المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 832 - بتاريخ: 13 - 06 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٣٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 832

- بتاريخ: 13 - 06 - 1949

ص: -1

‌7 - أمم حائرة

المرأة في هذا العصر

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

قلت في خاتمة مقالي عن الأسرة وما أخشاه عليها: (والمرأة وقاية من هذا الشر، وطب لهذا الداء، وشفاء لهذه العلة).

وفي هذا المقال نظرات إلى المرأة في هذا العصر. وأقدم قبل حديث المرأة في عصرنا هذا ثلاث مقدمات:

الأولى أنه لا يمكن أن تقع خصومة بين الرجال والنساء، فيكون الرجال فريقاً والنساء فريقاً، ويتحزب هؤلاء بعضهم لبعض، وبتحزب أولئك بعضهن لبعض، وينحاز الذُّكْران كلهم إلى جانب، والإناث كلهن إلى جانب؛ إلا أن تكون الخصومة ضرباً من المزاح وأسلوباً من الفكاهة.

ذلك بأن الرجل أبو المرأة وابنها وأخوها، وأن المرأة أم الرجل وبنته وأخته. وهيهات أن تثور عصبية بين هذه الأواصر، أو يقطع تحزبٌ هذا الوشائج، أو يفرّق خلاف ما جمعه الله، أو يفصل نزاع ما وصله الخالق.

فالخصومة في كل أمور المرأة واقعة بين رجال ورجال، ونساء ونساء، يقال الرأي فينصره نساء ورجال، ويخذله نساء ورجال، وتُدَّعى الدعوة فيستجيب لها رجال ونساء، ويردَّها كذلك رجال ونساء.

فالرجال قبل النساء طَلبوا بعض ما يُطلب للمرأة في هذا الزمان، والنساء قبل الرجال عارضوا بعض ما يُطلب للمرأة في هذا العصر.

وأحسب الرجال المنتصرين لمطالب للمرأة أكثر من النساء المنتصرات لها، كما أحسب النساء النافرات من مطالب المرأة أكثر من الرجال النافرين منها.

ولو تعرفنا آراء النساء وحدهن في كل ما يختلف فيه الرأي من شئون المرأة في عصرنا هذا لكانت الكثرة الكاثرة، والغلَبة الغالبة، مخالفة لما ينادَي به من حقوق المرأة أو مطالبها

ص: 1

ودعاويها.

ومن كان في ريبة من هذا فليجربّه، ومَن أكبر هذه الدعوى فليستَفتِ النساء فيها. . . هذه المقدمة الأولى.

والمقدمة الثانية، وهي لا جرم، متصلة بالأولى:

إن المخالفين فيما يُدَّعى للمرأة في زماننا، ويُطلب باسمها في أيامنا، لا يخالفون استخفافاً بشأن المرأة، وازدراء لها، واحتقاراً لمكانتها، وإنكاراً لفضلها، وغفلة عن أياديها. بل المخالفون من أولى العلم والفكر والرأي يخالفون في بعض هذه المطالب إعظاماً لشأن المرأة، وإجلالا لها، وإكباراً لمكانتها، واعترافاً بفضلها، ومعرفة بأياديها. يرون في هذه الدعاوى تعظيماً ظاهراً، وتحقيراً باطناً، ورحمة في القول، وقسوة في الفعل، وتحريراً في الوهم، وتسخيراً في الحقيقة، ونعمة على المرأة بادي الرأي، ونقمة عليها حين التأمل. ويخافون أن تُمتَهن كرامتها، وأن تُبتذل صيانتها، ويشفقون أن تذِل عزتها، وتذال سيادتها، ويحذرون أن تنتهك حرمتها، وتستباح قداستها، ويخافون أن تستبدل بكرامة الأمومة، وعزة الزوجية، ذلَّ الخدمة، وأن تعُطَى بحرمة البيت ابتذال السوق، وأن تترك سيادة الأسرة إلى عبودية المصنع، وأن تُهمل جمال الخلقة ونضرة الطبيعة إلى زيف الأصباغ والألوان، وتدع زينة الثياب إلى سخرية الأشكال التي نراها.

والمقدمة الثالثة: أن للمرأة حقوقاً لا تنكر، وعلى الجماعة للمرأة واجبات لا يرقى إليها خلاف. ونحن - المسلمين - سبقنا إلى تكريم المرأة، والإشادة بحقها وفضلها، وحسبنا من آيات كثيرة هذه الآية الجامعة (ولهنَّ مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة). وحسبنا من أحاديث كثيرة هذا الحديث (سووا بين أولادكم في العطية، ولو كنت مؤثراً أحداً لآثرت النساء).

وقد اعترفنا - قبل غيرنا - بحق المرأة في الميراث والملك، والتصرف فيما تملك بكل الوجوه، وتوليها كل أنواع العقود - أمور لم تنلها المرأة الأوربية في بعض الدول حتى يومنا هذا - ودعونا المرأة إلى التعلم وفرضناه على النساء والرجال سواء، وزخر تاريخنا بالمحدّثات والفقيهات والأديبات والشاعرات.

بل بلغنا في تدليل المرأة أن قال فقهاؤنا: إن المرأة لا تُلزم بخدمة دارها إن كان الرجل

ص: 2

قادراً على أجرة خادم، بل لا يجب عليها إرضاع ولدها إن كان في مكنة الزوج أن يأتي لولده بمرضع.

هذا موضوع يتسع فيه مجال القول، ولكنه ليس من قصدنا في هذا المقال.

ولا ننكر أن هذه الشريعة العادلة، وهذه السنة الكريمة، غطى عليها الجهل في أوطان وأزمان، كما غطى على حقوق كثيرة للجماعات، وأن المرأة ظُلمت وما تزال مظلومة في بعض البلدان أو بعض الطوائف، وأن علينا أن نأخذ بيدها وندفع عنها ونرد إليها كرامتها ومكانتها، ونعترف بسلطانها في الأسرة، ويدها على الأمة.

خلصنا من هذه المقدمات إلى أن الخصومة في قضايا المرأة ليست خصومة بين الرجال والنساء، وأن المخالفين في هذه القضايا لا يغضون من قدر المرأة، بل يعظمونها ويحرصون على كرامتها وسعادتها، وإن أحداً لا ينكر أن للمرأة حقوقاً على الجماعة يجب أن تؤدَّي إليها، وفضلاً على الأمة يجب أن يُعترف به.

بعد هذه المقدمات يضيق مجال الخلاف، ويُحد موضع النزاع، ويستبين الطريق. علام الخلاف إذاً بين المختلفين؟ وفيم الخصومة بين المختصمين؟ الخلاف كله أو جله في هذه القضية:

يقول قائلون وقائلات: (إن مكان المرأة دارها، ومملكتها أسرتها، ومعقلها بيتها، وعملها القيام على العش وإسعاد نفسها وزوجها وأولادها فيه، لا تتجاوز هذه المملكة أو تهملها إلا معتديةً ظالمةً، ولا تُخرج منها أو تُقهر فيها إلا معتدىً عليها مظلومة).

وتقول جماعة أخرى: (بل للمرأة السوق، والمصنع، والمنصِب، ومُعترك السياسة، والمقهى والملهى والمرقص وما وراء هذه. . . ولها أن تزاحم الرجل بالمَنكِب في كل مُزدحم، وأن تغالبه في كل معترك).

فتقول الجماعة الأولى: مَن للبيت إذاً؟ من للأسرة؟ من يربي الأولاد وينشِّئ النشء، ويقوم على هذه المدرسة أو المعبد أو الجنة التي ذكرنا آنفاً؟ إلى من يسكن الزوج المرهق حين يفر إلى داره من ضوضاء الأسواق ومعترك العيش؟ وبمن يعتصم الناشئ حين يأوي إلى بيته؟ وأية يد رحيمة - غيرَ يد المرآة - تُطعم وتُسقي، وتُفرش وتُنيم؟ وأي قلب غير قلبها يسع الرأفة والرحمة والحب والود، ويُشيع النظام والجمال في الدار؟ من غيرها يَطب

ص: 3

للأدواء، ويضع في مواضعه الدواء؟!

إنما أخرج المرأة الأوربية من معقلها، وأنزلها عن عرشها هذه الوحشية المدمرة التي قتَّلتْ الرجال فحرمت المرأة عائلها، فخرجت تسعى لنفسها، وتكدح لقوتها. . . ولو خيّرت ما اختارت هذا الشقاء! وما على وجه الأرض امرأة تؤثر السوق والمصنع على سكينة البيت ونعيم الأسرة! إن هذه ضرورات أدَّى إليها تعاسة الإنسان وشقاوته، والضرورة تُقدَّر بقدرها، وينبغي السعي لدفعها، وألاّ نقر لها ونخضع لسلطانها، ونجعلها قانوناً تسير عليه المعيشة، فإنما هي شذوذ عارض، وخلل طارئ، في نظام الأسرة وقانون الأمة.

ويقول فريق: حرَّرنا المرأة من أغلال العصور الأولى، وفككناها من إسار العادات القديمة، وأخرجناها من الظلمات إلى النور، وأطلقناها تمرح كما تشاء، وتخالط الرجال في كل مجتمع، وتغالبهم في كل عمل.

فيقول فريق آخر: نحن ننصركم في التحرير وفك الإسار، والإخراج من الظلمات، ولكنا نرى في كثير مما تفخرون به تسخيراً لا تحريراً، وأسراً لا فكاكاً، ومهانة لا كرامة، وشقاء لا سعادة!

إنا ننظر إلى مدنيتكم هذه فنرى فيها مُتعاً وفِتناً، وملاعب وملاهي، وأسواقاً للذات رائجة، ومجامع للمرح صاخبة، وفنادق للترف آهلة، ونرى تجاراً وسماسرة، وشياطين وسحرة. ثم لا نجد في متعكم وفتنكم وملاهيكم وملاعبكم وأسواقكم ومجامعكم وفنادقكم إلا سلعة واحدة تتداولونها، وبضاعة مفردة تديرونها، ومخلوقاً تعبثون به وتلهون، وتجمعون به المال في أساليب شتى وتتّجرون، هو المرأة البائسة الشقية! لقد أدرتم عليها المسارح والمراقص والحانات، وكل دار للهو، وكل مباءة للاثم، وعرضتموها على النظّارة رقيقة في صورة حرة، ومُكرهة كأنها مختارة، وباكية بوجه ضاحكة، وشقية في ثياب سعيدة، ومبتذلة بدعوى التكريم، ومسخّرة باسم التحرير. . . جعلتموها وسيلة إلى كل كسب، وشركاً لكل صيد، وجلبتم بها المشترين إلى متاجركم، ونشرتم صورها في آلاف الأشكال للترويج لبضائعكم، وجذب القراء إلى صحفكم. . . وأخذتموها إلى سواحل البحار، وإلى مسابح الملاهي، فعرَّيتموها ولهوتم بها ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وكذبتم على أنفسكم وعلى الحقائق، فقلتم: حررناها وأسعدناها، وليس للمرأة في هذا كله تحرير، ولا لها من السعادة نصيب. إنها

ص: 4

مسخَّرة مسيَّرة بأهواء الرجال، وإشراك عبَّاد المال. وليس لها في الحق نصيب من هذه المتع، ولا اختيار في هذه الأسواق. وهان على العابثين كرامة المرأة، وخفّت على اللاهين كرامة الأمة، واستوى عندهم صلاحها وفسادها، وصحتها ومرضها، وعزها وهونها.

ثم استدرجتم المرأة إلى الطرق والأسواق كاسية كعارية، وجعلتموها أُلهِيَّة لِكل سائر، ومتعة لكل ناظر، وحديثاً لكل عابث، وهوَّنتم أمرها على الدهماء، فلقيها الأوباش بالأقوال والإشارات، حتى لم تبق للسيدة في الطريق حرمة، ولا لربة البيت في السوق من الأشرار عاصم!

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 5

‌قطرات ندى.

.

‌للأستاذ راجي الراعي

الكفر ماء الروح إذا جمد.

سخرية الموت أشد بروزاً فيه من جشعه.

المنطق الذي لا هم له إلا أن يوثق النتائج بالأسباب حبل قديم ثخين - ينظر إليه الخيال مذعوراً إذ يحسبه حبلا في عنقه.

كلما تمثلت المد والجزر تمثلت الطي والنشر والوصال والهجر

المنتحر رجل يستبطئ الموت فيحشو فمه تراباً!

كأني بالعبارة وهي تذهب في الطول عبارة تائهة تفتش عن محورها أو هدفها الذي انحرفت عنه.

أترانا نميل إلى تجسيد ما نتخيل؛ لأن لنا أجساداً. . أفي هذا اليد التي تشير إلى الميثولوجيا والأساطير والتهاويل والهالات والتماثيل؟

كل صخرة من صخور الجبل فلذة من كبده، ولك كثيب من كثبان الرمال منبر من منابر الصحراء.

يطلبون العناق والإخاء، وهذه النجوم المتفرقة لا تعرف غير الجفاء والعداء، ويقولون إن الطبيعة هي الألف والياء في أبجدية الأحياء.

الدعوات التي تتلقاها العبقريات هي بطاقات الآلهة لحضور الوليمة الخالدة.

القاعة التي تقام فيها وليمة العباقرة ما تزال مفتوحة الأبواب منذ العبقرية الأولى.

الوهم ضباب الرأس.

أتكون الأجيال فصول راوية بدأها الزمان ولم يهتد بعد إلى الخاتمة؟

* أتكون الحقيقة إطار هذا الرسم الذي ندعوه خيالا؟

إن المجهول يستهويكم حتى يصبح معلوماً، ذلك أنكم لا تحبون أن تمشوا وراء راع ترون عصاه وتنشدون في نقصكم وضعفكم الكمال فكلما ظهر لكم وجه قائد تحولتم عنه وقد عرفتموه إلى غيره، ولعل في هذا السير المستديم وراء القوى الخفية المتعاقبة سر بقائكم.

الزلزلة أرض انتفض ضميرها وارتعش وجدانها.

ص: 6

لا يستطيع العظيم أن يتبوأ مقعده في العلاء إذا لم يرفعه إليه جناح فنان.

إن الفنانين الخالدين المخلدين هم الذين تقام على قواعدهم تماثيل التاريخ.

الحياء والكبرياء يلتقيان في العزلة، ويفترقان في الثقة بالنفس.

هذا الوادي يذهب في الأعماق كأنه حامل جواهر يريد أن يودعها قلب الأرض أو رجل يرى غير رأى الجبل فيقول له: أنت تحسب العظمة في الشموخ والقسوة والطموح وأنا أراها في الوداعة والتواضع واللين، أو يرى رأيه ويحالفه في الكبر فيقول له: كلانا طالب عظمة: أنت تطلبها في آفاقك وأنا أطلبها في أعماقي.

إذا استطعت أن تجمع بين القوة واللين كان لك جناح العقاب وبيتك في القمة.

إذا كان الذكاء لساناً من نار فالماء بلادة.

للعبقري موجاته الأربع: موجة اللهيب، وموجة البحر وموجة الأثير، وموجة الصحراء.

أنت أول الخونة إذا رضيت أن تتخلى عن قيراط واحد من جنونك الفني الأدبي السامي إرضاء للجماهير.

النجوم شظايا ما انفجر في جوانب القبة الزرقاء يوم غضب الله غضبته فطرد آدم من الجنة.

العبقري غني بنفسه تأتيه عبقريته المستقلة بكل ما يطلب فلا يمده يده إلى العواطف والأحداث والأهواء مستجدياً.

الطعنة الطعنة طعنة العدالة إذا طعنت بمدية غلافها القانون ودمها مداد النص وبريقها بريق الحق والوجدان.

سألت عن السياسة الحكيمة المتئدة التي لا تُجري الأمر على إطلاقه فقيل لي. هي في البحر، في المد والجزر.

كلما أطبقت الجفنين والشفتين اشتممت رائحة التراب، وسمعت فيَّ شيئاً كأنه قرقعة المعول في يد الحفار.

من أتعس الناس رجل ذو ذاكرة قوية يصرف الساعات الطوال في نهاره وليله في المطالعة ولا يرى فيه قوة للتعبير عما يشعر به فتظل تلك الخلائق في أرحامه لا تقوى على الخروج وتتراكم مع الزمن حتى يصاب بالاستسقاء الروحي الذهني. وفي مساء يوم من

ص: 7

أيامه السود ينفجر رازحاً تحت أثقاله ويسلم الروح منتحراً أو مجنوناً. . . إن النفس إذا غصت ساحتها بما فيها ولم تجد لها منفذاً أصيبت بالاختناق فلا تصرفوا أوقاتكم في القراءة إذا كنتم لا تستطيعون أن تكتبوا. . . القلم فرجة الروح فاكتبوا كلما قرأتم لترتفع أشجاركم بدورها بين تلك الأشجار التي تتفيأونها في غابات الفكر والإحساس. . . افتحوا كوى أرواحكم بين الحين والحين لئلا يفسد هواؤها.

كلما تمثلت نفسي محشوراً في ذلك الوادي الرهيب، وادي يوشافاط تبسطت ما استطعت في دنياي وأحلامي مغتنماً فرصة البقاء قبل الجلاء إلى ذلك الموقف المخيف بين الملايين التي لا تعد من الموتى الأحياء، يتلى عليهم الماضي ويحاكمون. .

