المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 836 - بتاريخ: 11 - 07 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٣٦

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 836

- بتاريخ: 11 - 07 - 1949

ص: -1

‌البرلمان الشعوبي العربي والاستعداد للحرب مع

‌اليهود

للأستاذ نقولا الحداد

لا يخفى على أحد ما ينوي اليهود من البغي والعدوان على الأمم العربية؛ فهم عاقدو العزم على غزوها جميعًا وامتلاك بلادها واستعمارها. وفي هذه الحالة يتسنى لهم أن يستعبدوها استعباداً مطلقاً أو تهاجر منها جماعات وفرادى. . . ولكن إلى أين وقد وطد اليهود العزم على هذا وحرصوا عليه منذ دُمر هيكلهم في أورشليم وتشتتوا في جميع أقطار المسكونة، وصمموا أن ينشئوا دولة يهودية يتوقعون أن تشمل جميع دول الأرض!

قد تتراءى هذه الفكرة سخيفة لأنها شبه المستحيل، ولكن سلوك اليهود منذ قديم الزمان إلى اليوم يدلنا على أنهم يستطيعون المستحيل. ومنذ القرن الماضي شرعوا لتنفيذ هذه الحطة الجبارة، فعقد حكماؤهم أو حاخاماتهم عدة مؤتمرات سرية لدراستها وتقرير إمكانيتها ووضع خططها كما شرحنا ذلك في هذه المجلة. وكانت إثاراتهم للثورات والحروب والانقلابات منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن من جملة خططهم؛ كالحرب السبعينية الألمانية الفرنسية، والثورة التركية في أوائل هذا القرن، والحرب العظمى الأولى، والانقلاب الروسي، والحرب العظمى الأخيرة - كل هذه الثورات والانقلاباتحدثتبدسائسهم الفظيعة ووسائلهم المختلفة، ومنها ماسونيتهم الخاصة التي كانت وما زالت تسخر الماسونية العامة لأغراضهم - كل هذا يؤكد لنا أنهم عاقدوا العزم على اجتياح البلاد العربية، ثم اجتياح الشرق كله، ثم اجتياح العالم كله!

ومنذ الحرب العظمى السابقة شرعوا ينفذون خططهم على أن تكون فلسطين نواة مملكتهم. وقد اختاروها نواة لسببين جوهريين: الأول أن فلسطين بحسب ما لفقوهفي توراتهممنذ ستة قرون قبل المسيح، هي أرض الموعد التي وعدهمبهم الرب (لا الله)، فجَّر هذه التوراة عليهم وعلى سائر الأمم الوبال، لأنها غرست في أذهان عاماهم أنهم شعب الله المختار. والسبب الثاني أن مقامهم ساء بين الأمم الأوربية الجبارة ولا سيما الأمم الألمانية، فصاروا يطلبون سلامتهم في الخروج منها، إلى أين. . . إلى بلاد أهلها ضعاف يستطيعون هم أن يستعمروها من غير نزاع، فرأوا أن الأُمم العربية خير مرعى لهم، فقاموا يطالِبون

ص: 1

بملكإسرائيل، وقد نجحوا وا أسفا النجاح الأول وأسسوا دولة إسرائيل فيأرض الميعاد، وشرعوا يوسعون فيها قبل أن يحددوها ويرسموا خارطتها، فلم يعودوا يرضون بمشروع التقسيم الذي قررته هيئة الأُمم المتحدة، بل صاروا يريدون كل فلسطين، وكل يوم لهم غزوة في هذا السبيل، حتى أنهم غزوا لبنان، وسيأتي دور سوريا. وأما شرق الأردن فقد صار في جيبهم بفضل الملك عبد الله، وعما قليل يمدون أيديهم إلى مصر فالعراق، وهكذا دواليك حتى تصبحكل البلاد العربية في وطابهم!

ليس من الضروري أن يحتلوا البلاد العربية احتلالاً حربياً أو احتلالا عسكرياً لأول وهلة، ويكفي أن يحتلوها تدريجياً احتلالا اقتصاديا واحتلالا سياسياً، وهذان يتمشيان معاً بسرعة. وقد لا يمضي وقت طويل حتى نرى هنا وفي جميع البلاد العربية بنوكاً لإسرائيل تمنح تسهيلات لا تمنحها البنوك الأُخرى، ثم نرى فروعاً لمتاجرهم وشركاتهم حتى تصبح معظم اقتصاديات العرب في أيديهم، وبحجة ازدياد معاملهم في البلاد، وبقوة الأموال التي يبذلونها، تصبح لهم كراسي في الحكومة. وسنرى أنه لا تمضي بضع سنوات حتى يكون في الوزارات العربية وزراء يهود يكثرون أو يقلون حسب الظروف، وفي مصالحها الإدارية المختلفة رؤساء إدارات يهود، وبعد ذلك تصور ما تشاء من التغلغل اليهودي والأغلال اليهودية التي تغل بها أيدي البلاد!

لا يستغرب القارئ إذا قلت أن هذا يتم أو يحدث في بضع سنينمن 6 - 9. وقد يحدث بتؤدة واحتيال وتملق وإغراء؛ وهو حاصل ألان. كم من مصلحة يهودية صارت تسمى مصلحة مصرية لأنها استخدمت وزيراً أو وجيهاً مصرياً أو باشا في مجلس إدارتها! وإذا وقفت الوطنية أو النعرة العربية في طريقهم فعندهم جيش عظيم يضمن تنفيذ مآربهم. ومتى أستفحل أمرهم فلا بد أن يقع احتكاك بينهم وبين العرب يقدح شرر الحرب، فهل نحن لها مستعدون؟

هذا ما أُلفت له أنظار العرب!

كانت الجامعة العربية تجمع نحو35 مليوناً على الأقل من العرب، وكان اليهود ثلاثة أرباع المليون، ومع ذلك انتصروا وانخذلنا! لا يحق لنا أن نقول أن الإنكليز خانونا، ولا أن الأمريكان مالئوا اليهود علينا، ولا أن الروس ناصروهم!

ص: 2

كل واحدة من هذه الدول التي تألبت علينا مع اليهود عملت بمقتضى مصلحتها. ليس الإنكليز ولا غيرهم أولاد عمنا حتى نعتب عليهم. أما الشعوب العربية فهي أولاد أعمام؛ وأولاد الأعمام بعضهم على بعض، فعلينا أن نبحث أسرارأنخذالنا0

قالوا لم يكن عندنا سلاح صحيح، فيجب أن نبحث أسباب نقص السلاح عندنا. . . وأن نزيله! ولكن ليس هنا مصدر الخلل0

فالو كانت الجامعة هي المسؤولة عن جميع النقائص والعيوب فيجب أن نبحث عن سبب خللها ونصلحه!

قالوا كان عندنا خونة0 وذلك حق؛ فأن مصر حينما كانت تجاهد وحدها في الميدان كانت دولتان تخونانها وتمنعان ثالثة عن إمرار جندها في أراضي إحداها لمساعدتها، فيجب إذا أن نطهر جامعتنا من الخونة. . .

كان أحد الخونة العرب وأحد الوزراء في دولة عربية يجندان بعض العرب (الدروز) لكي يحاربوا العرب مع اليهود وقد سلمنا حصناً لبنانياً لليهود. وهل في ضروب الخاناتأعظم من هذه الخيانة وأفظع! ومع ذلك بقى ذلك الوزير وزيراً للدفاع في دولته، مع أن محاكمة طبارة (في دمشق) ورفيقه الذين قتلوا كامل الحسين أحد الخائنين قد شهرت بذلك الوزير تشهيراً يندى له الصخر الجلمود، ومع ذلك لا يزال وزير الدفاع وزيراً في حكومته إلى اليوم والغد. فخيانة كهذه يجب أن تجد لها قصاصاً في الجامعة العربية.

في الجامعة العربية إذن ضعف وأي ضعف يجب أن نداويه. أنناالآنفي بحر لحي من الخطر الهائل، فإذا لم نبن السفينة بناء متيناً غصنا إلى قاع الفناء!

الخطر عاجل جداً ما دام ابن غريون رئيس وزارة إسرائيل يقول للجنود الهاجاناه: (لم يزل أمامكم فتح من أعالي الفرات إلى أعالي النيل)! وكل تهاون في شأن هذا الخطر يفضي بنا إلى الخطر الماحق!

لكي نتدارك هذا الخطر يجب أن ينعم القراء العرب النظر في الأمور التالية:

كان أكبر عيوب الجامعة أنها مجموعة مندوبين من سبع دول عربية ليس لها ميثاق إلا بروتوكول عقد في الإسكندرية ولم يكن له من غرض سوى ضم العرب في اتحاد (لماذا هذا الاتحاد؟) ولكن لم يكن في البروتوكول قانون للدفاع. وليس لأي مندوب في الجامعة

ص: 3

من وظيفة إلا أن يحمي استقلال دولته وحريتها من هذا الاتحاد خطر على الدولة! لذلك ولدت الجامعة ضعيفة. كانت اتحاداً لا وثاق فيه، ومجتمعاً لا وحدة به.

غرضي من هذا المقال أن نبحث الوسائل اللازمة لجعل الجامعة قوة. يجب أن تكون هذه الجامعة جامعة الشعوب العربية - لا جامعة الدول العربية؛ لأنها باعتبارها جامعة دولية تسعى كل دولة فيها إلى مصلحتها الخاصة لا إلى مصلحة شعبها وبهذه الصفة تكون كل دولة حرة فيها بحيث أنها إذا لم تجد مصلحتها فيها أعرضت عنها وتخاذلت إذ لا تهمها مصالح الدول الأُخرى. وليس لهذه الجامعة سلطة على أي دولة من الدول العربية بحيث ترغمها على أن تبقى في الاتحاد. وبسبب هذه العيوب تفككت كأنها كومة من الهشيمهبت عليها ريح فبددتها.

لكي تكون الجامعة اتحاداً قوياً يجب أن تكون برلماناً نيابياً لجميع شعوب العرب يكون فيه لكل شعب عدد من النواببنسبة عدد أفراده كان يكون لكل مليون نسمة وكسورها نائب، أو لكل مليونين وكسورهما نائب إذا شئنا تقليل الأشخاص لتقليل الجدال والنقاش.

وعلى الشعب نفسه أن ينتخب نوابه من غير تدخل حكومته. ولا يجوز اختيار النواب بالتعيين بل بالاقتراع فقط. ويجب أن يرشح للنيابة أشخاص مثقفون ثقافة عالية ووسطى يكونون قد مارسوا السياسة وفهموها وعرفوا بالنزاهة. فيجتمع لنا في هذا البرلمان الشعوبي العربي نحو 30 أو60 نائباً لا سلطان لأحد عليهم؛ فيكونون أحراراً مستقلين عن أي تأثير خارجي.

تكون وظيفة هذا البرلمان الشعوبي الرئيسية:

أولاً: الدفاع عن الجميع الأقطار العربية.

