المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 835 - بتاريخ: 04 - 07 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٣٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 835

- بتاريخ: 04 - 07 - 1949

ص: -1

‌10 - أمم حائرة

سبل الهدى والطمأنينة

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

عرضتُ جوانب من قلق الآراء واضطراب الأعمال في مدنيتنا هذه، وذكرت مواطن تسرب إليها القلق وكانت جديرة أن تنجو منه؛ وبدت فيها بوادر الخلل وهي خليقة أن تنأى عنه، وذكرت الحكومات والقوانين والصحف والنساء والأسَر

والآن أفصل القول، بعد إجماله، في السبب الذي تنشأ عنه هذه العلل، والأصل الذي تتفرع منه هذه الأدواء لنعرف الدواء ونلتمس الشفاء:

لابد للنفس مما يقيمها على طريقة، ويسيرها على نهج، ويوجه رغباتها وجهة واحدة، ويجمع نزعاتها على سنة بينة. فكلما همت بأمر رأت أمامها سبيلا واضحة ولم تشتبه عليها المناهج، ولم تضطرب بها الآراء وتتجاذبها الأهواء. وكلما حزبها أمر لم تتبلد ولم تذهب شعاعا؛ بل تعمد إلى عدتها من الآراء القويمة والمذاهب المستقيمة، فتعرف ما تفعل وما تجتنب، وما تأخذ وما تدع.

والذي يقيم النفس على طريقة، ويعرفها منهجها فيما تهم به، وفيما ينزل بها، هو العقائد الراسخة، والقوانين الواضحة، عقائد الدين، وقوانين الأخلاق، وشرائع الأمة كلها. فإذا ثبتت النفسَ العقائد، وقومتها الآداب، ووضحت أمامها القوانين، خضعت أهواؤها للحق، واتفقت نزعاتها على الخير، وسارت في أعمالها على قوانين تطمئن بها، وتسكن إليها، وتحرص عليها، ولم تشتبه عليها السبل، وتنبهم أمامها الغايات.

وإن لم تئِل النفس إلى عقائد بينة، وترجع إلى مذاهب معروفة، لم تستطع السير على طريقة، ولا العمل على قانون، واضطربت في شدتها ورخائها، وحربها وسلمها، وكانت نهباً لنزعات مختلفة، وآراء متشاكسة، وتذبذبت بين دواعي الوقت وخطرات الساعة، واختلف عملها بين الحين والحين، ولم تثبت في المحن، ولم تصبر في الشدَائد، وكانت عرضة للحيرة كل آن. والحيرة هي تفرق الفكر، بل تقسم النفس، ولا يبلي الإنسان في

ص: 1

حياته بشر من الحيرة، وكثيراً ما أقدمت بالإنسان على الهلاك.

إن نزعات الإنسان كثيرة مختلفة، نزعات إلى اللذة والى الغلبة والسيطرة والى إيذاء من يخالفه، وحسد من يفضُله، والبغي على من يحسده، والى جمع المال والحرص عليه. وهو يحب ويبغض، ويسكن وينفر، ويرضى ويغضب، وفي كل هذا نزوات ونزعات.

ومواضع هذه النزعات كثيرة لا تحد، تعرض للإنسان كل حين، وفي كل مكان، فهو إن لم يعتصم بالعقائد والمذاهب يمضي على غلوائه إلى أهوائه، ويضطرب فيأخذ الشيء حيناً ويدعه حيناً، وينهج السبيل وقتاً ويحيد عنه وقتاً. شريعته رغبته، وقانونه نزعته وكيف تكون الرغبات المتغيرة والنزعات المتقلبة شريعة أو قانوناً؟ وهذا فرق ما بين الخير والشرير، والمصلح والمفسد.

وإذا حار الإنسان أو سار على هواه، اضطرب في نفسه، واضطرب في جماعته، وصادمت أهواؤه أهواء غيره، فصار أمره في الجماعة نزاعاً وشقاقاً، واختلافاً وافتراقاً.

وهذه النزعات كثيرة كثرة الحسيات المحيطة بالإنسان وهي لا تعد، والجزئيات التي تتعلق بها رغبته وهي لا تحصى؛ فلا بد من عقيدة أو مذهب يرد هذه الكثرة الحسية إلى معنى جامع من معاني الخير أو الشر، فيسير الإنسان على قانون من التحريم والتحليل، والعرف والنكر. فإذا التزم الإنسان العدل والإحسان - مثلا - حسنت له آلاف من الأعمال الجزئية التي يرى فيها معنى العدل أو الإحسان، واستقام على هذه الطريقة لا يتردد في كل حادثة، ولا يتحير في كل جزئية. وإذا كره الجور والإساءة فكذلك يتجنب آلافاً من الأعمال يدرك فيها معنى الجور والإساءة. وهكذا تجمع معاني الخير والشر في نفس الإنسان، هذه الجزئيات التي لا تنتهي، وتردها إلى كليات يشرع بها قوانين يسار عليها.

وإذا انتقلنا من الجزئيات الحسية إلى الكليات المعنوية، فقد انتقلنا من العالم الخارجي إلى النفس، ومن الماديات إلى المعنويات، ومن الجثمانيات إلى الروحيات. يجب أن نزكي النفوس ونزيدها إدراكا للمعاني وكلفاً بها، حتى تسيطر على الحسيات سيطرة كاملة، فتعمل الخير وتجتنب الشر، غير مبالية بآلاف الصور الحسية وآلاف اللذات الجزئية.

ويسمو الإنسان شيئاً فشيئاً إلى إدراك اللذات المعنوية التي لا تحد ولا تنتهي، ولا يقدرُها قدرَها إلا من عرفها وأنس بها، ويتمكن الإنسان في عالم المعاني، حتى يسمو على الحدود،

ص: 2

حدود الزمان والمكان والأشخاص، فتتسع حياته، وتعظم همته، ويكلف بكل جليل، وينفر من كل حقير، ويُكبر بالقوانين العامة، ويستصغر المنافع الخاصة.

إذا جمعت النفس الواحدة هذه المعاني أو هذه القوانين، وجمعت الأنفس الكثيرة أي الجماعة أو الأمة هذه المعاني وهذه القوانين، استقام الواحد على طريقه مؤتلفاً مع كل واحد، وسارت الجماعة في طريقها متآلفة متحابة.

وحينئذ يكون سعي الواحد لنفسه وللجماعة كل حين، إذ التأمت منفعته ومنفعتها بهذه القوانين الجامعة المؤلِّفة، وكان صلاحه صلاحها، وفساده في فسادها.

وترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن حتى يجد العامل الخير كل الخير، واللذة كل اللذة، في إعطاء غيره بالعدل، وفي حرمان نفسه بالعدل، وحتى يكره كل الكراهة أن يأخذ ما ليس من حقه، ويأبى كل الإباء أن يستمتع بما يؤذي غيره، بل لا يجد فيها لذة ومتاعاً، ولكن ألماً وندماً.

ثم ترقى هذه المعاني في النفوس وتتمكن، حتى يبلغ الإنسان المرتبة التي سماها بعض الصوفية مرتبة الكلية، وهي المرتبة التي بلغت بأحد المتصوفين أن يقول:(أشعر بأني مأخوذ بذنوب الناس كلهم). كأنه أرتكب كل ما أرتكب الناس من ذنوب، فهو يألم لها ويخاف عاقبتها.

والجماعة كالنفس الواحدة تؤلف بينها العقائد وتهديها الشرائع، وتنشئها التربية على العمل بالعقيدة وإطاعة الشريعة، فتجتمع آحادها، وتتعاون أفرادها، فتلقى الحوادث بعقائد تثبتها، وشرائع تقومها، مجتمعة غير متنافرة، متعاونة غير متخاذلة، فتسير إلى غاية معروفة، على سبيل بينة، قوية على السير، متعاونة عليه، محتملة كل مشقة، مقتحمة كل عقبة.

والأمة التي لا تضمر عقيدة صحيحة، ولا تطيع شريعة قويمة، ولا يؤلف بينها نظام جامع، ولا يثبتها في اللزبات إيمان ولا خلق، فتلقى الخطوب فزعة هلعة، متدابرة متنافرة، متجادلة متلاعنة، كثلة من الغنم تفجؤها الذئاب.

فالعقائد والمذاهب والشرائع هي وسائل الوفاق في النفس الواحدة، وفي الجماعة، وعلى قدر قوتها وصحتها تكون قوة الائتلاف وصحته، وتكون استقامة الواحد والجماعة على العمل الصالح، والدأب على المسير والصبر عليه، والثبات في الشدائد حتى تزول، والتجلد في

ص: 3

الغمرات حتى تنجلي. وفي القرآن الكريم: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم). (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء).

وسنبين من بعدُ الأصل الذي ترجع إليه فروع الإيمان الصحيح، والقاعدة التي تقوم عليها طمأنينة الناس ونجاتهم من الضلال والحيرة إن شاء الله.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌مستقبل الشعر

للأستاذ يوسف البعيني

أجمع فريق من الحكماء والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء. ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأميركية الحديثة.

لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة. أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها، إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سالف الأجيال.

ليس من ينكر أن عصرنا هو عصر الراديو والسيطرة على عناصر الوجود. فالذوق البشري يتجه اتجاهاً نحو المادة هازئاً بالروح. وقد نجم عن ذلك أن تدني مستوى الموسيقى والشعر وسائر الفنون. وكما أن الآلة لا تفهم الفن، فهل يفهمه الإنسان المستعبد للآلة؟

إن فن الرسم، وهو من أرقى الفنون، فقد كثيراً من روعته بسبب اختراع آلة التصوير. وقد لاحظ أحد الرسامين أن الفنان في الماضي كان يعنى عناية خاصة بإعطاء الصورة ملامح الوجه وتقاطيع الجسد - وهذا يظهر جليا في رسوم رفائيل وليونارد دى فينشي ولاكروا وسواهم - بينما نرى أكثر مصوري اليوم يهتمون بتصوير خطوط سطحية دون أن يعنوا بإيجاد الفكرة والمقاصد النفسية والخلقية في الإنسان.

وما يقال عن فن الرسم يقال كذلك عن الموسيقى، إذ أن الموسيقى الكلاسيكية لا تزال مرجعاً للناس في هذا العصر. ولم يظهر حتى اليوم من تفوق على بيتهوفن وباخ وموزار وشوبين وبيزيه وفردي - في زمن نرى فيه من يخترع القنبلة الذرية بدلا من أن يخفف مصائب المجتمع.

فإذا كان الرسم والموسيقى قد منيا بالرزيئة الفادحة فهل يتمتع الشعر، وهو أجلى مظهر من مظاهر الألوهة في الإنسان، بتلك المنزلة التي كان يشغلها قديماً؟

لقد كان للشعر دولة وأعلام في الغرب؛ أما اليوم فنرى نظماً لا شعراً، وقشوراً لا لباباً، وقتاماً لا نوراً. والسبب الوحيد هو أن الإنسانية أشاحت عن جوهر الجمال إلى مساخر

ص: 5

مموهة بالطلاء والمساحيق. ومهد لهذه الحالة ما عصف بالمجتمع من زعازع، وما روعه من مصائب، فأفلتت أعنة الشعر من أيدي الشعراء وراح بعضهم يجشم الألفاظ والبحور ما لا طاقة لها به.

كان الشاعر يحمل على جبينه نجمة الإلهام فيتقوى على النوائب ويخوض الظلمات غائصاً إلى الأعماق، فصرف نفسه عن الهدف المقصود متلهياً بالأوضاع السخيفة تلهي الطفل بالأكر. . . وهكذا فقدت الحياة تلك الروعة التي كانت ترفل في أوشحتها الهفافة.

فإذا لم يتحرر الشاعر من مادية هذا العصر ويعمد إلى قيثارته القديمة فإن الشعر سائر إلى الموت.

هذا - وهل يستطيع أن يسمعنا أنغام الحياة بما فيها من خير وشر وقبح وجمال غير الشاعر؟ وهو لا يؤدي رسالته في الناس إلا حين يصور لهم أحزانهم وأفراحهم، ويهديهم إلى مواطن الحق حيث تسود الميول والعاطفة والإحساس.

وكيف ترتاح النفوس إلى الشاعر إن لم يحمل إليها الأمل والتعزية، ويوفر لها تلك الحياة الجميلة في شتى نواحيها؟

وهذه الحياة التي نريد أن يخلقها الشاعر لا نعثر عليها في منتجات شعراء العصر بسبب المادة التي استأثرت بشعرهم فأفقدته تلك الحرارة بفقد العوامل التي كانت تثيره وتطلقه شعلاً زافرة على آفاق المجتمع. وهكذا اختل نظام الشعر - وما كان الشعر إلا دموع الإنسانية تنحدر قطراتها بلسماً على جراحه.

وبعد. فيستطيع الإنسان أن يبني القصور، ويحشد الثروات، ويستعمر الأرض والفضاء. . . يستطيع أن يفعل كل شيء، لكنه إذا تغافل عن الشعر فإن حياته تمسي عارية جرداء. والغرب لو لم يخنق عاطفته وشعوره ما كان ليعاني اليوم أكبر أزمة فكرية في تاريخه.

إن مستقبل الشعر بين الموت والحياة. فعلى الملهمين من أبناء الحياة، وقد سطروا القيم الخالدة على مدار العصور، أن يحتضنوا الشعر ويغذوه بجمال الطبيعة ليقوى على مواكبة الأجيال.

يوسف البعيني

من العصبة الأندلسية

ص: 6

‌المثل الأعلى

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

من أهم وسائل النجاح في الحياة أن يحدد المرء له هدفاً يجعله غاية يسعى إليها؛ لأن تحديد الغرض يمكّن صاحبه أن يتخذ له من الوسائل ما يضمن تحقيقه والوصول إليه، أما هؤلاء الذين يسيرون في حياتهم بلا هدف معين، فهم كالذين يخبطون في الصحراء على غير هدى، قد تقودهم أقدامهم إلى بلد أمين، وقد يرديهم الجهل والتخبط فيهلكون.

والمثل الأعلى نوع سامٍ من أنواع تحديد الهدف، لأنه الغاية القصوى التي يراها الإنسان منتهى آماله، ويعد نفسه سعيداً ناجحاً إذا انتهى به المطاف في الحياة إليها؛ فهو للإنسان كالمنار الهادي، يجذبه بنوره ولألائه، ويضيء له مسالك طريقه ويرشده إن انحرف أو ضل، ويغريه إن يئس أو مل.

وهو يختلف باختلاف الناس، فما يصلح أن يكون مثلا أعلى للتاجر، لا يصلح أن يتخيره الصانع، والزارع والمصلح والكاتب والسياسي؛ لاختلاف كل فرد منهم في غاياته ومراميه، كما تختلف المثل العليا باختلاف عزمات الناس؛ فما يتخيله صغير الهمة مثلا أعلى لا يرضى به الطموح، ولا يقنع بالوقوف عنده:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

والغاية التي يسعى إليها المرء لا تسمى مثلا أعلى إلا إذا تحقق فيها شرطان أساسيان: أولهما أن تكون بعيدة المثال، تحتاج إلى أمد طويل في تحقيقها، بل قد تحتاج إلى الحياة كلها. فالآمال التي يمكن أن تنال في بضعة أعوام لا تدعى مثلا عليا، فأن تكون مهندساً أو طبيباً أو قاضياً ليس من المثل الأعلى في شيء؛ ولكن أن تكون كبير المهندسين أو شيخ الأطباء أو قاضي القضاة هو المثل الأعلى الذي تكرس على نيله الحياة. وثانيهما أن تتطلب في الوصول إليها جهداً غير عادي؛ فما يمكن أن تناله من الرقي بمرور الزمن وحده لا يعد مثلا أعلى، أما ما يحتاج منك إلى المشقة، ويكلفك الجهد، ويدفعك إلى العناء، وكثيراً ما يحملك على أن تنهج نهجاً غير مألوف، وأن تخترق الطريق من غير مواضع بدئه ونهايته فذلك هو المثل الأعلى.

ص: 8

يتخذ المرء مثله الأعلى شخصاً حيا يرقبه من قريب أو من بعيد، أو شخصاً تاريخياً تبهره عظمته، أو فكرة نبيلة تملكه، ويهب حياته لتحقيقها، فالتاجر مثلا قد يتخذ تاجراً آخر ناجحاً موفقاً مثلا أعلى له في الحياة، والحاكم قد يتخذ عمر بن الخطاب أسوة له حسنة، والمصلح يتخذ فكرة صالحة مثلا أعلى يسعى لتحقيقه.