البحار ابن البحر رجل كئيب فمن أين أتاه البحر الفسيح الرحاب بالكآبة. ونحن نعرف الرحب الصدر صابراً متفائلا غير كئيب؟

أنا أومن بالوراثة ولكن أين خليفة المتنبي في صحراء العرب. . وأين نظرات الفراعنة في عيون المصريين اليوم. وأين أثينا القرن العشرين من أثينا أفلاطون وسقراط إلى آخر تلك القافلة العلوية التي جاورت الأولمب وسيطرت بفلسفتها وخيالها على الدنيا. . وأين هذا الإيطالي الناعم الفنان، صاحب الأوتار والألحان، في البندقية وميلان، من أولئك الجبابرة الرومان الذين ملكوا بشجاعتهم الأرض وخضع لهم الزمان؟ ألا ترى معي أن هناك سلاسل تقطعت ودماً تحول عن مجراه؟

القلم الذي يأتيك بالموجة الطويلة ليس قلماً عربياً. . إن مذياع لغة العرب لا يعرف غير الموجة القصيرة.

راجي الراعي

ص: 8

‌سفينة المعارف

في يد (الربان علي أيوب)

للأستاذ عبد الله حبيب

كيف قاد الربان سفينة المعارف؟ وكيف اجتاز بها مصاخب الأمواج الهوج، في مصادم البحر، بين الرياح الرْعن، والمهاوي السحيقة؟؟

الربان مقضي عليه أن يجهد جهده، فيحسب حساب المد والهواء، بين أفاعيل الماء والسماء، ليهتدي في تعاريج تلك المهاوي بين الضباب والأمواج، إلى ما يبغي من سبيل مأمون العواقب، محقق الثمرات.

وقد جهد وزير المعارف جهده، فحسب حساب المد والهواء، ففكر، ودبر، وأنعم النظر فيما كان، وما يجب أن يكون. واستطاع - في فترة وجيزة - أن يقود سفينة العلم والأدب بيد ربان حكيم حصيف. وهو الوزير الذي لم يتدرج - قبل أن يلي الوزارة - في مراحل الوظائف الحكومية، ولم يعرف من (صناعة الحكم) أو أساليب الحكام، ما عرف غيره من الوزراء الذين لابسو شئون الوظائف في مراحلها العديدة. . . وأثبت أن الحكم ليس (صناعة) تستوجب المران والتمرس، ولكنها تستوجب العقل الراجح والوعي الشامل والأفق الفكري المترامي الأنحاء.

وقد أقبل على وزارة المعارف مفترضاً أن شئون التعليم وشئون رجال العلم والأدب (قضايا) يجب أن تدرس بعقل المدرة المستنير، فجعل لكل قضية من تلك القضايا واجباً في عنقه. وراح يقرأ ويقرأ مئات من الأضابير في مئات المسائل، وما زال حتى وضحت أمامه المعالم، واستوى الطريق، فأخذ يقضي في تلك القضايا - واحدة إثر أخرى - بأحكام قاض عادل متزن. وحالف التوفيق تلك الأحكام، فجاءت موضع الإعجاب والتقدير.

وكانت (قضية الأدباء) أول قضية استهل بها عهد أحكامه العادلة، يوم نظر إليها نظرة وطنية شاملة فرد إلى طائفة منهم حقوقاً كانت ضائعة، وجعل يبحث ويبحث عن حقوق بقية الأدباء ليردها إليهم، ويدفع الظلم عنهم، بقلب وطني شجاع، لا يخشى فيما يراه حقاً لوم اللائمين وتعنت المتزمتين، ويقول في ذلك: إن العلم والأدب لا وطن لهما، ولا حزبية فيهما، وإنه أراد بما فعل أن يوحد الجهود في سبيل العلم والأدب؛ راجياً أن يكون علمه هذا

ص: 9

فاتحة خير لتوحيد الجهود في سبيل قضية الوطن.

وقد أعلى بذلك شأن الأدب - في عهد الفاروق - أعلى الله شأنه، وأكرم الأدباء أكرم الله صنيعه، ولقي في سبيل إنصافهم ما لقي من عنت ولوم واحتجاج، فكان عزاؤه ما لهجت به الألسنة من الثناء عليه، والدعاء له، ورضاء الأمة عن عمله، وعرفانها لجمليه.

ونفي عن الأدباء - بما فعل - تهمة التعطل والتعطل والميل إلى الكسل وتلمس الرزق من أيسر طريق. فأظهر الناس على أن الأدباء (كفايات) مذخورة للوطن، يجب أن يعلو بها الوطن، وأن الأمة التي تطمس حق أدبائها، وتأخذهم بجريرة الحزبية البغيضة، لا خير فيها ولا أمل يرجى في صلاحها.

أما بقية القضايا فهي في طريقها إلى النور، وسوف تظهر أحكامها السديدة الرشيدة لكل ذي عين وبصيرة، ناطقة بما وهب الله قاضيها من سداد ورشاد وبصر وإيمان.

وأما السفينة بما فيها ومن فيها، فهي في طريقها إلى شاطئ السلام وبر الاطمئنان، يقودها ذلكم (الربان) الذي عرف من أفاعيل الماء والهواء، والرياح الرعناء، ما لم يعرفه ربان قديم.

ولم يبق أمام هذا الربان القدير سوى بعض صخور وبعض أعشاب تنساب فيها الأفاعي والحيات. ومن يدري!! فلعله (رفاعي) يرود الأفاعي والحيات، ويعرف كيف يخدرها بتعاويذه وأدعيته، ثم يستلها من بين تلك الأعشاب، فيكسر أنيابها ويقي الناس من سمومها، ويصل بالسفينة إلى شاطئ السلام، بعد القضاء على الصخور والأعشاب.

وسيعرف الناس - بعد ذلك - أي جهد بذل هذا الوزير العادل، وأي مجد بنى لأمته في محيط العلم والأدب.

أما أدباء مصر، فقد أصبح في أعناقهم لهذا الوزير المنصف العادل دين أي دين، وكذلك علقت بنفوسهم أكبر الآمال في عدله وبره ورعايته وتعميم فضله وتقديره لأهل العلم والأدب.

عبد الله حبيب

ص: 10

‌صور من الحياة:

على هامش القبعة

للأستاذ كامل محمود حبيب

لقد صادفت مقالات (القبعة) هوى في نفوس قراء (الرسالة) الغراء ممن يحسون في أنفسهم غيرة وحماسة، فأهدى إليَّ الأستاذ عدنان أسعد كتابه (خمر وجمر) وقدم هديته الأنيقة المشكورة بقوله (أهدي إليك كتابي المتواضع لقاء مقالك الماتع القبعة) ولمست في تضاعيف كتابه ثورة على هذه الفئة من الناس الذين لبسوا القبعة حيناً من الزمان لينبذوا المعاني السامية للوطن والدين واللغة، حيث يقول:(. . . وهكذا تفرنج الشرقي إذ انسلخ من شرقيته وصبأ من تقاليده، فلبس القبعة وتبرنط ووضع البيبة وتهبَّط، ولوي لسانه اليعربي برطانة الغرب ولغة الهمج ثم تبجح فقال: هي المدنية يا قوم فقلدون!)

وكتب إلى الأستاذ عبد الحميد يونس المدرس بكلية الآداب يقول: (. . . لم يكن المنظر الذي أثار اهتمامي هو منظر النيل الساحر تقف على ضفتيه عمد النخيل الباسقات والأشجار الخضر المتشابكة وهو يتلألأ صافياً رقراقاً يُصافح أشعة الشمس الذهبية عند الأصيل كأنه يودعها وداع الحبيب الوامق إن حمَّ الفراق. ولا هو للصحراء الساجية بالليل المتثابتة بالنهار كأنها أمواج البحر المتلاطمة مسحت عليها يد ساحر رهيب فجمدت في مكانها لا تريم. ولا هو لعاشقين تأجج الهوى في قلبيهما ضراماً من شباب وشواظاً من عاطفة فذابت أنفاسهما مع لظى النجوى وزفرات الغرام. ولا هو للزهر النضير المتألق وهو يزهو في رونق ويختال في بهاء وينفح أريجه في خيلاء وقد تعهدته يد صناع فبدا على نسق يخطف البصر ويأسر اللب. ولكنه منظر يشغل أذهان العامة وتطرب له أفئدة الأطفال. . . هو منظر سيارة عطلت في عرض الطريق فتقدم لها حمار يجرها. والسيارة رمز الجديد وشارته والحمار صورة القديم ورسمه.

تحارباً وتخاصماً وتدابراً، وسخر الأول من الثاني في عزة وكبرياء، وأغضى الثاني عن الأول فصمت وطأطأ رأسه في استسلام، ثم اندفع على سننه لا يعبأ به ولا يلقى السمع إلى حديثه وحاول كل منهما أن يقتل صاحبه ويمحوه ويبيده، حتى إذا حزب الأمر بأحدهما ونزلت به النازلة وضاقت به سبل الأرض أسرع الثاني إليه يمسح عنه ما أضناه ويهوِّن

ص: 11

عليه ما آده ويعينه على ما أعضل عليه. . . ما أشدهما خصمين وما أكرمهما عدوين!

هذه - يا صاحبي - هي الحرب الصحيحة بين الجديد والقديم، ولكنها في مصر - وطننا العزيز - معركة عنيفة في ضعف، شديدة في فتور، لا تسمو عن المهاترات الوضيعة والألفاظ النابية والمفارقات العجيبة، يريد الواحد أن يحط من قدر أخيه على جهل منه وصلف.

وأنت هنا لا تكاد تفرِّق بين المجدد والمحافظ إلا من أسماء خاوية تسمى بها البعض دون البعض الآخر، فليت شعري هل آن الأوان لأن تفقه السيارة المجددة أنها ستصاب - في وقت ما - بالعطب فيتقدم إليها الحمار في رزانة وهدوء ليقيلها من عثرتها وليكون لها عوناً وساعداً. أو أن يفهم حمارنا المحافظ أن من سماحة الطبع وسمو الخلق أن يهفو نحو غريمه - في ساعة الخطر - ليكون صاحب الشدة ورفيق العسرة؟

والمجدد هنا رجل لبس القبعة حيناً أو بعض حين وقرأ الكتب الغربية سنة أو بعض سنة وانكب على الثقافة الإفرنجية ردحاً من الزمان، ثم جاء يلوي لسانه برطانة بربرية ويملأ شدقيه بكلمات أعجمية على جهل منه بالغرب، لا ريب فهو قد عاش زماناً في بلاد الغرب ولكنه لم ينغمر في البيئة ولم يتغلغل إلى عاداتهم ولم يكشف عن أخلاقهم، فبدا فج العقل والعقيدة والفكر. وما به إلا أن يهدم تراث الشرق وهو تراث أقامته الأجيال العديدة على دعامات قوية ثابتة.

وداء هذه الأمة أنها تبذر - دائماً - في القبعة روح الغرور والكبر حين تفسح لها المكان المرموق، وحين تضعها في صدر الجماعة، وحين تهيئ لها مجلساً عالياً بين القادة والزعماء. والقبعة - لهذا - تتكلم وتخطب وتعلمِّ فتملأ قلوب الشباب من أبنائنا خلطاً وخرفاً، وتزين لهم - في أسلوب سياسي رقيق - أنّ يعقوا الدين والوطن اللغة، وتدفعهم - في مكر ولين - إلى الهاوية.

وأكبرهمِّ صاحب القبعة أن يعبث بصورة الوطن الحبيبة لتبدو شوهاء مبتورة تعافها النفس ويزدريها العقل، وأن ينقب عن النقائض يلصقها بأهله ثم يتحدث بها في طلاقه وإسهاب، وأن يأخذ نفسه بالبحث عن نواحي الضعف في بني وطنه فيذيعها في غير اكتراث ولا مبالاة. ثم ينكر علينا النبوغ والعبقرية والسمو، ويسمنا بالتقصير والخمول والتخاذل،

ص: 12

وينسى أنه واحد من هذه الأمة لا يستطيع أن يهرب من عاداتها ولا أن يتفلت من خصالها.

ولشد ما يحلو لصاحب القبعة أن يتمادى في الغي وأن يسترسل في المكابرة، فيتصنع احتقار المصري ويحاول جهده أن يحط من قدره، وأن ينال من كرامته، فهو لا يؤمن به عالماً ولا أديباً ولا صانعاً ولا. . . ثم يتبجح فيجهر برأيه السقيم في غير تحرج ولا حياء.

وأنا أعرف رجلاً من ذوي القبعات رأى أثراً من آثار الصناعة، ظنه مصرياً - وفي رأيه أن الصانع المصري رجل متواكل واهي العزيمة مغلق الحس - فهاله ما في هذا الأثر من ضعف وتداع، فراح ينحط على الصنعة والصانع يثلبهما بأقذع الكلم ويسلقهما بألفاظ غلاظ. فلما تبين له أن الصانع إفرنجياً تراجع في ندم وتخاذل في ضعف كأنما عزَّ عليه أن ينال من الإفرنجي وهو سيده ومثله الأعلى.

وأعرف رجلا آخر من هذه الفئة ترامى إليه أن أجنبياً ذا مكانة أدبية يوشك أن يزور مصر، فأخذ يترقب مقدمه في شغف، ثم اندفع يستقبله في حفاوة وأفسح له من قلبه ومن قلمه في وقت معاً، وملأ صَّفحات الصحف بما أضفى عليه من إطراء ومدح. ثم حاول أن يمن عليه الأجنبي فيزوره في داره لتسعد الدار بزورة السيد الأجنبي، ولتظفر المائدة بفضل الأديب الغربي، فتشاغل هذا عنه وتعلل بالتعلات، ثم ضاق بإلحاحه فردَّه - بادئ ذي بدئ - في هوادة، ثم ضاق به مرة أخرى فردَّه في عنف. وحزَّ في نفس صاحبنا أن يندفع إلى الرجل في غير صبر، وأن يتشبث في غير أناة، ثم لا يلقي - بعد هذا كله - إلا الاحتقار والمهانة، فأطلق فيه لسانه وقلمه يثلب علمه وأدبه وأخلاقه، ويزدري رجولته وإنسانيته وفنه. . .

هذه هي أخلاق القبعة، وهذه هي عقيدتها، وهذا هو إيمانها، فمتى. . . متى نتحلل من قيودها؟ إن القبعة - ولا ريب - هي بقايا عهد زال منذ زمان، عهد السيطرة الأجنبية البغيضة، عهد الاستخذاء والضعف. . . فمتى. . . متى نتحلل من قيودها لنمسح عنا عار التعبد والخضوع؟

وجاءني صديق من ذوي القبعات هائجاً يهدر وهو يتلظى غيظاً وغضباً، وفي يده مجلة أسبوعية وصحيفة يومية، ثم قذف بهما أمامي وهو يرغي ويزبد، ثم قال:(أرأيت، أرأيت الصحافة في بلادنا وهي تشوه الحقائق؟) قلت: (ماذا؟ ماذا أصابك؟) قال: (هذه الصحيفة

ص: 13

نشرت مقالاً بعنوان: الشعب الإنجليزي ذهبت أخلاقه. وهذه المجلة كتبت مقالاً بعنوان: عشش الترجمان في لندن!). قلت: (وماذا يعنيك وأنت رجل مصري الجنس؟) قال: (هذا افتراء بيِّن على شعب عظيم!) قلت: (وما لك أنت ولهذا الشعب؟) قال: (لقد عشت هناك سنوات فما شعرت بشيء مما يقولون!) قلت: (عجباً! إن في الصحيفة أرقاماً تنطق، وإن في المجلة صوراً تتكلم!) قال: (فأنت تصدق هذا البهتان الواضح فتنكر على هذا الشعب العظيم خصاله العالية وأخلاقه السامية، وهو قائد العالم وسيده) قلت: (وأنت تغضي عن الدعايات النكراء، والشائعات الشوهاء، يروجها عنا أصحاب الأغراض السقيمة في البلاد الأجنبية لتحط من كرامتنا و. . .) قال مقاطعاً: (إنهم لا يقولون إلا حقاً) قلت: (كأني بك قد تعلمت هناك - يا سيدي - كيف تنبذ المعاني السامية للدين والوطن واللغة!)

وأحس هو بأن كلماتي تخزه وخزاً شديداً، فانطلق من لدني في ثورة وغضب، ولكني لم أعجب أن يكون هذا الفتى قد استحال في سنوات إلى قبعة تتفلسف فلسفة واهية منحطة!!

وقص عليَّ صديق حبيب إلى نفسي قصة زواج القبعة. . .

فليت شعري هل أفلح صاحب القبعة أن يكون زوجاً وأباً ورب أسرة؟!

كامل محمود حبيب

ص: 14

‌ترجمة وتحليل:

الخلود

لشاعر الحب والجمال لامرتين

ترجمة الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 2 -

وما ينفك الفضول مستأثراً بلب الشاعر، فهو يريد أن يعرف كل شيء عن هذا الضيف الكريم الذي فتح عليه سجنه وحطم له قيده؛ فما الذي حمله على الهبوط من سمائه إلى الأرض، ومن دار الخلود إلى دار الفناء؟ وما هذه القدرة الخارقة التي أمسكته عن الطيران، ووقفته عن الجوَلان، ثم حبسته في هذا الكوكب الأرضي بين أجساد مخلوقة من سلالة من طين؟ وأنى يتسنى له وهو سجين أن يتصل بالبدن الذي تحللت عناصره، فأمسى رميم العظام؟ وما هذه العرى المدهشة للعقول، والصلات الخفية عن الأبصار التي تربط بينهما هذا الربط المحكم الوثيق؟

(أي قدرة ألقتك على هذه الأرض الفانية؟

أي يد غيبتك في سجن من الطين؟

وبأي عرى مدهشة، وروابط خافية،

يمسك بك الجسم كما تمسك به وأنت سجين؟

ولم يكتف لامرتين بهذه الأسئلة؛ فهو يرتقب بشوق لجوج يوم يُفصل بين الروح والبدن، يوم لا تنفع العرى والروابط مهما حفيت على الأبصار؛ وينتظر مفارقة الروح لهذه الأرض وصعوده إلى السماء حيث يجد قصراً مشيداً بدلاً من القبر الذي كان يشترك فيه مع البدن.