ثانياً: فض المشاكل التي تقع بين الدول العربية، حتى إذا اقتضى الأمر إرغام بعضها على قبول أحكامه باستخدام سلطته العسكرية. وهذا يلتزم:

1 -

أن تكون لهذا البرلمان قوة عسكرية تناهز المائتي ألف جندي أو أزيد في أول الأمر. وبعد ذلك تزداد حسب اللزوم.

2 -

أن تعبأ هؤلاء الجنود من جميع الشعوب العربية بنسبة عدد كل منها.

3 -

أن يمول هذا البرلمان بالمال الكافي لنفقاتهونفقات الجيشوسائر النفقات الحربية.

ص: 4

فيجبى المال - على ألا يقل من خمسين مليون جنيه كل عام بنسبة عدد السكان ونسبة مقدرة كل شعب. ويزاد حسب اللزوم.

4 -

أن هذا البرلمان ينتخب قائد الجيش الأعلى وأركان الحرب والمجلس الحربي كما تقتضيه الفنون الحربية.

5 -

لا يكون لأي دولة جيش محلي غير ميليشيا والبوليس اللازمين لحفظ النظام المحلي والأمن العام؛ لأن الجيش الشعوبي كفيل بالمحافظة على سلامة كل دولة.

6 -

يجب أن هذا البرلمان إنشاء معامل سلاح وذخيرة في كل مملكة أو في بعض الممالك وينفق على هذه المعامل من خزانة البرلمان الأعلى.

7 -

ينشئ هذا البرلمان المدارس الحربية لتدريب الجنود والضباط ويضعها تحت إدارة مجلس حربي يشترك فيه القائد الأعلى ويحسن أن يكون هذا القائد رئيسه.

8 -

القائد الأعلى وأركان حربه أو المجلس الحربي الأعلى يقرر أماكن معسكرات الجيوش حسب مقتضى الحال لكي يكون استدعاء الجيوش وتحريكها سهلاً وسريعا.

9 -

سياسة الدول العربية الخارجية تكون في يد هذا البرلمان. ولا شك أنه حريص على مصالح دوله جميعاً ولا يفرط في شيء منها. وأظن أن هذا الأمر أضمن لسلامة الدول العربية من الاستعمار الأجنبي الذي يثلم الاستقلال.

10 -

ليس لدولة من الدول العربية أقل سلطة على هذا البرلمان. وإنما له هو سلطة على الدول في العلائق بينها وفي الشؤون الخارجية أيضا. ُ

11 -

إذا تمردت إحدى الدول على هذا الاتحاد وجب على البرلمان الشعوبي أن يخضعها ويردها إلى حضيرة الاتحاد.

هذا هو ملخص مشروع جامعة الشعوب العربية العملى0 ولأجل إخراجه إلى حيز الفعل لابد من إقناع جميع الدول العربية بصلاحيته وضرورته ووجوب تحقيقه عاجلاً قبل أن يستفحل خطر الغزو اليهودي. فإذا لم تقتنع الدول العربية كلها بضرورية العاجلة فإسرائيل اليهودية واقفة بالمرصاد تتحين الفرص للهجوم الاقتصادي والحربي معاً. ولا يردها هذا الهجوم إلا علمها بأن مشروعنا هذا في طريق التنفيذ. فما هي الخطوة الأولى التي نخطوها في هذا السبيل؟

ص: 5

أولا. إذاعة هذا المشروع على جميع الشعوب العربية وحثها للعمل بمقتضاه. وأول ما يقتضيه هو السعي لدى الحكومات أن تقبله على اعتقاد أنه السبيل الوحيد لإنقاذ الأمم العربية من الخطر الصهيوني لكي تساعد على انتخاب البرلمان الشعوبي العام.

ثانياً: استدعاء ممثلين من كل أمة عربية لعقد مؤتمر للبحث الجدي في هذا المشروع وقريره وإنشاء ميثاق له ودستور للبرلمان الشعوبي.

2ش البورصة الجديدة القاهرة

نقولا الحداد

ص: 6

‌أنا 000 والموت!

للأستاذ راجي الراعي

رأيت الموت أمس جاثماً بين القبور يتأمل ما صنعته يداه، ومنجله الدامي إلى جانبه، فجرَّ أني عليه سكونه، وأن المنجل ليس في يده، فأتيته. . . فتفرَّس في، وقلب بين جفنيه، ثم زفر قائلا:

- ما الذي جاء بك! إن ساعتك لم تأت بعد!

- ولماذا تزفر؟

- لأنك لم تقع بعد في يدي!

- ومتى أقع فيها؟

- تقع فيها يوم تبلغ حدك المرسوم، أو يوم تطلبني!

- وهل أنت تُطلب؟ أنني أتخيلك وفي يدك المنجل تطرق الأبواب وتدخل متى شئت!

- لا، لست وقحاً إلى هذا الحد. أنا لمن يبلغ المائة، وهي الحد الأخير الذي أقيم لعمر الإنسان، فإذا بلغه أقبلت عليه وأعدته إلى ترابه، ولا آتيه قبل ذلك إلا إذا دعاني!

- وكيف يدعوك؟

- يأثم ويشذ عن الصراط القويم، ويجن جنونه، فتحترق كبده، ويجف عرقه، ويتضخم قلبه. . .

إن معظم الذين يموتون يقبلون علي قبل أن أقبل عليهم، ويسوقونني إليهم سوقاً الحياة عبء عليهم، وكأنهم يستطيبونني!

- ألم تتعب بعد من الحصاد أيها الموت؟

- وهل تعبت الحيات من زرع بذورها؟

- أليس لك ساعة تموت فيها؟

- الأقوياء الخالدون يميتونني، ثم أبعث في الضعفاء حْيا

- من يشحذ منجلك؟

- حنين التراب إلى بنيه.

- كم بلغ عدد الذين قبضت عليهم حتى اليوم؟

ص: 7

- أن عددهم في التراب عدد ذراَّ ته. . . فكيف أحصيهم

- أين أنت مني الآن؟

- كلما نبض قلبك نبضة خطوت إليك خطوة!

- ما هي كلمتك في لغة الأحياء؟

- الرحيل. . .

- أحقاً أنك القبح كله والقسوة كلها؟

- يقولون ذلك، ولكن من أراح الإنسان من ألم الحيات، وطول البقاء، وأطل به على دنيا قد ينتظره فيها النعيم، لا يكون قاسياً قبيحاً، بل جميلا رحيما. . .

- أتكون الموت وتذكر الجمال والرحمة؟

- نعم، أذكرهما شيئاً آخر هو الغبطة التي يشعر بها الراقد في سريري.

- ما هو كتابك؟

- أنا كتاب عنوانه الولادة، وسطوره مطموسة، وخاتمته رسم يتكشف عن جفن مطبق على قلب مطعون. . .

- ما ألذ ما تلذك رؤيته في الأرض؟

- قطع السنابل في الحقول، وجمع الكثبان من الرمال!

أين تقيم؟

- وراء الباب، وفي الزاوية. . .

- وأين أيضاً؟

- في العلة العاصية، والشريان الجاف، وفي عقل المجنون، وإرادة العاشق، وشهوة الزاهد، وثمالة الخمر؛ وفي موجة البحر، وموجة اللهيب، وفم المجد، والصاعقة، والبركان، وناب الأفعى، وضمائر بعض الناس، وجبين الأبله. . .

- أين ترى ظلك في الناس؟

- في الحْصاد والحطاب والحفار والجزار والجلاد والمنتحر.

- كيف أنت وهذه الأولوية الخفاقة؟

- لوائي هو اللواء الذي يخفق في أفسح الأجواء.

ص: 8

- أي الألوان والأصوات أحب إليك؟

- السواد والحشرجة.

- كيف أنت والحروب؟

- أرى فيها أخصب مواسمي.

والحب؟

- الحرب بيننا سجال.

- والجريمة؟

- أنها حليفتي. . .

- والشمس؟

- إن لهذه المتعجرفة الهازئة بي في أعالي الفضاء يوماً من أيامي، وقبراً من قبوري. . . إن أشعتها أصابع النور، وهذه الأصابع ستقطع يوماً. . . وفي ذلك اليوم تنتهي المهزلة الأرضية، وأقبض عليكم جميعاً في لحظة واحدة. . . أنظر إليها، لقد جاوزت حد الشباب، وهي الآن في كهولتها، وعما قريب يدب فيها الهرم. . سيملكم النور وأنتم في فنون حيوانيتكم لا تستحقونه. . إنكم تقابلون هذه الشمس التي تكرمكم كل يوم باللؤم والجحود. إن سماجتكم تكره جمالها، ولو أمكنكم أن تصعدوا إليها وتطفئوها لفعلتم!

- كيف تريد أن أرسمك أيها الموت؟

- ارسمني قمة لجبل الحياة، أو حجراً في القلب، أو صليباً في الحب، أو شبحاً يقهقه في رحم المرأة، أو عظَمة في حلق الأمل

- من أنت في الأدب؟

- أنا ناثر أنثر ما تنظمها الخليقة.

- كيف أنت والجوع والظمأ؟

- لا أعرفهما، فمنذ ولدت والتخمة تقتلني، والدماء في فمي. . .

والرقاد. . . هل تعرفه؟

كيف أرقد وأنا هو اليل، وهل يرقد الليل؟ أنا إن رقدت هللت الخلائق، ومرت الحياة فوق أحلامي هازئة بي، وأفلتت من يدي. . أنا اليقظة الكبرى، فكيف أطبق أجفاني؟

ص: 9

كيف تراني أيها الموت؟

أراك تنأى بخيالك عن الحياة، وتدنو مني. . . إنك تعيش في عالم الأشباح، وهو من عوالمي. . . إن مطارق الخيال والتصوف تهدم فيك تمثال للبقاء. . .

لي حاجة أسألك قضاءها

وما هي؟

إذا دقت ساعة الرحيل، فلا تقبض علي وأنا مقوس الظهر أتوكأ على عصاي. . . اقبض علي ورأسي ينطح الأفق، وقدمي راسخة فيالأرضلكي يقال أنني صارعتك، وفي ذلك عزائي في بلية الترب. . . أنا لا أحب الغنيمة الباردة. . . اقبض عليَّ وأنا أحدق إلى الشمس، وأفتش عن وجه الله، حتى إذا مثلت بين يديه تذكر أنني كنت بريئاً جريئاً. . . فتش عني في أعماق قلب الحياة، وانتزعني منها إذا استطعت. ولا تنتظر أن اجمع بقاياي لأرمي بنفسي على باب بيتك. . . والويل لك ثم الويل إذا أنت مسست روحي، وتجرأت على خيالي. . . إن خيالي أقوى منك فحذار. . .

