المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 83 - بتاريخ: 04 - 02 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٨٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 83

- بتاريخ: 04 - 02 - 1935

ص: -1

‌مجلس نادر.

. . .

نعم مجلس نادر! وندرته في طبيعة الغرض منه، وشخصية الداعي إليه، وقيمة الجالسين فيه؛ كان الغرض منه إصلاح ما بين أخي طه وبيني، وإصلاح ما فسد من ذات البين بين صديقين شيء في طبع هذا الأدب المعاصر نادر؛ وكانت الشخصية الداعية إليه هي الآنسة الجليلة (مي)، وشخصية (مي) في عصور الشرق الأخيرة نادرة؛ وكان الجالسون فيه الدكتور طه، والأستاذ مصطفى عبد الرزاق، والدكتور أحمد زكي، والأستاذ محمد عبد الله عنان، وتهافُتُ هذه العبقريات المختلفة على شعاع لطيف من ذكاء المرأة الشرقية المثقفة نادر؛ وكان البهو المترف الذي سَمرنا فيه قد انسجم بأثاثه ونظامه وألوانه وألوان وضوئه مع ذوق الآنسة الشاعرة، فكان نمطاً من الحديث الصامت أذى المشاعر وألهم الأذهان في الحديث الناطق!

قالت الكاتبة النابهة وقد انتظمنا حولها عقداً كانت هي واسطته: (ارجو أن تكونوا شخصاً واحداً. . . . .) فقال لها الدكتور طه: (نعم وتكونين أنت روحه) وعلى ظَرف هذا الخطاب، وبراعة هذا الجواب جرى سقاط الحديث. وكانت الآنسة تُصَرف الكلام وتساجل هؤلاء الأعلام ببديهة حاضرة ولقانة عجيبة، فمثلتْ لي صورة من صور أولئك الأدبيات اللاتي أنشأن باستعدادهن للأدب مجالس في عهوده الزاهرة، كسكينة ابنة الحسين، والولاة ابنة المكتفي بالله، ومدامُ دِرَمْبُوييه، ومدام جوفرين، وأضرابهن ممن وقفن بين اللغة والبلاغة، وبين الأدب والذوق، وبين الفن والسمو، ثم وشين ثقافة عصورهن بألوان شتى من أناقة المعرض، وجمال الأداء، وحسن المبادهة، فقدرت في نفسي مبلغ ما تفيده المرأة المثقفة في مناهج الأدب ومظاهر الفكر وقواعد السلوك وأوضاع العُرف، وقلت: مساكين نحن! إذا ظفر أدبنا بهذه المجالس، فأَنَّي تظفر مجالسنا بهذه المرأة؟

لست بطبيعتي وتربيتي رجل صالون ولا حديث مجلس، لأن المجامع

المختلطة التي تدفع الحياء عن الذهن، وتُذهب الخوف عن اللسان،

وتجعل أطراف الحديث في متناول كل جالس، أبَتْها علينا التقاليد، فأنا

أردك حتى في هذه الجهة أثر هذه المجالس في علاج هذا النقص

الاجتماعي الموروث

ص: 1

تشقق الحديث عن صور شتى من لَفتات الذهن النشيط، ثم مسحت (مي) بيدها الساحرة على ما كان بين الصديقين فاذا الماضي يعود كله، وإذا الحاضر يذهب كله. وعلاقة هذين الصديقين علاقة نشأت مع الصبي واستحارت مع الشباب وتوثقت على الزمن، فلما نال منها العهد المجرم الذي نال من كل شيء جزعت الآنسة الريمة فيمن جزع، وظلت تتحين المناسبة لسفارة الوفاق والمودة حتى تم لها ذلك ليلة الأمس!!

وللانسان ماضٍ من الأمكنة والأزمنة والأشخاص لا يستطيع مهما جدا أن يسقطه من حياته: فمسقط الرأس، وملاعب الطفولة، ومسارح الهوى، ومغاني الأحبة، وغفلات العيش، ورفقة الحداثة، لا ينسخها في ذاكرتك ما يمر على عينك من ضخامة العمران وبسطة السلطان، وسورة المنصب، وزحمة المنافسة، وصور الوجوه، وتنوع العلائق

ألْهُ عنها بالحاضر إذا شئت، وأثبت نظرك في وجه الغد إن استطعت، فانك صائر ولابد إلى الذكرى بعد الأمل، ولائذ بأمن الماضي من خوف المستقبل؛ وحينئذ تجد هذه المراحل السعيدة واضحة في خيالك، مشرقة في نفسك، تجدد عمرك المفقودة، وتحدد زمانك المبهم، وتفيض على جفاف قلبك شعوراً هادئاً لذيذاً باستحضار ما غيبت من لذة، واستذكار ما نسيت من سعادة

كان حسب صديقي حسبي لحظة من الذكرى تعيد عازب الحلم وتكسر عادية الجدل، ولكننا كنا وكانت مصر يومئذ تكابد محنة من الطغيان العاسف أوهنت الأعصاب، وحللت الروابط، ومدت بين الناس أسباب العلل

أخي طه!

لقد تعانقنا عند اللقاء كان لم تكن جفوة، وتناقلنا الحديث في المجلس كأن لم تكن خصومة، وتمنت ربة الدار أن يكون بيننا عتاب فلم نجد مائلاً في النفس إلا أن كلينا صورة من شباب الآخر وقطعة من وجوده!

تلك كانت جناية العهد البغيض كما قلت: أفرطفيه الجور حتى نسينا العدالة، وتنكرت المعرفة حتى اتهمنا الصداقة، وران الشك على القلوب حتى حال بيننا وبين الحقيقة. فالحمد لله الذي أظهرك على الكيد، وأظفرك بالكائد، اعادك، وأعادك موفور الكرامة إلى موضعك عزيزتي الآنسة مي!

ص: 2

جزعت أول الناس لهذا الخلاف الواغل عن باعث من طبعك، وتبت في كف هذا الجدل القاسي بوحي من شعورك، وسعيت للصالح هذا السعي النبيل بدافع من نفسك، وكل ذلك وليس بيننا غير العلاقة التي يبرمها الأدب بين أهله على بُعد! فأنا أسجل لك في الرسالة هذا الحب الغرزي للخير، والاخلاص الطبيعي للعلم، والايمان الصادق بالأدب، والجهاد المتصل في تأليف القلوب بالمودة، وتثقيف العقول بالمعرفة، وتغذية النهضة الفكرية بالانتاج الخصيب، واسمحي لي أن أبشر أصدقاء الرسالة وقراءها بأن قبلت أن تدخلي في اسرتها، وأن تحملي نصيبك من دعوتها، وذل فضل آخر من يضاعف الشكر لك، وفوز جديد للرسالة يجدد الشكر لله

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌بنته الصغيرة

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

تتمة

. . . وجاء من الغد أبو يحيى مالُ بنُ دينار الى المسجد، فصلى بالناس، ثم تحول الى مجلس درسه وتعكفوا حوله؛ وكانوا الى بقية خَبَره في لهفةٍ كأن لها عُمراً طويلاً في قلوبهم، لا ظَمَأ ليلةٍ واحدة

وقال منهم قائل: أيها الشيخ، جُعِلْتُ فِداك، ما كان تأويلُ الحَسَنِ لتل الآية من كلام الله تعالى، وكيف رجَعَ الكلام في نفس مًرْجِعَ الفكر تتبعُه، وأصبح الفكر عندك عملاً تحذو عليه، واتصل هذا العملُ فكان ما أنت في وَرَعك ،. . . .؟

فقطع الامام عليه وقال: هَوِّنْ علي يا هذا؛ إن شيخك لأهوَنُ من أن تذهب في وصفه يميناً أو شِمالاً، وقد روي لنا الحَسَن يوماً ذلك الخبرَ الوارد فيمن يُعذِّب في النار ألف عم من أعوام القيامة، ثم يدركه عفوُ الله فيخرج منها، فبكى الحسن وقال:(يا ليتني كنت ذلك الرجل!) وهو الحسنُ يا بني، هو الحس

فضج الناس وصاح منهم صائحون: يا أبا يحيى، قتلتنا بأساً. وقال الأول. إذا كان هذا فأوشك أن يعمنا اليأس وقنوط، فلا ينفعنا عملٌ ول تأتي عملاً ينفع

قال الشيخ: هونوا عليكم، فان للمؤمن ظنَّين: ظناً بنفسه، وظناً بربه؛ فأما ظنه بالنفس فينبغي أن ينزلَ بها دون جَمحَاتها ولا يفتأ ينزل؛ فاذا رأى لنفسه أنها لم تعمل شيئاً وجب عليها أن تعمل، فلا يزال دائماً يدفعها، وكلما أكثرتْ من الخير قال لها: أكْثِرِي. كلما أقلتْ من الشر قال لها: أقلي. ولا يزال هذا دأبُهُ ما بقي؛ وأما الظن بالله فينبغي أن يعلوَ به فوق الفَتَرات والعِلل والآثام ولا يزال يعلو؛ فان الله عند ظن عبده به، إنْ خيراً فله وإنْ شرا فله. ولقد روينا هذا الخبر: (كان فيمن كان قبلكم رجلٌ تسعاً وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فاتاه، فقال: إنه تسعاً وتسعين نفساً، فهل من توبة؟ قال: لا! فقَتَله فكمل بن مائة! ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال له: إنه قتل مائة نفس، فهل له توبة؟ قال: نعم؛ ومَن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فان بها أُناساً يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله معهم ولا ترجعْ الى أرضك، فانها

ص: 4

أرضُ سَوْء

فانطلق، حتى إذا نصفَ الطريق أتاه ملكُ الموت، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب؛ فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مٌقبلاً بقلبه الى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قَ. فاتاهم ملكٌ في صورة آدمي فجعلوه حكماً بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرْضَين، فالى أيهما كان أدنى فهو له. فقاسوا فوجدوه أدنى الى الارض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة!

قال الشيخ: فهذا رُجل لما مشى بقلبه الى الله حُسبت له الخطوة الواحدة، بل الشبر الواحد؛ ولو أنه طوف الدنيا بقدميه ولم يكن له ذلك القلب، لكان كالعظم المحمولة في نعش؛ قبرها في المشرق هو قبرها في المغرب، وليس لها من الأرض ولا للأرض منها إلا معنى واحدٌ لا يتغير؛ هو أنه بجملته ميت، وأنها بجملتها حُفْرة

والانسان عند الناس بهيئة وجهه وحِلْيتِه التي تبدو عليهن ولكنه عند الله بهيئة قلبه وظنه الذي يظن به؛ وما هذا الجسم من القلب إلا كقشرة البيضة مما تحتها. فيا لها سخريةً أن تزعم القشرة لنفسها أن بها هي الاعتبار عند الناس لا بما فيها، إذ كان ما تحويه لا يكون إلا فيها هي؛ ومن تُبعدُ في حماقتها فتسأل: لماذا يرميني الناس ولا يأكلونني. . . . . .؟

إن هذه الأخلاق الفاضلةَ في هذا الانسان لا تجد تمام معناها إلا في حالة بعينها من أحوال القلب، وهي حالة خشوعه على وصفها الذي شرحته الآية الكريمة:(أَلَمْ يَأنِ للذين آمَنُوا أن تَخشَعَ قُلوبُهمْ لِذِكْرِ الله وما نَزَلَ مِنَ الحق.)

فالأخلاقُ الفاضلةُ محدودةٌ بالله والحق معاً، وهي كلها في خشوع القلب لهذين؛ فان من القلب مخارجَ الحياة النفسية كلها

قال الشيخ: وأنا منذ حفظتُ عن الحسن تأويلَ هذه لآية، واستَنَنْتٌ بها، مضيتُ أعيشُ من الدنيا في تاريخ قلبي لا في تاريخ الدنيا، وأدركتُ من يومئذٍ أنْ ليس حفظُ القرآن حِفْظَه في العقل، بل حفظُه في العمل به؛ فان أنت أثبت الآية منه وكنت تعمل بغير معناها، وتعيش في غير فضيلتها فهذا - ويحك - نسيانُها لا حفظُها. وقد كان قومُنا الأولون بمعانيه كالشجرة الخضراء النامية؛ فيها وَرَقُها الأخضر وزهرهُا وثمرها، وعلى ظاهرها حياةُ باطنها، فلما ثبتَ الناس على الشكل وحده، ولم يبالوا القلبَ وأحوالَه أصبحوا كالشجرة

ص: 5

اليابسة؛ عليها ورقُها الجاف ليس في بقائه ولا سقوطه طائل

ما أصبحتُ ولا أمسيت منذ حفظتُ تفسير الآية إلا في حياة منها، وهذه الآية هي دلَّتْني بمعانيها أن ليس الحياةُ الأرضيةُ شيئاً إلا ثورةَ الحي على ظُلْمِ نفسه، يَستكفُّ عنها أكثر مما يَسْتَجرُّ لها؛ والناسُ من شقائهم على العكس يستجرون أكثر ما يستكفون، وإنما السعيدُ مَن وجد كلمات روحانية إلهية يعيشُ قلبه فيهن، فذاك لا يعمل أعماله كما يأتي ويتفق، بل يحذو على أصل ثابت في نفسه، ويختار فيما يعمل أحسنَ ما يعمل؛ ومِن ثم لا يكون جهادُه مُرَاغمةً أو خضوعاً في سبيل الوجود كالحيوان، بل في سبيل صحة وجوده؛ ولا يكون غرضه أن يلابس الحياةَ كما تأخذه هي وتدعه، بل أن يحيا في شرف الحياة على ما يأخذها هو ويَدَعُها

إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الانسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارَفَتِه الشهوات وباحساسه غرورَ القلب؛ وبهذا يُبعد الأحزان ليجلبها على نفسه في صورٍ أخرى!

قال الشيخ: وكان مما حفته من تفسير الحسن قوله: إن كل كلمة في الآية تكاد تكون آية، وليست الكلمةُ في القرآن كما تكون في غيره، بل السمو فيها على الكلام، أنها تحمل معنىً وتومئ إلى معنىً وتستنبعُ معنى؛ وهذا ما ليس في الطاقة البشرية، وهو الدليل على أنه (كِتَابٌ أُحِكَمتُ آياتهُ ثم فُصِّلَتْ)

يقول الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبُهم لذكر الله وما نزل من الحق)

(ألم يأن) هذه الكلمة حثٌ، وإطماعٌ، وجدالٌ، وحُجة؛ وهي في الآية تُصرخ أن خشوع القلب الذي تلك صفته هو كمال الدين للايمان، وأن وقت هذا الخشوع هو كمالُ العمر وكيف يعرف المؤمنُ أنه (سيأنى) له أن يعيش ساعة او ما دونها؟

إذَنْ فالكلمةُ صارخةٌ تقول: الآنَ الآنَ قبل ألا يكون آن.

أيْ: البدَارَ البدَارَ ما دمتَ في نَفَسٍ من العمر؛ فان لحظة بعد (الآن) لا يضمنها الحي. وإذا فني وقتُ الانسان انتهى زمنُ عمله فبقى الأبد كله على ما هو؛ ومعنى هذا أن الأبد للمؤمن الذي يدرك الحقيقة، إنْ هو إلا اللحظةُ الراهنة من عمره التي هي (الآن). لأنظر - ريحك - وقد جُعِلَ الأبد في يدك؛ انظر كيف تصنع به؟

ص: 6

تلك هي حكمة اختيار اللفظة من معنى (الآن) دون غيره على كثرة المعاني

ثم قال: (للذين آمنوا) وهذا كالنص على أن غير هؤلاء لا تخشع قلوبهم لذكر الله ولا للحق، فلا تقومٌ بهم الفضيلة، ولا تستقيم بهم الشريعة، وعلِمُهم وجاهلُهم سوء؛ لا يخشعان إلا للمادة؛ وكأن إنسانهم إنسانُ ترابي، لا يزال يضطربُ على مَْر الليل والنهار بين طرفين من الحيوان: عَيشِه وموته؛ وما تقسو الحياةُ قسوتها على الناس الا بهم، وما ترقُّ رقتها إلا بالمؤمنين

وجَعل الخشوعَ لقلوب خاصةً، إذ كان خشوعُ القلب غير خشوع الجسم؛ فهذا الأخير لا يكون خشوعاُ، بل ذلاً، أو ضَعَةً، أو رياءً، أو نفاقاً، أو ما كان. أما خشوع القلب فلن يكون إلا خالصاً مُخلصاً مَحْضَ الإرادة

واشترطَ (القلبَ) كأنه يقول: إنما القلب أساسُ المؤمن، وإن المؤمن ينبع من قلبه لا من غيره، متى كان هذا القلب خاشعاً لله وللحق. فان لم يكن قلبه على تلك الحال، نَبَعَ منه الفاسقُ والظالم والطاغية وكل ذي شر. ما أشبه القلبَ تنفرعُ منه معاني الخُلُق، بالحبة تَنسَرِحُ منها الشجرة؛ فخُذْ نفسَك من قلبك كما شئت؛ حُلواً من لوٍ ومُراً من مُر

وخشوعُ القلب لله وللحق، معناه السمو فوق حب الذات وفوق الأثرة والمطامع الفاسدة؛ وهذا يضع للمؤمن قاعدةَ الحياة الصحيحة، ويجعلُها في قانونين لا قانونٍ واحد؛ ومتى خشع القلب لله وللحق عَظُمت فيه الصغائر من قوة إحساسه بها، فيراها كبيرةً كبيرةً وإن عَمِىَ الناسُ عنها، ويراها وهي بعيدةٌ منه بمثل عين العُقاب، يكون في لُوحِ الجو ولا يغيب عن عينه ما في الثرَى

وقد تخشع القلوبُ لبعض الأهواء خشوعاً هو شرٌ من الطغيان والقسوة؛ فتقييدُ خشوعِ القلب (بذكر الله) هو في نفسه نَفْيٌ لعبادة الهوى وعبادة الذاتِ الإنسانية في شهواتها.

وما الشهوةُ عند المخلوق الضعيف إلا إلهُ ساعتها. فيا ما أحكمَ وأعجبَ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرقُ السارقُ حين يسرق وهو مؤمن، ولا يَشربٌ الخمرَ حين يشربها وهو مؤمن). جَعَلَ نزعَ الايمان موقوتاً (بالحين) الذي تُقْتَفُ فيه المعصية؛ إذ لم يكن الله عند هذا الشقي هو إله ذلك (الحين)

والخشوعُ لِمَا (نزَلَ من الحق) هو في مناه نَفْيٌ آخرٌ للكبرياء الإنسانية الي تُفسِد على المرء

ص: 7

كل حقيقة، وتَخرج به من كل قانون؛ إذ تجعل الحقائق العامة محدودةً بالانسان وشهواته، لا بحدودها هي من الحقوق والفضائل

ويخرج من هذا وذلك تقريرُ الإرادة الإنسانية، وإلزامُها الخيرَ والحق دون غيرهما، وقهرُها للذات وشهواتِها، وجعلُها الكبرياءَ الإنسانية كبرياءَ على الدنايا والخسائس، لا على الحقوق والفضائل. إذا تقرر كل ذلك انتهى بطبيعته إلى إقرارا السكينة في النفس، ومحوِ الفوضى منها، وجَعْلِ نظامها في إحساس القلب وحده؛ فيحيا القلبُ في المؤمن حياةَ المعنى السامي، ويكون نبْضُه علامةَ الحياة في ذاتها، وخشوعُه لله وللحق علامة الحياة في كمالها

وقال: (ما نزَلَ من الحق) كأنه يقول: إن هذا الحق لا يكون بطبيعته ولا بطبيعة الإنسان أرضيا، فاذا هو ارتفع من الأرض، وقرره الناسً بعضُهم على بعض، لم يجاوز في ارتفاعه رأسَ الإنسان، وأفسدتْه العقول؛ إذ كان الإنسان ظالماً متمرداً بالطبيعة، لا تحكمه من أول تاريخه إلا اسماءُ ومعانيها وما كان شبيهاً بذلك ما يجيئه من أعلى؛ أيْ بالسلطان والقوة؛ فيكون حقاً (نازلاً) مُتدَفِّعاً كما يَتصَوبَّ الثُّقْلُ من عالٍ، ليس بينه وبين أن ينفذ شيء

والخشوعُ لما نزل من الحق ينفي خشوعاً آخر هو الذي أفسد ذاتَ البينِ من الناس، وهو الخشوع لما قام من المنفعة وانصرافُ القلب اليها بايمان الطمع لا الحق

وبجملة الآية على ذلك الوجه يتحقق العدلُ والنصفَةُ بين الناس؛ فيكون العدل في ل مؤمنٍ شعوراً قلبياً، جارياً في الطبيعة لا مُتكلفاً من العقل؛ وبهذا وحده يكون للانسان إرادةٌ ثابتة على الحق في كل طريق، لا إرادةٌ لكل طريق، وتستمر هذه الإرادة مُتسقةً في نظامها مع إرادة الله، لا نافرةً منها ولا متمردة علها؛ وهذا وذاك وذلك يُثبت القلبَ مهما اختلفت عليه أحوال الدنيا، فلا يكون من إيمانه إلا سُموه وقوتهُ وثباتهً، وينزل العمرُ عنده منزلةَ اللحظة الواحدة، وما أيسرَ الصبرَ على لحظة! ما أهونَ شر (الآن) إن كان الخيرُ فيما بعده

ألم يأنِ؛ ألمْ يأن؛ ألم يأن. . . .

قال الشيخ: وكان الحَسنُ في معانيه الفاضلةِ هو هذه الآية بعينها؛ فما كانت حياته إلا اسلامية كهذا الكلام الأبيض المشرق الذي سمعته منه؛ شعاره ابداً: (الآن قبل ألا يكون آن.) وغمامه: (خُذْ نفْسك من قلبك.)

وطريقتهُ (شَرفُ الحياة لا الحياةُ نفسها)

ص: 8

وكان يرى هذه الحياة كوقعة الطائر؛ هي عملُ جناحين مُسْتوفِزين أبداً لعملٍ آخر هو الأقوى والأشد، فلا ينزلان بطائرهما على شيٍ إلا مطويين على قدرة الارتفاع به، ولا يكونان أبداً إلا هَفَافين خفيفين على الطيران؛ إذ كانا في حكم الجو لا في حكم الأرض، وآلةُ الوقوع والطيران بالانسان شهواته ورغباته؛ فان حطته شهوةٌ لا ترفعه فقد او بقته وأهلكته وقذفت به ليؤخذ.

لقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد ام يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذراً مما به بأس) وهذا ضربٌ من خشوع القلب المؤمن فيما يحل له، يدع أشياء كثيرة لا بأس عليه فها او أتاها، لقوى على أن يدع ما فيه بأس، فان الذي يترك ماله يكون أقوى على ترك ما ليس له.

والنفسُ لابدّ راجعةٌ يوماً إلى الآخرة، وتاركة اداتها؛ فقوام نظامها في الحياة الصحيحة ان تكون كل يمٍ كأنها ذهبت إلى الآخرة وجاءت. وتلك هي الحكمة فيما فرضته الشريعةُ الاسلامية من عبادةٍ راتبة تكون جزءاً من عمل الحياة في يومها وليلتها. فاذا لم تكن النفس في حياتها كأنها دائماً يذهب إلى مصيرها وترجع منه، طمسها الجسم وحبسها في إحدى الجهتين، فلم يبق لها فيه إلا أثر ضئيل لا يتجاوز النصح، كاعتراض المقتول على قاتله، يحاول أن يرد السيف بكلمة. . .! وبذلك يتضاعف الجسم في قوته ويشتد في صولته، ويتصرف المرء دينه، وتقذف به يميناً وشمالاً، على قصدٍ وعلى غير قصد، وتمضي به كما شاءت في مدرجةٍ مدرجةٍ من الشر؛ ومثلُ هذا المسرفِ على نفيه لا يكون تمييزه في الدين ولا إحساسه بالخير إلا كذلك السكير الذي زعموا أنه أراد التوبة، وكانت له جرتان من الخمر، فلما اتعظ وبلغ في النظر إلى نفسه وحظ إيمانه وأراد ان يطيع الله ويتوب - نظر الى الجرتين ثم قال: أتوب عن الشرب من هذه حتى تفرغ هذه. . .!