(متى يوم الفصل بين الروح والبدن؟

متى تغادر الأرض إلى قصرك المشيد؟

هل نسيت كل شيء؟ ألن يبعثك الزمن

من أعماق القبر إلى مجهل جديد؟. .)

وإذا انفصل الروح عن البدن وتحرر من قيوده وطار من هذه الأرض إلى السماء، وانتقل

ص: 15

من قبره إلى قصره - فكيف تكون حياته المقبلة؟ أهي مماثلة لحياته الماضية؟ أفيها متع عاجلة وشهوات زائلة، ومطامح سرعان ما تُنسى، ورغائب ما أقل ما تبقى؟ أم فيها نعيم خالد لا يُصدَّع عنه ولا يُنزف، ولا ينقطع ولا يفتر، ولا يُمل ولا يُستكره، لأنه يتدفق من عين قدسية تنبع من الذات الإلهية؟

(هل ستحيا غداً حياتك الماضية؟

أم ستتمتعْ أخيراً بنعيم السماء

دافقاً من نفس الإله عينك الجارية،

بعد أن تحررت إلى الأبد من قيود الفناء؟)

وهنا يثوب الشاعر إلى وعيه، ويصحو على نفسه، فيوقن أنه لم يمت ولم يُقبر، وأنه لم يُبعث ولم يُنشر؛ وأن نفسه جالت فأكثرت التجوال، وتخيلت فأسهبت في الخيال؛ وأن كل ما تصوره وتمثله لم يعدُ أن يكون آمالاً عذاباً كثيراً ما تراءت أمام عينيه؛ وإنما شخص له هذه الآمال ذكراه لحبيبته التي انفصلت عنه انفصال الروح عن البدن، وعرجت إلى ملكوت السماء بعد أن خلفته وراءها جسداً محطماً وأعضاء جامدة، ومشاعر خامدة؛ فكيف لا يناجي روحه الذي فارقه، ولم لا يتمنى أن يلحق به ولو بالموت والفناء؟

لا. لن يندم لامرتين على جسده إن كان فناؤه قرباناً لروحه؛ فإن أمله في لقاء المحبوبة يهوِّن عليه كل شيء، وأن هذا الأمل نفسه هو الذي جعله لا يُراع ولا يضطرب حين رأى شحوب الموت على وجه (جوليا) الجذاب كأنه صفرة ألوان الربيع بعد أن تذوي وتحول: كلاهما أمر جرت به سنة الحياة، وقضت به حكمة الوجود.

من أجل ذلك عاد يناجي روحه - وهو في الحقيقة لا يناجي غير حبيبته - بهذه الكلمة التي لا تفيض إلا من قلب نقي وسريرة طاهرة.

(بلى. . . تلك - يا نصف حياتي - آمالي العِذاب

فبها استطاعت نفسي أن تجول،

وترى بلا روْع على وجهك الجذاب

ألوان الربيع الزاهيات تحول. .)

ويؤكد هذا المعنى النبيل بأن آماله في لقاء (جوليا) ومناقلتها الحديث ومشاركتها في نعيم

ص: 16

السماء لم تبعثه على الصبر والاحتمال فقط، وعلى الرضا بحكم القضاء فحسب، وإنما ستبعثه على الشجاعة وقت الشدة؛ فهو سيبتسم ساعة يتأرجح بين الوجود والعدم، ساعة يحتضر على فراش موته؛ ثم هو لن يأسف على صباه حين يفصم الدهر عُراه، وإنما سيبكي من فرط سروره بلقيا حبيبته منية نفسه، ونصف حياته.

(وبها ستراني أبتسم وأنا أحتضر،

بعد أن يفصم الدهر عُرى صباي

وأن دموعي من فرط السرور ستطفر

في لقائنا. . . فتتلألأ بها عيناني!)

ويستمر لامرتين في نجواه - وما أروعها من نجوى! - فيتمثل حبيبته ويجثو بين يديها مقلباً لها صفحات الماضي البهيج بذكرياته الحلوة؛ وما يفتأ يخاطبها على أنها روحه الذي انفصل عنه فيذكر هذا الروح باليوم السعيد الذي ولد فيه الحب بينهما من نظرة عاجلة تلاها حديث لطيف ومجلس عفيف، ثم جولات جميلة وسكرات نبيلة، في محراب الطبيعة حين تأخذ زخرفها وتزَّين تارة على رءوس صخورها الناتئة كأنها رقيب نشوان يرهف أذنيه ليسمع أحاديث الهوى؛ وتارة حول بحيراتها الحزينة كأنها صديق أسوان يقاسم الحبيبين ما كتبت لهما يد القضاء؛ وأحياناً على شطئانها الجُردْ وكثبانها النواعم التي تكتم السر فلا تفشيه وتحفظ العهد فلا تنساه؛ والحبيبان - في تلك الأويقات كلها - لا يحسان مرور الزمن، ولا يكترثان بالظلال التي تهوي من الجبال، ماحية القرى في أذيالها السود، فإنهما لفي نشوة، وإنهما لطائران عن هذا العالم المادي المحدود إلى عالم عرضه السموات والأرض تصفو فيه الأنفس، وتمتزج الأرواح، وتأتلف القلوب!

(كثيراً ما تستعيد الذكرى في هذا المقام السعيد

الذي وُلد فيه حبنا الخالد من نظر عجلان،

تارة على رءوس هذه الصخور الجلاميد،

وتارة حول البحيرات الحزينة على موحش الشطئان،

حيث كنت أقتحم معك الظلمات الغاشية،

طائرين - بنجوة عن العالم - على جناح الأمل المنشود

ص: 17

وكانت الظلال - وهي من الجبال هاوية -

تمحو أمامنا القرى في طياتها السود!)

ولكن الله زين السماء الدنيا بمصابيح جعلها كمنثور اللآلي، موشية برقع الليالي. إن لها لأنواراً رخية تغشى الفضاء، وإن لأنوارها لألحاناً توقعها أنامل قدسية في الخفاء، وإن في ألحانها لسراً عجزت عن فهمه العقول؛ فربما كان رجعاً لزفزفة الرياح، أو صدى لزقزقة الأطيار، أو ترديداً لخرير الأنهار، أو تسجيلاً لسحر العشاق.

وقد اكتفى الشاعر بوصف ألحان الليل بالخفاء، وبدنوها بلا ضوضاء؛ فانطوى تحت وصفه الوجيز ما تشاء أخيلة الشعراء من سبْح في العالم المجهول.

(لكنَّ كواكب الليل بألحانها الخفية

- وهي تدنو بلا صخب ولا ضوضاء -

تغشَى الفضاء بأنوارها الرخية،

ملقيةً على كل شيء نقابها الوضاء!)

وما كان أسرع لامرتين إلى اقتناص التشبيهات المحكمة!

فلقد رأى صورة الكوكب الذي يضيء في الليل محراب الطبيعة أدنى إلى صورة المصباح الذي ينير بضوئه الخاشع جنبات المعابد بعد أن تنمحي آية النهار: وكما أن هذا المصباح يعوض لألاء الشمس عند الراهب المتبتل، فيحسب ضوءه الباهت الخاشع نوراً ساطعاً وهاجاً، لأنه يشعره بمعاني الورع والتقى والزهادة، فإن الكوكب يعوِّض النهار الأضحيان، عند العاشق الولهان، فيخلع على ضوئه الرخيّ معاني شعرية، وأسراراً علوية، إذ يوحي إليه سمراً شجياً، وحديثاً حلواً ندياً. . .

(كذلك. . . حين تشحب رويداً رويداً أشعة المساء

في معابدنا المقدسة التي تضيئها آية النهار،

يملأ المصباح - وهو يرسل خاشع الضياء -

جوانب المحراب بساطع الأنوار.)

ولعلَّ ألحان الكواكب - بلطفها وخفائها - هي التي ذكَّرت الشاعر بألحان روحه، وقتما كان هذا الروح يسكر سكرته الوديعة، وهو يتأمل مناظر الطبيعة، ويرجع البصر فيها بين

ص: 18

السماء والأرض فينقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسير، ثم إذا يوقظ بسكرته عيني الشاعر الحالمتين، ليطلعه على جمال الوجود، ويسبِّح معه للإله المعبود، ويبرهن له على عقيدة (الخلود).

وما يبرح لامرتين خالعاً على روحه شخص حبيبته، ليستدل في هذا الجو العاطفي على الإيمان بالله، مهاجماً من طرْف خفي الفلاسفة الأبيقوريين والماديين الذين ينفون خلود الروح.

وكأني بالشاعر - في إصاخته لصوْت الغريزة ورفضه البراهين المنطقية - يريد أن يطوي في غضون شعره مذهبه في تمثل الإيمان وتعقل معانيه. . . فليدع تلك المناقشات البيزنطية العقيمة، وتلك البراهين الجدلية السقيمة، ولينطق في نفس الإنسان لسان حاله إذا ما تأمل معبد الطبيعة القدسي، وسمع ألحان الأرض والسماء حتى استنارت بصيرته بما رأى بصره، فتجلت له حقيقة الإيمان.

ألا وإن هذه الحقيقة السامية لتسبيحه خالدة طالما تمتم بها روح الشاعر، فأيقظه من سباته، وبعثه من مرقده.

(حينئذ توقظ عينيَّ بسكرتك الوديعة

وأنت ترجع في السماء والأرض طرفك الحيران

قائلاً: (أيها الإله الباطن! معبد الطبيعة.

فإذا تأملها البصر شهدتك البصيرة في كل مكان)

(البقية في العدد القادم)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 19

‌شعر المعتمد بن عباد

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وبرغم شهرة شعراء الأندلس بوصف الطبيعة، وغرام المعتمد بها لم نجد له كثيراً من الشعر فيها، اللهم إلا حديثاً عرضياً عن البدر الذي كان يساهره، وهو هانئ بشرب الراح، كما تحدث عن شمعة سهرت معه كذلك وهو يشرب الخمر أيضاً، وقد رأى في نورها ولهبها ممثلاً لجمال ساقية ونار غرامه إذ يقول:

ساهرتها والكاس يسعى بها

مَن ريقه أشهى من الكاس

ضياءها لا شك من وجهه

وحرها من حر أنفاسي

ويقف ابن عباد في وصفه للخمر عند حد ما تراه العين، غير متجاوز ذلك إلى الحديث عن وصف أثرها في نفسه كما ترى ذلك في قوله:

لو زرتنا لرأيت ما لم تعهد

ذوب اللجين خليط ذوب العسجد

ولعل المعتمد قد شغله الجمال الناطق ممثلا في المرأة عن الجمال الصامت ممثلا في الطبيعة.

ووصف المجن عندما طلب إليه أبوه وصفه، وكان قوي الخيال عندما ربط بين منظر المجن وقد أصبح يحكى السماء بما رسم عليه من نجوم وبين بُعد أن تناله طوال الرماح إذ قال:

مجن حكى صانعوه السماء

لتقصر عنه طوال الرماح

وله قصيدتان تهكميتان بلغ فيهما مبلغاً كبيراً من الإتقان والإجادة، أما أولاهما فتلك التي رد بها على ابن عمار عندما طمع في أن يستأثر ببلنسية، فقال ابن عمار في ذلك شعراً يشيد فيه بمجده ومجد أسرته، ولم يكن ابن عمار من أسرة رفيعة الدار، بل كان خامل البيت، كما يقول مؤرخوه، فما هو إلا أن قال:

كيف التفلت بالخديعة من يدي

رجل الحقيقة من بني عمار

حتى أنشد المعتمد قصيدة يعرض فيها بابن عمار وآبائه، ويذكر نشأتهم ومنبتهم، ويسخر من فخره بهم في أسلوب تهكمي لاذع بدأه بقوله يكمل قصيدة ابن عمار:

ص: 20

الأكثرين مسودا ومملكا

ومتوجا في سالف الإعصار

والثانية بعث بها إلى ابنه الراضي، عندما أرسل إليه يأمره بالخروج لمحاربة عدو هاجم (لورقة) فأظهر الراضي تمارضاً وانصرف إلى القراءة، فكتب إليه قصيدة تهكمية بدأها بقوله:

الملك في طي الدفاتر

فتخل عن قود العساكر

وللمعتمد فخر بنفسه وبأسرته في ثنايا قصائد غزله ورسائله إلى أبيه، ولم ينشئ قصيدة للفخر قصداً إلا تلك التي أوحى إليه بها فتحه قرطبة، وإلا ثانية يفتخر فيها بالجود، وإلا ثالثة أنشأها في الأسر وسوف نعرض لها.

ولم يَرْثِ غير بنيه الذين قتلوا وهم يدافعون عن مدنهم، وهو حين يرثي يندفع حيناً وراء حزنه، حتى ليرى من الغدر ألا يفيض جفنه عليهم، ويرى نفسه أحق بالبكاء من تلك القمرية التي أثارها فقد إلفها:

فمالي لا أبكي؟! أم القلب صخرة

وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر

بكت واحداً لم يشجها غير فقده

وأبكي لآلاف عديدهم كثر

غدرت إذا إن ضن جفني بقطره

وإن لؤمت نفسي فصاحبها الصبر

وحيناً تتغلب العاطفة الدينية لديه، فيخفف ذلك من وقع المصائب عليه:

مخفف عن فؤادي أن ثكلكما

مثقل لي يوم الحشر ميزانا

أما عندما كان في الأسر فإنه وجد في رثاء بنيه وبكائهم متنفساً عن آلامه، ووجد في الجزع عليهم تعبيراً عن يأسه وتبديد أحلامه، ولا ريب أن حاله في الأسر هو الذي أوحى إليه بهذا البيت الباكي:

يقولون صبراً، لا سبيل إلى الصبر

سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري

وهو في هذه القصيدة يرى الطبيعة تشاركه في الحزن، فالبدر والنجوم الزهر في مأتم كل ليلة، والغمام يبكي مشاركة له في مصابه، ولا غرو فذو المنظار الأسود يرى الدنيا كلها سوداء، والمعتمد يناجي ولديه، محدثاً لهما عما خلفه بعدهما في القلوب، من جروح وندوب، وما استحال إليه مجده بعدهما من تبدد وانهيار، حتى إنهما لو عادا لآثرا الموت على أن يرياه مقيداً مأسورا.

ص: 21

فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى

إذا أنتما أبصرتماني في الأسر

أما شعره في الأسر فكان سلواه، يشكو له بثه، ويندب إليه حظه، ويحدثه بآلامه، ويبكي به مصيره ومصير ملكه.

وقد دافع المعتمد عن عرشه، وخرج بسيفه يذود عن حماه، ولم يستمع إلى رأي ناصحيه الذين أشاروا عليه بأن يتخذ خضوعه للمغيرين سياسة ينتهجها، عساهم يبقونه على العرش، فأبى، ورأى استلاب عرشه أفضل من النزول عن شرفه:

قالوا: الخضوع سياسة

فليبد منك لهم خضوع

وألذ من طعم الخضو

ع على فمي السم النقيع

إن يسلب القوم العدا

ملكي وتسلمني الجموع

فالقلب بين ضلوعه

لم تسلم القلب الضلوع

لم أستلب شرف الطبا

ع، أيسلب الشرف الرفيع

واستقبل المعتمد أسره لا بالثورة والتهديد والوعيد، ولكن بالبكاء والنحيب، فلم نر في شعره حديثاً عن أنصار سيثورون، ولا عن شعب سينتقم، بل رأينا استسلاما لآسريه، وبكاء على ماضيه. خرج به يوسف بن ناشفين إلى العدوة بعد أن خلعه، فوصل إلى موضع منها، وأهل البلد خارجون للاستسقاء فقال:

خرجوا ليستسقوا، فقلت لهم

دمعي ينوب لكم عن الأنواء

قالوا: حقيق، في دموعك مقنع

لكنها ممزوجة بدماء

ولم نره طول مدة مقامه في الأسر متوعداً ولا ثائراً، بل يائساً مستسلماً، ولم يمر به أمل العودة إلى سابق مجده إلى مروراً عابراً كما يمر به في حلم إذ يقول:

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة

أمامي وخلفي روضة وغدير

تراه عسيراً أم يسيرا مناله

ألا كل ما شاء الإله يسير

ولم نحس بروح الثورة في شعر المعتمد وهو أسير إلا عند ما بلغ نبأ ثورة ابنه عبد الجبار، فهنا يذكر المعتمد السيف الذي طال رقاده في جفنه، والرمح الذي عطش إلى شرب الدماء، والجواد وقد حيل بينه وبين ارتقاب غرة في العدو فينادي قائلاً:

ألا شرف يرحم المشرفي

مما به من شمات الوثين

ص: 22

ألا كرم ينعش السمهري،

ويشفيه من كل داء دفين

ألا حنة لابن محنية

شديد الحنين ضعيف الأنين

بل أن ذكرى مجده ومجد آبائه الغابر في القصيدة الفخرية التي أنشأها في الأسر لم تكن لتثير فيه الطموح إلى إعادة هذا المجد، بل يسلى نفسه فيها بقوله.