أن خيالك يتكلم الآن. . . أما أنت. . . وهنا نفخ الموت نفخة جمد لها دمي، وحدق في منجله الملقي إلى جانبه، وأخذ يهز رأسه ويحملق ويغمغم، فخيل إلي أنه يقول لنفسه: لقد أتعبني هذا الوقح بتحديه وأسئلته التي لا آخر لها، فإذا وكزته بهذا المنجل، أو لوحت به أمام عينيه كف عني. فتملكني الرعب وكاد يهوى قلبي، فشددته بيدي ورحت أهرول مطلقاً ساقي للريح، لا ألتفت إلى الوراء، وأنا أحسب أن الموت يجد في أثري. . . وبعد قطع المئات من الأميال وأنا أعدو كجياد المتنبي الذي قال فيها:

عقدت سنابكها عليها عثيرا

لو تبتغي عنقاً عليه لأمكنا

وقفت عند ينبوع يتدفق بالحياة وأنا أرتجف وألهث إعياء، ورحت أعب الماء، وأجس رأسي وصدري وما فيَّ من شرايين وأوردة ودماء بعد أن تحدثت إلى الموت. . .

نعم، الموت الذي لا يفتح فمه إلا ليشرب الدماء. . .

راجي الراعي

ص: 10

‌مصطفى كمال الزعيم التركي

بقلم الكونتسفورزا وزير خارجية إيطاليا

للأستاذ أحمد رمزي بك

- 1 -

منذ أشهر لمع اسم سفورزا في الحفل السياسي الدولي وقد قلت أن مثله قليل في الساسة، وهو يذكرني بكافور ومدرسته، الذي حقق الوحدة الإيطالية، فإذا تبنى سفورزا عودة المستعمرات لإيطاليا فهو خصم جبار لا يستهان به0 وإذا أردت أن تعلم من هو هذا الجبار فاقرأ له.

هذا بحث قديم عثرت عليه بين أوراقي، وأغلب الظن أنني كتبته في عام 1927 حينما كنت أشغل وظيفة سكرتير قنصلي بمدينة تريستا، بإيطاليا، ولم يكن لدي من العمل أو من العبث ما يشغلني عن مثل هذه الأبحاث.

أعرضه على قراء الرسالة ليرو ناحية من نواحي ساسة الغرب حينما يتكلمون عن الشرق وأهله: فأن لنا في كل هذا ذكرى وعبرة.

أحمد رمزي

من الغريب أن كتب التاريخ الحديث المستعملة في المدارس الإنجليزية والفرنسية والإيطالية لا تزال تلقن الأطفال الذين ولدوا بعد الحرب العظمى أن تركيا من الممالك التي قهرها الحلفاء وفرضوا إرادتهم عليها، مع أن الحقيقة بخلاف ذلك لأننا إذا حاولنا التفرقة بين الغالب والمغلوب، رأينا أن الغالب هو الذي خرج من الحرب بمعاهدة حصل فيها على كل مطالبه، والمغلوب هو الذي فقد كل مصالحه وتنازل عما يدعيه من الحقوق التي كانت له قبل الحرب في بلاد الآخر.

فمن من الطرفين الذي حصل على مطالبه، الحلفاء أم تركيا؟ لا نزاع في أن تركيا هي التي وصلت إلى كل ما تطلبه من الحلفاء 0 وقد حصلت على ذلك بعمل رجلها مصطفى كمال.

عرفته لأول مرة وهو شاب في الثامنة والعشرين من عمره وذلك في سنة 1908 حينما

ص: 11

كان يشغل وظيفة أركان حرب محمود شوكت باشا قائد الجيش التركي الذي زحف على استنبول وأجبر السلطان عبد الحميد على منح الدستور لرعاياه. وكان شوكت باشا في ذلك العهد آلة بيد جماعة الاتحاديين في سلانيك تلك المدينة التي كانت مركز الثورة والتي تمخضت عن فكرة الانقلاب والاستيلاء على الحكم، والتي اشتهر أهلها المسلمون بنزعاتهم الوطنية في تاريخ الانقلاب التركي. وقد نشأ مصطفى كمال بتلك المدينة وتشبع فيها بأفكار جماعة الأحرار، وسرعان ما صار أحد خطبائهم العاملين على نشر الأفكار الثورية الحديثة بين الضباط في الجيش

والذي يفسر لنا اختيار شوكت باشا إياه ليكون رئيساً لأركان حربه رغم حداثة سنه هو أن شوكت لم يكن عضواً بأحد الألواج المركزية لجماعة الثورة فاختار مصطفى كمال ليجتذب إليه ثقة أصحاب النفوذ في الحركة ويفهمهم باختيار أحد المتحمسين لهم أنه مُسلِّم بأفكارهم متبع لخطتهم.

وقد تمكن مصطفى كمال بعد أثنى عشر عاماً مضت على هذه الحوادث أن يصير رئيساً مطاعاً في أمته ذا كلمة نافذة على الجيش ورؤسائه - ثم انتهى بعد ثلاث سنوات إلى تقلد رئاسة الجمهورية التركية - ويعد هذا نجاحاً عظيماً لأي شخصية ولو كانت وليدة عصر مملوء بالانقلابات والثورة.

أنني مع ثقتي التامة بالنواحي الظاهرة مع شخصية مصطفى كمال مثل همته المقرئة بالإقدام وشجاعته المقترنة بالتحوط والانتباه أرى عدم إغفال الإشارة إلى العامل الأساسي الأول الذي دفع به إلى قمة النجاح، وهو عمل السياسة الإنجليزية في تركيا بعد الحرب؛ لأن مصطفى كمال وأنصاره ما كأنة بوسعهم أن يفكروا أو يصلوا إلى عزل السلطان وحيد الدين أو الذهاب إلى أنقرة والعمل على تحطيم معاهدة سيفر المشؤومة - بغير حدوث الأغلاط التي ارتكبتها السياسة الإنجليزية في بلادهم.

وأنه لجدير بمصطفى كمال أن يتخذ دوننج استرليت حيث كان يقطن لويد جورج كعبة ينحني أمامها لأنها كانت سبب صعود نجمه السياسي.

وفعلاً قد اعترف بذلك رجال إنجلترا الرسميون؛ ولا أريد بذلك لويد جورج الذي لا يكتب ولا يبوح - وإنما أقصد ونستون تشرتشل الذي اعترف بهذا في كتابه عن مفاوضات

ص: 12

الصلح -

وطبيعي أني لا أقصد بكلامي هذا مناقشة وتحقيقما تم في هذا العهد الذي انتهى بالتسليم بوجهة النظر التي لمستها من أول الأمر وشرحها من المبدأ بطريقةإيجابية للجهات المسؤلة.

انتهت حالة الحرب معتركيا بهدنة مدروس التي تم التوقيع عليها على ظهر بارجة إنجليزية في 30 أكتوبر سنة 1918 ولم ينص في بنودها على شروط خاصة بنزع السلاح ولا تسريح الجيش بشكل قطعيولا على العقوبات التي كان يجب أن توقع على الرجالالمسؤولين الذين باعواضمائرهم لدول الوسط

ولما كانت فكرة تقسيم تركيا بعيدة عن الأنظار في ذلك العهد ولم يكن أحد متوقعاً لها - وإن كانت السياسة الإنجليزية أعلنها بعد ذلك وجعلتها غرضاً من أغراضها - لذلك لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتنفيذها ولم ينص على شيء من ذلك في عقد الهدنة. وهذا يدهش طبعاً العقلية الألمانية أو الفرنسية التي اعتادت التفكير بشكل منطقي منظم يتطلب النظر والاستعداد لكل حالة بعد وقوعها، ويجعل الكثيرين حيارى أمام التغيرات التي تطرأ على السياسة الإنجليزية بل تجعل بعضهم يرمونها بأنها دائماً مقترنة بنكث العهود مع أن الحقيقة أن هذه التغييرات هي نتيجة للتسرع في العمل أمام حالات طارئة، وهذا التسرع تستدعيه طبيعة القرارات التي توجه السياسة لجهة معينة بغير الدخول في التفاصيل التي يترك لمقتضى الأحوال تكييفها أو تسييرها

قررت الحكومات الثلاث لدول إنجلترا وفرنسا وإيطاليا بعد عشرة أيام من إمضاء الهدنة تعيين ثلاثة مندوبين ساميين لتعهد مصالحها في تركيا، فعينت إنجلترا الأميرال كالثروب الذي عقد الهدنة مندوباً لها، وعينت فرنسا الأميرال أميت قائد أسطول الشرق، وتعينت أنا مندوباً عن إيطاليا فسافرت لتسلم عملي عن طريق كورفو، وسافر معي جزء من الأسطول إلى استنبول.

ولما وصلنا تبين لنا أن الآلة الحكومية التركية قد تعطلت وفقدت سلطتها فأصبح من المحتم علينا تحمل عبء الحكم مؤقتاً انتظاراً لما يقرره مؤتمر الصلح في باريس.

وكانت القوات البحرية الراسية في البوسفور والقوات البرية المعسكرة في تركية الأوربية

ص: 13

كفيلة بضمان تنفيذ ما نقرره في كل جهة. وكما نعقد كل أسبوع اجتماعاً في إحدى السفارات الثلاث تحت رئاسة المندوب المجتمع في داره - وكان لتركيا في ذلك العهد صدر أعظم يعمل في الباب العالي، وسلطان يقيم في سراي ضولمة باغجة - ولكن لم يكن هناك من يهتم بهما لأن طلبات المعونة والحماية والتعويض كانت كلها تقدم لإحدى هذه السفارات كأنها الجبهة أو السلطة صاحبت الشأن في البلاد، وكان عملنا سائراً لا تشويه غيرة أو تنازع على المصالح، وإنما بإنفاق تام ساعد عليه كثيراً تآلفنا الشخصي.

وكنت قد استحضرت معي علماً إيطاليا من إحدى البوارج أسرعت برفعه على دار السفارة بعد أن قمنا بتحية إنزال العلم الأسباني الذي كان يرفرف عليها طوال مدة سنوات الحرب الطوال، وما كادت الموسيقى تعزف ألحان النشيد الوطني الإيطالي حتى اجتمع عدد كبير من الأهالي مكون من يونان وأرمن ويهود وبعض الترك، الذين لم يظهر عليهم أي مظهر عدائي نحونا.

لقد أقتنع كثيرون من أن حملة الدردنير كانت نكبة من الوجهة العسكرية لما سببته من النتائج الخطيرة التي أطالت مدة الحرب، ولكنني تيقنت من ذلك حينما أقمت باستنبول بعد الهدنة لما علمته من السلطات التركية من أن القواد الترك دهشوا لما رأوا انسحاب القوات البحرية في الوقت الذي بدأت فيه قوى المدافعين تخذلهم - فكأنهم لم يشعروا بانتصارهم إلا بعد انسحاب عدوهم - وهذا دليل جديد على أن العامل النفسي هو أساس كل انتصار حربي.

وقد دهشت كثيراً عند وصولي استنبول وبعد زيارتي لبروسية من وفرة المؤن والمحاصيل الغذائية في البلاد، لأنإيطاليا تأثرت كثيراً من حالة الضيق التي كانت فيها مدة الحرب 0 ولعلمي بوجود جالية إيطالية كبيرة في تركيا، كنت أنتظر أن أجدها في شبه مجاعة، فاستحضرت من إيطاليا كميات كبيرة من الدقيق لتوزيعها على أفراد الجالية - ففوجئت حينما علمت أن الجالية ليست في حاجة إلى شيء من المعونة وإن أفرادها يفضلون الدقيق التركي الممتاز ببياض لونه ونقاوته على الدقيق الإيطالي - وعلمت من ذلك أيضاً فداحة ما تحمله الحلفاء بسبب إخفاق حملة الدردنيل؛ ولكن الماضي قد انتهىالآن وليس أمامنا مواجهة الحقائق التي أمامنا.

