمدن الإسلامي، واعتقد ما أن جاء في هذا الكتاب هو من قبيل جمع المعلومات المتفرقة، لا من قبيل الدراسة العلمية الصحيحة، ولم يصل إلى علمي بعد أن هناك من تعرض لدراسة هذه الأمور دراسة علمية سوى الأستاذ (ماير) بالجامعة العبرية بمدينة القدس الذي أخرج كتاباً عن (الرنوك) فوضع بذلك أساساً علمياً يصح أن يتخذ لزيادة الأبحاث وتطورها ومعرفة أصول الرنوك وألوانها وهو عمل يحتاج إلى عناية وتدقيق وإلمام بالغات الشرقية ومدنيات الشعوب الطورانية ولهجاتها ومقدار تأثرها بمدنيات آسيا وكل هذا لا شك أ، المستقبل كفيل
بتحقيقه.
أما ما يخص جانبي ترتيب المملكة وتنظيم الجيوش، فكل دولة من الدول الإسلامية لها طابعها الخاص بها. ويمكن فيما يخص مصر أن نقسم البحث إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ترتيب المملكة في زمن الخلفاء الراشدين إلى آخر الدولة الإخشيدية.
القسم الثاني: الدولة الفاطمية.
القسم الثالث: الدولة الإسلامية التي بدأت من عهد صلاح الدين إلى ابتداء الحملة الفرنسية.
أما الكلام عن القسم الأول، فكان ولا يزال ميداناً للبحث والاكتشاف العلمي وجمع المعلومات، ويظهر أنه كان محاطاً بالغموض في العصور الماضية بدليل أن صاحب صبح الأعشى يقول أنه لم يتحر له معرفة ترتيب المملكة فيها، والظاهر له أن أغلب النواب والأمراء حينئذ كانوا على هيئة العرب واستمروا كذلك حتى ولى مصر أحمد بن طولون وأبناؤه فأحدثوا فيها ترتيب الملك. وهذا الباب الأخير من القسم الأول أي من ابتداء الدولة الطولونية إلى نهاية الإخشيدية يحتاج إلى عناية الباحثين، والدخول فيه عسير لأن مواده لا تزال قيد البحث والتنسيق.
فإذا دخلنا العصر الفاطمي، نجد أنه كان موضع عناية المتقدمين وأن بين أيدينا مادة للبحث مدونة ومبوبة وتصلح للدرس والمقارنة.
أي أنه توسع الكاتب أن يتناول ترتيب المملكة ترتيب المملكة من جهة نظام الملك وتقاليده وأبهته وقواعد المراسم في الحفلات العامة كما قلنا، ثم يعرض لملابس التشريفة الكبرى وما كان يلبسه الخاصة والعامة والجند والأمراء، ثم يخلص إلى الآلات الملوكية المختصة بالمواكب العامة كالتاج وشدة الوقار والمظلة وغيرها.
أما الأعلام في العهد الفاطمي بالذات، فيحتاج درسها إلى احتراس شديد، وكذلك دراسة السلاح وأصناف الجند وتعبئتهم في الصفوف والمواكب، وأعتقد أن لدينا من المواد المعلومات ما يجعل دراستها تحت متناول يد الباحث، لو كان ملماً بالقواعد المعمول بها في العالم الآن، إذ لكل دولة من الدول القائمة ومنها مصر مراسمها الخاصة بها وتقاليدها، كما أن لجيوش البر والبحر قواعد تختلف بعضها عن بعض ولكنها ترجع في النهاية إلى أصول متعارف عليها. وقد نجد في بعض هذه الأنظمة بقايا من أثر الشعوب الشرقية
واضحاً ملموساً.
فإذا اطلعنا على أنظمة الجيش البريطاني، نجد أن قواعد الأعلام والرايات واستعمالها منظمة فيما يخص ما يرفع منها للملك وللقواد ولأصناف الفرق، ونجد قواعد التحية بالمدفعية وأنظمة خاصة بالموسيقى.
وما يقال عن الجيش البريطاني ينصرف أيضاً إلى الجيش الإيطالي، فقواعد التحية بالأعلام وغيرها منظمة في كتب معمول بها يطلق عليها
فهذه قواعد قائمة إلى اليوم ونحن في حاجة إلى الإلمام بها وتعرفها قبل الدخول في موضوع الأعلام والرايات ولو كان الكلام عنها تاريخياً؛ إذ أنه إخراج ما في بطون الكتب من المعلومات وتنسيقها يحتاج إلى تفهم ما يجري به النظام والعرف في الوقت الحاضر لكي يجيء عملنا على أساس علمي.
قرأت في البحث الذي نشرته مجلة الرسالة للأستاذ بدوي قوله في تبرير اختيار صلاح الدين للراية الصفراء (وكان في ذلك إشارة إلى أن مصر وإن كانت قد عادت إلى أحضان الدولة العباسية - فهي مستقلة ذات كيان خاص بها)
وأختلف معه فأقول:
أولاً: إن إعادة الخطبة لبني العباس لم يجعل من مصر ولاية عباسية وإنما كان هذا العمل دينياً أكثر منه سياسياً أو إذا شئت هو إعادة اعتبار المذهب السني وضم ولاية من الولايات إلى الأقطار التي تدين بالولاء الديني لخليفة بغداد.
ثانياً: إن صلاح الدين حينما اتخذ اللون الأصفر وإن كان يؤمل في الاستقلال بولاية أو سلطنة لم يقصد ولم يبرر عمله باختيار لون خاص يضعه على أعلامه.
أذن علينا أن ندرس لون العلم على أساس غير هذه الناحية التي أشار إليها الأستاذ بدوي ويخيل إلي إن العصر امتاز بوجود نظامين: نظام الخلافة العباسية،. ونظام الملك. وعلى هذا يمكن استخلاص بعض الحقائق الملازمة لهذا الاختيار:
للخلافة شعارها وللسلطنة شعارها:
إن اختيار اللون الأسود لبني العباس قديم والكلام عنه يخرجنا عن غايتنا. وهو لون اشتهر به بنو العباس وأصبح شعاراً لهم منذ إنشاء الدولة العباسية ولا يفهم من هذا إن نظام الدولة
العباسية وترتيب الملك فيها حرم استعمال لون آخر بل كان للدولة عدة رايات وأعلام مختلفة اللون والشكل بدليل ما جاء في الطبري إن أحد الخلفاء ولعله المتوكل على الله ٍنصب علناً أبيض اللون وسماه لواء العمل وهذه ناحية كما قات تبعدنا عن الغرض الذي رسمناه لأنفسنا. ولذلك أعود إلى القرن السادس الهجري وأقول: أنه ورث كما كان متبعاً في القرنين السابقين: الخامس والرابع، أي ابتداء من دولة بني بويه ثم قيام الدولة السلجوقية فالذي المسه هو أن العالم الإسلامي الذي يدين بالولاء الديني لبني العباس عاش في تلك الحقبة من الزمن وبلادة تحمل شعارين: شعار الخلافة بأعلامها وألويتها وتقاليدها وشعار المملكة أو السلطنة بترتيبها وألويتها وإعلامها.
ولم يكن هناك ما يحول دون قيام الشعارين أو النظامين في وقت واحد ولذلك اجزم بان صلاح الدين حينما أعلن الخطبة لبني العباس وأقام شعائرهم في المساجد جاء إلى مصر ومعه شعائر السلطنة أو المملكة المتغلبة. وهى منبثقة من نظام الدولة السلجوقية التي كان يتبعها الأتابكة ولو في مظهرها وشعائرها، ومنهم نور الدين الشهيد الذي فتح صلاح الدين مصر باسمه. وكان تابعا له وقائدا من قواده على راس جنود من التركمان والأكراد الذين يدينون بالولاء للدولة الأتابكية التي تخضع في أنظمتها وتقاليدها لآل سلجوق الذين يمثلهم رغم استقلال الولايات وتغلب المتغلبين عليهم ما يطلق عليه.
سلطان السلاطين أو ملك الملوك:
وكان هذا اللقب من مسميات الدولة السلجوقية وهو لا يطلق إلا على من يكون في ولايته ملوك تحت سيطرته. فالملك في نظرهم من يملك مثل الشام أو مصر أو مثل أفريقية أو الأندلس وتكون عدة عسكره عشرة آلاف فارس على الأقل.
فإن زاد بلاد أو عددا الجيش كان اعظم في السلطنة وجاز له أن يطلق عليه السلطان الأعظم فأن خطب له في مثل مصر والشام والجزيرة، ومثل خراسان وعراق العجم وفارس، ومثل أفريقية والمغرب الأوسط والأندلس كان سمته سلطان السلاطين السلجوقية) اهـ. قاله ابن فضل الله في المسالك نقلا عن على ابن سعيد.
تقليد سلطان السلاجقة:
ولدينا وصف كامل للمراسم التي اتبعتها خلافة بغداد في تقليد سلطان السلاجقة وهي جديرة بالتأمل والدرس؛ لأنها تعطينا صورة حية لأساليب هذا العصر ثم تجعلنا نعود إلى أوائل دولة بني بويه فنجد أن هذا التقليد اتبع في عهد عضد الدولة فناخسرو الذي كان أول من خوطب في الإسلام بالملك شاهنشاه. ولدينا صورة لتقليد صمصام الدولة سنة 373هـ لا تختلف في مظاهرها عن تقليد السلطان السلجوقي سنة 447 هـ. ونعود إلى هذه الحفلة فنعرضها كما جاءت في كتب الأقدمين:
جلس الخليفة القائم بأمر الله يوم السبت 25 ذي القعدة سنة 447 هـ دخل عليه سلطان السلاطين طفرل بك.
توج وطوق وسور.
أفيضت عليه سبع خلع سود في زيق واحد واتخذت له بها مملكة الأقاليم السبعة.
شرف بعمامة مسكيه مذهبة فجمع بين تاجي العرب والعجم.
لقب بالمتوج والمعمم.
قلد سيفا محلى بالذهب.
عاد وجلس على الكرسي.
قام ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن لموضع التاج الخسروي.
سأل مصافحة الخلفة فأعطاه يده دفعتين
قلده سيفا آخر كان بين يديه.
ختم له بتقليد السيفين، فقلد ولاية الدولتين.
خاطبه بملك المشرق والمغرب.
من ذلك يتضح أن تقليد الخليفة للسلطان تم بمقتضى مراسم موضوعة روعي فيها جلال سلطان الخلافة وعظمة سلطان الأرض.
قارن هذه المراسم بحرص الملك الظاهر بيبرس أن يتم تقليده طبقا لها عند إعادته للخلافة العباسية في مصر مع اختلاف في بعض مظاهرها.
(للكلام بقية)
أحمد رمزي
فلسفة طاغور الأخلاقية:
الآلام ثروة الإنسان الناقص
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
أن طاغور الذي برأ الحياة من الشر، وأرجع وجوده فيها إلى عصيان الإنسان لقانونه الأخلاقي، لم يغب عن باله ما يعتري الإنسان من نقص في عقله أو إرادته، ولم يغفل ما يسببه هذا النقص للإنسان من متاعب، وما يجره إليه من فشل يثير في نفسه ألواناً متضاربة من الآلام قد تنقش حياته وتنفث فيها التعس.
ومع ذلك لم يلق طاغور تبعة هذه الآلام على الحياة، وأخذ يدلل على أنها لا تتعارض مع السيادة، ولا تسوق الإنسان بالضرورة إلى الشقاء. وزعم أن الله خلق قوى الإنسان ناقصة وإرادته محدودة، وأن النقص في حد ذاته لا يؤذي الإنسان، وأن حدود الإرادة لا تحد من نشاطها، وإنما الذي يؤذيه هو أن تظل قواه على ما هي عليه من نقص، وتبقى إرادته حبيسة حدودها على الدوام بدون أن يسعى لاستكمال قواه الناقصة، ولا يجد في أن تصير إرادته المحدودة غير محدودة.
ولو خلق الله بادئ ذي بدئ قوى الإنسان كاملة وإرادته غير محدودة، لفقدت قدرته اللانهائية من ناحية كل معنى لها ولتعذر على الإنسان من ناحية أخرى أن يرتقي في سلم الوجود حتى يصل إلى تلك الدرجة الروحية النموذجية التي يندمج فيها وجوده في وجود الله، ويصبح هو والله حقيقة واحدة، لأن القوة لا تطور إلى أن تتم نموها إلا إذا دفعها النقص لتكمل، وإن الإرادة لا تتحرك حتى تصبح غير محدودة إلا إذا كانت تعمل على التحرر من نطاق حدودها الذاتية لتفنى في إرادة الله غير المحدودة. فلولا نقص الإنسان ما عرف الكمال، ولولا حدود إرادته ما صارت غير محدودة.