قال الشيخ: ثم إني تُبتُ على يد الحسن، وأخلصت في التوبة وصححتها، وعلمت من فعله وقوله أن حقيقة الدين هي برياء النفس على شرها وظلمها وشهواته، وأن هذه الكبرياء القاتلة للإثم هي في النفس أختُ الشجاعة القاتلة للعدو الباغي، يفخر البطل الشجاع بمبلغه من هذه، ويفخر الرجل المؤمن بمبلغه من تلك، وأن خشوع القلب هو معناه حقيقة هذه الكبرياء بعينها.

ص: 9

وحدثتُ الحسنَ يوماً رؤياي وما شبه لي من عملي السيئ وعملي الصالح، فاستدْمَعَتْ عيناه:

وقال: إن البنتَ الطاهرةَ هي جهادُ أبيها وأمها في هذه الدنيا، كالجهاد في سبيل الله؛ وإنها فوزُ لهما في معركةٍ من الحياة، يكونان هما والصبر والايمان في ناحية منها قبيلاً، ويكون الشيطاُن والهمُّ والحزن في الجهة المُناوِحَةِ قبيلاً آخر

إن البنتَ هي أم ودار، وأبواها فيما يكابدان من إحسان تربيتها وتأديبها وحياطتها والصبر عليها واليقظة لها - كأنما يحملان الأحجارْ على ظهرَيهما حجراً حجراً، ليَبْتَنيا تلك الدار في يومٍ الى عشرين سنة أو أثر، ما صحبته وما بقيتْ في بيته.

فليس ينبغي أن ينظر الأبُ الى بنته إلا على أنها بنته، ثم أمٌ اولادها، ثم أمُ احفاده؛ فهي أكبرُ من نفسها، وحقها عليه أكبر من الحق، فيه حُمتها وحرمة الانسانية معاً؛ والأب في ذلك يُقرِض الله إحساناً وحناناً ورحمة، فحقٌ على الله أن يُوفيه من مثلها، وأن يُضعف له

والبت ترى نفسها في بيت أهلها - ضعيفةً كالمنقطعة وكالعالة، وليس لها إلا الله ورحمةُ أبويها؛ فان رحماها، واكرماها فوق الرحمة، وسراها فوق الكرامة، وقاما بحق تأديبها وتعليمها وتفقيهها في الدين، وحَفِظا نفسها طاهرة كريمةً مسرورةً مؤدَّبة - فقد وضعا بين يدي الله عملاً كاملاً من أعمالها الصالحة، كما وضعاه بين يدي الانسانية. فاذا صارا الى الله كان حقاً لهما أن يجدا في الآخرة يميناً وشمالاً يذهبان بينهما إلى عفو الله وكرمه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من كان له ابنةُ فأدبها فأحسن تأديبها، وغَذَاها فأحسن غَذاءَها، وأسبغَ عليها من النعمة التي أسبغ الله عليه - كانت له مَيْمَنَةً ومَيَسرةً من النار إلى اجنة.)

فهذه ثلاثُ لابد منها معاً، ولا تُجْزِيءُ واحدةٌ عن واحدة في ثواب البنت: تربيةُ عقلها تربية احسان، وتربيةُ جسمها تربية إحسان وإلطاف، وتربيةُ روحها تربية إكرام وإلطاف وإحسان

قال الشيخ: والله أرحمُ ان تضيعَ عنده الرحمة؛ والله أكرم أن يضيع الإحسان عنده، والله أكبر. . .

وهنا صاح المؤذن: الله أكبر

فتبسم الشيخ وقام إلى الصلاة.

ص: 10

طنطا

مصطفى صاداق الرافعي

ص: 11

‌صور من التاريخ الاسلامي

1 -

الفردوسي

للأستاذ عبد الحميد العبادي

احتفلت الأمة الإيرانية في أكتوبر الماضي بذرى مرور ألف سنة على ميلاد شاعرها الأكبر ابي القاسم الفردوسي، وقد دام احتفالها نحو شهر من الزمان كانت إيران كلها فيه متصلة الأعياد بادية البشر والسرور. ولم تكن الحفاوة بتل الذكرى مقصورة على الايرانيين وحدهم، فقد شاركهم فيها العالم المتحضر شرقه وغربه، فأوفدت ثماني عشرة دولةكبيرة إلى إيران من يمثلها في الاحتفال بذكرى الفردوسي، وزاد بعضها من قبيل المجاملة للإيرانيين والمبالغة في تقدير شاعرهم فاحتفى بتلك الذكرى احتفاء خاصاً في عواصمه. فعل ذلك الألمان في برلين، والانجليز في لندن، والفرنسيون في باريس، والايطاليون في رومية. وعما قريب تحذو مصر حذوهم فتهب ذكرى الفردوسي أسبوعاً من الزمن يتحدث فيه بالقاهرة نفر من فضلائها عن حياة الفردوسي وشعره، وعن أثر قومه في عالم الفن والأدب

وأريد بهذه المناسبة أن أعرض في هذا المقال وفي مقال آخر آت ببيان وجيز لسبب حفاوة الفرس وغير الفرس بذكرى الفردوسي. وسنرى أن البحث سيكشف لنا عن شخصية فذة عجيبة حقاً. شخصية استطاعت من جهة أن تستنفذ قومية ولغة كان يتنازعهما البقاء والعدم، ومن جهة أخرى ساهمت بنصيب موفود في ميراث العالم الأدبي الباقي على وجه الزمان

هو أبو القاسم الحسن بن علي الفردوسي، وكلمة (الفرودسي) لقبه الشعري، فقد جرت عادة الفرس من قديم أن يخلعوا على شعرائهم ألقاباً خاصة كالدقيقي، وملك الشعراء، ومحكم الشعراء وهكذا. ولد على رأى بعض الثقات حوالي عام 325هـ بقرية من قرى مدينة طوس بخراسان يقال لها (باز)، وورث عن أبيه ضياعاً كانت تغل عليه في صدر حياته كفايته من المال. وتعلم في حداثته ما كان يتعلمه أمثاله من ابناء الدهاقين في ذلك الزمان، فحذق الفهلوية والعربية، وشغف في صباه بقرض الشعر الفارسي والتوفر على مطالعة القصص الفارسي القديم. فأنشأ كل ذلك فيه اعتداداً بقومه واعتناقاً لمذهبهم الشيعي. وشدا

ص: 12

شيئاً من آراء المتكلمين من المعتزلة، فنشأ فارسي الهوى، شيعي المذهب، معتزلي الرآي

كان أمر خراسان في ذلك الوقت إلى الدولة السامانية، وهي دولة فارسية من الدول التي تقسمت سلطان الدولة العباسية بضعف السلطة المركزية في بغداد ابتداء من القرن الثالث الهجري. وقد جهد السامانيون في بعث الروح القومي الفارسي مستعينين على ذلك بما للتاريخ والأدب من القوة في إذكاء الروح القومي عامة. فنقل وزيرهم البلعمي برسم الأمير منصور الساماني تاريخ الطبري إلى الفارسية، وتقدم عاملهم على طوس أو منصور ابن عبد الرزاق إلى رجل يقال له أبو منصور المعمري في جمع أخبار الفرس القدماء في شكل تاريخ شعبي لفارس من أقدم عصورها إلى الفتح الأسلامي، فعهد بالأمر إلى أربعة من الفرس الزرداشتيين فجمعوا ذلك التاريخ من الكتب المحفوظة في قلاع فارس، وفي خزائن الموابذة والدهاقين. ثم كتبوا ذلك التاريخ بالفارسية الحديثة وسموه (الشاهنامة) أي (كتاب الملوك)، وكان ذلك حوالي عام 347هـ؛ وأراد السامانيون أن يسهل على الفرس تناول هذا التاريخ وتداوله فعهد الأمير نوح ابن منصور الساماني ينظمه شعراً إلى فتى فارسي شاعر يعرف بالدقيقي. فأخذ الدقيقي في ذلك فنظم منه ألف بيت ثم هلك غيلة حوالة عام 366هـ.

اطلع الفردوسي على الشاهنامة المنثورة وعلى ما نظم الدقيقي منها من نسخة أعاره إياها صديق له يقال له (محمد لشكري). وأشار عليه ذلك الصديق أن يتم ما شرع فيه الدقيقي، وصادف ذلك هوى في نفسه، فامتثل الاشارة وعكف على نظم الشاهنامة من حيث انتهى صاحبه، فقضى في ذلك ثلاثاً وعشرين سنة أتم فيها نسخة الشاهنامة الأولى (389هـ) ثم أهدى تلك النسخة إلى كبير من كبراء الفرس الظاهرين بأرض أسبهان يقال له أحمد الخالنجاني، فأجازه عليها بجائزة يسيرة

في تلك السنين الطوال كانت خراسان قد تبدلت بها الحال، لاضطراب أمر الدولة السامانية القومية المستنيرة، وعراها ما يعرو البلاد عادة عند التأذن بذهاب دولة وقيام أخرى. فأهملت المرافق العامة وخاصة مرافق الري، والبلاد يعدُ بلاد زراعية، فشح الماء، وجف الزرع، وأجدبت الحقول، ونالت ملاك الأراضي شدة تعذر علبهم معها أداء الخراج الموضوع على أراضيهم. وكان الفردوسي بطبيعة الحال من ضحايا تلك الشدة الاقتصادية،

ص: 13

وزاده ضنكا وسوء حال انصرافه إلى حية الأدب المحصن، واضطراره إلى أن يستكفي غيره النظر في شئون ارضه. ويظهر أثر تلك الحال واضحاً قي ترديده في شعره الشكوى من الفاقة وتنكر الزمان.

وقد اضطر آخر الأمر إلى مسألة أصدقائه، فأعانه منهم نفر كرام النفوس أوفياء القلوب، كافأهم عن صنيعهم بأن نوه بذكرهم في الشاهنامة. والحق أن الفردوسي، وقد فقد الانتفاع بأرضه أصبح يرى أن من حقه على الناس أن يكافئوه على جهوده الأدبية بمال يزوج منه ابنته الوحيدة، ويفق منه على نفسه في شيخوخته.

وطفق لذلك يبحث عن أمير نبيل او ملك جليل يهدي إليه الشاهنامة فيجيزه عنها بجائزة تحقق أمنيته، وسرعان ما وجد ذلك الملك الجليل في شخص السلطان محمود الغزنوي.

والسلطان محمود الغزنوي أوحد ملوك الاسلام لذلك العهد، واحد أبطال التاريخ الاسلامي على الإطلاق. قد شاد بعزمه وهمته ملكاً عريضاً وسع الهندستان، وخراسان وتركستان، وطبرستان، وفارس. وأصبحت قاعدته (غزته) بمساجدها ومدارسها وخزائن كتبها وعلمائها الأعلام من أمهات المدن الاسلامية. ويقال إنه يجتمع قط في مدينة أسيوية في وقت واحد من أعيان الأدب وأقطاب العلم والفلسفة مثل من اجتمع بغزته على عهد السلطان محمود. ذلك بأن السلطان كان شغوفاً بالعلم والأدب، حريصاً على اجتذاب العلماء من مختلف البلدان الاسلامية ليقيمهم بحضرته، فيزدان بهم بلاطه، وتكون له من قربهم شهرة أدبية تضاف إلى شهرته الحربية التي طبقت الآفاق. ومن العلماء الذين حفلت بهم غزته على عهد، البيروني والعتبي المؤرخان، والفارابي الفيلسوف، وأبو الفتح البستي الشاعر العربي، والمسجدي والعنصري والفرخي، وكلهم من سباق شعراء الفرس في الاسلام. وكان الرئيس أبو علي بن سينا قد قصد حضرة السلطان ثم بداله فعدل عنها إلى جهة أخرى.

وكان السلطان كلما فرغ من حرب وأقام بعاصمته متودعاً، جلس إلى أولئك العلماء يحدثهم أو يستمع إلى حديثهم، وهو في تصيده العلماء ومباهاته بهم يذكرنا بسيف الدولة الحمداني، والحكم المستنصر الأندلسي، وبفردريك الأكبر ملك بروسيا، ولويس الرابع عشر ملك فرنسا

ذلك هو الملك الجليل الذي رآه الفردوسي مهوى فؤاده ومحط آماله. فأخذ يعد العدة لانتجاع

ص: 14

حضرته والاعتراف من فبض جوده. فجعل يراجع الشاهنامة، مطامنا بين أجزائها، مكملاً ما نقص منها، مستدركاً ما فاته في نسختها الأولى ومحلياً فصولها بَمدَح سنية بطوق بها جيد ذلك الملك العظيم. وقد قضى في ذلك إحدى عشرة سنة، فقد فرغ من إعداد النسخة الثانية للشاهنامة عام 400 هـ وبلغت عدة أبياتها ستين ألفاً

توجه الفردوسي إلى غزنة ومعه راوية ونسخة الشاهنامة، فلقى وزير السلطان الرئيس الكبير أبا العباس الفضل بن أحمد، وكان معيناً بشر الفارسية، ولا ريب أنه أدرك أنها ثمرة مجهود عقل جبار، ولكنه مع ذلك لم يتقبلها بقبول حسن. والروايات القديمة مجمعة على أن الوشاية والكيد قد عملا عملهما في إفساد قلب السلطان على الوزير والشاعر معاً. ولكن الأمر أجل من ذلك وأعظم. فليس من شك في أن ذلك السلطان التركي المسلم، الذي أنفق من الجهد في إعلاء كلمة الأسلام في الهند ما أنفق، والذي كان نصيراً للسنة، وخصماً ألد للباطنية والمعتزلة، هذا السلطان لم يعجبه أن يشيد الفردوسي بمجد حازه الفرس أيام مجوسيتهم، كما لم يعجبه أن ينفخ في بوق العصبية الفارسية، وأن يدير كتابه على الحروب التي وقعت في القديم بين إيران وطوران، كما لم يعجبه تشيعه وجهره بآرائه الدالة على اعتزاله. كل ذلك قعد بالسلطان أن يجيز الشاعر بالجائزة التي كان يتوقعها، والتي كان يعلق عليها آمالاً كباراً. فيقال إنه بعث إليه بعشرين ألف درهم فقط مكافأة على مجهود خمس وثلاثين سنة

لكن الفردوسي لم يكن الرجل الذي يحتمل هذا التقصير في حقه. فقد جزى السلطان شر جزاء. فيقال إنه دخل حماماً فلما خرج منه شرب فقاعاً، ثم قسم عطية السلطان بين الحمامي والفقاعي. وبلغ ذلك السلطان فهاج غضبه، وهم بأن يبطش بالشاعر، فلاذ الفردوسي بالفرار من غزنة، وظل مختبأ بمدينة هراة ستة أشهر نظم فيها مائة بيت من الشعر هجا فيها السلطان هجاء لاذعاً موجعاً. فلما سكن عنه الطلب خرج إلى طرستان ونزل على صاحبها الأصبهبد بأن الأمر لم يعرض عليه كما ينبغي، واشترى منه هجو السلطان بأن الأمر لم يعرض عليه كما ينبغي، واشترى منه هجو السلطان بمائة ألف درهم، ثم محا ذلك الهجو من الشاهنامة محواً. بيد أن الفردوسي رأى أنه غير آمن على نفسه في طبرستان لأنها داخلة في حكم السلطان محمود، فخرج عنها إلى العراق العربي،

ص: 15

ونزل على أميره سلطان الدولة البويهي. ونظم له قصة (يوسف وزليخا) وهي من قصص القرآن الكريم.

والفردوسي يصرح في صدر هذه القصة بأنه نظمها تكفيراً عن إضاعته عمره في نظم الشاهنامة، التي حشوها أساطير الفرس الأولين، ولكن يظهر أن الفردوسي أراد بنظم تلك القصة أن يلائم بين نفسه وبين البيئة العربية التي أدى به تطوافه إليها

ومهما يكن من شيء، فلا شك أن الفردوسي رأى نفسه غريباً بالعراق، وأن سراج حياته يوشك أن ينطفئ، وأحب ان يوافيه أجله في مسقط رأسه، قريباً من ابنته ووسط أهله ومعشره، وهون الخطب عليه أن السلطان كان قد ذهب عنه غضبه عليه، وأن أمره كان قد نسى أو تنوسي ببلاط غزنه. فخرج من العراق شاخصاً نحو طوس، فبلغها شيخاً فانياً مهدود القوى قد جاوز الثمانين

وتذكره السلطان محمود في ذلك الوقت، وذلك أنه كان راجعاً من الهند الى عاصمة ملكه، فعرض له ثائر في قلعة حصينة، فأرسل السلطان الى الثائر رسولاُ أن (إيت غدا، وقدم الطاعة واخدم حضرتنا، والبس التشريف، وارجع) فلما كان الغد ركب السلطان والى جانبه وزيره أحمد بن الحسن الميمندي. فلما بصر السلطان بالرسول مقبلاً قال للوزير (ترى ماذا يجعل من الجواب؟) فتمثل الوزير ببيت من الشاهنامة معناه (إذا لم يكن الجواب كما أريد، فأنا والجرز والميدان وافراسياب) فقال السلطان (لمن هذا البيت الذي تنبعث الشجاعة منه؟) قال (للمسكين أبي القاسم الفردوسي الذي أحتمل العناء خمساً وعشرين سنة وما جني أية ثمرة) قال السلطان (أحسنت بما ذكرتني، إني ليحزنني أن يحرم عطائي هذا الرجل الحر، ذكرني في غزنة لأرسل اليه شيئاً) فلما قدم الوزير غزنة ذكر السلطان، فقال السلطان (مر لأبي القاسم بستين ألف دينار بعطايا نيلجا، ويجحمل على الإبل السلطانية، ويعتذر اليه)

غير أن القدر الساخر شاء ألا تنفذ مشيئة السلطان، فيقال إنه عندما وصلت الابل التي تحمل الهدية إلى طوس، كان الفردوسي قد أسلم الروح (411هـ)، وإنه بينما الابل داخلة من بعض أبواب المدينة، كانت جنازة الشاعر خارجة من باب آخر

وأراد رسل السلطان أن يدفعوا الهدايا الى ابنة الفردوسي، ولكنها اعتذرت من عدم قبولها.

ص: 16

عند ذلك أمر السلطان أن ينفق المال في بعض وجوه البر، فعموا به رباطاً للمجاهدين على حدود أقليم طوس. وكذلك نفي السلطان عن نفسه آخرة الأمر تهمة لتقصير في حق الشاعر الكبير. فان ادعى مدح أنه ظلمه في الأولى فقد أنصفه في الثانية، ودل بذلك على نفس كبيرة وحلم عظيم

تلك بالاختصار سيرة الحكيم أبي القاسم الفردوسي. وهي سيرة تفصح عما أوتيه ذلك الشاعر من قوة تتمثل في صدق عزيمته، وبهد همته، وعظم غايته، وثبات مقصده، كما أنها تفصح عن ضعفه الذي يبدو في حدة مزاجه، وكثرة شكواه من الفاقة وتبرمه بالناس والزمن، ثم في ندمه في ملع قصته الثانية على ما أنفق من جهده واضاع من عمره في نظم ملحمته الأولى. على أن ذلك كله ليس مناط تعظيم قومه لذكراه، إنما مناط ذلك هو الصنيع الجليل الذي أسداه الى القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة.

ولبيان ذلك ينبغي أن نرجع مع الزمن الى أوائل القرن الأول الهجري، فقد حمل العرب إذ ذاك على الدولة الفارسية، وما هي إلا سنوات معدودات، حتى كانوا قد قضوا على ملك آل ساسان، وصيروا فارس أقليماً من أقاليم الخلافة العربية، وانتشر الاسلام بعقب ذلك في فارس حتى كاد يقضي على الدين الزرادشتي، كما انتشرت العربية بين الفرس حتى أخملت الفهلوية وكادت تمحوها

قبل الفرس الاسلام عن طواعية نفس وطيب خاطر. أما القومية فقد جاهدوا من أجل الاحتفاظ بها جهاداً عظيماً. وقد تطور هذا الجهاد من مجرد مطالبة بالحقوق العامة قام بها الموالي زمن الدولة الأموية، الى مؤازرة للثائرين عليها من الخوارج والشيعة، الى ثورة عامة انجلت عن سقوط الدولة الأموية العربية، وقيام الدولة العباسية التي كانت فارسية في أكثر أوضاعها العامة، الى استقلال سياسي يسره ضعف السلطة المركزية ببغداد، الى سعي حثيث في أن يكون للفرس وجود قومي صحيح

الى هذا المجهود الضخم الموجه الى الاحتفاظ بالقومي، قام الفرس بمجهود آخر رائع من أجل إنهاض لغتهم وتعميم استعمالها في بلادهم

لقد طغت العربية على الفهلوية في العصر العربي الأول طغياناً كان من أثره أن انحصر استعمال هذه اللغة في حدود إقليمية ضيقة: في فارس وخراسان وطبرستان، ولم تسلم

ص: 17

الفهلوية في معاقلها هذه من التأثر بالعربية، فقد أصبحت تكتب بالحرف العربي ودخلتها ألفاظ وتعابير عربية أحالتها الى طور جديد من تاريخا عرفت فيه بالفارسية الحديثة. وبتنبه الشعور القومي عم استعمال اللغة المذكورة في تلك الأقاليم الثلاثة، حتى كادت العربية تنمحي من بعضها، كما يؤخذ من قول المتنبي:

مغاني الشعب طيبا في المغني

بمنزلة الربيع من الزمان

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان بترجمان

وقد عول ساسة الدول الثلاث: الطاهرية والقارية والسامانية، على ان يجعلوا الفارسية الحديثة لغة أدب وتدوين، فشجعوا الشعراء على النظم بالفارسية، وأمر السامانيون بتدوين تاريخ قومي للفرس، ونظمه بهذه اللغة كما تقدم القول

وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه الفرس في أمر قوميتهم ولغتهم فانهم في أواخر القرن الرابع بحاجة الى مدد أدبي ممتاز يبعث في القومية الفارسية روحاً قوياً، ويثب دعائم الفارسية الحديثة وينهضها على أساس ثابت، وقد أمد الفردوسي قومه بهذا المدد. فالشهنامة تعي بأبسط عبارة وأبلغ تصوير تاريخ الفرس القدماء ومفاخرهم وآدابهم وأساطيرهم. لذلك اضحت في حياة ناظمها - وهذا أمر منقطع النظير - ملحمة قومية، ولم يمض طويل زمن حتى غدت (قرآن القوم) على حد تعبير صاخب المثل السائر

لقد أدى الفردوسي (رسالته الخاصة) أحسن الأداء، وأصبح فضله على قومه ولغته باقياً من بقي قومه ولغته وقد عرف له قومه هذا الفضل فذكروه في هذه الأيام فأحسنوا ذكراه، وشادوا فوق رفاقه بناء عالياً، وهذا جهد مثوبة الحي للميت. وان الانسان ليذكر في هذا المقام دانتي الإيطالي، وكورياس اليوناني، فكلاهما أذكى الروح القومي في بلهد، وجدد بمجهوده الخاص دارس لغته، هذا بنثره، وذاك بشعره.

