الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 830
- بتاريخ: 30 - 05 - 1949
5 - أمم حائرة
المدارس أو دور العلم
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
أعني كل موضع درس، من المدارس الابتدائية والمدارس الثانوية والمدارس العالية ومنها الجامعات، فلنتوجه إليها لعلنا نجد هدى بعد حيرة، واطمئناناً بعد قلق. ولعلنا نجد صلاحاً لأمورنا، وطباً لأدوائنا، وتأليفاً لنفرتنا، وجمعاً لشملنا:
كان من عناية الأمم والحكومات بالتعليم والتربية أن أنشئت هذه الأنواع من المدارس وعم نظامها؛ وقد سرنا على نهج الأوربيين في أنواعها، وموضوعات دروسها، ومناهجها، إلا قليلا. وكثرت هذه المدارس وشاعت في المدن والقرى ولا تزال تكثر وتشيع.
وزالت، أو كادت تزول، ضروب الدراسة القديمة؛ سواء ما كان لتعليم الصبيان مثل الكتاتيب أو دور الكتَّاب، وما كان لتعليم الكبار كالمدارس التي كانت في القاهرة والإسكندرية وأسيوط وقوص وغيرها، ومدارس العلماء الخاصة في بيوتهم أو مساجدهم. وتم قيام الحكومة على التعليم وإشرافها عليه، واضطلاعها بأعبائه، وانفرادها بتدبيره.
غفلنا في فتنة المدارس والشهادات عن ضروب من الدراسة للمبتدئين والمنتهين كان يضطلع بها ناس في القرى والمدن ابتغاء خير الناس أنفسهم. ولو عنينا بهم، وحمدنا فعلهم، وأثبناهم عليه، وحفزناهم إليه، لمضوا يحملون عن الحكومة بعض العبء، ويسدون بعض الحاجة. ولكنا أغفلنا أمرهم، وهجرهم الناس إلى المدارس الجديدة فحملت الحكومة العبء باهظاً، واحتملت الأمانة وحدها.
وقد سرنا سيراً، وتقدمنا تقدماً، وأصبنا مغانم كثيرة. فازداد إقبال الناس على المدارس، وعظمت عناية الحكومة بها، واستجابت لرغبات الراغبين في دخولها والحصول على شهاداتها فنيل وظائفها. فكثرت المدارس ثم كثرت، وازدحمت بالمدرسين ثم ازدحمت.
وغلونا في الاعتداد بالتعليم المدرسي غلواً دفعنا إلى الإسراع فيه قبل الإعداد له، وإلى الازدحام على المدارس بأكثر مما تسع.
وغفلنا في هذا الغلو عن ضروب من التعليم والتهذيب خارج المدارس وحسبنا أن القراءة والكتابة هي وسيلة التثقيف لا وسيلة غيرها. وكم من أناس نبغوا وهو لا يقرءون، ودرسوا وهم لا يكتبون، هدتهم التجارب وهداهم السمع والبصر إلى ما اهتدى إليه القارئون أو قصروا عنه.
لا أجحد فضل الكتابة على الحضارة، ونعمتها على البشر. ولكني آخذ على الناس الغلو في إعظامها والغلو في احتقار ما سواها من الوسائل. ولا أنكر أن الوسائل الأخرى في أكثر الأحيان راجعة إليها مستمدة منها. لا أنكر هذا وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولكن أدعو إلى أن يسجل الناس معارفهم ثم ينتفعوا بها بكل وسيلة من إقراء أو إشهاد أو إسماع إلى أن تعم الكتابة كل فرد. وكم في تاريخ العلم من نابغ ضرير لم يقرأ.
وانتبهنا فراعنا جموع تغدو وتروح إلى دور العلم، لا تمس الثقافة أرواحها، ولا يتصل العلم بقلوبها، وإذا المدارس كالمطابع تخرج كتباً لا عقولاً، وتكثر أمثلة لا أنفسا، أو كالمصانع ترمي بقوالب متشابهة وأشكال متماثلة.
وانتبهنا فراعنا أن نرى هم الطالب في الجامعة أن يمضي سنوات تنتهي به إلى شهادة، وأن نراه يكتفي بما يجتاز به الامتحان، ويجتاز الامتحان بأية وسيلة، فإذا طوى السنين واجتاز الامتحان وظفر بالشهادة شرع يطالب بحقه في الوظائف، وينادي بما في يده، لا في عقله وقلبه، من شهادة، ويخدع نفسه بما يدعي من علم، ويزدري الناس إذ لم يبلغوا من العلم ما بلغ، ولم تشهد لهم الأوراق كما شهدت له.
وتنظر إلى المتعلم في الطريق وفي المدرسة فلا يرضيك هيئته، وتكلمه فلا يعجبك حديثه، وتختبره فلا يسرك علمه ولا اعتقاده ولا رأيه، إلا قليلاً من الطلبة الصالحين غلبت طبائعهم وأخلاقهم وأسرهم هذه البيئة الفاسدة المفسدة الحائرة الجائرة.
وننظر فإذا التلاميذ يهجرون الدرس إن استطاعوا، ويقعدون عن دور العلم إن قدروا؛ وإذا طلبة الجامعة، وقد أوتوا نصيباً من الحرية؛ يهجرون المحاضرات أو يكتفون بالقدر الذي يحتمه القانون، بل يحتالون له بتوقيعات مزورة أحياناً ليسجلوا لأنفسهم هذا المقدار.
لقد رأيت تلميذاً خارجاً من الجامعة ضحوة النهار ينادي صاحبه في غير خجل (الأمريكيين الساعة 11). ويكاد يكون الداء كله، والشر جميعه هنا. هذه المقاهي والملاهي التي تجذب
الصبيان والشبان بالليل والنهار وتشغلهم عن أعمالهم، وتفتنهم عن آدابهم، وتفسدهم بكل ضروب الفساد.
إن التلميذ الذي يترك محاضرته وأستاذه ومكتبته ليسارع إلى الأمريكيين وغير الأمريكيين لا يرجى منه خير. وإن التلميذ الذي يمضي ليله أو بعض ليله ساهراً في هذه الملاهي لا تبقى فيه بقية لتعليم أو تهذيب. وليس الإثم عليه ولكن على من أحاطوه بهذه الفتن ثم خلوا بينه وبينها.
ثم نظرنا فإذا التلميذ خارج على كل نظام، مزدر بكل قانون، مستهين بمعلمه ومدرسته وحكومته وأمته، من حيث يدري ولا يدري؛ وإذا أقرب شيء إلى نفوس التلاميذ أن يصيح صائح بهجر الدرس، أو ينعق ناعق بتدمير المدرسة، أو يأمر شيطان بالهجوم على معلم أو ناظر، أو الاقتحام على مجلس الجامعة وفيه كبار الأساتيذ، فتردد الصيحة، وتستجاب الدعوة، فينطلق الشر من عقاله إلى غير غاية. ونظرنا فإذا هذا الهرج والمرج وما هو أشنع من الهرج والمرج.
ويقولون الحرية! لنا الحرية أن نخرج إذا شئنا، وأن نضرب إذا أردنا. ويمضون في دعوى الحرية فإذا لهم الحرية في أن يخرجوا غيرهم من دور العلم قَسراً، وإذا لهم الحرية في أن يحرموا إخوانهم حريتهم في الاستماع إلى الدرس، وينكروا على معلمهم الحرية في التدريس، وإذا الفئة القليلة الشاغبة لها الحرية في أن تخرج الفئة الكثيرة الحريصة على العلم، وإذا هذه الكثرة المستمعة إلى الدرس ليس لها الحرية في أن تستمع، ولهذه القلة الصاخبة كل الحرية في أن تمتنع عن الدرس وأن تمنع غيرها.
وانتبهنا فراعنا أن شفقة الآباء وبر الأولاد - وكانا عماد ما بين التلميذ وأستاذه - قد ضلاّ في هذه الضوضاء، وامّحيا في هذا الشقاء. وإذا آلات كآلات المكينة تدور لا عقل لها ولا قلب، ولا سمع ولا بصر.
فنقول رحم الله زماناً كان سرور التلميذ وفخره بأن يكلمه أستاذه، وأن يكبّ هو على يد أستاذه يقبلها في المدرسة وغير المدرسة! ورحم الله أيام كان طلبة الأزهر يقبلون يد الشيخ عقب كل درس ويتنافسون في حمل حذائه إلى الباب.
وعلى ذكر الأزهر أقول: إنه لم ينج من هذه الفتن، وكان الرجاء أن ينجو، ولم يبعد عن
هذا القلق، وكان الأمل أن يبعد، فزهِد طلابه في العلم زُهدَ غيرهم، وضربوا واختصموا وكان منهم ما كان من طلبة المعاهد الأخرى لم يتخلفوا عنهم، ولم تثبتهم سُنن الإسلام، ولا وقرهم تاريخ الأزهر ووقاره وسمعته، ولا عصمهم من هذا البلاء عاصم.
ذلك بأن الأمة عامة لا تحرص على السنن، ولا تعني بالاحتفاظ بالتاريخ، وأن الأزهر خاصة أخذته فتنة الحديث والقديم، فأشفق من تاريخه، وجهد أن ينافس غيره في الأخذ بالمحدثات، وخشي أن يقال إنه دون غيره معرفة بالعصر، ومسايرة له، واقتباساً منه، فغلبه التقليد حقيقة وإن تظاهر بالاستقلال والاجتهاد. ولو ثبته الفكر الحر، ووقره التاريخ المديد، لأخذ من العصر شيئاً ورد أشياء، ووافق في أمر وخالف في أمور، وخط لنفسه من تاريخه ومما أحدثت المدنية من علوم وآداب خطة تميزه، وسار على طريقة هي طريقته ومنهج هو منهجه، ولكان للأمة ملجأ إذا حارت الأفكار وتنازعت الأهواء، ولكان للأمة قدوة في الدين الحق، والعمل الصالح، وفي مقاصد الإسلام ووسائله وسننه وغاياته، وفي البعد عن سفساف الأمور والأخذ بجلائلها.
لقد حافظت جامعات إنكلترا على سننها أكثر مما حافظ الأزهر، وهي لا تتصل بالدين اتصاله، ولا توغل في التاريخ إيغاله.
إننا في حاجة إلى من يقتبس الصالح غير متردد، ومن يتمسك بالصالح غير هياب، ومن يعتد بنفسه وأمته وتاريخه فيقول: هذا حسن وهذا قبيح، وهذا يصلح لي وهذا لا يصلح. ذلكم هو الأساس الذي يرسو عليه البناء، وتلكم الخطة التي تستقيم بها الأمور.
وأنا حين آخذ على الطلبة هذه المآخذ لا ألقي التبعة عليهم، وأرد الذنب إليهم، فإنهم يَنشئون كما يُنَشَّئون، وينبتون كما يزرعون، وتصوغهم البيئة على أحوالها، وتربيهم الأمة على مثالها. لا ألومهم ولكن ألوم البيئة التي سيرتهم هذه السيرة، ولا أحقد عليهم بل أرحمهم مما تهافتوا فيه على غير علم. فأنا أعيب المعلم قبل المتعلم، وآخذ الأستاذ بأشد مما آخذ به التلميذ، وأعيب البيئة والنظام قبل أن أعيب الناشئ الغِرّ، وأشفق على الشاب وأرحمه، وأذم أثر البيئة فيه، وطابع التربية عليه، لنعمل على إصلاحه، ونجهد في إنقاذه.
ولست في قولي هذا يائساً ولا متشائماً؛ ولكني أدعو إلى تدارك الشر قبل استفحاله، ومداواة الداء قبل إعضاله، وإلى تجنب هذه الطرائق، والحذر مما تؤدي إليه، وأنهى عن السير
على غير هدى، والأخذ بغير تمييز، والقبول بغير نقد.
أرى أمورنا في حاجة إلى بحث ودرس، ونقد وتمييز، وإلى أن تسيرها آراء العلماء على خطة واضحة، وطريقة مستقيمة، فلا تترك الأمور فوضى، ولا تبحث الأشياء فُرادى، بل يتناولها النظر المحيط، والنقد الشامل، ويجمعها النظام التام، والخطة الجامعة، يضعها علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الأخلاق وعلماء التاريخ وعلماء الدين.
نريد مدارسنا ومعاهدنا دور تعليم وتثقيف، ومباءة إصلاح وتهذيب، ومصدر محبة ومودة وألفة وأخوة، يتجلى فيها الخضوع للقانون، والإجلال للنظام، والقيام بالواجب، وإيثار الخير العام، والكلف بالمروءات، والتحلي بالآداب، والترفع عن الدنايا. نريد أن كون بين المعلمين والمتعلمين ما بين الأب الرحيم والابن البار، وأن تكون المعاهد كلها أسراً كبيرة قائمة على التراحم والتعاضد، تخرج للأمة كل حين من يتولى إصلاحها ويكفل هدايتها. نريد أرواحاً لا أجساداً، وأشخاصاً لا أعداداً، ومعاني لا ألفاظاً، وحقائق لا صوراً. ونسأل الله التوفيق.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
من أعلام رجال الفكر في عصر الحروب الصليبية:
ابن دقيق العيد
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
تقي الدين أبو الفتح محمد بن مجد الدين أبي الحسن علي بن وهب ابن مطيع القشيري.
ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة 625 بظهر البحر الأحمر، قريباً من ساحل مدينة ينبع بالحجاز، وأبواه متوجهان من قوص للحج، قالوا: وحمله والده على يديه، ودعا ربه، وهو يطوف به الكعبة أن يجعله من العلماء العاملين، فاستجاب الله دعوته.
وكانت أسرة ابن دقيق العيد قد اتخذت قوص موطناً لها بعد أن هجرت مدينتها الأولى منفلوط، فنشأ الفتى بقوص، وكانت من أهم مراكز الثقافة في ذلك الحين، فحفظ القرآن الكريم، ثم درس فقه مالك على والده الذي كان من أئمة المالكية، كما أخذ عنه الحديث والأصول، ودرس في قوص إلى غير والده أيضاً، فأخذ فقه الشافعية عن تلميذ والده بهاد الدين القفطي، ودرس الأصول على علم من أعلام هذه المادة وهو شمس الدين الأصبهاني، والنحو على شرف الدين المرسي، ثم رحل في طلب العلم إلى القاهرة والإسكندرية ودمشق والحجاز، وأخذ عن كبار علماء عصره مثل الحافظ المنذري وعز الدين بن عبد السلام، وعليه درس فقه الشافعي أيضاً، وبهذا أتقن وهو شاب مذهبي الشافعي ومالك إتقاناً عظيما بلغ به درجة الإفتاء بهما، وقد قال فيه ابن القوبع من قصيدة يمدحه بها:
صبا للعلم صبَّا في صباه
…
فأعْلِ بهمة الصب الصبي
وأتقن والشباب له لباس
…
أدلّة مالك والشافعي
وعاد الشاب إلى مدينته وقد درس الفقه على المذهبين، وأصول الفقه، والحديث وعلومه، وعلم الكلام، والتفسير والنحو واللغة والأدب، وكان أكبر ما امتاز فيه الفقه والحديث.
أما في الفقه، فقد ارتفع عن مستوى التقليد المطلق الذي يقف فيه عند نصوص الأئمة لا يحيد عنها، بل يرتفع إلى حيث يستخلص الأحكام من أدلتها في الكتاب والسنة.
قال مؤرخه فتح الدين اليعمري: (وكان حسن الاستنباط للأحكام والمعاني من السنة والكتاب، بلب يسحر الألباب، وفكر يفتح له ما يستغلق على غيره من الأبواب، مستعيناً على ذلك بما رواه من العلوم).
وقال عنه أبو حيان: (هو أشبه من رأيناه يميل إلى الاجتهاد)
ولعل ابن دقيق العيد كان يرى نفسه مجتهد عصره، فإنه كان يؤمن بأن كل وقت لا يخلو من مجتهد. وقد وضع كتاب الإلمام، وجمع فيه الأحاديث التي يستنبط منها الأحكام، مما يدل على ما وصل إليه من درجة ممتازة في الاستنباط والاستدلال.
وأما في الحديث، فقد برع في معرفة متنه وإسناده وعلله، حتى أصبح أوحد عصره فيه، وله في علوم الحديث مؤلف دعاه (الاقتراح في معرفة الإصلاح)، وإليه أسند وإلى قوص التدريس في دار الحديث التي أنشأها بها.