فنقص الإنسان ونهاية إرادته لا يسيئان إليه بقدر ما يدفعانه إلى طلب أرقى مراتب الكمال، وبلوغ السعادة القصوى بالتلاشي في لانهاية الله. وما خص الله الإنسان بهما إلا ليمكنه من العودة إلى المنبع الذي انبعث منه، ويحفزه على الفناء في روحه الكبرى التي تشمل كل الوجود. وان جمود النقص وبقاء نهاية الإرادة على ما هي عليه، يمدان الحياة بسموم الألم وما يتفرع منه من حزن وخوف وقلق.
ولذلك يجب على الإنسان أن يفتش عن أسباب نقصه سواء أكان في عقله أم في إرادته، ويعمل على أن يقومه، ولا ييأس من طول مدة التقويم، ويثابر على معالجة عقله وإرادته حتى يصل إلى مكانة من الرقي الروحي ينمحي فيها شعوره بأي نوع من الآلام سواء أكانت من تلك الآلام التي تنتاب النفس حين يصدر عنها أثم من الآثام، أو من تلك الآلام التي تطرأ عيها عند الفشل في أداء عمل من الأعمال.
أما عن الآلام التي سببها اقتراف الخطايا، فترجع إلى جهل الإنسان بجوهر حقيقته وغفلته عن إن إرادته مرتبطة بقانون خلقي ليس إلا صورة من صور سرور الله التي تتجلى في الكون؛ وأنه يجب على النفس أن تعلم أن الله مستقر فيها في قالب القانون الخلقي، كما يجب على الإرادة أن تأتمر بأوامر هذا القانون، فإنه هو الذي يفك أسرها ويساعدها على تحطيم قيود الرغبات والأهواء، ويفتح لها الشعب لتنساب تدريجياً إلى نهاية الله وتوصلها إلى تلك الحالة الروحية التي تبلغ بها ملكوت السماء، فيستحيل عليها ارتكاب الذنوب التي تقلقها وتبعث فيها الأحزان، وإنما تمتعها بنعيم الحياة في الحقيقة المطلقة الأبدية التي لا تتباين فيها جميع الموجودات. بينما الفشل في العمل يمكن التغلب عليه بتنمية المواهب، وترقية الملكات، وتربية المهارات عن طريق العلم والعمل، لأن التزود بثقافة توسع من أفق المعرفة، وتزيد من قوة الإدراك، تجنب الوقوع في غلطات تجلب مشكلات شاقة. وان ممارسة العمل ممارسة واقعية تكسب دراية عملية، وبراعة فائقة في أدائه إلا أن كثيرا من الناس يزعمون أن هذه البراعة لا تكتسب بدون مشقة ترهق النفس وتذيقها بعض الآلام، وان الذين نضجت مداركهم ومهرت قدراتهم لا تخلو حياتهم من الآم ومتاعب، فضلاً عن إن مجرد وجود الإنسان في الحياة يكلفه عذابا دائما، إذ يتطلب منه كفاحا متواصلا ليحصل على ما يوفر له حاجاته المادية.
ولكن طاغور يسخر من هؤلاء القوم ويصورهم في صورة من يحسب ثقل ضغط الهواء على جسم الإنسان، فيجده ثقلاً هائلاً فيبالغ في تقدير ما يرزح تحته جسم الإنسان من أحمال، وينسى أن من خواص هذا الجسم أن تتعادل مقاومته مع هذا الضغط، بحيث لا يشعر بأي شيء ينوءه حمله، فإن كل ما يلاقيه الإنسان في الحياة من محن وخطوب لا يفوق الطاقة البشرية، ويشبه إلى حد كبير ضغط الهواء الذي لا تكاد تحس بوجوده، وإن
في قدرة الإنسان يقاومه ويتغلب عليه بأقل جهد.
وإذا بحثنا عن سبب شدة وطأة الآلام، وعنف وقع المتاعب على الإنسان، وجدنا أنه يرجع إلى أنه ينظر إلى الحياة نظرة ضيقة تنحصر في الحاضر دون المستقبل، وتقصر مطالب ذاتية عارضة دون المطالب العامة الدائمة، فإن لم يحرز ما يريد بأسرع ما يمكن، وفي أقرب فرصة، وبأقل جهد، يقلق ويضطرب ويظن بالحياة الظنون. وإن نزل فيه خطب جزع لضياع غنم عاجل لا يستفيد منه إلا شخصه. وإن خذل في تحقيق مآربه أحس بخيبة مرة تضايقه. وإن عاقته عوارض الحياة دب فيه اليأس والقنوط، بينما لو نظر إلى الحياة نظرة رحيبة تضم الحاضر والمستقبل، وتحتضن خير كافة البشر الذي لا يتحتم تحقيقه في الوقت الحاضر، إذ قد يتحقق في المستقبل القريب أو البعيد لما أكترث بما يقابله من أهوال، ولما حركت المتاعب كوامن أشجانه، ولا قدم غير هياب على تنفيذ كل عمل يراه ينفع الإنسانية ولا يرهب العذاب في سبيله، وكان على استعداد دائم لأن يتحمل المشاق طائعاً مختاراً، ويقاس الحرمان دون تذمر، لا يسأم النضال الطويل، ولا يثبط همته الفشل المتوالي، لأنه يدرك إن هذه الآلام ما هي إلا قرابين زهيدة فرضت على من يريد أن يحظى بالحياة في الذات الإلهية عن طريق تعميم ضرب من الخير الدائم بين الناس. فمن يرضى أن يعاني الآلام ليسعد البشر، تقوى عزيمته على تذليل كل عقبة تعترض هذه الغاية، وتهون عليه نفسه فيضحي بها في سبيل خير الإنسانية، ويسير سيراً حثيثاً نحو تلك الحياة الروحية التي لا يحس فيها المرء إلا بحقيقة فريدة لا مثيل لها، هي حقيقة اتحاد الخالق بالمخلوق التي يتمتع في كنفها بسعادة عذبة هادئة، ويتلذذ بغبطة حلوة تحيط الإنسان بهالة من النشوة والحبور، تدفع عنه مرارة الألم، وتحميه من تعس الأحزان.
فطلب الحياة في الله يصهر المعاني المألوفة، فيصبح السرور الذي تريد أن تنعم به مضنياً؛ لأن طريقه وعر صعب، كما يصبح الألم الذي نسقاه محبوباً لأنه يقودنا إلى إسعاد الغير، ويسوقنا إلى الاتحاد بالله. فمن يرحب بالتضحيات من أجل الخير العام المستمر، يعطي لحياته قيمة عليا ينمحي فيها الفوارق بين شتى المعاني التي يحياها عامة الناس، ويفقد السرور والألم عنده تأثيرهما المتناقص المتداول ويتساويان، ولا يتمايز بعضها عن بعضها بشيء لان التمتع بالسرور لا يحدث بدون مقاسات الآلام، والآلام هي الضريبة التي تمهد
لنا طريق السرور. فالسرور والألم مختلطان، لا يسهل التمييز بينهما في مثل هذه الأحوال الإلهية.
ولكي يعيش الإنسان في سرور دائم يجب أن يخوض ميدان الحياة الاجتماعية ليبني ويهدم ما لا يروقه ما بناه، ويضع القوانين ويغيرها إذا وجدها لا تلائم خير المجتمع، ويخلق الأكداس المكدسة من الآراء، ولا يبالي ما قد يقع فيه من أخطاء فأن استمراره في خلق أفكار جديده يصحح غلطاته ويكشف عن أسرار الطبيعة وقوانينها الحق، ويخترع مختلف الآلات، أي يعمل بلا انقطاع ولا يخشى الفشل فإنها سبيل النجاح والتقدم، ولا ينفك يبدل فيما وصل إليه من علم وعمل، ويغير مادام فيها نقص أو عيب ويبحث راضيا مرضيا، لا يفكر مطلقا في تجنب الألم أو الهروب من المتاعب، بل يظهر براعته في القضاء على ما به من نقص وتحويله إلى كمال ويبرز مهارته في مختلف أنواع الألم من خذلان ونصب وشجن وخوف، ويجعلها عنصر من عناصر السرور. فلا ينبغي لأحد أن يعتزل الحياة رعبا من آلامها ومتاعبها، وإنما يجب عليه أن يتحملها صابرا، علما أن الألم ثروة الإنسان الناقص، وعلامة على أنه اكبر من حاضره، وبمثابة قوة دافعه تصيره عظيما في الحياة، وتخطو به من حاضره المحدود نحو مستقبل باهر غير محدود.
إن تطور الحضارات، وتقلب المدنيات، ونبذ الإنسان للقديم وابتكار حديث يقوم مقامه، لدليل على أن الإنسان لا يفتأ يجد ويخلق ويسير من مرحله إلى مرحله افضل منها، حتى يبلغ أقصى درجات الكمال التي تكفل له السعادة المرجوة.
فالشكوى من الآلام والمتاعب شكوى لا مسوغ لها، ولا ينبغي أن نترك لها أي منفذ لتتسرب منه إلى نفوسنا، وتلقى فيها نواة التشاؤم؛ لان الآلام ضرورية لتقدم الحياة، ومحك دقيق يقيس رقي الإنسان وبحسب مدى ما وصل إليه من سعادة ويبين ما بقى عليه من أشواط ليصل إلى ذلك السرور السرمدي الذي ينبعث في النفس من توافق حياه الإنسان مع حياة الله.
عبد العزيز محمد الزكي
في دنيا البطولات
ثلاثة جاهدوا فصدقوا. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
من مقامي على الهوان وعندي
…
مقول صارم وانف حميْ؟!
وإباء محلق بي عن الضي
…
م كما زاغ طائر وحشي؟!
(الإمام الشريف الرضي)
لعلك - أيها القارئ - تخالني حين تقرا هذا العنوان، سأحدثك عن ثلاثة من أعلام الجهاد، ممن تردد ذكرهم على السنة الناس؟ لا يا أخي! ما أنا وذاك؟ أن لهؤلاء في مواطنيهم من يفي بطولتهم حقا؛ وان حديثي عنهم - لو فعلت - لا يجاوز أن يكون إلمامه عابر، لمح في الأفق البعيد جبلا، فهو يصف منه تهاويل ما خيل إليه، دون أن يصل بيقينه إلى كنه مسالكه وشعابه!
إذن فما لي ولأولئك! ودعني أحدثك عن ثلاثة عرفتهم بنفسي، وصحبتهم عمرا من دهري. وقد جاهدوا فصدقوا في جهادهم، حتى ارتقوا إلى مراتب البطولة، إلا أنها صامتة متواضعة، لم يتبعها زيف من الجلبة، ولم يتقدمها بهرج من الرياء.
أن هؤلاء الثلاثة من القرويين، وان شئت فقل من (الفلاحين)، على رأى مواطنيهم (من أبناء الذوات)! وهم من ثلاث قرى مختلفة، إحداها نكرة في القرى، لا يصلها طريق ذلول، إلا أن يكون انحدارا من شعاف الجبال، أو صعودا من بطون الوديان، فإذا ما التمست إليها سبيلا، كنت كمن يرقى في السماء، أو ينحدر في هاوية ليس لها قرار!
ولا يذهب بك الظن بعيدا، فتخالهم من سواد الدهماء! وانك لتعلم أن الظلمة لا تمتزج مع النور، وأن الجهل شر الضروب العمي، وأن من عمي له قلبه لا تستقيم له المسالك، فهو يخبط خبط عشواء لا ينتهي بصاحبه إلى غاية. فلو لم يهذبهم العلم لما أدركوا معنى الجهاد، ولو لم تصقلهم المعرفة لما استيقنت قلوبهم:
(أن حب الوطن من الإيمان. .)
فهم من أبناء الجامعات، حملوا منها رسالة العلم، ثم تقلبوا في الآفاق يؤدون هذه الرسالة
وأخيرا هتف بهم الوطن فلبوا نداءه، ثم عز عليهم أن يهجروه في محنته حين هجره الكثيرون من ابنائه، وكانت العاقبة أن سقط أحدهم شهيدا ولسان حاله يردد قوله:
وأهِوى يعفَّر وجهي ثراك
…
قريراً وذلك جهد المقلّ!
وبقي الآخران مرابطين صابرين، أحدهما يجاهد بقلق، بعد أن ألقى من حوله السلاح؛ والثاني ما يزال في خطوط القتال، يبذل حشاشته، ويراوغ منيته. يدفعه أمل باسم يحمله على أن يردد في نجواه:(من طلب الموت وهبت له الحياة)
اتذكر فيما مر بك أن شاعرا قتله بيت من شعره؟ انه المتنبي حين هتف به غلامه: (أتفر وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني
…
والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟)
فرد عنان جواده وقال: (بلى؛ أنا القائل)، ثم قاتل حتى قتل. . وان هذا البطل الذي أسوق إليك نباه قتلته (كذلك) أبيات من شعره! أو تدري كيف؟ كانت جحافل (جيش الاتقاد) تستعد للانسحاب من مدينة (الناصرة)، ما خلا كتائب تنتشر هنا وهناك، يقابلها العدو وجها لوجه. وكان ذلك الفتى يقود كتيبه منها، وصمد هو ورفاقه في وجه العدو المنتصر، حتى ضاقت عليهم السبل، وكادوا يطوقون.