وإذا ما اجتمع الدين لنا

فحقير ما من الدنيا افترق

فالسائد في شعره روح الاستسلام لجور الدهر وظلم الأيام: يوصي نفسه بالصبر، ويدعوها إلى تحمل الكرب، ويوطنها على الكره، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيقول:

اقنع بحظك في دنياك ما كانا

وعز نفسك إن فارقت أوطانا

في الله من كل مفقود مضى عوض

فأشعر القلب سلواناً وإيماناً

أما سمعت بسلطان شبيهك قد

بزته سود خطوب الدهر سلطانا

وطن على الكره، وارقب إثره فرجا

واستغنم الله تغنم منه غفرانا

كان هذا الأسر القاسي وما عومل به من إذلال فيه، والموازنة بين حاضره وماضيه، مدعاة لإثارة شجونه، وإدماء عيونه، وها هو ذا يصف لنا عيداً حزيناً قد أقبل عليه في منفاه وقد دخلت عليه بناته، يلبسن ثياباً أخلاقا وفي أيديهن المغزل يغزلن به للناس حتى لمن كان لهن بالأمس خادما، فثارت في خاطره أطياف السعادة الماضية، فتمزق قلبه وقال:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا

فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في أغمات من عُدُم

يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة

أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين، والأقدام حافية

كأنها لم تطأ مسكا وكافورا

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا

فردك الدهر منهياً ومأمورا

وكثيراً ما كان يتذكر قصوره بالأندلس فيحن إليها، ويحسن كأنها تبكي أيامه الزاهرة، ولياليه المتلألئة، ويشعر على البعد بما ارتدته من الذل والوحشة بعده.

ومما ضاعف أساه، هذا القيد الذي غلت به قدماه، وشعره مليء بالحسرة التي تمزق قلبه لهذا القيد الثقيل الذي يراه يتلوى كالحية الرقطاء، وذا أيد وبطش كالأسد، ومن أروع شعره في ذلك حديثه إلى القيد، وقد دخل عليه ابنه أبو هاشم فارتاع له:

ص: 23

قيدي، أما تعلمني مسلما

أبيت أن تشفق أو ترحما

دمي شراب لك، واللحم قد

أكلته لا تهشم الأعظما

يبصرني فيك أبو هاشم

فينثني القلب وقد هشما

ارحم طفيلا طائشاً لبه

لم يخش أن يأتيك مسترحما

وارحم أخياتٍ له مثلهَ

جرعتهن السم والعلقما

ولم يكن هناك بصيص من أمل في النجاة والحرية ينفذ إلى قلبه، وكان الهم يحطمه والأسى يوهنه، واليأس يمصر قلبه، فكان يشعر بدنو أجله، بل كان يتخيل هذا اليوم قد حل، ولعله كان يراه آلامه وأحزانه، فرثى نفسه بأبيات أوصى أن تكتب على قبره، لم يشر فيها لغير ماضيه، وكأنه يريد بذلك أن يمحو من ذاكرة التاريخ ما بلاه من الأسر والشقاء حيث يقول:

قبر الغريب، سقاك الرائح الغادي

حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد

بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا

بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي

نعم هو الحق وافاني به قدر

من السماء، فوافاني لميعاد

ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه

أن الجبال تهادي فوق أعواد

فلا تزل صلوات الله نازلة

على دفينك لا تحصى بتعداد

وقبل أن أختم هذا الفصل أشير إلى صلة المعتمد بالشعراء في منفاه، فقد استقبله في طنجة الحصري الشاعر، وأقبل عليه يلح في طلب العطاء ورفع إليه شعراً، فبعث إليه المعتمد بأكثر ما كان معه من مال قليل، واعتذر إليه بقطعة من الشعر، فأخذ الحصري ما أرسل إليه، ومضى مستقلاً للعطاء، مهملاً للمعتد؛ ولما سمع الشعراء بعطاء المعتمد أقبلوا عليه يسألونه، فعجب من أمرهم وقال:

سألوا العسير من الأسير وإنه

بسؤالهم لأحق منهم فأعجب

لولا الحياء وعزة لخمية

طي الحشا لحكاهمو في المطلب

ووفى له ثلاثة من شعرائه هم أبو بكر الداني، وابن حمديس، وابن عبد الصمد، وأبى كرم المعتمد إلا أن يرسل إلى أولهم عندما زار أغمات بالقليل الذي كان يملكه، فأبى الداني أن يأخذ على وفائه أجراً، وأما الثاني فقد أقبل يريد زيارته فصرفه بعض الخدم، فأرسل المعتمد إليه قصيدة يعتذر فيها. ولعله كان يرجو أن يرى في شاعره صورة من مجده

ص: 24

الغابر، وأثراً من آثار عظمته وسلطانه، وأما ابن عبد الصمد فإنه مضى إلى قبر المعتمد بعد صلاة العيد مع ملأ من الناس يتوجعون له ويترحمون عليه ثم أنشد قصيدة طويلة أرلها:

ملك الملوك أسامع فأنادي

أم قد عدتك عن السماع عوادي

لما خلت منك القصور فلم تكن

فيها كما قد كنت في الأعياد

أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً

وتخذت قبرك موضع الإنشاد

وخر يبكي، وبعفر وجهه في تراب قبره.

- 4 -

أهم ما يتصف به شعر المعتمد الوضوح الذي يدل على وضوح التجربة لدى الشاعر، فلا تعثر في شعره علىغموض ولا التواء. ومما ساعد على هذا الوضوح الوحدة في شعره؛ فكل مقطوعة أو قصيدة تتحدث عن خاطر من نفس المعتمد، وتتضافر الأبيات في إيضاح هذا الخاطر وتسير في اتساق ونظام.

وكثير من شعره في عهد الإمارة والملك مقطوعات تدل على انفعال يكفي هذا القدر في تصويره، مع قدرة المعتمد على الإطالة إذا أراد.

أما موسيقاه فمناسبة لهذه الانفعالات، ولذا ترى أكثر أوزان الغزل مطربة سارة سريعة كقوله:

يا بديع الحسن والإح

سان، يا بدر الدياجي

يا غزالاً صاد مني

بالطلا ليث الهياج

قد غنينا بسنا وجـ

ك عن ضوء السراج

وترى شعره في الأسر يلتزم البحور الطويلة التي تدل على التأمل والأناة لا على الثورة والجموح. وليس في شعره في هذا العهد موسيقى تشعر بالسرعة إلا قطعته التي قالها في أثر ثورة ابنه عبد الجبار؛ فهي من المتقارب السريع الحركة؛ لأنها تعبر عن انفعال سريع، وحركة تضطرم في صدره، كما اختار البحور الطويلة لذلك في رثائه.

وتشبيهات المعتمد مألوفة، ولكن يزينها ما يضفيه على الشعر من تناسب كقوله:

يا هلالا، إذ بدا لي تجلت

عن فؤادي دجنة الكربات

ص: 25

فأنت ترى التناسب بين الهلال والدجنة. وحينما يفصل التشبيه في الغزل زيادة في بعث اللذة بتصوير من يحب حين يقول:

يا هلالا حسن خد، يا رشا

غنج لحظ، يا قضيباً لين قد

ولا يتخذ المعتمد الغزل مقدمة لقصائد مدحه لأبيه، كما كان يفعل الشعراء السابقون.

ويميل المعتمد إلى الجمال الطبيعي في شعره، فقل أن يلجأ إلى الصناعة. وإن كنت لا تعدم أن ترى هنا جناساً، وهناك طباقاً وهنالك لفاً ونشراً، وغيرها، ولكنه مع ذلك يحسن الصوغ، فلا تحس بنبوّ ولا قلق، وإن كنت لا أنكر أثر الكلفة في قوله، يدعو بعض زملائه إلى الشراب:

أيها الصاحب الذي فارقت عي - ني ونفسي منه السنا والسناء

نحن في المجلس الذي يهب الرا - حة والمسمع الغنا والغناء

نتعاطى التي تنسيك في اللذ - ة والرقة الهوى والهواء

فأنه تلف راحة ومحيا

قد أعد لك الحيا والحياء

وزادت الصناعة من جمال قوله يتحدث عن قمرية تنوح:

وناحت وباحت واستراحت بسرها

وما نطقت حرفاً يبوح به سر

ولم تغض الصناعة من جمال مقطوعته الغزلية التي جعل في أول كل بيت منها حرفاً من حروف زوجه اعتماد.

والمعتمد دقيق ذو ذوق مرهف في اختيار ألفاظه التي توحي إلى القارئ بخاطره. وخذ مثلاً لذلك كلمة الأوار التي توحي إليك بلهيب النار وقد دل بها على نيران المعركة، وكلمة شخيص المصغرة وهي توحي بضآلة جسم ابنه أبى هاشم، وهذا في البيتين اللذين أوردناهما في معركة الزلاقة، وتأمل كلمة (مسيحا) في قوله يسترضي أباه:

سخطك قد زادني سقاما

فابعث إلى الرضى مسيحا

لترى ما توحي به إلى نفسك من مقدرة المسيح على الإبراء، وما في الكلمة نفسها من دلالة على مسح آثار الداء، وهو يصف الليل باعتكار، ويضيف الوسواس للحلي، ويصف النَّفَس بالنرجس في قوله:

فلاقتك بالنفَس النرجسي

ولاقتك بالملبس المسجدي

ص: 26

وكل ذلك دليل الدقة في اختيار الألفاظ.

وقوافي الشاعر محكمة في أبياتها، لا تشعر فيها بقلق، ولا اضطراب؛ بل هي مستقرة مطمئنة تشعرك بقدرة الشاعر على تذليلها، إذا استثنينا كلمة كبد في قوله:

أغائبة عني وحاضرة معي

لئن غبت عن عيني فإنك في كبدي

فالمحبوب مكانه القلب لا الكبد.

وبعد فإن على شعر المعتمد بن عباد مسحة من الحسن تأسر النفس، وتملك الحس، لصدق العاطفة التي انبعث عنها، وجمال الأسلوب والذي صيغ فيه.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 27

‌الانحراف الجنسي

أسبابه وعلاجه

للأستاذ عبد العزيز جادو

كان الدكتور سيجموند فرويد، مبتكر التحليل النفسي، أول من وصف الأطفال بأنهم (ذوو انحراف متعدد الأشكال) ولقد أثار بذلك عاصفة من السخط واتهم من جميع الأوساط بقذف الطفولة البريئة وطعنها.

ماذا تعني هذه العبارة؟

إنها تعني باللغة السهلة أن كل نوع من أنواع الانحراف الجنسي ينغمس فيه المراهقون ونتغاضى عنه أو نتساهل فيه، يمكن أن يُبحث في حالات النشاط العادي عند الأطفال.

وإنا إذا قلبنا هذا الأمر على وجوهه المختلفة، فلا يكون أسوأ مما كان، فليس الأطفال هم الذين يتصرفون كالرجال، ولكن الرجال هم الذين يتصرفون كالأطفال. ويقصد بهذا أيضاً أن كل طفل به انحراف جنسي يكون في الغالب الأعم ناقص النمو من جهة غريزته الجنسية. ويرقد ارتقاؤه ونضجه وراء تلك الغريزة الجنسية عند المراهق العادي.

وليس الطفل هو المنحرف الضال، وإنما يعتبر المنحرف طفلاً وكلمة (منحرف) معناها التحول عن المجرى الطبيعي. والمنحرف الجنسي هو الذي لا يستعمل دافعه الجنسي بالطريقة السوية.

وكثير من الرجال لا يستطيعون جعل حياتهم الغرامية متناسقة بقدر الإمكان، لاعتقادهم أن كل شيء يميل عن الطريق القويم إنما هو انحراف. وهناك بالفعل مجال في لعب الحب الأوَّلى لكل نوع من أنواع الملاطفة والتودد.

ويمكن استعمال أي صورة من صور الاتصال التي يحتمل أن تكون مقبولة ومنبهة لكل من الطرفين على شرط أن تؤدي إلى الاختلاط الجنسي ولا تحل محله

والملاعبة للغرض الجنسي يجب أن تظل بمثابة (المشهيات) لا أن تكون الوليمة ذاتها.

وفي الانحراف الجنسي أصبحت الملاعبة غاية في حد ذاتها، وليس الامتزاج أو الصلة بشخص من الجنس الآخر هي الغاية المشتهاة.

فلكي ندرك كيف يحدث هذا، علينا أن نرجع إلى الطفل فليس هناك من يقرر بأن الطفل،

ص: 28

بما له من أعضاء ناقصة النمو وبما يحتاجه من إفراز غددي، يكون في حالة جنسية كحالة المراهق أو البالغ؛ ولكنه قادر من أول أمره على جلب المتعة عن طريق الاحساسات الجسدية، وهذه هي خلاصة اللذة الجنسية ولو أنها لا تهم الغرض الجنسي في شيء.

وهكذا نرى أن المصَّ ليس وسيلة فحسب لتخفيف الجوع وتهوين أمره، ولكنه يمسي لذة في حد ذاته. وهذا ما يلمسه أي فرد من مشاهدته طفلا يلعب بدميته. ويقتنع معظم الناس بأن التدخين، سواء بالغليون أو بالسيجار يدين بشيء من جاذبيته إلى تخلف اللذة أو بقائها في الشفة، وتكون هذه اللذة في الغالب كلذة التقبيل سواء بسواء.

وهناك في الواقع عدة أجزاء في الجسم تلتقي فيها المحتويات الداخلية أي الغشاء المخاطي بالجلد الخارجي. وجميع هذه المناطق ذات حساسية وشعور باللذة. والفم - كما ذكرنا - أحد تلك المناطق، كما أن الثغرة التي في الطرف المقابل للقناة الهضمية منطقة هي الأخرى.

وموضع الأعضاء التناسلية في كل من الذكر والأنثى متشابه. وكلما اطرد التحسن وتدرج النضج وصلت تلك الأعضاء إلى درجة أعلى من المناطق الأخرى. ولو أن هذه المناطق لن تفقد حساسيتها جميعاً ويمكن أن تقوم بدورها في الحياة الجنسية.

ولقد امتدت هذه الحساسية إلى أن بلغت بشكل واضح الأرداف. أما كيف أحاطت هذه الحساسية بتلك المنطقة حتى أن اللذة والألم صارا أكثر تمييزاً فيها، فهي مسألة لم يصل العلم إلى حلها. ولكن لا ريب في أن وظيفة الأم المحبوبة عند اعتنائها بنظافة رضيعها شيء له أهميته. كما أن ملاطفات المرأة الفاتنة غير المتزوجة عند إعجابها بالطفل لها أهميتها أيضاً. ومما لا شك فيه أن مثل هذه العادات تقوي اللذة الأصلية المكتسبة وتعززها.

وقليل من الناس في حاجة إلى أن يعرفوا أن هذه الطاقة من اللذة والألم كائنة. وفي النزوات التي تصحب العادة السرية يحتل الجلد المكانة الأولى. وليس بعجيب أن تأخذ تلك النزوة هذه الهيئة، إذ أن تخيل تجربة ماضية أسهل من التوسل إلى وصف شيء ليس للمرء معرفة شخصية به؛ وهذا هو الوضع العادي للاستمناء الصبياني بالنسبة إلى الامتزاج الجنسي.

ولا يكون الاستمناء انحرافاً إلا حينما ينم في حياة المراهق بإيثاره إياه على حياة جنسية

ص: 29

كاملة ممكنة. وإنه لنشاط عادي للصبي المنقب تنقيباً اختيارياً ليس فيه أي ضرر إلا عندما يأتي القلق والخوف والجزع ليتجمع ويتركز حوله.

وكثير من المراهقين الذين يعوقهم الطبع أو الظروف عن الزواج ولا يمكنهم التمتع بالعملية الجنسية المحرمة، ربما يكون هذا هو الحل السوي للحافز الجنسي عندهم. ولكن يجب أن نذكر ونضع نصب أعيننا الحقيقة التي تتركز في الفعالية الذاتية فهي تشبع الشعور الذاتي إلى حد يصبح فيه معتلاً.

واقتران الجلد باللذة الجنسية هو السبيل الذي يمكن أن يوصِّل إلى القمم الوهمية، ولذا فقد أصبح عبادة منظمة ذات آداب خاصة وحياة اجتماعية سفلية.

وله، كما أسلفنا القول، أسس طبيعية. ولا ينبغي أن يلتبس علينا الأمر بينه وبين السادية؛ فالسادية حالة لا يمكن أن تأتي فيها الهزة أو الرعشة الجنسية إلا إذا كانت مصحوبة بالتعذيب والتشويه والبتر، وتنتهي في أكثر الحالات بموت الضحية. ويكفي بقاؤها لتذكيرنا بأنه لا وجود لنوع من الرعشات لا يمكن أن يكون ملتوياً في صالح الغريزة الجنسية.

وبينما نرى احد الأشخاص في حاجة إلى التحكم في الباعث على رغبته أو مشاغبته والاستبداد به أو تعذيبه، نرى آخر يختبر اللذة الجنسية الكاملة ويتذوقها حين يكون مغلوباً أو عندما يُهان ويؤذي ويحتقر. وهذا الأخير هو الذي يطلق عليه:(مازوكي)

ومتوسط الرجال والنساء يمكنهم أن يكشفوا في أنفسهم جراثيم الاتجاهين ولا حاجة بهم إلى القلق والانزعاج من هذه المعاينة. والملاعبة يمكن أن تضيف صنفاً منسوجاً في مصلحة الحب بدون خطر من أن يغدو انحرافاً.

والفيتيشية انحراف جنسي آخر يأخذ صوراً غريبة. ومعناه في الأصل أن الباعث على التهيج الجنسي ليس شخصاً بعينه أو أشخاصاً معينين ولكنه بعض شيء. وقد يكون هذا الشيء حذاء أو جورباً أو معطفاً من الفرو أو أي شيء ذا وبر أو خصلة من الشعر أو أي أداة من أدوات الملبس. كما أن أصل الفينيشية في جميع الانحرافات قد يرجع إلى بعض تجارب صبيانية

يقول الشاعر (ما الحب إلا للحبيب الأول) وهي حقيقة سيكولوجية؛ ذلك أن سلوك الطفل في أزمة من الأزمات الانفعالية يمكنه أن يصنع نموذجاً من السلوك حينما تتلاقى فيما بعد

ص: 30

بعض الحالات بميل انفعالي يماثلها.