وقد ساعده على بلوغ هذه المنزلة من العلم ذكاء ممتاز، ودأب على التحصيل، وسهر بالليل للدرس، وشره في القراءة، وغرام بالإطلاع. قال الأدفويّ في الطالع السعيد:(كان له قدرة على المطالعة. رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب، من جملتها عيون الأدلة لابن القصَّار في نحو من ثلاثين مجلدة، وعليها علامات له. وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على السنن الكبير للبيهقي، فيها من كل مجلدة علامة، وفيها تاريخ الخطيب كذلك، ومعجم الطبراني الكبير، والبسيط للواحدي، وغير ذلك)؛ وأخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الترندري أنه لما ظهر الشرح الكبير للرافعي اشتراه بألف درهم وصار يصلي الفرائض فقط، واشتغل بالمطالعة إلى أن أنهاه مطالعة. ويقال إنه طالع كتب مكتبة المدرسة الفاضلية عن آخرها، وكانت ذات مكتبة ضخمة حافلة.
وإلى جانب غرامه بالقراءة كان كثير النقد والتحري والتدقيق فيما يقرأ، لا يقبل الشيء من غير أن يعمل فيه فكره فيقبله أو يرفضه.
ولعل كثيرين من مقدريه وعارفي فضله قد نصحوه بمغادرة قوص إلى القاهرة، حيث يظفر فيها بالتقدير وبعد الصوت والرزق الواسع، وحيث يجد المجال واسعاً لذيوع علمه والشهرة ورفيع المناصب، وقد تردد ابن دقيق العيد في قبول هذا العرض، ظنَّا منه أن نيل ذلك كله لا يكون إلا بفقد شيء من الكرامة، والتهاون في كثير من أمور الدين، وهو يحدثنا عن ذلك في قوله:
يقولون لي: (هلا نهضت إلى العلا
…
فما لذ عيش الصابر المتقنع
وهلا شددت العيس حتى تحلها
…
بمصر إلى ذاك الجناب المرفع
ففيها من الأعيان مَن فيض كفه
…
إذا شاء روى سيله كل بلقع
وفيها قضاة ليس يخفى عليهمُ
…
تيقن كون العلم غير مضيّع
وفيها شيوخ الدين والفضل والأولى
…
يشير إليهم بالعلا كل إصبع
وفيها. . . وفيها. . . والمهابة ذله
…
فقم، واسع، واقصد باب رزقك، واقرع)
فقلت: (نعم أسعى إذا شئت أن أُرَى
…
ذليلا مهاناً مستحقاً لموضع
وأسعى إذا ما لذ لي طول موقفي
…
على باب محجوب اللقاء ممنع
وأسعى إذا كان النفاق طريقتي
…
أروح وأغدو في ثياب التصنع
وأسعى إذا لم يبق فيَّ بقية
…
أراعي بها حق التقى والتورع
وكم بين أرباب الصدور مجالس
…
يشب لها نار الغضا بين أضلع
فإما توقي مسلك الدين والنهي
…
وإما تلقي غصة المتجرع)
وكان في صميم قلبه يرجو أن يظفر بالرفعة من غير أن يفقد في سبيلها كرامته، وهذا هو السر في نقمته على أرباب المناصب الذين لم يعرفوا قدره، ولم ينزلوه ما هو جدير به من رفيع المنازل، تحس بذلك في قوله:
أهل المناصب في الدنيا ورفعتها
…
أهل الفضائل مرذولون بينهم
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم
…
منازل الوحش في الإهمال عندهم
فما لهم في توقي ضرنا نظر
…
وما لهم في ترقي قدرنا همم
فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم
…
مقدارهم عندنا أو لو دروه هم
لهم مريحان: من جهل وفرط غنى
…
وعندنا المتعبان: العلم والعدم
ولكن يظهر أن الحالة المالية لابن دقيق العيد دفعته إلى المجيء إلى القاهرة، حيث ولي المدرسة الصلاحية سنة 680، ودرس الحديث بدار الحديث الكاملية وكان له منزل بها، وعلم الفقه على مذهبي الشافعي ومالك بالمدرسة الفاضلية، كما درَّس أيضاً بالمدرسة الصالحية والقبة المنصورية.
ومع ذلك لم يُثرِ ابن دقيق العيد، بل لم يدفع عن نفسه شر الفاقة، وكان يضطر إلى الاستدانة أحياناً، وإن كان قد ظفر أخيراً بالثراء والرخاء، فاستمتع وأكثر من التسري، وكان ينعى حظه قائلا:
سحاب فكري لا يزال هامياً
…
وليل همي لا أراه راحلا
قد أتعبتني همتي وفطنتي
…
فليتني كنت مهيناً جاهلا
وربما كانت رغبة ابن دقيق العيد في الاستمتاع بمباهج الحياة هي التي دفعته إلى أن يعترف للشيخ زكي الدين بأنه أدين منه. حكى تاج الدين الدشناوي قال: (خلوت به مرة فقال: يا فقيه، أفزت برؤية الشيخ زكي الدين عبد العظيم؟ فقلت: وبرؤيتك؛ فكرر الكلام، وكررت الجواب؛ فقال: كان الشيخ زكي الدين أدين مني؛ ثم سكت ساعة وقال: غير أني أعلم منه!
وظفر ابن دقيق العيد بشهرة واسعة، وصوت بعيد، وتقدير عميق في قوص والقاهرة، حتى في أيام أساتذته. وفي سنة 695 ولّي قضاء قضاة الشافعية في الديار المصرية، وقد استقبل كثير من مقدريه قبوله هذا المنصب بشيء من العتب عليه واللوم، ورأوا فيه حطاً من عظيم قدره، وكانوا يفضلون بعده عن مناصب السلطان ويعدون ذلك زلة له، ولكني لا أوافقهم على ما ذهبوا إليه، ولا سيما أن ابن دقيق العيد كان أحب الناس برعاية الحقوق وإحقاق العدالة، ورسائله إلى من كان يعينهم من القضاة يحثهم فيها على تحري الحق، ويخوفهم من الظلم، ويشعرهم بما عليهم من التبعة تدلنا على مقدار ما ظفر به المنصب يوم حله هذا العالم الممتاز. وكان هو نفسه يشعر بثقل العبء الملقى عليه قاضياً، فكان يقول:(والله ما خار الله لمن بلي بالقضاء)؛ ويقول: (لو لم يكن إلا طول الوقوف للسؤال والحساب لكفى). وأثر عنه في القضاء آثار حسنة، منها انتزاع أوقاف كانت أخذت واقتطعت لمقتطعين، ومنها أن القضاة كان يخلع عليهم الحرير، فخلع على الشيخ الصوف واستمرت، ورتب على الأوصياء مباشراً من جهته، وكان يكتب إلى نوابه يذكرهم ويحذرهم.
ولم ينج ابن دقيق العيد وهو في منصب القضاء من ساخطين عليه، هجوه بالشعر حيناً، وبالزجل حيناً آخر. قال برهان الدين المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين:(كنت أباشر وقفاً فأخذه مني شمس الدين محمد بن أخي الشيخ وولاه لآخر، فعز عليَّ، ونظمت أبياتاً في الشيخ فبلغته، فأنا أمشي مرة خلفه وإذا به قد التفت إليَّ وقال: (يا فقيه، بلغني أنك هجوتني؟) فسكت زماناً فقال: (أنشدني)؛ وألح عليَّ، فأنشدته:
وليت فولي الزهد عنك بأسره
…
وبان لنا غير الذي كنت تظهر
ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها
…
ولو كان عن جبر لقد كنت تعذر
فسكت زماناً، ثم قال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان؛ فقال: ما علمت بهذا. ورد الوقف إليه.
وارتفعت منزلته عند سلاطين عصره، فكان السلطان لاجين ينزل له عن سريره ويقبل يده. وفي سنة 698 بعد وفاة الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله، أرسل إليه السلطان الناصر محمد يستشيره فيمن يوليه الخلافة بعده.
واستمر ابن دقيق العيد في منصب القضاء، وإن كان قد عزل منه نفسه أحياناً، حتى مات يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة 702، ودفن يوم السبت بسفح المقطم.
قال الأدفوي في الطالع السعيد: (وكان ذلك يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، سارع الناس إليه، ووقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه، رحمه الله تعالى، وهو ممن تألمت على فوات رؤيته، والتملي بفوائده وبركاته).
ورثاه الشريف محمد بن محمد القوصي بقصيدة طويلة منها قوله:
سيطول بعدك في الطلول وقوفي
…
أروي الثرى من مدمعي المذروف
لو كان يقبل فيك حتفك فدية
…
لفديت من علمائنا بألوف!
يا طالبي المعروف، أين مسيركم؟
…
مات الفتى المعروف بالمعروف!
ما عنَّف الجلساء قط، ونفسه
…
لم يخلها يوماً من التَّعنيف
يا مرشد الفتيا إذا ما أشكلت
…
طرق الصواب، ومنجد الملهوف
من للضعيف يعينه أنَّى أتى
…
مستصرخاً، يا غوث كل ضعيف
أفنيت عمرك في تقي وعبادة
…
وإفادة للعلم أو تصنيف
لهفي على حبر، بكل فضيلة
…
علياء من زمن الصبا مشفوف
كان الخفيف على تقيّ مؤمن
…
لكن على الفجار غير خفيف
أمنت أحاديث الرسول به من
…
التبديل والتحريف والتصحيف
ومضى وما كتبت عليه كبيرة
…
من يوم حل بساحة التكليف
صبراً بنيه، قوة من بعده
…
صبر الكريم الماجد الغطريف
كما رثاه جماعة من الفضلاء والأدباء بالقاهرة وقوص.
وترك كثيراً من الأولاد، فكان له من الذكور عشرة سماهم بأسماء الصحابة، وأخذ عنه عدد ضخم نبغ من بينهم جم غفير صار منهم المحدثون والنحويون وقضاة القضاة.
وألف كثيراً من الكتب: منها كتاب الإلمام، الجامع أحاديث الأحكام، وقد أثنى العلماء ثناء جما على هذا الكتاب، حتى ادعى بعضهم أنه ما وضع في هذا الفن مثله. وقال عنه تقي الدين بن تيميه:(هو كتاب الإسلام) وشرع في شرحه؛ ولكن يظهر أنه لم يتمه. وقد اشتمل الشرح فضلا عن الأحكام المستنبطة على أنواع أدبية، ونكت خلافية، ومباحث منطقية، ولطائف بيانية، ومواد لغوية، وأبحاث نحوية، وعلوم حديث، وملح تاريخية، وإشارات صوفية. ومنها كتاب الإمام في الأحكام، وهو في عشرين مجلداً، وشرح كتاب التبريزي في الفقه، ومقدمة المطرزي في أصوله، كما شرح بعض مختصر ابن الحاجب في الفقه، ووضع في علوم الحديث كتاب الاقتراح في معرفة الاصطلاح. وله مصنف في أصول الدين.
وكان ابن دقيق العيد إلى جانب امتيازه في التدريس والتأليف خطيباً بارعاً سمعه الشاعر المعروف أبو الحسين الجزار وهو يخطب بقوص فأعجب ببلاغته، ثم أنشده مادحاً له:
يا سيد العلماء، والأدباء،
…
والبلغاء، والخطباء، والحفاظ
شنفت أسماع الأنام بخطبة
…
كست المعاني رونق الألفاظ
أبكت عيون السامعين فصولها
…
فزكت على الخطباء والوعاظ
ستقول مصر إذ رأتك لغيرها
…
ما الدهر إلا قسمة وأحاظ
ويقول قوم إذ رأوك خطيبهم:
…
أنسيتنا قسِّا بسوق عكاظ
وجمع له ديوان خطب.
وكان يقول الشعر، وقد رأينا بعض نماذج له، وتستطيع بقراءته أن تعرف بعض خلجات نفسه، وروى مؤرخوه كثيراً من هذه النماذج، فتسمعه حيناً ينقم على حظه ويقول:
الحمد لله، كم أسعى بعزمي في
…
نيل العلا، وقضاء الله ينكسه
كأني البدر أبغي الشرق والفلك
…
الأعلى يعارض مسعاه فيعكسه
كما جأر مرة أخرى بالشكوى من الفقر حين قال:
لعمري، لقد قاسيت بالفقر شدة
…
وقعت بها في حيرة وشتات
فإن بحت بالشكوى هتكت مروءتي
…
وإن لم أبح، بالصبر خفت مماتي
وأعظم به من نازل بملمة
…
يزيل حيائي أو يزيل حياتي
ويلجأ إلى الله قائلا:
وقائلة: مات الكرام، فمن لنا
…
إذا عضنا الدهر الشديد بنابه
فقلت لها: من كان غاية قصده
…
سؤالا لمخلوق فليس بنابه
لئن مات من يرجى فمعطيهم الذي
…
يرجونه باق فلوذوا ببابه
وتلمس حبه للوقار وغرامه به، حتى قالوا: إن العادَّ يستطيع إحصاء كلامه، لأن كثرة الكلام تذهب بالوقار في قوله:
تمنيت أن الشيب عاجل لمَّتي
…
وقرب مني في صباي مزاره
لآخذ من عصر الشباب نشاطه
…
وآخذ من عصر المشيب وقاره
وله شعر كثير في مدح الرسول، ومن ذلك موشحه أوردها صاحب الفوات منها قوله:
بنى العز للتوحيد من بعد هدمه
…
وأوجب ذل المشركين بجده
عزيز قضى رب السماء بسعده
…
وأيده عند اللقاء بجنده
فأورده للنصر أعظم مشرع
وله نثر لا يخرج عن طريقة أهل عصره الذين أغرموا بالسجع والمحسنات البديعية، ونجد له نماذج في كتبه وفي الطالع السعيد، كما كان مطلعاً على كتب الأدب، حتى لقد كان الشهاب محمود يقول عنه:(لم تر عيني أدب منه).
ويثني مؤرخوه على أخلاقه الاجتماعية والشخصية، وكان خفيف الروح لطيفاً على نسك وورع، ودين متبع، يقابل الإساءة بالعطف والإحسان، شفيعاً بالمشتغلين، كثير البر لهم، جواداً كريماً، يحاسب نفسه ويشتد في حسابها.
كل ذلك قد دفع معاصريه ومؤرخيه إلى أن يغمروه بإعجابهم إلى آخر درجات الإعجاب. فهذا فتح الدين بن سيد الناس يقول: (لم أر مثله فيمن رأيت، ولا حملت أنثى بأجل منه فيما رأيت ورويت، لا يشق له غبار، ولا يجري معه سواه في مضمار). وقال الذهبي عنه: (كان إماماً متفنناً، مجوداً محرراً، فقيهاً مدققاً، غواصاً على المعاني، وافر العقل، كثير
السكينة، تام الورع، سمحاً، جواداً، زكي النفس، عديم الدعوى).
أما السبكي فيقول عنه: (شيخ الإسلام، الحافظ الزاهد الورع، الناسك المجتهد المطلق، ذو الخبرة التامة بعلوم الشريعة، الجامع بين العلم والدين، والسالك سبيل الأقدمين، أكمل المتأخرين وبحر العلم الذي لا تكدره الدلاء، ومعدن الفضل الذي لقاصدة منه ما يشاء. . . ولم ندرك أحداً من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، وأنه أستاذ زمانه علماً وديناً).
وذكره ابن أبي الإصبع صاحب كتاب البديع في كتابه فقال: (هو من الذكاء والمعرفة على حالة لا أعرف أحداً في زمني عليها).
وهكذا ظفر ابن دقيق العيد بإعجاب لا حد له، ولا يزال اسمه إلى اليوم يذكر في الفقه محاطاً بهالة من الإكبار والإجلال.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول
الأعلام والرايات
للأستاذ أحمد رمزي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
السلطان وأتباعه من الملوك المتغلبين:
كان أولَ من ملك مع خلفاء الإسلام وتلقب بالسلطان هم بنو بويه، ثم جاءت دولة آل سلجوق ففاق ملوكها من تقدمهم وأصبحت دولتهم إمبراطورية ضخمة، خطب لملوكها فيما بين الصين وأسوار القسطنطينية، ثم ظهر في أنحائها المختلفة أتباعها وهم:
بنو طفتكينبالشام
بنو قطلميشببلاد الروم
بنو سكمانبخلاط وأرمينية
بنو ارتقبماردين
بنو زنكيبالشام
بنو أيوببمصر والشام
ثم التركالذين ورثوا ملك مصر
ويهمنا منهم أمر زنكي: لأن صاحب النجوم الزاهرة يقول (أنشأ بنو زنكي بني أيوب سلاطين مصر وأنشأ بنو أيوب دولة الترك وأول ملوكهم الملك المعز (أيبك). فانظر إلى أمر الدنيا وكيف أن كل طائفة سبب نعمة طائفة)
وتم هذا التسلسل في سيادة الممالك وتولي أراضيها وكل بيت جاء من أتباع من تقدمه وأصل الأتابكة أي آل زنكي هو قسيم الدولة آق سنقر وكانت تركيا من أصحاب السلطان ركن الدين ملكشاه ابن ألب أرسلان السلجوقي.
وكان آق سنقر من أتباع هذا السلطان.