التفت إلى أصحابه يصدر أمره بالانسحاب، فإذا بأحد المجاهدين يصيح في وجهه - وقد ألهبته سورة الجهاد -: وأذلاه! أتفر وأنت القائل: سأحمل روحي على راحتي. .؟) فأجاب - وقد اشرق في وجهه نور الشهادة -: (نعم والله! أنا الذي أقول ذلك (ووثب من مكمنه يخترق حجابا كثيفا من الرصاص، وهو يردد بصوت يسمعه من خلفه:
سأحمل روحي راحتي
…
وألقي بها مهاوي الردى
فأما حياة تسر صديق
…
وأما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتا
…
ن ورد المنايا ونيل المنى
أرى مقتلي دون حقي السليب
…
ودون بلادي هو المبتغى
لعمرك هذا ممات الرجال
…
ومن رام موتا كريماً: فذا!!
وسقط المجاهد البطل يلفظ أنفاسه وهو يردد عجز البيت الأخير: (ومن رام موتا كريما: فذا!!) وكان آخر ما تلفظ به قوله: (الحمد لله على الشهادة. .) ولم يكن ذلك أول جهاد قام
به، فلقد كان له قبل ذلك جهاد طويل، ولكنه في ميدان آخر. فقد تولى التدريس زمناً في كلية النجاح الوطنية بنابلس، كما تولاها زمناً في العراق. فلقن طلابه دروساً في الوطنية، أضعاف دروسه في اللغة والأدب وكان له في الصحافة المحلية ميداناً لا يفتأ ينثر فيه من آيات إبداعه شتى الألوان وقد طوف في الأقطار العربية المجاورة وتعرف إلى جماعة الأدباء فيها، فأصبح بينهم علماُ يعرفه القريب والبعيد ومن من أدباء فلسطين ومتأدبيها لا يذكر القصيدة العصماء التي استقبل فيها الأمير السعودي يوم زار بيت المقدس. وكان أحد أبياتها قوله:
(المسجد الأقصى) أتيت تزوره؟
…
أم جئته قبل الضياع تودعه؟
لقد كانت تلك القصيدة - يومذاك - حديث المجالس وطرفة الأدباء. وكأنما تكشف له فيها حجاب الغيب، فنظر من خلفه ما صارت إليه الأمور!
وان لهذا الشاعر من ضروب القول ما يضيق عن سرده المجال (لو وصلت إليه يدي!)، حسبك أنه يقع في دواوين! ولا أدري ماذا فعل الله بآثاره، وأني لأعلم أنها كانت لا تزال مخطوطة كلها. . ويحضرني من غزله أبيات - له ما يفضلها - من قصيدة عنوانها (يا غادرة!) قال فيها:
روحي فقد راح الذي بيننا
…
كالبارح السالف ما أن يعود!
روحي ولا تأسي على حالتي
…
وأنسي مواثيقي وخوني العهود
لا تحملي من ذكرى عهد الهوى
…
أن الهوى صعب وحمل يؤدد!
روحي فقد راح الذي بيننا
إذا تلاقينا فلا تنظري
…
أرى وميض الغدر في ناظريك
ولا تشيري لي ولا تومئي
…
وددت تقطع كلتا يديك!
روحي فقد راح الذي بيننا
…
فلعنة الحب وقلبي عليك. .
هذا هو أحد الثلاثة المجاهدين، بذل من أجل وطنه غاية ما يملكه (وهو دمه!) وخلف من وراءه في قرية (عنتبا) أطفالاً ليس لهم عائل، وأيما لم يترك لها تراثاً، إلا أن تكون هذه البطولة الفذة، تنشئ عليها صغاره!!، فرحم الله الشهيد البطل (عبد الرحيم محمود). . .
يا أخي القارئ؛ لست أزعم لك ما قام به هؤلاء الثلاثة بطولة نادرة، وأعمال خارقة يعجز
عنها هؤلاء الآخرون من بني الإنسان! ولكنها مواقف كريمة، تتمثل فيها الرجولة الصادقة، ويطمئن إلها الخلق النبيل. وإنك لتسمع في (مجالس)، وتقرأ في صفحات (كتب)، الكثير عن (النجدة والحفاظ؛ فزيد يأنف الضيم والعار، وعمرو يأبى الذل والصغار) ولكنك حين تلتمس هذا ال (زيد)، أو تطلب ذاك ال (عمرو)، تجدهما - إلا أن تواتيك المصادفة العجيبة - قد تخلفا في زوايا تلك (المجالس) أصداء تتردد، وفي صفحات تلك (الكتب) مداداً تحتضنه سطور!!
أرأيت إذن إن الأعمال تقاس بمال يحوطها من ظروف، وأن الشاعر كان صادقاً كل الصدق حين قال:(وبضدها تتميز الأشياء)! إنك - من غير شك - قرأت قول الطغراني:
حب السلامة يثني هم صاحبه
…
عن المعالي ويغري المرء بالكسل
ولكنني لا أخالك لقيت من عبث الأقدار ما يقفك ذلك الموقف الذي يجعلك تحس (بنفسك) ما يريده الشاعر من (حب السلامة)، كأن يخيرك بين أمرين إما الحياة، وأما الموت! وإنه لاختيار عسير، ندر أن تجد في الناس من يتردد طويلاً في الانحياز إلى أحد شقيه أو لعلك لا تعجب أن يختار (بنو الموت) شقه الأول، فهذا هو الذي يحتمله - على علاته - منطقنا الصحيح أو السقيم لست أدري! وهل عسيتك - إن أنت وقفت حيال رجل فر من الموت - أن تستهجن ما صنع؟!
وعل ذلك القياس نجد أن حب السلامة يتساوى فيه الناس جميعاً، ومن هنا يمتاز من يزهدون فيه، ويقدمون على الموت بملء اختيارهم، في سبيل غاية سامية، أو ثباتاً على مبدأ يعز عليهم أن يجاوزوا حدودهم. . وكذلك كان أصحابي الثلاثة، فقد أقدم أحدهم على الموت كما رأيت، لأنه أحب أن يقول فيفعل، وقال غيره (وهم كثيرون!) أبلغ من قوله، ولكنهم آثروا العافية، وهتف بهم (حب السلامة) فخفوا إليه راغبين مسرعين، كأنما أرهف مسمعهم لندائه شاعريتهم المبدعة، فسمعوه قبل أن يسمعه أحد سواهم. وسرعان ما انتشروا بين القاهرة وبغداد (ومنهم من جاز البحر إلى قبرص)، وجعلوا من هناك يحرضون الناس على القتال! ولكن ذلك الأديب المجاهد ثبت لا يبرح مكانه متجاهلاً (سلامته)، فبذل حياته ثمن ذلك التجاهل، وإنه لثمن لا يملك صاحبه أعز منه. يلجئون
وقد فعل رفيقاه مثلما فعله، إلا أنه لكل أجل كتاب! فهذا أحدهما تصبح قريته (قلقيلية) في
صميم خطوط القتال فلا يظن بحياته على تلك القرية، ويندفع في سواد أبنائها يقاتل كما يقاتلون، ويسعه ما يسعهم من شظف العيش وعنائه، ثم يعدهم ألا يبرح مكانه بينهم، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ويحين له فرصتان، أحدهما في العراق والآخر في الشام، ولكنه لا يحول عن عهده الذي قطع، ليغتنم فرصة العمل - على حاجته إليه - بينما اغتنمها الكثيرون من زملائه! وما زال الأستاذ (احمد السبع) إلى اليوم هناك، يرتقب ما الله صانع، فحيا الله المجاهد الكريم، فقد صدق الوعد وحفظ العهد!.
وذلك ثالثهم يعود إلى القرية (بروقين)، وهي التي حدثتك إنها:(نكرة في القرى)، بعد أن يجاهد حتى تغلق في وجهه مسالك الجهاد، ويقبع فيها إلى أن تحل تلك الليلة المشؤومة، ليلة سقوط مدينة اللد، وهي منها على غلوه أو غلوتين. (ومن ذا الذي لم يسمع بكارثة اللد وجارتها الرملة؟) وينطلق أهل القرية يعدون العدة للجلاء، ويتفقون على ذلك جميعاً كبيرهم قبل صغيرهم؛ ولكنه هو وحده يعارضهم فيما اتفقوا عليه، ويعلن لهم أنه لن يبرح مكانه حذر الموت، ولن يسلمه مادام فيه عرق ينبض! فتبسمت بقوله خائر العزائم، فلم يبرح أحد بيته!
وما زال هذا الأستاذ المناضل هناك، يصدر جريدته (البعث) على مقربة من هذه القرية، ويضرب صفحاً عما يعرض له من فرص، وإن اختصاصه النادر يضاعف الحاجة إليه، وإن آثاره العلمية بين مخطوط ومطبوع، تدل على سعة اطلاعه في موضوعه الذي انصرف إلى التخصص فيه، ولكنه لم يستغل السانحة التي استغلها سواه، وذلك ثباتاً منه على مبدئه الذي انف أن يحول عنه - على الرغم ما حاطه من سيئ الظروف - وقيل ما ألئك! لقد سبق أن تحدث في (الرسالة الزاهرة) عن هذا المجاهد، وأتيت على ذكر آثاره مفصلاً حين تحدثت عن ذوي الآثار العلمية في موضوع (الأدب في فلسطين) منذ عام. وذلك هو الأستاذ (عبد الله الريماوي)، ثالث ثلاثة جاهدوا فصدقوا، فحق لي أن أسجل جهادهم الصامت، وأنا اردد في أعقاب ما سردت:
يجود بالنفس إذ ضن البخيل بها
…
والجود بالنفس أقصى غاية الجود
محمد سليم الرشداق
(ماجستير في الآداب واللغات السامية)
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراوي
قليل من المصلحين الاجتماعيين هم أولئك الذين يبحثون مشكلات الشباب بحثاً جدياً لوجه الحق. واقل من هؤلاء أولئك الذين يوفقون في حل لا تتدخل فيه الأغراض الخبيثة ولا العناصر الذاتية التي تختلف وتتعدد تبعاً لاختلاف الأفراد وتعدد الجماعات.
والشباب بين هؤلاء وهؤلاء يضطرب في مسالك الحياة حائراً لا يدري - وسط هذا التناقض الفكري والمذهبي في كل مظاهر الحياة تقريباً - لا يدري
ما يأخذ، ولا يدري ما يترك، ولا يدري ما يفعل؛ ولكن لديه طاقة فتية يتأجج أوارها ولا بد له من استنفاذها على أي وجه من الوجوه.
وأنا لنراه - برغم تعدد السبل التي يسلكها في استجابته لرغباته ونزعاته - يصل إلى نتيجة واحدة هي (الشك): الشك في القيم والمثل، لأنها لم تتكاتف في الأخذ بناصره وتحقق غايته؛ والشك في العرف والأوضاع، لأنها تتجاهله في أكثر الأحيان؛ والشك في السياسة، لأنها تتملقه لنيل مآربها؛ والشك في كل شيء حتى نفسه، لأنه اصبح لا يرضى عن شيء حتى نفسه: لهذا نراه قلقاً متبرماً بكل شيء، ثائراً على كل شيء.
ويحاول المصلحون الاجتماعيون أن يعزوا هذه الظاهرة - ظاهره الثورة في الشباب - إلى عوامل فسيولوجية وسيكولوجية (معينة) يستغلها أرباب المذاهب السياسية والاقتصادية في تحقيق غاياتهم بإثارتها بأنواع المثيرات المغرية.
ويبدأ أولو الأمر يعالجون المشكلة على هذا الأساس، ولكنهم عبثاً يحاولون أن يصلوا إلى نتيجة.
وانهم ليخطئون كثيراً حين يقدرون انهم حصروا العلة في هذه الدائرة الضيقة.
والواقع أن الأمر أعظم واخطر بكثير مما نتصور، بحيث تتضاءل بجانبه جميع الاحتمالات التي قدرنا حتى الآن: أنه يتخطى العوامل الفسيولوجية والسيكولوجية إلى ما وراءها: إلى تلك الحواجز القوية التي تضبطها وتمنع انفجارها وانحرافها، بل وتحول بينها وبين الاستجابة لأي مؤثر في غير ما رسم لها.
نعم، إن الاتجاه يهدف إلى وراء هذه الجزيئات، إلى الكليات، محاولاً القضاء عليها حتى لا
يكون ثمة شيء يقف في سبيله بعد ذلك. هذا الشيء الذي يخشاه أرباب المذاهب السياسية والاقتصادية، ويحسبون له ألف حساب، متحينين كل فرصة وكل وسيلة للقضاء عليه هو (الدين). ويتذرعون بمختلف الحيل والأحابيل لإلغاء فطرة الله: تارة باسم الحرية الفردية، وتارة باسم الأدب والفن، وتارة باسم العلم والفلسفة، وتارة باسم الوجودية، وتارات بإشاعة الفجور ومغرياته بمهوناته من الحاديات وأشياء يزعمون أنها طابع العصر وعنوان المدينة!