ص: 14

أقنعتني هذه الحقائق منذ البداية أن تركيا لم تكن قد ماتت بل بالعكس كانت الحكومة المركزية تمثل وحدها الجزء الفاني المحطم في البلاد، أما تركيا الحقيقية فكانت موجودة يستطيع من يريد أن يلمسها، فكان في اعتقادي من خطل الرأي محاولة تضييق حبل الخناق كثيراً - لأن في تضييقه انتقال تركيا إلى آسيا وبقاءنا نحن في استنبول وسط بلد مهجور.

هذا الري الذي كونته لنفسي عن الحالة والمستقبل بادرت بإخبار حكومتي به وأبلغته في نفس الوقت إلى مؤتمر باريس. وصارحت روما بأنني لا يسعني أن اخدم بلادي الخدمة الحقيقية إلا إذا حصرت الجهد كله للوصول إلى صلح عاجل يعطي إيطاليا كل المزايا الممكنة في الأراضي التركية بشرط الإقلاع عن أي فكرة ترمى إلى القضاء على وحدة البلاد.

ولم أكن أجهل المشروع الذي وضع لتقسيم الأراضي التركية إلى مناطق نفوذ بين الدول، وأعلم أيضاً أن هذا المشروع يوافق هوى الدوائر الرسمية في باريس، ولكني لم أعطي نفسي حق الوقوف عند ذلك - بل تيقنت أن رأيي هو الذي يلتئم مع الحقائق التي أمامي، وأن من الواجب علي لمصلحة بلادي أن أصارحها به لعلمي أنه يغلب في النهاية أن يكون الرأي المتبع.

وكنت أنتظر من الحكومة استدعائي من مركزي بعد تصريحي بهذا الرأي ولكن لم تبد من جهة أورلاندو ولا سونينو (أولهما رئيس الوزارة والثاني وزير الخارجية) أي بادرة لمعارضتي في هذا الرأي مما دل على موافقتهم لي ضمناً - وإنما كتب لي سونينو بعد ذلك، أنه إذا أظهرت الأيام فساد هذا الرأي وعدم مطابقته للواقع فأنه سيترتب على ذلك تنصل الحكومة الإيطالية من تبعة أعمالي وإعلانها عدم موافقتها على سياستي.

وكان السلطان ضعيفاً لا يقر على رأي حتى ينقضه مهتماً بمستقبل عائلته أكثر من اهتمامه بمستقبل بلاده وشعبه. وكان مظهره وحركاته مثلاً تاماً لسليل عائلة انتهى عملها وظهرت بوادر فنائها.

واختار له وزيراً أول الداماد فريد باشا؛ وهو كما يدل عليه أسمه صهر للبيت المالك بزواجه من الأميرة خالدة، وهو مثل لما تفرغه التربية الإنجليزية في عقلية شرقية، لأنه

ص: 15

أنم دراسته في أكسفورد وتأثر في ذلك فخرج صورة تامة للجنتلمان الإنجليزي.

ولما كانت الدوائر التركية في سبات تام لا تبدر من جهتها بادرة حياة، اقتنع الرجال المنوط بهم الاتصال بلويد جورج وكيرزون أن تركيا قد أصبحت طوع أيديهم وفي وسعهم أن يفرضوا عليها ما تشاء أهوائهم - ويرجع معظم الخطأ إلى هؤلاء الأفراد وممثليهم ودعاتهم ومأجوريهم أبوا من المبدأ أن يتصلوا بأي فرد من الترك الذين تكونت منهم النواة الأولى لحكومة أنقرة - وقد ساق لي الحظ مقابلة بعض هؤلاء الترك في منزل مهندس إيطاليا والتحدث إليهم في نادي (السير كل دوريان) تحت أنظار زملائي الذين اشمأزوا من ذلك.

وقد شعرت من أول وهلة أن هؤلاء الرجال لم يحاولوا قط تضليلي بل فاتحوني بصراحةتامة قائلين أنه إذا اشتدت الحال ببلادهم ففي وسعهم أن يحافظوا على استقلالهم مهما كلفهم ذلك ولو بانسحابهم جميعاً إلى آسيا.

ولذلك لم أتردد في اليونان أن أصرح برأيي حينما أبلغني الأميرال كالثروب في 12 مايو سنة 1919 قرار مؤتمر باريس القاضي باحتلال لأزمير - من أني مقتنع تمام الاقتناع أن مسائل الشرق الأدنى ستزداد تعقداً وقد تدخل دوراً مملوء بالحوادث الفاجعة - ولكن الأوامر التي صدرت إلينا كانت قاطعة ولم يكن هناك مناص من إطاعتها وتنفيذها.

وقد تم إنزال الجنود واحتلال المدينة بالشكل الذي كنت أتوقعه أي بعمل حربي مجرد من القتال ولكن مقرون بالدماء. وقد اتضح لي خطأ أتيناً في اليوم الذي احتفلت برفع علمها الأزرق على قلاع أزمير بعد معركة تمثلت فيها البطولة كما نقلت إلينا البرقيات في حينه.

وكانت الجنود التركية وقت مباشرة الاحتلال بواسطة القوات اليونانية ملازمة لقشلاقتها، مطيعة للأوامر التي صدرت إليها من الحكومة وحملها رسل من طرف الداماد مؤكدين بان الاحتلال مؤقت وسترون في القريب - وكانت المدينة خالية من أولئك الفدائيين الذين ظهروا في كثير من جهات آسيا الصغرى وقدموا حياتهم بشجاعة خارقة للعادة فداء للوطن التركي.

فمن المسئول إذن عن أول طلقة وجهت من ناحية الثكنات؟

أكد لي بعض المكلفين باستقاء الأخبار أن مطلقها أحد المهيجين اليونان بقصد إثارة الفتنة والمذابح. فإذا كان هذا صحيحاً فمن المؤكد أن حكومة (أتينا) بعيدة عن إرسال أوامر بمثل

ص: 16

هذه الأعمال التي تصدر غالباً - وفي كل البلاد بدون استثناء - من عمل بعض الرجال العسكريين المتحمسين لدخول معركة لا يكلفهم الانتصار فيها شيء.

وقد كان احتلال أزمير وخيم العواقبلأن الأمل الضعيف الذي كان باقياً في توطيد الحالة وإيجاد حل يقبله الطرفان قد انتهى بارتكاب هذا الخطأ - والأخطاء في عالم السياسة كالذنوب لدى الأفراد تأتي تباعاً ويجر بعضها بعضاً.

أحمد رمزي

ص: 17

‌صور من الحياة

رجُلٌ!. . .

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا رجل! لست رجلاً إلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تفخر بالشهامة والإباء أن تتشبث بالرجولة والعفة، لا يغنيك عنها أن تبدو أنيق اللباس نضير الإهاب بهي الطلعة.

عرفتك يا صاحبي - أول مرة - فتى في مقبل العمر وزهرة الشباب تتأنق في لباسك وتتألق في زينتك حسن الهيئة والشارة يتضوع العطر من جوانبك وتفوح رائحة الأنوثة من أعطافك، فأنت متكسر الرجولة لين العود فاتر الهمة، وعجبت - أول ما عجبت - أن أراك في زي ذوي الثراء والغنى وأنت موظف حكومة لم يبلغ راتبك إلا تسعة جنيهات، وأن تبذل في بذخ وإسراف وأنت لا تملك شيئاً غير راتبك، وإن الموظف - وإن علت درجته - ليعاني الجدب والإمحال من شدة الغلاء ويقاسي الضيق والعنت من قلة الدخل، فهو يأكل التافه بقدر ويلبس الخلق البالي، ويحمل نفسه على شظف العيش ويصبر على بؤس الحياة. وراعني أن أرى زملاءك في المكتب يقابلونك في ابتسامة ساخرة وأفزعني أن أجد أترابك في الديوان يتهامسون فتطوف همساتهم حولك بسوء، فجلست إلى زميل لك استشف خبرك وأستجلي قصتك، فقال:

هو فتى - كما ترى - واهي الرجولة صغرت نفسه من الشهامة، يتهاوى ضعفاً وأنوثة، فهو بيننا أحدوثة قذرة تمجها الألسن وتعانقها الأنفس، وهو يحس منا فنوناً من الازدراء ويلمس ألوناً من الاحتقار، ولكنه لا يرعوي ولا يرتدع كأنما استمرأ حياة الذلة والضعة حين جعل المالمنتهى غايته.

قلت: وماذا يضير المرء إن جعل المال بعض همه لينفذ منه إلى متعة نفسه وسعادة قلبه وهدوء باله.

قال: ولكنه يتخذ إلى المال سبيلاً معوجاً يتنافى مع الكرامة والشرف. . . أما قصة الفتى فهي:

عشت أنا وهو حيناً من الزمان زميلين يربطنا عنت العمل وقسوة الرئيس وتضمنا أواصر

ص: 18

الأخوة ونزوات الشباب، فكنت أقضي إلى جانبه ساعات الفراغ ننشق معاً أريج الحياة وهي تتفتح لنا رويداًرويداً، ونبسم للصبا وهو يرف علينا رفيفاً حلواً، ونستمتع بالعافية وهي تنشر علينا جناحاً رفيقاً، ونسعد بالهدوء وهو غاية قصدنا. لا يبهرنا زيف المدينة وهو فوق طاقنا، ولا يسحرنا بهرج الحياة وإنا لنحس ضيق اليد، ولا نندفع إلى شهوة وإنا لنشعر بالحياء والخجل. وغبرنا زماناً نجد اللذة والسعادة في حيات الهدوء والاستقامة. ثم جاءت الحرب فصفعت الموظف صفعة قوية طار لهالبه وزلزلزت كيانه وشغلته شدة الحياة عن نفسه وأن لي أخوة صغاراً أحمل ثقلهم فأكاد أنوء به في الرخاء فما بالي وقد ضربني الغلاء وعركتني الفاقة، فعشت دهراً لا ألقي صديقي إلا في الديوان ولا أجلس إليه إلا في المكتب، وصمت هو فلا يحدثني بأمر ولا يكشف لي عن حادثه. ثم جاء ذات صباح ثائراً ضيق النفس مضطرب الخاطر. وأرادني على أن أجلس إليه في خلوة ليقص لي قصة أخته، وهي فتاة في العشرين من سني حياتها تتنزى شباباً وتتوثب جمالاً، وأن دلالها ليعصف باللب ويخلب الفؤاد، وأنها لتتأرج بهاءً وإشراقاً، تشع من عينيها معاني الأنوثة والجاذبية وتنفث ابتسامتها في القلب هزات الكهرباء. . .