وبدأ ملكه في حلب والذي أشار بتوليته هذه المدينة الوزير نظام الملك.
وكان ملكشاه هذا من جملة الملوك السلجوقيين المتغلبين على البلاد.
إذن كانت ولاية البيت الأتابكي في نطاق الدولة السلجوقية، واستمرت هذه التبعية قائمة مدة
زنكي وفي أيام نور الدين الشهيد، وهي العلاقة القائمة بين التابع والمتبوع. كانت تنكمش أحياناً حتى لا تصبح شيئاً ثم تظهر في ترتيب المملكة وقواعدها ومردُّ ذلك إلى سلطة المتغلبين على الأراضي التي يفتحونها أو يستولون عليها. وبقدر ما يزيد استقلالهم يزيد تمسكهم بتقليد من كانوا هم تابعين لهم في أبهة الملك والسلطنة وأخصها الأعلام وترتيب الجيوش ونظام الإقطاع.
وتبدو هذه التبعية في ثنايا التاريخ غير واضحة تماماً فيما كتبه مؤرخو مصر والشام، ولكن مؤرخي المشرق، أقصد بذلك بغداد وما يليها من الأقاليم يتحدثون عنها في فقرات متباعدة.
ومن قبل هذا ما جاء في ابن الجوزي عن حوادث سنة 538 من أن العلاقات ساءت بين السلطان وزنكي، حتى جمع الأول العساكر لقصد الموصل والشام وترددت رسل زنكي (حتى تم الصلح على مائة ألف دينار تحمل في ثوب فحمل ثلاثون ألفاً ثم تقلبت الأحوال فاحتيج إلى مداراة زنكي وسقط المال وقيل بل خرج ابن الأنباري فقبض المال).
ولو شئنا تفصيل هذه العلاقات لخرجنا عن موضوعنا إلى دراسة الإمبراطورية السلجوقية وعلاقاتها مع التابعين لها، ومع ذلك أنقل فقرة لتفسير ما جاء في ابن الجوزي فنحن نعلم أن زنكي وجد ولايته وقد أحدق بها الأعداء والمنازعون من كل جانب. الخليفة المسترشد والسلطان مسعود وأصحاب أرمينية وأعمالها وبيت سكمان وركن الدولة داود صاحب حصن كيفا وابن عمه صاحب مردين ثم الفرنج صاحب دمشق.
ولذلك جاء في أعلام النبلاء نقلا عن الروضتين (أن زنكي كان ينتصف منهم ويغزو كلا منهم في عقر داره ويفتح بلادهم ما عدا السلطان (مسعود السلجوقي) فإنه لا يباشر قصده، بل يحمل أصحاب الأطراف على الخروج عليه فإذا فعلوا عاد السلطان محتاجاً إليه، وطلب منه أن يجمعهم على طاعته) وفي هذا تفسير الحاجة إلى مداراته.
ودليلي على أن الخلافة كانت تنكمش أحياناً فلا تملك من الأمر شيئاً أمام سلطان السلاجقة والمتغلبين وأن سلطان هؤلاء كان ينصرف إلى السيطرة على أراضي الممالك، وهذا ما أجاب به الخليفة سنة 530 حينما طالبه زنكي بمال لتجهيز الجند إلى واسط إذ قال (البلاد معكم وليس معي شيئا فاقطعوا البلاد) أي أعيدوا توزيعها.
من هذا يتضح أن الخلافة العباسية أصبحت في ذلك الوقت مظهراً دينياً أكثر من أن تكون
صاحبة قوة وغلبة، وأن شعائرها هي شعائر الخليفة السني العباسي وإن مبادرة السلاطين والملوك إلى الحصول على تقليد الخلافة، كان القصد منه أن يرتكز الملك والفتح على أسس شرعية متفقة مع قواعد الدين: لا الخضوع إلى ملك العباسيين والإقرار بسيادتهم الفعلية.
فنور الدين حينما يرسل صلاح الدين لفتح مصر، يفهم أنه يمد في سلطانه وهذا في حرصه على الاستقلال بمصر لا يجهر بما يبيته في نفسه، بل يحتفظ بمظاهر التبعية في شعار المملكة وترتيبها، كما كان يحرص الأتابكة في الاحتفاظ بمظاهر التبعية لآل سلجق ما دام هؤلاء على شيء من القوة والعظمة، فإذا ضعف السلاجقة أو الأتابكة أخذوا البلاد لأنفسهم وحصلوا على إقرار الخليفة كما حصل من قبلهم آل سلجوق على الملك والسلطنة.
وفي ذلك يقول صاحب صبح الأعشى (واعلم أن الدولة الأيوبية لما طرأت على الدولة الفاطمية وخلفتها في الديار المصرية خالفتها في كثير من ترتيب المملكة وغيرت غالب معالمها وجرت على ما كانت عليه الدولة الأتابكية عماد الدين زنكي ثم ولده الملك العادل نور الدين محمود بالشام).
وألمس أن الأتابكة لم يبتدعوا بل ساروا على سنن السلاجقة في كل ما استحدثوه من أنظمة ثم كانوا حريصين على أن يحتفظوا بمظاهر السلطنة السلجوقية في الأعلام والرايات وأنظمة الجند والإقطاع وغير ذلك. بل كان اتخاذ الأعلام السلجوقية مما يقوي مركزهم ويجعلهم مساوين لأصحاب هذا العلم ثم جاء صلاح الدين فنحى نحوهم واتخذ شعائر السلطنة على أعلامه ابتداء من فتح حلب كما سيأتي.
الأعلام:
حدد صاحب صبح الأعشى هذه الأعلام بقوله (هي عدة رايات منها راية عظيمة من حرير أصفر مطرزة بالذهب عليها ألقاب السلطان واسمه وتسمى العصابة وراية عظيمة في رأسها خصلة من الشعر تسمى الجاليش ورايات صفر صغار وتسمى الصناجق).
والدخول في شرح هذا التقسيم واستعمال كل نوع وأصله مطلب صعب المرتقى، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أن استعمال هذه الأعلام كان من عمل الدولة الكبرى أولاً أي من شعائر الدولة السلجوقية قبل أن يستعملها ملوك مصر من الترك أو الأيوبيين أوآل زنكي الذين
كانوا في ذلك مقلدين لا مبتدعين.
قال السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه: (وأول من حمل السنجق على رأسه من الملوك في ركوبه غازي ابن زنكي وهو أخو السلطان نور الدين محمود ابن زنكي صاحب الشام).
ونقل هذا صاحب صبح الأعشى فقال: (إن غازي أحدث حمل السنجق على رأسه فتبعه الملوك في ذلك وألزم الجنود أن يشدوا السيوف إلى أوساطهم ويجعلوا الدبابيس تحت ركبهم عند الركوب).
ويفهم عن عبارته أنه اخترع هذا الشعار الذي أخذ به بعده أبناء عمه في الشام، ولكن صاحب النجوم الزاهرة يقول:(الملك غازي ابن زنكي بن آق سنقر التركي أخو السلطان نور الدين محمود الشهيد الأتابكي هو أول من حمل السنجق على رأسه من الأتابكية ولم يحمله قبله لأجل ملوك السلجوقية).
ويقول صاحب عقد الجمان (وهو أول من حمل على رأسه السنجق من أصحاب الأطراف فإنه لم يكن فيهم من يفعله لأجل السلاطين السلجوقية).
إذن كانت الأتابكية أقل من السلطنة وكان أصحابها من ملوك الأطراف وكانوا يتحاشون الأخذ بمظاهر السلطنة، التي هي من حق ملوك آل سلجوق الذين لهم وحدهم هذا بانتمائهم إلى البيت المالك الذي يمثل سلطان السلاطين كما يفهم أن ملوك الأطراف كانوا يحاولون أن يتشبهوا بمن هم أعلى منهم، وأن هؤلاء كانوا يمنعونهم من ذلك حتى لا يرقوا إلى مرتبة تقرب من مرتبة من يتولى الرياسة والصدارة بين السلاطين لأن استعمال شعار السلطنة معناه التساوي في المرتبة والقوة.
ويظهر من كلام فضل الله في عهد دولة المماليك الأتراك: (أن من عادة السلطان إذا ركب يوم العيدين ويوم دخول المدينة يركب وعلى رأسه العصائب السلطانية وهي صفر مطرزة بألقابه وترفع المظلة على رأسه وهي قبة مغشاة بأطلس أصفر مزركش عليها طائرة من فضة مذهبة يحملها بعض أمراء المئين وهو راكب فرسه إلى جانبه وأمامه الطبردارية مشاة وبأيديهم الأطبار).
ويعلق صاحب المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ناقل هذه الفقرة بقوله: (العصائب
المذكورة حرام وقد بطلت الآن والحمد لله) مما يدل كراهية الناس لها النوع من مظاهر الأبهة المأخوذة من ترتيب ممالك آل سلجوق وبني بويه وغيرهم.
ولكن اللون الأصفر بقى حتى نهاية استقلال مصر بل وأدخل على المظلة وهي من بقايا ترتيب الفاطميين مع أنها من صميم المراسيم المصرية وليست من تقاليد ملوك الشرق من الأتراك وغيرهم.
اللون الأصفر واللون الأسود:
الذي أمكنني استخلاصه هو أن اللون الأصفر أصبح شعار السلطنة والأسود استمر للخلافة بل أن العصائب أصبحت في بعض الأحيان من تقاليد الخلافة في مصر: وهذا من أغرب ما أدخل من شعائر الملوك المتغلبين على نظام الخلافة المفروض أن يستمر عريقاً في تمسكه بمراسم الأبهة العباسية ولا يأخذ بمظاهر أجنبية عن العروبة والإسلام. فمن ناحية اللونين والعلمين أشير إلى ما جاء في السلوك.
(إن رسل ملك القبجاق وصلت إلى مصر ومعهم كتاب بالخط المغلي يتضمن أنه أسلم ويريد أن ينعت نعتاً من نعوت الإسلام ويهجز له علم خليفتي وعلم سلطاني يقاتل بهما أعداء الدين).
وجاء في تاريخ أبي الفداء من حوادث ربيع الآخر سنة 732 هجرية حينما جاء ابن أبي الفداء بعد وفاة والده إلى القاهرة في ربيع آخر سنة 732 هجرية.
(ركب بشعار السلطنة الملك الأفضل الحموي بالقاهرة، وبين يديه الغاشية، ونشرت العصائب السلطانية والخليفية على رأسه وبين يديه الحجاب وجماعة من الأمراء وفرسه بالرقبة وأمامه الشبابة وصعد إلى القلعة) وفي هذا تصديق لما بدأ به هذا البحث من قيام شعارين.
فلا محل إذن للتساؤل عن اللون الأسود العباسي وعدم اختياره للأعلام في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية إذ أن ولاية الأيوبيين كانت مرتكزة على آل زنكي وهؤلاء يتبعون آل سلجوق ويتقلدون بهم ولذلك لما دخل صلاح الدين حلب وتيقن من ثبوت ملكه (نشر سنجق السلطان الأصفر على سور القلعة وضربت له البشائر).
فهو قد شعر في هذه اللحظة بقوته، ونحا نحو السلاطين من آل سلجوق، وطمع في أن
يعامل مثلهم، فاتخذ شعارهم وجعل علمه أصفر اللون، وهو علم السلاطين الذين يسيطرون على الأرض، وطمع أن يصل إليه التقليد من خليفة بغداد بإقامته سيداً على الأراضي والممالك التي دانت له.
تراث الدولة السلجوقية:
إنني لا أزعم أن آل سلجوق ابتدعوا كل شيء، بل أقول إن طبيعة الأشياء تحتم أنهم أخذوا ممن تقدمهم أشياء ليس بوسعي تحديدها بواسطة ما لدي من مراجع، وإنما عمل الباحثين سواي موالاة البحث عنها، ولكني أقول أن أثرهم كان كبيراً في ترتيب نظام الممالك التي جاءت من بعدهم: وأقول أن نظام الإقطاع في التاريخ الإسلامي لن يقدّر له البحث العلمي الصحيح بدون أن نلم بأصل هذا النظام في أواسط آسيا ونرجع إلى نشأته الأولى.
وكذلك نظام الجيوش وتعبئتها ومراتبها تأثرت إلى حد كبير بما أدخله السلجوقيون، ولن تقدر قوة دولتي المماليك العسكرية بدون أن نلم بما كانت عليه أنظمة جيوش السلاجقة.
ولم يكن أثرهم قاصراً على مصر والشام بل شمل الجزء الشرقي من العالم الإسلامي وأخذ به ملوك خوارزم من بعدهم (ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية جرى على منهجهم أو ما قاربه وجاءت الدولة التركية وقد تنقحت المملكة وترتبت فأخذت في الزيادة وفي تحسين الترتيب وتعضيد الملك وقيام أبهته، ونقلت عن كل مملكة أحسن ما فيها، فسلكت سبيله ونسجت على منواله حتى تهذبت وترتبت أحسن ترتيب وفاقت سائر الممالك وفخر ملكها على سائر الملوك).
وفي ذلك يقول الأستاذ فييت: (إن سلاطين المماليك كانوا الوحيدين الذين نجحوا في تاريخ مصر في تأسيس إمبراطورية ضخمة).
أما تفسير اختيار الراية الصفراء الذي أشار إليه بيبرس في كتابه إلى بومند صاحب طرابلس الشام بقوله (إن رايتنا الصفراء قد علت على رايتكم الحمراء وسادت الأرض) فأرده إلى أواسط آسيا حيث منبت السلاجقة، فقد وجدت في كتاب (تاريخ مدنية الأتراك) تأليف (ضيا كوك ألب) إن الأتراك اتخذوا لعناصر الحياة: الماء والتراب والنار ألواناً: فالسواد للماء والبياض للنار واللون الأصفر للأرض وقال (طوبراغك رنكي صاريدر).
فهل اتخذت الراية الصفراء من القدم شعاراً لسلطان الأرض؟
إنه ليصعب علي أن أقرر شيئاً من ذلك، حتى بعد المعلومات المتفرقة التي وضعتها أمام القارئ، لأن ما نعلمه عن آل سلجوق وبني بويه وآل سبكتكين وغيرهم من المتغلبين لا يزال في حاجة إلى الجمع والتبويب والتنظيم.
وإن كنت أقرر أن بحث نظام الإقطاع في تلك الأزمان سيفتح لنا حتما الطريق الذي يوصلنا إلى نواح لا تزال مجهولة، أرجو أن يتولاها المهتمون بالتاريخ الإسلامي بعنايتهم.
أحمد رمزي
عرائس الربيع
للأستاذ علي محمود طه
وثبن في موكب الطبيعةْ
…
وثوب غزلانها الوديعهْ
منشّراتٍ ومُرسلاتٍ
…
غلائل الفتنةِ الرَّصيعه
أثار دفء النسيم روحاً
…
فيهن مشبوبة وليعهْ
وهاج عطر الصباح فيها
…
ما هاج في النحلة الرضيعه
فرحن يمرحنَ في غناء
…
تُصغي، وتتلو الرُّبى رجيعه
يحملن ورداً بها لورد
…
ينثال بالحمرة الينيعه
كأنما الروض قلبُ صَبٍّ
…
أسَلْنَ فوق الثرى نجيعه
هذا الربيعُ الجميلُ يجلو
…
فنون إبداعه الرفيعه
مشى تُحييِّ الرياض منه
…
خُطىً على صدرها سريعه
وديعةُ الخلد بين يديه
…
وبركت فيهما الوديعه
انتشت الأرض من شذاه
…
وأُترعتْ كأنها الرصيعه
ولي فمٌ ناضبٌ وقلبٌ
…
فارغةٌ كأسه صديعه
عرائس الحسن لا تَدَعن ال
…
محبَّ للهجر والقطيعه
فإنهُ شاعِرٌ يُغَنَّي
…
أحلامه الحلوة البديعه
لكُنَّ يُحيي صِبا الليالي
…
شدواً، ويُغني الهوى دموعه!