البقية في العدد القادم

عبد الحميد العبادي

ص: 18

‌في الأدب المصري

مجالس الأدب في القرن الثامن عشر

بدار رضوان بك

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

مما اعتاد الناس سماعه أن يقول قائل: لا حيا الله أيام القرن الثامن عشر في مصر! وقد لا يتورع القائل أن يرمي ذلك العهد بأقبح التهم وأشنع الآراء: فيصفه تارة بالظلم، وتارة بالظلمة؛ وما اكثر ما تسمع الآذان ذكراه مصحوبة بتسمية لاذعة، فلا يقال إلا أنه كان عهد المماليك، أو عهد ظلم العثمانيين. وليس في ذلك عجب، فالناس كانوا قديماُ لا يرون الماضي على حقيقته، فهم إما أن يروه عصراً أعظم من عصرهم لا يستطيع حاضرهم أن يجاريه في شئ، وإما أن يروه عهداً دون عهدهم لا يرضون أن تقاس حال أيامهم به. والأيام كالناس تختلف في الخطوط وتتباين، فكما أن بعض الناس يكتسب من الحمد فوق ما يستحق، وينسب اليه من كريم الخلال ما ليس من طبعه، فذلك الأيام، قد ينعت الناس بعض عصورها بما ليس من طبعه، وينسبون اليه من الفضائل أكثر مما يجدر به، وكما أن بعض الناس قد يسلب جزاه، وتجحد حسنته، وينكر فضله، فكذلك قد يظلم التاريخ عهداً من العهود، فلا يقر له بفضل، ولا يحجم في وصفه عن تهمة، ولا يتعرض له بالأذى: ولقد كان عصر أمراء المصرين من هذه العصور المظلومة التي جحد التاريخ فضلها، وأذاع مثالبها، واخفى مناقبها، وصورها صورة مشوهة بغيضة. ولسنا بسبيل بيان الأسباب التي حملت التاريخ على ذلك الظلم، ولكنا نكتفي بأن نقول إن الأحياء قد يكون لهم نفع من اتهام الاموات، وقد يعود بعض الخير من الافتراء على الجدود. ولا حاجة بنا إلى التطويل في دفع هذا الاتهام ولا في دفع هذا الافتراء، فما في هذه الإطالة تحقيق للقصد. وحسبنا أن نصف مجلساً أدبياً في بعض هذه الأيام الماضية، وللقارئ أن يحكم من هذا الوصف إذا كانت تلك الأيام الغابرة جديرة بما يصفها به المتهمون المفترون:

كانت أمور مصر في منتصف القرن الثامن عشر قد خلصت إلى اثنين من الزعماء: أحدهما الأمير ابراهيم، والآخر الأمير رضوان. وقد أصبحا صاحبي الأمر في البلاد لا

ص: 19

ينازعهما إلا المنافسون في دخائل صدورهم؛ وأما ظاهر الأمر فلم يكن لهما فيه شريك. حتى أن الباشا العثماني الذي كان يمثل السلطان لم يكن له إلى جانبهما أمر ولا نهي.

ولقد كان لكل من هذين الأميرين متجه يتجه اليه في رياسته، فكان ابراهيم صاحب السلطان، قائد الجيوش، ومدبر السياسة؛ على حين كان رضوان مؤلف القلوب، وقبلة القصاد؛ وان الأميران على اختلاف اتجاهيهما متفقين متآلفين، فقضيا في رياستهما سبع سنين ونيفاً

وكان بيت رضوان يتألق بالأنوار الساطعة، ويخلع عليه الفن المصري رواءه وبهاءه، وتجتمع في أبهائه هامات العنصر من الأدباء والعلماء، وقد كان بمصر حينئذ في الحق أداء وعلماء، على رغم من يتهم هذا العصر بالظلمة والانحطاط.

هناك على ضفة الخليج المصري اشترى رضوان داراً من أحد أكابر التجار، كانت واقعة على بركة الأزبكية، وموضعها اليوم ما يلي حديقة الأزبكية وميدان الأوبرا. وكانت تلك البركة إذ ذاك متنزهاً من منتزهات القاهرة المحبوبة، تحيط بها بيوت أعيان التجارة والأمراء. وكان للمير رضوان فوق ذلك في الناحية الشمالية الغرية من هذه البركة منظرة بديعة تطل من الغرب على الخليج الناصري، ومن الجنوب على بركة الأزبكية، ومن الشمال على بركة أخرى استحدثها الأمير بتوسيع مجرى الماء في الخليج القاهري مما يلي قنطرة الدكة. وقد نسق الأمير قصريه أبدع تنسيق، وجعل لهما حدائق فسيحة نقل البها بديع الزهر والشجر، وأقام في أركانها الجواسق الجميلة. وجعل في جوانب الحدائق مما يلي البركة قناطر لتجري المياه من تحتها، واتخذ فوق تلك القناطر مجالس للنزهة والاسترواح. وأما داخل القصور فكانت القباب العالية المحلاة بذوب المسجد، واللازورد، والزجاج الملون، وقد نقشت اعاليها وأسافلها بأروع النقوش وأدقها. وكانت الأنوار تسطع في هذه القباب في أثناء الليل فتكاد تخطف الأبصار من بهائها ودوائها

وفي هذه الأبهاء التي تأخذ بمجامع القلوب كان يجتمع أدباء العصر وأعيان العلماء يتسامرون في حضرة الأمير المحبوب، ويتجاذبون أطراف الملح والنوادر في حشمة ووقار لا يخرج عنهما أحد. وكان من هؤلاء اديب العصر الاعظم قاسم بن عطاء الله المصري، وصديقه مصطفى أسعد الدمياطي، وإلى جانبهما مجمع باهر من شيوخ وشبان، بعضهم

ص: 20

للجد والوقار كالشيخين الشبراوي والحفني، وبعضهم للفكاهة كالشيخ عامر الانبوطي الهجاء

واجتمع مجلس الأدباء يوماً في القصر، وإذا بالأمير يسأل عن أحدهم فلا يجده. قال:(اين ابن الصلاحي؟) ولم يكد ينتهي من سؤاله حتى رد في جانب البهو صوت جهوري ينشد:

شاق طرف السرور وظرف الربيع

فتملى بحسن تلك الربوع

ما ترى الزهر ضاحكاً لبكاءِ ال

طل من در قطره بالدموع

وغصون الرياض تخلع أثوا

ب التداني على الندى الخليع

فأنسنا بجمع إخوان صدق

زان طبع الوفاء قدر الجميع

يا صلاحي أرح فؤادك والبس

من بشير اللقا قميص الرجوع

فالتفت الجلوس كلهم نحو القادم فاذا هو الذي كان يسأل الأمير عنه؛ وصاح الشيخ عامر قائلاً: (لقد ذكرنا القط. . . .) فضحك الجمع ولم يمتنع عن الضحك الأمير، وجاس الأدباء بعضهم إلى بعض في أنحاء البهو الأعظم من قصر رضوان، وجلس الأمير على سرير عال من آيات الفن المصري، جوانبه من الخشب المخروط، تكتنفه وتتخلله رسوم من العاج والآبنوس والصدف، وقد كُسيت جوانب السرير بالحر الملون البديع، تتغير ألوانه في ضوء المصابيح المتألقة كما تتغير الألوان إذا وقع الضوء على رقاب الحمام القرمزي الداكن.

وأتجه الأمير إلى الأديب الأكبر ابن عطاء وأقبل عليه باسماً وقال له: (ماذا جئت به اليوم يا ابا عطاء؟ لقد رأيتك بالأمس تسير بين أشجار البستان، فقلت في نفسي لابد أن متحفنا اليوم بشيء جديد).

فأبتسم الأديب وقال: (الحق ما تقول أيها الأمير، دامت نعمتك، وأقر الله أعيننا ببقائك وعلو دولتك)

فقال له الأمير: (إذن فهات، وقد أحضرت لك الشيخ عامر الأنبوطي عمداً)

فصاح الأديب ابن عطاء وهو باسم وقال: (أعوذ بجاهك منه أيها الأمير!)

فصاح عند ذلك الشيخ متدخلا في الحديث (وماذا تخشى يا ابن عطاء؟ أليس لكل منه فنه؟)

فنظر إليه بن عطاء وهو باسط يديه بسطة الرجاء وقال: (لقد عذت بكنف الأمير من لسانك، فدون سوى إذا شئت)

ص: 21

فقال الأمير ضاحكاً: (إذن أنا مجبرة منك يا شيخ عامر) وضحك الشيخ عامر وقال: (إذا شئت أيها الأمير، فلقد والله قضيت الليلة الماضية أشحذ لساني وذهني لنزاله. وقد والله فوت على فريستي)

فضح الندى وأنصت بعد لأي لمدحة الأديب ابن عطاء: فأنشأ يقول:

بكت بدمع الطل عين النرجس

فأضحكت ثغر الأقاح الألعس

واستمر في مزدوجته يصف البستان حيناً والماء حيناً.

فيقول منها:

حديقة بها السرولا محدق

جدولها مسلسل منطلق

في جوه نجم الزهور مشرق

والبان ظله غدا يسترق

من وجنة الماء احمرار الورد

ثم تخلص إلى ذكر الحب على سنة الأقدمين من الشعراء، وتخلص من ذلك إلى مدح رضوان فقال:

دع علة التعليل بالأماني

واقصد حمى الموصوف بالأمان

وانف لباس البؤس والأحزان

واسأل عن النعيم من رضوان

سَلْ ما تريد، لا تخف من رد

ملينا جلت لنا أوصافه

لم بيد في غير العطا إسرافه

ضياؤه قرت به أضيافه

تفعل في جيش العدى أسيافه

ما يفعل الصرصر يوم الحصد

إلى أن أكمل مدحته بين اهتزاز الأمير واعجاب السامعين، لولا ابتسامة عابثة من الشيخ عامر وهو ينظر إلى الأمير.

فقال له الأمير: (وما تستطيع أن تقول في هذا يا شيخ الهجائين؟)

فقال الشيخ: (لا أقوال في هذا شيئاً مادام فيه ذكرك ومديحك أيها الأمير: ولكنه لو لم يستعذ بك وجدني قائلاً)

فتحرك الأديب ابن عطاء حركة غضب وأنفة وقال:

(أيسمح لي الأمير أن أرد عليه جواره إلى حين، لا حرمني الله جوارك، فان هذا الشيخ قد

ص: 22

ظن أنني اتوارى منه ضعفاً)؛ فتبسم الأمير وقال: (نازله بقصيدة اخرى جديدة إذا شئت)

فصاح الشيخ عامر وظنها فرصة في ابن عطاء فقال: (أصبت القصد لازلت موفقاً أيها الأمير)

فاهتز ابن عطاء وقال: (نعم إذا شئت أيها الأمير، إن عفوي خير من إعدادي، وإذا شئت قلت)

فأذن له الأمير وتطلع الحاضرون إلى الأديب يظنون أنه سيسف ويتعرض لطعنات منازلة الهجاء. فقال ابن عطاء:

ترك الهجر ووافى كرم

بعد ما كان لعهدي قد نسى

أهيف القد كغصن عَلبِما

من نسيم الروض فن الميس

فاهتز الأمير وقال: (هيه يا ابن عطاء!)

فسرت في الشاعر هزة جديدة واستمر يقول:

مفرد في الحسن ثني معجباً

ألف القد بشكل حَسَن

غصن بان هزه ريح الصبا

خده يزهو على الورد الجني

ساحر الجفن أرانا عجباً

أسره للأسد حال الوسن

وما زال بالسمط وراء السمط، والعقد من بعد العقد، حتى تخلص إلى مدح الأمير على عادته إلى أن ختم موشحه قائلاً:

كفه الغيث على الناس همي

فأعاد الخصب بعد اليَبَس

أصبح الدهر به مبتسماً

وهو فيه محل اللعَس

فنزل اليه الأمير من سريره وعانقه وقال له: (بمثلك تزدان مجالس الملوك يا ابن عطاء، والله لو لم أجد من المال إلا قوت يومي لما وجدت له محلاً أحب من إهدائه اليك)

ثم التفت الى الشيخ عامر وقال:

(لقد أنطقه الولاء أيها الشيخ فماذا تستطيع أن تقول؟

فقام اليه الشيخ وقبل رأسه وقال:

(يا أمير الشعر قددِنا اليك)

فصاح الشيخ مصطفى اللقيمي الدمياطي من جانب المجلس وقال:

ص: 23

(أما الأمارة فلا نراها في الشعر. إن هي إلا في تلك السياسة، وهذه الدولة والرياسة. فدع عنك التعرض لهذا، فما أظنك مصيباً من الجائزة شيئاً)

فضحك الحاضرون شماتة في الهجاء الذي لم يترك من أهل الشعر ولا من اهل العلم أحداً إلا وتره وحرك حقده

وكان الشيخ الهجاء قد انكسر عند ذلك، غير انه لم يرض أن يترك من الوخز فقال ناظراً الى الشاعر الآخر:

(وما لك أنت؟ لأني بك قد تحركت غيرتك. غير أن لست بمستطيع اليوم أن تقول شيئاً. فقد ملك اليوم ابن عطاء) فقال الأمير مدفعاً عن الدمياطي:

(ومالك أنت به يا شيخ عامر؟ أنسيت مدحته العظمى؟ أنسيت مدامته الارجوانية في المقامة الرضوانية؟ لقد ينقطع عمر الكثيرين دون مثلها)

فقال الشيخ عامر ولم يثنه دفاع الأمير:

(إن هي إلا بيضة الديك) وأشار الى الشاعر، ثم صاح وجه الشاعر الدمياطي، وقال غاضباً:

(لو شئت الهجاء لهجوتك، ولكنك أقل من أن أهجوك، فاسمع إذن مدحتي في زين الملوك وأقر بعجزك وصغارك)

ثم اندفع يقول:

بشرى الربيع لقد وافت بشائره

وفاح دونك في الآفاق عاطره

ومالت القضب بالأطيار مطربة

وقد تبسم من عجب أزاهره

فسر مقدمه الحالي أخا شجن

يهجه من معاني الدوح ناضره

ثم أوغل في وصف الربيع وزهره ونسيمه وعطره، فأبدع وأطرب إلى أن تخلص من وصفه الممتع إلى مدح الأمير فقال:

والزهر من فرح أهدى النثاريها

لما سما الورد واستعملت مظاهره

حكى بمنظره الحالي ومخبره

صفات رضواننا السامي زواهره

أمير مجد لنا تتلى مدائحه

مدة الزمان كما تروى مآثره

تخاله الليث والمريخ في يده

إذا بدا جائلاً والسيف شاهره

ص: 24

روض نضير ولكن مثمر أبداً

غيث ولكن ندى عمت مواطره

وما زال ينتقل في ذلك المدح من معنى إلى معنى إلى أن قال:

خذ من زمانك ما أغناك مغتنما

وأنت ناه لهذا الدهر آمره

ودم بروض العلا والعز منبسطاً

بمطربات الهنا يشدوك طائره

فصفق الأمير طرباً عندما بلغ الشعر ذلك، وصاح بالشيخ عامر يقول:

(عزمت علي يا شيخ إلا ما قمت إليه وقبلت رأسه كمل فعلت بالأديب ابن عطاء، فما هو بدونه مرتبة في الشعر ولا في الولاء. ولكم جميعاً مني أسنى جائزة)

فقام الشيخ إلى الشاعر وقبل رأسه وهو يقول:

(وما لكم لا تشكرون لي وخزاتي. أيها الأمير أكنا نظفر منهما بهاتين الدرتين بغير وخزات لساني؟)

فضحك الأمير والحاضرون منه وقال رضوان:

(أتذر البيت القديم يا شيخ عامر؟ لقد قلته لي منذ أيام فلولا أن النار تحرق ما حولها ما شم أحد رائحة ال. .)

فقال الشيخ منشداً البيت:

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طَيبَ عرف العود

فقال الأمير (هو هذا. هو هذا. لقد حفظت معناه ولكني لا أقوى على حفظ لفظه.)، ثم نظر إلى مملوك واقف إلى يمينه، وقد وضع يديه على صدره تأدباً وقال له:

(يا محمود، اذهب إلى خازنداري، وبلغه أمري باحضار ما اعتدت بذله في مثل هذا اليوم)

ولم يخرج أحد من الحاضرين في ذلك المجلس بغير ما يرضيه، غير ان الشيخ الحفني أبى أن يأخذ شيئاً من الأمير، بل قبل الأمير يده وسأله الدعاء، وخرج الشيخ الوقور وهو يدعو للأمير بالتوفيق والهداية)

وكان الشاعر ابن الصلاحي في كل ذلك متواضعاً ساكناً لم يثر لغيره، ولم يتقدم لمنافسة، بل كان يرب كما يطرب الحضور ويعجب كما يعجبون، ولما أوشك عقد الجمع أن ينفرط رفع عقيرته فأنشد مرتجلاً:

يا مساء السرور كيف اختلسنا

فيك أنسا كأنما هو شك

ص: 25

قد أنسنا في فتحه بالتداني

ودهانا ختامه وهو مسك

ثم سار وهو يقول مرتجلاً:

إلى القبة الفيحاء سرنا فسرنا

ربيع المنى في ثغر طلعتها الغرا

أنسنا بها من كل بدر ولا نرى

عجيباً طلوع البدر في القبة الخضرا

فنظر إليه الأمير رضوان مبتسماً وقال: (هيه يا ابن الصلاحي لقد فوت علينا الليلة إنشاد منك) فقال الشاعر باسماً وهو ناظر إلى الأرض (دمت للملك يا مليك الزمان فالعود أحمد)، ثم حيا الأمير وسار في أثر صحبه خارجاً

محمد فريد أبو حديد

ص: 26

‌الغزو الاقتصادي الياباني لاسواق العالم واثره في

‌الاقتصاد المصري

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمه

استطاع الغزو الاقتصادي الياباني أن يحدث أثره في معظم الأسواق القديمة بسرعة مدهشة. وقد قال مسيو هيرونا وزير الخارجية اليابانية في إحدى تصريحاته الأخيرة إن هذه النهضة الصناعية والتجارية التي تضطلع بها اليابان إنما هي ثمرة العمل والمثابرة، ولا تعتمد على وسائل غير شريفة، وليس وراءها أية نزعة عدائية. وقد بينا في مقالنا السابق ظرفاً من الظروف والأحوال الاقتصادية المشجعة التي تعمل فيها الصناعة اليابانية، ولكن اليابان لا تستطيع بمثل هذه التأكيدات أن تهدئ ما يبثه غزوها الاقتصادي في معظم الدول الصناعية والتجارية من عوامل الخوف على مستقبلها الاقتصادي. ويجب أن نذكر أن النفوذ الاقتصادي إحدى الوسائل القوية التي يعتمد عليها الاستعمار الغربي في توطيد نفوذه وسلطانه في أفريقية وآسيا، وأنه يكون غالياً طليعة الفتح السياسي وذريعته، فاذا اضطربت دعائم هذا النفوذ الاقتصادي، اضطربت دعائم السيادة الاستعمارية التي تقوم عليه؛ والتحرير الاقتصادي دعامة قويه للعمل في سبيل التحرير السياسي. فالدول الاستعمارية التي يزعجها الغزو الياباني لا تقف في مقاومته عند تقدير الاحتمالات الاقتصادية وحدها، ولكنها تنظر الى آثار من وجهة أشد خطراً وأبعد مدى وهي وجهة مستقبلها الاستعماري

ولا ريب أن بريطانيا العظمى في مقدمة هذه الدول، بل هي أولها واسبقها الى التأثر بهذه المنافسة الخطرة التي تهدد نفوذها الاقتصادي والاستعماري في معظم أرجاء امبراطوريتها الشاسعة، وتخلق لها مشكلة امبراطورية في منتهى الخطورة. ذلك أن بريطانية العظمى تسمد كثيراً من أسباب غناها وقوته وعظمتها من نفوذها الاقتصادي وتفوقها الصناعي والتجاري؛ وهذا النفوذ الاقتصادي اقوى دعامة في صرح سلطانها الاستعماري؛ فاذا تقوضت دعائم هذا النفوذ اضطرب بناء الامبراطورية كله. وبريطانيا تشعر اليوم بأن تقدم

ص: 27

الغزو الاقتصادي الياباني بهذه القوة المدهشة يعرضها لمثل هذا المأزق الدقيق؛ وتشعر باقي الدول الاستعمارية مثل فرنسا وهولنده وإيطاليا، بأنها تواجه نفس الخطر؛ وترى الولايات المتحدة أسواقها القديمة في أمريكا الجنوبية تفلت من يدها لتذهب الى قبضة منافستها الأسيوية؛ وتعمل الدول الغربية جميعاً لرد هذا الغزو كل بواسائها الخاصة، وقد نراها غير بعيد تحاول رده بوسائل مشتركة إذا عجزت من مقاومته منفردة كما حاولت أيام غزو اليابان لمنشوريا وتقدم الاستعمار الياباني في الصين

وقد يكون الغزو الاقتصادي الياباني من هذه الناحية أعنى من ناحية العمل على تقويض نفوذ الدول الغربية الاقتصادي في أفريقيا وآسي وإضعاف سلطانها الاستعماري بذلك، خليقاً بعطف الأمم الشرقية وتأييدها، خصوصاً وأنه لا يبيت وراءه مطامع استعمارية، - واليابان تقف بأطماعها الاستعمارية عند الصين وسيادة الباسفيك -، وهو خليق بعطف الأمم المغلوبة بقدر ما يحدث للأمم الغربية الغالبة من صعاب ومتعب تفت في بنائها الاقتصادي وسيادتها الاستعمارية؛ ولكن العطف على جهود اليابان من هذه الناحية العامة، يجب ألا يحول بيننا وبين تقدير العوامل والآثار الاقتصادية الضارة التي تترتب عليها من الوجهة المحلية؛ وما يعنينا قبل كل شيء هو بحث هذه الآثار في اقتصادنا المصري، فقد أخذت طلائع الغزو الياباني تحدث أثرها في السوق المصرية بسرعة، وتثير من العوامل والاحتمالات ما قد يعرض مستقبلنا الاقتصادي الى أخطر النتائج إذا لم تتخذ الوسائل اللازمة لتوطيده وحمايته

ذلك ان محصول مصر الرئيسي ونعنى القطن يرتبط أشد الارتباط في انتاجه وفي تصريفه بصناعة القطن البريطانية؛ هذا ومن جهة أخرى فان في مصر الآن صناعات قطنية هامة يجب حمايتها وتشجيعها على التوسع والنمو؛ والصناعة القطنية اليابانية تتقدم بسرعة ويحدث هذا التقدم أثر السيئ في الصناعات القطنية البريطانية التي تستهلك أعظم كمية من القطن المصري؛ ومن الغريب أن اليابان مع كونها لا تنتج سوى قليل من القطن الرديء، استطاعت أن تتقدم في الصناعة القطنية حتى أصبحت في انتاجها ثالثة دول العالم بعد الولايات المتحدة وانكلترا؛ ويبلغ ما تصدره اليابان من البضائع القطنية نحو 20 % من مجموع صادراتها، واليابان تستورد كميات عظيمة من القطن الرديء من الهند والولايات

ص: 28

المتحدة ولا تستورد سوى كمية ضئيلة من القطن المصري. وقد بلغت قيمة ما استوردته في سنة 1930 من القطن فقط 362 مليون ين (نحو 24 مليون جنيه)

ولكي يستطيع القارئ أن يقدر مدى تقدم التجارة اليابانية في مصر نضع أمامه الأرقام الآتية عن قيمها في الأعوام الأربعة الأخيرة:

سنة 1930193119321933

ج. م 1. 732 ، 077 1 ، 535 ، 282 2. 152 ، 140 2. 873. 131

ففي أقل من عامين زادت الصادرات اليابانية إلى مصر نحو 40 %، وأصبحت التجارة اليابانية في مصر سنة 1933 تعدل نحو 12 % من مجموع تجارة مصر الخارجية (وقد بلغ في هذا العام 26 ، 766 ، 991)

وتمثل البضائع القطنية والحريرية أكبر نسبة في الصادرات اليابانية إلى مصر؛ وقد نمت نسبة الصادرات القطنية بسرعة مدهشة في الأعوام الثلاثة الأخيرة كما يتضح من البيان الآتي:

مقدار ما ورد إلى مصر من البضائع القطنية والحريرية اليابانية مقدراً بالجنيه

سنة

1931

1932

1933

بضائع قطنية مختلفة

761 ، 234 ج. م

1.