وإذا اختار الإنسان مثله الأعلى شخصاً حيا أو تاريخياً استطاع أن يدرس سيرته، فيلمس فيها نواحي القوة والعظمة، ويدرس المناهج التي اتخذت لتذليل الصعاب وتحطيم العقبات، والوسائل التي اتبعت لنيل الظفر والفوز بالنجاح، فتشحذ هذه الدراسة من عزيمة المقتدي، ويرى فيها الدروس الصادقة الواقعية. غير أن الواجب في الاقتفاء ألا يلغي المرء شخصيته فيكون ذيلا لسواه، لأن إضعاف الشخصية، ينافي طلاب الكمال والتسامي إلى المجد. والتقليد إنما يحصل في نوع الفضائل التي تبهر كعدل عمر وصلابته، ووطنية مصطفى كامل ومثابرته، وقوة المتنبي وفحولته؛ أما إذا اتخذ الشاعر شاعراً آخر مثلا له، وظن أن معنى المثل الأعلى تقليده في أفكاره، والسرقة منه في معانيه، فإنه يعيش عيلا عليه، لا يرتفع إلى مستواه، ولا يمنحه الناس من الإجلال ما يمنحونه لمن يقلده، فاحتفاظ المرء بشخصيته، وطبع أعماله بطابع هذه الشخصية شرط أساسي للنجاح ونيل المجد.

كيف نختار لأنفسنا مثلا عليا؟ ومن أين نأخذها؟ وكيف ننجح في الوصول إليها؟ مسائل ثلاث مهمة؛ فإن نجاح المرء في الوصول إلى المثل الأعلى يتوقف إلى حد كبير على اختيار هذا المثل؛ ولا يكون الاختيار حسناً إلا إذا عرف المرء نفسه، ودرس اتجاهاته وميوله، وعرف مقدار ما لديه من قوة الإرادة وصلابة العزم، ثم بنى اختياره على أساس من هذه الدراسة الدقيقة. والإخفاق إنما يأتي من غرور المرء بقوته، وظنه أن له من المزايا والصفات ما ليس له، أو من خطئه في تعرف ميوله واستعداده، فيضل الطريق ويتيه، فإذا كانت استعدادات الإنسان وميوله تتجه مثلا إلى التجارة، والتصرف في شئونها، فليختر مثله الأعلى المجد التجاري، وليثق بأن النجاح سيكون حليفه. أما إذا اختار أن يكون مثله الأعلى كاتباً يشار إليه بالبنان فهنا يكون الإخفاق ولا يتم الظفر بإحدى الغايتين.

والمثل العليا لها مصادر شتى، منها كتب التاريخ، فهي حافلة بالنماذج السامية للإنسانية، يستطيع القارئ أن يتخذ منها ما يتفق مع ميوله وما يراه جديراً بالتأسي والقدوة. في تلك

ص: 9

الكتب يجد الحكام والزعماء والعلماء والمخترعون مثلا تهديهم وتنير لهم السبيل.

ومن تلك المصادر أيضاً كتب السير التي تتخذ موضوعها شخصية ناجحة تدرس حياتها ووسائل نبوغها، والأسباب التي مهدت لها سبل الفوز والنجاح. وبهذه المناسبة أرى أن التأليف العربي، يجب أن يعنى بتاريخ العصاميين الذين نجحوا في حياتهم من التجار والصناع والزراع حتى نضع بين أيدي النشء نماذج لأنواع المثل العليا.

ومن مصادرها المسرحيات التي يكون من أغراضها تصوير السمو الإنساني لبطل حقيقيّ أو متخيل، وكذلك الروايات والقصص التي تعالج هذه الناحية السامية.

ومن تلك المصادر الشعر أيضاً؛ فقد حفظ لنا صورا لنماذج ممتازة من الناس، ومثلا راقية من الأخلاق. ومنذ القديم يضع القادة الشعر في قائمة تربية الناشئين، وغرس المثل العليا في نفوسهم. وللشعر أثر كبير في توجيه النفس نحو الكمال، والبعد عن الصغار، وها هو ذا معاوية بن أبي سفيان يتخذ مثله الأعلى بطلا يأبى الفرار من ميدان القتال مهما كان الثمن:

حدث معاوية قال: (اجعلوا الشعر أكبر همكم، وأكثر أدبكم، فقد رأيتني بصفين، وقد أتيت بفرس أغر محجل بعيد البطن من الأرض، وأنا أريد الهرب لشدة البلوى، فما حملني على الإقامة إلا أبيات عمرو بن الإطنابة:

أبت لي همتي وأبى بلائي

وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإقحامي على المكروه نفسي

وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت

مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات

وأحمى بعد عن عرض صريح

وقد صدق أبو تمام حين قال:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

بغاة الندى من أين تؤتي المكارم

هذا وفي الحياة أمامنا نماذج صالحة لأن تكون مثلا عليا؛ فلدينا عصاميون جعلوا وسيلتهم إلى المجد همة ماضية وعزيمة قوية، وهم شواهد حية على أن المرء يستطيع أن يحقق مطامعه إذا أراد وعمل.

والطريقة الفضلى لتحقيق المثل الأعلى أن نرسم الخطط والوسائل التي تصل بنا إليه؛ فإننا

ص: 10

إذا حددنا المنهاج وضح أمامنا الطريق، ورسم الخطة يحتاج إلى تفكير عميق ووزن دقيق للأمور واستفادة من تجارب الآخرين. ومن الواجب أن تكون الخطط التي تصل إلى المثل الأعلى متنوعة متعددة؛ فإذا نال المرء الإخفاق في واحدة، لم يكن لليأس سبيل إلى نفسه؛ ولم يصدم بهذا الإخفاق، بل يكون قد أعد العدة من قبل لينهج نهجاً آخر يصل إلى الغاية عينها؛ أما إذا رسم لنفسه خطة واحدة، ولم يفكر فيما يصنعه إذا أصيب بالإخفاق فيها فإن الصدمة تكون قاسيةٍ إذا فشل قد تقضي عليه وتحطمه. والمرء حين يضع الخطط يقدر دائماً أن كل خطة منها عرضة للنجاح والفشل، لأن ظروف الحياة لا سلطان لأحد عليها حتى يكيفها كما يريد. فليقدر المرء إذاً حين يخطو كل خطوة أنه قد يفوز وقد يخفق، لأن هذا التقدير يحول بينه وبين الصدمة إذا لم تنجح خطوته، فيعود من جديد ليحاول محاولة جديدة. والذي يصمم على النجاح لا بد أن يظفر به ولو كانت الخطوات الأولى في سبيل أمله فاشلة غير ظافرة:

ومغالب العقبات حتما غالب=إلا إذا أطرح الجهاد وقصرا

فأول شرط النصر - كما يقولون - إرادة النصر. والتصميم على الظفر يسهل على المرء بدء المحاولة من جديد إذا أخفق، كما أنه يحول بينه وبين اليأس الذي هو أعدى أعداء المثل العليا؛ لأن اليأس رضا بالخيبة واعتراف بالضعف، ووقوف في منتصف الطريق ونكوص عن الجهاد. ومن أين لليائس أن يظفر بغايته وقد رضى أن يضع سلاحه ويستريح:

لا تيأسنَّ وإن طالت مطالبة

إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

ومن بواعث اليأس في النفس التفكير في ماض مخفق، والحزن على ما أفلت من فرص، فإن ذلك الحزن يضعف قوة المرء على الجهاد. وإنما يفكر المرء في الماضي لا ليحزن على ما فات، ولكن ليتخذ من أغلاطه عظة ودرساً في قابل الأيام!

إن من يهيئ نفسه لنيل مثل أعلى يجب أن يعلم أن الطريق إليه شاق طويل مليء بالصعاب والعقبات، وأن لا سبيل إلى قطعه إلا إذا كان لديه ذخيرة كبيرة من الجلد والمثابرة، فإن بلوغ الآمال لا يتطلب منا ذكاء نادراً، ولكنه يتطلب الصبر والمثابرة. سئل

ص: 11

بعض المربين عن شروط النجاح فقال: ثلاثة: أولها المثابرة، وثانيها المثابرة، وثالثها المثابرة.

كما أن التفاؤل يجب أن يكون رفيق المرء في هذا الطريق، لأن التفاؤل يبعث في النفس سروراً، والسرور يضاعف قوة المرء على الاحتمال، وعلى تخطي الصعاب والعقبات؛ وليس معنى التفاؤل تقدير النجاح في كل خطوة، ولكن معناه تقدير النجاح النهائي، واعتقاد أن الفشل عارض من المستطاع التغلب عليه.

هذا، وعلى من يريد المثل العليا أن يحاسب نفسه في الحين بعد الحين، ليرى مقدار ما قطع من الطريق، ومدى نجاحه في خطته؛ ليعدل منهجه إذا احتاج إلى التعديل، ويستفيد من أخطائه إذا هفا وزل.

ومن ذلك يتبين أن المثل الأعلى ليس أمنية تتمنى، ولا أملا يرجى، ثم يقف المرء عند التمني والرجاء:

فما طلب المعيشة بالتمني

ولكن ألق دلوك في الدلاء

فهو هدف يجاهد المرء في سبيله، ويكرس له حياته واضعاً نصب عينيه قول أبي تمام:

بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها

تنال إلا على جسر من التعب

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول

ص: 12

‌فلسفة طاغور الأخلاقية:

حقيقة الموت لا تبعث على التشاؤم

للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي

إن خوف الهند التقليدي من المرض والشيخوخة والموت خوف قديم قدم حضاراتها الأولى، إذ كانت الهند منذ أن عرفها التاريخ موطن الأمراض المعدية المهلكة التي تحصد الناس حصداً، ومرتعاً خصيبا للأوبئة الفتاكة التي كانت تجتاح البلاد من أقصاها إلى أقصاها، وتنزل بأهلها السقام

فأشاع أنين المرض الفزع في النفوس، وعدت الأوبئة من تلك الأحداث الفاجعة التي تحض على كراهية الحياة، وتحث على الهرب منها. ولم يكن للشيخ مكانة محترمة في هيئة اجتماعية مزحومة بالسكان، لعجزه عن القيام بمطالب الحياة الضرورية، واعتماده على غيره في كل شيء. بينما الموت الذي لا يعبر إلا عن نهاية الحياة، كان أشد الأحداث الإنسانية وقعا في نفوس الهنود الذين أفقدهم الموت الأمل في جدوى العيش في كنف عالم لن يفلت فيه أحد من شر المنية.

ولقد كان لهذه الوقائع الثلاث أثر ملحوظ في الحياة الهندية الروحية لوَّنها بلون قاتم نشر فيها التشاؤم، وبغض الهنود في الاندماج في الحياة العامة، وأصبح مثلهم الأعلى هو تجنب كل ما يتعلق بالدنيا من أمور عارضة، لأنها تجلب الآلام؛ والانغماس فيها لا يثير إلا القلق والخوف والشك. فاستطاب الهنود اعتزال المجتمعات حتى لا يتعرضوا لأي نوع من الأذى يملأ قلوبهم بالأسى والشجن.

وما هجر بوذا قصر أبيه الملكي إلا بدافع من الفزع من الموت والشيخوخة والمرض، وما تخلى عن حياة الترف إلا ليدفع عن نفسه عذاب الدنيا الذي تمثل له في هذه الأحداث الأليمة التي صبغت تفكيره بصبغة سوداء، وشكلت وجدانه في قالب حالك، فرأى العالم غارقاً في الآلام، واعتقد أن الحياة سلسلة لا تنتهي من الأحزان لن يخرج من دائرتها أحد ما لم يعتزلها، ويرضى بعيشة الزهاد.

أما طاغور فلم يجزع من الحياة جزع بوذا، ولم يطرأ على باله أن ينسحب منها، ويأوي إلى زاوية تائبة يعتزل فيها الناس، ويعيش في كهف أو غار عيشة الرهبان؛ بل رأى أن

ص: 13

الخلق انطلق من السرور اللانهائي حينما غمر الخالق هذا السرور، وأن سعادة الحياة في عودة الإنسان إلى مصدره الأصلي أي إلى السرور. فالخلق يخرج من السرور بالسرور ويرجع إلى السرور، والحياة قائمة على السرور تستمد منه نشاطها وتطورها، بل هو حافزها إلى التقدم والرقي. وإن كانت هذه الآراء أفكارا هندية قديمة، فإن طاغور أضفى عليها من ضياء نفسه ما جعلها تبدو كأنها صادرة منه، ولم تصدر من أحد قبله، لأنه أعطاها قيمة أولية، واتخذ منها مبدأ يزيل به ما يعلق بالنفس الهندية من نزعات تشاؤمية، حببتها في حياة سلبية اعتزالية بعيدة عن ميادين الأرض الحيوية، مما حمل المستشرقين على اتهام العقلية الهندية بأنها تقف من الحياة موقفاً سلبياً، وتعجز عن الاندماج فيها، ولا تقدر أن تسلك طرقاً إيجابية فعالة تفيد الإنسان في عيشته الواقعية أو تقدم ركب الحضارة الإنسانية.

ولكن ما الذي يفزعنا من المرض والشيخوخة والموت ما دمنا نعلم أننا انبثقنا من السرور بالسرور وأننا يجب أن نسعى لنعود إلى السرور إذا أردنا أن نعيش في سعادة لا يشوبها ألم.

لا ريب أن تحقيق وحدة الوجود بتلاشي الفرد في النفس الإنسانية ثم في محتويات الطبيعة، هو السبيل المباشر لذلك السرور. لأن فناء الفرد في النفس الإنسانية يتطلب التمثل بقوانين النفس الأخلاقية عن طريق خوض المجتمعات الإنسانية، حتى تمتحن أعماله، وتختبر مشاعره، ويتأكد من صفاء نيته في الاتحاد بالله.

فإن جاهد في سبيل الله، وعمل على رقي الحياة البشرية، ولم يبال بما يقابله من صعاب، ولم ينظر إلى منافعه الخاصة، فقد سار في طريق وحدة الوجود، وقرب من السرور الإلهي. وإذا استمر في السير في طريق الله، وعمل على أن يمحي ذاته في محتويات الطبيعة بالكشف عن القوانين الطبيعية مدركا أنها رسل الله في الكون، وآياته البينات التي تشير إلى وجوده في كل مكان، فبشره بالفوز بالحياة في السرور المطلق لأنه أدمج في ذاته النفس الإنسانية بالطبيعة الكونية وحقق وحدة الوجود.

وهكذا لم يكتف طاغور بإخراج الإنسان من السرور بالسرور، وإنما اتخذ من السرور نفسه محوراً جوهرياً تدور عليه حياته، إذ اعتبر القيم الروحية والعمل الخير النافع والعلم البعيد

ص: 14

عن الهوى المؤدي إلى الله، ومسائل تحقق وحدة الوجود التي تبعث السرور. لأن التمسك بالفضائل من غيرية وتضحية وحب للإنسانية، تطهر النفس من العواطف الشريرة والانفعالات القاسية التي تعرض الحياة لمختلف ضروب الآلام النفسية. بينما العمل الخير النافع يقوي العلاقات بين الأفراد، ويوثق الروابط بين الدول، ويحث الجميع على المساهمة في الشئون الإنسانية، ويساعد على تنقية الفكر من الاتجاهات التشاؤمية، وتبرر له ضرورة اندماجه في الحياة الاجتماعية.

وبذلك يقضي العمل على كل نزعة تحض على الهرب من مشاكل الأرض. ولا يقل شأن العلم في حياة الإنسانية عن شأن القيم الأخلاقية والعمل الخير، إذ أن معرفة القوانين الطبيعية فضلا عن أنها تبين ملامح الله في وجه الخليقة، فإنها تفهمنا كذلك طبيعة الأشياء وكيفية سيرها. وذلك يسهل علينا إصلاح أي خلل يصيبها. فهي تعرفنا قوانين الجسم الإنساني، وتعدد أسباب إصابته بالأمراض، وتبين وسائل مقاومة هذه الأمراض التي أرهبت الهند منذ فجر الحضارة، وتخفف من حدة آلامها التي دفعت الهند إلى هجرة المجتمعات. وبذلك يزيل العلم خوفنا من المرض وما قد يحدثه في النفوس من ذعر واضطراب وريبة. . .

فالهندي في طريقه نحو الله يزداد إيمانه بالقانون الخلقي لأنه يجلب السرور، ويقوى اعتقاده في أن السعاة في الانغماس في الحياة اليومية لا في الهرب منها؛ ويستفيد في معرفة قوانين الطبيعة في توضيح أسباب المرض، وتعرض عليه كيفية علاجها وتعلمه طريقة تجنب آلامها، فتصون عليه مصائبها، وتذهب عن نفسه تلك الهواجس التي تفسد حياته وتحصرها في آلام وهمية، وأحزان مبالغ فيها.