عاد ربيعُ الثرَى وعادتْ
…
صوادح الدوحَة الوشيعه
هفتْ بجوقاتها إليه
…
مُفشيةً سِرَّهُ مُذيعه
وزفَّهُ بلبل لعوب
…
في حِضنه وردةٌ خليعه
وحدَّق الزهرُ واشرأَبتْ
…
كمائمٌ حوله سميعه
شريعة الغاب ما أراها
…
دماً ولا ميتةً ذريعه
لكنهُ الحبُّ فوضوياً
…
يتقحم الذروة المنيعة
تدعو له الكائناتُ طراً
…
وقُدِّس الحبُّ من شريعه
فيا عروس الربيع هاتي
…
مِن وحيه وانشري صنيعه
أنتِ شبابُ الحياة أنت
…
الجمالُ في موكب الطليعه
وأنتِ أنتِ الرَّبيعُ، لا ما
…
تبدعه ريشة الطبيعه
خدَّاك، نهداك، من جناهُ
…
فاكهة الجنة المضيعه
ثغرك ريَّانُ من رحيق
…
الحبُّ يحيى به صريعه
شعرك من نور ناظريه
…
يقيس منه السَّنى سطوعه
وُقيت لمح العيون إمَّا
…
رَمتك بالنظرة الجميعه
وقيت لفح الشفاه إما
…
هفت بها قُبلة الخديعه
وقيت فحَّ الصدور إما
…
غلتْ بها الشهوة الوضيعه
فأرجعي يا عروس فني
…
صِباً يود الهوى رجوعه
أيامَ كلُّ الطريق زهرٌ
…
وكلُّ حافاته مُريعه
أيام كلُّ الحياة فجرٌ
…
ترقب عين الفتى طلوعه
وليله مهرجان عرس
…
قد أوقدوا حوله شموعه
إن أنت لم تُحسني إليه
…
قتلت في صدره نزوعه
ومن لقل أضاع بين الهوى
…
وبين الصبا ربيعه!!
علي محمود طه
كن زهرة
للأستاذ إيليا أبو ماضي
قل للذي أحصى السنين مفاخراً
…
يا صاح ليس السرُّ في السنوات
لكنه في المرء كيف يعيشها
…
في يقظةٍ أم في عميق سباتِ
قم عُدّ آلاف السنين على الحصى
…
أتعدُّ شبه فضيلةٍ لحصاةِ؟
خير من الفلوات لا حد لها
…
روضٌ أغنّ يقاسُ بالخطوات
كن زهرةً أو نفحةً في زهرة
…
فالمجدُ للزهرات والنفحات
تمشى الشهورُ على الورود ضحوكة
…
وتنام على الأشواك مكتئبات
وتموت هذي العقم قبل مماتها
…
وتعيش تلك الدهرَ في ساعات
تحصي على أهل الحياة دقائق
…
والدهر لا يحصى على الأموات
العمرُ إلا بالمآثر فارغٌ
…
كالبيتِ مهجوراً وكالموماِة
جعل السنين جميلةً وكبيرةُ
…
ما في مطاويها من الحسنات
إيليا أبو ماضي
صور من الحياة
غَدْرٌ. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
لقد كان عهدي بك - يا صاحبي - فتى مشرق الوجه وضاح الجبين ريق الشباب، تتألق - دائماً - في الغالي الثمين من اللباس فتبدو في رأي العين حسن الهيئة جميل الشارة، تتوثب نفسك سعادة ومرحاً ويفيض قلبك بهجة وحبوراً، يشغلك سهل الحياة عن حزَنها وتصرفك سعة العيش عن شظفه، تتفتح لك الدنيا عن مثل بسمة الزهرة النضيرة سقاها ندى الفجر الرطيب ورفت عليها نسمات الصبح الرقيقة، فتتدفق في قلبك لذة وهدوءاً، فكنت - إذ ذاك - تبدو كفراشة سعيدة ما بها إلا أن تثب بين الورود والرياحين ترشف الرحيق العذب في شوق وشغف ثم تنطلق إلى غايتها لا تأسى على شيء. فمالي أراك الآن وقد حال لونك وذوى عودك، إنني أحس كأن حادثة عصفت بك فلفَّت بهجتك في ثناياها وطوت البشر عن عينيك، فبدت على جبينك سمات الحزن وارتسمت على وجهك علامات الكآبة. يا عجبا! لقد تغضَّن جبينك بعد إشراق، وتكسرت شوكتك بعد صلابة واستحالت أناقتك إلى أسمال خلقة! فماذا كان من الأيام وماذا كان منك، يا صاحبي؟
وأطرق الرجل حيناً في خجل ثم قال وفي صوته ضعف وفي نبراته اضطراب (إن لي حديثاً طويلاً لا أستطيع أن أفضي به إلا أن يطمئن بطني، فأنا منذ ليلتين أبيت على الطوى لا أجد ما أسد به رمقي، وحاولتُ جهدي أن أحتال لأمري فعجزتُ، وتنكَّرت لي الأيام وعصرتني الحياة بين فكين من حديد، فانسدت مسالكها وأوصدت مساربها، وتراءت لي قلوب الناس جامدة لا تنبض بشفقة ولا تهتز برحمة. . .)
وحزَّ حديثه في نفسي فانطلقت أهيئ له طعاماً وشراباً، فما راعني إلا أن يلوك اللقمة ولا يكاد يزدرها ويحركها بين أسنانه ولا يكاد يستسيغها. فقلت له في دهشة (ما بالك لا تقبل على الطعام؟) قال:(يا سيدي، إن الطير ليزق فراخه وهو خمصان فيحس الشبع والراحة حين تهدأ نفوسها، وإن الوحش الكاسر ليطعم صغاره دون نفسه وبه قرم إلى اللحم فيجد السعادة والهدوء. وإن لي صبية يتلهَّبون جوعاً. . . قلتُ: (إن لعنة الله لتنحط على المكتظ فتصيبه بالتخمة ليعلم أن بطنه لا يسع ما يشبع بطنين) ثم أخذتً أعدُّ لصغاره طعاماً يكفيهم
أياماً، ورأى هو الطعام فهب - في بشر - يريد أن يحمله إليهم، فقلت له:(مهلاً! إن الخادم سيحمله إليهم وستبقى أنت هنا لتقص قصتك. . .)
وجلس صاحبي إلى جانبي مطرقاً في سهوم، وإن خواطره لتضطرب في بيداء السنين وإن الحوادث لتشتجر في قلبه، وإن نفسه ليتنازعه عن أن يفضي إلى بذات نفسه. فقلت:(يا أخي، لا بد من شكوى. . .!) قال: (آه، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية) ثم قال: (نشأت أنا وأخي الأكبر وحيدين تجمعنا صلاة الأخوة والصداقة وتضمنا روابط الطفولة واليتم، لم نشعر بعطف الأب ولم نتنسم حنان الأم، ولنا دار وتجارة، فتكفلنا عمنا، وماله ولد ولا فيه طمع فشملنا بعطفه وخصنا بعنايته وإنه لرجل دين وقناعة، فما امتدت يده إلى درهم من مالنا ولا عبث بالضئيل من تجارتنا ولا خلبه بريق الذهب ولا استهواه شره المال، فعاش وعشنا في كنفه سنوات، ثم أصابه الكبر وعصفت به الشيخوخة على حين قد نما أخي الأكبر واشتد عوده، فقام هو على تجارتنا يصرفها ويرعاها ومن ورائه رأي عمي وتجاره وإخلاصه.
وانطوت السنون تصقل أخي وتحبوه بالمران والدربة، وأنا منصرف عن شواغل الحياة وعن رواعي العمل إلى عبث الشباب وطيش الصبا، لا يعنيني إلا أن أجد المتعة واللذة. . . وغَرَّني ما ألاقي من حب أخي ووفائه فسكنت إلى صفاء ودَّه وخالص حبه. . .
ثم تزوج هو وتزوجت أنا، ودخلت المرأة بيننا تريد أن تفصم عروة عقدتها يد الزمن، وأن تقطع آصرة ربطتها جفوة الحياة منذ أن شب كلانا عن الطوق. والمرأة شيطان جميل ينسرب حديثه الطلي إلى القلب رقيقاً في مثل نسمات الربيع اللطيفة، وهي ثعبان ينفث سموماً تتدفق في النفس في مثل حلاوة الرحيق. . . ووجدت كلمات المرأة من أخي أذناً صاغية فما تلبث أن شطر الدار شطرين، وأقام بيني وبينه جدر، لا يستطيع واحد أن يظهره. وأحسست أنا - لأول مرة في حياتي - مسَّ الأسى والحزن حين أحسست فقد أخي وهو إلى جواري.
وانجابت غشاوة من على عيني فتراءى لي ما يتوارى خلف أستار الزمان، وخشيت أن يخلو أخي إلى زوجه يلقي السمع إلى حديثها ويلقى السَّلم إلى رأيها فإذا تجارتنا شطرين مثلما أصبحت دارنا شطرين، وغبرتُ أياماً تؤرقني الفكرة وتزعجني الخاطرة، لا أستطيع
أن أصرف نفسي عنها ولا أن أمحوها من خيالي، ثم رحت إلى أخي أكشف له عن هواجس نفسي وأنشر أمامه خلجات فؤاده فقلت:(أيْ أخي! أنا لا أستطيع أن أجحد فضلك ولا أن أنكر جميلك، فلولا ما بذلت من جهد وعناية ما زهت تجارتنا ولا ازدهرت ولا درَّت علينا هذا الرزق العميم. ولقد كنتُ في حياتي كلها أحس منك شفقة الأخ الأكبر وحنان الأب الرحيم، أطمئن إلى حبك وأسكن إلى إخلاصك. وإني لأخشى أن تسوس لك نفسك فتستقل بنصيبك في التجارة وتذرني ضائعاً، وأنا حريص على ألا تعصف بنا نوازع المادة فتتصدع وحدتنا وتنشق عصانا وتتقطع وشائج القلب وصلات الروح. وهذه تجارتنا بين يديك، هي لك كلها إن شئت ولك جلها إن أردت، وأنا قانع بما تنزل لي عنه لأنني لا أرضى بأن يشمت عدو أو أن يتشفَّى حسود).
وسمع أخي الأكبر حديثي فاستيقظ تاريخنا كله في قلبه منذ أن كنا طفلين نستشعر الذلة ونحن الضياع فترقرقت عينيه عبرات ما تتحدر وفاض قلبه بالعاطفة السامية، ثم ربت على كتفي وهو يقول (لا يزعجك هذا الأمر فإنا أشد حرصاً عليه. ولقد اقتسمنا الدار لأنني كنت أخشى أن يدب خلاف بين زوجي وزوجك أو أن يطغى ابني على ابنك فتتهدم سعادتنا وتنقض راحتنا. أما التجارة فهي لي ولك. .)
وقمت من لدن أخي وإن الفرحة لتفعم قلبي.
ومضت سنة واحدة، ثم انحط عليَّ مرض يعركني عركاً شديداً. وحبسني الداء في حجرة من الدار لا أستطيع أن أبرحها وإلى جانبي زوجي تقدم على حاجاتي في غير غضاضة ولا ملل، وأخي يغدو إليَّ ويروح وإلى جانبه طبيب وبين يديه دواء، وأنا لا أنوء بأثقال المرض، وإن زوجي وأخي بين يدي يرفهان عن نفسي شدة الضنى ويخففان عني صولة العلة، ومن بينهما طبيب. والطبيب رجل غليظ الكبد، سقيم الوجدان، واهي الرجولة؛ لا يشفي غلته سيل من المال، ولا ينقع صداه بحر من الذهب يصرفه الجشع عن الواجب، ويشغله الشره عن الإنسانية. وطالت بي العلة، فما أرمضني إلا صغاري يحومون حولي، وإن قلوبهم لتتفطر أسى ولوعة لما أعاني من ألم. ثم برئت - بعد لأي - من سقامي لأخرج للناس شبحاً ضامراً هزيلا شاحب الوجه، مرتعش اليد، منحط القوة.
ورأى أخي عجزي وضعفي فتنكر لي وانطوى عني فلا يزورني إلا لماماً ولا يحدثني في
شأن تجارتنا إلا قليلا، وقبض يده عني فلا يبض إلا بدريهمات لا تسد حاجة ولا ترأب صدعاً. ولمست أنا فيه الجفوة والقسوة فاضطرب قلبي وانزعج فؤادي، ولكني لم أستطيع أن أتحدث إليه بأمر. ماذا أقول وأنا أوقن بأن مرضي قد كلفني فوق الطاقة استنفد الكثير من مالي، غير أن حاجات العيش ثقال ومن ورائي زوجي وصغاري يطلبون القوة واللباس ولا يقنعون بالتافه من العيش ولا يرضون بالرخيص من اللباس؛ فذهبت إليه أدفع نفسي دفعاً عنيفاً وأحملها أمراً لا تطيقه.
وجلس وجلست أنا، وتحدثت إليه بحاجتي فأعرض عني ولم يلق بالا إلى كلماتي، بل قام في أناة وتؤدة ليجمع أوراقه ودفاتره ثم لينشرها أمامي وهو يقول: لقد استنزفت أيام مرضك كل ما ادخرنا وركبنا الدين ونحن الآن نسير إلى الإفلاس في سرعة. وهذه أوراقنا تدل على صدق ما أقول) ووجمت أنا لحديث أخي، وتراءى لي أن يداً عبثت بالتجارة وعقلا عاث في الأوراق ولكن الكلمات ماتت على شفتي، واستمر هو في حديثه يقول:(والآن أصبح لا معدى لنا عن أحد أمرين: إما أن نبيع الدكان بما فيه لرجل غريب، وإما أن يشتريه أحدنا ويدفع الثمن فوراً) وصدمني الرأي صدمة عنيفة، فأخي يثق بأنني خاوي اليد والجيب وأنني أضن بتجارتنا أن تصبح في يد غريبة وأنني في حاجة شديدة إلى المال. فقلت في استسلام وكمد (خذ أنت حصتي) قال (فهي تساوي كذا وكذا يخصم منها ثمن الدواء وأجر الطبيب وهو كذا فيبقى كذا) وأرغمتني الحاجة على أن أنزل عند رأيه فكتبت له تنازلا عن حقي لقاء المبلغ الذي أراد) ثم انفلت من لدنه وبين يدي جنيهات وفي عيني عبرة وفي قلبي لوعة
آه، يا صاحبي، إن في الإنسان دوافع ترابية إن سيطرت عليه سفلت به عن معاني الإنسانية). . .
كامل محمود حبيب
قضايا الشباب بين العلم والفلسفة
للأستاذ إبراهيم البطراوي
- 2 -
بقى بعد هذا بدعة أخرى، وهي آخر ما سنتكلم عنه - جاءتنا هذه الأيام من فرنسا، وفرنسا دائماً بلد العجائب وأم البدع. هذه البدعة الجديدة وأعجب ما في أمرها أنها تدعي لنفسها عراقة نسب في التاريخ وكرم محتد في الفلسفة تسمى (الوجودية) '
وأعجب من هذا أن يظهر مثيل لهذا المذهب في ألمانيا على يد الفيلسوف الأديب نيتشه قبل القرن العشرين، ويظهر المذهب نفسه بعد ذلك على يد هيديحر في ألمانيا أيضاً؛ فلم يكد يعرفه أحد هنا حتى ظهر هذه الأيام في فرنسا على يد سارتر فسرعان ما وجدنا له أساتذة عندنا وأعواناً قبل أن يجد سارتر الأعوان والأساتذة؛ لأن فرنسا غدت بعد الحرب في فقر من الرجال كما يقول سارتر.
لا يدخلن في روعكم أن هذه الفلسفة أتت بجديد؛ فهي عين ما جاء به روسو وفولتير ومزدك والإسماعيلية وماركس: البهيمية والإباحية. . . مع اختلاف الأسماء وتزويق في الألفاظ! ولكنها على كل حال تجلت في ثوب جديد، وعرفت كذلك باسم جديد يلائم ذوق العصر وثقافته ' فلنعرف أولا ما هي هذه الوجودية ثم ليكن بعد ذلك ما يكون:
خلاصة ما فهمت من شروحهم بعد دراستي لهذا المذهب وبخاصة ما كتب زعيمهم سارتر ولا سيما في كتابيه (الوجود والعدم) ' والمتوهم '
أنهم يقابلون قسمة الكائنات الحية في الدين وعند كل الفلاسفة القائلين (بالإثنينية) إلى روح وجسد، أو إلى مثال وصورة، أو إلى جور وعرض. تتقدم الروح في الوجود ظهور الجسد، ويتقدم المثال تجسيد الصورة، ويتقدم الجوهرُ العرض، إلى آخر تلك الأشياء التي هي في واقعيتها ومعقوليتها أقرب إلى أن تكون بدائه؛ فيزعمون أنها خرافات تأصلت في النفوس بعد أن ابتليت بداء الدين العضال!!
فلو سألناهم: إذا كان هذا باطلاً حقاً يتجافى الواقع كما تدعون فعرفونا بما لديكم من أنباء الأمور الصحائح لعلنا نهتدي بهديكم، وجدناهم يعمدون إلى الغموض والتعمية وإلى المراوغة والتكايس، ولم يزد كل أمرهم على أن يقابلوا شيئاً بشيء فيضعوا لفظاً مكان
لفظ، ويغيروا اسماً باسم، ويقلبوا وضعاً لينصبوا مكانه آخر وهكذا. . .
فيقولون إن أي كائن يتكون من شيئين اثنين هما: جِبلَّته ووجوده.