104. 673

1.

834. 877

بضائع حريرية مختلفة

. . . . . . . . . . .

626.

874

501.

920

ص: 29

ومن ذلك يتضح أن الصادرات القطنية اليابانية إلى مصر بلغت نحو ثلاثة أمثالها في ظرف عامين؛ ومن المحقق أن هذه النسبة قد ارتفعت في العام الحالي (الذي لم ينته بعد) وسوف ترتفع باطراد إذا استمرت الامور على حالها.

وقد كانت منتوجات لانكشير (انكلترا) القطنية حتى أعوام قلائل تحتل المكان الاول في مصر، كما ان لانكشير اكبر عميل لمصر في شراء قطنها؛ ولكن المنافسة اليابانية كانت شديدة الوطأة على الصناعة القطنية البريطانية في مصر والهند وفي معظم الاسواق الامبراطورية؛ وقد اصابت هذه المنافسة تجارة لانكشير في الهند بخسائر فادحة؛ ورفعت حكومة الهند الرسوم الجمركية على البضائع القطنية اليابانية مراراً حتى بلغت 75 %، ومع ذلك فان ذلك لم يحقق للتجارة البريطانية ما كانت تتمتع به في الهند من التفوق؛ واضطرت بريطانيا أن تجري في ذلك السبيل مع اليابان مفاوضات خاصة وان تعقد معها اتفاقاً تجارياً خاصاً تحصل به على بعض المزايا خاصاً تحصل به على بعض المزايا نظير تحديد المنسوجات القطنية اليابانية الصادرة الى الهند باربعمائة مليون ياردة تحصل عنها رسوم جمركية قدرها 50 % من قيمتها. أما في مصر فما زالت تجارة لانكشير في انحطاط مستمر، وقد هبطت تباعاً في الأعوام الثلاثة الاخيرة بسرعة يوضحها البيان الآتي:

مقدار ما تستورده مصر من المنسوجات والبضائع القطنية من انكلترا

سنة

1931

1932

1933

ج. م

1.

742. 000

1.

56. 466

1.

232. 811

ويتضح من ذلك ان ما استوردته مصر سنة 1933 من البضائع اليابانية يزيد عما

ص: 30

استوردته منها من انكلترا بنحو ستمائة ألف جنيه؛ وأن اليابان أصبحت تحتل المكان الأول في الصادرات القطنية إلى مصر بعد أن كانت انكلترا تحتله باستمرار

ومن ذلك نفهم مدى جزع لانكشير من تدهور مركزها في السوق المصري؛ وهو جزع يبدو فيم تعلق به الصحف الانكليزية على هذا الموقف، وفيما ينذر به أقطاب الصناعة البريطانية من وقوع رد الفعل على مص ذاتها حيث تضطر المصانع البريطانية أن تقلل من شراء القطن المصري إذا استمرت الحال على ذلك. وهذه هي أخطر نقطة في الموضوع بالنسبة لمصر. ذلك أن ما تستورده مصر من مصنوعات انكلترا القطنية لا يتناسب مع ما تشتريه انكلترا من القطن المصري؛ وإليك مقدار ما اشترته انكلترا من قطننا في الأعوام الاخيرة:

193119321933

ما قيمته6. 469. 204 5. 527. 393 8. 767. 280ج. م

ويقابل ذلك ما تشتريه اليابان وهو:

ما قيمته1. 213. 162 1. 078. 681 1. 168. 528 ج. م

فانكلترا تشتري من قطننا في العام نحو 40 % منه بينما لا تشتري اليابان اكثر من 6 او 7 %، ومع ذل فان اليابان تصدر إلى مصر من البضائع القطنية أكثر مما تصدره انكلترا

والنتيجة المحتومة لذلك، إذا استمر هذا الوضع الشاذ، هي ان لانكشير ستضطر غلى أن تقلل شيئاً فشيئاً من استهلاكها للقطن المصري مادامت لا تجد اسواقاً لتصريف منتوجاته؛ وعندئذ يقع الضرر المحقق على المنتج المصري

هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان في مصر صناعة قطنية ناشئة تضطلع بها شركة مصر، وتوظف فيها ملايين عديدة من الاموال المصرية؛ وقد قطعت شركة مصر لغزل القطن ونسجه خطوات كبيرة في أعوامها القلائل واصبحت اعظم منشأة صناعية في مصر؛ وهي تستهلك كل عام مقداراً كبيراً من القطن المصري وتمد السوق المحلية بكميات عظيمة من المنتوجات القطنية المتقنة الصنع المعتدلة الثمن مع ذلك. وكان ما يستهلكه سنة 1931 من القطن المصري 22. 308 قناطير فزاد في العام الثاني إلى 50. 775 قنطاراً وفي الذي يليه الى 97. 143 قنطاراً، ثم زاد في العام الماضي (1934) الى 152 ألف

ص: 31

قنطار. وزادت منتوجاتها من الغزل والنسيج تبعاً لذلك زيادة كبيرة حتى وصلت (سنة 1934) الى 13 مليون رطل من الغزل، والى 35 مليون ياردة من النسيج.

وهي تسير بسرعة في سبيل التقدم وتتخذ الأهبة لمضاعفة أعمالها ومشاريعها، بحيث يتضاعف ما تستهلكه من القطن المصري عاماً بعد عام ويتضاعف ما تنتجه من الغزل والنسيج

ولكن هذا الصرح الاقتصادي العظيم يجد نفسه اليوم أمام غزو البضائع القطنية اليابانية الرخيصة للسوق المصري، وهو غزو يشتد أثره يوماً بعد يوم، وتجد هذه البضائع الرخيصة في السوق إقبالاً سريعاً تشجعه وتذكيه الازمة الاقتصادية؛ وقد بينا كيف تعمل الصناعة اليابانية في ظروف مدهشة تمكنها من هذا الغزو، والصناعة القطنية اليابانية تستعمل القطن الرديء الرخيص، الهندي او الامريكي، في حين أن شركة الغزل المصرية لا تستعمل سوى القطن المصري، لكي تعاون بذلك على استهلاكه، وتحقق الاغراض الاقتصادية القومية التي قامت من اجلها، فاذا استمر هذا الغزو الياباني دون اتخاذ ما يجب لرده، واستمر إقبال المصريين على البضائع القطنية الرخيص، عرضت الصناعة القطنية المصرية لمصاعب تحد من نموها وتقدمها، وعرضت الملايين المصرية التي توظف فيها، والايدي المصرية العاملة التي تقوم بها، الى عواقب لا تحمد ولا يرضاها اي مصري

وما نريد ان ننوه به بنوع خاص، هو أن الأمر هنا لا يتعلق بالناحية القومية والواجب القومي في تشجيع الصناعات القومية، ولكنه يتعلق باعتبارات اقتصادية خطيرة. ذلك أن هذه المنسوجات الرخيصة تستهلك لرداءتها بسرعة، في حين أن المنسوجات الجيدة التي تنتجها الصناعة المصرية من القطن المصري تمتاز بالمتانة وبطول استعمالها، فهي بذلك أجدى وأفر على المستهلك الذي يقدر مصلحته الحقيقية. هذا ومن جهة أخرى فان الصناعة المحلية تستهلك قطناً مصرياً، وتعاون المنتج المصري بذلك على تصريف اقطانه، فاذا لم يعاونها المصريون من جهة أخرى باستهلاك منتوجاتها، فانها تعجز عن المضي في تحقيق هذه المعاونة الاقتصادية الجليلة.

ولهذا كله يجب على مصر أن تقطن لما يهدد مستقبلها الاقتصادي من جراء هذا الغزو المفاجيء، وان تبحث في وسائل الحماية السريعة لصناعاتها الفتية. وعبء هذه الحماية

ص: 32

يقع على عاتق الحكومة والامة معاً. فاما الحكومة فمن واجبها وفي مقدورها ان تلجأ الى مضاعفة الحماية الجمركية لتحمي المنتوجات المحلية من هذا السيل الداهم؛ على أن هذه الحماية وحدها لا تكفي كما أثبتت التجارب الاخيرة في مصر وغير مصر؛ وإنما يجب ان تقرن في الوقت نفسه بمعاونة الأمة وتفضيلها للمنتوجات القومية على سواها؛ وهي بهذه المعاونة لا تحقق واجباً ونياً فقط، وإنما تخدم في الوقت نفسه مصالحها الاقتصادية

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 33

‌حول 19 يناير

للأستاذ محمد محمود جلال

اليوم تبحر من السويس إحدى الجواري المنشئات في البحر علماً على تقدم وتسخير القوى، تقل الرهط الكريم من رجال الزراعة والاقتصاد غلى بور سودان. وكنت اعد لتلك الرحلة عدتي، حتى حالت فجأة ظروف قاهرة دون ما تعلقت به الأمنية. فاليوم ندعو الله ان يقرن التوفيق بخطاهم، ونسجل لهم هذه اليد سابقين الى الاعتراف سبقهم الى خير العمل

ولعل هذه الرحلة الموفقة باذن الله اولى الخطى، ولعلها بداية حزم ترقبه البلاد من قديم، فتلها خطوات في مختلف ميادين السعي المجدي؛ ولعلها بادرة التنبه، ولعل الله جل شانه حين قدرها شهر يناير موعداً قد اراد ان يسدل على التقصير من ستره، وان يكون في المستقبل ما ينفض عن الماضي الغبار

فلقد مر (19 يناير) وكأن لم يلحظه احد، فلم نر لذكراه الا سطوراً نشرت بالأهرام من هيئة واحدة، هي هيئة الحزب الوطني؛ حتى لكأنه يوم يمر كسواه، وكأنه ليس ذلك اليوم الذي امسى على غصب صارخ، وتفريق مروع، وعبث من القوة بالحق عبثاً لم يرو التاريخ له مثيلاً

وبين (بور سودان) على البحر الأحمر و (بور سعيد) على البحر الأبيض صحيفة من المجد كاد يطويها الزمان لولا كفالة التاريخ، وكوامن من الذكريات والعبر من حق الجيل الجديد علينا أن نبسها وننشرها، ومن واجب الأدب المصري أن يبذل لها أثمن بضاعته وأغلى جهوده. فلم يزل الأديب منذ القدم قواماً على الواجب والفضيلة، يتحسس مواضيعها، ويخرجها في خير الثياب واصدقها غذاء للأمم في حياتها، وإيقاظاً لهمم فيما تحاول من تصحيح وتهذيب

واذا كان الشطر الأول من الاسمين أعجمياً دخيلاً، ففي الشق الثاني من كليهما شفاء ورحمة للمؤمنين

فالمرحوم (سعيد باشا) عزيز مصر أصبح في التاريخ - وبعد أن خلقت سياسة الانجليز (حادثة وادي حلفا وتفتيش الجنود) فاضطرت الخديو عباس الثاني إلى العودة الى القاهرة - آخر من زار (الوجه السوداني) من ملوك مصر

ص: 34

وقد زخر التاريخ الحديث بفيض من خير الأنباء غن زيارته، فأينما حل ان الاستقبال حافلاً، صادراً من القلوب لا اثر فيه لرياء ولا مصانعة، وحسبك من قرة عين لمليك أن يرى أبنية شاهقة وطرقاً ممهدة وادارة مستقرة حازمة، تعاونت على تأسيسها وتمهيدها وإقرارها أباد من اقاليم الوجه البحري، وأخرى من الوجه السوداني، وثالثة من الوجه القبلي

ولعله رحمه الله أراد أن يختبر ذلك البناء المعنوي المدعم، ويشهد العالمين - وفي مقدمتهم قناصل الدول - حين أشاع عزمه على إخلاء السودان من بني الوجهين البحري والقبلي، فهب أبناء الوجه السوداني في ألم وحيرة يرجون ويلحون في أن يعدل عن فكرة تنافي طبيعة الوجود. فآمن بأساس ملكه وحصل على ما أراد من التجربة

وإني لأذكر في ألم ومرارة كيف أصبح مجلس النواب بالقاهرة خلواً من أبناء السودان وقد كانوا زينة المجالس الأولى؛ فقد كان الوجه السوداني ممثلاً بعدد يوازي نواب الوجه القبلي

وفي عام 1911 أبان المرحوم (أبانا باشا) رئيس الجمعية الجغرافية في بحث له بالمؤتمر المصر أن مقارنة العظام التي عثر عليها في المقابر تثبت أن الذين يقطنون وادي النيل من عنصر واحد

ثم انظر بعد ذل تلق الوحدة في اللغة وتلقها في الدين وتجدها في العرف كما تجدها في العادات

ولكنك حين نبحث في القاهرة وهي قلب البلاد تأخذ قلبك حسرة لاذعة. فلست تجد فيها بين مظاهرها المختلفة مظهراً واحداً يدل على تل الوحدة الطبيعية ويشير إلى هذه الروابط الوثيقة

بين ظهرانينا نخبة من الشعراء، سجلوا كثيراً من الحوادث ذات البال، حتى امتد فضلهم إلى شؤون تبعد عن مصر، وقد خلت دواوينهم من ذكر السودان وشؤونه، بل لم تنوه قصيدة بتلك التجربة التي قام بها المرحوم سعيد باشا، وفي عرفي انها وحيدة في التاريخ الحديث

أعرف أن المنظر والمعاشرة أكثر العوامل إيحاء. ولكن التاريخ ما يزال للكثير من الكتاب والشعراء مصدر وحي من أغزر المصادر بتناول الفريقان من كأسه دهاقاً من روعة

ص: 35

وفيضاً من غذاء

بل إن الروعة المعنوية لحادث كبير او تصرف حصيف، او خلق كريم، لتكون في كثير من الاحيان اوفر مادة واكرم اثارة من مظهر مادي

وإذا كانت الجزيرة ببساتينها وقصورها، والروضة بحافل تاريخها، والأزهر الشريف بماضيه، تأخذ باللب وتلهم القائل، ففي جزيرة السودان، وفي غاباته، وفي منابع النيل السعيد الكريم، وفي مجاري مياهه الأولى وروافده سمة للفكر والقول، وأي سعة؟

لقيت في إحدى سفراتي ضابطاً شهماً اقام بالسودان، اخذ يحدثني عن رحلات قام بها في ربوعه، والضابط اقرب الناس إلى اختصار القول وأبعدهم عن زخرفه؛ ومع ما بيني وبين ما يصف من شقة بعيدة، فقد ظلت طوال الرفقة أخيذ القلب بالصور الرائعة يعرضها واحدة تلو اخر حتى دونت منها كثيراً، وحتى تمنيت لو كنت شاعراً فأصوغها نظمياً أقوم به ببعض الواجب نحو بلادي

وكم يكون من خالص التوفيق أن تدعو (الرسالة) إلى رحلة فريق من الأدباء في العام القادم، يصلون ما انقطع في عالم الأدب

ثم انظر بعد لك الى المسارح!! فلن تجد رواية حدثت وقائعها بالسودان. بل إنك واجدها حافلة بالمناظر الأوربية، وبكثير من مناظر القاهرة وبعض القرى، دون أن يحظى بصرك بمنظر واحد يمثل لك الخرطوم قائمة شاهقة على الأيدي الثلاث، ولا منابع النيل إليك حقيقة الأواصر في الوحدة المباركة، ولا بمثال الشجاعة وكرم الخلق الذي تسير على نوره الركبان

إنا حين نقول في أدبنا القومي عن اهل الوجه البحري، إنهم أولو ذوق سليم، وعن الوجه القبلي إنه موطن الكرامة والكرم وجب أن نقول عن أهل السودان إنهم أهل الوفاء والشجاعة

كان الأمير (علي بن دينار) ممتعاً بكثير من مظاهر الحكم، وليس أغنى من الانجليز ولا أسخى منهم يداً وقت الحرب، وهم المسيطرون حواليه، ولكن ذلك لم يكن مغرياً له، فهو لم يفتأ يذكر أنهم نكبة وادي النيل وهو منه، فما ثار إلا عليهم وفاءً لحق النيل وواديه، وظناً منه بسنوح الفرصة

ص: 36

وفي السودان علماء، وذكاء أهله غير منكور، ولا نعرف في العاصمة عنهم إلا قليلاً، حين تذكر الصحف قدوم بعضهم للاستشفاء أو لتبديل الهواء، ومن واجبنا أن نبحث عن مؤلفاتهم وأن نتناولها بتعليق يجعل من الأمتين في العالم الأدبي كتاباً واحداً؛ ولاشك أن في السودان شعراء، فما زلنا نحس باقوال (سر الختم) و (علي عبد اللطيف) في محاكمتهم سنة 24، روح الشاعرية ممزوجة بالوفاء والشهامة. ومن واجب صحفنا وجماعاتنا الأدبية أن تبحث بما أوتيت من وسائل الصحافة عن تلك الكنوز

ليقم الأدب وجماعاته وصحفه بهذا الواجب، وليس العيب أن يكشف الزمان عن نقص ولا أن نعترف بالنقص، ولكن العيب أن نقعد عن تلافيه

ولنقل من اليوم: الوجه البحري، والوجه القبلي، والوجه السوداني. وليس عند اله جهد ضائع، ولكن في الدنيا كسل مضيع

محمد محمود جلال

ص: 37

‌النزعة العملية في الأدبين العربي والانجليزي

للأستاذ فخري ابو السعود

من الطريف والمفيد معاً ألا نزال نوازن بين الأدب لاختلاف ظروفهما يختلفان كثيراً وقلما يتفقان؛ والموازنة بين وجوه اختلافهما العديدة - ووجوه اتفاقهما إن كانت - تلقي ضوءاً على مختلف الظواهر في كليهما، وتبرز شتى الأسباب والمسببات في تاريخهما، وقد قيل: وبضدها تتميز الأشياء

وأعني بالنزعة العملية في الأدبين اتصالهما بالحياة اليومية والاجتماعية والسياسية والوطنية ومساهمة أقطابهما في تلك الشؤون، والأدبان هنا أيضاً على طرفي نقيض: فالنزعة العملية تسود الأدب الانجليزي من أقدم أيامه، وهي باطراد عصراً بعد عصر، بينما هي تكاد تنعدم في الأدب العربي؛ وما كان منها في صدر تاريخه قد تضاءل بكر العصور

فالانجليز بطبيعتهم العملية لم يترددوا في زج الأدب في غمار الحياة الملية والاستعانة به في شؤونها، وأدباؤهم لم يحجموا عن الاخذ بحظهم من أشغال الدنيا ومخاطراتها، أما العرب فعلى عظيم منزلة الأدب لديهم وشدة احتفائهم به، كان أدبهم دائماً بواد والحياة العملية بواد؛ وكان فناً نظرياً محصناً من توفر عليه انقطع عن غيره وعاش في عالم من الحفظ والرواية والتاريخ والتصنيف

فكان من أدباء الانجليز من ضربوا بسهم الفن والعلم والدين والحرب والشف الجغرافي وكبار وظائف الدولة، وهم مع ذلك مؤلفاتهم الشعرية والنثرية المعبرة عن خوالجهم النفسية ونظراتهم في شؤون الحياة مستقلة تمام الاستقلال عن وظائفهم في الحياة العملية او متأثرة بها، ومن أولئك سبنسر وبيكون ورالي وبنيان وسدني سميث ودزرائيلي

ومنهم من شاركوا في التقلبات السياسية فكانوا دائماً في صف الحرية وفي جانب الشعب، ولم يستظل منهم إلا القليل بلواء الملكية ابتغاء السلامة والغنيمة. وممن ضربوا بسهم في هذا الباب توماس مو مؤلف (اليوتوبيا) الذي قطعت اليزابث يده لدفاعه عن حرية الشعب الدينية؛ ويقال إنه بعد قطع يده رفعها هاتفاً بحياة الملكة لأنه كان يحب ملكته الباسلة، ولكنه كان أكثر حباً للحرية والشعب. ومنهم ملتون الذي أيد الجمهورية في ظل كرومويل وعمى

ص: 38

بصره في الدفاع عنها أمام أنصار الملكية

ومنهم من اضطلعوا بعبء الاصلاح الاجتماعي الاخلاقي عقب الفساد الذي تركته الملكية العائدة من فرنسا بعد موت كرومويل، وإديسون، وستيل بطلا هذا الإصلاح الناجع الفريد في بابه.