وتحقيق وحدة الوجود لا يستأصل بذور التشاؤم من النفس، أو يقضي على مخاوف المرض، ودائماً يهيئ النفس كذلك لأن تبقى في شباب أبدي لا يلحقه الهرم، ولا تدركه الشيخوخة، ويحافظ دائماً على حيوية الروح، حتى لا يسري العجز إطلاقاً إلى قوتها، ويحمي النفس من الضعف والوهن. لأن الإنسان في مثل هذه الحياة الإلهية يعيش في كنف اللانهاية التي لا تعرف غير نضارة الشباب وقوة الفتوة. فمن بلغ درجة الفناء في الله، وغمرته وحدة الوجود لا تتصدع قواه، ولا تختل طاقاته، ولا يتخلف عن مهام الحياة

ص: 15

الاجتماعية مهما كبر سنه، لأن روحه ستظل شابة إلى الأبد تحس بقوة دافعة إلى الاضطلاع بأعظم الأعمال بدون أن تنفر من كد الحير أو تتألم من قسوة العمل.

ولذلك لا ينبغي أن يقصر أحد في تحقيق وحدة الوجود، فإنها تسوقه إلى ذلك السرور الذي بزغ منه، وتنجيه من آلام المرض ومخاوفه، ومن هزال الشيخوخة وخذلان القوى. أما الموت الذي يعد المصدر الرئيسي للتشاؤم، والذي عول عليه كل متشائم في تعزيز نظرته الداكنة نحو الحياة، فما هو إلا حدث من تلك الأحداث التي تقابل الإنسان في طريق الحياة، وهو لا يحول دون تقدمه، ولا يقف عثرة في سبيل رقي البشر. كما أن الحياة لا تعطي له من الأهمية بحيث تشغل به فكر الإنسان، فيغفل عما هي قائمة عليه من سرور، وما يمكنها أن تبعثه في نفسه من غبطة وحبور. والذي يشهد على ذلك هو أن الإنسان يلهو ويلعب ويضحك كما يجد ويعمل ويدخر ويأخذ أهبته لذلك اليوم الذي يفاجئه فيه الموت. بل إن سير قادة الروح تدل على أن الموت لا يوجد ثغرة في ميدان الحقيقة التي يسعون إليها، لأنه لا يؤدي إلى فناء الروح الخالدة، ولا يعوق تلاشيها في الذات الإلهية، أو يعطل تحقيق وحدة الوجود، إذ أن الروح لن تموت أبداً، ما دامت هي والعالم الذي يكمن فيه الله شيئاً واحداً، وتنم عن صورة من سرور الله الذي أظهر بها ذاته في الكون

فالموت ليس له أثر عميق في الحياة، ولا يعبر إلا عن حادثة فردية، لا تفسر إلا ذاتها فقط، وإنما تفزع منه عندما تلتفت إلى حادثة من أحداثه، وتنظر إليها نظرة منفصلة عن الحياة الشاملة التي تضم جميع الأحداث الإنسانية التي من بينها الموت. ومثل من يبالغ في جزعه من الموت في ميدان الحياة، مثل من ينظر إلى جزء صغير من قطعة قماش كبيرة خلال مجهر، فتبدو له كالشبكة، فيرتعد فرقا من مجرد مشاهدة خروق هذا الجزء المكبر، بدون أن ينتبه إلى بقية أجزاء قطعة القماش.

ولكي يذهب عن الإنسان ذلك الهلع الذي يثيره الموت في نفسه، يجب أن يعلم أن هناك وحدة مزدوجة في الحياة تشمل الموت والحياة معاً، وأن الموت مظهرها السلبي الخادع لأنه موت لا يسبب فناء الروح وإن كان رفيقاً لا يفارق الحياة، بل إن الروح العظيمة ترحب بالموت، وترى الدوام فيه وفي الحياة على حد سواء، وتقبل أن تضحي بوجودها الدنيوي في سبيل تحقيق وحدة، وتنظر إلى ظهور الإنسان واختفائه على أنه شيء أشبه بارتفاع

ص: 16

الأمواج وانخفاضها على سطح البحر، بينما الروح باقية أبداً في الموت والحياة مثل بقاء البحر سواء علت أمواجه أم هبطت. ولا تغالي إذا زعمنا أننا نطلب الموت حين نرفضه، لأن خوفنا منه يحبس الروح في حدود الحياة الأرضية، ويلزمها أن تعيش على وتيرة واحدة لا تغير فيها، ولا تسمح بأي تطور يعتريها، فلا تحس بأي دافع يحفزها لتجعل حدودها شيئاً لا نهائيا، ولا تستطيع أن تتصور أن الحصول على الكمال الروحي، قد ينتهي بها إلى موت دائم وحياة دائمة يسيران جنباً إلى جنب في وقت واحد، لأن بلوغ الكمال لا يتم إلا بعد فناء الذات الفردية وبقاء حقيقة وحدة الوجود الإلهية.

وهكذا لا يبعث المرض والشيخوخة والموت على التشاؤم، ما دام الإنسان لا يجهل حقيقة اتحاد الخليقة بالخالق، ويعمل على تحقيقها في ذاته، ويؤمن بخلود الروح في اللانهاية. أما الذين يمعنون في التشاؤم، ويستشهدون بالموت في تدعيم نظرتهم العابسة نحو الحياة، لا شك أن تشاؤمهم ليس إلا نزوة فكرية أو انحرافاً عاطفياً ينبذ ما في الحياة من سعادة وخير وحب كما ينبذ المريض الطعام الصحي، ويعب في شراب التشاؤم الفاسد، الذي يسمم النفس؛ نغم مصطنع يوحي إليها بالأفكار الحزينة، ويبعث فيها العواطف الضالة التي يمكن أن تبدد من الأذهان بمجرد ملاحظة قدرة الحياة على التقدم المستمر، ونجاحها المتواصل في تحقيق مآربها الحضارية التي تنشد الوصول إلى أقصى درجات الكمال، لتنعم البشرية بحياة ملائكية في سرور إلهي سروري.

وينتهي طاغور من ذلك كله إلى أنه لا ينبغي أن نهيم في واد من الهواجس المرعبة، أو نغرق في خضم من الأوهام السود، أو نرى الوجود قائماً على العذاب والحزن، فنهجر الحياة هربا من آلامها وخوفاً من أشرارها؛ وإنما يجب أن نخوض المجتمع الإنساني واثقين من أن كل من يجتهد في سبيل وحدته بالله الذي يتجلى في كل شيء في الوجود، سيتغلب حتما على ما يقابله من أحزان وآلام، ويقتلع الشر من أساسه، ولا يجد في المرض والشيخوخة والموت إلا أحداثاً تافهة تمر بكل إنسان، ولا تؤثر في حياته، ولا تلهيه عن توجيه عنايته نحو الله، ليفوز بالاتحاد به ويعيش في السرور الذي صدر عنه.

(كفر الزيات)

عبد العزيز محمد الزكي

ص: 17

‌أثر العظماء في التاريخ

للأستاذ نجم الدين حمودي

إن أثر الأفراد في تغيير مجرى التاريخ من الموضوعات الطريفة التي جلبت اهتمام المفكرين في كافة العصور. ولا عجب إذا وجدنا الفلاسفة يولون هذه المشكلة عنايتهم، فيثيرون الجدل حولها. ومن الجدير بالذكر أن هذا الجدل جعل الفلاسفة ينقسمون إلى فئتين متناقضتين: فئة تقول: (إن التاريخ في جوهره عبارة عن سير العظماء)؛ أو بكلمة أوضح: (إن التاريخ من صنع الصفوة الصالحة من الذين يؤلفون زعامة اجتماعية مستمدة من مزاياهم الشخصية). أما الفئة الثانية فتدعى عكس هؤلاء تماماً، ولسان حالها يقول: إن العظماء نماذج كاملة للبيئة التي يعيشون فيها.

إن فيمن يعضد نظرية تأثير العظماء في سير التاريخ وقدرتهم على تغييره الكاتب الإنكليزي (توماس كارليل) في كتابه (الأبطال وعبادة البطولة) فيتحدث عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم و (أوليفر كرومويل) ويجعلهما أمثلة للرجال العظماء الذين غيروا مجرى التاريخ. أما رأي (كارليل) في نابليون فيختلف كل الاختلاف عن رأيه في النبي محمد وكرومويل، إذ أنه يجرده من صفة العظمة. ويشاركه في هذا الرأي الكاتب الروسي (تولستوي) الذي يحلل شخصية نابليون بقوله:(إنه رجل خلقته الظروف والمصادفات التي تحكمت في انتصاراته أول الأمر ثم عادت فسببت خذلانه واندحاره).

ومن أبرز المؤرخين المعاصرين في إنكلترا الذين شرحوا نظرية العظماء وأثرهم في التاريخ السر (شارل أومان) أستاذ التاريخ في جامعة أكسفورد الذي يعارض نظرية التطور التي فحواها: إن التاريخ سلسلة من الحوادث التدريجية الاعتيادية. وبهذا تتغافل هذه النظرية عن أثر العظماء وقدرتهم في تغيير التاريخ فنجعل من أعمالهم صورة للأمور التدريجية الاعتيادية المحتمة الوقوع.

إن السر (أومان) من مؤيدي نظرية العظماء، ويدعم رأيه بأمثلة لأشخاص غيروا مجرى التاريخ دون أن يكونوا ممثلين لبيئتهم التي عاشوا فيها. وأول مثل يستشهد به هو النبي محمد (صلعم) فيقول:(لقد أخفقت في محاولاتي الكثيرة لإيجاد مؤرخ واحد يستطيع البرهنة على أن النبي محمد (صلعم) كان وليد الحالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية

ص: 19

التي كانت تسود الجزيرة العربية في القرن السابع بعد الميلاد. ولم أجد بين المؤرخين أيضاً من يقدر أن يقول: لو لم يبعث النبي محمد (صلعم) لكان من الطبيعي أن يستعاض عنه بشخص يقوم بنفس المهام التي اضطلع بها. ويستمر السر (أومان) في بحثه عن النبي محمد (صلعم) فيقول: (منذ القرن الثاني للميلاد حتى أواخر القرن التاسع عشر وجد عدد من الأنبياء أو الذين حاولوا التشبه بهم كظهور المهدي في السودان، إلا أن جميع هؤلاء لم يقوموا بأعمال خارقة كالتي قام بها النبي محمد الذي جعل أبناء الصحراء أمة تمكنت من المحافظة على المدينة وتقدمها في نصف أرجاء المعمور.

يبلغ اعتداد السر (أومان) بنظريته الذروة عندما يستشهد بسيرة وليم الفاتح فيقول: (لقد لعبت بريطانيا العظمى خلال القرون الماضية دوراً مهماً في تاريخ ومقدرات العالم. وإني أؤكد جازماً أنه لولا مجيء وليم الفاتح لما تيسر لبريطانية أن تلعب هذا الدور في الأوضاع العالمية، وأن تاريخ بريطانية كان من المحتمل أن يكون شبيهاً بتاريخ الدول الاسكندنافية، أي معزولاً عن السياسة الأوربية العامة لولا وليم الفاتح وانتصاره في موقعة (هيستنكز) عام 1066. ولا غرو إذا قلنا إنه لو كتب لوليم الفاتح أن يندحر عوضاً عن (هارولد كود وينسون) في موقعة جسر (سنلاك) لبقيت بريطانية محافظة على عزلتها ولازمت عدم التدخل في القارة الأوربية.

ونستعرض الآن رأي كاتب آخر يفوق السر (أومان) في أعمق تفكيره وبحثه الفلسفي المركز؛ وهذا الكاتب هو (جيكوب برخاروت) أستاذ التاريخ بجامعة (بيزل) في سويسرا بين عام 1865، 1885. يبتدئ (برخاروت) بإلقاء نظرة عامة على مفهوم كلمة العظمة والغموض الذي يكتنف ماهيتها لعدم وقوعها ضمن الأشياء المادية التي يمكن وزنها وقياسها، فلا هي هبة حتى يعرف مصدرها، ولا هي منحة حتى يشار إلى مانحها؛ وعلى هذا الأساس فإن الحكم على عظمة الأشخاص حكماً عادلاً أمر من الصعوبة بمكان عظيم.

ويعتقد (برخاروت) أن من أهم الصفات الملازمة للعظمة أنها وحدة فريدة غير ممكنة التعويض. ولهذا فالرجل العظيم هو ذلك الشخص الذي لولا وجوده لما تم تنفيذ جزء مهم من الأعمال الخطيرة في تلك الحقبة من الزمن والمكان اللذين عاش فيهما. ويتعرض (برخاروت) إلى المثل السائر (ليس هناك فرد لا يمكن تعويضه فيقول: (نعم إن هذا المثل

ص: 20

يصدق في أكثر الحالات وأعمها، إلا أن أولئك الأفراد الذين لا يمكن تعويضهم هم العظماء، ويكونون عادة أقلاء وسيبقون كذلك أو ربما يقلون.

ولا شك أن التقدم الذي بلغته الإنسانية في المضمار الحضاري من علوم وفنون وآداب أصبح ممكناً بفضل جهود نفر من العظماء الذين سخروا مواهبهم في سبيل تحقيق هذا التقدم. وإن من يدرس آراء (برخاروت) بصورة دقيقة يلاحظ أنه يميل إلى أن العظمة تتمثل في الفلاسفة والفنانين فقط، فيقول في سياق بحثه: إنني لا أعد المخترعين والمكتشفين من العظماء لأن ما ينتجونه يمكن الوصول إليه في يوم من الأيام، أما الفلاسفة والفنانون فلا يمكن أن يستعاض عنهم بصورة مطلقة. فلو صادف أن مات رفائيل قبل نضوجه الفني لما خرج في العالم شخص مثله يتمكن من رسم لوحته الخالدة (تجلي المسيح). ومن البديهي أن يكون تصوير العاطفة والخيال، وتجسيد الوحي والإلهام في هيئة جميلة، وإظهارها بشكل آية فنية رائعة تكشف النقاب عن مواطن الجمال، ليس بالأمر الهين؛ لأن إعادة خلق الأفكار وتجسيدها في مظهر فني لا يقدر أن يقوم به إلا خالق الفكرة نفسه.

خاتمة:

أعتقد أن الآراء التي بينتها حتى الآن تكفي لإعطاء فكرة عامة عن النظرية التي تقول: (أن التاريخ سلسلة من سير العظماء) أما النظرية المعاكسة التي من أبرز زعماتها (سبنسر) فتقول إن الإنسان خاضع لمحيطه ويتطور بتطوره. وإذا ما تعارضت ميول الفرد مع سير الحوادث تبددت وزالت ولا يبقى إلا أثار التطورات الاجتماعية المحتمة الوقوع. ويدعى أصحاب هذه النظرية - نظرية التطور - أن الأعمال العظيمة التي استطاع أبطال التاريخ أن يقوموا بها لم تتيسر لهم إلا عندما اتجهت إرادتهم وميولهم نحو تحقيق الرغبات التي كانت ضرورية لتطور المجتمع. لذلك فإن التطور المادي هو أساس كل شيء في التاريخ وكل الحوادث التاريخية بما فيها سير الأبطال تتمشى وسنة الطبيعة بدون استثناء

وبعد أن استعرضت بصورة مجملة آراء كل من أصحاب النظريتين أود أن أذكر بأن كلا الفريقين على الرغم من الحقائق التي يبينوها كانوا مغالين في نظرياتهم، والمثل على ذلك ما ذكره السر (أومان) عن النبي محمد (صلعم)، فمع أنه عظيم حقاً إلا أن ذلك يجب أن لا

ص: 21

يحجب عنا حقيقة واقعة وهي لو لم تكن الظروف مهيأة لقبول دعوته، ولو لم تكن هناك عوامل كثيرة ساعدت على نشر رسالته لما كان له هذا التأثير على مجرى التاريخ. والكلام نفسه يقال على وليم الفاتح، إذ أن إيجاده لنواة بريطانيا كان في طريق التحقيق قبل ظهوره.