وطبيعي أنه كان ينبغي أن يغير اللبيدو، وهو تيار الحب حينما كان قصده كلما ترعرع الفرد. فهو في البداية يتركز بكليته في الذات، ولكن وظائف الدم تبعث على تحويل التيار إلى نفسها فتغدو محبة لشخص آخر.

وهذا التعلق الأول بالأم جنسي بأوسع معنى الكلمة - ليستبدل به فيما بعد حباً يقوم على تبادل المنفعة والاستحسان.

وإن لم يحوَّل هذا التعلق الأساسي كما يجب، يحار الفرد في ارتقائه الجنسي، ولا تكون شهوته طليقة كما يجب أن تكون لكي تنفذ أو تمر من الأم إلى رفيق الدراسة أو صديق من الجنس ذاته إلى أن تجد أخيراً حبيباً ورفيقاً في شخص ما من الجنس الآخر. وإنه لو تحرر الدافع الجنسي من الأم، لكان عرضة لمقابلة الكبت في اي مرحلة من مراحل النضج والارتقاء؛ ومن ثم يرتد راجعاً إلى الوراء، كمجرى من الماء وضعت أمامه السدود، وينتشر في مساحة أوسع. ويمكن إذن أن يكون الفرد مراهقاً في كل شيء ما عدا الحافز الجنسي الذي يظل في المستوى الصبياني مضافاً إلى ذلك الشذوذ. وقد يكون نوع الكبت موضحاً بواسطة حالة ثابتة.

يضبط صبي في السادسة من عمره وهو يقارن هيكله بهيكل أخته التي تصغره، وبدلاً من أن يتغاضى والداه عن هذا الأمر باعتباره دافعاً طبيعياً للاستطلاع ويوجهانه التوجيه الصحيح بتعليمه الحقائق الواضحة، نراهما يردَّانه عنه بغضب وسخط.

إذن فالارتقاء الجنسي في الولد قُطع دابره من أول الأمر، وبعد ذلك حين يأخذ النشاط الغددي في تنبيه الغريزة والتأثير فيها لازدياد النمو يشعر نفسه (بعدم الأهمية) فالحادث الأصلي يضاف إليه الشعور بالخطيئة والندم وتأنيب الضمير، كل هذا لابد أن ينسي وإلا سيجعله قليل الاهتمام بالجنس الآخر، وبالتالي تقمع شهوته.

وقد ينجذب وراء تعلقه بأمه واتصاله بها. ولكن بما أنه من غير المعقول أن تظهر في نزواته، فإنه يجد بديلا من ذلك في بعض أشياء في لا شعوره يقرنها بأمه. وربما تكون رائحة معطفها أو لمسه إياه حين يكون على انفراد هو الذي يؤنس وحدته. وربما يكون الحذاء الذي تركته خارج باب حجرة نومها هو الذي يؤكد له أنها في الداخل وأنها على

ص: 31

استعداد للترحيب به في سريرها.

وكما أن أي شيء يتناسب غالباً مع ما يشاركه في العاطفة، كذلك تأخذ الحياة الجنسية لهذا الشاب صورة العادة السرية تحت المؤثرات الفيتيشية، وربما لا يرجع إلى عهد بعيد، ولكنه يرجع إلى أواخر طفولته عندما شعر في نفسه بمؤثر سارحين قاده حب الاستطلاع إلى النظر من خلال ثقب مفتاح (الحمام) وقت أن كانت أخته الكبيرة تغتسل.

واحتمال آخر هو أنه قد يصير محباً لإظهار جسده لغيره غير قادر على اللذة الجنسية السوية، ولكن يتوق إلى عرض نفسه على بنات المدرسة - وأخيراً ينقاد لبعض نماذج من السلوك المخزون في الماضي.

هذه كلها أمثلة للانحراف الناتج عن النكوص ولكننا لم نشر إلى التفسير بعد.

ومتوسط البنين والبنات الذين تتراوح أسنانهم بين الحادية عشرة والخامسة عشرة على جهة التقريب يكونون في مرحلة حب الجنس للجنس حيث يتركز اللبيدو على واحد من الجنس ذاته. وليس معناه هذا أن كل صغير ينغمس في اللذة الجنسية، ولكن معناه أن الاهتمام المتيقظ وأوهام أحلام اليقظة تتركز حول بعض زملاء اللعب أو المدرسين.

وهذه الحالة إن كانت في صورة تبلغ من الصحة والعافية منتهاها يكون صاحبها فيه (شبه بطل) أو يكون (ذا بطش شديد). وهذه المرحلة تندمج بطبيعة الحال في المرحلة الثانية والأخيرة من ميل الجنس إلى الجنس الآخر وضبط اللبيدو وأوصده عن تقدمه كما يحتمل أن يحدث من خوف في الحياة الجنسية ناتج من مشاهدته مشاجرات عائلية، أو عن أي سبب من مئات الأسباب المحتملة للأغراض اللاشعورية، ربما يوقفه (أي اللبيدو) عند مرحلة حب الجنس للجنس. وهنا أيضاً نجد اختلافات وفوارق في الدرجة والطبع.

ويجد بعض محبي الجنس ذاته أن تصور الامتزاج بواحد من الجنس الآخر يبعث حتماً على النفور والاشمئزاز. وآخرون يغالبون شعورهم بكل جهد ليتزوجوا وينسلوا أطفالا.

وبعض الذكور من محبي نفس الجنس تبدو على هيأتهم الذكورة كاملة، ومزاولة الانحراف الجنسي بين هؤلاء كان يشجع عليها قدماء اليونان إذ كانوا يعتقدون أن هذه الارتباطات إنما جعلت للتدريب الصحيح وللجنود الطيبين. ولقد قيل إن حب الجنس للجنس يقابل اليوم بمثل هذا التشجيع في بلدان أخرى ولأسباب مماثلة.

ص: 32

وفي الطرف الآخر من السلم يوجد نموذج (اليانسيه) المخنث، والمرأة المسترجلة. ويوجد غالباً في مثل هذه الحالات خطأ ما في الارتقاء الغددي والجسدي. والتقارير الطبية الأخيرة في أثر تأدية هرمونات الجنس، فتحت باب الأمل لمثل أولئك الناس؛ لكي يكونوا عاديين وفي حالة سوية.

ومحبو الجنس ذاته، من جهة أخرى ليس لديهم الرغبة ليعالجوا ويشفوا وسيجادلون بعد زمن في تحبيذ طريقهم في الحياة.

ويجب أن يكون واضحاً للقارئ الآن أن الانحراف الجنسي عصاب جوهري ناشئ عن أسباب مماثلة، وأنه سهل الانقياد لمعالجة مماثلة شأنه شأن العصابات الأخرى.

والأسباب في كل الحالات مخبوءة في اللاشعور. وفي قدرة التحليل النفسي أن يحرر اللبيدو ويجعله يرقى إلى طرق سوية. ولكن هذا ليس من الميسور عمله ما دام الانحراف الجنسي يتنحى عن المسئوليات ويتملص منها. والعلاج لابد أن تصحبه الرغبة في مواجهة حياة نقية تقية. وليس هناك بالطبع من يرغب رغبة أكيدة في الشفاء ويترك اليأس يستولي عليه.

عبد العزيز جادو

ص: 33

‌قضايا الشباب بين العلم والفلسفة

للأستاذ إبراهيم البطراوي

- 4 -

لسائل أن يسألني: إذا كانت جميع الوسائل التي التمسها أولو الأمر لعلاج الأزمات التي يعانيها الشباب قد أخفقت هذا الإخفاق، فأي باب مأمون يمكن أن يطرقه الشباب وهو على يقين من أنه سيجد فيه ضالته وشفاءه وسعادته؟

والحق أقول - وأعتذر إذ أضطر إلى الحديث عن نفسي - أنني بعد أن أفنيت كل عمري العلمي حتى الآن وهاأنذا أناهز (سن الرشد) التي يقولون، وبعد أن أذويت شبابي ومازلت في أبحاث شاقة متشعبة - لم أجد ما أجيب به غير كلمتين اثنتين: العلم والدين. أما الدين فأقصد به الدين النقي الخالص، وأما العلم فأقصد به العلم اليقيني الثابت من ذلك الذي يسميه الإنجليز

وكما يقول بعض الباحثين: (إن الدين وإن انحطت درجته بين الأديان ووهي أساسه، فهو أفضل من طريقة الشك والإلحاد، وأمس بالمدينة ونظام الجمعية الإنسانية، وأجمل أثراً في عقد روابط المعاملات، بل في كل شأن يفيد المجتمع الإنساني، وفي كل ترق بشرى إلى أية درجة من درجات السعادة في هذه الحياة الأولى)

ورحم الله ذلك الفيلسوف العربي الشاعر أبا العلاء حيث يقول:

قال المنجم والطبيب كلاهما:

لا تحشر الأجساد، قلت إليكما

طهرت ثوبي للصلاة وقبله

طهر، فأين الطهر من جسديكما؟

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

أما العلم الثابت فلأنه يحترم نفسه ويعرف لها قدرها فلا يزج بها إلى ما فوق طاقتها، ولا يقول عن شيء إنه حقيقة حتى يتثبت بالتجربة الدقيقة الصحيحة؛ ولهذا فحقائقه ثابتة يعكس الفلسفة فمعظمها آراء ظنية يخيل إلينا أصحابها أن الحقيقة هي، ومن هنا نشأ الخلط والتناقض فيها مع الغموض، ولم تكتسب كالعلم صفة البقاء والخلود.

أما العلم فلا يخلط بين الظن والحقيقة - ولاسيما فيما يمس الدين - متعصباً لرأيه كما تفعل الفلسفة؛ بل يقول في تواضعه المعهود على لسان بعض رجاله: (الفرق بين أي اعتقاد ديني

ص: 34

وبين نظرية علمية أن الاعتقاد فيه عند معتقديه عنصر من الحقيقة المطلقة. أما النظرية العلمية، فهي عند أهلها صحيحة ما دامت نافعة. ويعتبر رجل العلم حتى أحسن نظرياته وسيلة مؤقتة تعينه على طريقه. ولا ينفك ينظر حوله منقباً لعله يجد شيئاً خيراً منها وأشمل. . .

ويرى بعض الفلاسفة من أتباع وليم جيمز أننا حين نقول عن معتقد إنه حق لا نعني أكثر من أنه نافع - أي أن كل حق في رأيهم إنما يحكم له أو عليه بالاختبار والتجربة لا عن طريق آخر)

أما إذا خرج العالم عن دائرته (دائرة الحقائق القطعية) وأدلى برأي فيجب أن نحترس منه ولا نقبل كل قوه من غير تمحيص؛ لأن العالم أحياناً يتفلسف ولكل عالم هفوة.

ومهما يكن فلكل شيء حد إذ جاوزه اختلت موازينه، وكما يقول ابن خلدون في مقدمته:(لا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وبأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله، وسفه رأيه في ذلك. واعلم أن الوجود عند كل مدرك له في بادئ رأيه ينحصر في مداركه لا بعدوها؟ والأمر في نفسه بخلاف ذلك والحق من ورائه: ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في عالم المحسوسات الأربع والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات؟ وكذلك الأعمى بالنسبة للمرئيات. . . ولو أننا سألنا الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكراً للمعقولات) من منطق ورياضة. . . الخ (وكانت ساقطة لديه كلية) وكذلك الدودة بالنسبة للجهات النائية والسماء. فهل ينحصر الوجود حقاً فيما ندرك وما عداه معدوم؟ (فانهم إدراكك ومدركاتك واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقاد وعمل لأنه أعلم بما ينفعك وأحرص على سعادتك).

(العقل ميزان صحيح ولكنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة الوجود والنبوة وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب فطمع أن يزن به الجبال) اهـ

وهذه الكهرباء والمغناطيسية والجاذبية كلها موجودات نعرفها - فقط - بآثارها، ولكن العلم الحديث أثبت أنه لا يمكن إدراك كهها. فهل معنى أننا نعجز عن إدراكها يجعلنا نستطيع أن ننكر وجودها؟.

ص: 35

ولله ما أجمل تلك العبارة الرائعة التي تنسب لفيلسوف من أجدادنا الفراعين زعموا أنها وجدت منقوشة على هرم في هيكل إيزيس بـ (صا الحجر) وهي: (أنا كل شيء كان، وكل شيء كائن، وكل شيء سيكون. ومحال على من يفنى أن يزيل النقاب الذي تنقب به من لا يفنى). ولكن العلم بنفس التواضع وبنفس الدقة وبرغم كثرة مشاغله استطاع أن ينير لنا الكثير من معالم الطريق، وأن يقول كلمة الفصل التي ينتظرها منه العالم بفارغ صبر.

فأثبتت جميع تجاربه على طول الخط وجود قوة مدبرة مسيطرة هي الله، بل ذهب إلى أكثر من هذا فأثبت كذلك أنه تعالى قيوم ونزهه سبحانه عن الزمنية والمكانية. كما أثبت له صفات الكمال ونفى عنه كل صفة نقص. ذكر ذلك العلامة الفلكي النابغ السير جيمس جينز في مؤلفاته ولا سيما في كتابيه - وكذلك ذكره غيره من مشاهير العلماء الأفذاذ.

وليس ببعيد ذلك اليوم الذي نعني فيه الدين حينما ننطق بكلمة العلم كما تنبأ بذلك أستاذنا العلامة الورع الدكتور محمد أحمد الغمراوي أستاذ الكيمياء بكلية الطب.

العلم والدين: وهل هنالك لذة أسمى من لذة المعرفة؟ وهل هنالك سعادة أكمل من سعادة الاطمئنان؟ (الدين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب. الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب)(أولم يتفكروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء. وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، فبأي حديث بعده يؤمنون؟)

سمعاً وطاعة! لقد تفكرنا وتحققنا فآمنا ولم يبق إلا أن نفرغ من مشاغلنا المتعددة فنكمل إيماننا بالعمل.

هذا ما أجاب به العلم الحديث بعد طول تأمل وتدبر.

وإن هذا التفكير العلمي المتأمل في نظام الكون أنطق شيخ الإلحاد الفرنسي فولتير في أخريات حياته بقوله: (إنه لا توجد ساعة بدون ساعاتي يصنعها):

أما الدين فمعروف أمره وليس هذا مجال البحث فيه. وأما العلم فأي شيء لديه؟ وحبذا لو قمنا بسياحة إلى أرضه الطيبة فإن هذا يعود علينا بخير كثير. إلا أن عقولنا المتزنة، وحياتنا المثقلة بالمواعيد، وأعصابنا الرقيقة المرهفة، كلها دواع تستلزم الاقتصاد في الزمن، وتجعل من العسير إن لم يكن من المستحيل علينا أن نحتمل حصر الأرقام، أو

ص: 36

نطيق المكث في المدن العلمية ومعاملها بين هذا الدخن المتصاعد، والوهج المتطاير! فلنكتف بالوقوف في هذه الزاوية إذن حيث آلة التسجيل التي يدون فيها كل شيء.

وأول ما يصادفنا في هذا المعمل المتواضع توقيع صغير للفلكي الرياضي النابه السير آرثر إد نجتون يقول فيه: (إن صورة الكون كما ترسمها النظريات العلمية الحديثة، توضح لنا ترتيباً للعناصر الأساسية لا يترك فرصة للمصادفة فيه إلا بنسبة واحد إلى ملايين متعددة). يلي هذا توقيع متمم للعالم الجيولوجي (لل) يقول فيه: (إننا كلما تعمقنا بأبحاثنا في أية ناحية من نواحي الكون نجد أوضح البراهين على وجود عقل الخالق وعنايته وقدرته وحكمته).

إلا أن هذا الهمس الذي يعلو بعض الشفاه يشعر بأنه مازال في النفس شيء! ولكن رويداً رويدا؛ فها هو ذا النابغة الألماني (ليبج) عالم النبات الشهير يقدم إلينا في حزمه المعهود أول البراهين التي نتطلع إليها في لهفة وشوق:

(إنني أفضل الاعتقاد بأن كتاباً في علم الكيمياء أو النبات (كتب نفسه) ونشأ من تلقاء ذاته من المواد غير الحية، على الاعتقاد بأن ورقة من أوراق الشجر أو زهرة من زهوره استطاعت أن تخلق نفسها وتتكون من تلقاء ذاتها بواسطة العوامل الطبيعية المجردة) ثم يبتسم وهو يشيح عنا بوجهه قائلاً:(حقاً!) إن دراسة الطبيعة هي الطريق لعبادة الخالق.

ولكننا وإن سلمنا بهذه النتائج يلوح أنا في حاجة لأن نخلو بأنفسنا لحظات نتناقش معها بهدوء: فكيف توصل العلم إلى هذه النتائج؟ وهل هناك براهين أُخر؟

وقبل أن نتم هذا التساؤل - نجد الرجل النشيط ذا الروح اللطيف الجذاب السير جيمس جينز - وكأنما أدرك بفطنته ما نعاني - لأنه يعرف طبيعة النفس البشرية التي قالت لربها (ولكن ليطمئن قلبي) - نجد هذا العالم الإنجليزي يقبل نحونا وبيده طائفة من الكتب وهو يقول متهللاً: إليكم الجواب! ثم يفتح أولها وهو (الكون المحيط بنا) لنجده فيه يأتي بمقدمات مهما تعددت وتباينت فإنها تصل بنا حتما إلى شيء واحد هو (أن في الكون آيات ساطعات صحيحات على وجود قوة مدبرة مهيمنة عليه) لنسمها ما شئنا: المدبر، المتحكم، الطبيعة، الله؛ فإن هذه الأسماء كلها تصل بنا إلى معنى واحد هو (الرب الخالق) الذي نزلت باسمه الأديان.