آه، يا صاحبي، لقد كنت أخشى نظراتها الجذابة وأغضى عن بسماتها العاصفة وأغمض عن أنوثتها العنيفة خيفة أن ينفرط فؤادي أو أن ينقد قلبي على حين أن نفسي كانت تنازعني إليها، ولكني لا أستطيع أن أنفض على عيني أخيها خلجات قلبي، فما كمان لي أن اصبح زوجاً وبين يدي أخوة أخاف أن يستشعروا - بفقدي - اليتم والضياع. فكنت أنصرف من لدن زميلي وقد شاع الأسى في أوصالي وأفعمني الحزن وسيطر علي الضجر، ولكن لا سبيل. . وعاشت الفتاة إلى جانب أخيها الموظف عيش الكفاف والشرف، ثم أقبلت الحرب والغلاء معاً فأحست بأنوثتها وهي تتكامل رويداً رويداً ولكن الضيق يوشك أن يعصف بها، وشعرت بجمالها الوضاء يشرق حيناً بعد حين غير أن الفاقة تحاول أن تستله منها، وعز عليها أن تنطفئ فيها شعلة الشباب والدلال من أثر الحاجة والفقر فراحت تتوسل إلى غايتها بأساليب شيطانية منحطة، فتعرفت على فتى ثري من أبناء الذوات. وأبناء الذوات فئة من الناس أتلفهم الثراء وأبلاهم التعطل فغدو زبداً لا ينفع الناس وعاشوا عيالأ على الجماعة، لا يقيمونة وزناً لمقاييس الأخلاق السيامية من خور التربية،

ص: 19

ولا يتمسكون بالشرف من انفراط عقد الأسرة ولا يؤمنون بالعفة من اثر الاستهتار والتبذل، وهم داء الامة العضال وعظامها النخرة.

وترامى إلى زميلي أن أخته قد حادت عن الطريق المستقيم وأشكت أن ترتدغ في هاوية مالها من قرار فأخذ يتأثر خطاها ويضيق عليها السبل0

ولكن الفتاة كانت ذات مكر ودهاء فسلكت إلى قلب أخيها مسلك براقة فغمرته بالطيب من الطعام والغالي من الثياب وحبته بسبل من الهدايا ما ينضب معينه، فوهي ما اشتد من قوته وانحلت عقدت عزيمته فأغضى عن زلاتها وأرخى لها العنان، فاندفعت الطائشة لا تلوى على شيء، وعاش هو لا يهمه إلا أن يبدو في زي الثراء والغنى، لا يشغله إلا أن يبذل في بذخ وإسراف. . . ثم تاقت نفس صاحبنا إلى أن يكون زوجاً ورب أسرة فجلس إلى أخته يكشف لها عن ذات نفسه فما صرفته عن رأيه ولا ردته عن غايته، ثم راحت تمهد له السبيل من مالها وهي تذكره - في لباقة - بأنه موظف حكومة يجب ألا ينسى أن راتبه لم يبلغ بعد إلا تسعة جنيهات.

وانطوت الأيام فإذا الفتى زوج لفتاة جميلة آسرة رغم أنها من أسرة رقيقة الحال تقنع بالتافه وتجتزئ بالضئيل لا ترنو إلى المال ولا تطمع في الترف. ولقد راع الزوجة أن ترى بيت زوجها يموج بالطنافس والصور ويفهق بالأثاث والزغرف، ولكنها عاشت إلى جانب زوجها سعيدة تنظر إلى ما حولها ولا تتكلم وترى ولا تتحدث وخشيت أن تكون ضحية حماقتها أن هي ثرثرت بكلمات تؤذي زوجها أو تنال من كرامة أخته، وخُيل إليها أن زوجها في عمى عن نزوات أخته فانضمت على أذى في نفسها ووقفت على حيد الطريق في صمت وضيق، ومرت أيام وأيام.

وأرادت الفتاة أن توسوس لزوج أخيها بأمر لتجتذبها من وحدتها فجلست إليها تحدثها قائلة (أريت ما أفعل؟) قالت الزوجة (وماذا تفعلين، يا أختي) قالت (أرأيت الشاب الذي يطوف بسيارته حول دارنا فلا يقر له قرار إلا أن أرافقه فأملأ فراغ وقته وفراغ قلبه في وقت معاً) فقالت الزوجة (ما رأيت شيئاً) فقالت الفتاة في إصرار وصراحة (لا تنكري، لقد سمعت ورأيت، ولا عليك فنحن الآن في خلوة لا يسمعني أحد ولا يرى) فأجابت الزوجة (نعم، لقد رأيت وسمعت، ولكن مالي أنا ولذلك الشاب) قالت الفتاة (أن له لأخاً في مثل

ص: 20

شبابه ورونقه وثرائه، وهو يطمع في أن تكوني شغل فراغه وشغل قلبه) فأجابت الزوجة في ذعر (أنا؟ لا، لن أكون شيئاً من ذلك! فقالت) الفتاة (لا بد أن تكوني، لعلك من الحمق والغباء بحيث تطمعين في أن أبذل من نفسي لأوفر لك السعادة والهناء!) فأجابت الزوجة في غيض (إنني أجد السعادة إلى جانب زوجي فأقنع بإخلاصه وأقنع براتبه الضئيل) وثارت الفتاة في وجه الزوجة قائلة (إذن لا معدى لك عن أحد آمرين: إما أن تكوني كما أريد وإما أن تبرحي هذه الدار حالاً) فصاحت الزوجة (وزوجي. . وزوجي. .!) فقالت الفتاة (لا زوج لك هنا. . . أنا هن صاحبة الدار وصاحبة الرأي وصاحبة الأمر).

وران الأسى على قلب الزوجة لما سمعت فقضت ليلتها تتململ في فراشها لم يغمض لها جفن ولا قر لها قرار، وإن الخواطر السود لتضطرب في خيالها فتفزعها عن هدوئها وراحتها، وإن الخوف ليسد أمامها الطريق فهي تخشى لأن تزل قدمها فتفقد كرامتها وشرفها وتخشى أن تبوح لزوجها بما سمعت من أخته فيرميها بالفتنة والنميمة، فكتمت أتراحها لا تبدي عن شيء منها.

وآدها أن تصبر على حديث الفتاة وهي تلاحقها تريد أن تدفعها إلى الجريمة، فانطلقت - بعد لأي - إلى زوجها تنفض أمامه جملة الخبر فما أحست فيه الإباء ولا الترفع ولكنه انطوى عنها وعلى شفتيه ابتسامة. . ابتسامة الذئب يوشك أن يغرر بالفريسة، فعاودها الأسى والضيق وتراءت أمامها فوهة الرذيلة تنفرج في غير رحمة ولا شفقة تكاد تبتلعها فأصابها الذعر والخوف، فطارت إلى أمها العجوز الفقيرة علها تجد هنا متنفساً0 وترفعت الأم العجوز الفقيرة عن أن تبيع شرف ابنتها الطاهرة بثمن بخس دراهم معدودة، وأخذتها العزة بالإثم فآثرت أن تبيت ابنتها على الطوى تقاسي المخمصة والشعب على أن ينثلم شرفها أو تنخدش كرامتها.

أما أنت يا رجل، فلست رجلاً إلا أن تعتز بالشرف والكرامة وإلا أن تفخر بالشهامة والإباء وإلا أن تتشبث بالرجولة والعفة، لا يغنيك عنها أن تبدو أنيق اللباس نضير الإهاب بهي الطلعة.

كامل محمود حبيب

ص: 21

‌قصة الحياة

(إلى روح صديقي محمود، الذي رحل إلى عالم الخلود)

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

كنت في الحديقة ساعة الأصيل أتفيء شجرة وارفة الضلالمتأملاً سفيرها المتأثر بين قدمي ومن حولي؛ ثم التقطت منه - على غير شعور مني - ورقة صفراء يابسة ففركتها بين إصبعي، وهفت الريح فأطارت ما في يدي مع الغبار، وتركتني أهيم في تفكير طويل!

ولكن. . . لشد ما آلمني تفكيري، وأرهف حسي وشعوري!

لقد تلوت (قصة الحياة) تحت هذه الشجرة وشهدت تمثيلها الخاطف العجول؛ ولقد كانت القصة مأساة بثقت لها عيناي، وكان تمثيلها مؤثراً حرك حزني وأساي. . .

رأيت الحياة - في هذه المأساة - نبتة نزل عليها الغيثفأخرجت شطأهاوهاجت وترعرت، ثم استوت على سوقها وأينعت وأثمرت، ثم علا رأسهافأغصنت وأفرعت، ثم اضحت شجرة فأخصبت وأمرعت، فجنى ثمارها الخاطفون، واستورف ظلالها العابرون.

على أن الرياح - وا أسفاه - استطالت عمر هذه الشجرة فهوت عليها، وحطمت أفنانها، وذرت أوراقها، وأتلفت ثمارها، وأنذرتها فناء قريباً!

ولبثت الشجرة حائرة في مهب الرياح، ترى أوراقها تذوي فلا تملك إلا النواح

تلك فصول هذه (القصة) تلوتها وشهدت تمثيلها تحت هذه الشجرة: فلم أربعد اللعب واللهووالزينة، وبعد البهجة والفرح والمسرة، وبعد التكاثر والتنافس والتفاخر، إلا ضعفاً وعجزاً ومرضاً، وكهولة وشيخوخة وموتاً.

ولم أر أنفسنا إلا أوراقاً على أغصان هذه الشجرة، غير أن هذه الأوراق مختلفة الألوان والأحوال، فمنها الخضراء الناضرة، ومنها الصفراء الشاحبة، ومنها التي أوشكت أن تصوح، ومنها التي تساقط أسفل منا ونحن لا نشعر!

وقلت في نفسي وأنا أستعيد في خيالي فصول هذه القصة: (كما فركت بين إصبعي وأنا لا أبالي تلك الورقة اليابسة المسكينة يفرك الدهر الجبال بين إصبعين من فولاذ أوراقنا الجافة بغير اكتراث.

ومرت بي آنئذ - في لمح البصر - صور عزيزة لا تنسى، وذكريات قريبة لا تمحى،

ص: 22

لبعض أصدقائي الأوفياء، وأقربائي المحبوبين الذين أبى الدهر أن يؤنسني ببقاء أوراقهم على الغصن الذي أورقنا جميعاً عليه، فأختطفهم وأرسل عليهم ريحاً صرصراً جعلتهم كهشيم المحتظر!