أما جهة نظرية التطور فليس من المعقول أن تفسر جميع حوادث التاريخ بتفسيرات مادية صرفة ونهمل أثر الشخصيات الفذة التي أثرت في سيره. ولهذا فالنظريتان إذ فرقنا كلا منهما على حدة تفشلان في تفسير الحوادث التاريخية وأثر العظماء فيها؛ ولكن إذا جمعناهما معاً وشكلنا نظرية ثالثة تجعل العظماء يؤثرون على الظروف ويكيفونها بحسب أهوائهم، وفي الوقت نفسه تجعل الظروف تؤثر على العظماء وتتحكم في مصير أعمالهم نكون قد قربنا كثيراً من الحقيقة.

نجم الدين حمودي

سكرتير مجلة سومر - بغداد

ص: 22

‌حرارة الصيف بين العلم والأدب

للأستاذ ضياء الدخيلي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

ومن ظريف ما ينقل عن تدابير القدماء في اتقاء قسوة الحر ما نقله ابن أبي أصيبعة في كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء في ترجمة الطبيب بختيشوع بن جبرئيل، وقد قال عنه الدكتور أمين أسعد خير الله في كتابه عن (الطب العربي) إنه كان مقرباً من الخليفة المتوكل وكان غنياً وأنيقاُ يشابه الخلفاء من حيث اللبس والحاشية والمعيشة. ومن الطريف أنه كان أول من استعمل طريقة تكييف الهواء والحرارة كما حدث عنه أبو محمد بدر. قال ابن أبي أصيبعة (حدث) أبو محمد بدر بن أبي الأصبع الكاتب قال حدثني جدي قال دخلت إلى بختيشوع في يوم شديد الحر وهو جالس في مجلس مخيش بعدة طاقات من الخيش وفي وسطها قبة عليها جلال من قصب مظهر بدبيقي قد صبغ بماء الورد والكافور والصندل وعليه جبة يماني سعيدي مثقلة ومطرف قد التحف به، فعجبت من زيه، فحين حصلت معه في القبة نالني من البرد أمر عظيم، فضحك وأمر لي بجبة ومطرف وقال يا غلام اكشف جوانب القبة، فكشفت فإذا أبواب مفتوحة من جوانب الإيوان إلى مواضع مكبوسة بالثلج وغلمان يروحون ذلك الثلج فيخرج منه البرد الذي لحقني، ثم دعا بطعامه، فأتي بمائدة في غاية الحسن عليها كل شيء ظريف، ثم أتى بفراريج مشوية في نهاية الحمرة، وجاء الطباخ فنفضها كلها فانتفضت، وقال هذه فراريج تعلف اللوز و (البزر قطونا) وتسقى ماء الرمان.

ولما كان في صلب الشتاء دخلت عليه يوماً والبرد شديد وعليه محشوة وكساء وهو جالس في طارمة في الدار على بستان في غاية الحسن وعليها سمور قد ظهرت به وفوقه جلال حرير مصبغ ولبود مغربية وأنطاع أدم يمانية، وبين يديه كانون فضة مذهب مخزَّق وخادم يوقد العود الهندي وعليه غلالة قصب في نهاية الرفعة؛ فلما حصلت معه في الطارمة وجدت من الحر أمراً عظيما، فضحك وأمر لي بغلالة قصب وتقدم بكشف جوانب الطارمة فإذا مواضع لها شبابيك خشب بعد شبابيك حديد، وكوانين فيها فحم الغضا، وغلمان ينفخون ذلك الفحم بالزقاق كما تكون للحدادين؛ ثم دعا بطعامه فأحضروا ما جرت به العادة في

ص: 23

السرو والنظافة فأحضرت فراريج بيض شديدة البياض فبشعتها وخفت أن تكون غير نضيجة، ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت، فسألته عنها فقال هذه تعلف الجوز المقشر وتسقى اللبن الحليب. وكان بختيشوع بن جبرئيل يهدي البخور في درج ومعه درج آخر فيه فحم يتخذ له من قضبان الأترج والصفصاف وشنس الكرم المرشوش عليه عند إحراقه ماء الورد المخلوط بالمسك والكافور وماء الخلاف والشراب العتيق، ويقول أنا أكره أن أهدي بخوراً بغير فحم فيفسده فحم العامة، ويقال هذا عمل بختيشوع.

(وحدث) أبو محمد بدر بن أبي الأصبع عن أبيه عن أبي عبد الله محمد بن الجراح عن أبيه أن المتوكل قال يوماً لبختيشوع: ادعني؛ فقال السمع والطاعة. فقال أريد أن يكون ذلك غداً. قال نعم وكرامة؛ وكان الوقت صائفاً وحره شديداً، فقال بختيشوع لأسبابه وأصحابه: أمرنا كله مستقيم إلا الخيش فإنه ليس لنا منه ما يكفي. فأحضر وكلاءه وأمرهم بابتياع كل ما يوجد من الخيش بسر من رأى، ففعلوا ذلك وأحضروا كل من وجدوه من النجارين والصناع فقطع لداره كلها صحونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها خيشاً حتى لا يجتاز الخليفة في موضع غير مخيش، وإنه فكر من روائحه التي لا تزول إلا بعد استعماله مدة فأمر بابتياع كل ما يقدر عليه بسر من رأي من البطيخ، وأحضر أكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك البطيخ ليلتهم كلها، وأصبح وقد انقطعت روائحه، فتقدم إلى فراشيه وعلقوا جميعه في المواضع المذكورة. فلما وافاه المتوكل رأى كثرة الخيش وجدَّته، فقال أي شيء ذهب برائحته؟ فأعاد عليه حديث البطيخ فعجب من ذلك. واستشرف المتوكل على الطعام فاستعظمه جداً. وأراد النوم فقال لبختيشوع أريد أن تنومني في موضع مضيء لا ذباب فيه، وظن أنه يتعنته بذلك. وقد كان بختيشوع تقدم بأن تجعل أجاجين السيلان في سطوح الدار ليجتمع الذباب عليه فلم يقرب أسافل الدور ذبابة واحدة. ثم أدخل المتوكل إلى بيت مربع كبير سقفه كله بكواء فيها جامات يضيء البيت منها وهو مخيش مظهر بعد الخيش بالدبيقي المصبوغ بماء الورد والصندل والكافور. فلما اضطجع للنوم أقبل يشم روائح في نهاية الطيب لا يدري ما هي لأنه لم يرى في البيت شيئاً من الروائح والفواكه والأنوار، ولا خلف الخيش لا طاقات ولا موضع يجعل فيه شيء من ذلك. فتعجب وأمر الفتح بن خاقان أن يتتبع حال تلك الروائح حتى يعرف صورتها، فخرج يطوف فوجد

ص: 24

حول البيت من خارجه ومن سائر نواحيه وجوانبه أبواباً صغاراً لطافاً كالطاقات محشوَّة بصنوف الريَاحين والفواكه واللخالخ والمشام التي فيها اللقاح والبطيخ المستخرج ما فيها المحشوة بالخام والحماحم اليماني المعمول بماء الورد والخلوق والكافور والشراب العتيق والزعفران الشعر. ورأى الفتح غلماناً قد وكلوا بتلك الطاقات مع كل غلام مجمرة فيها ند يسجره ويبخر به، والبيت من داخله إزار في إسفيداج مخرم خروماً صغاراً لا تبين يخرج منها تلك الروائح الطيبة العجيبة إلى البيت. فلما عاد الفتح وشرح للمتوكل صورة ما شاهده كثر تعجبه منه وحسد بختيشوع على ما رآه من نعمته وكمال مروءته، وانصرف من داره قبل أن يستتم يومه، وادعى شيئاً وجده من التباث بدنه وحقد عليه ذلك، فنكبه بعد أيام يسيرة، وأخذ من بختيشوع مالا كثيراً لا يقدَّر (نقل ذلك ابن أبي أصيبعة في عيون الأنباء ج1ص141) والخبر صورة من ترف بغداد وسر من رأى في عهد العباسيين؛ ولكن ليس معنى هذا أن كل الشعب كان يعيش في مثل ذلك الرفاه والسعادة.

وقبل أن نفرغ من حديث الخيش ننقل لك من معجم الأدباء القصة التالية وفي أبياتها تعرف أن المسلمين في ذلك العهد كانوا يضربون الأمثال ببرودة قبة الخيش لأنها لعهدهم عنوان البرودة. وقد استعار بعض الشعراء برودتها المائية للبرودة المعنوية في الألفاظ والتراكيب الشعرية. قال ياقوت الحموي في أخبار عوف بن محلم الخزاعي المتوفى سنة 220هـ إنه كان صاحب أخبار ونوادر وله معرفة بأيام الناس، وكان طاهر بن الحسين قد اختصه لمنادمته واختاره لمسامرته، ومن بعده قربه عبد الله بن طاهر من نفسه، وأنزله منزلته من أبيه. قال: وكان قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له (روح) وعرض على عوف شعره فمنعه من إنشاده عبد الله وقال: إن عبد الله رجل عالم فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه. فقال له: قد حسدتني، وتوصل حتى أنشده عبد الله فاسترذله واستبرده ورده، فبلغ ذلك عوفاً فقال:

أنشد في (روح) مديحاً له

فقلت شعراً فقال لي فيش

(فيش: من فاش الرجل فيشاً: افتخر وتكبر ورأى ما ليس عنده. وفايشه فاخره، وفايش الرجل أكثر الوعيد في القتال ثم لم يفعل).

فصرت لما أن بدا منشداً

كأنني في قبة (الخيش)

ص: 25

وقلت زدني وتفهمته

والثلج في الصيف من العيش

ولقد كان عوف هذا من أدباء القرن الثالث الهجري.

ولقد صبر العربي على قسوة محيطه ولم يتضجر من عنف الحياة فيه بل خلق من سيئاته حسنات؛ فكان صبره على شظف العيش في بلاده مصداق قول الدكتور أحمد أمين في كتابه (الأخلاق) في بحث الوطنية. (على أن حب الوطنية يكاد يكون طبيعياً في كل إنسان حتى لنرى بعض الحيوانات تحن إلى أوطانها كما تحن الطيور إلى أوكارها. ولقد ينشأ البدوي في بلد جدب ومكان قفر وهو مع ذلك يسعد بوطنه ويقنع به ويفضله على كل مصر). قال الجاحظ: (وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى، حن إلى وطنه ومستقره. وخير مثال لقول الجاحظ قصيدة مالك بن الريب يحن إلى بادية العرب وهو في جنان إيران، وكان قد ذهب إليها مع الجيوش العربية التي سارت لفتحها فمنها:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بوادي القطا أزجي القلوب النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه

وليت الغضا ماشي الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لودنا الغضا

مزار ولكن الغضا ما دنا ليا

وهذا هو السر في أنك ترى البلد تفشي فيه أنواع الحميات، أو يكون مثاراً للبراكين من حين إلى حين أو عرضة لطغيان الماء أو عصف الرياح ثم لا يبرحه أهل ولا يعدلون به بلداً سواه. قيل لأعرابي كيف تصنع في البادية إذا اشتد القيظ وانتعل كل شيء ظله؟ قال وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلا فيرفض عرقاً ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه ويجلس في فيئه يكتال الريح فكأنه في إيوان كسرى!

لقد أطلنا الحديث عما قاله الأدب عن حرارة الصيف فلننهض العلم ليقف على المسرح ويحدثنا عن أثر حرارة الصيف في الجسم فنجمع بين الحسنيين. وما أجمل العاطفة والعقل إذا اجتمعا في صعيد واحد! وإن الأدب والعلم زوجان ينتج من اقترانهما تمام المعرفة.

قال البروفيسور (بويد) صاحب المؤلفات الغزيرة الفائدة في علم الباثولوجي وهو العلم الباحث عن كيفية تهدّم الجسم بالأمراض: إن ضربة الحر في أساسها شلل في الجهاز المنظم للحرارة ويسببه التعرض لحرارة شديدة. وإن درجة الحرارة التي توجب الإصابة

ص: 26

بضربة الحر تتوقف على الرطوبة وتختلف باختلاف الأشخاص؛ وإن تخليص الجسد من الحرارة الفائضة يتم بفعل قابلية الجلد للتعرق؛ إذ أن الرشيح العرقي يتبخر فيجذب الحرارة من الذي يتبخر منه فينتعش الإنسان. غير أن بعض الناس يقل عرقهم، وإن درجة حرارة الجسم الطبيعية هي حوالي 98 ، 5 فهرنهايت؛ فإذا تشبع الجو ببخار الماء لحد الإشباع وارتفعت حرارته إلى التسعين فهرنهايت سبب ذلك أن ترتفع حرارة الجسم ارتفاعاً جامحاً لا يضبط ولا يسيطر عليه جهاز تنظيم الحرارة فيه؛ وعندما تتجاوز حرارة الجو حرارة جسم الإنسان تتوقف عملية تخليص البدن من حرارته الفائضة الداخلية - بواسطة الإشعاع أين تشع الحرارة إذا كان المحيط أزيد حرارة فيغدو عند ذاك - التعرق لتبريد الجسم بواسطته هو المعول الوحيد لإضاعة الحرارة المتراكمة فيه.

وقد يفرق الأطباء بين الإعياء وانهيار القوى المسببين بالحرارة الخارجية - وبين ضربة الحرارة. ولكن البروفيسور (بويد) يرى من الصعب التفريق بينهما إذ هما مرحلتان لمرض واحد. ففي الانهيار المسبب عن الحرارة الخارجية يحصل إجهاد عنيف لماكنة تنظيم الحرارة في الجسم فيهجم عليه الضعف والاصفرار والذهول وهبوط ضغط الدم، وإذ ذاك قد ترتفع درجة حرارة ولكنها قد تكون أقل من الطبيعي.

أما في ضربة الحرارة فإن جهاز تنظيم الحرارة يصبح مغلوباً على أمره فترتفع حرارة الجسم عشر درجات فهرنهايت أزيد من الطبيعي أو أكثر. وقد سجلت وقعة بلغت حرارة الجسم الداخلي للمريض (117) فهرنهايت، والطبيعية كما قدمنا هي (98 ، 5) فهرنهايت. وليكن معلوماً أن حرارة الجسم الداخلية الحقيقية التي تمثلها حرارة الشرج قد تكون أعلى بكثير من حرارة الفم وتحت الإبط. وهذه الموضع اعتاد الأطباء أن يضعوا فيها مقياس الحرارة.

وإن ضربة الحرارة قد تسبب بالتعرض المباشر للشمس الحالة المعروفة بضربة الشمس. ولا علاقة لأشعة الشمس الفوق البنفسجية بإحداث الضربة الشمسية؛ إذ أن نفس الأثر المرضي يمكن إحداثه بالتعرض لأية حرارة زائدة وبخاصة إذا اجتمع إليها زيادة في الرطوبة النسبية، وأن الأشخاص الذين يعملون في غرف المكائن الحارة والحدادين الذين يشتغلون بالقرب من الحرارة العالية يصابون بنفس الطريقة، وإن حالة الشخص الفيزيائية

ص: 27

تسبب بعض الاختلاف، وإن المرضى المعرضين لعملية جراحية خطيرة خلال فترة تمر فيها موجة حرارية على البلاد - قد يموتون بالضربة الحرارية. وقد أجريت تجارب مهمة على الحيوانات بتعريضها لضربات حرارية. وقد لوحظ أثر تغيرات الدم الكيماوية مما يطول شرحه. وقد يموت المريض من ضربة الحرارة بمباغتة مرعبة، وقد يسقط فاقداً شعوره وهي الحالة المعروفة بداء السكتة الحرارية. وهذه الحالة شائعة الوقوع في الجنود الذين يجبرون على المسيرة المتعبة في المناطق الاستوائية، وحتى في الحالات الأقل مفاجأة قد يصبح المريض بسرعة فاقداً شعوره.

وفي الإعياء المسبب بالحرارة قد تجد الجلد رطباً، ولكن في ضربة الحرارة من المعتاد أن تجده جافاً ومحرقاً بحرارته الشديدة، ويظهر عجز المريض عن التعرق. وقد ينتابه تهيج شديد حتى قد يبتلى بجنون حاد. وقد تصعد درجة الحرارة درجات عليا، ولكن ليس ذلك في كل وقعة. وفي الأدوار الأخيرة تصبح الحرارة أقل من الطبيعية. وإذا استعاد المريض صحته وعوفي فقد يصاب بعطل عصبي أو عقلي دائمين.