والشباب موزع يحس صراعاً في ذات نفسه - من حيث يدري ولا يدري - بين هذه الفلسفات والمثيرات، وبين ما ورثه من حقائق الدين، وعقائد الألوهية، ومواضعات العرف. ونتيجة لهذا تتشتت قواه وتنقسم شخصيته بين عاملي الشك واليقين، وثم تتملكه الهموم ويتنازعه الشقاء، وما يستتبع ذلك من نزعات منحرفة قد تودي بحياة الشاب في بعض حالاتها. وأضننا ما زلنا نذكر تلك النزعة الرومانتيكية التي طغت على أوربا حيناً فغشيتها آنئذ موجة الانتحار المشهورة، والتي هونت على الشاعر الألماني الفيلسوف جوته سبيل الانتحار تخلصاً من يأس الشك، حتى يرى ماذا يكون وراء الطبيعة، أحقيقة هو أم كذب بقوله لنفسه:(لتقتحمي الطريق الذي يوصلك إليه حتى ولو اعترضتك نيران الجحيم المستعرة). . . لولا أن تداركه لطف الله. وربما يحدث غير ذلك، فينغمس الشاب في الشهوات تخلصاً من آلامه حتى يهلك. وما إلى ذلك من مآس لا يسمح المقام بذكرها.
ولكن أين إذن موضع الحق من ذلك كله؟
هذا ما سنحاول الكشف عنه فيما يلي:
رأينا فيما سبق كيف أن الاجتماعيين جانبهم التوفيق في تلمسهم أسباب الثورة عند الشبيبة في حدود العوامل الفسيولوجية والسيكولوجية ليس غير؛ فتورطوا في غلطة لن يغتفرها التأريخ لهم أبداً، وهي نصحهم بالعلاج السيكولوجي لنفسيات الشبيبة، فماذا ترون إذن يكون هذا العلاج؟
لاشيء عند السيكولوجيين غير حل العقد الفرويدية وما إليها بالطرق التي نعرفها جميعاً، وغير تجنب عوامل الكبت بما يسمونه (التنفيس)؛ وفي سبيل هذا التنفيس يهون كل مرتخص وقال. ويجب قبل كل شيء أن نعرف أن الحياء مرض نفسي، ولا يمكن أن تكون النفس كاملة إلا بإزالة هذا المرض الخطير (يعني بقلة الحياء)!
ومن أجل التنفيس لا بأس عندهم من إباحة شيء من المحرمات (ولكن في حدود الاعتدال) هكذا يقولون! ومن عوامله في الغريزة الجنسية مثلاً الاختلاط والرقص وترويج الوريقات الخليعة التي تسير على مذهب الصراحة الجنسية، وما في هذا المعنى الفاجر.
وكأن حال لسان السلطات يقول: إن لم تكن هذه الأشياء مجدية، فهي على كل حال ملهية! إي والله! إن هذا هو ما حدث! ويل لهؤلاء المحترمين إن سكتوا بد اليوم عن هذا الحال وظلوا هكذا متشبثين بذنب الحية دون رأسها!
ألم يعلموا أن هذا العلاج الجنسي والنفسي إشاعة للفجور، وأن ترويج المفاسد والفجور هو أفعل سلاح قضى على العقائد والمبادئ حتى الآن؟!
والقانون الذي يمكن أن نستنتجه من استقراء حوادث التأريخ قديمها وحديثها هو (أن الثورات وليدة الفجور والإباحية التي معول الأديان والعقائد). وإن أصحاب المبادئ السياسية والاقتصادية لا يمكن أن تتنسم مبادئهم الحياة إلا عن طريق هذا الذي استنتجناه الآن وسميناه - ولو على سبيل المجاز - قانون الهدم الاجتماعي.
والقاعدة التي نستخلصها من تطبيق هذا القانون هي أن كل ملحد أو داع إلى إلحاد لا يمكن أن يكون غير واحد أو أكثر من هذه الثلاثة: (استعاري، إباحي، مغفل كالقرد لا هم له إلا أن يقلد، فهم أو لم يفهم). ولا يجوز أن يتعدى الملحد بأي حال هؤلاء الثلاثة.
تلك مقدمات لابد منها لكي نعرف هل الملحدون الذين بلبلوا أفكاراً ورطونا في هذه الأزمات النفسية الخطيرة - يؤمنون حقاً بمبادئهم تلك، أم أن لهم غايات أخرى وراء ما يظهرون؟
وإذ كانوا هم لا يؤمنون بهذه النظريات ذاتها إلا بقدر ما بقدر ما نحق لهم من أغراض كما أثبت التاريخ على نحو ما رأينا؛ فواضيعة أعمارنا وزهرة شبابنا في شيء ليس له حتى عند أصحابه وجود!
على أننا متى عرفنا هذا وتيقناه؛ فلن تسحرنا أقوالهم ولن نقع - بعد اليوم - في شباكهم، وكفانا بهذه المعرفة العاملة سعادة!
والآن يبدو لي أننا بحاجة لأن نمتطي الزمن لحظات عبر التاريخ في سياحة علميه نلم فيها إلمامه قصيرة بشيء من ختل هؤلاء الممثلين البارعين:
هذه هي فرنسا ظهر فيها فولتير وروسو (باسم حماة العدل، ورافعي الظلم، ودعاة الحرية بإنارة الفكر، وهداية العقول).
وبدأ راهبا (الحرية) هذان ينشران مبادئهما التي تتلخص في تسفيه الأنبياء وإنكارهم الألوهية بزعم أنها خرافات. وان الدين الحق هو دين الطبيعة الحرة، والمعبود الحق هو الشهوة. . .
وبذلك حدثت المآسي الخلقية التي يذكرها التاريخ خجلاً، والتي رأينا صورة منها في اعترافات روسو نفسه.
وعلى أثر تسمم الناس في هذه الآراء قامت الثورة المعروفة على أنقاض الدين.
وهذه هي الروسيا لم تتمكن فيها مبادئ ماركس من الوجود إلا على أساس الشيوعية الإباحية التي أعقبتها الثورة على الدين والنظم السياسية والاجتماعية والقضاء على ذلك كله.
والأمثلة تفوق الحصر ولكن ليس هذا محلها: إنما اقتصرت على مثالين حديثين يذكرهم ويعرف تفاصيلهما كل منا، وإن التأريخ اجمع من أوله إلى آخره هو حجتي وبرهاني على صدق الأرقام التي ذكرت: فما من صاحب مذهب الحادي إلا وله قصد غير الإلحاد في ذاته.
أما في الأمم التي لم تنضج ثقافتها فإني أصدق أن فيها من يلحدون إخلاصاً للإلحاد ذاته أو لأن الإلحاد قال به ديكارت أو فلان من الناس، أو للاشتهار بالمخالفة. . .
ويعلم الله أنهم - على حسب مقاييس سادتهم الغربيين - لا يفهمون من معاني هذه الألفاظ التي يتشدقون بها غير أسمائهم، وأن التقليد الجاهل فيما يضر ولا يفيد - إن دل على شيء - فليس إلا على أحط دركات الانحطاط الخلقي والعلمي أما الذين يدعون إلى الشك بدعوى العلم قد قال به في يوم من الأيام، فلست أدري إن كانوا يفهمون حقاً ديكارت ذاك، هل شك ديكارت في الأديان وفي العلوم وفي التأريخ لأنه قديم وكفى؟ وهل كان يصل إلى نتيجة لو أنه قدر وحدث هذا؟ آخره آ
ومهما يكن فيا ليت هؤلاء فعلوا ما فعل ديكارت؛ إذن لكنا جنينا من ورائهم خيراً كثيراً كما جنت العلوم بل والأديان من نهج ديكارت هذا الذي يضللون به السذج ممن لم يعرفوا
حقيقته
(جاء في الجزء الثالث من دائرة معارف من قواعد فلسفة ديكارت أن ما وجد في الذهن واضحاً جلياً فهو حق يجب أن يسلم به تسليماً) أين هذا من قولهم بالشك في التأريخ والدين وفي كل قديم لأنه قديم وهذا حسبه؟ (لم تكن عظمة ديكارت راجعة إلى أنه شك؛ ولكن إلى أنه اهتدى بالبحث إلى طريق وصله إلى اليقين)(على أنه حين أخذ الشك يساوره كان غلاماً ناشئاً لم تجاوز سنة العشرين (ولما يتم دراسته الجامعية) فشكه حينئذ لم يكن ليحتج به)
ولكنه على كل حال بحث وجد في بحثه حتى توصل إلى أن قال كلمته المشهورة (أنا أشك فأنا إذن موجود) ثم قال بعد ذلك (إني مع شعوري بنقص ذاتي أحس في الوقت نفسه بوجود ذات كاملة، وأراني مضطراً إلى اعتقادي بأن هذا الشعور قد غرسته في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحلية بجميع صفات الكمال وهي الله)
وقد اعتذر ديكارت الكهل نفسه عما بدر منه أيام الشباب برسالة صغيرة أخرجها للناس في سن الأربعين بين فيها كيف تخلص من أزمة الشك إلى اليقين بهذه الطريقة العلمية الرائعة التي يعرفها التاريخ باسمه عنوانها (مقال في الطريقة).
ومن أهم مبادئها كما شرحت في دائرة المعارف البريطانية إننا لا نقبل شيئاً ولا نسل به ما لم يختبره العقل اختباراً دقيقاً ويتحقق من وجوده بما ليس فيه أدنى ريب؛ فكل ما كان مصدره الحدس والتخمين يجب رفضه ونبذه قطعاً.
يجب أن يكون بحثنا على الترتيب الآتي من البسيط إلى المركب ومن الصعب إلى الأصعب.
ومن أهم شروط صحة البحث ألا نحكم بصحة رأي أو مقدمة أو خطأ حتى تتحقق من ذلك بالامتحان.
ولو أننا طبقنا هذه الحقيقة على ما يرجف به السادة المشككون باسمه، لقضت على آرائهم في مهدها، ولاستراح الشباب والشيوخ من سفسفاتهم وترهاتهم. . .
(للكلام صلة)
إبراهيم البطراوي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
شاعرة حائرة تسأل عن الفن والحياة:
أحييك وأهنئك، فقد سموت بفن النقد الذي لم نكن نعرف عنه سوى أنه أما مدح أو تملق يحط من كرامة الكاتب، وأما ذم وتحقير مغرض لا هوادة فيه ولا رحمة. . . لقد أعجبني وأفادني مقالك عن الأستاذ توفيق الحكيم تحت عنوان (الفن بين واقع الفكر وواقع الحياة) ولكنه لسوء الحظ ساءني وأفزعني!
لقد قرأته مراراً ثم قلت لنفسي: إذا كان إنتاج الأستاذ الحكيم قد تأثر بسبب انطوائه على نفسه وابتعاده عن الحياة، وإغلاقه (تلك النافذة المفتوحة التي كان يطل منها على ميدان الحياة الفسيح المترامي أمام عينيه)، إذا كان هذا قد حدث مع الأستاذ الحكيم فكيف آمل أنا أن أكون شاعرة ناجحة؟! أنا ربيبة الانطواء المرير والعزلة الطويلة، أنا التي لم أرى العالم ولم أعرف المجتمع إلا عن طريق الصحف والكتب والخيال!
لقد كان أملي في الحياة أن أتعلم إلى آخر مرحلة من مراحل التعليم، ولكنني حين أتممت تعليمي الثانوي بوحش ضار أعترض طريقي إلى الجامعة وقال بصوته الرهيب: إلى أين أيتها الحالمة؟ قلت إلى الجامعة. قال: حذار وإلا أشقيت أسرتك، ألا تعلمين أن سلطاني عليهم عظيم؟ وأنني سأقلق مضاجعكم جميعاً إذا لم تتبعوني؟ وسألته واجفة خاشعة: ومن أنت أيها السلطان الجبار؟ قال: أنا سلطان التقاليد: تفقدت الوجوه الواجمة من حولي وعز علي وجومها، وقلت لن ألتحق بالجامعة ولأكن كبش الفداء. . . وما أنا بأول ضحية من ضحايا التقاليد ولم تئن تلك المحنة القاسية من عزيمتي وداومت على القراءة ليلاً ونهاراً. . .