فالجبلة: هي تلك السمة التي تميز كل نوع من الكائنات عن النوع الآخر؛ فبها تتميز الأنواع.
والوجود: هو الظهور الفعلي النافذ في هذه الحياة.
ففكرة المهندس في تصميمه لآلة من الآلات مثلا هي جبلة هذه الآلة. وتنفيذ هذه الفكرة أو تجسيدها - كما في المثال المتقدم - هو وجود هذه الآلة.
من هذا نعرف أن الجبلة هي التي تتقدم الوجود؛ ولكن هذا عند الوجوديين خطأ محض إذا طبقناه على الإنسان: فلنا أن نطبقه على كل شيء إلا الإنسان؛ فإن له قانوناً خاصاً غير قانون الدين المتقدم، فهو - كما في زعمهم - خطأ!! وغير قوانيني الطبيعة؛ لأن كل قوانينها (أوهام) اختلقها العقل وقيد بها نفسه. فليس هنالك شيء اسمه القانون! ولكن لا بأس عليهم أن يلزمونا بقانون، ولا بأس علينا إذا أخذنا بقانونهم هذا فهم أئمة الهدى المعصومون! وهو: أن وجود الإنسان هو الذي يتقدم جبلته!
فلم يعد ثمة جبلة خلقها الله؛ ولكن الإنسان - وهو في نظرهم ذلك اللقى الذي قذف به في هذا العالم قذفاً من هاوية لا يدريها ولا يجب (إن كان وجودياً عاقلا) أن يفكر فيها، فما عليه إلا أن يعرف أنه هكذا وجد! - هو الذي يخلق جبلة لنفسه بنفسه حال صراعه مع الكائنات الأخرى ومع الطبيعة في سبيل الحياة. . . وما عدا ذلك أوهام وترهات!
وأود أن أطمئن من يجد في هذه النظرية شيئاً من التناقض أو الغموض بأن سارتر نفسه يعاني من هذه الحال، ويعز عليه أحياناً أن يكون هذا حظه في فهم المذهب الذي به يعيش؛ فلا يستحي أن يقول إن التناقض والغموض من أغراض الوجودية، لأنها تصوير (صادق) للحياة بما هي، والحياة كلها متناقضات ومعميات!
فإذا قلنا لهم: في أي منطق يصح هذا ويستقيم، وبأي عقل يمكن أن نسيغه أو نقبله؟ وجدنا الجواب حاضراً - فهم قوم أعدوا لكل شيء عدته، ولكل محتمل جواباً، ولا يتهافت على الهبوط إلى وكرهم للاندماج في عصابتهم إلا كل بارع في فن الجدال والمداورة، وفي فن التمويه والمكابرة - فما أسرع ما يقولون وما علينا إذا لم تفهم البقر!.
وفي شرح هذه النظرية والدفاع عنها ألفت كتب وأبحاث. كما أن سارتر يدير مجلة في فرنسا لهذا الغرض هي (العصور الحديثة)
والشعار الذي يقدمونه لكل مطلع على مؤلفاتهم هو (الحرية) وأنهم دعاتها وحماتها. وتحت هذا الشعار - مهما خدعوا بالألفاظ المزورة واصطلاحات الشعبذة - تسير جيوش الإباحية وادعة آمنة. (أنا حر فأنا إذن موجود) هذا هو شعار القوم. ولكن الحرية هنا ليست بالمعنى الذي نفهمه معشر الشرقيين، أو الذي يفهمه معظم سكان العالم، وإنما هي من ذلك النوع الذي نادى به أجدادهم ومن هم على شاكلتهم قبل اليوم بعشرات السنين
الحرية هنا هي أن يتمتع الإنسان بكل شيء وعلى أي نحو بشرط ألا يندم بفعل أي شيء وإلا كان وجوده ناقصاً (أو كان غير موجود!) واسمحوا لي أن أكون أكثر حرية من ذي قبل حتى أستطيع أن أحدثكم عن هذه الحرية الجديدة.
ومهما يكن من أمر ما نادى به سارتر من (وجوب أن يكون الأدب صورة للقارئ) أو الكاتب أو حتى البيئة - وقد أثير ذلك في بعض مجلات مصر العريقة - فإني لم أقف على هذا متحققاً فيما بين يدي من مؤلفات سارتر ولم يكن ليهمني أن أقف عليه قدر ما كان يهمني أن أحلل هذه المؤلفات من حيث هي ومن حيث هي وسائل وضعت لغرض مخصوص هو نشر مذهب معين وأقصد به الوجودية كما يقول بها سارتر.
وما عدا الخطوط الأساسية التي هي أصول (المذهب) والتي أشرنا إليها آنفاً، فإن مما يلفت النظر - وقد أجمع جمهور النقاد الفرنسيين عليه - هو أن سارتر يفرض على نفسه دائماً أن يبرز أشخاصه الروائية وهي (تقترف عملا من الأعمال) مريباً أو غير مريب، فهذا أمر ثانوي، لأن جميع القيم المتعارفة كلها (مُتَوَهمات) - ويشرح اتجاه هذه (الأعمال) وما يجب أن تكون عليه كقاعدة مثلى للآداب عامة والوجودي منها خاصة، فيقول في بعض رواياته وهي (سبل الحرية)
(هاأنذا موجود أتذوق نفسي، إني أحس بالطعم القديم للدم وللماء الحديدي، وذوقي هو أني أتذوق بنفسي. إني أوجد والوجود هو هذا: أن أتمتع بنفسي وأرتوي منها بدون ظمأ. أربعة وثلاثون عاماً، أربعة وثلاثون عاماً أتذوق فيها نفسي، وقد كبرت - قد اشتغلت وانتظرت وبلغت ما كنت أريد: مارسيل وباريس والاستقلال، وقد انتهى كل شيء فلا أنتظر شيئاً بعد
ذلك)
هذا الشذوذ الأعمى هو بيت القصيد في الوجودية السارترية. ولكي يهون الأمر على المضللين به أخرج قصة غاية في السخف والتهافت دعاها (الذباب) ترمي إلى إبطال الألوهية إطلاقاً وإلى إنكار القيم الاجتماعية، وبالتالي يستتبع هذا بالطبع الإباحية الهمجية حسب القانون الذي استنتجناه في أول الكلام، وحسب ما يفهم من كلامه في غير هذه القصة وإن كان يرمي إلى هذا من طرف خفي، أو من وراء حجاب بتعبير أوضح، وهذا أخطر الخطر: فلا شيء هو الإله ولا شيء هو العلم ولا شيء هو الحب أو البغض أو الغنى أو الفقر له وجود، وإنما هنالك شيء هو الوجود حقيقة ألا وهو الحرية يتمتع بها الآدميون). .
(يتبع)
إبراهيم البطراوي
نفحة من العبقرية
(في الذكرى الثانية عشرة للرافعي)
للأستاذ أحمد مصطفى حافظ
(. . . وسيأتي يوم إذا ذكر فيه الرافعي قال الناس: هو
الحكمة العالية مصوغة في أجمل قالبِ من البيان)
مصطفى كامل
المرحوم، الأستاذ خالد الذكر والأثر، مصطفى صادق الرافعي أديب عبقري متفنن، ذو عقلية وضاءة مبدعة، مولدة قوية صافية خصت وتميزت باتقادها بالأحاسيس المشبوبة، والنوازع الطماحة، والأخيلة الجياشة السيالة. . . وتفردت بقدرتها التعبيرية الطيعة، التي تسمو بنا إلى أجواء رقيقة ندية. . . ننسى فيها عالمنا المادي المتطاحن. . . ونقبل عليها بكليتنا مشغوفين مأسورين فنسبح في فيض علوي زاخر، مليء بالأنغام العذاب، مفعم بأطايب نسمات الجنات
نشأ الرافعي في بيئة دينية تقية؛ تولت إفتاء مصر وقضاءها زمناً طيباً عادلا. . . ففقه النور الإلهي الغامر الباهر، واستوعب العربية وآدابها، وفنون أساليبها. . . وتعلق قلبه بسيرة سيد المرسلين، فأخذت براعته تدبج الفصول الرائعة، والآيات البينات في حبه وتقديره صلى الله عليه وسلم. . . فكانت لروعتها وسموها كأنها تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم؛ كما يقول (سعد) العظيم. وظل يعمل ويكافح في سبيل إعلاء كلمة الشرق، وتوجيه الأجيال إلى خير منهج يضمن له العز والفخار ويعيد له تراثه المضيع، ويحقق له نسبه الرائع المختلط، وكان في كل ذلك (واحد الآحاد في فنه). وكان يحمل رسالته التي أخذ على عاتقه أمر تنفيذها وتحقيقها - وإن كانت المنايا قد عرقلت الكثير من أمنياته - بقوله: (أنا لا أعبأ بالمظاهر والأعراض التي يأتي بها يوم وينسخها يوم آخر، والقبلة التي أتجه إليها في الأدب، إنما هي النفس الشرقية في دينها وفضائلها؛ فلا أكتب إلا ما يبعثها حية ويزيد في حياتها وسمو غايتها، ويمكن لفضائلها وخصائصها في الحياة. . . ولذا لا أمس من الآداب كلها إلا نواحيها العليا؛ ثم إنه يخيل إلى دائماً أنني
رسول لغوي بعثت للدفاع عن القرآن ولغته وبيانه).
فالرافعي يعد من جهابذة أعلام الإسلام الخالدين إذ كان أعلم أهل عصره وأبرعهم في تبيان فضائل القرآن، التي تتفق مع كل زمان، وتساير كل تطور. . . كان يبذل جهد الجبابرة لبعث الثقافة العربية التليدة المجيدة، وإبراز محاسن (الجملة القرآنية) الناصعة الرائعة المعجزة. كل ذلك بأسلوب رصين مكين، وعبارة مشرقة مونقة، ولفظ فخم جزل منتقى. . . يكسو معاني أرتنا النجوم والشمس حية! وجلت صدأ الأذهان وأنارتها، وفجرت ينابيع الرحمة والحنان، والإيمان والعرفان، في صحراء القلوب المجدبة! فأضاف إلى العربية كنوزاً نفيسة من الآداب الرفيعة، والمآثر الجليلة. . . الباقية على الدهر ما بقي الدهر، بل هي أبقى على الدهر من الدهر!؟ فأنت إذا ما حاولت أن تستوعب تلك المآثر وتحتويها في لب لبك، سوف تجد نفسك أمام بحر عجيب لجب، واسع عميق، يحوي كل نفيس من غالي الدرر واللآلئ، أو قل يحوي ما هو أغلى من ذلك وأنفس؟! فالدرر النضيدة، واللآلئ الثمينة تتفق مع غرره الفريدة اليتيمة في جميع المزايا؛ من حيث الندرة والنفاسة، وجمال السبك وفنية الصياغة. إلا أن الدرر واللآلئ تنقصها تلك الروح الشهية البهية، التي تترقرق حياة خلال منطقه السامق السديد المحكم!. وأنت إذا ما بحثت في تلك المؤلفات ألفيت بحوثاً شائقة رائقة، وإنشاء وصفياً حكمياً في الأدب وتاريخه وسموه وعبقرياته.
وأول مؤلفاته ديوانان من براعم الشعر وعيونه. . هما: ديوان الرافعي (في ثلاثة أجزاء)، وديوان النظرات. . . وفي شعر الرافعي يقول حافظ:
أراك - وأنت نبت اليوم - تمشي
…
بشعرك فوق هام الأولينا
وأُوتيتَ النبوة في المعاني
…
وما دانيتَ حد الأربعينا
فَزِن تاج الرآسة بعد سامي
…
كما زانت فرائده الجبينا
وهذا الصولجان فكن حريصاً
…
على ملك القريض وكن أمينا
فحسبك أن مُطْرِيك (ابن هاني)
…
وأنك قد غدوت له قرينا
ونذكر بعد ذلك من آثاره أخطرها شأناً وأعزها مقاماً في عالم الأدب المعاصر؛ ونعني به كتاب (تاريخ آداب العرب) بأجزائه الثلاثة المنوعة. . . الذي تجلت لنا فيه شخصية الرافعي الشاب النابغة، والمؤرخ العالم المحقق الثقة، الذي ينيف عمره عن الثلاثين!
ونترك أمر الحكم على هذا الكتاب الجامع، بعد أن فرغ الكرام الناقدون من هذا الأمر. . . فليرجع إليه من شاء أن يستقي الأدب عذباً فراتا سائغاً، من موارده النميرية المصفاة.
ثم كتابه (حديث القمر) وله أثر عظيم في تكوين الأسلوب الإنشائي لكثير من أدبائنا ومتأدبينا المعاصرين. . .
ثم كتبه (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر) و (أوراق الورد). وهي خلاصة آرائه في فلسفة الجمال والحب. . . وهي من أنضج الثمار لنتاج عبقرية الرجل الملهمة. . . وقد أحدثت تلك الكتب الثلاثة ضجة أدبية، إذ تمخضت عن مجادلات نزيهة صادقة معتدلة قيمة. . . ومجادلات أخرى عنيفة عقيمة، ساخطة متبرمة، قاسية مريرة!. . .
وأخيراً يأتي دور كتابيه في النقد (المعركة تحت راية القرآن) و (على السَّفُّود) وفيهما تبيان لما كان بينه وبين الدكتور طه حسين ثم المرحوم عبد الله عفيفي والأستاذ عباس محمود العقاد على الترتيب. . . ويمتازان بطابع العنف والعنفوان في أسلوبهما. إلى درجة ينكرها البعض وينفر منها، ويتحمس لها البعض الآخر ويحبذها. . .
ولا يحق لي أن أخوض غمار هذا الحديث المطوي غير الشهي.! هذا إلى شتيت من المقالات تدخل في عداد هذا اللون من أدب الرافعي، بينه وبين الكاتب سلامة موسى والدكتور زكي مبارك وغيرهما. . . ثم مقالاته المتفرقة في الصحف والمجلات، التي جمعها بين دفتي كتابه (وحي القلم) وهذا الكتاب يعد الصرح الشامخ في تراث العربية في العصر الحديث.
وجماع الأمر فقد امتازت أحاديثه، رحمه الله، بالتبحر والإفاضة والإشراق بدون إسعاف أو إضجار، وإن كان يغرق أحياناً في السبك الفني لمعانيه وألفاظه. . . وبخاصة إذا تكلم في أدب الوصف والحكمة. . .
وللرافعي أناشيد مشهورة مشكورة. . . منها الوطني الملتهب شعوراً وحماسة ونبلا، ومنها الاجتماعي التهذيبي القوي، ومنها الشعبي الصادق الساذج الفطري
وقد أكسب الرافعي فن القصة القصيرة بهاء، وأبرزه في أنصع ديباجة وأروع صياغة. . . فشق للأقصوصة طريقاً مستقيما امتاز بخصبه وقوة حججه وأسانيده المؤثرة.
ولقد ظل الرافعي على طبيعته المطمئنة الراضية، وفيا للأدب يقظاً على تراثه. . . غايته
وهواه ومسعاه أن يستنقذ الشرق مما اعتراه من ألوان الفجور وأسباب الطيش والتبرج والضياع. . ومما نزل به من فساد في الأرض، وبوار في العرض، وعنس للعذارى - اللائي كسبن الشارع وخسرن الزوج، وانزلقن في مهاوي الرذيلة!
وقد انبرى الرافعي - وهو شبه وحيد في الميدان لا يسنده جاه ولا سلطان حزبي - إلى هدم تخرصات الدجاجلة المغررين، من شياطين الآدميين الداعين إلى مسايرة مدنية زائفة، مظهرها خالب وجوهرها كاذب.
وإن رجلا هذا شأنه، وذاك تراثه يجب على كل رجال الدين والأدب على السواء، أن يقوموا بدراسته واستيعابه وتدبره؛ فيكون لهم كمشكاة زيتها لا ينفد، ونورها لا يخبو ولا يخمد. فالرافعي حجة دينية، ومصلح اجتماعي، ولغوي علامة، وفيلسوف إسلامي مفكر بعيد الغور في الأدبين القديم والمعاصر.
ولقد أطلت الكلام قليلا عن أدبه الديني، لأنه عندي أعلى وأرقى أدب للراحل الكريم طيب الله ثراه؛ ولأن النفس تستريح به وتستريح إليه. . لأنه لسان القرآن الفصيح الذي جلى معانيه وبرهن على إيجازه المعجز، وإطنابه الصافي الوافي الذي لا يلحق
وختاماً أكرر ترحمي على الرافعي الذي مسح الدمع عن أعين (المساكين) وسكب الدر في أفواههم. . . كما أشكره وهو في دار الخلد، على اللذة العقلية التي أورثنيها خلال قيامي بدراسة آثاره. . . وهذه الكلمة اعتراف مني بجميلة، وتقدير خالص لفضله على العرب والعربية. يرحمه الله.