ص: 37

(النهاية في العدد القادم)

إبراهيم البطراوي

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

لحظات مع الأستاذ العقاد في كتاب (الله):

جاء في كتاب (الله) للأستاذ عباس محمود العقاد ما يلي: (ولا يرى علماء المقابلة أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة، ولكنهم يقررون أن (ديانة الشمس) لم تنتشر في تلك الأطوار؛ لأنها تستلزم درجة من الثقافة العلمية والأدبية لا نتيسر للهمج وأشبه الهمج في أقدم عصور التاريخ الخ) ص (29)

وإنني لأشذ عن هذا القول، وأعتقد أن ديانة الشمس كانت أكثر انتشاراً من غيرها في العهد البدائي؛ وذلك لعظم تأثير الشمس على حياة الهمج العامة، وبخاصة تأثيرها على الزراعة؛ إذ لا بد أن الهمجي قد لاحظ تأثيرها ولو بطريق الصدفة، ورأى كيف أن نبتة عاشت تحت أشعة الشمس قد زانها الازدهار والنمو؛ بينما الأخرى التي نمت في الظلال قد أصابها الذبول والاضمحلال. أليس في ملاحظة ذلك ما يدعو الهمجي إلى معرفة مصدر الخير وهو (الشمس) فيتجه إليها ويأخذ بعبادتها؟!

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلا أعتقد أن هناك من يستطيع القول بأن الهمجي كان قليل الاهتمام بالطوارئ التي تحدث أمامه؛ فلا يهتم للتغيير الذي تحدثه الشمس عند شروقها وغروبها في طقس إقليمه، بالإضافة إلى كونها هدفاً لأنظار الهمج على الدوام. فلا يعقل أن الهمجي كان يفترش أديم الأرض، وينام ملء جفنيه دون أن يفكر فيما يجري حوله وما يراه وما يحسه من التبديل الطارئ، ثم لا يقارن بين الحالتين: حالة شروق الشمس وما تبثه في الكون من الحركة والنشاط، وحالة غروبها وما يتبعه من سكون وهجوع!

كل هذا يحمل على الاعتقاد بانتشار عبادتها في ذلك الزمان. كما أني لا أرى أن للثقافة العلمية والأدبية تأثيراً في الأمر؛ لأن الإنسان يستطيع أن يعرف حقيقة بعض الأشياء دون معرفة بعلم أو أدب، كأن يحدث ذلك عن طريق الصدفة المحضة أو الإحساس الباطني الذي يتخيل حقيقة الشيء فيدفع الإنسان إلى الإيمان به.

لهذا كله أرجو من الأستاذ المعداوي أن يكشف لنا عن الحقيقة فيما ذهب إليه الأستاذ العقاد وفيما أدليت به من رأي، فقد أكون مخطئاً في اعتقادي وبخاصة إن كان هناك شيء خفي

ص: 39

عليَّ فلم أتبصره وفانتني حقيقة معناه. . . ودمتم سنداً لمحبي المعرفة وطالبي الثقافة الحقة.

(بغداد - العراق)

عبد الواحد محمد

أستاذ العربية بمدرسة الكرخ الثانوية

أشكر للأستاذ الفاضل جميل ثقته وحسن ظنه، وأجيبه في مجال التعقيب على قول الأستاذ العقاد بأن علماء المقابلة لا يرون أن عبادة الشمس كانت معدومة في أطوار الديانات القديمة الخ. . . أجيبه في هذا المجال بأن هناك فارقاً بين (عبادة الشمس) و (ديانة الشمس) في واقع الأمر وفيما ذهب إليه الأستاذ العقاد وهذا هو الشيء الذي غاب عن السائل الفاضل فلم يتنبه له.

إن القول بأن (ديانة الشمس) تستلزم درجة من الثقافة العلمية لا تتيسر للهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ صحيح لا غبار عليه؛ وذلك لأن العبادة شيء والديانة شيء آخر. . . وإذا كانت العبادة لا تحتاج إلى شيء من الثقافة العلمية؛ فإن الديانة تحتاج إلى مثل تلك الثقافة كل الاحتياج وأهمها الإحاطة بعض الشيء بالعلوم الفلكية والحسابية. إن العبادة تقوم على أسس من الشعور بالتأليه والخضوع للإله، أما الديانة فتقوم على أسس أخرى هي تنظيم هذا الشعور عن طريق إبرازه في صور شتى من إقامة الشعائر وتقديم القرابين وبناء المعابد والمحاريب.

كلام الأستاذ العقاد إذن عن (ديانة الشمس) صحيح لا غبار عليه إذا قصرناه على الثقافة العلمية لا الأدبية. أما كلامه عن (عبادة الشمس) حين يقول إنها لم تكن معدومة في أطوار الديانات القديمة فليس صحيحاً في جملته. . . إن عبادة الشمس مثلاً في العصر البليوليثي المتأخر لم يكن لها وجود على الإطلاق، وهو العصر الذي عرفته الحياة منذ عشرين ألف سنة على وجه التقريب.

فإذا انتقلنا إلى العصر النيوليثي المبكر وجدنا عبادة الشمس على نطاق ضيق لا يكاد يذكر، وهو العصر الذي عرفته الحياة منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد. فعبادة الشمس كانت معدومة تماماً في أقدم عصور التاريخ، وكانت شبه معدومة في عصر آخر أقل قدماً، وهذا

ص: 40

هو التحديد الذي يؤكده بالدليل المادي (ورثنجتن سميث) في كتابه (الإنسان المتوحش البدائي)، ويؤكده بأدلة أخرى معنوية كل من العالمين الكبيرين (ج. ج. أتكنسون) في كتابه (القانون البدائي) و (هـ. ج. ولز) في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية)!

بعد هذا التحديد، نعرض لشيء من التحليل والتعليل لظاهرة انعدام (عبادة الشمس) عند الهمج وأشباه الهمج في أقدم عصور التاريخ كما ورد في كتب هؤلاء العلماء الثقات، لنرد به على الآراء الخاصة التي أبداها الأستاذ صاحب السؤال.

لم يكن الإنسان الهمجي في أقدم عصور التاريخ يعرف لوناً من ألوان التفكير الذي يقوده إلى الكشف عما يجري حوله من ظواهر الكون وأحداث الحياة؛ لقد كان كل تفكيره محصوراً في قليل من الأمور التي تهمه كإنسان يتجنب الخطر حرصاً على حياته ويسعى إلى اجتلاب الرزق ليستطيع أن يعيش. فأفق التفكير عنده كان مشغولاً بمثل هذا الإجهاد الفكري الممثل في طريقة الخلاص من حيوان مفترس قد يعترض طريقه في الليل أو النهار، وفي طريقة الحصول على حيوان أليف يهيئ من لحمه طعاماً يرد به غائلة الجوع!. . . ولقد كان قصوره عن التفكير المتغلغل فيما حوله من ظواهر وأحداث مرجعه إلى قصور اللغة التي تعد في حقيقتها الدعامة الأولى لكل تفكير عميق. إن الرجل الهمجي في العصر البليوليثي المتأخر لم يكن يعرف لغة تعينه مثلاً على أن يفكر لماذا تشرق الشمس في الصباح ولماذا تغرب في المساء، ومن أين جاء ولماذا يعيش؟! لقد كانت لغته هي لغة الحركات والإيماءات، وكان فكره يدور حول تلك الأشياء التي تقع في دائرة إحساسه الساذج الذي لا يفترق أبدا عن إحساس الأطفال؛ لأن اللغة كما يقول (ويلز) هي يد الفكر التي يطبق بها على الأشياء ويختزنها لديه إلى حين!

وليس من شك في أن الرجل الهمجي في ذلك العصر لم يؤت درجة من التفكير تهيئ له نعمة التمييز بين ما هو جماد وبين ما هو حي. . لقد كان يرهبه منظر النهر إذا ما تدفق وفاض، وتخفيفه رؤية الظلام إذا ما أطبق بجناحيه على الكون، ويعصف بجلده وشجاعته زئير حيوان مفترس أو حدوث رؤيا مزعجة تقض مضجعه. وكل تلك الأمور في وهمه أعداء يخشاها كل الخشية ويأتي من الأعمال ما يستجلب به رضاها عنه وعطفها عليه!

ولدينا من الأدلة المادية ما يثبت أن تفكير الهمج في العصر البليوليثي لم يكن يتيح لهم

ص: 41

بحال من الأحوال أن يستشفوا ما وراء الظواهر الكونية؛ فرسوم الإنسان حتى التي تنتسب منها إلى العصر البليوليثي المتأخر لا تقدم لنا أية إشارة إلى أنه كان يهتم أدنى اهتمام بالشمس أو القمر أو النجوم أو الأشجار. . . لقد كان كل تفكيره مركزاً في الحيوان والإنسان دون غيرهما مما يقع تحت حسه وبصره من شتى الصور والمرئيات!

ولقد يسأل سائل: ألم يكن هناك نوع من العبادة يحتل مكانه من نفوس الهمج في ذلك العصر من التاريخ؟ ونحن نجيبه بأن هناك نوعاً من العبادة كان له أبعد الأثر في حياة الإنسان البدائي في العصر البليوليثي وهو (عبادة الرجل المسن). . . لقد كانت خشية الرجل المسن وأثرها العميق في نفوس أهله وعشيرته هي مقدمة الشعور الديني عند الهمج البدائيين كما يؤكد ذلك (جرانت ألان) مقتفياً أثر (هربرت سبنسر) في كتاب (تطور فكرة الإله) هذا الشعور الديني الأول كان مبعثه إجلال الأهل والعشيرة للرجل المسن، حتى لقد كان يحرم على كل فرد أن يلمس رمحه أو يجلس في مكانه! ومما كان يبث هيبته وخشيته في النفوس، ويبعث على احترامه وتقديره ذلك الدور الذي كانت تقوم به الأمهات في توجيه شعور الأبناء نحو هذا الهدف المقدس!

هذا في العصر البليوليثي، فإذا ما انتقلنا إلى العصر النيوليثي لمسنا بعض التطور في عقلية رجاله من الهمج وأشباه الهمج. . .

لقد بدأت مرحلة الرعي البدائي الذي يتطلب الترحل من مكان إلى مكان، ولقد أجبر الراعي النيوليثي المترحل بحكم هذه الحياة الجديدة على أن يشحذ فكره ليدرك الاتجاهات المختلفة وانبساط الأرض كما أجير على أن يهتم بالشمس في النهار وبالنجوم في الليل لأنها كانت أشبه بموازين يزن بها الوقت وتهديه إلى الطريق وترشده في تنقلاته ورحلاته. من هنا نبتت في نفسه بذور لون من الشعور الديني يختلف عما سبقه من شعور عند الإنسان البليوليثي. . . إن توقير (الرجل المسن) هناك قد تحول هنا إلى توقير هذه الظواهر الكونية ممثلة في اعتقاده بأنها أجسام ذوات أرواح وشخصيات تقدم له من الهداية والعون ما كان يقدمه الرجل المسن إلى أهله وعشيرته! ولكن عبادة الشمس على الرغم من هذا كله لم تحظ بنصيب وافر من عناية الرجل النيوليثي حيث وجه جل عنايته إلى عبادة النجوم؛ لأنها كانت في رأيه أثبت دليلاً من الشمس! هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان

ص: 42

للثعابين أثر كبير في نفسه ترتبت عليه أن اضمحلت عبادة الشمس أو كادت لتحل محلها (عبادة الثعبان)، وبخاصة في تلك المناطق التي كان فيها للأفعى أهمية عملية خطيرة في الحياة الإنسانية!

وهكذا ظلت عبادة الشمس شبه معدومة حتى أَواسط العصر النيوليثي، ولم يقدر لها أن تنتشر إلا يوم أن تكتل البشر في مجموعات إنسانية تنتظم دولاً مميزة المعالم موحدة الكيان، هناك حيث توطدت أركان عبادة الشمس وديانة الشمس في كل من مصر وبابل وفارس والهند واليابان.

وسيط هيئة الأمم وعدالة الديمقراطية الأمريكية:

يقولون إن في أمريكا ديمقراطية، ويقولون إن من مبادئ هذه الديمقراطية الأمريكية تلك المساواة بين رعاياها في الحقوق والواجبات. . . إذا لم تصدق هذا الذي يقال فاقرأ معي هذين الخبرين اللذين طالعتهما في الصحف منذ أيام:

(حجز معهد الشرق الأوسط في أمريكا حجرة في فندق بارك لإجراء مباحثات خاصة بين خبراء شئون الشرق الأوسط غير أن خادم الفندق ما كاد يرى الدكتور رالف بانش بين هؤلاء الخبراء حتى انبرى له ومنعه من الكلام لأنه أسود، ثم قررت إدارة الفندق إلغاء حجز الحجرة وإعادة النقود التي دفعت لذلك إلى المعهد، لأن الدكتور بانش زنجي لا يسمح له بارتياد مثل تلك الأماكن)!

هذا هو الخبر الأول الذي طالعته في (المصري).

وإليك الخبر الثاني الذي طالعته في (الأهرام):

(صرح الدكتور رالف بانش لمندوب مجلة (كوليبزر) الأمريكية بأنه رفض منصب مساعد وزير الخارجية الأمريكية الذي عرضه عليه الرئيس ترومان لأنه (أي بانش) لا يستطيع الإقامة مع أسرته في واشنطن حيث يلقى الزنوج اضطهاداً شديداً على أيدي البيض)!

رالف بانش وسيط هيئة الأمم المتحدة في المشكلة الفلسطينية هذا الشاب العظيم المثقف الإنسان الذي خلف الكونت برنادوت عقب أن اغتالته الأيدي اليهودية القذرة، هذا السياسي الممتاز الذي عرض عليه الرئيس ترومان منصب مساعد وزير الخارجية لكفايته ومواهبه؛ رالف بانش هذا تحول بينه الديمقراطية الأمريكية في شخص خادم وبين الكلام لأنه

ص: 43

زنجي، وتحول بينه الديمقراطية الأمريكية في أشخاص أبنائها البيض وبين المنصب الخطير لأنه زنجي. . . ترى كم علامة من علامات التعجب تكفيني لأثبتها في ذيل هذا التعقيب؟ أغلب الظن أن مئات الألوف منها لا يمكن أن تكفي لتعبر عما يجيش بنفسي من شتى الخواطر والانفعالات!

لقد كان الأمريكيون ينفقون من ميزانيتهم في خلال الحرب ملايين الدولارات ليقنعوا الشعوب المضللة بتلك الحقيقة الفذة، وهي أن الألمان برابرة متوحشون، لماذا؟ لأنهم يضطهدون جنساً يستحق الاضطهاد، ويشردون جنساً يستحق التشريد، ويحتقرون جنساً يستحق الاحتقار، وأعني به تلك الفئة من حثالة المخلوقات البشرية في كل زمان وكل مكان!. . . قالوا هذا عن الألمان وهم يمثلون نفس المأساة، وما أبعد الفارق بين جنس وجنس في حساب الإنسانية وحساب الخلق والضمير، نعم ما أبعده بين موسى شرتوك ورالف بانش في مجال التمثيل بالفرد الواحد للألوف والملايين!!

دكتاتورية حين تصدر عن الألمان وديمقراطية حين تصدر عن الأمريكيين. . . وصفقوا ما استطعتم للديمقراطية الأمريكية المزيفة!

أنور المعداوي

ص: 44

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

حول الكتب الأدبية بوزارة المعارف:

قررت اللجنة المختصة في وزارة المعارف، تقرير طائفة من كتب الأدب الحديثة للقراءة الأدبية بالمدارس الثانوية في العام الدراسي القادم، وهي توزع على الطلبة، ويقدر ما يؤخذ من كل كتاب بين عشرة آلاف وعشرين ألف نسخة، وأهم هذه الكتب ما يلي:

(زعماء الإصلاح في العصر الحديث) للدكتور أحمد أمين بك وقد جدد تقريره إذ كان مقرراً في العام الماضي، و (الشاعر) للمنفلوطي بدلاً من (في سبيل التاج) التي كانت مقررة في العام الماضي، و (أبو الهول يطير) للأستاذ محمود تيمور بك بدلاً من (نداء المجهول)، و (مجنون ليلى) لشوقي بدلاً من (الشوقيات)، و (المهلهل) للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك بدلاً من (عنترة)، و (عبقرية الصديق) للأستاذ عباس محمود العقاد بدلاً من (عبقرية عمر)، و (يوميات نائب في الأرياف) للأستاذ توفيق الحكيم، و (العباسة) لعزيز أباظة باشا، وجدد تقرير الجزء الأول من (الأيام) للدكتور طه حسين بك و (فارس بني حمدان) للجارم.

وقد ثار حول هذه الكتب، أمران: الأول متعلق باختيارها والثاني خاص بثمنها.

أثار الأمر الأول معالي وزير المعارف عندما اطلع على الكتب التي قررتها اللجنة، إذ سأل معليه عن أدباء كبار منهم الأستاذ الزيات، لم لم تقرر لهم كتب؟ وسأل عن كتب قررت وكان قد لوحظ بها أخطاء في اللغة والنحو والموضوع - لم قررت؟

وأجابت اللجنة عن أسئلة معالي الوزير، ومما قالت إن مؤلفات الأستاذ الزيات فوق مستوى الطلبة، وأن الكتب التي بها أخطاء قد تعهد أصحابها أن يصححوا هذه الأخطاء في الطبعات الجديدة! وإجابة اللجنة، وفيها غير ذلك، لم تستطع أن تزحزح علامات الاستفهام من مواضعها. وهناك علامة استفهام كبيرة تحدق في اللجنة من تحت إلى فوق ومن فوق إلى تحت. . . وذلك أن اللجنة مؤلفة من نحو ثلاث سنين، للنظر في أمثل الطرق للنهوض باللغة العربية في المدارس وتحبيبها إلى الطلاب، وهي مهمة وقتية غير دائمة، واتخذت اللجنة طريق تقرير الكتب الأدبية لتحقيق هذه الغاية؛ هذا حسن، ولكن علامة الاستفهام

ص: 45

تريد أن تعرف لم فرضت اللجنة نفسها سلطة تنفيذية دائمة، تقرر وتنفذ في كل عام، ولا تعرف الجهات الأخرى في الوزارة التي لها شأن فني في الموضوع، إلا الأوامر تأتي إليها للتنفيذ، حتى سميت (لجنة الأوصياء) وكأن علامة الاستفهام تريد أن تقف باللجنة عند وضعها الفني الاستشاري، وقد تسائلها لم أعطت نفسها حق الاستمرار.