ومنهم من كرس أعماله لإصلاح حال العمال عقب التطور الصناعي وزعيمهم دكنز، او لإصلاح القانون الجنائي ومعاملة المسجونين تمشياً مع عصر النور والحرية، ومن اولئك جالزورذي. ومن الأدباء الفكتوريين من صرف همه الى ترفيه الجمهور والذوق العام بالمحاضرة عن الفن والأدب، وكبير هؤلاء رسكن. وزادت هذه النزعة الاجتماعية الاصلاحية بتشعب نواحي الحياة حتى طمت في عصرنا الحاضر

بل كان من أولئك الفكتوريين جماعة خاضوا ميدان الصناعة والتجارة، فانشأوا شركة لصنع الأثاث، وكانوا يرسمون تطريز الأثاث بأنفسهم، إذ ساءتهم الطرازات الشائعة في عهدهم؛ وأنشأ أحدهم وهو الشاعر المصور وليم موريس مطبعة ومعملاً للحبر لكي يطبع كتبه على النمط الذي يختاره وبالحبر الذي يفضله

بل كان من أدباء الانجليز من عاف الاجتماع الانساني قاطبة ونقم على أنظمة الملكية والكنيسة، وحاول إنشاء مجتمع جديد تسود فيه البساطة والمساواة والأخاء، ومن هؤلاء الشعراء شعراء عهد الثورة الفرنسية؛ فالكتاب الفرنسيون الذين مهدوا لتلك الثورة أمثال روسو وفولتير اكتفوا بالعمل النظري وتركوا لتنفيذ لغيرهم، أما معاصروهم ومن جاء بعدهم من الأدباء الانجليز فحاول كثيرون منهم تنفيذ العمل بأنفسهم. وقد انتقل شيلي إلى إيرلندة ثم إلى أوربا لإنشاء مدينته الفاضلة، وإن يكن قد منى بالفشل في الحالتين؛ وعاضد وردزورث الثورة الفرنسية بقوة لمناداتها بمبادئها المعروفة حتى نقم على دولته إعلانها الحرب على فرنسا الثائرة، وكاد ينتظم في أحد أحزاب الثورة، ويركب تيارها الخطر

أولئك بعض رجال العمل من أعلام الأدب الانجليزي المساهمين في الحياة الاجتماعية بفكرهم ومجهودهم، وما نخالنا واجدين مماثليهم بين أعلام أدبنا: فقد كان من يتوفر على الأدب من أبناء العربية ينصرف كما تقدم عما عدا الأدب، ويقصر أدبه على التعبير عن خوالجه الفردية وذكر مآربه وحبه وشرابه وغضبه ورضاه ونعيمه وشقائه، ويكاد لتوفره

ص: 39

على الأدب لا يجد قوت يومه إن لم يكن له مورد سهل، ويضطر إلى التقرب إلى مَوْليَ يمتدحه ويفوز بأعطيته؛ وقد كان هذا من دواعي استطالة هذه الظاهرة في الأدب العربي: ظاهرة المدح التي سرعان ما تلاشت من الأدب الإنجليزي

والقليلون من أعلام الأدب العربي الذين شاركوا في الحياة العملية إنما صنعوا ذلك جرياً وراء مطامعهم الشخصية لا دفاعاً عن مصالح أقوامهم؛ ولذا كان أقصى همهم أن يستوزروا للحكام، ولم يدر بخلدهم مناقشة سياسة أولئك الحكام، وإنما ظلوا أبواقاً لهم وكتبه مجيدين؛ ومن ثم كان ما يتصل بالسياسة من ذخائر الأدب العربي هو الرسالة الديوانية التي دبجها أولئك المنشئون على لسان أمرائهم

والمجيدون من أعلام الأدب العربي الذين ساهموا في حياة العمل بمناهضة السلطة القائمة كقطري بن الفجاءة مثلاً قلائل، وكان جلهم في صدر الاسلام، ومن لم يفعل ذلك منهم طلباً لغاية شخصية فعلة لعقيدته الدينية حين كانت العقائد الدينية مضطرمة في الصدور

لقد كان الشعر والخطابة في الجاهلية أداتين من أدوات الحياة العملية والسياسية في ذلك المجتمع البدوي، فلما جاء الاسلام كان في أصوله شورياً يخول الرعية مشاورة راعيها، ولكن دولته قامت على بقايا الملكيات المستبدة القديمة، فقامت الخلافة العربية على غرار تلك الملكيات التي تجمع الأمر كله بيدها، ولم يعد الخليفة يشاور إذا هو شاور رعياً لحق عليه بل التماساً للرأي إن أعوزه، ولا هو كان ملزماً باتباع مشورة غيره؛ وصار من المسلم به أن الحكم لأمير لا دخل للرعية فيه. ويدهى أن الأدب الذي ينمو في مثل هذه الظروف يظل مكفوفاً عن شؤون السياسة كما كانت بقية الرعية مكفوفة، فهذا سبب انعزال الأدب العربي عن السياسة

فالأدباء ممثلو أممهم: ففي انجلترا حيث كان الدستور والحياة النيابية هما العقيدة التي يدين بهال الشعب شارك الأدباء كما شارك غيرهم من أفراد الشعب في الحياة السياسية وتوطيد أركان الحرية، وفي الأقطار العربية حيث كانت الملكية المطلقة هي القاعدة أحجم الأدباء عن غمار السياسة كما كان بقية الشعب محجماً

ولقد خفق من وطأة الحكومة المطلقة على الأدب أن أكثر الخلفاء والأمراء كانوا أدباء او عشاقاً للأدب، وانوا جميعاً يقربون رجال الأدب ويغدقون عليهم؛ على أن هذه الحالة كانت

ص: 40

لها مساوئها بجانب مزاياها: إذ زخر أدبنا دون غيره من الآداب العالية بأشعار المديح والتهنئة والاستجداء، وشتان بين أدب ينمو في ظلال الحرية والاستقلال، وآخر بين قيود الرعاية والحماية والمنحة

كان الدستور محور السياسة في انجلترا، وكان الدين محورها في الأقطار العربية، فعليه انقسمت الأمة أحزاباً في أول الأمر، ومنه انبعثت الفتن والثورات وقامت الأسر الحاكمة وتقسمت الإمبراطورية العربية دولاً ودويلات، وبحافز منه جاهد المسلمون الروم ثم الفرنجة. كان الدين في كل هذه الأطوار مبعث النشاط السياسي وزناد الروح الوطنية والقومية، ولا ترى الشعر العربي يحفل بالحماسة وروح القومية إلا في عصور الجهاد تلك

فالحياة الديمقراطية في انجلترا كانت العامل الأول في اتسام الأدب الانجليزي بالنزعة العملية ومساهمته في الحركات السياسية والاجتماعية، واختراع الطباعة كان عاملاً آخر ساعد اتصال الأدباء بلحياة الاجتماعية واعتمادهم على جمهور القراء بدل الاعتماد على منح الأمراء، ونتج من توثق هذا الاتصال نشوء الصحف الدورية فكانت عاملاً جديداً في هذا الميدان أعقبه تعميم التعليم

فعاملا امتلاء الأدب الانجليزي بالنزعة العملية هما الحياة الديمقراطية أولاً وانتشار المطبوعات ثانياً، وقد كان كلا العاملين يعوزان الأدب العربي، ومن ثم يزخر الأدب الانجليزي بالشؤون الاجتماعية والسياسية والوطنية بينما يقتصر الأدب العربي على وصف المشاعر الانسانية العامة وتصوير حالات النفس وأطوار الفرد

فخري أبو السعود

ص: 41

‌11 - محاولات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- وفي هذا يزدري الفيلسوف البدن، فتفر منه روحه وتود أن تنعزل بنفسها

- هذا صحيح

- حسناً، ولكن بقي شيء آخر يا سمياس، أثمت عدل مطلق أم ليس له وجود؟

- لا ريب في أنه موجود

- وجمال مطلق وخير مطلق؟

- بالطبع

- ولكن هل حدث لك أن رأيت واحداً منها بعينيك؟

- يقيناً لم أره

- ألم تدركها قط بأية حاسة جثمانية أخرى؟ (ولست أتحدث عن هذه وحدها، بل كذلك عن العظمة المطلقة وعن الصحة وعن القوة وعن كُنْه كل شيء، أي حقيقة طبيعته) ألم يأتك علمها قط خلال أعضاء الجسد؟ أليس الذي يريد عقله على أن يتصور كنه الشيء الذي هو بصدد بحثه أضبط تصورٌ، إنما يسلك أخصرَ السبل التي تؤدي الى معرفة طبائعها الكثيرة؟

- يقيناً

- أما من يظفر بمعرفتها أسمى ما تكون نقاء، فهو ذلك الذي يسعى اليها واحدة واحدة، فيتناولها بالعقل وحده، دون أن يأذن للبصر او لغيره من الحواس الأخرى بالتطفل او التدخل في مشاركة العقل وهو منصرف الى التفكير، بل ينفذ بأشعة العقل ذاته، بكل صفاتها، الى ضوء ما فيها من حقائق، بعد أن يكون قد تخلص من عينيه وأذنيه، بل ومن كل جسده، الذي لا يرى فيه إلا عنصر تهويش، يعوق الروح عن إدراك المعرفة ما دام متصلاً بها - ليس أرجح الظن أن يظفر مثل هذا الرجل بمعرفة الوجود، إن كانت معرفته في مقدور البشر على الإطلاق؟

ص: 42

فأجاب سمياس - إن في ذلك يا سقراط لحقاً رائعاً

- أو ليس لزاماً على الفلاسفة الحق إذا هم اعتبروا ذلك كله أن يغوصوا في أفكارهم، فاذا ما التقوا تحدث بعضهم الى بعض عن تفكيرهم بمثل هذه العبارة: إنا اهتدينا الى سبيل من التأمل قمينة ان تنتهي بنا وبالجدل الى هذه النتيجة: وهي أنه مادمنا في أجسادنا وما دامت الروح ممتزجة بهذه الكتلة من الشر، فلن تبلغ شهوتنا حد الرضى، إنها لشهوة الحقيقة، ذلك لأن الجسد مصدرٌ لعناء متصل، علته هذه الحاجة الى الطعام، وهو كذلك عرضة للمرض الذي ينتابنا فيحول بيننا وبين البحث عن الحقيقة، وهو كما يقول الناس، أبداً لا يدع لنا السبيل الى تحصيل فكرة واحدة، لما يملأنا به من صنوف الحب والشهوات والمخاوف والأوهام والأهواء، وكل ضرب من ضروب الجهالة، وإلا فمن أين تأتي الحروب والمعارك والأحزاب إن لم تكن آتية من الجسد وشهوات الجسد؟ فالحروب يثيرها حب المال، والمال إنما يُجمع من أجل الجسد وخدمته، ومن جراء هذا كله يضيع الوقت الذي كان ينبغي أ، ينفق في الفلسفة، هذا ولو تهيأ للفلسفة الميل والفراغ لنفث الجسد في مجرى التأمل الشغب والاضطراب والخوف ليحول بيننا وبين رؤية الحقيقة، وقد دلت التجارب جميعاً على أنه لو كان لنا أن نظفر عن شيء ما بمعرفة خالصة لوجب أن نتخلص من الجسد، ولزم على الروح أن تشهد بجوهرها جواهر الاشياء جميعاً؛ ولست أحسبنا إلا ظافرين بما نبتغي، وهو ما نزعم أننا محبوه، وأعني به الحكمة، لا اثناء حياتنا بل بعد الموت كما تبين من الحديث. فان كانت الروح عاجزة عن تحصيل المعرفة وهي في رفقة الجسد، فالنتيجة كما يظهر أحد أمرين: إما أن تكون المعرفة ليست على الاطلاق حقيقة بالتحصيل، وإما أن تحصيلها يكون بعد الموت إن كانت جديرة به؛ فعندئذ، وعندئذ فقط، تنعزل الروح في نفسها مستقلة عن الجسد، وأحسب أننا في هذه الحياة الحاضرة نسلك أخصر السبل إلى المعرفة، لو كنا نبذل نحو الجسد أقل ما يمكن بذله من عناية وشغف، فلا نصطبغ بصيغة الجسد، بل نظل أصفياء إلى الساعة التي يشاء فيها الله نفسه ان يحل وثاقنا، فاذا ما ظهرنا من ادروان الجسد، وكنا اتقياء، وتجاذبنا مع سائر الأرواح النقية أطراف الحدث، تعرفنا أنفسنا في الأشعة الصافية التي تضيء في كل مكان، فلا ريب أن ذلك هو ضوء الحقيقة، فلن يُؤذن لشيء دنس أن يدنو مما هو طاهر، إنه لن يسع محبي

ص: 43

الفلسفة الحقيقية، يا سمياس، إلا أن يفكروا في هذه الالفاظ وأشباهها، وأن يقولها بعض لبعض، أفأنت موافقي على ذلك؟

- يقناً يا سقراط

- ولكن أن صح هذا يا صديقي، فما أعظم الأمل إذن في أنني إذا ما بلغت غاية رحلتي، فلن يقلقني هذا الهم الشاغل الذي صادفني وإياكم في حياتنا الأولى؛ أما وقد تحددت ساعة رحيلي، فذلك ما أرْحلُ به من رجاء، ولست في ذلك فريداً، بل هكذا كل رجل يعتقد أن عقله قد تطهر

فأجاب سمياس - يقينا

- وماذا يكون التطهير غير انفصال الروح عن الجسد كما سبق لي القول، واعتياد الروح أن تجمع نفسها وتحصرها في نفسها بعدياً عن مطارح الجسد جميعاً، وانعزالها في مكانها الخاص، في هذه الحياة كما في الحياة الأخرى، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وفكاكها من أغلال البدن؟

فقال - هذا جد صحيح

- وماذا يكون ذلك الذي يُدعى الموت سوى هذا الانفصال نفسه، وتحل الروح من الجسد؟

فقال - لا شك في ذلك

والفلاسفة الحق وحدهم دون غيرهم يبحثون في انطلاق الروح ويتمنون ان يكون. اليس انفصال الروح وفكاكها من الجسد هو موضوع بحثهم الخاص؟

- هذا صحيح

- إنه لتناقض مضحك كما قلت في بادئ الأمر، أن ترى أناساً يحاولون بالدراسة أن تكون حياتهم قريبة من حالة الموت ما استطاعوا، فاذا ما ادركهم الموت أشفقوا منه

- يقيناً

- إذن يا سمياس. فما دام الفلاسفة الحق لا ينفكون يبحثون في الموت، فالموت عندهم، دون الناس جميعاً، أهون الخطوب. أنظر الى الأمر على هذا النحو: كم يبلغ منهم التناقض أن يناصبوا الجسد عداوة متصلة، وأن يتمنوا لو خلصت لهم الروح وحدها، فاذا ما أجيبوا الى ذلك، كن منهم السخط والجزع، في مكان اغتباطهم بالرحيل الى ذلك المكان، حيث

ص: 44

يؤملون إذا ما بلغوه أن يظفروا بما قد أحبوا في الحياة (ألا وهي الحكمة)، وأن يتخلصوا في الوقت نفسه من مرافقة عدوهم. وكأين من رجل تمنى أن يذهب الى العالم الأسفل، آملاً أن يصادف هناك معشوقة دنيوية، او زوجاً، أو ولداً، ليتحدث إليهم. أبعد ذلك يشفق من الموت مضنْ هو للحكمة محب صحيح، ويعتقد كذلك أن لن تتاح له بحق إلا في العالم الاسفل؟ أليس يقابل لرحيل بالبشر؟

إنه يا صديقي لابد فاعل إن كان فيلسوفاً حقاً، لأنه سيوقن يقيناً ثابتاً أنه لا يستطيع أن يلتمس الحكمة في نقائها إلا هناك فقط، دون أي مكان آخر. وإن صح هذا، فأبلغ به من أحمق - كما سبق لي القول - إن كان يَفْرَقُ من الموت

فأجاب سمياس - لا ريب في أنه فاعل

وأنت إذا رأيت رجلاً يجزع من اقتراب الموت، كان جزعه دليلاً قاطعاً على أنه ليس محباً للحكمة، ولكنه محب للجسد، وربما كان في الوقت نفسه محباً للمال، أو القوة، أو كليهما

فأجاب - هذا جد صحيح

- إن ثمت يا سمياس لفضيلة تدعى الشجاعة. أليست هذه صفة خاصة بالفلسفة؟

- بقينا

- وكذلك الاعتدال. أليس الهدوء، وضبط النفس، وازدراء العواطف، التي يسميها الدهماء أنفيهم بالاعتدال، صفة مقصورة على أولئك الذين يحتقرون الجسد ويعيشون في الفلسفة؟

- ليس في ذلك خلاف

- وأنت إذا نظرت إلى الاعتدال والشجاعة عند سائر الناس، ألفيت بينهما، في حقيقة الأمر، تناقضاً

- وكيف ذلك يا سقراط؟

فقال - إنك عليم بأن الناس بصفة عامة ينظرون عامة إلى الموت شراً وبيلاً

فقال - هذا صحيح

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 45

‌9 - بين القاهرة وطوس من طوس إلى طهران

للدكتور عبد الوهاب عزام

برحنا المشهد عائدين إلى طهران والساعة عشر إلا ربعا من صباح يوم الاثنين سادس رجب (15 أكتوبر) فمررنا بقرية اسمها قدمكاه (موضع القدم) وقد ذكرتها في سيرنا من نيسابور إلى مشهد وأرجأت الكلام عنها إلى الاياب إذ لم نعرج عليها في الذهاب. وقفت السيارة فنزلنا وملنا ذات اليسار فدخلنا ساحة بين جدارين فيها طاقات لا ابواب لها بناها بعض السلاطين ليأوى إليها المسافرون. ثم صعدنا إلى مستوى ينحدر منه مجرى ماء. فانتهينا إلى شجرات عادية بجانبها حجرة كبيرة. ولقينا قيم المكان فقال أنا كشيش قدمكاه. قلنا يا صاح أن الكشيش رجل الكنيسة وانت رجل مسلم، فقال أنا خادم القدم المبارك.

ولجنا الباب فرأينا على يسارنا بنية فيها حجر بركاني اسود فيه اثر قدم. قال دليلنا هذا قدم الامام على الرضا، ثم خرج بنا إلى حجرة أخرى في وسطها بركة صغيرة مستديرة بها ماء صاف يشف عن سمكات صغيرات يجلن بين سطحه والقاع. قال هذه عين الامام الرضا فاشربوا. فغسلنا أيدينا داعين منشدين:

(وعين الرضا عن كل عيب كليلة)

نزلنا سائرين غلى الجادة فشربن الشاري وقوفاً واستأنفنا المسير إلى نيسابور. ونزلنا في الخيام التي ضربت لنا من قبل عند قبر الخيام فاسترحنا وطعمنا.

خرجنا من نيسابور والساعة ثلاث بعد الظهر، فوردنا سبزاور ستا إلا ثلثا، فأوينا إلى النزل الذي وصفته من قبل، وبعد العشاء اجتمع بعضنا في حجرة الأستاذ العلامة كوبر علي زاده محمد فؤاد مندوب الحكومة التركية، وجاء مغنون من أهل القرية فغنوا من رباعيات الخيام وغيرها ضاربين على التار (آلة تشبه العود) فطربنا لهذا الغناء وهذا المجلس الذي جلس فيه علماء من أمر شتى دون ترتيب ولا تكلف، بعضهم على السررُ والآخرون على الأرض، فأخذنا نوقع بأيدينا على نغمات التار.

ولا أنسى الأستاذ كريستنسون الدانمركي وقد مد رجليه وأمسك عود الدخان (البيبة) بفمه ونشط للصفق على أنغام الموسيقى.

برحنا سبزاور والساعة تسع ونصف، فبلغنا داوَر زَن بعد ساعة ونصف ونزلنا بها منزلنا

ص: 47

الأول فاسترحنا وتغدينا. ثم فارقناها والساعة واحدة ونصف نؤم شاهرود، وكان بردها لا يزال عالقا بي، فقلت لأصحابي: سأترك في شاهرود الغلة التي أخذتها منها. قال الأديب رشيد الياسمي: إن الله يأمركم أن تؤدون الأمانات الى أهلها. وبعد ساعة وقفنا على قرية اسمها عباس أباد فجاء شبان يعرضون علينا من صنعة القرية مسابح وأزراراً وأشياء أخرى مصنوعة من حجر ازرق ضارب إلى السواد فاشترينا منها للذكرى.

ثم سرنا فمررنا بزيدر فنزلنا به ربع ساعة فشربنا الشاي عند شجيرات وقناة هناك، وأسرعنا المسير ليتسنى لنا أن نعرج إلى بسطام فنزور أبا يزيد قبل الغروب، فعطبت سيارتنا على مقربة شاهرود، وذهبت فضلة الوقت في إصلاحها فاضطررنا أن نعدل عن بسطام إلى شاهرود فوردناها بعد المغرب ونزلنا في دارين داخل البلد استُبدلتا بالدار التي بظاهر البلد بعد الذي أصابنا من بردها في الطريق إلى المشهد. وبكرت أنا والأستاذ عبد الحميد العبادي والأديب أحمد الصراف آملين أن نزور بسطام ونرجع قبل أن يتأهب أصحابنا للسفر، فما زلنا ننتظر سيارتنا حتى فقدنا الرجاء في زيادة أبي يزيد فسرنا مع الركب آسفين مرسلين للشيخ الصوفي تحيتنا على البعد

سرنا عن شاهرود والساعة سبع ونصف من صباح الأربعاء مزمعين أن نبلغ طهران عشية اليوم. وبين شاهرود وطهران أربعمائة كيل وثلاثة. وردنا دامغان بعد ساعة، فرأينا أن نتلبث بها لنرى بعض مشاهدها ولم تكن وقفنا بها في ذهابنا إلى المشهد،

كانت دامفان مدينة فومس، وهي اليوم من ولاية طبرستان وتبعد 64 كيلاً من استراباد، جنوبي جبال ألبرز. على حدود العراق العجمي وخراسان. ويقال إنها في موضع مدينة هِكتمبيليس إحدى المدن العظيمة في مملكة الأشكانيين القديمة، وأن إسكندر المقدوني أدرك دار الثالث قتيلاً على مقربة منها.

قال ياقوت راوياً عن مسعر بن مهلهل: (الدامغان مدينة كثيرة الفواكه. وفاكهتها نهاية. والرياح لا تنقطع بها ليلاً ونهاراً. وبها مقسم للماء كسروى عجيب يخرج ماؤه من مغارة في الجبل ثم ينقسم إذا انحدر عنه على مائة وعشرين قسماً لمائة وعشرين رستاقاً لا يزيد قسم على صاحبه، ولا يمكن تأليفه على غير هذه القسمة.

وهو مستطرف جداً ما رأيت في سائر البلدان مثله ولا شاهدت أحسن منه)

ص: 48

قال ياقوت: (قلت أنا جئت إلى هذه المدينة في سنة 613 مجتازاً بها إلى خراسان، ولم ار فيها شيئاً مما ذكره لأني لم أقم بها)

وأنا اقول قول ياقوت، وأزيد أن مقسم هذه المياه تهدم إبان الغارة الافغانية فيما يقال

وإلى الشمال الشرقي من المدينة، ينبوع عظيم يسمى جشمئه على (ينبوع علي) يزوره الناس، ويزعمون أنه يفيض على حجر به أثر من حافر فرس الرسول صلوات الله عليه. وقد بني حوله فتح علي شاه 1217

وقال ياقوت: (وبينها وبين كرد كوه قلعة الملاحدة يوم واحد، والواقف بالدامغان يراها في وسط الجبال)

سألنا عن الآثار الساسانية التي بدامغان فقيل لنا إنها بعيدة عن البلد، وطرقها غير معبدة، وهي ليست ذات خطر. ثم هُدينا إلى بناء اسلامي قديم، فدخلنا إلى فناء فيه قبور لاطئة بالارض، ينتهي غلى حجرة كبيرة وسطها قبر كبير سياج من الخشب، وعليه كتابة قديمة كثيرة، وإلى يسار الداخل قبر صغير لا سياج له، فأما الضريح فقيل إنه لأحد أبناء الأئمة العلويين، وأما الذي إلى يسار الداخل، فقيل إنه لشاهرخ، ورأينا حجرة أخرى مغلقة كتب عليها: أمر بعمارة هذا البناء شاهرخ. وقد ظننت أنه شاهرخ بن تيورلنك، وعجبت كيف دفن هنا وقد مات في الري. ثم تذكرت شاهرخ حفيد الملك نادرشاه، الذي أسره آقا محمد القاجاري في دامغان، وما زال يعذبه ليسلم إليه حزائن جده نادرشاه حتى مات سنة 1211، فقلت هذا قبر الأمير الضرير المنكود الطالع

بلغنا سمنان والساعة إحدى عشرة وربع فنزلنا منزلنا الأول في المصنع الذي بظاهر البلد. وقلت للأستاذ العبادي لا يفوتنا اليوم أن نرى مسجد الجمعة في سمنان. فقلنا للأديب سيف آزاد صاحب مجلة (إيران باستان) فرفقنا وصحنا في الطريق أحد ضباط الشرطة، ودخلنا من باب كبير تزينه نقوش وتمثيل وكتابة فيها اسم ناصر الدين شاه الى طريق على جانبيها أبنية للجند وخرجنا من باب آخر فسرنا في شارع مشجر وأزقة ضيقة، ثم ترجلنا وتركنا السيارة وتخللن الطرق حتى انتهينا الى مسجد صغير جميل، قرأنا فيما عليه من كتابة اسم الشاه طهماسب الصفوي

ثم ذهبنا الى مسجد الجمعة وهو قديم عظيم، وأقدم ما فيه منارته، وهي فيما يظهر بقية

ص: 49

مسجد كبير بناه السلاجقة ثم هدمه التتار فأقيم المسجد الحاضر على جانب من عرصته. ثم زاد فيه إيواناً كبيراً أحد وزراء السلطان شاهرخ بن تيمور سنة 828

وخرجنا من مسجد الجمعة فمشينا في سوق طويلة مسقوفة تنبئ بعظم المدينة في الماضي، وقد أنشدني الأديب سيف آزاد في مسجد سمنان بيتاً معناه

(وا أسفا على المسجد الذي في سنمنان، إنه يوسف في السجن)

اجتمعنا على الغداء في سمنان، ونحن نعلم أن الركب سيتفرق في طهران فلا يجتمع، فتكلم بعض الوافدين شاكراً حكومة إيران، والموظفين الذين رافقونا في مسيرنا إلى طوس وإيابنا، وأجاب السيد ابتهاج والأديب رشيد الياسمي معربين عن سرورهم وافتخارهم بمصاحبة الضيوف الخ، وأرسلنا برقية إلى وزير المعارف نبلغه والحكومة الايرانية شكرنا. وكان الوزير قد تخلف في المشهد هو والوزراء الآخرون، ليصحبوا جلالة الشاه في سفره إلى جرجان. . .