أحمد مصطفى حافظ
محرر بمجلة المدينة المنورة
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مشكلة القراء في حياتنا الأدبية:
في الأسبوع الماضي سألني أديب فاضل من الإسكندرية: لماذا لا تخرج كتاباً في الأدب أو الفن أو النقد تمدنا فيه بمثل هذه الأفكار التي تطالعنا بها في مقالاتك وتعقيباتك؟ وكان ردي عليه أنني فكرت في هذا الأمر أكثر من مرة ثم خرجت من هذا التفكير بأن الإحجام خير من الإقدام، لماذا؟ لأن هناك مشكلة تحول بيني وبين هذه الأمنية الغالية، هي مشكلة القراء في هذا الجيل!
إنني لا أعدو الحق إذا قلت إننا نعاني أزمة في القراء قل أن نجد لها مثيلا في بلد آخر غير مصر. . . وحين أقرر هذه الحقيقة الماثلة للعيون والأذهان، أقررها وأنا أعني هذه الطبقة من القراء الممتازين في محيط الأدب والفن، أولئك الذين يسعون وراء القراءة إيثاراً للعلم وشغفاً بالتثقيف. أما تلك الطبقة الأخرى من قراء الصحف الإخبارية والأدب السهل الرخيص، أولئك الذين ينشدون الفكرة العارية والصورة العارية فهم ألوف والحمد لله!
ومرة أخرى لا أعدو الحق إذا قلت إن القراء في مصر قد حد من طموحهم قصور في الثقافة العامة، وتمكنت من نفوسهم سموم في الصحافة اليومية، وعصف بأناتهم عصر السرعة وما يجر وراءه من جناية على العقول والأذواق. . . هذه هي الأمور الثلاثة التي تشل حركة التثقيف في مصر وتدفع بها إلى الوراء بدلا من تدفع بها إلى الأمام!
أما قصور الثقافة فنسأل عنه برامجنا التعليمية حين تلمس طابعها في هذه الأمية الفاشية بين صفوف المتعلمين، وأما سموم الصحافة فيسأل عنها فريف من الكتاب هبط بالفكر إلى مستوى رجل الشارع بدلا من أن يرفع رجل الشارع إلى مستواه، وأما عصر السرعة فيسأل عنه السائرون في ركابه القانعون بالسطوح فراراً من الأعماق!
نظرة متأملة إلى الطرقات والمحال العامة تكشف لك عن ألوف الأيدي الفارغة من كتاب مفيد، وجولة متأنية في المنتديات ودور العلم تطلعك على ألوف الأذهان الفارغة من فكر عميق، ودراسة متغلغلة في صميم مجتمعنا المصري تقنعك بأن وقت المتعلمين يتسع لخمسة أَيام تنفق بين ملهى وملهى ويضيق بخمس ساعات تنفق بين كتاب وكتاب. . . أما
ميزانية هؤلاء المتعلمين فتضن بعدد من القروش هنا وتجود بعدد من الجنيهات هناك! ولا تعجب بعد ذلك إذا امتلأت على سعتها دور السينما وخلت على ضيقها دور الكتب، وإذا ماجت بالفارغين أسواق اللهو وأقفرت من الوافدين أسواق الفن!!
حتى أولئك الذين يقرئون في مصر قد أصبحوا قراء مقالة! إن أعصابهم لم تعد تحتمل عناء البحث العميق يتشعب فيه التحليل والتعليل، ولا مكاره الكتاب الضخم تتعدد فيه الفصول والأبواب إنهم يريدون مقالاً خفيفاً لطيفاً يفرغون منه على القهوة مع فنجان الشاي، ويلهون به في الترام عن طول الطريق، ويفزعون إليه في مقر العمل من فراغ الحياة!
إن أمامي وأنا أكتب هذه الكلمة كتاباً للفيلسوف الفرنسي سارتر عنوانه (الغثيان) وطبعته الثامنة والثلاثون. . . ولا تنس أن في كل طبعة من هذه الطبعات ألوفاً من النسخ يتلقفها ألوف من القراء! هذا في فرنسا وغير فرنسا من البلاد الأوربية، أما في مصر فتعال نسأل الكتاب عن موقفهم من دور النشر، وتعال نسأل القائمين على دور النشر عن موقفهم من الكتاب. . . إعراض من الجمهور القارئ عن شراء الكتب يتبعه في الكثير الغالب إعراض من الناشرين عن الطبع، وتكون النتيجة هذا الركود الذي لا يجدي معه الإنفاق على إخراج الآثار الأدبية من أموال المؤلفين.
ولقد نسيت أن أحدثك عن مشكلة أخرى تدخل في نطاق هذه المشكلة الرئيسية؛ وأعني بها مشكلة هذه الفئة من عشاق الإطلاع على حساب الغير. ترى كم يجني على المؤلف المصري هذا القارئ الذي يدفع من جيبه عشرين قرشاً ثمناً لكتاب من كتبه ثم يدفع به آخر الأمر إلى عشرات الأصدقاء من هواة الاستعارة الشخصية؟! إن أبلغ ما يمكن أن يساق إلى أمثال هؤلاء المتطفلين على موائد الأدب والمتعدين على حقوق الأدباء، هذه الكلمات التي قرأتها عن كاتب من كتاب الغرب قدم لأحد مؤلفاته بهذا النداء الساخر العميق:(أيها القارئ. . . أرجو أن لا تعير هذا الكتاب لأحد! إنك إن فعلت فقد سرقت مني قارئاً)!!
على ضوء هذا كله أرى الإقدام على إخراج كتاب في هذه الآونة مغامرة غير مرجوة الفائدة ولا مأمولة العواقب. . . وما دام عشاق الأدب في مصر قد طبعوا على هذا اللون الموجز من القراءات فلا بأس من أن ألتقي معهم كل أسبوع في رحاب هذه التعقيبات؟
هجوم عنيف على الصحافة المصرية:
لا أراني مبالغاً حين أقول إن الصحافة المصرية تسف كثيراً وتسمو بنفسها قليلاً، وإنها لتعرف قوتها ومصادر هذه القوة، ولكنها تسيء استعمالها؛ فهي يندر أن تحاول رفع الجمهور إليها، ولا تتحرج من أنت تنزل إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين ومن أنصاف الأميين أو أنصاف المتعلمين، على حد قول المتنبي:
فيابن كروس يا نصف أعمى
…
فإن تفخر فيا نصف البصير!
ولا أدري ماذا يرجى لأمة ثقافة جمهورها الأكبر من هذا النوع الرخيص؟ ولست ترى فيها أكثر من تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق وصور الفتيات كاسية أو عارية، بلا أدنى مناسبة؛ وعلى الجملة كل ما يمكن أن يغري القارئ الفارغ باقتناء الصحيفة أو المجلة والإقبال عليها والتزود بما فيها. إن الله جميل يحب الجمال؛ ولكن الجمال معنى أوسع من أن يقصر على الوجوه المليحة المصنعة، والقدود الرشيقة الممشوقة؛ وإنه لإفساد لعقول الشعب، وتضييق لأفقها، وتشويه لمعنى الجمال عنده أن تلح عليه الصحف بهذه الصور التي يراها على كل صفحة تقريباً؛ ولا مسوغ لنشرها سوى الرغبة في الفتنة والإغراء!
أما البحوث فهي في الأغلب والأعم ملهوجة، أي مسلوقة غير ناضجة، والآراء التي تبسط خطيرة، تقل فيها الروية والتقدير السليم المنزه عن الهوى؛ وكثيراً ما ترى الرأي ينشر لا لأنه هو الصواب أو الذي حصل به الاقتناع، بل لأنه الخليق أن يعجب العامة ويرضيهم!
إننا نريد من صحافتنا أن تسمو بنفسها ولا تسف، وترفع الجمهور إليها ولا تهبط إليه، وتتقي أن تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، وتتوقى المصلحة العامة ولو بشيء من التضحية، وتحترم المسئوليات، وتحرص على التثقيف - مع التبسيط - لا على التهريج؛ وتدرك إدراكاً صحيحاً عميقاً أنها أداة خير جزيل إذا أحسنت استخدام قوتها، وأنها تصبح أداة شر وبيل إذا أساءت هذا الاستخدام!!
هذه الكلمات القوية الملتهبة الصادقة الموجِّهة ليست لي؛ ولكنها للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في (أخبار اليوم) منذ أيام. . . إن أروع ما فيها أنها تقرر الواقع في قسوة تخلو من التجني وعنف يسمو على المغالاة، ولكن أين كان المازني منذ زمان؟ ولماذا لم يتناول قلمه قبل اليوم ليعرض للمشكلة الخطيرة بالدرس والعلاج؟! وفيم كانت هذه الإغفاءة
الطويلة والداء يسري والأزمة تتفاقم والألسنة تضج بالألم والشكوى والصراخ؟ مهما يكن من شيء فإننا نشكر للأستاذ هذه الغيرة تعلى الأوضاع المهدرة وإن جاءت متأخرة؛ ونحمد له هذه الثورة على القيم المشوهة ولا نعفيه من تحمل بعض المسؤولية ومن تقبل بعض العتاب!
لقد كان المازني قاسياً وعنيفاً وصريحاً في ثورته على الصحافة المصرية، فهل يأذن لي أن أكون على شيء من قسوته وعنفه وصراحته حين أنسب إليه بعض المشاركة في هذه الأوضاع التي يهاجمها في غير رفق ولا هوادة؟!. . .
معذرة يا سيدي، فإنا لا أظلمك حين أقول لك إن طريقتك في الكتابة - منذ سنين - لا ترضيني، إنك حين تأخذ على الصحافة إغراقها في تفصيل أخبار الجرائم والخيانات والطلاق والصور العارية، تنسى أنك كثيراً ما تقدم لقرائك مادة فكرية يشهد الله أنك تهبط بها إلى مستوى السواد الأعظم من الأوساط العاديين دون أن تحاول رفعهم إلى مستواك. . . ترى أتذكر ذلك المقال الذي كتبته منذ شهور تحت عنوان (لو أصبحت امرأة)؟! ذلك المقال الذي تخيلت فيه بعض شيوخ الأدب من أمثال طه حسين وهيكل والحكيم في صور نسائية خلعت عليها ما يناسبها من أسماء. . . فهذا (توحة)، وذاك (علية)، وذلك (ميمي)، وغير ذلك مما أذكره هنا على سبيل المثال؟!
هل يستطيع الأستاذ المازني أن يدلني على القارئ الذي يمكن أن يستفيد ويتثقف من أمثال هذه الفكاهات؟!
ومن العجيب أنه يهيب بالصحافة ألا تستغل الغرائز الساذجة أو تهيجها، هو الذي كتب مرة مقالا عن بائعة برتقال أدار فيه الحوار حول أمور جنسية يمنعني من الإشارة إليها وقار (الرسالة)!
أنا والله يؤسفني أن أهاجم المازني، هذا الرجل الذي لمست أدبه وظرفه وتواضعه يوم أن لقيته في مكتب الأستاذ توفيق الحكيم. . . ولكنني لا أستطيع أن أنسى الحق في غمرة هذه الفضائل التي تكشفت لي منها في ذلك اللقاء!
هذا الرجل العظيم وزير المعارف:
يخيل إلي أن ليس هناك من يبلغ بهذا الرجل مبلغ إعجابي به. . . إنه مثل أعلى في
سماحة الخلق ورحابة الأفق وصفاء الضمير. مثل أعلى يجب أن يحتذيه الشباب في أيامهم المقبلة والشيوخ في أيامهم الموشكة على الذهاب!
إن معالي الأستاذ علي أيوب يفتح في سجل الكرامة العقلية صفحة جديدة لم يرها المصريون منذ أمد بعيد. . . صفحة أقل ما يقال فيها إنها مفخرة في ميزان أنصار العهود وأرباب المناصب وأصحاب السلطان. وإلا فمن يدلني على رجل آخر غير علي أيوب قد واجه نداء العاطفة بمنطق العقل، ولقي غواية المنصب بترفع العظيم، وبدد ظلام الحزبية بهذا الضوء الباهر من كرامة القومية؟!
معدن نفسي كريم ما في ذلك شك، معدن هذا الرجل الذي أجمع على نفاسته الخصوم قبل الأصدقاء. . . إنني أشيد بذكره هنا لأنه كرم الأدب والعلم في أشخاص أدباء تربطني بهم صلات من الفكر والروح؛ أدباء لا أرى حرجاً في القول بأنهم يخالفونه في أهوائه السياسية وميوله الحزبية، وهذا هو الخلق القويم الذي يندر أن تجد له مثيلاً في هذا العصر الذي نعيش فيه!
جاشت في نفسي هذه الخواطر وأنا أقرأ عن الرجل العظيم هذه الكلمة الطيبة منذ أيام في إحدى المجلات الأسبوعية: (لا شك في أن معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف معلم عظيم، يؤمن بما كان أرسطو (المعلم الأول) يؤمن به، وهو أن الخير مصدر العلم كله. فهو يفتح ذراعيه لرجال الأدب والفكر ممن خاصمهم غيره من الوزراء السابقين، ويعيدهم إلى أعمالهم، أو يكرمهم لوجه الخير العام وحده. . . لقد بدأ الوزير عهده بهذا التقدير الرفيع للأدب والعلم في شخص الدكتور طه حسين، ثم أعاد إلى خدمة الدولة الشاعر المبدع علي محمود طه والكاتب المعروف محمد سعيد العريان. وآخر مأثرة له في هذا الباب تعيين الدكتور زكي مبارك في القسم الأدبي بدار الكتب المصرية.
هذه روح كريمة ينبغي أن نسجلها لأننا في حاجة إلى كثير من هذا التسامح المحبب الذي ينسى كل شيء في سبيل المصلحة العامة والذي يضفي على حياتنا المصرية روحاً من الحب السامي نحن أحوج ما نكون إليها. . .)
هذا ما قالته مجلة (الاثنين) في معالي الأستاذ علي أيوب، وإنها لكلمات تشير في مجال الحديث عن مزاياه إلى قليل من كثير!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
رسالة مطولة من (السويس) تناقشني فيها الآنسة الفاضلة ع. عبد الرحمن حول ما كتبته عن حقوق المرأة المصرية. . .
يا آنستي، أشكر لك هذه الغيرة الصادقة، ويؤسفني أن أقول لك إن رأيي الذي سبق أن أدليت به يعززه الإيمان والدراسة، فلا تحاولي أن تقنعيني بعدالة قضية تفتقر إلى كثير من عناصر الإقناع! وهذه رسالة أخرى من (الخرطوم - سودان) أشكر لمرسلها الأديب الشاعر محمد مجذوب كريم تقديره وعاطر ثنائه، ويسرني أن أبعث إليه في القريب برسالة خاصة أجيبه فيها عن بعض ما سألني عنه. أما الرسالة الثالثة، فمن (الناصرية - العراق) يعرض فيها الأديب الفاضل عبد الكريم الأمين مأمور مكتبة المعارف العامة لبعض أقوال الأدباء المصريين في مذهب الرمزية، من أمثال الأساتذة الزيات والعقاد وأبي حديد، ثم يطلب إلي أن أعقب على أقوالهم، وأن أتحدث عن هذا النوع من الأدب، ومتى نشأ، وإلى أي حد تأثر الأدباء العرب بأصوله ومناهجه. . . الحق أن الجواب عن هذا كله يحتاج إلى بحث طويل لا تتسع له (التعقيبات)، ومع ذلك فإنا أرجو أن أتحدث عن هذا المذهب الأدبي يوماً ما في بحث يخصص له. ورسالة رابعة من (عدن) أشكر لمرسلها الأديب الفاضل علي باذيب جميل ثقته وحسن ظنه، أما هديته القيمة فكان لها أبعد الأثر في نفسي، ولا يسعني إلا أن أستجيب لرغبته في رسالة خاصة.
بقي أن أبعث بخالص التحية إلى الأديب الفاضل س. ع الطالب بكلية الهندسة بجامعة فؤاد رداً على تحيته الكريمة. وأود أن أطمئنه على أنني ما زلت عند موقفي من حقوق المرأة المصرية. أما الأديب الفاضل محمد محمود حسنين الطالب بكلية الآداب بجامعة فاروق فنصيحتي له أن يترك ما لا يحسن فهمه إلى غيره مما يحسن فهمه، وحبذا لو انصرف عن التوافه إلى استذكار دروسه!
أنور المعداوي
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
مجمع سلامة موسى للغة العامية:
في مجمع فؤاد الأول للغة العربية الآن، كرسيان خلوا بوفاة الدكتور محمد شرف بك والمستشرق الألماني الدكتور فيشر، وقد فتح باب الترشيح لهما، فتقدم عضوان من أعضاء المجمع، هما سعادة عبد الحميد بدوي باشا والدكتور إبراهيم بيومي مدكور، بترشيح سعادة واصف غالي باشا ليملأ أحد ذينك الكرسيين. وحدث قبل ذلك أن كتب الأستاذ سلامة موسى إلى بعض أعضاء المجمع يطلب ترشيحه للعضوية، ويقول إن سعادة واصف غالي باشا يزكيه.