ويقول (كرين) في كتابه أن تعريض كل الجسم لحرارة عالية خارجية خاصة إذا اجتمع إلى ذلك رطوبة الجو - ربما يؤدي إلى الإصابة بالضربة الحرارية وهو الأمر المشاهد في وقادي الآلات البخارية العاملين في غرف المكائن في البواخر الماخرة في المناطق الاستوائية. وفي فرق الجنود في مسيراتها في الأجواء الشديدة الحرارة أو إذا عسكرت في تلك المناطق. ويحدث ذلك بصورة طفيفة في السكان المدنيين الذين يقومون بأشغال ومساعي اعتيادية، ولكن في جو رطب شديد الحرارة. وإن من العوامل المهيئة للإصابة بضربة الحرارة العمل الشاق والإفراط في السكر والملابس الغير الصالحة. في الحالات الشديدة يحصل تدهور وانحطاط فجائيان في القوى وتضييع للشعور مع هذيان وتشنجات عضلية، وأخيراً إغماء. وقد ترتفع حرارة الجسم إلى درجات عالية فقد تبلغ (108) أو (110) وهي نهايته ويقال أن المريض مصاب بحمى فوق المعتادة.

وفي الدرجات الأقل عنفاً قد يحصل انتهاك في القوى وعسر في النفس وازرقاق اختناقي، بينما نجد في الحالات الطفيفة - تعباً وصداعاً وحمى خفيفة، وإذا شرح جسم الميت بالإصابة الحرارية لا يوجد تغيرات مرضية ثابتة ما عدا الاحتقان الشديد في الأعضاء

ص: 28

الداخلية والأحشاء. وقد يرى تورم بالمائعات في الدماغ وزيادة في السائل الذي تحت الطبقة العنكبوتية في أغشية الدماغ، ويرى في حجيرات الدماغ التغيرات الخاصة المشاهدة في الحمى العالية.

وإن تعريض الرأس والعلياء لأشعة الشمس المباشرة في المناطق الاستوائية - قد قيل أنه يسبب مرضاً شديداً قد يكون مهلكا يسمى بضربة الشمس.

والظاهر أن الإصابة تسببها الأمواج الحرارية؛ أما الأشعة الفوق البنفسجية فلم ينهض دليل علمي على تركها أثراً ضاراً في المجموعة العصبية إذا جردناها من أمواج الحرارة التي تصحبها. وفي غالب الظن أنه لا يوجد مرض مستقل منفرد متميز من ضربة الحرارة يصح أن نطلق عليه اسماً خاصاً هو (ضربة الشمس)

أما سير الحوادث فيظهر كما يلي: إن الحرارة الخارجية عندما تتجاوز حرارة البدن فإن إنعاشه بالتعرق الذي يبرده عندما يتبخر العرق - يكون العامل الوحيد والواسطة الفعالة لتنظيم درجة الحرارة. فإذا انهار هذا الجهاز وأصابه العجز فإن الحرارة سترتفع وتسبب الحمى العالية مع نتائجها المتلفة المسببة للهلاك.

ولا فرق في إحداث ضربة الحرارة بين أن تكون ناتجة من سير الإنسان في الشمس أو عمله في غرفة وقاد السفينة أو في غرفة شديدة الحرارة رديئة التهوية (تعددت الأسباب والمرض واحد) وبعد مدة ما من التعرض للحرارة نصل إلى حالة العجز من التخلص من الحرارة الداخلية الزائدة فيصاب بالعطل والعجز جهاز التعرق ويعتري القلب الوهن ويقع ارتفاع لا بد منه في درجة الحرارة الجسمية. أما أثر القبعة الصيفية والمظلة وأشباههما فهو مجرد تقليل ما يأخذه الجسم من الحرارة الخارجية؛ أما تناول الثلج والماء المثلج ورش الماء البارد على الجسم والمراوح - فكل هذه وسائط لزيادة تضييع الحرارة من الجسم وتخليصه منها.

وبينما تجد عجز البدن عن التعرق يؤدي إلى ضربة الحرارة فإن التعرق الزائد الغزير يسبب في عضلات الأطراف والبطن تشنجها واعتقالها الوقتيين، وهذا لا علاقة له بجهاز تنظيم الحرارة لكنه بسبب إضاعة ملح الكلوريد من الجسم بواسطة الرشيح العرقي مما يؤدي إلى اختلال في توازن الصوديوم والبوتاسيوم في البدن، ومن الممكن مداواة تلك

ص: 29

التشنجات بسهولة بشرب ماء مالح بدلا من الماء العذب حتى يعوض الجسم ما فقده من ملح الطعام (كلوريد الصوديوم) بالرشيح العرقي الزائد.

(بغداد)

ضياء الدخيلي

الطبيب المتمرن في المستشفى التعليمي (سابقا)

ص: 30

‌رثاء الجارم

للأستاذ محمود غنيم

(ألقيت في حفلة التأبين التي أقامتها جماعة دار العلوم للمغفور

له علي الجارم بك)

عرش ينوح أسى على سلطانه

قد غاب كسرى الشعر عن إيوانه

طوت المنون من الفصاحة دولة

ما شادها هارون في بغدانه

في ذمة الفن المقدس عازف

لقي الحمام على صدى ألحانه

لما تهامست الصفوف بنعيه

كاد الفؤاد يكف عن خفقانه

ساءلت حين قضي عليُّ فجأة:

هل حل يوم الحشر قبل أوانه؟

سقط المؤبن وهو يسمع شعره

من ذا يؤبنه بمثل بيانه؟!

وصف الزمان لنا وجاد بنفسه

لتكون برهاناً على حدثانه

قال احذروا غدر الحمام معززاً

بحياته ما قال بلسانه

لا تعجبوا من موته في حفله

إن الشجاع يموت في ميدانه

بطل المنابر ما له من فوقها

يهوى وكم عرفت ثبات جنانه؟

إن خانه ضعف المشيب فطالما

قهر المنابر وهو في ريعانه

كلا لعمري لم يخنه مشيبه

لكنَّ حس المرء من خُوَّانه

لم يجنها إلا رقيق شعوره

والمرهف الحساس من وجدانه

حر قضى متأثراً ببيانه

ولكم جنى فن على فنانه

يا شاعراً طار اسمه بقوادم

من عبقريته ومن إتقانه

ما دان يوماً للصغار بصيته

أو دان للزلفى برفعة شانه

والمجد منه زائف وممحض

لا تخلطوا بلوره بجمانه

ما كل لماع يبرق ممطر

البرق غير الآل في لمعانه

عرش القوافي بعد موتك شاغر

يا طول ما يلقاه من أشجانه

قل للذي يومي إليه بلحظه

هذا مجال لست من فرسانه

ص: 31

لا هُمَّ حكمك في الورى جارٍ وما

من حيلة للعبد في جريانه

الطير ملء الروض أشكالا فما

للسهم لا يصمى سوى كروانه؟

يمضي العظيم من الرجال فينبري

لمكانه خلفاء من أقرانه

والشاعر الموهوب فلتة دهره

إن مات أعيا الدهر سد مكانه

قل للرياض قضى عليُّ نحبه

ولطيرها الشادي على أفنانه

الشاعر الغرِد المحلق في السها

بجناحه قد كف عن طيرانه

بكت اللآليُ بعده لاَّ لَها

وتساءل الياقوت عن دهقانه

وتساءل التاريخ عمن شعره

كان السجل لحادثات زمانه

بكت الكنانة في علي شاعراً

جعل اسمها كالنجم في دورانه

عف اللسان مؤدب الأوزان لم

يتلق وحي الشعر عن شيطانه

بل كان نفح الخلد أمتعنا به

حيناً وعاد به إلى رضوانه

للنيل شاد بشعره ما لم يشد

فرعون والهرمان من بنيانه

من كل بيت في السها شرفاته

تتلألأ الأضواء في أركانه

يعيى الفراعنة الشداد أساسه

ويحار ذو القرنين في جدرانه

شعر إذا غنى به لم يبق من

لم يروه كالبرق في سريانه

غنى الطروب به على قيثاره

وترنم المحزون في أحزانه

بهر العذارى حسنه فوددن لو

صيغت قلائدهن من عقيانه

ويكاد سامعه يفسر لفظه

من قبل أن يسري إلى آذانه

تغري سلاسته الغرير فيقتفى

آثاره سيراً على قضبانه

حتى إذا هد المسير كيانه

حصب الورى بالصلد من صوانه

يا رب ديوان تأنق ربه

في طبعه وافتن في عنوانه

لا يسمع اليقظان وقع قريضه

حتى يدب النوم في أجفانه

والشعر إما خالد أو مدرج

من ليلة الميلاد في أكفانه

قالوا: عليُّ شاعر؛ فأجبت: بل

ساقٍ عصير الكرم ملء دنانه

قم سائل الفقهاء: هل في شرعهم

حرج على ثمل بخمرة حانه؟

ص: 32

كم خط من صور الحياة مداده

ما لم يخط مصور بدهانه

ببراعة لو أدركت موسى رأى

من سحرها ما غاب عن ثعبانه

أين القصائد كالخرائد كلها

بكر، وبكر الشعر غير عوانه

أحيا لنا ابن ربيعة تشبيبها

وأعاد للأذهان عهد حِسانه

شيخ يحس الشيخ عند نسيبه

بدم الشباب يسيل في شريانه

وإذا تحمس قلت حيدرة انبرى

تحت العجاجة فوق ظهر حصانه

وإذا تبدى قلت لابس بردة

قد جاء من وادي العقيق وبانه

وإذا تحضر قلت نسمة روضة

من فرط رقته وفرط حنانه

يا طالما حمل الأثير نشيده

وكأنما هو عازف بكمانه

بغداد مصغية إلى أنغامه

ودمشق راقصة على عيدانه

وكأنما الحرمان عند هتافه

سمعا بلالاً هاتفاً بأذانه

يثني على الفاروق تحسبه فتى

ذبيان قد أثنى على نعمانه

والملك يظهر بالثناء جلاله

والشعر مثل الدر في تيجانه

والشعر مرآة النفوس يذيع ما

طويت قرارتها على كتمانه

من أحرف سوداء إلا أنه

نقش يريك الطيف في ألوانه

والشاعر الموهوب تقرأ شعره

فترى جمال الله في أكوانه

يا ويح قومي كم أشاهد بينهم

من شاعر هو شاعر بهوانه

يا رائي الموتى ومخلد ذكرهم

بالخالد السيار من أوزانه

أرثيك حفظاً للجميل وإنه

دين أعيذ النفس من نكرانه

ماذا يؤمل شاعر من راحل؟

أتراه يطمع منه في إحسانه؟

وأنا الذي ما سمت شعري ذلة

أو بعثه بالبخس من أثمانه

يا رب بيت قد ضننت ببذله

ضناً على من ليس من سكانه

أقسمت ما جاوزت فيك عقيدتي

قسم الأمين البر في أيمانه

دار العلوم بنتك حصناً شامخاً

للضاد تلقى الأمن في أحضانه

رزئت لعمري فيك رزء الدوح في

كروانه والفلك في ربانه

ص: 33

دار قد انتظمت أياديها الحمى

أشياخه والنشء من ولدانه

دار العلوم ونيل مصر كلاهما

بنميره يروى صدى ظمآنه

فاضا على الوادي فكان العلم من

فيضانها والماء من فيضانه

يا خادم الفصحى وكم من خادم

تعتز سادات بلثم بنانه

أفنيت عمرك ذائداً عن حوضها

ذود الكريم الحر عن أوطانه

أنصفتها من معشر مستعجم

الغرب أصبح آخذاً بفيانه

والضاد حسب الضاد فخراً أنها

كانت لسان الله في فرقانه

هي سؤدد العرب يوم فخاره

وقوام نهضته وسر كيانه

من ذاد عنها ذاد عن أحسابه

بل عن عقيدته وعن إيمانه

نم يا علي جوار ربك آمناً

لك عنده ما شئت من غفرانه

لك عند رب العرش أجر مجاهد

فانعم برحمته وعدن جنانه

كم من شهيد مات فوق فراشه

جمد الدم السيال في جثمانه

إن المجاهد من أغار بفكره

لا من أغار بسيفه وسنانه

سيظل شعرك يا علي مردداً

ما غرد القمري في بستانه

أقسمت ما نال البلى من شاعر

يحيا حياة الخلد في ديوانه

محمود غنيم

ص: 34

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

أمر جديد في مسألة الكتب المدرسية:

أتيت في الأسبوع الأسبق على موضوع الكتب المدرسية من حيث ما قررته وزارة المعارف في فبراير الماضي من القيام بتوزيع هذه الكتب على طلبة المدارس الحرة كما توزعها على طلبة مدارسها وأبنت ما اكتنف ذلك وما يترتب عليه من آثار سيئة مادية وأدبية، وأذكر اليوم أن ذلك القرار يتضمن أن تغير الوزارة العقود مع المؤلفين بحيث تصبح وحدها صاحبة الحق في طبع الكتب وتعوض مؤلفيها عن كسبهم مما كانوا يطبعونه لغير مدارس الوزارة، وذلك بمضاعفة مكافآتهم، وينص القرار على أن ينفذ ذلك ابتداء من السنة الدراسية 1950 - 1951 وبينما الناشرون والمؤلفون يواصلون مساعيهم للعدول عن ذلك في ريث وتمهل لا يرون داعياً إلى العجلة لأن أمامهم موسماً دراسياً كاملا يستمر العمل فيه بالنظام القديم ويأملون أن يوفقوا في خلاله إلى تسوية عادلة - بينما هم كذلك إذ فوجئوا بأمر لم يكن في حسبانهم إذ اتصل بهم بعض مجالس المديريات فأبلغهم أن مدارس هذه المجالس لن تحتاج إلى كتب منهم في السنة الدراسية القادمة 1949 - 1950 لأن وزارة المعارف ستتولى صرف الكتب لها

ذلك أن وكيل وزارة المعارف كتب إلى وزارة الداخلية لتوافي وزارة المعارف بإحصاء عن مدارسها وعدد طلبتها لتحسب الوزارة حسابها في توزيع الكتب المدرسية عليها ابتداء من العام الدراسي القادم.

وعجب المؤلفون كيف تبادر الوزارة إلى اتخاذ هذه الخطوة، وهي لم تجدد معهم العقود بعد، ولا تزال العقود القديمة بأيديهم، وهي تخول لهم أن يطبعوا كتبهم لغير مدارس وزارة المعارف حتى تتغير هذه العقود. وغضبت دور النشر وانحسر ظل الطمأنينة عن عمالها، فقد كان أمامهم سنة أخرى يرجى أن يعدل الله الأمور بعدها.

والمؤلفون من رجال العلم والتعليم في الوزارة، فكانوا عندما يجمل بهم إذ هدءوا رجال الطبع والنشر وأشاروا عليهم بما تقتضيه الحكمة في معالجة الأمور، وتولوا هم مواجهة الحال فتقدموا إلى معالي الأستاذ علي أيوب وزير المعارف بشكاياتهم وتفنيدهم لما حدث

ص: 35

وبيان حقهم في الموضوع، ولا يزال الأمر بين يدي معاليه.

وإذا جاوزنا المؤلفين والناشرين وجدنا في الأمر ما هو أخطر مما يتصل بهم، ذلك أن مدارس مجالس المديريات قد قطعت صلتها ومعاملتها لدور النشر اتكالا على وزارة المعارف، فهل ستوزع الوزارة على تلاميذ هذه المدارس الكتب في العام القادم؟ يقف في سبيل ذلك نص القرار على البدء بتنفيذه من سنة 1950 - 1951، كما يقف في سبيله أيضاً عدم تجديد عقود المؤلفين، ومن الحائز عقلا ألا يوافقوا على التجديد فتعهد الوزارة إلى آخرين يؤلفون من جديد، ومع الإغضاء عن كل ذلك فإن سير العمل بالمطبعة الأميرية لا يكفل الطبع في الشهور القليلة التي يعقبها بدء الدراسة على فرض أن يبدأ الآن في الطبع.

فماذا يا ترى تصنع مجالس المديريات في العام الدراسي القادم؟ وهل يبقى طلابها من غير كتب؟

تأبين الجارم:

أقامت جماعة دار العلوم حفلا لتأبين الشاعر الكبير المغفور له علي الجارم بك، يوم الخميس الماضي بمسرح حديقة الأزبكية، وقد افتتح الحفل الأستاذ سعد اللبان رئيس الجماعة بكلمة ألم فيها بصور من حياة الفقيد كان لها تأثير في شاعريته وتكوين شخصيته الأدبية. وتوالى بعده الخطباء والشعراء، فتحدث الأساتذة مصطفى أمين بك ومحمد علي مصطفى والسباعي بيومي، وألقى الأساتذة محمود غنيم وعلي عبد العظيم ومحمود حسن إسماعيل، قصائدهم في رثاء الجارم.