وأخيراً أخذت الغيوم الكثيفة تنقشع عن سمائي، وأذن لي بنشر شعري بالجرائد اليومية. ولكنني ما كدت أشعر بالسعادة وبأن حلم حياتي قد تحقق حنى هب الكثيرون والكثيرات يهيبون بي أن أترك انطوائي وعزلتي، وأن أخرج إلى المجتمع وأن أتردد على زيد وعبيد من كبار الكتاب والشعراء. وقيل لي إن لم تفعلي ذلك فسينحط إنتاجك وينضب معينك. ومما زاد في شقوتي وارتباكي وكاد أن يطيح بي إلى هوة سحيقة من اليأس القائل ما أقرأه
لك حول هذا المعنى في هذه الأيام. فهل من المحال أن يكون الأديب أو الشاعر قديراً ناجحاً ما دام منطوياً عل نفسه بعيداً عن دنيا الناس؟ وهل الكتب لا تكفي ولا يمكن لأن تكفي ليكون الإنسان مثقفاً كما يقول الدكتور مندور؟
إذا كانت هذه هي الحقيقة فيا لمرارتها ويا لقسوة المقادير ويا لظلم التقاليد!. إذا كانت هي الحقيقة فسلام علي وفي ذمة الله آمالي وأحلامي ومستقبلي الأدبي لقد حلمت به السنين الطوال!
إن رجائي الحار هو أن تجيب عن هذين السؤالين على صفحات مجلتي الحبيبة (الرسالة) ولست أدري لماذا أشعر شعوراً قوياً أنك لن تخيب رجائي ولن تهمل الرد علي.
شاعرة حائرة
إنسانة فنانه، وشاعرة حائرة. . . وكلمات أحس فيها لوعة القلب وألمس حيرة القلم، وأكاد أشم رائحة الدموع! وأعود بذاكرتي إلى الوراء وأستعرض ما قرأت من شعر على صفحات الجرائد اليومية، عسى أن أضع يدي على مفتاح هذه الشخصية المجهولة التي تعرض على قضيتها في انتظار الجواب. . . وقد يسأل سائل عن سر هذا الاهتمام فأقول له: أنه شغف الملكة الناقدة بتتبع سير الحياة الأدبية، والكشف عن ظواهر هذه الحياة، والربط بين شخصية الكاتب وما كتب!
وأقف في الذاكرة طويلاً عند صحيفة من صحف المساء، لأسترجع عن طريق التمثل الفكري بعض ما كنت أقرأ فيها من شعر لآنسة مجهولة. . لآنسة كانت ترمز إلى شخصيتها بالحروف الأولى من أسمها ولا تزيد! لماذا لا تفصح عن أسمها صاحبة هذا الشعر؟ لماذا أحس في روحها هذه التهويمات التي يئن فيها النبض وتختنق العاطفة؟ لماذا تهب علي من شعرها رائحة الفن السجين؟ أسئلة لم أكن أجد لها غير جواب واحد أطمئن إليه، هو أن صاحبة هذا الشعر إنسانة منطوية على نفسها قد فرضت عليها التقاليد أن تبتعد عن الحياة!.
وكم قلت لنفسي: هنا أقباس من وهج الشاعرية ولكن لماذا تطل من تحت الرماد؟ وهنا جناح يملك القدرة على التحليق ولكن لماذا تحد الرياح من رفاته؟ وهنا روح تود أن تنطلق، ولكن لماذا المح في انطلاقها أثر القيود والأصفاد؟! هذه الخواطر التي كانت تجيش
في النفس منذ حين قد ردتني إليها اليوم رسالة الشاعرة الحائرة، وجعلتني أتساءل بيني وبين نفسي: ترى أتكون صاحبة هذه الرسالة التي تلقيتها منذ أيام هي صاحبة الشعر الذي طالعته في إحدى صحف المساء منذ أسابيع؟ إن الروح هي روح ممثلة في التحدث إلى الحياة من وراء حجاب، وأن اللوعة هي اللوعة مصورة في شكوى التقاليد وظلم التقاليد. . . رباه، هل يقدر لهذه الإنسانة الفنانة أن تحطم قيودها يوماً ما، وأن تستشعر حرارة الحياة كما يستشعرها كثير من الأحياء؟!
إنها تسألني هل من المحال أن يكون الأديب الشاعر قديراً ناجحاً ما دام منطوياً على نفسه بعيداً عن دنيا الناس.؟
إن الجواب يا آنستي هو أن الفن بعيداً عن الحياة جسد تنقصه الحركة، وفكرة يعوزها الروح، ولوحة تخلو من الأضواء والظلال. . والفن كما قلت غير مرة ما هو إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور، ولن يتحقق الصدق في الفن ما لم يستخدم الفنان كل حواسه في تذوق الحياة: يرقب، ويتأمل، ويهتك الحجب، وينفذ إلى ما وراء المجهول. فإذا استطاع أن ينقل كل ما يلهب الخيال فيها إلى لوحات من التصوير الفني فهو الفنان. . . وإذا استطاع أن ينقل إلى هذه اللوحات كل ما في القلب الإنساني من نبض وخفوق فهو الفنان الإنسان. وعلى مدار القوة والضعف خفقت القلب ودفقه الحياة يفترق العمل الفني عن مثيله في كل فن من الفنون!
الحياة يا آنستي هي المنبع الأصيل لكل أثر من آثار الفن يترك ظله في النفس وبقاءه على الزمن، في أدب الكاتب، في شعر الشاعر، في لحن الموسيقار، في لوحة الرسام! لتكن الحياة نقمة أو نعمة، لتكن مأساة أو ملهاة، لتكن ألماً أو لذة، لتكن دمعة أو ابتسامة. حسب الفن يعبر عن الحياة فيصدق في التعبير، وحسبه أن يترجم عن رؤية العين وإحساس القلب فيسموا بالأداء! (أدولف) لكونستان، (آلام فرتر) لجيته (مانون ليسكو) لبريفوست، (رفائيل) للإمرتين، (البعث لتولستوي، (نانا) لإميل زولا، (أرض الميعاد) لأندريه موروا (الباب الضيق) لأندريه جيد. . . كل تلك الآثار القصصية وما يماثلها في أدب الغرب قد تنفست فيها الحياة فعبقت بعطر الخلود.
آلام بتهوفن التي صبها في أنغامه خالدة لأنها من الحياة، لذات بايرون التي تدفقت في
أغنياته خالدة لأنها من الحياة، دموع هايني التي ترقرقت في أناته خالدة لأنها من الحياة. . . وقولي مثل ذلك عن بسمات جورج صاند وتشاؤم ليوباردي وصرخات بودلير
وإذا ما تركت الأدب والشعر والموسيقى إلى التصوير، فهناك لوحات من كتب لها البقاء ما بقيت الحياة التي ألهمت الريشة المبدعة وأوحت إلى الخيال الوثاب. . . ترى هل سعدت بالوقوف لحظات أمام (الجيوكندا) لدافنشي، و (الربيع) لبوتشيلي و (الخريف) لهالي نويل و (الحرية تقود الشعب) لدلا كروا، و (وحي الشاعر) لبوسان و (حارس الليل) لرامبرانت و (نجوى الرعي) لبوشيه و (الينبوع) لآنجر؟
الحياة يا آنستي هي الدعامة الأولى التي يقوم عليها كل بناء فني جدير بالخلود. . . هي النهر الجبار المتدفق وكل ما عداه روافد هي البذرة النادرة التي تنشق عنها تربة الفن فإذا الغصن المزهر والثمرة الناضجة!
وتسألينني هل الكتب لا تكفي ولا يمكن ن تكفي ليكون الإنسان مثقفاً؟. . . إن جوابي عن هذا السؤال هو أنها لا يمكن أن تكفي لسبب واحد هو أن ثقافة من هذا الطراز يشوبها النقص ويعتريها القصور؛ لأنها تفقد عنصراً خطيراً هو عنصر التطبيق على الحياة! كيف تستطيعين أن تتذوقي آثر الفن وأنت بعيدة عن منابعه؟ وكيف تستطيعين أن تحكمي على نتاج القرائح وليس بين يديك لا قاعدة ولا ميزان؟ إن الثقافة يا آنستي ليست قراءة فحسب، ولكنها فهم وتذوق وهضم وتطبيق واستيعاب. . . وحياة من وراء هذا كله تعين الذهن على الإحاطة، وتسعف الحواس على التوهج، وترفع من القيم المواهب والملكات!
معذرة يا آنستي فهذه هي الحقيقة. . . ومع ذلك فلا موجب لهذا اليأس الذي ألهب مني الشعور في كلماتك في كلماتك، إنني أشعر شعوراً عميقاً بأن القيد سيتحطم يوماً ما، وعندئذ يمكنك أن تستشعري حرارة الحياة كما يستشعرها كثير من الأحياء!
رأي في مقدمة (أوديب الملك) حول الفلسفة الإسلامية:
كتب الأستاذ سيد قطب - رد الله غربته في الوطن والروح - كتب في عدد (الرسالة) الماضي موجهاً حديثه إلى الأستاذ توفيق الحكيم: (فكرة أريد أن أصححها عن (الفلسفة الإسلامية) كما يصورها ابن رشد وأبن سينا والفارابي فقد ألممت بهذا في بحثك الممتع الطويل. إن هذه الفلسفة قد تصح تسميتها (الفلسفة الإسلامية) بمعنى أنها وجدت في أرض
إسلامية على يد أفراد مسلمين. ولكن يكون من الخطأ العميق اعتبارها (فلسفة الإسلام)، وقد آن أنصحح هذه الغلطة القديمة الحديثة! إن فلسفة هؤلاء الفلاسفة إن هي إلا انعكاسات الفلسفة الإغريقية في ظل إسلامي. وهي لا تبلغ أن تصور الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. هذه الفكرة الخالصة الكاملة المتناسقة)!
معذرة يا صديقي إذا قلت لك إن هذه الفكرة عن (الفلسفة الإسلامية) قد صححت في أحد أعداد (الرسالة) منذ ثلاثة أشهر عندما تناولت بالنقد مقدمة (أوديب الملك) في (التعقيبات) ولقد قدر لهذه الغلطة القديمة الحديثة أن ترد إلى الصواب في هذه الكلمات التي لم تطلع عليها لبعدك عن أرض الوطن حيث قلت: (ثم يقول الأستاذ الحكيم في موضع رابع إن فلاسفة العرب قد صبغوا آثار أفلاطون وأرسطو بلون تفكيرنا وطبعوها بطابع عقائدنا. . . في رأيي أ، شيء من هذا لم يحدث، إن كل ما فعله فلاسفة العرب هو أنهم نظروا في الفلسفة اليونانية فنقلوا بعض ما فيها من آراء ومذاهب نقلاً يحفل بالخلط والتشويه؛ ذلك لأنهم حاولوا أن يوفقوا بين تعاليم الفلسفة اليونانية وبين تعاليم الدين الإسلامي فكانت محاولة انتهت بأصحابها إلى الإخفاق. أما الإخفاق فمرجعه إلى بعد الشقة بين العقلية اليونانية والعقلية العربية من جهة، وبين منهج الفلسفة اليونانية ومنهج الديانة الإسلامية من جهة أخرى. . . ومن هنا كانت الفلسفة الإسلامية خليطاً عجيباً من أفكار مضطربة لا تقترب كثيراً من الدين ولا من الفلسفة)
بقي أن أبعث إليك بعاطر الشوق على صفحات (الرسالة) وبخالص الشكر على تفضلك بإهدائي كتابك الجديد القيم عن (العدالة الاجتماعية في الإسلام)
ثلاثة كتب لأحمد الصاوي محمد
صديقي الأستاذ أحمد الصاوي محمد وهبه الله قدرة على الإنتاج لا تحد، واستجابة لدعاء القلم لا تنتهي، وجلداً على إرهاق العمل لا يعتريه وهن ولا فتور؛ فهو لا يكاد يفرغ من كتاب يقدمه إلى القراء حنى يدفع إلى المطبعة بكتاب آخر. . . أستنفر الذاكرة بل بكتب أخرى تنقل إلى الشرق كثيراً من روائع الغرب!
من هذه الكتب التي ظهرت له منذ قريب (كفاح الشباب) و (مآسي الشباب) و (زواج الشباب)، ومن قبلها بضعة وعشرون كتاباً في شتى ألوان الأدب والفن. . . وبهذا الإنتاج
الضخم يشارك الصاوي في بناء نهضتنا الثقافية بدعائم من الجهد الأدبي الجدير بالإعجاب.
وكتب اليوم الثلاثة التي تعرض لكفاح الشباب ومآسيه صور من الحياة وللحياة. . . يصبها الصاوي في قالب قصصي ممتع يحتفظ بروح الوقع المحس، داخل إطار من طلاوة العرض والتحليل والأداء. هي فصول نشرها في (أخبار اليوم) يوم أن كان يدرس مشكلات الشباب من رسائلهم إليه، ليقدم العلاج في رأي يدلي به أو نصح أو مشورة؛ ومن هنا جاءت هذه المجموعة التي تنتظم كتباً ثلاثة هي (كفاح الشباب) و (مآسي الشباب) و (زواج الشباب)، جاءت كما يقول الأستاذ الصديق في مقدمته:(اسطع نبراس للشباب المتطلع لحياة أفضل وأنفع وأكرم، وأثمن مرجع للمصلحين الحريصين على توجيه شباب الجيل وتقويمه ونفعه ليكون جديراً بوطنه).