والمتأمل في الكتب التي تقررها اللجنة سنوياً، يرى مؤلفيها (طقماً) ثابتاً لا يأتيه التبديل من بين يديه ولا من خلفه، ولا أريد أن أمس أحداً من أولئك الأعلام الذين تقرر كتبهم، فهم أساتذتنا ومكانتهم الأدبية معروفة وكتبهم نافعة من غير شك. ولكن لم الاقتصار عليهم والاحتفاظ بهم في كل عام، حتى أن من لم يجدد كتابه يقرر له كتاب آخر، كأن المقرر هو المؤلِّف. . .

أنا أفهم من تقرير تلك الكتب أنه يرمي إلى غرضين: اتصال الطلاب بالحركة الأدبية العامة، وتشجيع المؤلفين. والغرضان يقتضيان التنويع في الاختيار بحيث يشمل ألواناً مختلفة من آداب العصر لأدباء مختلفين من مؤلفي العصر، شيوخاً وكهولاً وشباباً. وعندنا طائفة من الأدباء ذوي النشاط المحمود في التأليف قد تقدموا إلى الكهولة، لم لا يقرر الصالح من كتبهم؟ وأذكر منهم - على سبيل المثال - سيد قطب والعريان وعلي طه والخفيف وعلي أدهم ونجيب محفوظ. ولعل هؤلاء أولى بالتشجيع من أولئك المقررة كتبهم لحاجتهم إليه أكثر منهم، ولا شك أن الناشئين وغير الناشئين يجدون في إنتاجهم ألواناً مختلفة محببة.

ويلاحظ أن بين الكتب المقررة كتباً لبعض أعضاء اللجنة ورئيسها الدكتور أحمد أمين بك، وأنا أحب هذا الرجل الكبير، ومما أحبه فيه أفكاره التقدمية المبنية على أساس من ثقافة أصيلة. وليس لهذا علاقة بالموضوع ولكنه استطراد أعود منه لأقول: إني لا أحب أن يسلبني ذلك الحب حريتي في تناول الموضوع بما أراه. بين الكتب المقررة (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) وكانت اللجنة قد قررته في العام الماضي قبل أن يطبع؛ قررته في إبريل وظهر في أغسطس، وبينها (المهلهل) ومؤلفه الأستاذ فريد أو حديد بك عضو اللجنة. وقد يكون بينها كتب أخرى لأعضاء آخرين لم ألتفت إليها، وهذا المثالان يكفيان لما أمري إليه، وهو أن هؤلاء السادة يحكمون بذلك لأنفسهم مهما قيل في تبرير

ص: 46

موقفهم وتعليله، وفي الوقت نفسه يحكمون على غيرهم ممن لم تسعدهم الحال بعضوية اللجنة. .

ولا أدري لمن الكتب التي اشتملت على أخطاء تعهد أصحابها بإصلاحها، هل هي لأعضاء في اللجنة أو لغيرهم؟ وهل كتبوا (التعهدات) ووقعوها أو تعهدوا شفوياً؟ وهل تعهدوا بأنفسهم أو تعهد عنهم أولياء؟

أما الأمر الثاني الخاص بأثمان الكتب فأرجئه إلى الأسبوع القادم.

متحف الثقافة العربية:

احتفلت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية يوم الأربعاء الماضي، بافتتاح متحف الثقافة العربية فألقى سعادة عبد الرحمن عزام باشا الأمين العام للجامعة كلمة نوه فيها بأثر الرابط الثقافي بين الأمم العربية من حيث إنه أهم الروابط بينها، وقال إنه إذا وقع اختلاف على خطط عسكرية أو أغراض سياسية فإن الجميع متفقون على الأهداف الثقافية، كما قال إن العمل الثقافي في الجامعة ليس مقصوراً على الدول المشتركة فيها وإنما هو لجميع الأمم العربية. وأعقبه الدكتور أحمد أمين بك فبين الأعمال التي قامت بها الإدارة الثقافية والأغراض التي تعمل على تحقيقها، وعرف بمتحف الثقافة العربية وذكر المقصود منه وهو جمع المعلومات والوثائق المتعلقة بشئون الثقافة ونظم المعارف في مختلف الأقطار العربية وتهيئتها للباحثين، ثم عرض خلاصة هذه المعلومات وأهم الوثائق على الأنظار لإعطاء فكرة واضحة عن الحالة الثقافية في كل قطر من الأقطار العربية.

وقد دلفنا بعد ذلك إلى مكان المتحف فألفيناه مقسماً إلى أقسام، منها (التعليم الجامعي) و (التعليم الثانوي) و (التعليم الابتدائي) الخ، وقد عرض في كل قسم نسخ من كتبه الدراسية وبعض صور للمدارس وما فيها من نشاط، وما إلى ذلك مما يتعلق بالنظم والحياة المدرسية، وعلقت بجدران المتحف مصورات ورسوم بيانية.

والمتحف وإن كان وليداً صغيراً إلا أنه عظيم الفكرة، وقد نسق تنسيقاً جميلاً في حدوده الضيقة. وقد ساءلت نفسي بعد مشاهدته: هل هو متحف للثقافة العربية؟ حقاً إن معروضاته تعطي فطرة واضحة عن النظم والمناهج المدرسية في البلاد العربية ولكن أين ما بمثل الثقافة العامة والنشاط الأدبي خارج النطاق المدرسي؟ وهل هو متحف؟ إن كلمة (متحف)

ص: 47

أول ما يتبادر إلى الذهن منها أن ما تطلق عليه يضم منتوجات من الفنون الجميلة، وهو خال من هذه المنتوجات، ألهم إلا بعض صور فوتوغرافية ومصورات جغرافية. كنت أوثر أن يسمى (معرض التعليم في البلاد العربية) ولو مؤقتاً حتى يتسع ويشمل ما يجعله أهلاً لاسم (متحف الثقافة العربية).

حسن فائق باشا:

في الأسبوع الماضي عقد معالي وزير المعارف اجتماعاً دعا إليه رجال التعليم في الوزارة وفي الجامعة، عرض فيه أمر استقالة وكيل وزارة المعارف سعادة حسن فائق باشا من منصبه، وقال إنه ألح على سعادته في البقاء واستعان بدولة رئيس الوزراء على إقناعه بالعدول عن الاستقالة، ولكنه أصرَّ عليها مراعاة لصحته فاضطر آسفاً إلى قبولها.

وقد كان ذلك الاجتماع حفلاً رائعاً لتكريم حسن فائق باشا وتوديعه، تجلى فيه الوفاء الكريم والتقدير العظيم لرجل خدم العلم والتعليم أربعين عاماً كان فيها، وخاصة أثناء توليته المناصب الكبيرة، مثلاً للرجل العادل النظيف. . . وقد كان معالي الوزير دقيقاً في وصفه إذ قال له:(عرفتك مترفعاً في غير صلف، ليناً في غير ضعف، متميزاً على نظرائك في غير خيلاء ولا زهو) وهذه العبارة من كتاب بليغ وجهه معاليه إلى سعادته بهذه المناسبة. ومن معاني ذلك الحفل أنه كما قال فائق باشا في كلمته، تكريم للعلم ورجاله في شخصه.

كان حسن فائق باشا بوزارة المعارف دعامة لحفظ التوازن فيها فلعلك تعرف أن في هذه الوزارة منذ قديم عهدها تيارات مختلفة وعصبيات معهدية وغير معهدية، وكان الرجل متجرداً من تلك الصغائر، ينظر إلى الجميع نظرة واحدة، لا يعين فئة على فئة، ولا يقصر في نصرة الجانب الذي يرى فيه الحق. ومن هنا كانت خسارة الوزارة باستقالته عظيمة.

أرواح هائمة:

هذا هو اسم الفلم الذي ابتدأ عرضه هذا الأسبوع في سينما بارادى وسينما متروبول. وهو يعرض قصة تبدأ بمنظر في مكتب رئيس تحرير جريدة (الحرية) حيث نرى الآنسة هدى رئيسة جمعية تحرير المرأة تحتج على المقالات التي يكتبها الأستاذ زهدي ضد حقوق المرأة، ثم تدعوه إلى حفلة في (الأوبرج) تقيمها الجمعية للاحتفال بتخريج الفوج الأول من

ص: 48

الفتيات اللاتي تطوعن للعمل في حرب فلسطين، كي يقتنع بأن المرأة تستحق المساواة بالرجل. وفي الحفلة نرى زهدي مع فتاة عابثة مستهترة باللهو هي مخطوبته، وهدى مع شاب ماجن هو خاطبها. ثم يتطوع زهدي للقتال في فلسطين، وتتطوع هدى للتمريض في الحرب. ويعود زهدي في إجازة، وعند وصوله إلى منزله يفاجأ ببرقية تتضمن أن والده يحتضر، فيسرع إليه في سيارته التي تنقلب به في الطريق فيصاب إصابات شديدة ينقل على أثرها إلى المستشفى العسكري حيث يعالج فيشفى غير أن وجهه يشوه تشويهاً منكراً. ثم يذهب إلى مخطوبته، وهو يخفي دمامته بقناع يبدي الوجه طبيعياً، ويلومها على سلوكها، ويفسخان خطبتهما، وكذلك تفسخ هدى وخاطبها خطبتهما في منظر آخر، وبعد ذلك نرى زهدي يغازل بعض الفتيات، ثم يخلع القناع ويبدي لهن وجهه فيفرن منه. ثم يلتقي بهدى، ويغازلها وهو مقنع، ثم تكشف هي أنه المريض الذي كانت تمرضه في المستشفى وخرج مشوه الوجه، فتنفر منه أولاً، ثم تذهب إلى أبيها وتقول له إن زهدي يريد أن يخطبها إليه فيرسل الوالد إليه ويفاتحه في الأمر، فيرفض زهدي ويكشف له وجهه، ولكن هدى تبدي رغبتها في زواجه لأن تشويهه من التضحيات الوطنية، ثم يذهب والدها به إلى سويسرا ويعالج وجهه حتى يعود إلى طبيعته.

وفي الفلم فجوات وتضاريس. . . منها أن زهدي يلتقي بهدى في المرة الثانية على أنه أول لقاء وقد سبق أن تعارفا، ولست أدري لماذا جُعلت إصابة زهدي في السيارة بعد أن عاد من الحرب وكان الأولى أن تكون إصابته في الميدان حتى يتحقق معنى التضحية التي قدرتها فيه هدى؟ وفي حفلة (الأوبرج) لم نر فتيات مجندات غير الست هدى. ولم يكن طبيعياً أن يعنف السيد زهدي مع مخطوبته ويكشف لها وجهه فترمي بخاتم الخطبة في هذا الوجه الكريه، ثم يقبل عليها بعد هذا بشغف وببثها هواه ويذكرها بالذي كان.

ثم أريد أن أسأل عن هدف القصة، هل هو الاعتراف في آخر الأمر بأن المرأة تستحق المساواة بالرجل؟ تظهر في القصة هذه المحاولة ولكنها لا تستند إلا إلى شخصية هدى، وقد انتهت عقدة القصة بقبولها الزواج من الرجل الذي قدرت شخصيته وتضحياته. . . ولكن هذا التقدير لم يظهر إلا في كلمات مفتعلة عندما أبدت رغبتها في هذا الزواج، ولم يكن لهذا (الشعور) مقدمات، ثم هل هذا يعني المساواة؟ وقد أفضى منظر الوجه المشوه على الفلم

ص: 49

روحاً ثقيلاً قابضاً، وقد انطلق صاحبه يخفيه ثم يظهره فيفزع بنات الناس ويروعهن. . . ولست أدري هل (الأرواح الهائمة) هي أرواح هؤلاء البنات المروعات، أوهي روح صاحب الوجه الشاردة وراءهن، وقد جمعت على (أرواح) اعتباطاً. .؟ فإني لم أجد بالفلم ما يدل على اسمه (أرواح هائمة) غير ذينك الفرضين. أو لا تكون الأرواح الهائمة هي أرواح الجمهور التي شردتها مشاهدة الفلم. . .؟

وقد مثل في هذا الفلم أحمد علام وزوزو حمدي الحكيم، وقد ظهرا في بضعة مناظر قصيرة، وكمليا (هدى) ولولا صدقي (مخطوبة زهدي) وقد أحسنت كمليا في دورها غير أنها كانت متكلفة في زيها العسكري وجامدة في التمريض. أما لولا صدقي فقد أجادت في تمثيل الفتاة العابثة وقد تخصصت في هذا الدور. وأما سائر الممثلين والممثلات فأكثرهم وجوه جديدة، ومنهم بطل الفلم (زهدي) واسمه سليمان عزيز، وكذلك المؤلف سامي عزيز، وقد أخرج الفلم كمال بركات. وأود لهم التوفيق في مقبل الإنتاج.

عباس خضر

ص: 50

‌البَريدُ الأدَبي

مدفن الاسكندر:

قرأت الكلمة التي كتبها الأستاذ كاظم المظفر (حول مدفن الاسكندر) رداً على ردي على ما كتبه من قبل.

لا زلت أقرر وأكرر وأؤيد ما قلته من قبل من أن الاسكندر الأكبر

توفى في مدينة بابل وأن تابوته لا يعرف مكانه حتى الآن وأنه عند

وفاته لم تكن أمه في مصر بل كانت في بيللا مسقط رأس عائلة

الاسكندر.

يسألني الأستاذ كاظم: من أين استقيت ما أقول؟ فأقول له: إن جميع المؤرخين اليونانيين والألمانيين والفرنساويين والإنجليز وغيرهم وغيرهم حققوا ودققوا وقالوا ما قلت وقولهم هو عين اليقين

منهم المؤرخ اليوناني أرييين وها ما قاله عنه صاحب القاموس العام للتراجم والتاريخ والجغرافيا القديمة والحديثة:

' ' ' ،

ومثله المؤرخ درويزن الألماني الذي كتب كتابه المشهور (تاريخ الاسكندر) المطبوع في برلين في سنة 1833.

ومن قبله المؤرخ الإنجليزي وليمس الذي كتب عن (حياة وحروب الإسكندر الأكبر).

ومثلهم المؤرخ الفرنساوي سنت كروا الذي وضع كتاباً عن بحث ونقد ما كتبه مؤرخو اسكندر الأكبر. وهذا الكتاب طبع ونشر في سنة 1775 وقد وصفه صاحب القاموس سالف الذكر بقوله إنه:

' ; ' ' ' '

فإذا أضفت إلى كل هذا كتاب بلوطرخوس عرفت صحة المصادر التي استقينا منها ما كتبناه.

على أن من ينعم نظره فيما كتبه الأستاذ كاظم يدرك على الفور بأن المصادر التي استند

ص: 51

إليها هو لا تفيده. فمثلاً استند إلى البستاني الذي قال (ولما استولى الاسكندر على بابل كانت خربة بالنسبة إلى حالتها الأولى فعزم على إعادة بنائها وجعلها عاصمة لمملكته في آسيا، غير أن المنية أدركته قبل إنفاذ مقصده) هذه الجملة ليس فقط لا تقيد أن الاسكندر لم يمت في بابل، بل ترجح بالعكس أنه مات فيها. وكون المنية أدركته قبل إعادة بنائها وجعلها عاصمة لمملكته في آسيا لا ينفي وجوده وموته فيها بعد تجديد بنائها وتعميرها. لأن اسكندر لما رأى الخراب عم مدينة بابل أمر 20 ألفا من جنوده برفع أنقاض العمارات المتخربة ورفع أنقاض معبد بابل ثم البدء فوراً بترميم ما تخرب من المدينة وتعميرها وتجميلها لتكون مقراً له؛ وجعل تنفيذ هذه الأعمال تحت إشراف حاكم بابل، ثم أمر بحفر ترعة على مقربة من بابل. فما قاله البستاني صحيح في بعضه وغير صحيح في كله.

ثم يقول الأستاذ كاظم إن (المسعودي لم يتحقق تماماً من المكان الذي مات فيه الاسكندر، وأنه ذكر في ذلك أقوالا ثلاثة لم يرد فيها اسم بابل) وهذا استدلال غير منتج أيضاً.

على أن من القرائن الواضحة - علاوة على أقوال وتحقيق المؤرخين الذين ذكرتهم - على أن الاسكندر توفى في بابل أن جميع المؤرخين رووا أنه قبل دخول الاسكندر مدينة بابل حذره المنجمون من دخولها وقالوا له إذا دخلت بابل كان دخولك وبالا عليك، فلم يحفل الاسكندر بتحذيرهم ودخلها فكانت وفاته فيها في يوم 11 يونيه سنة 323 قبل الميلاد. ومن القرائن أيضاً أنه عقب وفاة الاسكندر نودي بابنه ملكاً في مدينة بابل نفسها خلفاً لأبيه. فإن كان الاسكندر مات في ديار ربيعة أو في العراق بناء على أن بابل كانت خراباً يباباً لما نودي بابن الاسكندر ملكاً في بابل

أما قولي بأن تابوت الاسكندر لم يعرف له مقر حتى الآن فتؤيده الأبحاث والحفريات والتحقيقات الجارية حتى الآن. كما يؤيده مضى 2300 سنة على وفاة الاسكندر وعدم العثور على تابوته حتى الآن. وإن كان الأستاذ كاظم يعرف أين مقر هذا التابوت فليرشدنا ليكون له شكر جميع المؤرخين في العالمين القديم والحديث.