وتدل تلك الرسالة التي كتبها الأستاذ سلامة إلى عدد من أعضاء المجمع، على أنه غير واقف على حقيقة ما يتبع في انتخاب الأعضاء، فإن تزكية أحد من غير الأعضاء ليست سبباً إلى الترشيح للعضوية، وإنما يجب أن يرشحه عضوان ويقدما مسوغات الترشيح من إنتاج المرشح ومؤلفاته.
ولنفرض أن اثنين من الأعضاء أرادا أن يرشحا الأستاذ سلامة موسى، فماذا عساهما أن يقدما للمجمع من مسوغات هذا الترشيح؟ إنهما لا بد يقعان في حرج شديد بالغ الشدة ما كان أغناهما عن أن يتورطا فيه، فالأستاذ سلامة دائب - منذ أمسك القلم - على مهاجمة اللغة العربية والأدب العربي والثقافة العربية على العموم، والمجمع مهمته الأولى المحافظة على سلامة اللغة العربية، وهو يعمل على تنمية الثقافة العربية، ويشجع الباحثين في الأدب العربي، بل إن هذا الأدب الذي لا يعجب الأستاذ سلامة هو معين اللغة التي يتسمى المجمع باسمها ويقوم عليها.
ماذا يقدم العضوان اللذان يجازفان بترشيح الأستاذ سلامة؟ هذا كتاب يأخذ عنوانه النظر لقربه من موضوع الترشيح، وهو (البلاغة العصرية واللغة العربية) وهو كسائر مؤلفات الأستاذ سلامة يحتوي (أفكاراً حرة) مما يقذف به هذا (المفكر الحر) كما يقول الذين يشيعون عنه هذه الشائعة.
يهجم الأستاذ سلامة في كتابه هذا على اللغة العربية ويعيب أدبها ويدعو إلى اللغة العامية،
يقول مثلا: (وقد التفت إلى عبارة قالها الأستاذ عباس محمود العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون، على غير ما يحب، إلى اللغة العامية. وقد حسب عليهم هذه الدعوة في مقدمة رذائلهم. لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت) ومعنى هذا أن الاشتراكيين في مصر يدعون إلى اللغة العامية، على ما يحب الأستاذ سلامة الذي يعتز بفضيلة اللغة العامية ويريد أن يؤلف بها عن غير خالد بن الوليد وحسان بن ثابت، لأن الكتابة عنهما وعن أمثالهما - في رأي المفكر الحر المزعوم - من أسباب تأخرنا!. . . لا يا شيخ!
ويقول بعد قليل من تلك الفقرات إن ارتباط اللغة بالتقاليد والعقائد هو سبب التبلد والجمود في اللغة، وإن الدعوة إلى غير ذلك هي إحدى الغايات التي قصدها من تأليف الكتاب، وهو يدعو في مواضع مختلفة من الكتاب مرة إلى دفن اللغة العربية، ومرة إلى إلغاء الإعراب والمترادفات فيها، ومرة يرى أننا بحاجة إلى لغة المجتمع لا إلى لغة القرآن، ويقرن ذلك أحياناً بحرية المرأة والتقدم الصناعي! إلى آخر ذلك الخلط العجيب الذي يتفنن به من يشيعون عن الأستاذ سلامة أنه مفكر حر. وتلك عينه من أفكاره الحرة!
نرجع إلى مجمع اللغة العربية وترشيح الأستاذ سلامة موسى لعضويته، لنتساءل: هل تتفق تلك الأفكار الحرة وهذه العضوية؟ أنا لا أنكر على الأستاذ سلامة أن يكون عضواً في مجمع، ولكن أي مجمع؟ هو بلا شك مجمع للغة العامية، بل أنا أرشحه لرياسة هذا المجمع العامي، وهذه مسوغاته. وليس هذا فقط فالرجل جدير بالتخليد، ولذلك يجب أن يسمى المجمع باسمه فيقال (مجمع سلامة موسى للغة العامية).
الفن (في أجازه):
أربعة من الأصدقاء جمع بينهم سوء الحال وبؤس العيش، اتفقوا على أن يهجروا أعمالهم التي يزاولونها ويلقون فيها الشقاء ويكونوا عصابة للسرقة، وانضمت إليهم فتاة راقصة. واختاروا مدينة الأقصر مجالا لعملهم الجديد، حيث يكون هناك الأغنياء في موسم السياحة. ويلاحظهم في الفندق الذي نزلوا به رجل غني مولع بقراءة الروايات (البوليسية) فيهتم بأمرهم، ويشجعهم على الاتصال به وخاصة الفتاة الراقصة التي تعرف أن لديه تمثالا من الذهب فتحتال لسرقته، ثم يضبطها وهي تسرقه فيهددها ثم يعفو عنها على أن تعاونه على
ما اعتزم من التدبير نحو زملائها الأربعة. ويرتب الأمر بعد ذلك على أن يوهمهم أن صاحبتهم قد ماتت، ويتراءى لهم روحها فيهتف بهم أنهم سيلحقون بها عما قريب، ويدبر لكل منهم حادثة يوقن فيها أنه مات، ويرمي به إلى كهف أعد ليكون (جهنم) يأكلون فيه البرسيم والتبن والشعير، ويسامون فيه بعض العذاب، ثم يفزعون برؤية (الزبانية) يتراقصون من حولهم. وأخيراً يبدو لهم الرجل الغني فيقول لهم إنهم ليسوا أمواتاً كما وهموا. بل هم أحياء عنده يعذبون لسوء أعمالهم، ثم يعظهم ويرشدهم ويتلو عليهم الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. . . وكنت عندهم في سينما الكورسال وجيت. وأكلت ورك الديك. كما كانوا يقولون لنا في نهاية (الحواديت) ونحن صغار.
تلك هي حكاية فلم (أجازه في جهنم) التي وضعها يوسف جوهر، وقد أخرج الفلم عز الدين ذو الفقار، ومثل الأربعة الأصدقاء حسن فايق وإسماعيل يس وكمال المصري واستفان روستي، ومثل الرجل الغني عباس فارس واسمه في الفلم (أدهم بك) أما الراقصة فهي سامية جمال.
وهو فلم فكاهي كما زعموا، فقد اجتمع فيه جماعة من أبطال التمثيل الفكاهي في مصر؛ ولكن ما هدف الفلم وما موضوعه؟ وهل تكون الفكاهة في الهواء؟ هناك في آخر الفلم يقف أدهم بك على منبر بجهنمه ليبين للمعذبين أن الشرف والاستقامة مع الفقر أحسن مما لجئوا إليه وأنه خير لهم أن يتوبوا ويعودوا إلى أعمالهم الشريفة الأولى. ويذكرني هذا بما كنا نقرأه في كتب المطالعة المدرسية القديمة في ختام كل حكاية: من مثل (والمقصود من هذه الحكاية أن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل).
أما حوادث الفلم فلا تعرض إلا الاعوجاج ومجانية الشرف، ولم تعرض عواقب طبيعية لذلك حتى تستخلص العظة من الوقائع وليس مما يقع في الحياة أن يكون جزاء السارق والمحتال في الدنيا عذاب الآخرة. . . فأحداث القصة خلط بين الحياتين لا هدف له إلا الإضحاك؛ وحينما يصل الأمر إلى مجرد الرغبة في الإضحاك يؤدي إلى شيء آخر غير المراد؛ وهو الإشفاق على القائمين بالأمر لإخفاقهم فيما قصدوا إليه. . وتتركز آفة القلم في هذا القصد؛ فقد جعل منتجوه نصب أعينهم أن يخرجوا فلماً فكاهياً فحشدوا أبطال الفكاهة، وأوصوا المؤلف أن يضع لهم قصة تميت من الضحك، فأمات الأبطال وألقى بهم في
الجحيم لكي يضحك الناس. واتجه المخرج أيضاً نحو هذه الغاية، فضحى في سبيلها بكل قيمة فنية، وأظهر مناظر الفلم كأنهم في عالم غير عالمنا ولست أدري في أي مكان من القاهرة تقع القهوة التي يغني فيها أحد المغنين فيرميه المستمعون بالحصى والأحجار؟ وكيف يسافر أربعة من الفقراء ذوي الحرف إلى الأقصر في عربة نوم فاخرة بالقطار ولما يسرقوا شيئاً بعد؟ وكيف يجلس رجل في ردهة فندق كبير والناس من حوله وقد خرق الصحيفة التي يتظاهر بقراءتها خرقاً واسعاً ليرقب منه أفراد العصابة الجالسين على كثب منه ويستدعي سكرتيره ليشاركه النظر من الخرق؟ وكيف يتصور الإنسان في فندق فخم أن يكون بالجدران بين الغرف ثقوب يرى منها الناس بعضهم بعضاً؟ هذه أسئلة على سبيل المثال فقط؛ تبين ما في الفلم من (خروق) واسعة وقع فيها من قاموا به، لا لشيء إلا للإضحاك. . . وقد كنا نستطيع أن نضحك تصنعاً من أجل (خاطرهم) لولا أنهم في أثناء العمل به سرحوا الفن ومنحوه (أجازه).
ولا يمنعني ذلك أن أذكر إجادة الممثلين على قدر ما هيئ لهم وفي حدود القالب الذي وضعوا فيه، غير أن (استفان روستي) كان جامد الحركة، قليل التعبير، وكان الفرق واضحاً بينه وبين زملائه الثلاثة، وكان عباس فارس موفقاً في دور (أدهم بك) ولكنه بدا ثقيل الظل في خطابته الأخيرة؛ أما سامية جمال فهي في الفلم فتاة جميلة بارعة الرقص وكفى. . .
وقد صاحب بعض مناظر الفلم، قطع موسيقية جيدة، كالقطعة التي صاحبت إسماعيل يس وهو يندب نفسه حين يتوهم أنه مات، وقد وفق واضع هذه القطعة في تصوير جو المآتم المصرية، وكان إسماعيل يس يوقع عليها ندب نفسه توقيعاً ظريفاً.
يقولان لي:
يقول الأديب عبد العزيز سالم بعد استنكار ما كتبه التابعي عن أسمهان في (آخر ساعة): (وقد مات المراغي كما مات مصطفى عبد الرازق فلم تظفر حياتهما بشيء من تقدير حياة أسمهان، الآن أسمهان أفادت الفن وخدمت الغناء أكثر مما خدم المراغي الدين ومصطفى الأدب والفلسفة؟)
وأقول: لكل صحيفة أو مجلة لونها الخاص، وما كتبه التابعي يلائم لون (آخر ساعة)،
وليست المجلات مرفقاً من مرافق الدولة، وإنما هي بضاعة تعرض للراغب فيها. وليس لأحد - كما أرى - أن يقول إن مجلة كذا تشغل صفحاتها بكذا، لأنها هي تريد أن تكون كذلك، وما عليك إذا لم يعجبك ما فيها إلا أن تبحث عن غيرها. ثم ما ذنب التابعي إذا كان أصدقاء المراغي ومصطفى عبد الرازق لم يفوا لهما بمثل ما وفى التابعي لصاحبته؟
ويسألني الأديب (السيد عوض محمود الجعفري بمعهد فاروق الأول بقنا) عن مجلة (الرواية)، وعن انقطاع الأساتذة: سيد قطب، وشاكر، والطنطاوي عن الكتابة؛ والسؤال الثالث:(هل يجب على من تنشر له مقالة، أو قصة، أو رد على سؤال، أن إصلاح كلمة في مقالة، أو أي شيء - أن يكون من المشاهير؟)
أما (الرواية)، فقد تأخر ظهورها لما أشار به الأطباء على الأستاذ الزيات من الاحتياط لاستكمال الصحة ببعض العلاج، ولانقضاء موسم النشاط وحلول الصيف. والمأمول بعد ذلك أن تتحقق آمال عشاق القصة الرفيعة في (الرواية).
وأما السؤال الثاني، فيحال إلى الأساتذة المسؤول عنهم، ولعل الأستاذ سيد قطب قد أجاب إجابة عملية كما رأيت في عددين ماضيين من (الرسالة) ولعله يجد مندوحات من مهام بعثته فيبعث بنفحاته الشرقية من ذلك العالم الغربي.
وأما الإجابة عن السؤال الثالث فقد فصلتها في العدد (790) من الرسالة ولا داعي للتكرار.
عباس خضر
البَريدُ الأدبيّ
تصحيح:
في الجزء الخامس من المجلد السابع لمجلة الكتاب كتب الدكتور مصطفى جواد - من بغداد - مقالاً تحت عنوان (ناصر الدين شافع الكَناني) وهو أحد المؤرخين من ذوي الآثار المغفلة. وقد عرض لي في تضاعيف مقال التعريف بهذا المؤرخ الأديب أمور أجملها فيما يلي:
نقل الكاتب المؤرخ ما جاء في الورقة 16 هو ما نصه: (. . . وطهر منهم البلاد، وأمن من عدوانهم العباد، وأحدهم (كذا) عن آخرهم) وأقول: إشارة الأستاذ الكاتب ب (كذا) لا تغني شيئاً عن الصواب الذي ينشده الكاتب فيما يكتب والقارئ مما يقرأ. . . وحين تقصر المراجع عن الإفادة بالأصل لا يبقى لدى الكاتب والمحقق على الخصوص غير الاجتهاد. وعندي أن أصل الكلمة إن لم يكن (وأبادهم) فهو (وأخذهم) بالخاء والذال المعجمتين، والمعنى أنه أذهب ريحهم وشتت شملهم وجعلهم في الأرض بدداً أي أنه أخذهم - مع الفارق - أخذ عزيز مقتدر.
وجاء نقلاً عن هذه الورقة أيضاً: (ووصل إلى غازان ملكهم ما ساءه من خبرهم وأيس من (صدرهم) قلت: وصواب الكلمة (صدهم) بحذف الراء على الأرجح، ويرجح هذا ما جاء بعده (وأخذ في ترقيع جيشه ولا يترقع، وفي لم شعثه هذا وما في قوسه مرمى ولا في سهمه منزع).
وورد أيضاً: (ولم يصل إليه منهم إلا اليسير (أو) جريح أو مذعور). قلت: ليس ل (أو) هذه مكان في جملة الخبر، وصوابها (من) الجارة وبها يستقيم الكلام.
وجاء أخيراً ما نصه: (. . . تجوس بلاده وتعرف (طارده) وتلاده. .) قلت: الصواب (طارفه) بالفاء وهو ضد التالد والتلاد. على أن لجملة (طارده وتلاده) الواردة تخريجاً آخر ولكنه بعيد المراد، ولا أظن صاحب الرسالة قصد إليه، وإن جار القصد إليه من طريق غير هذا الطريق.
وبعد فما رأيناه أجملنا صواب هناته مجتهدين، ونرجو أن يكون في هذا الاجتهاد السداد، والسلام.
(الزيتون)
عدنان
الضبع مؤنثة:
كتب محرر بالمجمع اللغوي (يثبت) تذكير الضبع على أسلوب عجيب في التحقيق اللغوي، فقد اكتفى بنقل (ضعيف) عن المصباح المنير فيه إحالة على مجهول، إذ قال:(وهي أنثى) - وقيل - تقع على الذكر والأنثى، ثم أراد (المحرر) التوهيم فنقل ما في (الإفصاح) في رواية غير مؤيدة بشاهد عن (المبرد).
وما ساقه بعيد عن التحقيق في إيراد (المسموع)، فإن دوران الكلمة يحقق مدلولها الوضعي ما لم تعارض بنص سماعي، وهو - كعادته - يعتمد على النقل من المعاجم من دون استعمال المقايسة، وصنيعه ليس شيئاً يعطي الإفادة، ونحن لا زلنا نؤثر تأنيث الضبع، فقد ورد:(فإن قومك لم تأكلهم الضبع).
وفي نظرة إلى ميسرة نأمل بعد التأمل سياق شاهد على التذكير
(بورسعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
العمل الأدبي أيضا:
كتب الأديب صبري حسن علوان بالعدد 828 من الرسالة الغراء معقباً على تعريف الأستاذ أحمد أحمد بدوي للعمل الأدبي بأنه التعبير عن تجربة للأديب، بألفاظ موحية؛ فقال (قد لفت نظري هذا التعريف إلى ما عرف به الأستاذ سيد قطب العمل الأدبي في كتابه (النقد الأدبي أصوله ومناهجه) أنه (التعبير عن تجربة شعورية في صورة موحية) ثم قال المعقب (ولعل التعريف الثاني أعم وأوحى) والمهم هو هذا التذييل الأخير فإنه كما يبدو يدل على أن المعقب غير متأكد في تحقيقه العموم في التعريفين. والحقيقة أن تعريف الأستاذ أحمد بدوي أعم من التعريف الآخر لأنه لم يقيد التجربة بوصف يحد من نطاقها فصح أن تطلق على التجربة الشعورية وغيرها؛ أما الأستاذ قطب فقد قيد التجربة
(بالشعورية).