وأول ما يلاحظ على الكلمات التي ألقيت أنها لم تكن ذات موضوعات موزعة، أعني أنه لم يختص كل واحد من المتكلمين بناحية معينة من نواحي الفقيد المؤبن، فنشأ عن ذلك أن كلا منهم كان يطرق ما طرق الآخر. ومما توافقوا عليه وكرروه، نشأة الجارم في مدينة رشيد في أسرة ذات علم وأدب، وما كان للبيئة الساحرة والأسرة الفاضلة في إذكاء شاعريته، وذكرياتهم مع الفقيد في دار العلوم وفي إنجلترا، وغير ذلك. ولم يكن لأحد من المتحدثين موضوع خاص بعد كلمة الأستاذ سعد اللبان التي اقتضاها مقام الافتتاح، سوى الأستاذ السباعي بيومي فقد تناول بالدراسة موضوع (الجارم الأديب) فتتبع مناحي شعره وأرجعها

ص: 36

إلى منبعين في نفسه هما حبه للجمال وإيمانه بالوفاء، وطاف بأجزاء ديوانه الأربعة فأورد منها أمثلة لما قرر، فوفى الموضوع حقه، ودل حديثه على اقتدار الدارس وذوق الأديب.

وكان حظ التأبين من الشعر أقيم من النثر، فقد كانت القصائد جيدة، ولا سيما قصيدتا الأستاذين غنيم ومحمود إسماعيل وقد خرج محمود شيئاً مما اعتاده من الإبهام وإكراه الاستعارة، وأجاد في تصوير وفاة الشاعر وهو يسمع قصيدته تلقى في تأبين المغفور له محمود فهمي النقراشي باشا، وأحسن في استطراده إلى الحديث عن النقراشي باشا ومصرعه وفجيعة البلاد فيه.

ويظهر أن ترتيب الخطباء والشعراء كان وفق (أقدمية التخرج) فقد ران على الحفل بعد كلمة الافتتاح، وهن الكبر، فبعث شيئا من الخمود، لم يلبث أن ذهب بما اتقد بعده من جذوات كانت أخراها قصيدة محمود حسن إسماعيل. . .

تأبين الريحاني:

وأقامت نقابة الصحفيين حفل تأبين لفقيد الفن المرحوم الأستاذ نجيب الريحاني يوم الجمعة الماضي. وقد تكلم في هذا الحفل الأستاذ حافظ محمود عن نقابة الصحفيين، والأستاذ أنور أحمد عن وزارة الشؤون الاجتماعية، والدكتور محمد صلاح الدين بك رئيس اللجنة العليا للتمثيل المسرحي والموسيقى والسينما، والأستاذ يوسف وهبي بك نقيب الممثلين، والأستاذ بديع خيري باسم أسرة الفقيد؛ فألقى كل منهم كلمة مناسبة للصفة التي تقدم بها، وعزف الأستاذ سامي الشوا على الكمان قطعة حزينة موضوعها (نجيب الريحاني).

والذي يستوجب الوقوف عنده في هذه الحفلة، كلمة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، وقصيدة الأستاذ علي محمود طه. أما الأستاذ المازني فقد حلل شخصية الريحاني الفنية وفكاهته المسرحية تحليلا قيماً بارعاً، قال فيه: ما تذكرت الريحاني أو ذكر اسمه إلا تذكرت صوته الأجش الخشن الذي كنت أشعر أنه خارج من أعماق صدره، وأنا عاجز عن الفصل بين نجيب وصوته حتى لقد كان صوته يغنيني عن رؤية تمثيله فأغمض عيني أو أطرق. وقال إن الريحاني لم يكن يشعر أنه يظهر على المسرح ليؤدي دوراً في رواية ثم يخرج ليستأنف حياة أخرى لا علاقة لها بالمسرح، وإنما كان يشعر أن هذه الرواية هي الحياة الحقيقية وأنه لا يمثل بل يحيا، وأنه إنما كان يمثل حين يترك المسرح ويخرج إلى

ص: 37

هذه الحياة. وبين الأستاذ قيمة الفكاهة في التمثيل وقال إن الريحاني سما بها إلى مرتبة التوجيه الاجتماعي. ولم تخل كلمة المازني مع قيمتها مما دعا إلى الملل في الحفلة، وذلك عندما أطال في علاقة الريحاني ببديع خيري واشتراكهما في التأليف وأيهما كان صاحب الفضل الأكبر في جودة التأليف وحبكه وسلاسة الحوار والبراعة فيه.

وأما قصيدة الأستاذ علي محمود طه فقد صور فيها نجيب الريحاني وفنه تصويراً شعرياً دقيقاً تكاد ترى فيه معالم السمات وجمال الألوان، وقد عبر فيها عن فجيعة مصر في فقيدها تعبير الشاعر الناطق بلسانها المعبر عن آلامها، فكان (شاعر مصر) النابض بآمالها وآلامها، يرثي فقيد مصر في فن التمثيل.

مجلة المجمع اللغوي:

قال محدثي: كنت قد قرأت منذ شهور أن مجمع فؤاد الأول للغة العربية أصدر الجزء الخامس من مجلته. وأخيراً أردت أن أحصل على نسخة منها، فجعلت أبحث وأسأل عن طريقة الحصول عليها، حتى علمت أنها تباع في إدارة التوريدات بوزارة المعارف. وقصدت إلى هذه الإدارة وصعدت إلى طبقة عالية هناك حتى بلغت الموظف المختص متعباً متتابع الأنفاس، فقد كان اليوم حراً والسلم طويلا. وطلبت المجلة، وطلب مني الثمن، فأخرجت ورقة بجنيه، فقال لي الموظف:(مفيش فكة) ولم أجد بداً من أن أنزل وأخرج إلى الشارع لأفك الجنيه. ثم عدت وتجشمت الصعود للمرة الثانية، ولكني في هذه المرة لم أجد الموظف المختص فانتظرت، وضقت ذرعاً بالانتظار ولم يتسع وقتي له، فانصرفت ثم عدت في اليوم التالي وقد حرصت على إعداد الثمن (فكة) وكنت قد دعوت الله في طريقي أن ييسر لي أمري هذا اليوم فاستجاب دعائي وظفرت بالمجلة.

عجبت لجلد محدثي هذا وصبره في سبيل الحصول على مجلة المجمع اللغوي، وقلت في نفسي: كم واحداً يطلبها هكذا ويتعب في طلبها كما تعب صاحبنا؟ ما أظن أمثاله كثيرين إن كان له أمثال.

إن الباعة ينادون على الصحف والمجلات في كل مكان، ويلوحون بها في الوجوه، ويلاحقون بها ركاب الترام وغيرهم، وقد يعرضون ما على غلاف بعض المجلات من صور جذابة - يأتون كل ذلك كي يغروا الناس بالشراء، ومع ذلك قد لا يفلحون في

ص: 38

إغرائهم. . فما بالك بمجلة المجمع اللغوي وهي مستقرة في مخازن (التوريدات) بوزارة المعارف قيد (الروتين)؟

وإذا كان من غير المستطاع الخروج عن هذا (الروتين) فلم يتكلف المجمع إصدار هذه المجلة؟ أليس الغرض منها أن تنشر على الجمهور أعماله وما وضعه من مصطلحات وما أقره من كلمات؟ فإذا كانت المجلة لا تنشر فما الفرق بينها وبين محاضر جلسات المجمع وأضابيره؟

هلا نظر مجمعنا في هذا الموضوع، لعله يصل إلى طريقة تكفل توزيع مجلته أو على الأقل تيسير الحصول عليها لطلابها.

رأيي في كتاب:

رأيت ما كتبه مؤلف (الشعر المعاصر) في العدد الماضي من الرسالة، واسترعى التفاتي فيه استشهاده على قيمة كتابه بما اقتطعه من كلمة كنت كتبتها عنه، فقد رأيته يقطع أوصال تلك الكلمة ويأخذ منها ويدع. . أخذ قولي إن الكتاب يستوقف نظر متتبع الحركة الأدبية وإنه لبنة في الأدب الحديث، وترك الباقي وفيه قلت مترفقاً:(ولا أخال المؤلف قصد إلى التطفيف والإرجاح في ميزانه بما لاحظته في الكتاب منهما، ولا أرجع ذلك إلا إلى ما ارتآه. وأكتفي بهذه الإشارة لأن المقام لا يسمع بالتفصيل والتمثيل) ومن هذا وذاك يتكون رأيي في هذا الكتاب وأوضح هذا الرأي فأقول: إنني أعني بقيمة الكتاب في المكتبة العربية ما نقله المؤلف من آراء النقاد الغربيين ومذاهبهم في النقد. أما ناحية التطبيق من حيث تعرضه لشعر الشعراء - وهي الناحية التي تختبر فيها الأصالة الأدبية - فقد امتلأ الكتاب فيها بالخبط في الحكم على الشعر وإنزال الشعراء في غير منازلهم صعوداً وهبوطاً، وهذا ما عنيته بالتطفيف والإرجاح.

أما أن الرسالة (ازدانت) - لفظ المؤلف - بما كتبته عن كتابه، ففيه نظر. . .

تصويب:

وقع في العدد الماضي تحريف مطبعي في أول موضوع (نحن وأدباء المهجر) إذ جاء هكذا: (كتب الأستاذ حبيب كتاباً من نيويورك) وصوابه: (كتب الأستاذ (حبيب كاتبه) من

ص: 39

نيويورك).

وحدث كذلك سقط في موضوع (قضية عيسى بن هشام والإذاعة) إذ جاء في فقرة منه (خليل بك المويلحي مؤلف كتاب حديث عيسى بن هشام) وصوابه: (خليل بك المويلحي شقيق محمد بك المويلحي مؤلف. . . الخ)

عباس خضر

ص: 40

‌الكتب

اليوم خمر

تأليف الأستاذ محمود تيمور بك

بقلم الأستاذ كامل محمود حبيب

ما يبرح الأستاذ تيمور يحبو صحابه بكرمه، فهو لا ينسى - أبداً - وشائج الصداقة الأدبية، ولا يغفل أواصر المحبة الروحية، ولا يغضي عن روابط الإخاء والود، فهو - دائماً - يخصهم، أول ما يخص، بمؤلفاته وكتبه، ولقد أهدى إلي - أخيراً - مسرحيتين هما (المخبأ رقم 13) و (اليوم خمر).

وإنه ليعز علي أن أتحدث عن (اليوم خمر) قبل أن أقف حيناً بازاء مسرحيته (المخبأ رقم 13) فلقد ألفيت فيها روحاً وثابة متألقة وفناً عالياً رقراقاً وجمالاً في السبك وقوة في الأداء وسمواً في التصوير. ووجدته قد جمع فيها أخلاطاً من الناس اختلفت مشاربهم وتنافرت بيئاتهم وتضاربت ثقافتهم، ثم أنطقهم بحديث يكشف عن خلجات نفوسهم وخواطر عقولهم، فجاء الحديث قوياً لم يصبه الفتور ولا الضعف ولم يشبه الإخفاق ولا الوهن. وإنك لتعجب أشد العجب أن يتقمص المؤلف روح الرجل الأرستقراطي المهذب وروح السوقي الوضيع في وقت معاً فلا يخطئه التوفيق في التعبير عن نوازع نفسيهما ولا يفلت من بين يديه زمام التحليل السيكولوجي. ولا يسف في حادثة ولا يتصنع الحديث ولا يتكلف الحبكة الفنية. . . هذه - ولا شك - هي عبقرية الفنان ونبوغ القاص وتجربة المجرب. . .

أما مسرحية (اليوم خمر) فهي قصة حياة امرئ القيس الشاعر العربي الجاهلي المعروف من لدن كان فتى غض الإهاب في العشرين من عمره إلى أن خذله قيصر الروم فأحس خيبة المسعى وضياع الأمل. وإن القارئ ليعجب أن وفق المؤلف توفيقاً عجيباً حين التزم أسلوب البداوة في قوة التعبير وجزالة اللفظ ورصانة الأداء ليخرج لنا من حياة الشاعر تمثيلية فيها روح هذا العصر، وإنه ليحس - مع ذلك - بأشخاص الرواية ينبضون بالحياة ويخفقون بالإنسانية مما يدل على سمو الفن في روح المؤلف وسلامة ذوقه. ولا عجب أن يستنبط الأستاذ تيمور - وهو فنان عظيم - مسرحية مسلسلة مترابطة الأوصال متماسكة

ص: 41

الجوانب، يستلهما من حوادث التاريخ المضطربة المتداعية، فهذا عمل لا يتأتى إلا لمثله، وهو فتح عظيم في هذا المضمار الشائك.

وإن الحوار ليبلغ غاية القوة والإتقان في مواقف ثلاثة: في يوم دارة جلجل حين هبط امرؤ القيس على العذارى وهن يبتردن في الغدير. وفي تصادم الشاعر مع أبيه وهما إلى جانب ذي الخلسة، حين تصارعت قوتان: قوة الملك حجر الجبار القاسي وقوة الفتى البوهيمي الذي لا يؤمن بمقاييس الحياة المادية ولا يخضع إلا لشهوات عقله وجسمه. وفي موقف امرئ القيس من وفد بني أسد حين أقبلوا إليه يترضونه ويستغفرون لزلتهم أن ثار بعض صعاليكهم بأبيه الملك فقتلوه. . .

ولقد أراد المؤلف فأبان عن كثير من خصال الشاعر: فهو رجل عربيد داعر لا يرده الحياء ولا يمسكه الخجل فيقف على غدير دارة جلجل موقفاً مشيناً فيضطر العذارى إلى أن يخرجن إليه عاريات. . . وهو - في حادثة أخرى - يجلس إلى فاطمة ابنة عمه يغازلها ويغريها بأمر في الساعة التي علم فيها بمقتل أبيه حجر فترده فاطمة بقولها (أصبابة وهيام في مثل هذا المقام؟ لقد أفقدتك الخمر رشدك وهاجت في نفسك شجوناً ليس هذا حينها) ولكنه يجيبها في استهتار وخفة (إن الحب يا فاطمة لا يضرب له وقت موعد ولا يعين له حين. . . أحبك، يا فاطمة، أحبك في كل آن. . . ما ضرنا اليوم وقد زالت من طريقنا العوائق أن نحقق حلمنا القديم، يا طالما حالوا بيننا وبين وصالنا. أما الآن فلا حائل يحول). هذا - ولا ريب - كلام رجل لا يشعر بالعبء الذي يثقل كاهله؛ فلا هو أحس الحزن لمقتل أبيه ولا هو ارعوى فاحترم مصيبة ابنة عمه في أبيها وفي أبيه في وقت معاً.

وهو رجل متلاف لا يبقى على شيء مثلما قال خادمه حنظلة. . (أخبرني فديتك، ماذا بقى لهذا الأمير من جاهه وثرائه؟ أنه كما ترى لا يبقي على شيء. ولست أدري إلى أين ينتهي به وبنا المساق ألم يتنكر له أبوه فيغدو شريداً طريداً؟)

وهو رجل خال من الفحولة، فلقد غبر زماناً يدفعه الشوق إلى أقحوان الغانية، حتى إذا ظفر بها وخلا إليها خانته رجولته فارتدت الفتاة عنه مغيظة يبدو عليها النفور لتقول لرفاقه:(إن صاحبكم ليتشدق بالطعن والضرب، آخذا للحرب أهبتها في كل وقت، فإن حانت ساعة العراك تبوأ مقعده يرقب السماء ويحصي نجوم الليل). هذا تعبير قوي عن خلة من خلال

ص: 42

الشاعر يعرفها له التاريخ ولكنه تعبير يترفع عن الإسفاف والضعة.

ولكن القصة مثلت امرأ القيس فتى داعراً لم تغيره الحوادث ولا عركته السنون ولا أصابه الوهن يتراءى في كهولته فتى في الثلاثين غزلا يتشبب بالنساء ويفرغ للكأس، عزباً يرنو إلى فاطمة حيناً والى ابنة قيصر حيناً آخر. . غير أن التاريخ يقول أنه تزوج من أم جندب بعد أن تزوجت فاطمة من أبي عنبسة وإن قصة تحكيم أم جندب فيما شجر بين امرئ القيس وبين علقمة الفحل قصة يعرفها كل من قرأ تاريخ الأمير الشاعر.

لست أنكر أن تاريخ العرب في الجاهلية مضطرب اضطراباً كبيراً لا تجمعه آصرة ولا تربطه صلة ولا يدعمه سند، ولكن فيه حوادث ثابتة أجمع المؤرخون على صحتها. وما كان للمؤلف أن يغفلها في مسرحيته، أو أن يضع شيئاً مكان شيء إلا أن تكون قد تضاربت الروايات.