أما ما صرح به المسعودي من أن الاسكندر (عهد إلى ولي عهد بطليموس أن يحمل تابوته إلى والدته بالإسكندرية) فقول بعيد عن الحقيقة بُعد الأرض عن السماء؛ لأن إقامة الاسكندر في مصر لم تطل أكثر من ستة شهور ما كانت تكفي وما كانت تستحق سفر أمه من بيللا

ص: 52

إلى مصر. ولم يقل أحد من المؤرخين أنها تركت مقدونياً وحضرت إلى مصر، بل أجمع المؤرخون على أن بطليموس أحد قواد الاسكندر أراد أن ينفذ وصية الاسكندر عندما وصى بأن يدفن في واحة سيوه بجوار أبيه آمون رع. وقد حار المؤرخون في أمر معرفة إن كان تابوت الاسكندر نقل حقيقة من بابل إلى مصر. ولما أشاع بعض المؤرخين أن تابوت الاسكندر موجود في مصر وعين بعضهم موضعه في شارع النبي دانيال قام المغفور له الأمير عمر طوسون بعمل حفريات على مقربة من مسجد النبي دانيال فلم يعثر على شيء.

إن الرجوع إلى بعض المؤرخين العرب مثل المسعودي وابن خلكان والخطيب في جميع الحوادث القديمة وعلى الخصوص فيما تعلق منها بغير العرب من إغريق ويونانيين ورومانيين وغيرهم وغيرهم غير مأمون العواقب، لأنهم لم يحققوا ولم يدققوا بأنفسهم كما فعل المؤرخون الإفرنج، لأنهم يكتفون بنقل ما يقوله من سبقهم نقلاً بغير تحقيق وبغير تدقيق. فقول الأستاذ كاظم بأنه (لا يخفى ما لابن خلكان والخطيب من شهرة واسعة في عالم التاريخ وما لديهما من خبرة ودراية بشئون الأمم القديمة وأحوال ملوكها وأيامها وغير ذلك) لا يكفي لاعتماد ما يقولونه بغير بحث وبغير الرجوع إلى أبحاث العلماء الذين بحثوا وحققوا ودققوا وأصبحوا ثقة فيما يكتبون وفيما يقولون. . .

عزيز خانكي

ص: 53

‌القَصصُ

مادلين

للأديب يوسف جبرا

(لم تجف الزهور البيضاء التي وضعوها على قبرك، ولم تتلاشى أصداء النواح من الأفق بعد. لقد كف جرس الموتى عن دقاته الحزينة المتفرقة، ولكن الأسى لم يكف عن دق الصدور التي اشتملت على صورتك الحبيبة يا مادلين، والدمع لم يكف عن الاشتعال في مآق تسهر الليل بعدك. . .

هاهي ذي الشمس تغمض جفنيها بين فلذات من الدم القاتم، وهاهو ذا وشاح الليل يلف الكائنات، وهاهي ذي الأشجار الضخمة في نواحي المكان ساكنة واجمة. . . الجميع يشاركونني آلامي ووحدتي. . . وأنت في طي لحدك يا مادلين راقدة، كما رقدت ماجد ولين المسكينة من قبل!)

أقبلت علينا صاحبة النزُل في صباح تقول: بشرى لكم. . . إن أسرة صغيرة من مواطنيكم توشك أن تحل هنا: أب وابنه وابنته. . . لقد أعددنا الغرفة المجاورة وهيأناها، وستكون هنا في المساء).

وانطلقت صاحبة النزل فانضمت إلى أختيها في الغرفة الكبيرة التي كنا نسميها (الإدارة). كن ثلاث أخوات سوريات يشتغلن بالخياطة ويدرن هذا النزل الصغير الأنيق. وكان للثلاث طابع واحد. . . بدانة مفرطة تصحبها رقة وظرف - وكثيراً ما تكون البدانة والرقة صنوان!

أما (الإدارة) فهي المكان الذي تجلس (الزكائب) الثلاث في ناحية منه معظم النهار. . . بينما تتناثر في النواحي الأخرى ماكينات الخياطة، والفتيات اللواتي يتعلمن المهنة، وخليط من الأدوات والأقمشة والسلال. . . دائماً! وفي هذه الغرفة يتشاور الثلاث البدينات همساً في ما يهمهن من الأمور التي تختص بالنزلاء؛ وفي هذه الغرفة تقوم (الزبونات) بتجريب (البروفة) أمام المرآة وتسلم الثياب التي تكمل خياطتها.

وفي هذه الغرفة تنعقد جلسات عائلية بين الأسر المقيمة بالنزل، فينصت الجميع إلى حكايات طريفة تحكيها (الزكائب) عن أصلهن الرفيع وعن الشبان الذين تقدموا للزواج

ص: 54

منهن في غابر الأيام. . . وكان نصيبهم جميعاً الرفض!

في ذلك المساء قدمتنا كبرى الأخوات الثلاث إلى مادلين وأسرتها الصغيرة. . . أما أبوها فكان رجلاً، مسناً، في فمه أسنان صناعية، وعلى عينيه منظار غائم لا تكاد ترى عينيه من ورائه. أما الأخ فكان شاباً ظريفاً لما ينته من دراسة الطب. أما هي - مادلين - فقد بدت فتاة في الربيع الخامس والعشرين من عمرها، نحيلة، سمراء، في عينيها لهيب قاتم، وفي خصلات شعرها الأسود المهدل فن وعبقرية.

كانت الصورة الأولى التي وعتها لها ذاكرتي هي تلك، وكانت أذاك في ثوب بنفسجي اللون، يزيد لهب عينيها قتامة وسحراً. كانت مرحة كثيرة الضحك، وكان أول ما فعلته أن دعتني إليها - وكنت إذاك في السادسة من العمر - فقالت لي: ما اسمك؟) وحاولت أن أجيب. . . ولكن قبلتها كوت فمي وخدي، وأرسلتني أعدو إلى أمي في تعثر وخجل!. .

وسرعان ما اتصل الود بين مادلين وبين أمي، فكانتا تشتركان في كل أمر من الأمور. . . كنت تراهما معاً طيلة الوقت في المطبخ، أو أما ماكينة الخياطة، أو في الخارج تبتاعان شيئاً. . . إلى آخر هذا كله!.

واتصل الود أكثر من هذا بيني - أنا الصغير - وبين مادلين. كانت دائماً تدخر لي جانباً من الحلوى، وكانت دائماً تستقل هي بعمل ما أحتاج إليه من قطع الملابس الصغيرة، وكانت في كثير من الأحيان تصحبني معها إلى الخارج. . . ومن قبل ومن بعد كانت تحيطني بساعديها وتضمني إلى صدرها الحار لتغمرني بقبلات لا عداد لها. . . قبلات محمومة والهة أشعر أنا الصغير بأنها تختلف كثيراً عن قبلات أمي وسائر من بالمنزل. . .

أما من ناحيتي، فقد كنت أحب كثيراً أن تقبلني، وأن أملأ خياشيمي الصغيرة بعطر البنفسج الذي يفوح دائماً من شعرها الحالك. وكنت أحب أن ألوذ بغرفتها التي كانت غالباً ما تخلو من الأب والأخ. . . وهناك أطل من نافذة كبيرة على سطح دار مجاورة - كانت على ذلك السطح بقايا لعب ملونة، وأصص صغيرة في كل واحدة منها زهرة حمراء!.

. . . إلى أن كان ذلك اليوم الذي رأتني فيه أمي بين ذراعي مادلين وهي تقبلني تلك القبلات المحمومة، فدعتني إلى غرفتنا بعيداً عن أنظارها، ثم عبست في وجهي وحذرتني قائلة: لا تدعها تقبلك مرة ثانية. . أفاهم أنت؟ لا تذهب إليها إن دعتك. . إياك! وعرتني

ص: 55

الدهشة، ولم يستطع عقلي آنذاك أن يفسر ذاك التصرف الغريب. . أتحرمني من مادلين؟. . لماذا لا أدعها تقبلني؟ لماذا لا أذهب إليها. .

رحمك الله يا أمي، فما كنت آنذاك أستطيع أن أدرك شيئاً مما كان يدور بخلدك. . أنت يا من حنكتك التجارب وعرفت من أمور الدنيا الكثير. أما الآن، وقد كبرت واتسعت مداركي، فأني أعتب عليك يا أمي - أعتب عليك حتى وأنت في عالمك الآخر: لماذا دار بخاطرك ما دار عن مادلين؟ هل كانت مادلين كغيرها من البشر؟ لماذا حرمتني منها، وحرمتها مني؟ إن الأمر لم يكن أكثر من أنها فتاة جياشة العاطفة طال بها انتظار الزواج والأمومة. . فلماذا قصرت عن فهمها؟. . .

وقد كان محالاً أن أقطع صلتي بها هكذا دفعة واحدة! أريد على الأقل أن أعود لرؤية الصور الجميلة التي بغرفتها، وأن أطل أحياناً من النافذة الكبيرة على السطح المليء باللعب وأصص الزهور!. . وهكذا مضيت إلى أمي، وتوسلت إليها والدموع في عيني قائلاً: لا أدعها تقبلني. . لكن دعيني أذهب إليها إذا نادتني مثلاً! فنظرت إلى نظرة حادة، وقالت: حسن. . . سنرى!

(وفي ذلك المساء دعوتني إليك يا مادلين، وأريتني آلة للتصوير اشتراها أخوك، ثم حاولت من بعد أن تقبليني. . كدت أن أستسلم أول الأمر حسب ما اعتدت، لكني تذكرت والدتي. . فاضطربت! لكنك ألححت يا مادلين، فلما حاولت أن أتخلص من ذراعيك. . عرت وجهك سمات الدهشة، وقلت ماذا. . ألا تريد أن أقبلك؟)

وحاولت أنا أن أنظر في عينيك لكنني لم أستطع، فأرخيت أهدابي، وكان طبيعياً أن تلحظي في تصرفي إزاءك شيئاً غريباً طارئاً، فوضعت يديك على كتفي، وحدقت فيَّ بعينين تجلت فيهما الحيرة، وقلت: لماذا؟. . لماذا لا تريد!؟)

وفي براءة الطفل، كأني أريد أن أخلص من هم يجثم على صدري، أو كأنني أريد أن ألصق التهمة بصاحبتها، رميت في وجهك بالحقيقة ويدي تخفي اضطراب وجهي. . . قلت: أمي قالت لي. لا تدع مادلين تقبلك!). فكأنما أصابتك لطمة شديدة. . . لقد شحب وجهك الحبيب، وغامت عيناك فتلاشى منهما ذلك الألق الحار في الضباب. صرفتني في لطف، لكني مضيت إلى تلك الشرفة الكبيرة التي تطل على الميدان الفسيح، وهناك انتحيت

ص: 56

ركناً بعيداً، وجلست أبكي - لم أكن وحدي في تلك الساعة. . لقد رأيت في يدك منديلاً صغيراً وأنت تحملين الطعام إلى أبيك في الليل!

ولم يكن في مقدورك أن تطيلي الصبر أو السكوت، ففي صباح اليوم التالي فاتحت أمي في الأمر - كان ذلك وهي تطهو الطعام - فعاتبتها عتاباً رقيقاً، فأنكرت يا مادلين وقالت إنني - أنا - قد اخترعت ذلك الشيء اختراعاً. .!

ولم تصف القلوب في تلك الساعة، فكان أن تشاجرتما من بعد كطفلتين، وكان أن انطلقت كل واحدة إلى غرفتها تغسل كبرياءها بفيض من الدموع السخينة.

كان اليوم التالي يوم الرحيل، فاستطاعت كبرى الشقيقات الثلاث أن تصلح بينكما، فتعانقتما عناقاً مؤثراً، وأبت أمي إلا أن ترتدي ثياب الخروج من وقتها وتصحبك أن وأسرتك الصغيرة إلى القطار.! أما أنا، فقد أوعزت أمي لإحدى الشقيقات أن تأخذني إلى (الإدارة) لتقص على قصة شائقة، حتى لا أفكر في اللحاق بك. كانت تعلم مدى تعلقي بكن فكنت عند (حسن ظنها) وهربت من الأخت الطيبة إلى الشرفة المطلة على الميدان الفسيح، ومن هناك جعلت أصغي إلى أصوات القطر الغادية والرائحة، متخيلاً إياك وأنت ترحلين إلى السودان!

مضت عليَّ أيام من بعدك قضيتها في ذكرى اليمة، كلما أتاني صفير القطار اغرورقت عيناي بالدموع، وكلما نظرت إلى غرفتك الخالية! أكل قلبي الأسى. ثم كان أن انتهت أيامنا بدورنا ورحلنا إلى السودان - كنت أحس دائماً بفرحة كلما عدنا إليه، لكنها كانت هذه المرة فرحة زائدة. . . تذكرني بشعوري يوم عدت إلى دارنا بعد أن ضللت في إحدى المرات نهاراً كاملاً. ولقد تخليت أني سرعان ما ألقاك يا مادلين، لكن آمالي خابت إذ عرفت أنك تقيمين في بلد مجاور، ومن ثم فلا أمل في شيء أكثر من زيارات معدودة. . . ربما اعترضت أمي أيضاً على أن تصحبني فيها. . ما كان أشد فرحتي يوم زرنا بيتك للمرة الأولى! كان البيت جميلاً يوحي بالرغد والسلام، وكان بالفناء شجرة تين جعلت تقطفين منها وتطعمينني، وكانت بالفناء الآخر (عشة) كبيرة فيها سرب من اليمام الجبلي، وقبل هذا وذاك كنت أنت هناك.

لقد كانت المرة الأولى والأخيرة يا مادلين، وإني لا أزال أذكر كيف ظهرت مرحة أمام

ص: 57

الجميع حتى لكأنك فتاة مقبلة على الزواج! ماذا قلت! سامحيني. . فربما أكون قد مسست شعورك! لا أنكر أني تساءلت طويلاً. . . لم بقيت دون زواج حتى ذلك الوقت؟ لو كنت زوجة آنذاك وكان لك أطفال، لما أفرغت عليَّ كل هذا الحب، ولما تركت في حياتي ذلك الأثر العميق!. . . ثم كان يا مادلين أن حملوا إلينا ذلك النبأ السيء، حملته إلينا جارة تمت إليك بصلة قرابة، قالت إنك شغفت بالقصص وأدمنّها إدماناً شديداً - وجدك أخوك ذات يوم نائمة وعلى صدرك قصة حب ضممت عليها راحتيك. . . فما كان منه إلا أن جذبها منك في عنف وهو يصرخ بك: استيقظي! كانت حماقة منه كلفتك أعصابك. لقد دهتك نوبة حادة انتهت بذلك (الشلل) الذي أصاب إحدى يديك! أواه يا مادلين! قالوا إنك بت ضحية للسقم والعلة، وإنك تذوين كغصن في طريقة إلى الخلف. كان من سخف الأيام أن منعتنا زيارتك في ذلك الوقت، وأن شهوراً مرت فكدنا ننسى أمرك كل النسيان.

وفي يوم سعيد - أحد أيام العيد الثلاثة - كانت ساحة البيعة في أوج زينتها، تموج بالناس رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، وكان هناك حلقة منهم تحت شجرة (اللالوب) الضخمة في ظل البرج الكبير، وفي وسط الحلقة شاب ظريف يقوم ببعض الألعاب ليضحك الناس. لمحتك فجأة، وأنا على حافة الجدار مع ثلة من الرفاق، مع فتاة أخرى في ناحية من المكان. لم أكد أعرفك يا مادلين، لكنني أحسست أنه لا بد أن تكوني أنت، فوثبت إلى الأرض دون أن أعي، ورخت أخترق جموع الناس وقلبي يدق في خبل!

آه، كم كنت جميلة في ذلك اليوم يا مادلين! كنت في معطف من الصوف أحمر اللون، وكان على رأسك قلنسوة بديعة حمراء أيضاً، وكنت كأحسن ما تكون الفتاة صحة وجمالاً. لم تبخلي على بقبلة صغيرة في خدي، ولكن ترقرقت في عينيك آنذاك دموع الفرح والسعادة؟ لقد رأتك أمي في تلك الساعة فأقبلت عليك تحييك في شوق واهتمام. . وأي اهتمام! لقد أثرت يا حبيبتي يومها حسد النساء وألهبت قلوب الرجال - وصدقي أنني فرحت لك كل الفرح إذ قالوا إنك ستتزوجين. . . أخيراً!

ستجدين إذن من تفرغين عليه ذلك الحنان المكبوت، وسيروي حقلك الظامئ أيضاً بفيض من الحب والرعاية. . لكن جاء ذلك اليوم المشئوم. . بعد شهر من الزمن. . اهتز البرج الكبير في الصباح، ودق الجرس الضخم في أعلاه دقات متقطعة رهيبة!

ص: 58

لقد غرقت سفينة كانت تحمل خطيبك. . وغرق كل أمل باق لك في الحياة! لم تتحملي الصدمة يا مادلين. . فعادتك نوبة شديدة كانت هي النهاية! هاهي الشمس تدرج في السماء، وهاهي الطيور البيضاء تنشر أجنحتها على قبة البيعة، وهاهو الندى يترقرق بعد على الغصون وإلى الساحة الكبيرة يحملون نعشاً أبيض صغيراً، نعشك أيتها العروس!

يوسف جبرا

ص: 59