وبكيت لأول مرة في حياتي بكاءً مراً - وما عهدت نفسي بكاء ولا مدامعاً - لأني فكرت في العالم المجهول الذي سيق إليه أحبابي وأصحابي، وخشيت ألا يجدوا فيه روحاً وريحاناً، لا لأني في شك من الخلود، ولكن لأن بعض أولئك الأعزة الذين فارقوني لم يتح لهم من الزمن ما يستعدون معه من الرحيل، ويتأهبون خلاله لسفر طويل، إذ جفت أوراقهم واصفرت بعد اخضرارها بقليل. . . وكان (محمود) أخر من أسرع إليه الجفاف من أصحابي؛ ولقد والله كان انضرهم وجهاً وأحلاهم مبسماً، وأنداهم حديثاً، وأنسهم مجلساً، وأرقهم شعوراً، وأنبلهم عاطفة، وأطهرهم قلباً، وأصفاهم نفساً، وأعفهم يداً، وأصدقهم لساناً، وأكثرهم تواضعاً؛ وكنت أحسبه أطولنا عمراً، وأنساناً أجلاً، وأرغدنا عيشاً لكن الموت عدا على (محمود) وهو في ربيعه الخامس والعشرين - ما يزيد عني سوى عامين - فدفنه كنزاً ثميناً، ودفن معه آماله الكبيرة. . . فكيف أبقى صامتاً لا أرثيه، أم كيف أضل جامد العين فلا أبكيه؟!

وفيما أنا مستغرق فيما يساورني من الأفكار، هزت الريح الشجرة كرة أخرى، فتناثرت أوراق تتري، فأسرعت أفتح لها حجري كأني وددت لو أتلقاها وأحول دون سقوطها على الأرض ووطئها بالنعال، بيد أنها آثرت جميعاً أن تتقبل نهايتها وتقع على الأرض إلا ورقة واحدة كان نصيبها حجري، وانحنيت لألتقط أخواتها وأنا شاعر بأني أحبي أنفاساً توشك أن تموت، وإذا بالورقة نفسها تسقط أثناء انحنائي فأسحقها بقدمي على غير إرادة مني، فعدلت عن التقاط الأوراق الباقية، وأيقنت أن لن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، وأننا لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ولا نملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً، وأننا أوراق في مهب الرياح، لا ندري كم تبقى نضرتنا، ولا نعلم متى نصفر فنموت!

وحينئذ فاضت معاني الإيمان في قلبي، واستطاعت هذه المعاني على سذاجتها وبساطتها ونفورها من التعقيد أن تلهمني الصبر، وتوحي إلي الرضى والسكينة، وهي تهمس في أُذني آية خالدة صورت (قصة الحياة) أروع تصوير: (وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء

ص: 23

أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرضفأصبح هشيماً تذروه الرياح. . . وكان الله على كل شيء مقتدراً).

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 24

‌وقفة.

. .

للأستاذ محمد محمود عماد

حبذا ساعة نجوى

ساقها الدهر إلينا

قد طوينا من فصول ال

حب فيها ما طوينا

وقفة دامت فما نع

لمُ كم فيها قضينا

لم ندري؟ لم نحصي؟

والأماني في يدينا

ساعة أو ساعتين

أو ثلاثاً ما علينا

كل ما نبغيه من حب

ومن قرب لدينا

قد تباعدنا زماناً

ثم من بعد التقينا

كنت ظمآن وكانت

فاحتسينا وارتوينا

ارتوينا من يناب

يع الهوا قلباً وعينا

حبذا القبلة رفت

عذبة في مسمعينا

قبلة طالت فما ند_ري متى منها انتهينا

نحن الاثنين نسينا

أو تناسينا فمينا

محمد محمود عماد

ص: 25

‌اهتمام الباكستان

بترقية الثقافة العربية فيها

للدكتور حسين الهمداني

(الملحق الصحفي بسفارة الباكستان)

لكل حضارة ومدنية تقاليدها الخاصة يعبر عنها فنها وأدبها وتتمثل في مظاهر الحياة اليومية المحيطة بها. والتقاليد هي التي تميز أي شعب عن شعب، وهي التي تفرق بين قوم وقوم، وهي التي تعطي كل لون من ألوان التفكير في الحياة اللون الخاص الذي يصطبغ به. فالحضارة الإسلامية غير الحضارة الأُوربية، والحضارة العربية غير الحضارة الصينية. وعلى كل تقليد إذا ما أراد أن يحافظ على كيانه، وأن يبقى سليماً من كل شائبة، صامداً ضد كل عدوان أن يعمل أولاً على الاحتفاظ باللغة التقليدية ومن ثم على تقويتها. وأمامنا حضارة الصين التي ترجع إلى خمسة آلاف سنة فأنها بقيت وظلت متماسكة متصلة غير متغيرة بفضل محافظتها على لغتها وعدم التفريط فيمن لها من حق الرعاية.

وبقيام الباكستان أمة تضم شعباً تربطه وشائج الحضارة الإسلامية أصبحت لزاماً عليها أن تفسح للثقافة العربية الإسلامية المكان اللائق وأن تحلها محلها من الاعتبار فالباكستان تريد أن تعيد لهذه الثقافة مكانتها السامية المرموقة، وهي تريد أن تصل ما أنقطع من ذلك التراث. والحضارة الإسلامية ككل حضارة كبيرة أخرى سجلت سطورها في ثبت التاريخ لها تقاليدها ولها كتابها الخاص بها الذي منه تنبثق ينابيع التقاليد الإسلامية العظيمة والذي فيه تتجسم وتتصور الحضارة بكل مظاهرها والذي فيه تتبلور المعاني والأفكار ثم ترسلها إلى الناس منعكسة حقائق ظاهرة ملموسة. هذا الكتاب وهو القرآن الكريم الذي أوحاه الله إلى نبيه محمد عليه الصلاة والسلام والنقطة التي سارت منها مدينة الإسلام؛ لهذا يتطلع إليه المسلمون كافة لأن فيه الوحي بصدق الإيمان والتعبير بصلابة الدين. عرفنا أن القرآن هو المصباح الذي ينير للمسلمين طريقهم ويدلهم على مسالك الخير ويبعدهم عن مهاوي الشر، عرفنا لماذا تريد الباكستان أن تندمج وأن تتصل بحضارة الإسلام، وأدركنا لأول وهلة عزمها على التمشي حسب تعاليمه السمحة مؤملة الفلاح والنجاح. وهي لم تقصر

ص: 26

رغبتها هذه على مجرد النية الطيبة أو الادعاء عمدت إلى تضمين هذه الأغراض الشريفة والدوافع الطيبة التي تتمثل في الإسلام دستورها الجديد الذي أقرته الجمعية التأسيسية أخيراً متوخية أن تعطي الشعب بواسطة ممثليه ونواية السلطة والوديعة المقدسة التي في أيديهم مراعين الله في أوامره ونواهيه

وليس اهتمام مسلمي شبه القارة الهندية الباكستانية وتعلقهم بالقران ظاهرة جديدة بل هو أمر يمتد إلى مئات السنين أيام أن غزا العرب هذه الأنحاء ومعهم لغتهم. واللغة العربية كانت وما زالت لغة عنيفة بألفاظها بليغة بأسلوبها عميقة في معانيها وتعبيراتها. ولهذا أصبحت الأداة الأدبية الوحيدة التي تربط سكان هذه المناطق لمدة ثلاث عشر قرناً طويلة. وعلى قصر حكم العرب لهذه الأنحاء المعروفة اليوم بالباكستان بقيادة الفاتح محمد ابن القاسم إلا أنه كان للغة العربية عزها وأثرها. ساعد على ذلك وجود كثرة من المتأدبين والعلماء المتفقهين في الدين والمتشرعين ضمن جحافل الجيوش الغازية. وظل الأدب العربي مزدهراً في هذه الأرجاء وظلت اللغة جزءاً لا يتجزأ من حياة المسلمين بسبب تعلقهم بالدين حتى في تلك الأيام التي حكم البلاد فيها حكام غير عرب. ففي أيام الأتراك والتتار والفرس، وحينما كانت اللغة الفارسية لغة رسمية كان للغة العربية المكان الأول لم تستطع عوادي الدهر أن تمحوها ولا تقلبات الزمن أن تزيل أثرها. وكان المسلمون هناك على اتصال فكري وروحي دائم بالعالم الإسلامي الخارجي، وامتد هذا الامتزاج إلى أيام الغوري. وفي أيام السلطان علاء الدين الخلجي ازدهرت مدن عدة في الهند وأصبحت مراكز للتعليم الإسلامي وقواعد للدراسات الدينية واللغوية ومنها دلهي ولاهور.

وأحمد أباد كان شأنها تماماً كشأن بغداد والقاهرة. واهتمام شبه القارة بتعلم اللغة العربية أمر طبيعي كان على أشده أثناء حكم الإسلام. ولكن كنتيجة لقيام الثورات السياسية والأزمات الاقتصادية وكنتيجة لاستعمار الأجانب لهذه البلاد أفل نجم اللغة وضاع أثرها بين الناس. ولكن كان يقوم بين وقت وآخر رغم قيام هذه المصاعب أفراد يعشقون هذه اللغة فيرفعون منارها ويخصصون لها المعاهد للعلم والدرس. وقد أرادت الباكستان اليوم بعد أن استكملت استقلالها وسيادتها أن تعيد مجدها وأن تحيي تقاليدها القديمة، وتحققت أنها بسبيل هذا لابد لها من إعادة مجد ثقافتها ولهذا قام زعماؤها وأولو الرأي فيها من أول ساعة يمهدون

ص: 27

الطريق أمام هذه الفكرة ويبسطون للناس كافة أن عليهم إذا ما أرادوا أن يوثقوا الروابط الثقافية والفكرية والروحية بينهم وبين مختلف البلاد العربية سارعوا لتوحيد اللغة بينهم. ولما كانت اللغة هناك متعددة واستعمال الأحرف العربية يغني عن استعمال أية أحرف أخرى، ولما كان هناك رابطة تربط الناس بعضهم ببعض كما تربط هذا الشعب بغيره من الشعوب وهي رابطة الدين، ولما كانت لغة القرآن العربية فقد هبوا يشجعون على تعلمها واتجهوا نحو مصر منارة العلم والدين حامية الأزهر الشريف حاملة اللواء ذخر المتعطشين إلى الارتواء، فهي تريد الآن أن تتخذ الحروف العربية حروفاً بها تكتب لغتها؛ وهي تريد أن تتخذ اللغة العربية لغة أن لم تكن رسمية فهي إلى الرسمية أقرب؛ وقام الكبراء والعظماء يرعون هذه الحركة ويشجعونها فساعدوا في تأسيس جمعية ثقافية عربية باكستانية أنشئت في العام الماضي بعد مرور شهور قليلة من قيام الباكستان تحت رعاية معالي وزير المعارف السيد فضل الرحمن وكانت فرصة طيبة ومناسبة حسنة للتعرف بأهمية اللغة العربية0 وأهمية الاتصال بالعالم العربي تلك التي أتيحت يوم افتتاح هذه الجمعية فقد شرفها بحضوره فخامة الحاكم العام السيد ناظم الدين وأعلن من فوق منبرها أن أحسن وسيلة لإقامة علاقة متينة وثيقة بالبلاد العربية إنما يكون من طريق اللغة العربية0 وكم كان جميلاً منه أن يقول (أن معرفة اللغة العربية أمر ضروري جداً لكي تتخذ الوحدة الإسلامية صورتها العملية0 وليس في مكنة العالم الإسلامي أن يحكم اتصالاته وأن يدعم روابطه إلا. إذا اتخذ اللغة العربية لغة مشتركة أتقن دراستها. وواجبنا أولاً أن نتخذ الحروف المطبعية العربية حروفاً بها تكتب لغتنا؛ لأننا بهذا نتفادى الاختلاف والتعقيد ونتوخى الحصول على أقصر ما يمكن من التماثل والسهولة والتقرب بين المعاني والافكار0 فعلى العالم الإسلامي أجمع أن يخطو هذه الخطوة وأن يتخذ اللغة العربية لغة له) وقد استجابت الباكستان لهذا الدعاء فقامت تنشئ الجمعيات وراحت الحكومة تنفذ كل مشروع يرمي إلى هذه الغاية ويهدف إلى هذا الهدف. ومن ذلك أن الحكومة تنشر مجلة عربية اسمها (البشير) تحاول بواسطتها أن تنقل أفكارها وتعرف بأحوالها وتتعاون مع شقيقاتها مؤمنة بأن إصدارها لهذه المجلة خطوة موفقة نحوه التآخي والتآلف الذي تنشده.