مشكلة في حياتنا الأدبية:
يقول الأديب الإسكندري الفاضل عمر عبد السلام مجاهد في رسالة بعث بها إلي: (يا أخي في يدك قلم وفي كتابك عمق وحياة، فلماذا لا تخرج كتاباً في الأدب أو الفن أو النقد تمدنا فيه بمثل هذه الأفكار التي تطالعنا بها في مقالاتك وتعقيباتك؟ إن هذه الرغبة ليست رغبتي وحدي ولكنها كما أعتقد رغبة الكثيرين من المعجبين بك).
أود أن أجيب الأديب الفاضل بعد شكره على حسن ظنه وجميل رأيه بأنني قد فكرت في هذا الأمر أكثر من مرة، ولكنني اقتنعت أخيراً بأن الأحجام خير من الأقدام، لماذا هذه هي المشكلة التي سأتناولها في الأسبوع المقبل بالعرض والتحليل؛ وهي مشكلة لا تتعلق بي ولكنها تتعلق بهذا الجيل من القراء!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
عيسى بن هشام يبتذل في الإذاعة:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى القضية التي ستنظر أمام محكمة مصر الكلية يوم 13 يونيه القادم بشأن التمثيليات التي تذيعها محطة الإذاعة بعنوان (عيسى بن هشام) وقد رفع الدعوى إلى المحكمة خليل المويلحي بك شقيق محمد المويلحي بك مؤلف كتاب (عيسى بن هشام أو فترة من الزمن) مطالباً وزير الشؤون الاجتماعية ومدير الإذاعة ومؤلف التمثيليات ومخرجها، بأن يدفعوا إليه ألف جنيه متضامنين.
وقد بدأت قصة هذه المسألة في سنة 1941 حينما عرض الأستاذ أحمد شكري على خليل المويلحي بك أن يصرح له باقتباس تمثيليات إذاعية من الكتاب، فوقع له بالتصريح، ولكنه لما سمع التمثيلية الأولى رأى أنها مسخت مقاصد مؤلف الكتاب، إلى أنها أعدت باللغة العامية المبتذلة، فألغى ذلك التصريح، وأفضى بالأمر إلى الدكتور طه حسين بك - وكان إذ ذاك المستشار الفني للإذاعة - فمنع الدكتور الاستمرار في هذا العمل. وفي سنة 1948 استأنفت الإذاعة تلك التمثيليات، وراح المذيع يقول في عبارته التقليدية:(محمد الغزاوي يقدم عيسى بن هشام تأليف أحمد شكري وإخراج محمد الغزاوي. . . الخ) فأرسل شقيق المؤلف الحقيقي إلى الإذاعة يطلب عدم إذاعة التمثيلية والكف عن التمادي في هذا التصرف. ولكن الإذاعة استمرت تذيع حلقات متتابعات تدور حوادثها على ما تضمنته قصة الكتاب مع تشويه الأهداف الأدبية فبه وابتذال اللغة، ففي إحداها إزراء بالمنيكلي باشا بطل قصة الكتاب، من أحد (الخواجات) مما لا يتفق مع تصوير المؤلف الأصيل لهذه الشخصية، وفي إحداها تقول امرأة في المحكمة الشرعية للباشا:(يا منيل على عينك. . . يا مدهول. .)
وهكذا إلى هذا الحال يسير ذلك الأثر الأدبي الذي يمد المحاولة الأولى المصرية الحديثة الأصيلة، بل هو في رأي التاريخ الأدبي المعبر من المقامة إلى القصة في عصرين من عصور الأدب العربي.
ولنفرض أن الإذاعة ليس فيها أدباء يعرفون مكان (عيسى ابن هشام أو فترة من الزمن)
وعلى هذا أذاعت مرارا أن مؤلف (عيسى بن هشام) هو أحمد شكري، ولكن ما بالها تستمر في ذلك وقد علمت علم مديرها - من الخطاب المرسل إليه من الاتصالات التي حدثت من أجل الموضوع التي احتج فيها المدير بالتصريح السابق - إن مؤلف (عيسى بن هشام) هو كاتب مصري اسمه محمد بك المويلحي - ما بال الإذاعة وقد علمت ذلك لا تزال تعلن أن المؤلف هو أحمد شكري بعد أن تعلن أن الغزاوي يقدم. .؟ وكيف تستبيح الإذاعة ومن يعملون فيها الحقوق الأدبية العامة - بصرف النظر عن حقوق الورثة المادية - فتحيل الأدب الرفيع إلى كلام مرذول، والفن العالي إلى بضاعة مما تسجيه إلى الناس. . .؟
تمثيل كريمات الرسول:
طلبت جمعية الشبان المسلمين من محطة الإذاعة، إذاعة مسرحية تمثلها على مسرحها، فاطلعت المحطة على المسرحية فرأت فيها مشهدا تظهر فيه شخصيات تمثل بعض الصحابة وآل الرسول وخاصة فاطمة الزهراء، فأرسلت إلى فضيلة مفتي الديار المصرية تستطلع رأيه فيها قبل إذاعتها، فرأى فضيلته أنه لا يليق إطلاقا أن تمثل شخصية فاطمة الزهراء أو يسمع الناس ممثلة تتحدث باسمها.
وقبل ذلك أذاعت المحطة تمثيلية قصيرة اسمها (زينب وأبو العاص) ونشرت مجلة آخر ساعة صور هذه التمثيلية وهي تمثل في دار الإذاعة، ومن بينها صورة زوزو حمدي الحكيم تمثل شخصية زينب بنت رسول الله. . . فلماذا لم تستفت الإذاعة فضيلة المفتي قبل إذاعة تمثيليتها وقبل الإذن بنشر صورها في المجلة؟
وهل يا ترى تمنع إذاعة (تسجيلها)؟
مظاهر النشاط المدرسي مظاهر فقط:
نحن الآن في أواخر العام الدراسي وقد حفل الشهر الأخير كما يحفل كل عام، بماهر النشاط المدرسي أو بالحفلات النهائية لهذا النشاط، من تمثيل والعاب ومعارض فنية وغبر ذلك. . .
ويبذل المشرفون على المدارس جهدا كبيرا في ذلك، ولكن هل تتجه هذه الجهود نحو الفائدة
التربوية المتوخاة من هذا النشاط أو هي تنسرب نحو أغراض أخرى؟
لا أنسى منظر ذلك الناظر الذي رأيته في مكتب أحد رجال الوزارة الكبار، وهو يتحرق شوقا إلى تشريف الكبير حفلة التمثيل التي ستقيمها المدرسة، أنه يلح على السكرتير في طلب الإذن له، وكل ملامحه تنطق بالأهمية القصوى التي يعقدها على حضور الشخصية الكبيرة حفلة المدرسة. إن الرجل يبغي الظهور بالمقدرة والنشاط أمام الرؤساء وتصور ما وراء ذلك وما سبقه من إعداد.
هؤلاء نفر من الطلاب أختارهم المشرفون لتمثيل الرواية التي تعتزم المدرسة تقديمها على أحد المسارح في آخر العام، وعكف المدربون - وقد يختار بعضهم من خارج المدرسة - على تدريبهم، وكثيرا ما يحتاج الأمر إلى ترك الحصص والدروس للقيام بهذا التدريب في الوقت الذي يستعد فيه جميع الطلاب للامتحان آخر العام. والنتيجة هي أن تنجح الحفلة ويتباهى الناظر. أما الطلبة فسبعه أو ثمانية منهم دربوا على التمثيل تدريبا شاغلا عن بعض الدروس، وباقي الطلاب كل غنمهم مشاهدة التمثيل. . .
وهذا معرض يشتمل على أعمال فنية تنسب إلى التلاميذ، ويعلم الله أن أيدي المدرسين، أو بعض الفنيين من الخارج، هي الغالبة عليها. . . وقد دعيت في هذا الأسبوع إلى حفلة شاي أعدت لمناسبة افتتاح معرض مدرسي، ولا أقدر نفقات الحفلة بقل من خمسون جنيها، ثم نهضنا إلى المعروضات فإذا هي لا تساوي كل هذا الزئاط، ولمحت الطلبة بجوارها لا يفقهون أسرارها، والبركة في شرح المدرسين. . .
لو إن وراء تلك المظاهر ما يدل على أصالة الطلاب فيها وعلى استفادتهم من الدربة عليها استفادة شاملة أو غالبة، لكان الآمر على ما نحب لهم. ولكن يبدو أن مظاهر النشاط المدرسي خطوط متوازية مع الخط الرئيسي وهو السباق نحو الفوز في الامتحان. وكل ذلك دون العناية بما هو في الأصل غاية.
كرسي الاعتراف:
يعيش الكردينال (جيوفاني) أحد رجال الكنيسة بروما، في قصر أسرته العريقة (آل ميدتشي) مع والدته التي تأمل أن يصل الكاردينال إلى كرسي البابوية، ومع أخيه الشاب (جوليانو)، بجوار أسرته (تشيجي) وأسمها (فليبرتا) وهي تحبه. ويحاول (أندريا
ستروتسي) الذي يقر به البابا لأنه يجاهد في خدمة الكنيسة بسيفه - يحاول أن يظفر بالفتاة (فليبرتا) فيخطبها من أبيها، فيرفض الأب، ويدور بينهما نقاش حاد ينتهي بأن يقتل (جوليانو)(تشيجي) بخنجره، ويأمر تابعين له بنقله إلى باب داره، ويذهب إلى الكردينال، ليعترف بخطيئته أمام كرسي الاعتراف، ثن يذهب إلى حرب أمره البابا بالسير إليها. وعندما يكون (جوليانو) وخطيبته التي فقدها أباها عند أخيه الكردينال، يقبل محافظ روما ليقبض على (جوليانو) مهماً بقتل (تشيجي) لأنه وجد خنجره بجوار الجثة وكان قد وقع منه عند ما خف لنجدته ولأن أسم (جوليانو) كان آخر ما لفظه القتيل. ويصعق الكردينال لهذه المفاجأة ويؤكد للمحافظ أن أخاه بريء، ولكن المحافظ لا يعبأ به ويسوق المتهم إلى السجن، ثم يحاكم ويقضي بإعدامه؛ وتمر المحنة بالكردينال شديدة عاصفة لأنه يعرف القاتل ولا يستطيع أن يفشي سر (الاعتراف) وأخوه يساق إلى الإعدام. . . وفي خلال ذلك يقبل أندريا القاتل الحقيقي من ميدان القتال ظافراً، فتستقبله روما بالحفاوة، ويطلب إليه الكردينال أن يكشف عن الحقيقة في قتل (تشيجي) ولا بأس عليه لأن البابا لا بد أن يعفو عنه جزاء بلائه في الحرب، فيطلب ثمناً لذلك أن يتزوج (فليبرتا) فيعنف الكردينال في مخاطبته فيطرده ويلعنه. ثم يتصنع الجنون ويهيأ الجو بحيث يستدرج (أندريا) إلى الإقرار بجريمته على مسمع من محافظ روما الذي كان لدى الكردينال عند ما أقبل (أندريا) وهم بالانصراف ولكنه لما سمع الجدال يعلو بين الرجلين اختبأ قريباً منهما خشية أن يعتدي (أندريا) على الكردينال. ثم يهجم المحافظ على (أندريا) ويمسك به ويطلق سراح (جوليانو)
هذه هي قصة فلم (كرسي الاعتراف) الذي يعض بسينما أوبرا، والذي أخرجه يوسف وهبي ومثل دور الكردينال فيه، وهي قصة مسرحية قديمة مترجمة عن الإنكليزية، ومثلها يوسف وهبي على المسرح مراراً قديماً وحديثاً. . . وأخيراً قدمها على الشاشة كما هي بحوارها وشخصياتها، لم يغير فيها إلا قليلا مما اقتضته الحركة السينمائية فبدت في ثوب سينمائي يكاد يتمزق ليكشف عن مناظر مسرحية بحتة، وقد عدمت من السينما ألزم لوازمها وهي المناظر المنوعة، فقد جرت كل الحوادث في قصر (آل ميدتشي) ولم نر شيئاً يذكر من روما مدينة السحر ومهد الفن ومبعث الشعر، كما تقول الأغنية التي بدأ بها الفلم.
ويخيل إلى أن هذا الفلم يتمثل فيه (التقتير) من ناحيتين، فالتقتير من جانب المنتج في عدم
الإنفاق على المناظر والاكتفاء بهذا الاسم المدوي في عالم الفن: يوسف وهبي، وهو أي يوسف وهبي يبدو رائعاً بمظهر الكردينال كما ترى في صورته بالإعلان في الصحف وقد رفع يديه فبدت فتحتا القميص الرشيقتان. . . وقد عنى مصور الفلم بالتقاط مناظره في المواقف المختلفة عناية ظاهرة.