وهكذا انضمت المسرحية على بعض المآخذ التاريخية منها: أن المؤلف جمع بين يوم دارة جلجل وبين حادثة عفو الملك حجر عن أسرى بني أسد. . . جمعهما في قرن في حين أن الحادثتين كانتا في مكانين مختلفين ويفصلهما زمان طويل. ومنها أن المؤلف أقحم صمصاماً في نهاية الفصل الرابع من المسرحية ليوحي إلى امرئ القيس بأن يطلب العون من قيصر الروم وليزين له الرحلة إلى القسطنطينية في حين أن التاريخ يجزم بأن السمؤال بن عاديا هو الذي مهد السبيل لامرئ القيس كي يبلغ بلاد الروم في أمان ويستقر هناك في هدوء. . . ومنها ما جاء في ختام القصة حين فر امرؤ القيس ورفاقه من القسطنطينية، وهذه حادثة لم نعثر لها على أصل في ما لدينا من مراجع إلا أن تكون قد حاكتها يد فنان بارع. وأنى لرجل من أعداء قيصر أن يفر من بين يدي جنده وحراسه وجواسيسه وهم يملئون أرجاء المدينة وشعابها؟ أما التاريخ فإنه يقول أن قيصر كان يخشى سطوة الأمير الشاعر فأهدى إليه حلة مسمومة فلبسها فأصابته القروح وتناثر لحمه ومات في أنقرة وهو في طريقه إلى حرب كسرى على رأس كتيبة من جيش عرمرم.

هذه - ولا شك - هنات هينات لا تضع من قيمة الجهد العظيم الذي اضطلع به القصاص الكبير الأستاذ تيمور.

كامل محمود حبيب

ص: 43

‌البريد الأدبي

أخي الأستاذ أنور المعداوي:

كثر الكلام حول مسرحية (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم، فأرجو ألا أثقل عليكم بعودتي إلى طرق أبواب الموضوع نفسه من جديد. فقد لفت نظري في التعقيب الذي عقب به توفيق الحكيم على مقدمة الترجمة الفرنسية للمسرحية ما يلي:

1 -

قال الحكيم أن الإسلام يرفض فكرة الله المدبر لأذى الإنسان تدبيراً سابقاً دون مقتض أو جريرة. وقد شاء الحكيم لهذا السبب أن يوفق بين فكرة الأسطورة وبين روح الإسلام فجعل من رغبة أوديب في العلم بالحقيقة وبحثه المتصل عنها سبباً يدفع أوديب إلى الكارثة. أي أن الحكيم جعل الموجب للكارثة - كما يقول صراحة في ص 267 - طبيعة أوديب ذاتها، طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة. وهو يقول: إن رغبة أوديب في العلم بالحقيقة هي التي جرته إلى ما جره العلم الحديث على الإنسان الحديث ممثلا في (فرويد) عندما طفق يحفر في أعماق الإنسان إلى أن وجد أنه عاشق في الباطن لأمه. وقد استبدت بي الحيرة عندما قرأت هذا التعليل.

فلست أدري كيف استساغ كاتب فنان كتوفيق الحكيم أن يجعل من حب أوديب للحقيقة وسعيه وراءها إثماً يستحق عليه ذلك العقاب المنكر الفظيع، فإن حب الحقيقة والسعي وراءها - مطلقة كانت أو نسبية، عامة كانت أو جزئية - لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق خلد ذكرهم في أعماق الأفئدة وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور.

ثم إنني لم أفهم كيف ارتضى الحكيم أن يشبه حالة أوديب أمام المأساة بحالة فرويد أمام حقائق النفس. فعندما طفق فرويد يحفر في أعماق الإنسان بحثاً عن الحقائق النفسية ووجد أنه عاشق في الباطن لأمه لم يكون هذه الحقيقة ولم يخلقها أو يوجدها بنتيجة سعيه وراء الحقيقة وإنما اكتشفها وقررها.

فالحقيقة التي اكتشفها فرويد كانت موجودة، ولكنها كانت مطمورة في أغوار النفس الإنسانية. ولكن أوديب عندما بدأ يبحث عن أصله وذويه لم تكن الكارثة أو الحقيقة موجودة، وإنما حدثت فيما بعد على يده. ولو ادعى الحكيم أن الحقيقة التي واجهت أوديب

ص: 45

كانت موجودة ومستقرة سلفاً في ضمائر الآلهة، فإن ذلك لا يغير من صلب الحقيقة؛ لأن وجود الحقيقة واستقرارها في ضمائر الآلهة شيء وحدوثها في عالم الحس والواقع شيء آخر. فالبحث عن الحقيقة قد أدى عند فرويد إلى اكتشاف الحقيقة فحسب، والبحث عن الحقيقة أدى عند أوديب إلى وقوع الكارثة أو المأساة أو الحقيقة. وواضح أن الفرق بين الحالين أكبر وأوسع من أن يستسيغ أي تشبيه بينهما.

2 -

لاحظت أن الحكيم يقول في الرد نفسه أن الطعن الذي أنزله أوديب بعينيه قد ذهب في تفسيره أندريه جيد في مسرحيته إلى كونه إمعاناً في الكبرياء. والواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد لم يقل مثل هذا الكلام ولم يفكر فيه؛ لأنه قال بصراحة عن لسان أوديب مخاطباً الكاهن تيرسياس بأنه - أي أوديب - إنما يفقأ عينيه لأنهما لم تحسنا تنبيهه إلى الكارثة قبل وقوعها ولم تضيئا له الطريق، فهو إذ يطعن عينيه إنما يتلف أداة عاطلة لم تنفعه إن لم تخدعه في نفس الوقت.

هذا ما وددت أن أعرضه عليكم آملاً أن أتلقى منكم الرأي المصيب الذي عودتمونا إياه في أغلب الفرص والمناسبات. وختاماً أبعث إليكم والى صاحب الرسالة الجليل أطيب الود وأخلص التقدير

(بغداد)

فؤاد الونداوي

ليسانسيه في الحقوق

حول هام ومهم:

قرأت للأستاذ علي هلالي تصويباً لاستعمال كلمتين لم يقل أحد بخطأ إحداهما وصواب الأخرى وهما هام ومهم. وبعد أن استعان بلسان العرب والقاموس وغيرهما وحكم بأنهما لغتان عربيتان صحيحتان ولا فرق بينهما في الاستعمال قال: وإني أحذر الكتاب من النقود المزيفة في لغة الجرائد، فدخل في روعي أن في لغة الجرائد تخطئ لإحدى الكلمتين فعدت إلى تلك النقود المزيفة عند الأستاذ فوجدت ما يأتي:

(ويقولون هذا أمر هام بصيغة الثلاثي لا يكادون يخرجون عنها في الاستعمال والأفصح

ص: 46

مهم بالرباعي) (وعليه اقتصر في الصحاح والأساس).

فعجبت مما فهم الأستاذ من هذا النص الصريح الذي دفعه إلى أن يتبرع بكلمة (مزيفة).

رجل قد رأى الناس لا يستعملون إلا كلمة (هام) ويتحاشون استعمال كلمة (مهم) بل لعله قد رأى من تعرض لتخطئتها فدلنا على الأفصح والأفصح لا ينفي الفصيح، أفترميه بالزيف؟!!

كنت أود أن يدقق الأستاذ (هلالي) في تعابيره كما يدقق في البحث عن بعض الكلمات في المعجمات. يقول الأستاذ في نهاية كلمته (على الكتاب أن يرجعوا إلى المعاجم العربية وغيرها من المراجع (فهل يثق الأستاذ بصحة هذه المعاجم؟ ألم يطلع على ما في هوامشها من الحواشي؟ أو لم ير مآخذ الفيروزأباذي على الجوهري؟ ولماذا ننتظر من المجمع اللغوي قاموساً صحيحاً شاملا جديداً؟

ثم إن الأستاذ هلالي يخطئ من (يدعى) - على حد تعبيره - تأنيث كلمة الضبع فقط للحيوان المعروف، فهلا أتى بشواهد على جواز تذكوها تعزز هذا التخطيء؟

ابن ماضي

1 -

التقليد:

أنكر أحد المدرسين استعمال التقليد بمعنى الإقتداء والمحاكاة لأنه لم يرد في كتب اللغة، وهذا ليس بصحيح فقد جاء في لسان العرب وشرح القاموس ومعيار اللغة وأساس البلاغة وغيرها ما نصه:

قلدتها قلادة: جعلتها في عنقها، ومنه التقليد في الدين، وتقليد الولاة الأعمال وهو مجاز كأنه جعل قلادة في عنقه الخ

وجاء في كتاب التعريفات للجرجاني: التقليد عبارة عن إتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتداً للحقيقة من غير نظر وتأمل في الدليل كأن هذا المتبع (وهو المقلد) جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه، أو التقليد عبارة عن قبول قول الغير بلا حجة ولا دليل اهـ

ومن هذه النصوص يظهر لك أن المعنى الأصلي للتقليد واحد فقط وهو وضع القلادة في العنق، ثم استعمل في غيره على سبيل التجوز والتشبيه والاستعارة وقد ألفت كتب

ص: 47

ووضعت بحوث في التقليد ولم يطعن فيه أحد لأنه يرجع إلى معنى عربي صحيح.

2 -

المصيف:

من الأخطاء الشائعة مصْيَف بتسكين الصاد وفتح الياء والصواب: كسر الصاد لأنه اسم مكان من صاف يصيف كمصير من صار يصير، وجمعه مصايف بالياء، ولا تقل مصائف بالهمزة لأن الياء أصلية في تركيب الكلمة (ص ي ف) فلا بد من ظهورها في الجمع ولا تقلب همزة.

علي حسن هلالي

بالمجمع اللغوي

إلى خنساء فلسطين الآنسة فدوى طوقان:

تحية التقدير وسلام الوفاء وبعد:

منذ زمن طويل بعد أن قامت الحرب في الأرض المقدسة ونحن ننتظر منك حدثاً جديداً في عالم الفن والأدب ولاسيما وقد سطرت في عالم الخلود أروع ترانيم الحسرة واللوعة على أخيك المرحوم شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.

وحوادث فلسطين الأخيرة قد تفتت لهولها صلد الصخر ونضب لها معين الضمير الحي، إن كان في الوجود ضمير حي، وما أظنك يا أختاه إلا سكبت في بوتقة الشعر والفن أعظم آلام الإنسانية المعذبة.

(والرسالة) مذ كانت وهي منبر الحق والفن والعلم والأدب وقد ترعرت بين أحضانها، فهل لك يا خنساء الأندلس الجديدة أن تزفري زفراتك من فوق منبرها الرفيع؟

ذلك ما نرقب وننتظر. . فهلمي يا أختاه.

وللأديبة الموهوبة نجوى مقوار (مي فلسطين) أطيب تحياتي

فتى الأندلس

كلية اللغة العربية بالأزهر

رغبة واستجابة:

ص: 48

وعدت القراء في عدد (الرسالة) الماضي بأن أعقب على الكلمة التي نشرت في (البريد الأدبي) للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرني، ولقد كنت أود أن أفي بهذا الوعد لولا رغبة كريمة من صديقين عزيزين بأن أكف يدي وأقبض قلمي، تحقيقاً لغاية نبيلة هي إعادة الصفاء إلى النفوس. . .

وأنا لا يسعني إلا الاستجابة لرغبة الصديقين العزيزين، وهما الأستاذان إبراهيم الأبياري وحسن كامل الصيرفي.

فإلى القراء أعتذر، راجياً أن يتقبلوا الاعتذار على ضوء أسبابه ودواعيه. . . وللأستاذين الصديقين أستجيب، آملا أن أكون عند حسن الظن من الراغبين في الخير والداعين إلى الصفاء

أنور المعداوي

الاتساع في اللغة:

إن المجدي على محبي العربية في التنويه بالثروة اللغوية التي

ترمز إلى مدى الاتساع في دلالات الألفاظ المشتركة في إفادة

المعنى الفذ، ولقد حررنا منذ سنوات بالأهرام الغراء

29101938 كلمات: (الذعر، والرعب، والفزع، والخوف.)،

وأوضحنا مدى ما في هذه الكلمات من تلاق في الدلالة وتباعد

في الصياغة؛ ونحب أن نورد بالرسالة الزهراء ما وقع لنا من

ألفاظ تدل على السعة، وتعطي الراغبين في البحث نهزة

للإيناس بما يوضح جلال هذه اللغة.

(أ) جاء الفعل الدال على (الرأفة) - وهي أشد الرحمة - بثلاث صيغ (رؤف) به و (رأف)

ص: 49

به و (رئف) به.

(ب) يقال: رجع الشيء بنفسه و (رجعه) غيره: متعد ولازم من الثلاثي.

(جـ) يقال في مقام الرجاء. ترجاه، وارتجاه. بمعنى واحد.

(ء) يقال في التنقل: رحل، وارتحل، وترحل.

(هـ) مصدر حدث: المحادثة، والتحادث، والتحدث والتحديث.

(و) يقال: أضاءت النار، وأضاءت النار المكان. يتعدى ويلزم.

(ز) يجرى على الألسنة (تشكر له) وهو صواب (كشكر له)

(بور سعيد)

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 50

‌رسَالة النقْد

نظرات في كتاب الأشربة

للأستاذ السيد أحمد صقر

- 5 -

33 -

ص49 يقول ابن قتيبة: (وحدثني محمد بن خالد ابن خداشْ، عن سالم بن قتيبة قال: حدثنا حمزة الزيات. . .)

والصواب (. . عن سلم بن قتيبة. . .) وهو سلم بن قتيبة الشعيري - بفتح المعجمة وكسر العين - أبو قتيبة الخراساني نزيل البصرة. قال ابن أبي عاصم: مات سنة مائتين كما في خلاصة تذهيب الكمال 124

وأما حمزة الزيات: فهو كما قال ابن قتيبة في المعارف ص230 (حمزة بن حبيب بن عمارة ويكنى أبا عمارة، مولى لآل عكرمة ابن ربعى التيمي مات بحلوان سنة ست وخمسين ومائة في خلافة أبي جعفر).

34 -

ص50 (وكذلك قال الأشج لبنيه: لا تشربوا ولا تثجروا، ولا تعاقروا فتسكروا)

والصواب. (لا تبسروا ولا تثجروا. .) جاء في لسان العرب

(البسر هو خلط البسر بالرطب أو بالتمر وانثباذهما جميعاً.

والثجر: أن يؤخذ ثجير البسر فيلقى مع التمر، والثجير: ثغل

البسر) والحديث بتمامه في الفائق للزمخشري مادة بسر راجع

ترجمة الأشج في الإصابة وابن سعد 760 وأسد الغابة196

وقد روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن الأشج

قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فيك خلقين

يحبهما الله ورسوله، قلت: وما هما؟ قال: الحلم والحياء، قلت:

ص: 51

وقديماً كانا فيَّ أو حديثاً؟ قال: بل قديماً، قلت: الحمد لله الذي

جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله.

35 -

ص52 (. . . وقال أبو الغالية الرياحي: أشرب النبيذ ولا تمزز، والتمزز أن يشرب قليلاً قليلا).