ولقد ترك الاستعمار الأجنبي الطويل لشبه القارة الهندية الباكستانية تركة ثقيلة كريهة من

ص: 28

نظم التعليم لا تتصل بثقافة الناس ولا تناسب مع ظروفهم وحيلتهم ولا تتوافق مع بيئتهم0 فأما الباكستان والحال كذلك صعوبات جمة لتزيل هذا الأثر ولا سيما وأن الجهل متفشي بين غالبية الناس؛ فهي تجاهد اليوم لأن توفق بين سياسة التعليم وبرامجه وميول الشعب واستعداده مدفوع في ذلك بتاريخها الطويل وثقافتها متوخية في ذلك مقتضيات العصر الحديث واضطرار التقدم في مناحي الحياة. وقد عقد بكراتشي سنة 1948 مؤتمر تعليمي نصح الباكستان أن تهتدي في سياستها التعليمية بالمثل العليا الإسلامية التي تنادي بالإخاء والتسامح والعدالة، والباكستأن بسبيل تنفيذ هذا، تسهم بقسطها بسير القافلة الدولية فتشارك في تبادل الأساتذة والطلاب وفي تبادل المطبوعات وفي إرسال بعثات إلى الخارج. وقد وقف معالي فضل الرحمن وزير المعارف في إحدى اجتماعات الجمعية الثقافية العربية الباكستانية وقال:(كثيراً ما نوهت بضرورة اتصالنا بالبلاد العربية المختلفة والعمل على ربط ثقافتنا بثقافتهم. واليوم أكرر القول بأن علينا ألا نقف مكتوفي الأيدي أمام مجرد رغبتنا بالاحتفاظ بتراث ديننا القويم، بل علينا أن نسعى بإخلاصلأننعيد المجد الغابر وأن نقوي علاقتنا الثقافية والدينية التي تكمل فيها روح الإسلام وفلسفته، وتحقيقاً لهذا الاقتراح أن تصبح الحروف العربية وسيلة لكتابة لغتنا بها حتى يصبح سهلاً على الباكستان أن تتقرب من هذا الطريق نحو البلاد العربية الأخرى. فاللغة هي طريق الاتصال الفعال بين أمة وأخرى. ونحن أن سلكنا هذا السبيل فتحنا الباب على مصراعيه أمام تبادل التفاهم والمعرفة وتبادل الأفكار كما أننا في نفس الوقت نتيح لشعبنا الفرصة كي ينهل من معين الثقافة العربية المجيدة)

حسين الهمداني

مكتبتك الخاصة

للأستاذ إليا حليم حنا

1 -

المكتبة الخاصة ضرورة لازمة:

المكتبة الخاصة ضرورة لازمة من ضرورات كل منزل في هذا العالم المتجدد المتغير0 والكتب أداة قيمة لإحكام الصلة بيننا وبين تيارات الفكر الحديث والقديم، في صفحاتها ننصت إلى أصوات نتحدث معها من خلال العصور0 ولا غنى لإنسان يشعر أنه عضو

ص: 29

نافع في المجتمع عن الكتب الحافزة للشعور المقوية للنفوس التي تعالج موضوعاته المحببة إلى نفسه وتعينه على أداء أعماله ومشروعاته الهامة وتحل له مشاكله وتوقفه على ثمار العقل البشري في نواحي النبوغ المختلفة العديدة حتى لا يتخلف عن قافلة الزمان0 قال ماكولى الناقد العظيم والكاتب المؤرخ الكبير: لو طلبوا مني أن أصبح ملكاً بتاج على رأسي وقصر فخيم أسكن فيه ومآكل ومشارب فاخرة، وملابس مزخرفة وحدائق وعربات وخيول ومئات من الخدم - لكن بدون كتب أقرأها - فأني ارفض أن أكون ملكاً؛ لأني أفضل المسكين الساكن في كوخ حقير يقرأ ما لديه من الكتب على الملك الذي لا يحب أن يقرأ.

وقال أوجستين برل (يوجد مكان واحد في العالم يمكن للشخص أن يكون فيه سعيداً، أنه المكتبة.)

والقراءة هواية مفيدة فأنة بين كتب مكتبتك تدفن آلامك وأتعابك بعد العمل المضني تختار الكتاب الذي يلائم تفكيرك وشعورك0 يقول العالم الكبير السرجون هرشل (لو تضرعت إلى الله وكانت دعواتي مضمونة الإجابة من أجل موهبة تكفيني مؤمنة تقلبات الظروف وتبدلات الأحوال، وتكون نبع سعادة وسرور لا ينضب، وعدة اتقى بها سهام الأيام، ودواء يشفيني من كل سقام، لكانت تلك الموهبة محبة الكتب والرغبة في المطالعة.)

2 -

كيف تكون مكتبتك؟

الناس مختلفون في أذواقهم وثقافتهم، متفاوتون في مواهبهم. وبنسبة هذا الاختلاف يتباين تذوقهم للكتب وتقديرها. لذلك كان تكوين المكتبة لا يخضع لقواعد ثابتة ونواميس معينة ، فكل يختار كتبه بما يتفق وعقليته وشعوره وذوقه وعمله.

يقول (أوجستين بريل) جميل أن ترث مكتبة ولكن الأجمل والأفيد من ذلك أن تجمع أنت كتب مكتبتك واحداً بعد الآخر؛ فالمكتبة لا تجمع دفعة واحدة ، ولكنها تنمو حسب ذوقك وحاجتك النفسية العابرة وتأملاتك وخوالجك ومشاكلك وأبحاثك وعملك. دع الظروف التي تمر بك تدفعك إلى شراء الكتاب وبذلك يكون بينك وبين كتبك اتصال روحي وفكري. نظرة واحدة خاطفة إلى كل منها وهو على رفه ترجع بك إلى وقت شرائه والفكرة التي كانت تخامرك في ذلك الوقت، وما يحوي بين دفتيه من أفكار وآراء. ولا يفيد أن تكون

ص: 30

مكتبتك بشراء كتاب تلو الآخر أن لم تفرغ من قراءة كل كتاب قبل أن تشتري غيره؛ فإن تكديس الكتب بدون قراءة يجعل المكتبة قليلة الفائدة لصاحبها. ولكن هناك كتباً يجب أن تزود بها المكتبة الخاصة دفعة واحدة؛ لا يستغني عنها القارئ المثقف الذي يطالع للإلمام بأنواع المعارف المختلفة، أو القارئ الأديب الذي يقرأ للاستلهام، وهي المعاجم ودوائر المعارف باعتبارها مراجع، وكتب النحو والصرف والبلاغة والنثر الفني والدواوين الشعرية للتمكن من اللغة وفنونها ومفرداتها وتراكيبها.

3 -

ماذا يجب أن تحتوي مكتبتك:

يجب أن تحتوي مكتبتك الكتب التي تنمي قواك العقلية جميعها نمواً متناسباً. ويمكن حصر هذه الكتب فيما يلي.

(أ) كتب تتعلق بعملك:

أول ما يجب أن توليه عنايتك من الكتب هو الأبحاث التي تتعلق بمهنتك. ويلزم أن تتابع كل ما يكتب عنها في اللغات التي تعرفها وبذلك ترقى بعملك وتكون حجة ومرجعاً فيه وتراه شيقاً متجدداً دوماً بإدخال عوامل التحسين التي سبقك إليها الخبراء. وهذا يعود عليك بأحسن النتائج الأدبية والمادية فأنة أفضل ما تفعله لتنجح مالياً هو إتقان عملك وبلوغ الغاية فيه فتصل إلى المال دون أن تقصد إليه مباشرة.

ومن الجهل أن يعتقد الشاب أن الكتب القليلة التي درسها في حياته المدرسية كافية لتسيره في عمله، ومن ثم لا يقرأ شيئاً يتعلق به فيركد ويتضاءل، ولا يرفعه عمله بل هو ينزل بعمله إلى مستوى دون المطلوب فيجرم في حق المجتمع ويحرم وطنه من موهبة كامنة فيه كانت تظهر لو أنه تمشى مع الزمن وضاعف معلوماته ووقف على آخر ما جد في عمله في تقدم فتعظم شخصيته ويكسب ثقة نفسه وغيره في مهنته.

اقرأ وادرس واطلع على أحدث ما جد في عملك وتابع سيره ونموه حتى ترقى به ويرقى هو بك.

(ب) كتب تتعلق بهوايتك:

وهناك الكتب التي تتعلق بهوايتك التي تلجأ إليها في أوقات فراغك لتعالج الملل الناتج عن عملك وتجدد نشاطك وتعيد لنفسك اتزانها وتعطيك مهارة عقلية أو يدوية أو الاثنين معاً.

ص: 31

هوايتك هذه يجب أن تتفقدها لتنمو، ويجب أن تقف على أفكار وآراء وأعمال الآخرين فيها حتى تكون ناضجة تعطيك لذة أكبر وفائدة أوفر فتشعر بالسعادة في التطور والتجدد والنمو والتوسع:

وقد تصبح الهواية يوماً عملك الذي تعيش به وترزق منه وتظهر فيه مواهبك الكامنة أكثر مما تظهر في مهنتك أو حرفتك. ويساعد الاطلاع على كل ما يختص بهوايتك من كتب ومجلات ونشرات ومطبوعات دورية على نبوغك فيها وتنمية شخصيتك وترقية ذهنك.

(ج) كتب تختص بالمرأة والأطفال:

يغفل كثير من المثقفين نصيب المرأة والأطفال في المكتبة الخاصة ولا يهتمون إلا بنواحيهم وما يتعلق بهم وحدهم بينما يجب الاهتمام إلى حد كبير بركن المرأة والطفل في المكتبة الخاصة وتغذية هذا الركن بأحدث الكتب التي تبحث في شون المنزل وإدارته وتربية الأطفال وتنشئهم وكل ما يتعلق بالمرأة والفنون النسوية وتكون الزوجة والأم والمواطنة العاقلة الكاملة في خلقها ومثلها العليا.