والتقتير من جانب يوسف وهبي بتقديم بضاعة قديمة، لا تكلفه عناء ولا مجهوداً ولا عناء، فقد حفظ دوره في الرواية وأجاد تمثيله، وأقوم ما في الفلم إتقان يوسف وهبي في تمثيل دوره الذي مرن عليه في المسرح، ولا آخذ عليه إلا ما ينتابه من الصياح في بعض المواقف دون داع إليه، كما صنع وهو يتعشى أمه منفردين بجو هادئ، إذ هب يخطب فجأة قائلاً أنه لا بد أن يحافظ على مجد (آل مديتشي) ولا جمهور يخطبه غير أمه والمائدة.
ويبدو لي أن هذه الرواية لم تصل إلى السينما حتى كان (زيتها) قد أعتصر. . . فلم تكن تحتمل كل هذا الذي جرى لها في مصر. . . ألم يكن يكفي تمثيلها على المسرح والاعتبار بشكوى (الخشبة) من تكراها عليها حتى تبلى بها (الشاشة) في آخر المطاف؟ أو لم تكن أولى بهذه الجهود السينمائية رواية مصرية جديدة؟ وماذا يهم الجمهور المصري من (آل مديتشي) وحب السيد (جوليانو) واعتراف (أندريا ستروتستي)؟ لقد كان الممثلون أنفسهم - فيما بدا لي - ضائقين بهذا الجو يؤدون أدوارهم فيه (والسلام!) وإلا فبماذا أفسر جمود فاتن حمامة (فليبريا) وفاخر فاخر (جوليانو) وظهورهما في مواقف الفلم كأنهما يتفرجان بمناظر قصر (آل مديتشي) وما حوى من العجائب والغرائب. . . وهما من أقدر الممثلين.؟
عباس خضر
البريد الأدبي
الأزهر والفلسفة الإسلامية:
في مقال الأستاذ سيد قطب في عدد الرسالة رقم 828 كتب الأستاذ هذه العبارة التالية موجهاً الكلام إلى الأستاذ توفيق الحكيم:
(. . . ومالي ألومكم أنتم والأزهر ذاته لا يدرس في كلياته إلا تلك الفلسفة الإسلامية باعتبارها فلسفة الإسلام).
وأود أن أطمئن الأستاذ الكاتب الفاضل على أن الأزهر في تأريخه لم يدرس الفلسفة الإسلامية على اعتبارها أن تمثل فلسفة الإسلام، أن تحكي مبدأ من مبادئه، أو هدفاً من أهداف.
ففي ماضيه كان يحرم دراسة النوع الإلهي من الفلسفة الإسلامية، لأنه كان يرى في هذا النوع انحرافاً واضحاً عن الإسلام. ومن أجل ذلك كان يلوم فلاسفة المشرق، أمثال الكندي والفارابي وأبن سينا، على اشتغالهم به، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، وجاري الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة)، وكفر هؤلاء الفلاسفة لمسايرتهم الفكر الإغريقي في القول بقدم العالم، وقصر علم الله على الكليات، وإنكار بعث الأجسام.
وفي العصر الحديث يدرس الأزهر في كلياته الفلسفة الإسلامية كما يدرس أنواع الفلسفات الأخرى من الإغريقية، إلى الدينية في القرون الوسطى، إلى المذاهب الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة. . . على أنها اتجاهات للفكر الإنساني في أزمنة متعاقبة وفي بيئات مختلفة، وقد يكون بعضها ترديداً لبعض، أو إضافة جديدة لما سبق.
وهو في هذه الدراسة يوازن بين إنتاج الفكر الإنساني في عصوره المختلفة وبين الإسلام كدين أوحى به من عند من له الكمال المطلق.
ومع شكري للأستاذ الفاضل سيد قطب على غيرته القومية والإسلامية، ودفاعه عن (أصالة) الشرق في تفكيره، ورغبته الشديدة في أن يرى اعتزاز أهل الشرق والإسلام بما لهم من ثقافة وتوجيه في المرتبة الأولى مما يعتز به الإنسان المثقف أؤكد له أن الأزهر الحاضر تسيطر عليه في البحث والتوجيه روح إسلامية شرقية عرفت ما في الغرب من ثقافة واتجاه بعدما وعت ما في الإسلام من مبادئ، ودرست ما كان لشعوبه من خصائص
في الأدب والحكمة.
ويسعدني أن يكون كتابي (الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي) وسيلة يعف بها الأستاذ هذه الروح في الأزهر.
دكتور محمد البهي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بالأزهر
النكتة:
جاء في شرح القاموس النكتة النقطة، ونقل شيخنا عن الفتاوى في حاشية التلويح هي اللطيفة المؤثرة في القلب من النكت كالنقطة من النقط، وتطلق على المسائل الحاصلة بالنقد، المؤثرة في القلب التي يقارنها نكت الأرض غالباً بنحو الإصبع.
وفي التعريفات النكتة هي مسألة لطيفة أخرجت بدقة نظر وإمعان فكر من نكت رمحه بأرض إذا أثر فيها، وسميت المسألة الدقيقة نكتة لتأثير الخواطر في استنباطها اهـ
وفي (الكليات) النكتة هي المسألة الحاصلة بالتفكير المؤثرة في القالب، لتي يقارنها نكت الأرض بنحو الإصبع غالباً، والبيضاوي أطلق النكتة على نفس الكلام، حيث قال هي طائفة من الكلام منقحة، مشتملة على لطيفة مؤثرة في القلوب. وقال بعضهم هي طائفة من الكلام تؤثر في النفس نوعاً من التأثير قبضاً أو بسطاً، وفي بعض الحواشي هي ما يستخرج من الكلام، وفي بعضها هي الدقيقة التي تستخرج بدقة من النظر، أو يقارنها غالباً نكت الأرض بإصبع أو نحوها، وفي حاشية الكشاف ونكت الكلام أسراره ولطائفه لحصولها بالتفكر، ولا يخلو صاحبها غالباً من النكت في الأرض بنحو الإصبع اهـ
وجمعها نكت ونكات، وفي (أساس البلاغة) ومن المجاز جاء بنكتة ونكت في كلامه ونكت في قوله تنكيتاً، ورجل منكت ونكات اهـ. وقد الفت كنب باسم التنكيت والنكت.
هذا، ومن هذا يظهر لك تطور الكلمة وصحة استعمالها في الفكاهة ونحوها.
علي حسن هلال
بالمجمع اللغوي
1 -
من قوة المرأة:
في (تاريخ الإسلام الذهبي) المطبوع بالقاهرة: كان صلة بن أشيم في الغزو ومعه أبن له، فقال: أي بني، تقدم فقاتل حتى أحتسبك! فحمل يقاتل حتى قتل، ثم تقدم هو فقتل! فأجتمع النساء عند امرأته معاذة العدوية، فقالت: إن كنتن جئن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فأرجعن!
2 -
يعطيهم من ماله ليرخصوا الغلة:
يذكرنا عمل الحكومة اليوم بما فعله نصر بن أحمد العابدي السمرقندي الدهقان، فقد كان كثير المال والغلات، فوقع بسمرقند قحط، فباع غلاته بنصف أثمانها، وكان يعطي الذين يجلبون الطعام من ماله ليرخصوا الغلة. . . الخ ما أورده أبن الأثير في كتابه (اللباب في الأنساب جـ2 ص103) المطبوع بالقاهرة.
عبد الله معروف
الكساء:
خطأ الأستاذ عبد السميع على محمود استعمال الكتاب للكلمة (كساء) في كل ملبوس وقال: الحق الذي تؤيده النصوص أن الكساء ثوب بعينه، وهو نحو العباءة من الصوف. والصواب أن يقولوا (الكُسا) جمع كسوة الخ.
والصواب الذي تؤيده النصوص - هو ما يستعمله الكتاب، فالكساء يطلق ويراد به مطلق ملبوس لا ثوب بعينه، كما أدعى الناقد لكريم - ولو لم يكن كذلك لما أحتاج الشاعر إلى تخصيصه بما ذكره من فأمك نعجة - البيت - كما أنه لا حاجة إلى استعمال (كُسَّا) جمع كسوة (فكِساء) جمع كسوة أيضاً. قال في القاموس: الكسوة بالضم وتكسر الثوب وجمعها كُساً وكِساء.
(القاهرة)
كيلاني حسن سند
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ أحمد الصقر
اختلفت كلمة العلماء في (الأشربة) منذ فجر الإسلام، وذهبوا في موقعها من الحل والحرمة مذاهب شتى، ولجت بينهم الخصومة، وابتغى كل فريق أن يظهر على خصمه، ويدفع عن رأيه، فماج الشك في عقول الناس وأفكارهم، وتداخلتهم الحيرة، وتنازعتهم الروايات المتشاجنة، والأحاديث المتباينة. وكانوا منها في أمر مريج. وقد ألف في الأشربة كثير من العلماء. وممن ألف فيها أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ وقد ظل هذا الكتاب مطوياً في الخزائن حتى عثر عليه المستشرق الفرنسي (أرتوركي) فأعجب به حتى نشر أكثره في سنة 1325 هـ - 1907 في مجلة (المقتبس) التي كان يصدرها في القاهرة الأستاذ محمد كرد علي. وقد رأى الأستاذ أن الكتاب خليق بالعناية، جدير بأن يطبع مستقلاً، فبذل وسعه في تحقيقه وأدرجه في مطبوعات المجمع العلمي، وقدم له بمقدمة طويلة يبدو أنها جاءت وحي ساعتها، وفيض جلستها، لم يجمع لها عزماً، ولم يشحذ فهماً، ولم يعمل فكراً؛ وإنما أطلق لقلمه العنان يجول هنا وهناك حسبما توحي به النظرة الطائرة، والفكرة العابرة، والهوى الجموح.
ومما جاء في هذه المقدمة العجيبة قول الأستاذ في ص4: (اشتد ابن قتيبة على مخالفيه ولا سيما المعتزل منهم، وفي كتابه (تأويل مختلف الحديث) طعن مبرح في الجاحظ قال فيه: أنه أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل، فتجلى حسده جلياً ظاهراً، هجن أبن قتيبة الجاحظ وكفره، ورماه بأعظم كبيرة وهي الكذب، وسجل عليه أنه أكذب واحد في الأمة لأنه كتب أشياء تنفع في تربية العقول في الدنيا، كما كتب كل ما ينفع في الدين، وابتدع أدباً يسلي ويعلم، فهل من العدل أن يرمى بوضع الحديث، وتشدد أهل مذهبه في تحري السليم من السقيم في الحديث لا يحتاج إلى دليل؟)
أن ابن قتيبة لم يظلم الجاحظ، ولم يهجنه حسداً من عند نفسه، ولم يتهمه بالكذب لما زعمه الأستاذ، بل أنصفه وقال فيه ما له كاملاً غير منقوص، ونقده في بعض رأيه بم لا يسع المسلم الحقيقي إلا نقده ورده على قائله كائناً من كان. واليك نص كلام ابن قتيبة في كتابه
تأويل مختلف الحديث، جاء في ص71 من هذا الكتاب ما يلي (ثم نصير إلى الجاحظ، وهو آخر المتكلمين، والمعاير على المتقدمين، وأحسنهما للحجة استثارة، وأشدهم تلطفاً لتعظيم الصغير حتى يعظم، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار أن يعمل الشيء ونقيضه، وتجده يقص في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشراب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفي على أهل العلم كذكره كبد الحوت وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كن يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وبذكر الصحيفة التي كان فيها المنزل في الرضاع تحت سرير عائشة أكلتها الشاة، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب في تنادم الديك والغراب، ودفن الهدهد أمه رأسه، وتسبيح الضفدع، وطوق الحمامة، وأشباه هذا مما سنذكره فيما بعد إن شاء الله، وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل).
هذا هو رأي ابن قتيبة في الجاحظ، وهو يلقف ما يقوله عنه الأستاذ. ولست أدري كيف استباح لنفسه الطعن في ابن قتيبة بذلك الأسلوب التهكمي مع أنه لم يستطع أن ينقذ مما قاله حرفاً وأحداً، أتراه كان ينتظر منه تقريظ الجاحظ لاستهزائه بحديث الرسول؟
وأن تعجب فعجب قول الأستاذ بعد ذلك (كيف لعمري قضى ابن قتيبة على خصمه في مذهبه هذا القضاء وهو القائل في عيون الأخبار من تأليفه: وليس الطريق إلى الله واحداً، بل الطرق إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان بعد توفيق الله بالإرشاد وحسن التبصير) ما هذا الكلام؟ وماذا يريد الأستاذ بإيراده؟ بل ما معناه؟ وما علاقته بالموضوع؟ ولست أدري، ولعل الأستاذ وحده يدري!