ركبنا السيارات والساعة اثنان وربع بعد الظهر، فجد بنا المسير حتى نزلنا في فيروز كوه فاسترحنا وشربنا الشاي في مطعم هناك. ثم ركبنا فما زلنا في فيروز كوه (جبل فيروز) قممه وشعابه ووديانه حتى عيل الصبر، وأظلم الليل ورهقنا الاعياء. ثم دخلنا طهران والساعة ثمانية من المساء فأوينا إلى الفندق بشق الأنفس

(يتبع)

عبد الوهاب عزام

ص: 50

‌الراعي

للأستاذ محمود الخفيف

راعني في الحقل إنشادٌ بديع

والندى يغسل أجفان الصباحْ

فتطلعت الى راعي القطيع

قد شجاه حسنُ اقبال الربيع

وتبدت روعة الكون له

فتغنى في هيام ومراح

باسم كالصبح في طلعته

حالم العينين لماح الجبين

حمرة الاصباح في وجنته

وصفاء الكون في مقلته

مرهفٌ كالغصن نشوان الصبا

غردٌ كالطير فياض الحنين

ثمل اللفتة في إقباله

تتراءى فوق عطفيه عصاه

مرح يختال في سرباله

معجل يعثر في أذياله

أو حليم قربُ المرعي له

فتهادى وتأني في خطاه

ذاكرٌ ليلاه في تحنانه

رائع الانشاد في الارض الفضاء

تحمل الريحُ صدى ألحانه

فتهزُ الحقلَ من أركانه

تذهل النوامَ عن أحلامهم

قبل أن تغرق في سيل الضياء

يصفُ الحب كما يعرفه

قلبه الخالص من سوء الطباع

هاتفٌ، يسألُ (من ينصفه

من غزال صد، لا يعطفه

دمعه المفسوح أو يرفه

عن دلال لج فيه وخداع)

أخت نفسي منه روعةٌ

واستخفى معانيه العذاب

ملكتني إذ تعني نشوةٌ

وتنزت في فؤداي صبوة

تركتني غارقاُ في حلم

ص: 51

ضاحك الاطياف رفاف الجناب

تضحك الارض مع الشمس له

ويشيع السحرُ في أركانها

يتبدى ل شيء حوله

طافحَ البشر طروباً مثله

وترى الورق شجاها لحنه

فتغنت في ذرى افنانها

يصبحُ الراعي طروباً شادياً

مطمئناً ليس يدري ما الشجن

وتراه حين يمس راضيا

في ظلام الكوخ يغفو ثاويا

ناعمَ البال قريراً آمنا

هادي الضجعة ريان البدن

لم يكد صفوة حرصٌ ولا

سَهَّدَتْ جفنيه أطماع الحياة

لن تراه نائحاً يوماً على

أمل فات ولا يصبو إلى

ما طواه الغيب في أحشاءه

حسبه الله فلا يرجو سواه

ملهمٌ رُكبَ في فطرته

حب ما في الكون من آي الجمال

تسمع التسبيح في لهجته

وترى لاعجابَ في نظرته

ساذجُ الأحلام إلا أنه

صادق الوجدان مشبوب الخيال

كم رأى الفجر وما في أفقه

من جمال واجتلى نور السحر

وتماى الصبح في إشراقه

يفتن النظار من عشاقه

بصفاء تعلق الروحُ به

عبقري الحسن موموق الصور

ولكم أنس من حالي الضحى

ومن الآصال مزدان الحُللْ

يجدُ الكونَ جميعاً مسرحاً - يجتليه غادياً او رائحاً

هائم يضرب في آفاقه

دائم الترحال موصول الجذل

ص: 52

ولكم شاهد إقبال الدجى

حين ذابت فيه ألوان الشفق

ورأى الليلَ إذا الليلُ سجا

وانجلى البدرُ وضيئاً أبلجا

تقبس الألحاظ من رونقه

قبل أن يدركه موج الغسق

كم رأى الحقول النضره

حفلت بالحسن في عيد الربيع

ورأى الصيف يعفى أثره

بيد عاتيةٍ مقتدرة

تركت جنته خلويةً

جف فيها الزهر والروض المريع

ولكم أبهجه صفو الخريف

ورآى سحر مجاليه الوضاء

واغتدى يرتع في ظل وريف

قد سرى في جوه نفح لطيف

يملأ الصدر به مستروحا

قبل أن تعصف انواء الشتاء

يا قنوعا مثلت عيشته

عيشة الانسان في فجر الوجود

يا خليا انسه وحدته

إيه يا من برئت فطرته

من غرور العيش في زخرفة

يا طليقاً ما دري معنى القيود

يا قرير العين في خلوته

لم يجرب مزة غدرَ الصديق

يا نقي القلب في غزلته لم ير العالم في زحمته

هات من لحنك ما يطربني

يا غريراً انت بالبشر خليق

يا رضي النفس في إيمانه

نعمت نفسك في ظل رضاها

إيه يا من قر في وجدانه

من هدى الله ومن رضوانه

ما ترنمت به في غبطة

فطن القلب إليها فوعاها

هات من لحنك يا راعي القطيع

قد نفي لحنك عن قلبي الحزن

ص: 53

هيه إني ما تغنيت سميع

وسأمضي شاكراً هذا الصنيع

ذاكراً لحنك مفتوناً به

إن في ذكراه روحاً وسكن

محمود الخفيف

ص: 54

‌من الأدب الفرنسي المعاصر

أندريه

بقلم علي كامل

تتمه

يرى أندريه جيد - ويتفق معه في ذلك مارسل بروست والكاتب الايطالي بيراندللو - أن الشخصية ما هي إلا وهم زائف، وان الانسان صنيعة الظروف والاحتمالات

ومهما كن مقدار ما في هذه الآراء من الحق أو الباطل فقد كان لها الفضل الأول في تجديد القصة الأوربية لما تضمنته من تحطيم فكرة (الأخلاق الثابتة) و (النماذج الانسانية) التي كانت أساس القصة التحليلية في الأدب الغرب لتقيم على انقاضها أسس فكرة (اللاشعور) قبل العالم (فرويد) نفسه. كما أن هذه الآراء قد أبانت الأثر العظيم للغرائز الجنسية وعدم توازن العواطف في حياة الاشخاص متأثرة في ذلك بقصص الكاتب الروسي دستويفسكي

على ان ما يمتاز به اندريه جيد من كل من مارسل بروست وبيراندللو انه لا يكتفي بالنظر الى الامور نظرة العالم النفسي، بل إنه يخرج من دراسته (بقاعدة) يرى من الواجب السير عليها في الحياة: تلك القاعدة هي وجوب ان يسعى الانسان الى فهم طبيعته وإدراك حقيقة نفسه بنفسه، وما ذلك إلا بالخضوع لكل الدوافع المتنوعة مهما كانت، والتذرع بالشجاعة لتحقيق كل ما يجيش فيه من الرغبات دون اختيار، اي دون ان يقول الانسان لنفسه: هذا متفق ومع الآداب العامة، وهذا مغاير لها؛ هذا يمس الدين وهذا لا يمسه. . . الخ يجب ان يكون كل منا (كطفل ضال، وُجد دون أن تُعرف حالته المدنية، دون اوراق. . . قذفه المجهول، لا يَعرِف له ماضياً ولا قاعدة يسير عليها ولا سند يعينه، ولا ون له ولا أجداد)

أن هذه هي الوسيلة الوحيدة عند جيد لانكشاف حقيقة نفوسنا أمام أعيينا، وعندئذ نسير على هدى طبيعتنا

وفي قصته مزيفو النقود - (1925) نرى الفتى (برنار) يخاطب القصصي (ادوار) ويسأله النصح كيف يضع قاعدة لحياته، فيجيبه ادوار قائلاً: (إن هذه القاعدة تجدها في نفسك على أن يكون قصدك السير الى التقدم. ليس عندي ما اقوله لك. إنك لا تستطيع أن

ص: 55

تستمد هذه النصيحة إلا من نفسك. فلا تحاول أن تتعلم كيف تعيش إلا بأن تعيش)

ولكي نعيش (في نظر جيد - عيشة لا يقيدها قيد يجب ألت نتردد عند الحاجة في الثورة على نظام الاسرة والجري وراء إحساساتنا تقودنا الى حيث الحقيقة العظمى. فالاستقرار هو ألد أعداء جيد، لأن رائده هو أن نكون متأهبين دائماً لتغيير جديد في حالتنا

وفي كتابه الأغذية الأرضية نسمع جيد يخاطب (ناتانابيل: إياك أن تستقر في مكان، فبمجرد أن تغيرت ظروف هذا المكان واصبحت موافقة لطبيعتك، او جعلت انت نفسك موافقاً لظروف المكان، عندئذ لا تبقى لك فائدة تُرجى من وجودك، فيجب ان تهجره، ليس هناك أخطر عليك من أسرتك، من غرفتك، من ماضيك)

وفي قصة ' نسمع (مينالك) يقول: (إنني لا اريد ان اتذكر. فاعتقادي ان هذا منع لوصول المستقبل. واعتداء على الماضي الذي لم يعد لي فيه حق، إنني بنسياني الكامل للأمس أجدد كل ساعة من حياتي. إن كوني كنت سعيدا لا يكفيني، لأنني لا أومن بالأشياء الميتة. وما كنت عليه وزال عني الآن هو عندي كأنه لم يكن)

على أن فكرة جيد عن التحرر المطلق كما رأينا لم تقض على عاطفته الدينية. بل لقد أحدث عنده هذا الايمان القوى بالتحرر وبالاستسلام لكل إحساس يغمرنا، نتيجة عكسية، إذ جعل جيد يترك العنان لإحساسه الديني يطغي عليه بين وقت وآخر دون أن يحاول كتبه، فنراه يتكلم عن الله والحياة الخالدة بأسلوب متصوفٍ زاهد، ففي كتابه الاغذية الارضية وهو كتاب الذي ينفجر فيه بالدعوة إلى التمتع بالحياة الحسية يقولك (إنك حيثما تذهب لا تستطيع أن تقابل إلا الله) وأيضاً (ناتانابيل: لا تأمل أن تجد الله إلا في كل مكان) وفي كتابه الأغذية الأرضية الجديدة يقول: (يجب أن نفكر في الله بأقصى ما يمكن من الانتباه واليقظة. . . إنني عندما أهجر التفكير في الخالق إلى التفكير في المخلوق تنقطع صلة نفسي بالحياة الخالدة وتفقد حيازتها لمملكة الله)

والآن، أليس من التناقض مع فكرة (التحرر الأخلاقي) والدعوة إلى التمتع بالحياة أن يغمر جيد إحساس أشد المتدينين إيماناً فيفكر في اله كل يوم - كما يقول - ولا يستطيع له فراقاً؟

إن جيد يبرر موقفه بفلسفة هي أهم نواحي التجديد في تفكيره. إنه يفصل بين اللذة والحب أو بعبارة أخرى بين الجسد والنفس لذا نراه يبيح من جهة تحقيق كل مقتضيات الجسد،

ص: 56

ومن جهة أخرى تحقيق كل مقتضيات النفس في الالتجاء إلى قوة عُليا.

ولا شك أن رأي جيد هذا لا يتفق مع عقيدة دينية، ولكنه في صميمه وَحْي طابعه الديني الذي لم يستطع التخلص منه فأراد التوفيق بين إحساسه الديني ومذهبه الفكري في التحرر الأخلاقي

وفي العبارة الآتية يعترف لنا جيد ان هذه الناحية من تفيره كانت خلاصاً وتبريراً لما اوقعته فيه مشكلته النفسية. يقول: (أما فيما يتعلق بي فقد قلت مراراً كيف أن الظروف وما تتجه إليه طبيتي كانت تدعوني إلى التفرقة بين الحب واللذة لدرجة أنه كانت تؤلمني فكرة المزج بينهما) ثم يقول لقد فصلت أنا أيضاً بين اللذة والحب، بل إن هذا الفصل بين الأثنين قد ظهر لي أنه كان لازماً. فاللذة أكثر نقاء والحب أعظم كمالاً

يرى جيد أن انطلاقنا وخضوعنا لمطالب أجسادنا إنما هو نوع من السذاجة والبراءة وأن اجابة الانسان لنداء طبيعته وغرائزه التي ولدت معه إنما هو خضوع لارادة الله.

وما الفرق عنده بين من يجري ميوله وشهواته لها وبين من يكبح بعضها إلا كالفرق بين (من يأكل كل شيء ومن لا يأكل غير الخضراوات)

ويقول جيد أيضاً: (ليس الانسان شيء غير طاهر) ' لذا كان ما تفيض به بيعة الانسان من ميول وشهوات لا يجب في نظره أن يحمل غير معنى الطهر والنقاء والاخلاص لأنفسنا فيجب أن نطيعها دون اختيار (لأن كل اختيار إنما هو تحديد لحريتنا)

على أن جيد يشترط لكل عاطفة تحركنا أن تكون مخلة لكي نطيعها ونجيب نداءها. ففي نسمعه يقول: (إن لذاتي لا تحجب وراءها فكرة خفية. لذا لا ينبغي أن يتبع هذه اللذات أي شعور بالندم) فهو يقصد بل أن يقول إن فكرة الحرية والانطلاق إذا استترت وراءها نية او غرض معين خرجت عن دائرة البراءة والاخلاص

وفي ضوء ما ذكرنا نرى أن فكرة أندريه جيد فكرة مزدوجة مضمونها:

أولاً: الناحية الجسدية الحيوانية في الانسان وهي الناحية البريئة الساذجة

ثانياً - الناحية المعنوية، وهي إما الناحية الخاصة بالاحساس الديني، وإما الناحية الشيطانية في الانسان

ففكرة جيد هي الفصل بين هاتين الناحيتين اللتين هما في الواقع حقيقتان من حقائق

ص: 57

الطبيعة الانسانية - الناحية الجسدية والناحية المعنوية - ثم السمو بهما الى أقصى ما يمكن من الطهر والنقاء. وما السبيل الى ذلك إلا بنبذ كل ما لا أساس له من الحق والصدق، وفي مقدمة ذل بالطبع كل ما يرغمنا عليه المجتمع.

ولقد استخدم جيد في البداية عبقريته كناقد فذ في تبرير حقه في الانطلق والتمتع بالحياة وفي (الحب الذي لا يجرؤ أن يقول اسمه) على أنه فيما بعد صرف همه الى العناية الشاملة بكل تقاليد المجتمع وحقائقه الفارغة وأوهامه لكي يعمد بعد ذلك الى تنقيحها في نظم التربية ويفصح مظاهر الرياء بين الطبقات والوسطى الى غير ذلك مما يراه من المفاسد الاجتماعية التي تقف حائلاً بين الانسان وبين حريته التامة.

ولقد كانت (فردية) اندريه جيد سبباً في ان يبقى حتى الثامنة والخمسين من عمره بعيداً كل البعد عن الاهتمام بالمصلحة العامة او الايمان بعقيدة سياسية او اجتماعية على اعتبار ان الاصغاء لافكار الغير يحد او يغير من افكار الانسان الخاصة التي يجب ان تكون بعيدة عن كل تأثير خارجي. واندريه جيد في عزلته السياسية والاجتماعية كان يخالف تماماً كثيراً من أعاظم الكتاب الفرنسيين المعاصرين مثل اناتول فرانس وشارل موراس وموريس باريس وشارل بيجوي ورومان رولان وغيرهم.

على ان جيد بعد رحلته الى الكونغو واواسط افريقيا خرج مرة واحدة من دائرته الخاصة الى دائرة المجتمع الانساني بأجمعه. يفكر في ظروف الحياة فيه بعين نقيض بالرحمة الواسعة والحنان العظيم حتى ان المرء ليحس بأنه قد نسى نفسه ولم يعد يفكر الا في الآخرين!

وفي كتابيه ونرى جيد يدافع عن الأمم المستعمرة لا بمهاجمة فكة الاستعمار نفسها ولكن بالمطالبة بحق إيثار هذه الأمم في التقدم المطرد في جميع شؤون حياتهم وبتسفيه كل استعمار ينتهك حرمة هذه الحقوق المقدسة

ولكن هل بقي جيد عند هذا الحد من الاعتدال في تفكيره السياسي وهو الذي من دأبه السير إلى أقصى حدود التطرف؟ لا. إذ لم يكد ينقضي وقت يسير حتى رأينا جيد يرتمي في أحضان الشيوعية التي اعترف بأنه عند اعتناقها كان يجهل صميم نظرياتها، ولاش أن اعتناق جيد للشيوعية مخالفة تامة لأسس تفكيره السابق، لان جيد (الفردي) قد أصبح يؤمن

ص: 58

بنظام يقيد مصلحة الفرد في سبيل مصلحة المجموع. وجيد الثائر على أي نظام من نظم التربية على اعتبار أن التربية تقييد وتحديد قد أصبح يؤمن بالمثل العليا الشيوعية. وجيد الذي كان ألد عدو للعقيدة الثابتة قد أصبح إيمانه بالشيوعية تسليم منه بالنظريات الماركسية كنظرية (التفسير الاقتصادي للتاريخ) مثلاً. . . . وغيرها. على أن في الشيوعية أيضاً تتحقق معظم أفكار جيد وىماله، ففيها شرود نهائي من ماضيه الديني الذي أثقله زماناً طويلاً، وفيها التخلص من عبودية نظام الأسرة الذي طالما حاربه وناضل في سبيل القضاء عليه، وفيها أمل جديد في الوصول الى ما يسميه جيد (مملكة الله) أي قتل الجوانب الخبيثة في الانسان بالتخلص من كل أنانية والتحرر من كل تفكير ذاتي، وهو يرى فيها أيضاً الشفقة الزائدة والتفكير الجدي في محو الشقاء الانساني

ولعل من العجيب أن أندريه جيد منذ أعلن إيمانه بالشيوعية لم يعمل أي عمل أدبي جديد، مقتصراً على نشر المقالات المختلفة التي تدور كلها تقريباً حول تبرير انقلابه الجديد، ولا نقول الاخير، فهل منا من يضمن أن جيد يستقر على حال؟!

لعل مظاهر التقلب والقلق الدائم وعدم الاستقرار الي صاحبت جيد عشرات السنين هي أعظم ما يرفعه (كانسان) لانها نتيجة تغلغل عاطفة الحرية في دمه الى حد قل أن يكون له نظير، فظل طول حياته (حديقة من التردد) - كما يسميه أكبر أتباعه الكاتب الفرنسي جاك ريفيير - لا يهدأ له بال. يدرس الحياة بنواحيها الفكرية والحسية، يسافر الى أقصى البلاد. كل ذلك لكي يصل الى الحقيقة المنشودة التي يسعى وراءها. وبرغم عبء ماضيه الديني الثقيل فقد استطاع ان يحطم أغلاله لينطلق باحثاً منقباً

إننا حين نحكم على اندريه جيد يجب أن ننظر الى مجموع شخصيته، متغاضين عن تلك السبل الشاردة التي اختطفها في حياته الخاصة ودعوته العامة، وتعتبر في نظر ناقديه - مبالغة قصوى في تفسير معنى الحرية - لقد علمنا جيد كيف ننتصر على الخجل المقيت والرهبة البغيضة التي لا معنى لها، علمنا كيف نكشف دخائل نفوسنا ولا تتركها في الظلام الدامس لا نعرف كنهها كأن ليس لنا بها صلة، علمنا كيف نسلط عليها ضوءاً وهاجا نستمده من صميم إرادتنا وشجاعتنا، علمنا يف نصرح بكل ما يجيش في خفايا قلوبنا من النزعات الصارخة - علمنا كيف ومتى تماماً حقيقة نفوسنا. . . ليس بالاستسلام لغرائزنا

ص: 59

الحيوانية كما يتهمه اعداؤه ظلماً، بل بأن تساير طبيعتنا مهما كانت بسذاجة عظيمة، سواء ما كان منها خاصاً بالناحية الحيوية او بالناحية الروحية، وان نكون دائماً على أتم أهبة لمواجهة الحياة المتغير وجاراتها على الدوام في قالب جديد

علي كامل

ص: 60

‌بيان للناس

بقلم صاحب السعادة محمد طلعت باشا حرب

لمناسبة حلول موسم الحج الشريف لبيت الله الحرام - يسرني أن أذيع على مواطنينا الأعزاء بعض ما قلمت به (شركة مصر للملاحة البحرية) لراحة الراغبين في تأدية هذه الفريضة المقدسة:

اولاً - قامت الشركة بتجهيز باخرة ثانية (الكوثر) لمشاطرة شقيقتها (زمزم) شرف نقل الحجاج، وهي باخرة غاية في الفخامة ولا تقل عن زمزم أناقة ونظاماً ونظافة

وستوجه الدعوة لزيارتها قبل مبارحتها الاسكندرية كما فعلنا في العام الماضي بالنسبة لزمزم وسيدعي ايضاً لفيف من رجال الصحافة والأصدقاء للسفر عليها من الاسكندرية لبور سعيد في طريقها إلى السويس. وبفضل اشتراك الباخرتين في النقل أصبحت محلات الدرجة الممتازة (اللوكس) والدرجتين الاولى والثانية متوفرة تماماً، وأصبحت الشركة مستعدة باذن الله تعالى لنقل أي عدد من ركاب هذه الدرجات في الذهاب والاياب

ثانياً - لزيادة راحة الحجاج في نزولهم من الباخرتين وطلوعهم اليهما بجدة قد أعدت الشركة مراكب كبيرة (قليلة الغاطس) وجعلتها شبه صنادل تقف على جانبي الباخرة عند رسوها وجهزتها بالسلالم والكبارى اللازمة لنزول الحجاج منها وصعودها إليها بكل راحة وبدون أدنى خطر مهما كانت الرياح شديدة ومهما كان البحر هائجاً

وهذه الصنادل التي يسع الواحد منها نحو الخمسمائة حاج مجهزة (بالدكك والكراسي والخيام)(تندات) للوقاية من الشمس والمطر ويجرها رفاص لداخل الميناء

وفضلاً عن ذلك فالسنابك الأصلية موجودة أيضاً للنقل منها للميناء إذا تعذر لسب ما وصول الصنادل إليها: وهذه تضحية جديدة من الشركة تكلفها مبالغ لا يستهان بها، ولكنها تبذلها عن طيب خاطر حسبه لله تعالى دون أن يحرم أصحاب السنابك والمشتغلون عليها من اهل الحجاز أجورهم المقررة بالتعريفة الرسمية التي تدفعها الشركة اليهم كاملة من مالها