(الإسكندرية)
أحمد محمود عرفه
1 -
راق له
تعبير عربي صحيح فقد جاء في الأفعال لابن القوطية طبع أوروبا ص110 ما نصه:
راق الشيء أعجب، والشراب صفا. أهـ.
وجاء في مقاييس اللغة (الراء والواو والقاف) أصلان يدل أحدهما على تقدم شيء والثاني على حسن وجمال أهـ.
ومن هذا يظهر لك صحة استعمال قولهم راق له وراق في نظره.
أليس هذا مثل قولهم حلا له وساغ له وصفا له.
2 -
الكساء والكسوة:
خطأ أحد أفاضل المدرسين استعمال الكساء بمعنى الملبوس مطلقاً، لأنه ثوب بعينه وهو نحو العباءة من الصوف، واقترح استعمال الكسى جمع كسوة لأنها كل ما يكتسي به، فيقال الغذاء والكسى الخ.
وهذا ليس بصحيح؛ فقد جاء في المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ما نصه: الكساء والكسوة اللباس. أهـ.
ولا يخفى أن الكساء ألطف من الكسى، حتى أن القدامى عدلوا عنها إلى الكساوي كما نقول الرشاوى والقهاوي.
3 -
الأشقياء:
خطأ أحد المدرسين استعمال الأشقياء بمعنى المجرمين والجناة واللصوص، لأن الشقي خلاف السعيد، وأقول إن هذا الاستعمال صحيح بل فصيح لأنه استعمال مجازي. ألا ترى أن المجرم ونحوه غير سعيد؟ ومعاني الشقاء وهي البؤس والشدة والعسر والتعب ونحوه متوافرة فيه؛ بل هو شقي الدارين: شقي في حياته وشقي بعد مماته.
علي حسن هلالي
المجمع اللغوي
حول كتاب (المنصف):
سقطت سهواً أثناء جمع القسم الأول من كلمتي عن كتاب (المنصف) لابن وكيع المصري جملة لا مناص من ذكرها، وهي:(وعند صديقي الدكتور خليل محمود عساكر المدرس بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول صورة من هذه النسخة الفريدة ظفر بها قبيل الحرب الأخيرة بأيام قلائل، وقد كتب على الصديق الفاضل أن يظل في ألمانيا مدة الحرب كلها).
وإني أنتهز فرصة هذا التصويب وأتوجه إلى الدكتور خليل بخالص الشكر وجزيل الثناء.
السيد أحمد صقر
رسَالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 2 -
ثم يقول الأستاذ محمد كرد علي: (ولما عزمت هذه الأيمان على طبعه تفضل صديقي الأستاذ عباس العزاوي وأرسل لي نسخة من مخطوطة خزانته من هذا الكتاب معارضة على نسخة أخرى، وبوجود ثلاث نسخ منه سهل الاهتداء إلى أصح روايات المؤلف، فجاءت هذه الطبعة صحيحة على ما يحب المؤتمنون على نصوص القدماء).
حسب الأستاذ أن ظفره بهذه النسخ قد هداه إلى أصح روايات الكتاب، ومكنه من نشره نشراً علمياً صحيحاً يرضي النقاد الأمناء على تراث العرب، وليس ذلك من الحق في شيء، فإنه لم يفطن إلى أصح الروايات إلا قليلاً، وخرج الكتاب من بين يديه مفعماً بالتحريف، مترعاً بالتصحيف، ووقعت في حواشي الكتاب التي صنعها أوهام لغوية غريبة عجيبة ما كنت لأعنى بتبيانها لولا أن الأستاذ رئيس للمجمع العلمي العربي بدمشق وعضو في مجمع فؤاد الأول للغة العربية بالقاهرة.
1 -
جاء في ص74 (وماذا يقولون في رجل زنى وهو لا يعلم أن الله حرَّم الزنا؟ وآخر زنى وهو يعلم أن الزنا من الكبائر التي تسخط الرب وتوجب النار؟ أيهم أقرب إلى السلامة وأولى من الله بالعفو؟ أو ليس أهل العلم على أن الذي لا يعلم لا حدَّ عليه من جَلْد وتعزير ولا رجم؟ وأن على الآخر حد البكر إن كان بِكراً، وحدّ المحصن إن كان محصناً؟ فهذه أحكام الدنيا، وأما أحكام الآخرة فلولا كراهة التألي على الله لقلنا في الذي ركب الفاحشة وهو لا يعلم أن الله حرمها، معفو عنه)
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (التألي: التكبر)!!!
وهذا شرح ينبو عنه الذوق، ولا يسوغ في شرعة العقل والدين. ولا يتصور أن يكون التكبر على الله قد دار بخلد ابن قتيبة أو طاف بفكره عندما كتب هذا الكلام
إن ابن قتيبة لم يقصد بكلمة: (التألي) إلا معناها المشهور، وهو القسم والحكم على الله. جاء
في لسان العرب: (وقد تألّيتُ، وائتليت: أقسمت، وفي الحديث: من يتأل على الله يُكْذبْهُ، أي من حكم عليه وحلف، كقولك: والله ليدخلنَّ اللهُ فلاناً النار ويُنجحن اللهُ سعي فلان. وفي الحديث: ويل للمتألّين من أمتي، يعني الذين يحكمون على الله ويقولون: فلان في الجنة وفلان في النار).
وسيرى القارئ بإذن الله من أمثلة هذا الشرح العجيب ما يستنفد عجبه، ويستفرغ دهشته.
2 -
ص15 يقول ابن قتيبة في معرض حديثه عن الله وإكرامه لأمة محمد عليه السلام (وأوسع لنا من طيب الرزق، وحرم علينا الخبائث، ولم يجعل في الدين من حرج، ولا خطر بالاستعباد إلا ما جعل منه الخلف الأطيب والبذْلَ الأوفر رحمة منه وبراً ولطفاً وعطفاً).
وليس للبذل هنا أي معنى، والصواب:(والبدَل الأوفر)
3 -
ص16 تحدث ابن قتيبة عن اختلاف الناس في الأشربة (. . . حتى يحتاج ابن سيرين مع ثاقب علمه، وبارع فهمه إلى أن يسأل عبيده السلماني عن النبيذ، وحتى يقول له عبيده، وقد لحق خيار الصحابة وعلماءهم ومنهم علي وابن مسعود، اختلف علناً في النبيذ. وفي رواية أخرى آخذت الناس أشربة كثيرة فمالي شراب منذ عشرين سنة إلا من لبن أو ماء أو عسل)
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (في ع: علينا والغالب أنها علنا)
وقد أخطأ في تصويبه، ولم يدرك أن (اختلف) مبني للمجهول. والصواب:(اختُلِفَ علينا في النبيذ. وفي رواية أخرى: أحدث الناس أشربة كثيرة. . .)
وابن سيرين هو أبو بكر محمد بن سيرين البصري روى عن مولاه أنس بن مالك وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة وطائفة من كبار التابعين. قال ابن سعد، وكان ثقة مأموناً عالياً رفيعاً فقيهاً إماما كثير العلم. مات سنة عشر ومائة.
وقد ترجم ابن قتيبة لعبيده السلماني في كتاب المعارف ص188 فقال: (هو عبيده بن قيس السلماني من مراد. قال ابن سيرين. قال عبيده: أسلمت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين فصليت ولم ألق رسول الله. ومات سنة اثنتين وسبعين)
4 -
ص17 ذكر ابن قتيبة أنه بين مذاهب الناس في الشراب وحجة كل فريق (لعل الله
يهدي به مسترشداً، ويكشف من غمّةً، وينقذ من حيرة، ويعصم شارباً ما دخل على الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة. . .).
والصواب (ويعصم شارباً مما أحِلَّ على الفاسد من التأويل والضعيف من الحجة) قال ابن قتيبة في ص36 (. . . وتتابع الناس في الأشربة المسكرة على التأويل. . .)
5 -
ص17 يقول ابن قتيبة (قد أجمع الناس على تحريم الخمر بكتاب الله إلا قوماً من مَجَّان أصحاب الكلام وفساقهم لا يعبأ الله بهم. . .)
هكذا ضبط الأستاذ كلمة (مجان) بفتح الميم، والصواب ضمها.
6 -
ص18 ذكر ابن قتيبة بعض أقوال هؤلاء المُجَّان ثم عقب عليه بقوله (وليس للشغل بهؤلاء وجه، ولا لتشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى؟ إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع، وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يختل على عاقل ولا جاهل)
والصواب (لا يُخِيلُ) أي لا يشكل من قولهم: هذا شيء لا يخيل على أحد أي لا يلتبس أو يجوز عليه.
7 -
ص21 قال الشاعر:
نبيذ إذا مرَّ الذباب بدَنّه
…
تفطَّر أو خر الذباب وقيذا
والصواب (تقطر) بالقاف لا بالفاء، جاء في لسان العرب (طعنه فقطره، أي ألقاه على قطره أي جانبه، فتقطر، أي سقط وقال الليث إذا صرعت الرجل صرعة شديدة قلت: قطرته، وأنشد:
قد علمت سلمى وجاراتها
…
ما قطر الفارس إلا أنا
8 -
ص21 (وقال آخر:
تركت النبيذ وشراره
…
وصرت حديثاً لمن عابه
شراباً يضل سبيل الرشاد
…
ويفتح للشر أبوابه
والصواب كما في العقد الفريد 4319 (وصرت خديناً لمن
عابه. شارب يضل. . .)
9 -
ص21 (عن عمر بن شيبة بن أبي كبير الأشجعي عن أبيه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (خدر الوجه من النبيذ تتناثر منه الحسنات).
والصواب (عن عمر بن شيبة بن أبي كثير الأشجعي) كما في
الإصابة 3218 - 219 ولسان الميزان 4312 مجمع الزوائد
4230 والجرح والتعديل 3115 من القسم الأول.
والحديث مذكور في الإصابة 3219 وفي لسان الميزان
4482483 وهو حديث منكر.
وشيبة بن أب كثير هذا هو الذي داعب امرأته فماتت من وقع يده عليها في غزوة تبوك. وقد سأل النبي عليه السلام عن ذلك فقال: لا ترثها، كما في الإصابة ومجمع الزوائد من رواية ابنه عمر عنه.
10 -
ص22 (وحدثني سبابة، عن عمرو بن حميد، عن كبير بن سُليم قال: حدثني أصحاب أنس عنه أنه كان يشرب النبيذ الصلب الذي كون في الخوابي) والصواب (وحدثني شبابه. . . عن كثير بن سليم).
وهو شبابه بن سوار المتوفى سنة ست ومائتين كما في تهذيب
التهذيب 4300 والمعارف لابن قتيبة ص229 وخلاصة
تذهيب الكمال ص142 وطبقات ابن سعد766
وأما كثير فهو كما جاء في خلاصة تذهيب الكمال 272 (كثير بن سليم الضبي، أبو سلمة المدائني، روى عن أنس. قال أبو حاتم وهو منكر الحديث.
11 -
ص22، 23 قال ابن قتيبة: وأما المسكر فإن فريقاً يذهبون إلى أن كل شيء أسكر كثيره كائناً ما كان ولو بلغ فرقاً فقليله كائناً ما كان ولو كان مثقال حبة من خردل حرام. . . عن عائشة رحمة الله عليها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مسكر حرام. وما أسكر الفرق فالحسوه منه حرام).
شرح الأستاذ كلمة الفرق بقوله (الفرق بكسر الفاء القسم من كل شيء).
والصواب (الفرق بفتح الفاء والراء) قال ابن قتيبة في ص109 من هذا الكتاب (والعوام يقولون الفرق بسكون الراء؛ ويذهبون إلى أنه مائة وعشرون رطلا على ما اصطلحوا عليه في فرق الدوشاب. ومن في وسعه أن يشرب مائة وعشرين رطلا حتى يعلم ما يسكر منه هذا المقدار من الشراب؟ وإنما هو الفرق بنصب الراء، وهو ستة عشر رطلا، قال خداش بن زهير.
يأخذون الأرش من إخوانهم
…
فرَق السمن وشاة في الغنم
وللعرب أربعة مكاييل مشهورة. المدَّ. والصاع. والقسط، والفرق، وهو ستة عشر رطلاً، ستة أقساط في قول الناس جميعاً
12 -
ص25 قيل للعباس بن مرداس (بعد ما آمن وأسلم: قد كبرت سنك، ودق عظمك، فلو أخذت من هذا النبيذ شيئاً يقويك! فقال: أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم! وآليت ألا يدخل رأسي ما يحول بيني وبين عقلي) والصواب: (ورق عظمك. . . سفيههم آليت. . .)
13 -
ص27 (ودخل أمية بن خالد بن أسيد على عبد الملك بن مروان وبوجهه آثار فقال: ما هذا؟ فقال: قمت الليل فأصاب الباب وجهي. فقال عبد الملك:
رأتني صريع الخمر يوماً فسؤتها
…
وللشاربيها المدمنيها مصارع
فقال أمية: لا آخذني الله بسوء ظنك يا أمير المؤمنين. فقال بل لا آخذني الله بسوء مصرعك).
والصواب: (ودخل أمية بن عبد الله بين خالد بن أسيد).
والقصة موجودة في العقد 4321 ومحاضرات الأدباء 1326
وقد ذكر ابن قتيبة أمية بن عبد الله في عدة مواضع من كتاب
(عيون الأخبار) وقد ورد في الجزء الأول منه ص166 هذا
النص: وقال عبد الملك بن مروان في أمية بن عبد الله بن
خالد:
إذا صوت العصفور طار فؤاده
…
وليث حديد الناب عند الثرائد
وهو خطأ لأن عبد الملك لم يقل هذا البيت وإنما قاله عمرو بن حرثان. وروى العتبي أن عبد الملك بن مروان قال لأمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: مالك بعمرو بن حرثان حيث يقول فيك:
إذا هتف العصفور طار فؤاده
…
وليث حديد الناب عند الثرائد
فقال يا أمير المؤمنين، وجب عليه حد فأقمته، فقال: هلا درأت عنه بالشبهات؟ فقال: الحد أبين، وكان رغمه علي أهون. فقال عبد الملك: يا بني أمية أحسابكم وأنسابكم لا تعرِّضوها للهجاء. وإياكم وما سار به الشعر، فإنه باق ما بقى الدهر. والله ما يسرني أني هجيت بهذا البيت وأن لي ما طلعت عليه الشمس:
يبيتون في المشتى ملاء بطونهم
…
وجاراتهم غرثى يبتنَ خمائصا
وما يبالي من مُدح بهذين البيتين ألا يمدح بغيرهما:
هنالك إن يُستخبلوا المال يُخبلوا
…
وإن يسألوا يُعطوا وإن ييسروا يُغلوا
على مكثريهم رزق من يعتريهمُ
…
وعند المقلين السامحة والبذل
راجع أخبار أمية بن عبد الله مع أبي فديك الخارجي في
الطبري 7194، 195
14 -
ص28 (وكان ابن هرمة الشاعر في شرفه ونسبه وجوده يشرب الخمر بالمدينة ويسكر فلا يزال الشرط وقد أخذوه ورفعوه إلى الوالي في المدينة فحده. . .).
والصواب (فلا يزال الشرط قد أخذوه. . . في المدينة يحده)
15 -
ص30 (وحدثني الرياشي عن الأصمعي قال: كان عقيل بن علقمة المري غيوراً. . .)
والصواب (عقيل بن عُلَّفَة). قال البغدادي في خزانة الأدب
2278 (وعقيل بفتح العين، وكسر القاف، وعلفه بضم العين
المهملة وتشديد اللام المفتوحة بعدها فاء، وهو علم منقول من
واحد العلف وهو ثمر الطلع. ونقل الشريف المرتضى في
آماليه 240 معنى العلفة عن ابن الأعرابي وأبي سعيد
السكري وكرر ابن قتيبة ذكر عقيل ابن علفة في عيون
الأخبار، وقد ترجم له أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني
ترجمة طويلة
1185 -
93 قال فيها (وعقيل شاعر مجيد مقل، من شعراء
الدولة الأموية. وكان أعرج جافيا شديد الهوج والعجرفية
والبذخ بنسبه في بني مرة، لا يرى له كفؤاً، وكانت قريش
ترغب في مصاهرته، تزوج إليه حلفاؤها وأشرافها).
(يتبع)
السيد أحمد صقر
المدرس بالليسيه الفرنسية بمصر الجديدة