وأجب مما سبق قول الأستاذ بعد ذلك عن أبن قتيبة: (ورمى أيضاً أبا الهذيل العلاف بما ليس فيه، ووصفه بأنه كذاب أفاك، وطعن فيه أشنع طعن. وكذلك كان حظ ثمامة بن الأشرس منه، وهما الأئمة، ورمى هذا برقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به. وطعن في النظام أيضاً وهو الذي رد على الملحدين والدهريين شطراً كبيراً من عمره)
من أين علم الأستاذ أن أبن قتيبة افترى على أبي الهذيل
الكذب ووصفه بما ليس فيه؟ هل قرأ كتب التوحيد وألفى فيها
ما يكذبه؟ هل قرأ كتب التراجم ووجد فيها تكأة له في تكذيبه؟
أنه لم يقرأ شيئاً من هذه ولا تلك وآية ذلك أنه وصف ابن
قتيبة له بالبخل ورقة الدين مسطوراً فيها جميعاً وقد كرر
الجاحظ في كتبه وصفه له بالبخل، وقال عنه: (أنه كان أبخل
الناس) ووصفه كذلك بأوصاف كثيرة وفي طليعتها النفاق.
وأتفق المترجمون له والباحثون لمذهبه في كتب التوحيد على
أن دينه كان أوهى من بيت العنكبوت. قال الخطيب البغدادي
في ترجمته 3366 (وكان أبو الهذيل خبيث القول، فارق
إجماع المسلمين ورد نص كتاب الله إذ زعم أن أهل الجنة
تنقطع حركاتهم فيها حتى لا ينطقوا ولا يتكلموا بكلمة، فلزمه
القول بانقطاع نعيم الجنة عنهم والله يقول: (أكلها دائم)، وجحد
صفات الله التي وصف بها نفسه، وزعم أن علم الله هو الله،
وقدرة الله هي الله، فجعل الله علماً وقدرة، تعالى الله عما
وصفه به علواً كبيراً) ومذهب أبى الهذيل في انتهاء حركات
أهل الجنة والنار قريب من مذهب جهنم بن صفوان الذي زعم
أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى من فيهما حتى لا يبقى
إل الله وحده كما كان وحده لا شيء معه. بل أن مذهبه شر
من مذهب جهم كما يقول البغدادي في (الفرق بين الفرق).
(لأن جهماً وأن قال بفناء الجنة والنار فقد قال: أن الله قادر
بعد فنائهما أن يخلق غيرهما. وأبو الهذيل زعم أن ربه لا
يقدر بعد إنهاء الحركات على تحريك ساكن أو أحياء ميت أو
إحداث شيء). ويقول البغدادي عنه أيضاً في ص 72
(وفضائحه تتري، تكفره فيها سائر فرق الأمة من أصحابه في
الاعتزال ومن غيرهم) أفبعد ذلك يصر الأستاذ على اتهام ابن
كتيبة بأنه وصف أبو الهذيل بما ليس فيه طعناً بغير الحق
وتشنيعاً! وكما كان ابن قتيبة صادقاً منصفاً في حكمة على
ثمامة بن الأشرس بأنه كان كذلك صادقاً منصفاً في حكمه على
ثمامة بن الأشرس بأنه كان يتنقص الإسلام ورسول الإسلام
ويحقد عليهما حقداً غليظاً، ولا أريد أن أنقل من حصائد لسانه
في ذلك شيئاً وحسبي أن أنقل من حصائد لسانه في ذلك شيئاً
وحسبي أن أنقل للأستاذ الناشر ماذا قاله البغدادي عنه في ص
102، 104 (وكان زعيم القدرية في زمان المأمون
والمعتصم والواثق، وانفرد عن سائر أسلاف المعتزلة ببدعتين
أكفرته الأمة كلها فيهما)
وأما طعن ابن قتيبة في النظام فيكفي في تبريره فوق ما ذكره بالتفصيل في كتابه قول البغدادي في ص 80 (وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث، مع الخوارج والشيعة والنجارية، وأكثر المعتزلة متفقين على تكفير النظام). ولعل الأستاذ (محمد كردي علي) يؤمن بعد هذا بأن ابن قتيبة لم يغال (في طعنه بما لا يناسب عظمة علمه وأخلاقه) وانه إنما انتهج النهج الذي رسمه لنفسه، وهو أن يصحر برأيه فيما ارتأى، لا يظلم الخصم ولا يؤثر الهوى. . .
(يتبع)
السيد أحمد صفر
الكتب
العقد الفريد
للأستاذ محمود أبو ريه
كتاب العقد أو العقد الفريد - لابن عبد ربه اشهر من أن ينبه عليه، أو ينوه به، فهو من كتب الأدب الممتعة بل هو موسوعة أدبية غزيرة ضمت بين صفحاتها مما يفيد الأديب ويمد الكاتب، ويعين المنشئ ما لا يوجد في غيرها؛ ففيها أدب وتاريخ ولغة وشعر وعروض، وما إلى ذلك مما لم يجمع مثله في كتاب.
ولو رأينا أن نجمل الكلام في هذا الكتاب لقلنا: أن ابن عبد ربه قد حشد فيه خلاصة ما جمع من قبله كالجاحظ والمبرد وأبى عبيده والأصمعي والكلبي وابن قتيبه، وغيرهم مما يطول القول بذكرهم.
وهو لم يقف في مختاراته عند ما وقف غيره ممن سبقه، على ما عرف عن العرب ولا على ما أثر عنهم من أدب، بل نقل مما ترجم إلى العربية عن الهندية واليونانية والفارسية، وقد قال هو عن كتابه:
(وقد ألفت هذا الكتاب وتخيرت جواهره من متخير جواهر الآداب، ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي تأليف الأخبار وفضل الاختيار وحسن الاختصار وفرش في صدر كل كتاب؛ وما سواء فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء، واختيار الكلام أصعب من تأليفه. وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله. فتطلبت نظائر الكلام وأشكال المعاني وجواهر الحكم وضروب الأدب ونوادر الأمثال؛ ثم قرنت كل جنس إلى جنسه، فجعلته بابا على حدته. . وقصدت من جملة الأخبار وفنون الآثار جوهرا وأظهرها رونقا وألطفها معنى وأجزلها لفظا وأحسنها ديباجة وأكثرها طلاوة وحلاوة، آخذاَ بقبول الله تبارك وتعالى:
(الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).
مؤلف الكتاب:
أما مؤلف الكتاب فهو: أبو عمر أحمد بن عبد ربه سنة 246هـ ونشأ بقرطبة وتوفي سنة
328هـ.
وقد قال فيه ياقوت (وكانت له بالعلم جلالة، وبالأدب رياسة وشهرة ديانة وصيانة) وقال الفتح بن خاقان (إنه حجة الأدب وإن له شعراً انتهى منتهاه، وتجاوز سماك الإحسان وسهاه):
وقال ابن خلكان: (كان من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس.
وقال فيه ابن سعيد:
إمام أهل أدب المائة الرابعة وفرسان شعرائها في المغرب كله) ولقد كان فوق ثقافته العالية في الأدب والتأريخ والفقه والتفسير والحديث، له شغف بالموسيقى والغناء.
طبعات هذا الكتاب:
طبع هذا الكتاب أكثر من أربع طبعات أميرية وأهلية - وكلها - كما يقول الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك: (في العيوب سواء - إذ ملئت بالتحريف والتصحيف والنقص والزيادة حتى كاد يكون شيئاً آخر)
ولقد كان هذا الكتاب هذا الكتاب من الكتب التي قرأناها في صدر شبابنا، وذقنا من أغلاطه وتحريفاته مثل ما ذاق غيرنا. وكم كنا نتمنى - كما يتمنى سوانا - لو أن هذا الكتاب القيم قد خرج في طبعة صحيحة منقحة كما خرج غيره من أمهات كتب الأدب مثل الكامل للمبرد الذي شرحه شيخ الأدب الشيخ سيد المرصفي رحمه الله، وعيون الأخبار الذي طبعته دار الكتب، وكتاب الأغاني الذي لا يزال يطبع أو غيرها.
وحوالي سنة 1938 كنت في زيارة الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكان من حديثي معه أن اللجنة التي يرأسها قد وجهت أكثر غايتها - وكان هذا يومئذ أمرها - إلى لتأليف والترجمة، ولم تعن بالنشر؛ ولو أنها حاولت نصيباً من جهودها إلى النشر لكان ذلك خيراً للناس ولها. وبخاصة فأن النشر من صميم عملها.
ومما ذكرته لحضرته حينئذ، وحبذا لو اهتمت اللجنة بطبع كتاب العقد الفريد على نفقتها، فأنه لا يستطيع أحد أن ينشره صحيحاً غيرها، فأجابني حفظه الله بأن اللجنة قد أخذت فعلاً في نشر هذا الكتاب وأنها تعد العدة لذلك.
عمل اللجنة:
أما عمل اللجنة في طبع هذا الكتاب فإنا ندع القول في بيانه إلى الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك.
قال حضرته - بعد أن ذكر عمل الأستاذ محمد شفيع أستاذ العربية في جامع بنجاب الذي بذل مجهوداً كبيراً في العقد، وأخرج جزءين كبيرين منه، وأن اللجنة قد استفادت من عمل هذا الأستاذ فوائد عظيمة - (ثم هانحن أولاء نحاول أن نخرج الكتاب إخراجاً علمياً - مصححين ما استطعنا - أغلاطه معارضين نسخه المختلفة بعضها على بعض مثبتين أصحها ذاكرين في حواشي الكتاب ما ورد في النسخ الأخرى مكملين ما نقص من عباراته مفسرين ما أبهم من كلماته، شارحين ما غمض من مشكلاته، ضابطين ألفاظه، متحرين أصح الأقوال في نسبة المقطوعات الشعرية والنثرية والأخبار إلى أصحابها مبينين اختلاف الروايات في الشعر والنثر، منبهين على أحسنها معنونين كل خبر وكل مقطوعة بعنوان خاص يدل عليه ويجمع ما فيه من الإيجاز وكان أول ما فعلنا أن كتبنا إلى الأستاذ ريتر المستشرق الألماني بالأستانة نرجوه أن يتحرى نسخ (العقد) في مكاتب الأستانة ليتبين خيرها وأحسنها فكتب لنا وصفاً مطولاً بالموجود من نسخ الكتاب ومزاياها وعيوبها، وقد اخترنا خيرها - بناء على وصفه - ورجوناه أن يصورها لنا بالفوتوغراف، ففعل مشكوراً، وقد استعنا في جانب هذه النسخة بجميع نسخ العقد الموجود في دار الكتب المصرية خطة ومطبوعة).
وبعد أن جمعت اللجنة من هذه النسخ تسعاً أخذت في طبع هذا الكتاب، وكان ذلك ف سنة 1940، وقد ظهر منه إلى الآن خمسة أجزاء في حوالي 2700 صفحة من أكبر قطع وبقي على ما نظن جزء غير الفهارس.
هذا هو كتاب العقد في حالته البديعة التي أخرجته بها لجنة التأليف والترجمة والنشر ونشرته على الناس بتصحيح فائق، وتنسيق رائق، وطبع جميل وورق صقيل ليكون من كل طالب على حبل الذراع بعد أن ظل قروناً لا يجد من يعني به أو يهتم بأمره على نفاسته وعظم شانه وحاجة الناس إليه. وقد أصبحت هذه الطبعة التي خرجت اليوم بهذه الدقة وهذا الرواء، هي التي يطمئن إليها قلب الأديب ويثق بها فكر الباحث، وما سواها من
كل ما طبع - ولا نستثني - إن هو إلا عمل (تجاري) لا يقصد منه إلا الربح المادي.
وإنا إذ نقدم اليوم إلى المتأدبين - في هذه الكلمة الموجزة - هذا الكتاب الممتع لا نحسب أنا قد وفيناه حقه من التعريف الكافي أو البيان الوافي، لأن ذلك يدعو ل ريب إلى إنشاء مقالات مستفيضة. فلندع هذا كله إلى الذين يقرءونه ويستمتعون بما فيه. ولعلنا ننشط يوماً لنري قراء الرسالة نماذج تبين الجهود العظيمة التي بذلت في سبيل تصحيح هذا الكتاب
ولا يسعنا إلا أن نزجي خالص الشكر إلى هذه اللجنة الموقرة في شخص رئيسها الأستاذ الجليل الدكتور أحمد أمين بك، على إخراج هذا الكتاب خاصة، وعلى ما قدمت - وتقدم - كل يوم للعلم والأدب والتأريخ والفن من أسفار جليلة وذخائر نفيسة تقرأ في كل عصر ويظل نفعها على وجه الدهر. . .
(المنصورة)
محمود أبو ريه