والصواب: (أبو العالية) بالعين لا بالغين، واسمه رفيع بن

مهران الرياحي البصري، وهو من الأئمة المخضرمين، صلى

خلف عمر، ودخل على أبي بكر. وتوفي في شوال سنة

تسعين، وكان ثقة كثير الحديث. وهو من موالي بني رياح،

اشترته امرأة منهم، ثم انطلقت به إلى المسجد الجامع بالبصرة

في يوم جمعة والإمام على المنبر، فقبضت على يده وقالت:

اللهم أذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله

ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. وقد حدث أبو العالية

عن نفسه قال: كنت مملوكا أخدم أهلي فتعلمت القرآن ظاهراً

والكتابة العربية وقرأت المحكم بعد وفاة نبيكم بعشر سنين، فقد

أنعم الله علي بنعمتين لا أدري أيتهما أفضل: أن هداني

للإسلام أم لم يجعلني مرورياً، ثم يقول: وكنا نسمع الرواية

بالبصرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم

نرض حتى ركبنا إلى المدينة فسمعناها من أفواههم. ويقول:

ص: 52

لما كان زمن علي ومعاوية وإني لشاب القتال أحبَّ إليَّ من

الطعام الطيب، فتجهزت بجهاز حسن حتى أتيتهم فإذا صفان لا

يرى طرفاهما، إذا كبَّر هؤلاء كبَّر هؤلاء، وإذا هلل هؤلاء

هلل هؤلاء، فراجعت نفسي فقلت: أي الفريقين أنزله كافراً؟

وأي الفريقين أنزله مؤمناً؟ أو من أكرهني على هذا؟ فما

أمسيت حتى رجعت وتركتهم. وكان ابن عباس أيام إمارته

بالبصرة يكرمه ويجلسه معه على سريره. وكان أبو العالية

يبعث بصدقة ماله إلى المدينة فتدفع إلى أهل النبي فيضعونها

في مواضعها. ومن كلامه: إذا سمعتم الرجل يقول: إني أحب

في الله وأبغض في الله فلا تقتدوا به. راجع ترجمته في تهذيب

التهذيب وميزان الاعتدال 1340 وطبقات ابن سعد 781 -

85 وحلية الأولياء 2217 - 224 وصفة الصفوة 3135

والمعارف لابن قتيبة ص 200

36 -

ص 52 (وقيل لمحمد بن واسع: أتشرب النبيذ؟ قال: نعم، قيل وكيف تشربه؟ قال: على غدائي وعشائي وعند ظمئي. قيل فما تركت منه؟ قال: النكات ومحادثة الرجال)

وقد علق الأستاذ على ذلك بقوله: (النكات: جمع نكتة وهي هنا الجملة المنقحة المحذوفة الفضول)

ولست أرى رأيه في هذه الكلمة وهي عندي محرفة بيد أني لم أدرك وجه تصويبها. ويرى صديقي الراوية الأستاذ محمود محمد شاكر أن صوابها (التكأة) يريد بها الجلوس المطمئن

ص: 53

وإدارة الأقداح. ويستدل بما رواه المؤلف في صفحة 60 من قول جميل ابن معمر:

فظللنا بنعمة واتكأنا

وشربنا الحلالْ من قلله

ومحمد بن واسع قائل هذه الكلمة فيما يقال من كبار الزهاد

العابدين الورعين توفي في سنة عشرين ومائة. راجع ترجمته

في صفة الصفوة 3190 - 195 والمعارف 209.

37 -

ص 53 (وقيل لسعيد بن سالم: أتشرب النبيذ؟ قال لا. قيل ولم؟ قال: تركت كثيره لله، وقليله للناس)

والصواب: (وقيل لسعيد بن سلم) كما في عيون الأخبار 437

وقد مدحه أعرابي فقال:

أيا سارياً بالليل لا تخش ضلة

سعيد بن سلم ضوء كل بلاد

لنا سيد أربى على كل سيد

جواد حثا في وجه كل جواد

فلم يعطه شيئاً فقال:

لكل أخي مدح ثواب يعده

وليس لمدح الباهلي ثواب

مدحت ابن سلم والمديح مهزة

فكان كصفوان عليه تراب

وسعيد بن سلم هو القائل: إذا لم تكن المحدِّث أو المحدَّث فانهض وراجع. وقد هجاه أبو الشمقمق، ومسلم بن الوليد، ورثاه عبد الصمد بن المعذل بأبيات جيدة تجدها في الكامل للمبرد مع شيء من أخباره في ص 712 - 718 من طبعة الشيخ أحمد محمد شاكر.

38 -

ص58 (ولو كان تحريم الخمر للسكر لم يطلقها الله تعالى للأنبياء والأمم قبلنا، فقد شربها نوح عليه السلام حين خرج من السفينة واعترس الحبلة حتى سكر منها)

وجد الأستاذ هذه الكلمة بهذا الرسم فلم يفهم معناها ولم يفطن إلى وجه الصواب فيها، وعلق على الجملة بقوله:(كذا في الأصل، والحبلة: العنب، وفي الحديث: لا تقولوا للعنب الكرم ولكن قولوا العنب والحبلة. الحبلة: بفتح الحاء والباء وربما سكنت).

والصواب (واغترس الحبلة) بمعنى غرس، وكذلك رويت جاء في لسان العرب (وفي

ص: 54

الحديث لما خرج نوح من السفينة غرس الحبلة).

39 -

ص 58 في الحديث عن الخمر والنبيذ (وأما قولهم الخمر ما خمر، والمسكر مخمر فهو خمر مثله. . .)

والصواب (والنبيذ مخمر فهو خمر مثلها) كما في العقد الفريد

4336

40 -

ص59 (ولو كان الله تعالى حين أحل النبيذ أحل منه السكر الذي يكون منه الخمار وكان شرَبة النبيذ من الصحابة والتابعين سكروا فأصابهم ذلك، للزمنا أن يقال: نباذ ولا يقال فيجب ما ذهبوا إليه) وعلق الأستاذ على (ولا يقال) بقوله: وفي الأصل أو، وما أثبتناه رواية ع)

والصواب: (للزمنا أن يقال نباذ ولا يقال: خمار فيجب ما ذهبوا إليه).

41 -

ص62 ففي شعر بعض الأشراف:

تلم بنا الخصاصة ثم تعفى

على إقتارنا حسب ودين

والصواب: (ثم يعفى)

42 -

ص62 وقال يحيى بن نوفل اليماني:

ويغتبقان الشراب الذي

يحل به الجلد للجالد

شراب يوافق فهر اليهود

ويكره للمسلم العابد

وقد ضبط الأستاذ كلمة (فهر) بكسر الفاء، والصواب ضمها كما في لسان العرب، وجاء في القاموس:(وفهر بالضم مدارس اليهود تجتمع إليه في عيدهم، أو هو يوم يأكلون فيه ويشربون)

43 -

ص70 (وقال الأعشى:

ولقد شربت ثمانياً وثمانيا

وثمان عشر واثنتين وأربعا

من قهوة باتت ببابل صفوة

تدع الفتى ملكا يميل مصرعا

والصواب: (وثمان عشرة. . .)

44 -

ص75 (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البر ما سكنت إليه القلوب،

ص: 55

واطمأنت إليه النفوس، والإثم ما حاك في صدرك فكرهت أن تطلع عليه الناس. وقال ابن مسعود: الإثم جواز القلوب، وهي الهوادج فيها بالشكوك، فإذا كان الإثم يكون بما قدح في القلب من الشك فكيف هو فيما يتيقنه القلب، أو ليست الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله)

وعلق الأستاذ على ذلك بما يلي: (الهودج: مراكب النساء وهدج الظليم: مشى وسعى وعدا، وكل ذلك إذا كان في ارتعاش، وظليم هداج ونعام هداج، وهوادج وتقول: نظرت إلى الهوادج كما في التاج)

وهذا شرح عجيب غريب لست أدري كيف ارتضاه الأستاذ في هذا المقام، والذي أوقع الأستاذ في هذا الخطأ الطريف أنه اعتقد أن (الهوادج) هنا كلمة صحيحة قالها ابن مسعود، وهي محرفة وصوابها:(القوادح) كما أن (جواز) محرفة أيضاً وصوابها: (حُزَّاز) جاء في لسان العرب: (وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه: الإثم حُزَّاز القلوب، وهي الأمور التي تحز فيها، أي تؤثر كما يؤثر الحز في الشيء، وهو ما يخطر فيها من أن تكون معاصي لعقد الطمأنينة إليها، وهي بتشديد الزاي. جمع حازّ، يقال إذا أصاب مرْفق البعير طرف كِركرتَه فقطعه وأدماه: قيل: به حاز. وقال الليث يعني: ما حز في القلب وحك. وقال القدَّيس الكناني: العرك والحاز واحد، وهو أن يحز في الذراع حتى يًخلص إلى اللحم، ويقطع الجلد بحد الكركرة وقال ابن الأعرابي: إذا أثر فيه قيل: ناكت، فإذا حز به قيل: حاز، فإذا لم يدمه فهو الماسح. ورواه شمَّر: الإثم جواز القلوب بتشديد الواو، أي يجوزها ويتملكها ويغلب عليها. ويروى: الإثم حزَّاز بزايين الأولى مشددة، وهو فعال من الحزِّ)

(يتبع)

السيد أحمد صقر

المدرس في الليسيه بمصر الجديدة

ص: 56

‌القَصَصُ

قصة طفل

للكاتب الإنجليزي شارلس ديكنز

ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

يحكي أنه منذ سنوات كان هناك مسافر، يقوم برحلة سحرية. فقد وجد عندما بدأ القيام بها، أنها تبدو طويلة جداً، وقصيرة جداً عندما وصل إلى منتصفها.

وسار في طريق حالك بعض الوقت دون أن يقابل أحداً. ثم التقى أخيراً بطفل جميل، فقال له (ماذا تفعل هنا؟ (فأجاب الطفل) أني دائماً في لهو ومرح، فتقدم وامرح معي!).

ولعب مع الطفل طول اليوم، وكانا سعيدين. كانت السماء زرقاء، والشمس مشرقة، والماء متألقاً، وأوراق الشجر مخضرة، والأزهار يانعة. واستمعا إلى تغريد الطيور، وشاهدا مختلف الفراش، وراقبا هطول المطر، واشتما الروائح الزكية. وكانا يسران من الاستماع إلى هبوب الرياح، ويتخيلان ما تهمس به، عندما تندفع مقبلة من موطنها. ويتساءلان في عجب عن أصل نشأتها، وهي تصفر وتزمجر، وتدفع بالسحب أمامها، وتحني الأشجار في طريقها، وتندفع خلال المداخن، وتهز الديار هزاً، وتثير غضب البحر فيهدر مزمجراً. وما أجمله مشهداً عندما يتساقط الجليد، فيتمتعان برؤية البرد النازل في سرعة وغزارة، وكأنه الزغب الساقط من صدور ملايين الطيور البيضاء. ويشاهدان تراكم الثلج الناعم، ويستمعان إلى الهمسات الصادرة من الدروب والطرقات. وكان لديهما العديد من أجمل الألعاب في العالم، وأغرب الكتب المصورة.

ولكن في ذات يوم، وعلى غير انتظار، تفقد المسافر الطفل فلم يجده. وناداه مرات ومرات دون أن يسمع مجيباً. فتابع سيره في طريقه، ومشى مدة من الزمن دون أن يقابل أحداً، حتى التقى أخيراً بصبي حسن الطلعة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الصبي (إني أتعلم، هلم وتعلم معي).

وأخذ يتعلم مع الطفل عن جوبيتر، وجونو، والإغريق والرومان، وشتى مختلف العلوم. وكان لديهما بجانب ذلك أبهج أنواع الألعاب الرياضية. فكانا يجدفان في النهر صيفاً

ص: 57

وينزلقان على الثلج شتاء، ويعدوان في نشاط، أو يمتطيان صهوات الجياد. وهكذا كانا يمارسان شتى أنواع الرياضة، حتى أصبحا لا يفوقهما أحد فيها. وكانت لهما حفلات للرقص، ومسارح يتمتعان فيها برؤية قصور من الذهب واللجين. وشاهدا كل عجائب العالم. وكان لديهما من عزيز الأصدقاء ما لا يعد ولا يحصى.

ومع ذلك، ففي ذات يوم افتقد المسافر الصبي مثلما افتقد الطفل وبعد أن ناداه دون جدوى تابع رحلته. وسار فترة من الزمن دون أن يشاهد أحداً، حتى التقى أخيراً بشاب، فسأله (ما الذي تفعله هنا؟) فأجاب الشاب (إني أعشق دائماً. أقبل واعشق معي).

وسار المسافر مع الشاب فالتقيا بفتاة من أجمل ما شاهد من الفتيات، ذات عينين نجلاوين، وشعر أثثيت، وابتسامة خلابة ووجه مشرق. ووقع الرجل في حبها من النظرة الأولى. ومعذلك كانا يغضبان في بعض الأحيان، ويتشاجران، ويتخاصمان ويجلسان في الظلام يكتبان الرسائل كل يوم. ويختلسان النظر إلى بعضهما، ثم يصطلحان في حفلة عيد الميلاد، ويعتزمان الزواج في أقرب وقت.

ولكن المسافر تفقدها ذات يوم مثلما تفقد الشاب فلم يجدها، وبعد مناداته عليهما تابع رحلته. ومشى فترة من الزمن دون أن يرى أحدا، ثم التقى أخيراً بسيد متوسط العمر فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب (إني مشغول دائماً. تعال واشتغل معي).

وهكذا تعددت مشاغله. وذهب مع السيد إلى الغابة. وأصبحا يرحلان إليها كثيراً. وكانت الغابة بادئ ذي بدء مكشوفة خضراء ثم أخذت تتكاثف وتظلم، وحاول لون أشجارها التي كان قد ألتقي بها مبكراً إلى لون قاتم. ولم يكن السيد وحيداً، بل كانت ترافقه سيدة في مثل عمره، وهي زوجته. وكان لهما أولاد أيضاً. وذهبوا جميعاً يخترقون الغابة، ويقطعون الأشجار وينشئون دروبا بين الأفنان، ويعملون في حرارة.

وكان أحيانا يقابلهم طريق أخضر مكشوف في غابات كثيفة. ويستمعون إلى صوت على مقربة منهم يقول (أبتاه، أبتاه، أنا طفل آخر! انتظرني!) ثم يشاهدون شخصا صغيرا جدا ينمو ويكبر وهو مقبل يعدو ليلحق بهم، حتى إذا ما وصل، التفوا حوله، وقبلوه، ورحبوا به، ثم تابعوا سيرهم جميعا.

وكانوا أحيانا يلتقون بطرق مختلفة في وقت واحد فيقفون. ثم يقول أحد الأولاد (أبتاه إني

ص: 58

ذاهب إلى البحر) ويقول الآخر (أبتاه، إني راحل إلى الهند)، والثالث (إني مسافر لأبحث عن الثروة أينما استطعت) ويقول الرابع (أبتاه، إني مرتفع إلى السماء!) وهكذا يفترقون وقد فاضت دموعهم في غزارة. ويذهبون، كل منهم في طريق من هذه الطرق. ويرتفع الطفل الصاعد إلى السماء، يرتفع في الهواء الذهبي، ثم يختفي.

وكان حينما يحدث مثل هذا الفراق، ينظر المسافر إلى السيد فيشاهده يتطلع إلى السماء فوق الأشجار، حيث يأخذ النهار في المضي، وتبدأ الشمس في الغروب. ويلاحظ شعره وقد اشتعل شيباً.

ثم ساروا يقطعون رحلتهم دون أن يستريحوا لحظة. فقد كان من الواجب عليهم أن يكونوا منشغلين. وهكذا أقبلوا على طريق أكثر حلكة من غيره، واندفعوا في رحلتهم، عندما وقفت السيدة وقالت (زوجي، أنهم ينادونني).

فأصغوا فاستمعوا إلى صوت آت من بعيد يقول (أماه، أماه!) كان صوت الطفل الأول الذي قال أنه صاعد إلى السماء. وقال الأب (لا تذهبي الآن، أرجوك، إننا على وشك الغروب، لا تذهبي الآن، أرجوك). ولكن الصوت نادى (أماه، أماه) دون أن يبالي به ولا بما أصبح عليه السيد من بياض الشعر وغزارة الدمع.

وعندئذ قبلت الأم زوجها وهي تبتعد عنه، وتنسحب في الطريق المظلم، وتحرك ذراعيها ولا يزالان ملتفتين حول عنقه. وقالت له (يا أعز أعزائي، لقد نادوني، وها أنذا ذاهبة) ثم رحلت، وظل الزوج والمسافر وحيدين.

واستمرا في سيرهما حتى اقتربا من نهاية الغابة. فاستطاعا أن يشاهدا الشمس تغرب أمامها بأشعتها الحمراء خلال الأشجار.

وبينها كان المسافر يشق طريقه خلال الأفنان، إذ فقد الرجل. ونادى، ثم نادى دون مجيب. وأخيرا سار وحيدا حتى أقبل على رجل كهل جالس على شجرة ساقطة، فقال له (ماذا تفعل هنا؟) فأجاب الكهل في ابتسامة وديعة (إني أتذكر دائما. أقبل وتذكر معي!).

وهكذا جلس بجوار الكهل وجهاً لوجه يشاهد غروب الشمس الصافية وجعل يتذكر، فأقبل عليه أصدقاؤه عائدين في هدوء، ووقفوا وأحاطوا به. الطفل الجميل، والصبي الحسن الطلعة، والشاب العاشق، والأب والأم والأولاد. كانوا كلهم حوله. ولم يفقد منهم أحداً.

ص: 59

وهكذا أحبهم جميعاً، وكان رحيما رفيقاً بهم، ومسروراً بوجودهم. وكانوا يجلونه ويعشقونه.

وأظن أن هذا المسافر هو أنت يا جداه؛ لأن هذا هو ما فعلته بنا، وهذا ما فعلناه بك.

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 60