والشركة تنتظر منهم أن يقابلوا ذلك بالشكر الجزيل وزيادة العناية في خدمة الحجاج

ثالثاً - لتشويق من يرغب من أهل اليسار من الطبقتين العليا والمتوسطة في أداء الحج

ص: 61

فكرت الشركة - فيما فكرت فيه - في ايجاد محلات لائقة لهم بجدة ومكة المكرمة - فاستأجرت منزلين بهما زودتهما بكل وسائل الراحة، وبالادوات الصحية العصرية، والأثاث الوثير الفاخر، والأطعمة النظيفة، وجهزتها بالثلاجات والمراوح الكهربائية وبالنور الكهربائي، فأصبح لا عذر من هذه الوجهة - حتى لمن تعودوا الترف والرفاهية - في عدم القيام بفريضة الحج. وكل ذلك بأجور غاية في الاعتدال لا تتجاوز جنيهاً مصرياً عن كل يوم بما في ذلك الأكل والنوم عن الشخص الواحد للسرير الواحد

نعم إن عدد الأسرة محدود في الوقت الحالي، ولكن مع زيادة الاقبال ستفكر الشركة في زيادة الأماكن

ويمكن حجز الأسرة من مكتب الشركة او بالباخرة او بذات المنازل بجدة ومكة

وزيادة في راحة الحجاج قبلت الشركة اقتراح (قومسيون نقل الحجاج) الخاص بالقيام بتقديم الغداء لهم بالبواخر في جميع الدرجات - فقامت بذلك في العام الماضي وستقوم في هذا العام بتقديم الغداء النظيف الصحي لهم جميعاً مغتبطة بعملها الذي تقصد به وجه الله قبل أن تنظر إلى الربح

فهي تقدم الى ركاب الدرجة الثالثة الخبر الكافي والأطعمة الصحية من الخضار واللحم والأرز والحلوى والجبن والزيتون للفطور والغداء والعشاء بمكيات وفيرة - وهي التي تشرف على شراء القمح وطحنه وعجنه وخبزه لتستوثق من أنها تقدم خبزاً جيداً نظيفاً غير مخلوط - كما تشرف على شراء الزيدة وتسييحها، وعلى شراء العجول والخراف الجيدة السليمة، وعلى ذبحها وطبخها لتقدم غداء شهياً صحياً كما قدمنا

وكان هذا بثمن زهيد قدره 40 قرشاً عن كل حاج الدرجة الثالثة طول مدة السفر بحراً ذهاباً وإياباً

ورابعاً - الاتفاق تام بين الشركة والحكومة الحجازية على بذل قصارى الجهد من جانبها لتمهيد الطرق وتوفير الوسائل الصحية والاجتماعية لراحة الحجاج

وقد تبرعت الشركة والبنك وبعض أهل الخير بمبالغ لاتمام المستشفيات في مكة المكرمة، وتجهيزها بأحدث الآلات الجراحية واشعة رنجتن ليمكنها القيام بأجل الخدمات لحجاج بيت الله الحرام على اختلاف اوطانهم ولأهل البلاد انفسهم

ص: 62

وهذا فوق أنه عمل إنساني جليل يزيد في اطمئنان الحاج، وتشجيع الاقبال على استكمال هذا الركن من الدين

وبما ان الحرب العالمية أثرت أكبر تأثير في رخاء المدينة المنورة ويسر أهلها حتى هاجر معظمهم وأصبح الباقون - من حضر وبادية - في ضنك عظيم يفتت الأكباد، كانت العناية بشؤونهم واجبة، وفي مقدمة ما يعني به دراسة حالة تلك الربوع، وأهل باديتها لعل الله يوفق لمشروع يشغل بعض الأيدي العاطلة ويشحذها لعمل فيه خير ورزق لهم، ويرد للمدينة بعض روائها القديم

خامساً - اتفقت الشركة مع الحكومة الحجازية على دراسة مشروع تعبيد محل السمعي بين الصفا والمروة ليكون أكثر انطباقاً لما يقتضيه من الاجلال والاحترام. وعلى منع أنهيال الاتربة عليه، وتدفق السيول التي تغشاه في أكثر الأوقات بل وتتعداه الى المسجد الحرام

وقد ارسلنا بعض الخبراء لدرس المشروع ووضع التصميمات والتقارير اللازمة لعرضها على الحكومة الحجازية والتفاهم على تنفيذها

سادساً - البحث جار فيما إذا كان من المتيسر إيجاد خط جوي بين جدة والمدينة لتيسير الزيارة لكثيرين ممن يستصعبونها الآن، وإذا نجح المسعى نتمكن من تنظيم خط جوي بين جدة والمدينة مرتين او ثلاث مرات في اليوم

فيتمكن الحاج من تأدية الزيارة والعودة في يوم واحد أو يومين لمن أراد البيت. وفي هذا كسب الزيادة لمن لا يجد في وقته متسعاً لها، او لمن تمنعه المتاعب من القيام بها، ولا ربح لأهل المدينة بسبب زيادة عدد الزائرين

سابعاً - أوجدت الشركة (كوثر) كما أوجدت في العام الماضي على (زمزم) مسجداً للصلاة ومكتبة بها كثير من كتب الدين والأدب وغيرها، كما أن بهما علماء يحاضرون الحجاج في أمور دينهم

ثامناً - أوجدت الشركة بالسويس لراحة الحجاج او عائلاتهم الذين يحضرون قبل ميعاد السفر او يرغبون في الاستراحة قبل مغادرتهم السويس في العودة (فندقاً) مستوفياً شروط النظافة والراحة، نسأل الله عز وجل أن يجعله نواة شركة للفنادق المصرية

تقوم بأيدي المصريين وأموالهم، وقد سميناه من باب التيمن (لوكاندة مصر)

ص: 63

تاسعاً - سيجد حجاج بيت الله الحرام على الباخرتين مكتبين لبنك مصر لتبديل العملة المصرية بالذهب او بالريالات السعودية ولتبديل هذه بالعملة المصرية - حين العودة - ولقد رأى من حج منهم في العام الماضي أي تسهيل عملنا. ولعلهم يذكرون أننا صرفنا لهم العملات الذهب والسعودية بأسعار أرجح مما كانت تصرف به في جدة أو مكة

واذا صح ما أذاعته الجرائد من أن الحكومة المصرية السينية تريد أن تكلفنا بصرف جنيهات ذهبية لحسابها الى الحجاج فنحن مستعدون للقيام بهذه العملية بالسعر الذي تحدده الوزارة، فيمتنع ما أذاعه في العام الماضي بعض المغرضين الذين لم يقفوا على حقائق الأمور - إذ ظنوا أننا أخذنا الذهب من الحكومة بالسعر الذي تشتريه هي به من السوق المصرية وبعناه بالأسعار العالية؛ على أن الحكومة قد باعت لنا الذهب في العام الماضي بسعره في (لوندرة) يوم البيع حتى دون استبعاد نفقات نقل الذهب براً وبحراً والتأمين والمحافظة عليه والقيام بمهمة المصارفة

ومع كل ذلك فقد بعنا الذهب للحجاج بأقل من الأسعار التي وجدوها في جدة ومكة ببضعة قروش في الجنيه. وقد بعنا للحجاج الريالات السعودية بثمن يرجح السعر الذي وجدوه بجدة بنحو نصف ريال سعودي في الجنيه، ومن صرفنا لهم بمصر بسعر أقل قبل معرفة حقيقة السوق رددنا لهم الفرق إما بالباخرة أو بالقيد لحسابهم الجاري لدينا بمصر، أو بصرفه لهم نقداً بعد عودتهم، ولم نسمع في تاريخ البنوك بمثل هذا

وقد عملنا الترتيب اللازم بحيث يرد لنا يوم قيام الباخرة من السويس تلغرافات بالسعر الحالي لكل العملات بجدة لنصرف للحجاج ما يلزمهم بأسعار أوفق لمصلحتهم

وفي حال تكيفنا من الحكومة بصرف الذهب لحسابها يكون ل بالسعر المتفق عليه ويعلن للحجاج

ولتسهيل قبض تحاويل بنك مصر على الحجاز ولراحة الحجاج قد جعلنا الصرف بجدة من محل وكلائنا بها (الحاج عبد الله رضا وشركاه) وقد عينا مندوباً للبنك بمكة بمنزل شركة مصر للملاحة البحرية لخدمة الحجاج وتأدية طلباتهم المالية وصرف التحاويل بها

وانفقنا في المدينة المنورة مع (حضرات الشيخ عبد العزيز الخريجي وشركاه) على أن يكونوا وكلاء في ذلك وهم من أشهر تجارها

ص: 64

وأمامنا مشروع بخصوص العملة سنعرضه على حكومتنا السنية عسى أن تقره للمواسم المقبلة، ففيه تحقيق مصلحة الحجاج وعدم غبنهم على قدر الاماكن. وإذا نجح هذا المشروع - ولا ندري لماذا لا ينجح - اتيح للحاج أن يحج ويعود دون أن يكون مضطراً لحمل نقود معه

فبنك مصر يتولى حينئذ شئونه المالية من البيت للبيت - على حد تعبير مصلحة السكة الحديد - فيدفع عنه بالحجاز كل الرسوم والضرائب وأجور للمطوفين والأتومبيلات والجمال مما هو مقرر في التعريفة بحساب الذهب - ويقدم له هناك ما يحتاجه من عملة سعودية لنفقاته المحلية المقررة بهذه العملة

وقد وافقت حكومة الحجاز على هذا المشروع الذي يضع حداً لفوضى تبديل العملة والتلاعب فيه، ولا يبقى إلا أن يعرض على حكومتنا السنية حتى إذا ما بدت لها مزايا فيه من عدم غبن الحجاج اقرته، وعملت على تنفيذه محاطاً بكل ما يضمن مصلحتهم

عاشراً - افردنا محلا في كل من الباخرتين لبيع الاحرامات (من بفتة وبشاكير) لمن يرغب فيها من الحجاج، وهي من صناعة شركة مصر للغزل والنسيج وأثمانها معتدلة

وحتى لا يطيل الحجاج في عودتهم المكث في جدة - رأت الشركة ان يكون نقلهم من جدة للطور على (زمزم) ومن الطور الى السويس على (كوثر) وهذا تسهيل كبير لهم ووفر في الوقت

مما تقدم ترون الجهد الجهيد الذي تبذله شركة مصر للملاحة البحرية، ويبذله بنك مصر لتوفير اسباب الراحة والطمأنينة لحجاج بيت الله الحرام كتب الله لهم السلامة في الذهاب والاياب ووقفنا لخدمتهم وتوفير اسباب الراحة والامان لهم أينما كانوا وحيثما حلوا

وكل ما نطلبه من حجاج بين الله الحرام هو أن يعاونونا على حفظ النظام والمواعيد وألا يكونوا سبباً في إثارة الخواطر بين تلك الربوع المقدسة، وليعلموا أننا لا نريد إلا راحتهم، فان رقع تقصير فعن غير قصد، ولنا من حسن نيتنا خير شفيع.

(وما هجرتنا إلا الى الله ورسوله)

ولما كانت العصمة لله، وما نحن إلا بشر نخطئ ونصيب، فانا على أتم استعداد لسماع أية ملاحظة بريئة، أو أية شوى نزيهة، أو أية نصيحة خالصة، أو إرشاد نافع، الى ما يكون

ص: 65

من ورائه تحقيق أمانينا جميعاً التي تنحصر في وجوب العناية بحجاج بيت الله الحرام والسهر على راحتهم ابتغاء مرضاة الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا

فبراير 1935

محمد طلعت حرب

ص: 66

‌القصص

كانديلورا

بقلم لويجي بيراندللو

صاحب جائزة نوبل لعام 1934

(لم يعرف للقصصي الايطالي لويجي بيراندللو، الذي فاز بجائزة نوبل الأدبية عام 1934، قصة كلاسيكية تجلت فيها مقدرته الفنية الرائعة، وتبينت فيها نظرته الفلسفية: (هذا او ذاك. . .) مثل ما تجلت في هذه القصة.)

انزل المصور الفنان (نين بابا) حافة قبعته بيديه الغليظتين ساعة ان قال لزوجته (كانديلورا): (لا فائدة ترجى. صدقيني يا عزيزتي أن لا فائدة ترجي.)

وصرخت كانديلورا مهتاجة: (وأي فائدة ترجى إذاً؟ افي معاشرتك ليقضي علي من الغضب والمعاندة؟)

ورد عليها نين بابا في هدوء: (نعم يا حبيتي. ولن دون أن يُقضي عليك. بقليل من الصبر. أنظري، سأذكر لك شيئاً. (شيكو). . . . . . .)

- إنني أمنعك من تسميته بهذا الاسم.)

- (ألا تسمينه كذلك؟)

- (نعم، ولأني أنا أسميه هكذا)

- (هه. . . . حسن. لقد ظننت أني أرضيك بهذا. أيجب أن أسميه البارون؟ البارون. أريد أن أقول إن البارون يحبك يا حبيبتي كانديلورا، ويبذل المال في سبيلك. . . .)

- (في سبيلي أنا يبذل المال؟ يا سافل! ألم يبذل من أجلك مالاً أكثر؟)

- (لو أنك تركت لي الكلام. . . . . هو يبذل المال من أجلي ومن أجلك. ولكن انظري، ما معنى أنه يبذل من أجلي مالاً أكثر؟ كوني منطقية مع نفسك. إن معنى ذلك أنه لا يقدرك إلا لأنك في ظلي الذي أخلعه عليه. هذا ما لا يمكن إنكاره.)

وتميزت كانديلورا من الغضب وقالت: (ظل؟ من شعاع لمثل هذا. . .) ورفعت قدمها

ص: 67

مشيرة إلى حذائها، ثم استطردت قائلة:(لم يلحقني منك إلا العار ولا شيء إلا العار!)

وتبسم نين بابا ، اجب بهدوء أكثر من ذي قبل:(كلا، أستميحك المعذرة: إن العار يلحقني أنا، فيما إذا ما تكلمنا عن العار. إنني الزوج. وهذا أهم شيء، صدقيني يا لوريتا. ولو لم أكن زوجك، ولم تعيشي في ضيافتي تحت هذا السقف، لفقدت كل جاذبية، أتفهمين؟ هنا يمكن للجميع أن يدللوك دون ان يخشوا عقاباً. والجميع يتمتعون متاعاً عظيماً بقدر ما تلحقين بي من عار وشنار. وبدوني يا لوريتا تصبحين شيئاً تافهاً شديد الخطورة، وما كان شيكو. . . البارون ليبذل. . . ماذا أنت فاعله؟ أتبكين؟ لا، انظري. . . إنني لا أقوال إلا هذراً.)

واقترب نين من كانديلورا. وأراد أن يسمك بذقنها، ولكن لوريتا قبضت على ذراعه، وفتحت فاها كحيوان مفترس وعضته، وطالت عضتها دون أن تتهاون. وكانت أسنانها تغور باستمرار في الذراع، بينما كان هياجها يزداد. وانحنى نين حتى يمكنها من ذراه، وأطبق على أسنانه وابتسم هادئاً للألم المروع الذي سببته له. وازدادت عيناه ضياء واتساعاً. ولما أن انفكت أسنان كانديلورا عن ذراعه - وكأن حملاً قد أزيح عنه - أحس بأن موضع ما أكلت جرح من النار، ولم ينبس بكلمة. وأخرج في هدوء ذراعه من ردائه، ولكن القميص لم يطاوعه، إذ كان قد غرز في اللحم الحي. وانطبعت على كم القميص بقعة من الدم، دائرة دموية، هي دائرة أسنان كانديلورا القوية. وكان أثر الواحدة بجانب الأخرى ظاهراً، وأخيراً تمكن نين من إخراج كم قميصه، والابتسامة لم تفارق وجهه الشاحب. وكانت رؤية الذراع وحدها تشيب. فموضع أثر كل سن في الدائرة جرح. وكان اللحم المحيط بالدائرة قد ايود لونه. قال نين مظهراً لما ذراعه:(ألا ترين؟) وصرخت كانديلورا، وهي ملقاة على المقعد تتمشدق:(هكذا أريد أن أعض قلبك!) وأجاب نين: (هذا ما اعرفه. وهذه الرغبة تقنعك بأنه أولى لك ألا تتركيني.

أذهبي بالقبعة، وأتني بصبغة اليود والشاش المعقم والرباط. جميعها في الخانة العليا من مكتبي يا لوريتا. هي الثانية من اليمين. إنني اعرف أنك حيوان صغير مفترس يحب العض، ولهذا أحرص دائماً على الضمادات اللازمة)

وأمسكت كانديلورا بذراعه ونظرت في عينيه وشفعتها بنظرة قصيرة إلى ذراعه، واعجب

ص: 68

نين بها ساعة هذه النظرة

لكانديلورا سحر في اللون والحركة، وهي تشحذه للعمل. فعينا الفنان تكتشفان في هذه المرأة اشياء ابداً جديدة ومتعددة. ففي هذه الظهيرة تبدو وهي في حديقة المنزل، وتحت شمس شهر اغسطس المحرقة، التي تنشر ظلالاً حادة في كل مكان، ولها أثر مخيف. وكانت في نفس الصباح، حينما آبت من حمام البحر حيث قضت بضعة أسابيع محترقة الجلد سمراء اللون من فعل الشمس وملح البحر، لون شعرها منطفئ، وضاءة العينين أشبه ما تكون بعنز تشتهي النوم. وكانت بذراعيها العاريتين المفتولتين وبكفلها النامي تظهر في كل حركة بسيطة أن رداءها الأزرق الحريري الذي يناقض لون جسدها ويلتصق به يكاد يتقطع. وكان هذا الرداء مدعاة للسخرية. لقد كانت كانديلورا تقضي نصف يومها عارية تمرح على شاطئ البحر المنعزل، وترقد بجسمها الصامد على الرمال المتقدمة من حرارة الشمس الملتهبة، بينما كانت تشعر بنسيم البحر البارد يهب على قدميها. فكيف لهذا الرداء الازرق ان يخفي عراها؟ لقد ارتدته مجاملة للعرف، ولكنه في الواقع اظهرها في حالة غير محتشمة اكثر مما لو كانت عارية

ومع كل ما كانت عليه من غضب لحظت في عينيه إعجابه بها. وسرت إلى شفتيها بفعل الغريزة ابتسامة الرضا. واستاءت لساعتها من فعلتها هذه. وانقلبت ابتسامتها ضحكة استهزاء. وصارت ضحكة الاستهزاء فجأة نحيباً وشهيقاً وهربت إلى المنزل

وأخرج نين بابا لسانه لها دون وعي وهو يرقب مسيرها. ثم نظر إلى ذراعه المجروحة التي تشع ألماً محرقاً من فعل حرارة الشمس. ثم شعر فجأة أن عينيه أغرورقتا بالدموع. ومن يعرف السبب؟ وتحت تلك الشمس المحرقة في وسط الحديقة حيث الظلال الحادة مترامية شعر بين بابا بأنه كاد ينزعج من وجود اشياء عدة لا حراك بها من حوله: الأشجار، وجذوع أشجار البلوط، والاحواض المركزة على جوانبها صخور صناعية، وسطح الماء الاخضر، والمقاعد ماذا تنتظر كل هذه الاشياء؟

إنه يمكنه أن يتحرك وأن يسير. ولكن يا للغاربة! كأن كل هذه الاشياء التي من حوله ولا حراك بها تنظر إليه؟ ثم هي لا تنظر إليه مجرد النظر بل ترسل إليه سخريتها في سحر يشع من جمودها العجيب، وصورت له أن قدرته على المسير ليس من ورائها طائل، إلا

ص: 69

أن تظهره بمظهر الغباوة الداعية للسخرية

وهذه الحقيقة تمثل ثراء البارون شيكو. وهنا سكن نين بابا منذ ستة شهور، إلا أنه لم يشعر بالاشمئزاز من نفيه ومن كانديلورا إلا في صبيحة أمس، وحين آبت الساعة من البحر تجسم وزره ووزر عراها أمام عينيه. غير أنه اضطر إلى الضحك ساعة أن قالت له تهرب الآن من هذا العار. وقد أفصحت له أنها تبغي ذلك

حقاً إن صور نين بابا ستلقي رواجاً بعد الآن. وان قيمة فنه الجديد الخاص به قد بلغت اخيراً أعلى مرتبة. وليس ذلك لأن الناس حقاً فهموه، ولكن أمزجة الأغنياء من زوار معرضه وعقلياتهم تنقاد لحكم النقد الفني فيقفون إزاء لوحاته معجبين

النقد؟ وأيضاً كلمة النقد لا وجود لها في غير سراويل النقدة.

والناقد الذي قصدته كانديلورا وجلة يوماً ما، لكي ترجمة في وجهه بأنه غير عادل حين يؤدي بفنان مثل نين بابا الى التهلكة جوعاً - ذلك الناقد الكلمة دون غيره، كتب مقالاً عظيماً يلفت به انظار المترددين الى فن نين بابا الجديد والطابع الشخصي فيه.

ولكنه طلب أجراً مقابل اعترافه بالفنان. على ألا يُدفع هذا الاجر نقداً، بل شكراً حيوياً تقدمه كانديلورا له. ولم يكن من كانديلورا إلا أن قدمت دون تريث هذا الشر جزيلاً. غير قاصرة على ذل الناقد، بل عممت هذا الشكر للذين أعجبوا بفن زوجها، ذلك الفن الجديد. فقد ملكتها نشوة فرح لانتصار زوجها. وشكرت الجميع وبخاصة البارون شيكو، الذي جرى في ذلك إلى حد أن ترك للزوجين منزله، حتى يكون له شرف إيواء فنان معذب. . . .

مسكينة كانديلورا! لقد خافت الفقر وقالت ان الفقر ليس هو الحاجة ولا الذل. وانه ليس لما حق فيما يكسبه زوجها. ودفعتها عدم اهليتها هذه للانتقام. وعلى اي صورة؟ منزل. سيارة. قارب بخاري، حلى. جواهر ثمينة، تنزهات خلوية. أدوات زينة. مآدب. . . ولم تشعر هي بغضب منه، إذ بقي دون أن يتغير في شيء. . . فلا هو حزين ولا هو فرح، ولا زال مهملاً في هندامه كما كان. . . . . . . وليست له بهجة في غير الوانه. لا يعرف مطلباً سوى التفرغ لفنه، حتى يصل إلى القرار، القرار المكين، كي لا يرى شيئاً من صور الحياة الوضيعة التي تحيط به

ص: 70

من المحتمل، كلا، بل بكل تأكيد ان تلك الحياة الوضيعة - حلى لوريتا والترف والدعوات والمآدب - تدل على شهرته. شهرته وعاره - ولم لا؟ وماذا يهمه من أمر ذلك؟

إنه يقدم روحه وكل ما فيه للمتعة بورقة يدخل عليها الحياة برسمه، بينما يصير هو لحماً ودماً وشرايين لتلك الورقة. أو للمتعة بحجر صلب لا حس فيه ليجعله فوق لوحته حجراً حياً حساساً، هذا ما يعنيه

عاره؟ حياته؟ حياة الآخرين؟ سباب الأجانب الذي لا فائدة من الانصات اليه؟ إنه لا يحيا إلا لفنه، وهو العمل الذي يتمخض عنه النور والألم ويتمثل في روحه

وقال هذا الصباح للوريتا وكأنه في عام آخر إنها تعجبه - دون أن يعير الأمر اهتماماً خاصاً - حقاً إنها أعجبته، لأنها ارتضت أن تكون شريكة مطيعة في الحياة، غير عابثة بالفقر، شركة قنوعاً راضية، له أن يطمئن الى صدرها، وطبيعي أن تهاجمه لوريتا كنمرة. ولكن ماذا نفعل بعد ذلك؟ ألا تعود بصبغة اليود والشاش المعقم والضماد؟ لقد صعدت المسكينة باكية

الآن يجب أن يحب لوريتا. ولربما كان ذلك رد فعل لعدم مبالاته. أليس ذلك جنوناً؟ ولو أنه كان يحبها حقاً لحق عليه قتلها. عدم المبالاة هذا ضروري، هو المقدمة التي لا مفر منها، وليتحمل العار الذي تمثله الى جانبه. أيهرب من هذا العار؟ كيف يمكن ذلك. وكل منهما قد رأى هذا العار ليس بعيداً عنه ولا محيطاً به بل رآه في نفسه أيضاً. والسبيل الوحيد هو ألا يهتم كلاهما بذلك. فهو يتابع تصويره وهي توالي تمتعها بشيكو مؤقتاً ثم بغيره أو به مع غيره في وقت واحد، فرحة غير حاملة هماً. إن الحياة. . . . لا شيء. . . وهي تسير على هذه الوتيرة أو تلك، دون أن تترك أثراً. ويجب على الانسان أن يضحك من الأشياء التي ولدت خبيثة، والتي ليس لها من الكيان ما يغري، أو لها كيان، ولكنه قبيح يجعلها تتألم الى أن تصبح رماداً مع الزمن. وكل شيء يحمل طيه آلام تكوينه، آلام مصيره الذي لا قدرة له على تغييره. وهذا هو الجديد في فنه، إذ يجعل أشخاصه يشعرون بذلك الألم. . . وهو يعرف جيداً أن كل أحدب عليه أن يعرف كيف يحمل حدبته معه. وينطبق ذلك على الوقائع كما ينطبق على الأشخاص. فاذا ما كانت الواقعة واقعة فستبقى كذلك دائماً أبداً، ولن تغير. فكانديلورا مثلاً لو أنها بذلت أقصى جهدها لتصير خلواً من

ص: 71

العار ما كانت أصلاً عندما كانت فقيرة لما استطاعت. ولعل كانديلورا لم تك قط خلواً من العار حتى في أيام طفولتها. وإلا لما أمكنها فعل ما فعلت، ثم هي تفرح لعملها هذا

وتحت حرارة الشمس انقبض الدم في موضع العضة من ذراعه، وتجعد سطحه وازداد نبضه وانفتحت يده وتوترت شرايينه

واستفاق نين بابا من تأملاته وخطا نحو المنزل ونادى مرتين عند مدخل السلم وفي الممشى:

(كانديلورا! كانديلورا!)

ورن صدى صوته في الغرف الخالية ولم يجبه أحد. دخل في الغرفة المجاورة لمحل عمله ومكتبه، ولكنه تراجع من هول ما رأى. كانت كانديلورا منبطحة على أرض الغرفة البيضاء المفعمة بالنور. ورداؤها في غير انتظام. وكأنها دارت حول نفسها فانكشف فخذها. أسرع أليها ورفع رأسها، يا ألهى ماذا فعلت. الفم والذقن والرقبة والصدر يضرب لونها بين السواد والصفرة: لقد شربت صبغة اليود

ثم ناداها قائلاً: (إنه لا شيء! لا شيء ما هذه الفعلة الحمقاء يا حبيبتي كانديلورا. يا طفلتي. . . إنه حقاً لا شيء. . . إنه يؤذي المعدة طبعاً قفي)

وحاول أن يوقفها على قميها؛ ولكنه فشل، إذ أن المسكينة قد تصلب جسمها من شدة الألم. ومع ذلك لم يقل لها مسكينة، بل قال:(طفلتي. . .! طفلتي. . . .!) ذلك لأنه ظن ان تجرعها اليود أمر تافه مزر. (طفلتي!) رددها ثانية، وقال لها (يا صغيرتي الحمقاء). وحاول أن يستر فخذها بالرداء الأزرق فقد أصاب منه نظراً، وأدار عينه الى الناحية الأخرى حتى لا يرى فمها الأسود

هو وحده في ذلك المنزل. لقد وصلت لوريتا اليوم من حمام البحر. وكانت قبل ذهابها قد طردت الخادمة، فلا أحد يساعده على رفعها من الأرض، ولا أحد يأتي بعربة تحملها الى أقرب مستشفى حتى يؤدوا لها الاسعافات السريعة. ولحسن الحظ سمع بوق سيارة البارون شيكو وهي قادمة في الطريق، وسرعان ما ظهر البارون بهندامه الأنيق ووجهه الأصفر الذي ينم عن شيخ ضعيف العقلية مديد القامة متصاب

وثبت البارون شيكو (المونوكل) على إحدى عينيه وقال: (ماذا جرى؟)

ص: 72

وصرخ نين في وجهه قائلاً: يا إلهي، ساعدني على إنهاضها)

ولم يكادا يحملانها حتى رأيا أن يدها التي كانت منطوية تحت فخذها قابضة على المسدس، كما رأيا تغرة من الدم

وتنهد نين: (آه. . . آه. . .) وهو ينقلها هو وشيكو إلى غرفة النوم

إن لوريتا لم يتصلب جثمانها من شدة الأم، ولكن من الموت. ولما وضعت الجثة على السرير صرخ نين بابا وجه شيكو قائلاً:

(من كان معكما في حمام البحر؟ قل لي من كان هذا الصيف معكما في الحمام؟)

وفقد شيكو صوابه وتمتم ببعض الأسماء

وزأر (نين) كالوحش وهجم عليه وأمسكه من قميصه وهزه هزات عنيفة وقال له: ([اإلهي! كيف يكون كل غني متمول أبله قصير النظر؟)

وتساءل شيكو وقد خاف على نفسه، وكان من شدة الخوف يتراجع باستمرار:(انحن حقاً بلهاء؟)

واشتد تأنيب نين بابا إياه، وقال له:(أنتم، نعم أنتم بلهاء لدرجة أنكم تذكون الأمل في المساكين بأنهم سيكونون محبوبين مني! أتفهم ذلك؟ منى! منى! منى - محبوبين!)

ثم وقع على جثمان لوريتا وانفجر يبكي بكاءاً مراً

عربها عن الألمانية:

ا. ا. ي

ص: 73

‌من روائع الشرق والغرب

الوادي

لشاعر الطبيعة والجمال لامرتين

تعب قلبي كل شيء حتى من الأمل،

فلن يثقل بعد اليوم بأمانيه على القدر،

فأعرني يا وادي صباي وأحلامي،

ملجأ يومٍ انتظر فيه موافاة حمامي

ذلك هو الشعب يضرب في حشايا الوادي،

والغابات الكثيفة تقوم على سفوح الربي،

وأدواحها الحانية تقلى الظلال على جبيني

فتملأ شعاب نفسي بالسكون والغبطة

وهناك جدولان اختفيا تحت أعراش الخضرة،

يرسمان في انسيابهما منعطفات الوادي،

ثم يمتزح منهما الموج والخرير بالخرير،

ويفنيان وهما من المنبع على مدى قصير

كذلك جرى نبع أيامي جريان هذين الجدولين،

ثم ذهب من غير هدير ولا سمة ولا رجعة!

ولكن ماءها كان صافياً شديد الصفاء؛

اما نفسي فلم يتراءَ في كدرها صفو ولا هناء!

إن طراءة الجدولين وبرودة الظلال،

تعقلانني طيلة النهار على ضفافهما الخطيبة،

أهدهد نفسي على خرير مائها السلسال،

كما يُهدهَدُ الفل على المناغاة الرتيبة

ص: 74

آه، حبذا المقام هنا بعيداً عن الناس وحيداً مع الطبيعة!

يحيط بي سور أخضر من رياض الأرض،

ويقوم حوالي أفق محدود فيه مجال للبصر،

فلا أسمع غير همس الموج ولا أبصر غير وجه السماء

لقد رأيت كثيراً واحسست كثيراً واحببت كثيراً

ثم جئت هنا حياً لأبحث عن هدوء (ليتيه)!

فيا أيها الوادي الجميل! كن لي ذلك

النهر الذي يُذهب بالنسيان هموم القلب؛

ففي النسيان وحده منذ اليوم سعادتي ونعيمي

إن قلبي في رخاء ونفسي في سكون،

وإن ضوضاء العالم لتفنى قبل أن تصل إلي

كالنغم البعيد يخفت على طول المدى

ثم لا يقع منه في الآذان إلا صدى

من هذا المقام ومن خلال ذاك الغمام

أرى الحياة حولي تغوص في غيابة الماضي،

فلم يبق مائلاً غير الحب بقوى ويتجدد،

كالصورة الكبيرة تبقى على اليقظة من حلم تبدد

استروحي يا نفس في هذا الملجأ الأخير،

كالمسافر اللاغب يجلس على باب المدينة،

وقلبه ذاخر بالأمل والطمأنينة،

فيستثنى قبل أن يدخل نسيم المساء العبث

فلننفض عن اقدامنا الغبار كما نفض هذا الرجل المجهود،

فانا لن نسلك هذه الطريق مرة اخرى؛

ولنْنْشق مثله في آخر المدى المحدود،

نفحات الهدوء المبشر بالسلام الدائم

ص: 75

إن أيامك الكئيبة القصيرة كأيام الخريف،

تنقبض انقباض الظلال عن حوادر الهضاب؛

فالصداقة تغدر بك، والرحمة تتخلى عنك،

وتقطع وحدك الدرب الى عالم القبور

ولكن الطبيعة هناك تهيب بك وتحنو عليك!

فألق نفس في أحضانها التي لا تتجافى عنك،

فان كل شيء يتنكر لك وينزوي عنك إلا الطبيعة،

فجوها هو الذي ينضح على آلامك،

وشمسها هي التي تشرق على أيامك

بالأشعة والظلال لا تزال تحيطنا الطبيعة.

فطهر قلبك من الغرور الباطل والمتاع الزائل،

واعبد هنا الصدى الذي يعبده فيثاغورس،

وأرهف أذنك مثله لموسيقى السماء.

ثم اتبع الشمس في السماء والظل في الأرض،

وطِرْ في السهول مع ريح الشمال،

وحُس مع شعاع هذا الكوكب الهادي

خلال الغابات في ظلال هذا الوادي.

إن الله خلق العقول لتدركه،

فاكتشف في الطبيعة خالق الطبيعية؛

فان صوتاً لا يني يُحدث المرء عن ربه،

ومن ذا الذي لم يُصخْ إلى هذا الصوت في قلبه؟

الزيات

ص: 76

‌صائب التبريزي

أبيات شتى

1 -

نحن كالقسي: نصيبنا من صدينا انحناء طهورنا، وكل ما نحوز لغيرنا

2 -

ليدي جرأة غير ما عهد الناس؛ لا تحبني غصناً غفل عنه الحراس

3 -

ليس الظالم بنجوة من سهام آهات المظلوم، إن أنين القوس قبل أنين الهدف المكلوم

4 -

يا رب من دعا علينا أن نكون كقافلة الأمواج: ليس في سفرنا للاستراحة منزل

5 -

ليس اطمئناناً سكون القلب في مصابه، ولكن ضاقت الدنيا عن اضطرابه. إن خفقان النجم يصيح في لوعة: ليس هذا البناء المعوج مكاناً للدعة

6 -

خُتم المجلس ليلاً بحديث طرتك المسلسلة، فتنهض كل من نهض وفي رجليه سلسلة. إن الأعصار الذي هب في هذه الصحراء، روحه المجنونة الحائرة يلفها الغبار في الفضاء

7 -

إن الجذبة التي سلبت كف الجنون العنان، بدأت فقطعت من محمل ليلي الزمام

8 -

ليست أوجه الاثنتين والسبعين ملة إلا إلى هذه السدة؛

ترى عاملاً حيران، ولم يضل أحد طريقه

9 -

إن قطرة من الدموع تكفي لخراب العالم، كما تبدد قطرات الماء نوم النائم

10 -

ولّ وجهك شطر الحانة ثم انظر طمأنينة القلب - انظر عالماً فارغاً من فكر الغد، إنك تطبق كالحباب عينك فترى نفسك، ولو فتحت عينك للضياء، لأبصرت فناءك في هذه الدأماء

11 -

إن عيني لتطير كالشرار الى نوم الفناء، كما بعدت عن وجهك الناري الوضاء

12 -

أضاء في كل ظفر هلال للعيد، ليلة تناولت كأساً من ذكر السعيد

عبد الوهاب عزام

ص: 77

‌الكتب

ضحايانا الأطفال

تأليف أجنس دي ليما

ترجمة الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف

طبعته لجنة التأليف والترجمة والنشر وثمنه 10 قروش

تعتبر تربية النشىء وإعدادهم للحياة من أهم المسائل وأجدرها بعناية أولى الأمر وسواهم من المربين والكتاب؛ وتشعر مصر في نهضتها الحالية بشديد الحاجة إلى تقرير سياسة عامة تأخذ بها في تربية أبنائها، ذلك أنها قضت زمناً طويلاً تحت تأثير عوامل مختلفة امتد خطرها فشمل جميع نواحي الحياة، وفي مقدمتها أمور التربية والتعليم، فقد احكمت الأغلال وأقيمت العراقيل في تلك الناحية الجوهرية من نواحي التقدم، وكانت نتيجة ذلك أن أصبحت سياسة التعليم عندا مهلهلة، وصارت ثقافتنا مذبذبة، وظلت مصر في لبس من الأمر تسير إلى غير قصد، ولا تستند في سيرها إلى مبدأ

لذلك يحق لنا أن نغبط بكل بحث في التربية يضطلع به من تأخذه الغيرة من أبناء مصر، ولقد اعتزمت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أن تضم إلى مجهوداتها المتنوعة في نشر الثقافة إصدار سلسلة من كتب التربية بين معرب ومؤلف، تحت إشراف الأستاذ اسماعيل القباني تحاول فيها كما جاء في مقدمة الأستاذ في هذا الجزء الأول من السلسة، (أن تبسط على التتابع النظريات والاتجاهات السائدة في عالم التربية في الوقت الحاضر، والأسس الاجتماعية والسيكولوجية التي تقوم عليها، وأساليب تطبيقها في نختلف الظروف والبيئات، ونتائج التجارب التي أجريت عليها) وغاية القائمين بهذا العمل الجليل أن يمهدوا السبيل لأن (تكون لنا فلسفة للتربية توفق بين أحدث الآراء في العالم من جهة، وأغراض النهضة القومية التي لاح فجرها في مصر من الجهة الأخرى)

وهذا الكتاب، الذي أحدثك عنه هو الحلقة الأولى من تلك السلسلة المباركة اضطلع بترجمته الأستاذ الجليل محمد عبد الواحد خلاف مدير إدارة الجمعية الخيرية الاسلامية، فأخرجه على الرغم من شواغله الجمة على خير ما يرجى من جمال سبك وحسن نظام

ص: 78

ولهذا الكتاب في موضوعه، وفيما انتهج من طريقة أهمية فريدة، ذلك أنه ليس من تلك الكتب التي تتناول موضوع التربية من ناحيته الجافة، ناحية النظريات العلمية المجردة التي تهتم بالقضايا دون الوقائع، أو بعبارة اخرى تهتم بمبادئ العلم دون من تنطبق عليهم تلك المبادئ من الاطفال، فان تلك الكتب النظرية في منحاها محصورة الفائدة ثقيلة في الغالب تتطلب من القارئ صبراً طويلاً، وجهداً كثيراً، لي يستخلص منها ما يرجو من فائدة، وإن كان ما يصيبه منها في النهاية معاقاً بقواعد العلم أكثر منه بغايته

وإنك لتستبين روح الكتاب من عنوانه، فمؤلفته تنكر النظم المدرسية التقليدية، وتعتقد أننا نضحي بأولادنا ونعاملهم كما لو كانوا أعداءنا بالقائهم في تل الأبنية التي هي أشبه بثكنات الجند، حيث يكتنفهم جو خانق بغيض من قوانين ونظم، يؤخذون بها أخذاً في كل صغيرة او كبيرة من حركاتهم، وحيث يجرعون من مواد الدراسة مالاً غنية فيه من معلومات يسأمونها وفنون من القول والعمل يساقون اليها في طرق عسكرية، توبق أرواحهم، وتطمس على قلوبهم وتغل نشاطهم، وتحول بينهم وبين الاستقلال الشخصي والنبوغ الذاتي

ولن تقف المؤلفة في كتابها موقف الهادم، بل إنها تسلك طريقة إيجابية، فتعرض على القارئ كثيراً من التجارب العملية في بعض المدارس الحديثة بأمريكا ومبلغ نجاحها، وما أنتجه من أثر في تغيير وجهة التربية تغييراً يمهد السبيل لناء هذا العلم من جديد على أسس عملية، تحل مشاكله وتضمن للطفل ما يرجى له من سعادة، وما يرجى منه للمجتمع

وتلك الروح العملية هي الميزة الفذة لهذا الكتاب التي سبق أن أسرت اليها، فهو خلاصة تجارب مربية متحمسة لمبدئها عاملة على إسعاد الطفل وإعداده لحياته خير إعداد. وهذه الميزة فضلاً عن عظيم فوائدها قد خلصت الكتاب من روح السأم وأنجته من الثقل، فأنت تطالعه في تشوق واستمتاع، وتقف منه على أمور كثيرة شيقة، كاستخدام مقاييس الذكاء واستكشاف الفرد، والسير وراء الطفل، وحالة بعض المدارس التجريبية، ومدارس العمل مع الدراسة واللعب، وتجارب بعض أساطين التربية في مختلف مراحل التعليم وسواها من المسائل العملية

والأستاذ المترجم بطويل خبرته، ونافذ بصيرته، وضلاعته في الانجليزية، كفيل بان يحفظ للكتاب روحه في لباسه العربي، وأنا وإن أقرأ الأصل، أحس من دقة الأداء ومن سهولة

ص: 79

الفهم واستواء التراكيب العربية، على بعد ما بين اللغتين من الاختلاف في البناء والأسلوب، أن التعريب قد تم على خير ما يرجى اتباعه في تناول مثل هاتي الكتب الدقيقة، فاذا أضفت الى هذا أن الاستاذ خلافا متحمس لهذه النظرية، كثير الترديد لها في أحاديثه كلما تطرق الحديث الى نقد التربية في مصر، أيقنت معى أنه خير من يضطلع بنقل هذا الكتاب الى لغتنا

وإني لعظيم الغبطة، إذ أقدم هذه الحلقة الأولى، أو هذه الباكورة الطيبة من سلسلة التربية، الى جمهور المربين والمدرسين وعامة القراء، شاكراً للأستاذ خلاف حسن اختياره وحميد مجهود

الخفيف

الاسلام والحضارة العربية

تأليف لجنة التأليف والترجمة والنشر وثمنه 15 قرشاً

أصدرت لجنة التأليف والترجمة والنشر الجزء الأول من كتاب الاسلام والحضارة العربية، وقد طبع في دار الكتب ويقع في نحو ثلثمائة وستين صفحة

أوحت فكرة هذا الكتاب إلى مؤلفه الجليل الأستاذ كرد علي، أريحية عربية نبيلة، تتبينها في مثل قوله (وسبيل هذا الموجز الآن تصحيح هفوات من أساءوا وما برحوا يسيئون للعرب ودينهم ورسولهم ومدنيتهم وذكر ما أثرته الحضارة العربية في أمم الغرب والشرق، وما مني به الاسلام، لما غير أهله ما بأنفسهم، من خصماء غير رحماء، نالوا من روحه وجسمه فالتاثت أحواله وتنكرت معالمه والألماع إلى ما قام به المسلمون بعد طول الهجعة، يلبون على استعارة مجد أضاعوه، وعلقوا اليوم يقطعون إليه أشواطاً، حتى لم يبق أمامهم غير مراحل لبلوغ الغاية)

وما أحسب تسمية هذا الكتاب بالموجز إلا تواضعاً من صاحبه، فهو من الكتب الحافلة بشتى المسائل والبحوث. ثلثه الأول يدور حول الرد على مخالفي الاسلام وتفنيد مزاعمهم وبيان منازعهم في الخلاف، فتقرأ فيه كثيراً من التهم التي ألصقها المتعبون بالاسلام والرد عليها في قوة حجة وسلامة منطق، يصحبهما الهدوء والرزانة، كما يدعمهما سعة الاطلاع

ص: 80

ونفاذ البصيرة، ومن أمثلة المسائل التي يتوق كل مسلم بل كل منصف إلى الوقوف على حقيقتها، والتي شرحها الأستاذ أحس شرح وفندها خير تفنيد، ما نسب إلى الاسلام من مذابح دينية وما اتهم به المسلمون من إحراق مكتبة الاسندرية، ومن بغضهم حرية الفكر وتعصبهم ضد العلم، وما يردده الشعوبيون من أباطيل وتهم كمسألة صدق الرسول في دعوته، والقضاء والقدر وتعدد الزوجات والطلاق والحجاب والاسترقاق والربا والتصوير والنقش. . . الخ.

ولم يقتصر الأستاذ المؤلف على ما ساق من براهين، بل لقد مكنته سعة اطلاعه من عرض أقوال المبطلين، مشيراً إلى ما ينهض منها حجة على أصحابها وما ينسخ منها بعضه بعضاً، كما أنه كان موفقاً غاية التوفيق في بيان العوامل التي أدت الى جفاء الغربيين في موقفهم من الاسلام، وفي بيان ما يقعون فيه من أخطاء وأسباب تلك الأخطاء، التاريخي منها والديني والثقافي، مما يعد بحق من أجل الخدمات التي يؤديها رجل نحو دينه ويضطلع بها عالم ابتغاء الحقيقة

وفي ثلثي الكتاب الباقيين، يستعرض الأستاذ كرد علي أحوال العرب منذ جاهليتهم، فيتكلم عن العرب قبل الاسلام وديانتهم وأثر المدنيتين اليهودية والنصرانية فيهم، ثم عن العرب في الاسلام، مبتدئاً بشرح عاداتهم وأخلاقهم وأثر الاسلام فيهم مورداً رأى لبون ودوزى في الفتوح العربية، ولقد عني ببيان ما عرفه العرب من علوم ومبلغ عناية خلفائهم بالعلم وتشجيع العلماء، وبين مواطن اللغة العربية وأثرها في اللغات الشرقية والغربية

وكان طبيعياً بعد ذل أن يتعرض لوصف حال الغرب في شباب الاسلام، فيقابل بين ما كان يتمتع به العرب من نور ونظام، وما كان يتخبط فيه الأفرنج من فوضى وظلام، وأشهد لقد كان معتدلاً منصفاً في هذا الباب، فلم يجر على سنن غيره من متعصبي الغرب، ولن تحس له حقداُ او تتبين في نقده سخيمة او ضغناً بل كان رائده الدليل والحجج التاريخية

ولقد قدم هذا الباب توطئة لبيان أثر العرب ومدينتهم في الغرب، فن له من هذا الوضع الطبيعي وهذا الترتيب المنطقي خير مساعد، وراح يعرض لنا ما كشفه العرب وما ابتكروه وما نقلته عنهم أوربا عن طريق اسبانيا وصقلية وجنوبي إيطاليا، ثم عقد في خاتمة هذا الجزء أربعة فصول هامة، قارن في أحدها بين موقف المسلمين وأعدائهم في الحروب

ص: 81

الصليبية، وبين في فصلين منها غارات المغول والأتراك والمستعمرين من الغربيين على بلاد المسلمين وغيرهم، وشرح في الفصل الأخير اثر المدينة الغربية في البلاد العربية وما تخللها من خير وشر

وإني لأتقدم بجزيل الثناء إى الأستاذ كرد علي، موقناً أن من يطالعون هذا الكتاب من أبناء العربية سيشكرون له شدة إخلاصه وحسن بلائه

الخفيف

ص: 82