وهذا الركن في المكتبة الخاصة أكبر معين للوالدين على تربية أبنائهم وتعويدهم حب القراء بوضع ما يلفت نظرهم ويناسب مداركهم وأطوار نموهم العقلي بين أيديهم وأمام ناظرهم. ويجب أن يحوي هذا الركن معجماً صغيراً يستخرج منه الطفل ما يصب عليه فهمه من المعاني بإرشاد أحد والديه، ودائرة معارف مبسطة بجانب الكتب التي يرى الوالدان أنها موضع أسئلة الطفل وميوله

أن ما يعرفه الطفل بهذه الطريقة لا يمكن أن ينسى علاوة على أنه يتعود القراءة ومحبة الاطلاع بالتوجيه الحسن وتأثير هذا الوسط المنزلي الثقافي الراقي فيه.

(ء) كتب للثقافة العامة:

وتأتي أخيراً الكتب التي تتناول الثقافة العامة في كل ما بذلك قراءته وما تدفعك إليه حاجتك النفسية ومشاكلك وذوقك وما يجب أن تقف عليه من أنواع المعارف والثقافات التي بدونها تكون متخلفاً عن عصرك الذي تعيش فيه. ومن الخطأ أن تهمل التراث القديم وكتبه الخالدة التي عاصرت كل الأزمان والحضارات؛ فالكتاب النفيس الخالد كما قال ملتون هو دم الحياة الثمين المتقطر من روح كبيرة، محنطاً ومحفوظاً لحيات بعد الحياة

ص: 32

ويخطئ الشاب الذي نال القليل من التربية المدرسية عندما يندب سوء حظه الذي لم يتح له الحصول على الثقافة المدرسية اللازمة فأن أمامه فرصة التثقيف الذاتي؛ فأنة بين مجلدات مكتبته يتصل بأذكى العقول في أرقى الأمم ويصل إلى درجة عالية من الثقافة يحسده عليها حائزوا أرقى الشهادات الذين لا يقبلون على القراءة ويكرهون الكتب. يقول (ارنولد بنيت) لا أرى سبباً يمنع أي رجل متوسط الذكاء بعد أن يقضي عاماً في القراءة المتواصلة أن يصبح قادراً على الهجوم على أسمى ما أنتجه الإنسان من البراعات في التاريخ أو الفلسفة.

في ركن الثقافة العامة هذا تلم بأحسن ما سبق التفكير فيه ثم تبدأ أنت نفسك فتفكر في حل ما يصادفك في الحياة من المسائل في الآداب والفنون والسياسة والدين والمسائل الدولية والعلاقات المنزلية.

4 -

فلسفة شراء كتاب: عند شراء كتاب ضع أمامك الاعتبارات الآتية:

عندما تدخل مكتبة لشراء كتاب كون لنفسك فكرة سريعة عنه بملاحظة العنوان والمؤلف ومكانته ومؤلفاته الأخرى التي تعرفها والناشر ومركزه الثقافي والسنة التي طبع فيها الكتاب ثم المقدمة والفهرس وطريقة عرض الموضوع.

2 -

خابر دور النشر المشهورة لترسل إليك نشراتها وقوائمها عن أحدث مطبوعاتها في المعارف المختلفة لتكون على اتصال بآخر التيارات الفكرية في الموضوع الذي تخصه بالدراسة الدقيقة وتكرس له جهودك.

3 -

اهتم بالمراجع اللغوية والفنية والتي تتصل بنوع عملك والموسوعات المختلفة فهذه عون كبير لك في تسهيل أبحاثك وجعل مادتها ميسورة في متناول يدك.

4 -

الكتب الملخصة لا تصلح أن تكون مكتبة ذات أثر ثقافي عميق ولكنها نواة لشراء الكتب الأصيلة الدسمة في نفس الموضوع. أنها أداة للتثقيف السطحي فقط.

5 -

لا تشتر أكثر من واحد في المرة الواحدة؛ ولكن إذا وجدت عدة كتب متممة لناحية من نواحي ثقافتك أو لبحث تشتغل بإعداده فضعها في برنامج قراءتك اليومية في أقرب فرصة وإلا فستجد في يوم من الأيام صفوفاً من الكتب على الرفوف لم تقرأها وقد لا يسعفك الوقت بأن تقرأها بعد ذلك.

6 -

لا تشتري الكتب لاقتنائها بل للانتفاع بها0 وأجعل أساس شرائها حاجة نفسية أو

ص: 33

عملية حاضرة كأن تحل لك مشكلة أو توجهك وجهة صحيحة في عملك أو تكمل لك بحثاً علمياً أو أدبياً حتى تقبل على قراءتها بلذة وشغف بمجرد شرائها. ولكن عندما يعجبك كتاب لرغبة عارضة لا ترمي إلى هدف، فأنك تتوانى في قراءته وتتكدس لديك الكتب دون أن تؤدي غرضها المقصود.

7 -

اختر من الكتب ما يجعلك أكثر تعلقاً بأملك، ويعطيك آراء جديدة في الحياة تجعلك اكثر صلاحية لتعيش وتخلق في نفسك الحماس وتجعلك أكثر إصراراً على الاندفاع نحو هدفك. وأبتعد عن الكتب التي تغذي المثل الدنيا الحقيرة والتي تقلب غرائزك ولا تسمو بها فأنها تهدد مستقبلك وتحطم أملك وتخلق منك أنساناً مسلوب الإرادة ضعيف الشخصية.

5 -

احتفظ بكتبك ورتبها:

لا تكدس كتبك بعضها فوق بعض بل ضعها على رفوف أو في خزائن ورتبها بحسب موضوعاتها بطريقة يسهل عليك تناولها بسرعة حتى لا تضيع وقتاً في البحث عن كتاب تريده فتضطر أن تقلب كل كتبك رأساً على عقب فتفقد الدافع وتخسر الحماس الذي تشعر به لقراءته أو تفوت عليك فرصة الاطلاع عليه للاستعانة به في بحث تعده.

لا تكن ممن يلقون بالكتاب لأنك فرغت من قراءته أو لأنك لم تتذوقه. أن الكتاب الذي لم يحز إعجابك في وقت من الأوقات قد يصبح مدار اهتمامك بعد ذلك عندما يفيدك للاستنارة به في موضوع يشغلك أو يوضح لك رأياً غمض عليك أو يحل لك مشكلة تقلقك. والذي لا تهضمه اليوم قد تهضمه غداً عندما ينمو ويزداد زادك العقلي.

6 -

الألوان في حجرة المكتبة:

للألوان أثر كبير في نفسية الإنسان، فمنها ما يرتاح إليه ويجعل الراحة والهدوء يسريان في جسمه ونفسه. ومنها ما يجعله منقبضاً متململاً0 فالأزرق والأخضر المائل للزرقة والرمادي تدعو للراحة وتبعث في النفس الارتياح. والأزرق الغامق والرمادي الغامق يدعوان للوجوم والانقباض.

وللألوان أيضاً أثرها في امتصاص وانعكاس الضوء وفي جعل الحجرات تبدو ضيقة أو متسعة. فإذا كانت حجرت مكتبك ضيقة كثيرة الضوء فاستعمل الألوان الزرقاء أو الرمادية أو الخضراء أو الخضراء الضاربة للزرقة فأن هذه الألوان تمتص الضوء وتجعله مريحاً

ص: 34

للأعصاب فضلاً عن أنها تشعر الناضر أن الحجرة فسيحة.

وإذا كانت النوافذ في الجهة الشمالية فأن ضوء الشمس لا يدخلها إلا قليلاً جداً، وأيضاً إذا كانت الحجرة قليلة النوافذ وجب أن تستعمل فيها الألوان الزاهية مثل الأصفر والبرتقالي والأخضر الضارب إلى الصفرة والقرنفلي الفاتح والخوخي الخافت فهذه الألوان تعكس الضوء ولكنها تجعل المكان يبدو ضيقاً.

وإذا سقط نور المصباح على ألوان زاهية كالأحمر والأصفر والبرتقالي فأنه يعكس هذه الألوان على جدران الحجرة؛ أما الألوان الباهتة مثل الأزرق والأخضر والرمادي فأنها تخفف من حدة الضوء الطبيعي فيرتاح له النظر والنفس.

(أسيوط)

إيليا حليم حنا

مدرس أول اللغة الإنجليزية والآداب

مدرسة النهضة الوسطى.

الأبيض. سودان

ص: 35

‌طمأنينة السماء

للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان

عج الأسى في نفسها الشاعرة

في ليلة مقرورة كافره!

وحيدة؛ ضاق بها مخدع

توغل فيه الوحشة السادرة!

كم شهد المكبوت من شجونها

تثيره خلجاتها الثائرة. . .

كم التوت فيه على قلبها

تبكي أماني قلبها العاثره

وكم!. وكم!. ولا يدٌ برةٌ

تأسو جراح الزمن الغائره!

تنهدت مما عراها وقد

مالت على شرفتها حانيه

وقلبته بصراً تائهاً

في قلب تلك الظلمة الغاشيه

لا ومضة تخفق من كوة

لا نبأة تصعد من ناحيه

سوى هزيز الريح تهتاجها

أصداؤه المفجوعة الباكيه

وقلبها المحروم ما يأتلى

يدق خلف الأضلع الواهيه!.

ورجت الوحشة أعماقها

في هيكل الليل الكثيب الضرير

فاصطرعت فيها أحاسيسها

كاللج يطغى في الخضمَّ الكبير

ووثبت أشباح آلامها

مجنونة، تشبُّ شبَّ السعير

فجمدت في جفنها دمعة

تصاعدت من قلبها المستطير

ثم همت محرورة، مرَّةً

كأنها تضرّع المستجير

تلفتت وراءها في أسىً

نحو مهاوي أمسها الغابر

لعل في أغواره لمحة

تلوح من ذكر ى سنيً عابرة

لعل في المضي وأطيافه

عزاَءها من قسوة الحاضر!.

فما رأت غير حطام المنى

على صخور القدر الغادر. .

وبعض أشلاء هوًى حالمٍ. .

مرتطم بالواقع الساخر. . .

وسرَّحت أمامها طرفها

عبر غدٍ مكتنف بالضباب!

فأبصرت، ما أبصرت؟ مهمهاً

مستبهم الأفق، مخوف ألشعاب

تبعثرت فيه الصوى واختفت

معالم السبل وراء اليباب

ص: 36

وهي على الدرب ذعور الخطى. .

رفيقها الوحدة. . والاغتراب.

والظمأ الكاسر لا يرتوي

في قلبها الهائم خلف السراب!

وكان أقسى ما شجي نفسها

وابتعث الراعب من هجم

تدفق الظلمة في يومها

في غدها المحروم. . في أمسها.

ظلمة عمر، كل أيامه

ليل تدجى في مدى حسم

النور، أين النور؟ هل قطرة

تسيل منه في دجى يأسم

من أين؟ والأقدار قد جففت

منابع الأضواء من نفسها!

وفي شرود مبهم غامض

تعلقت مقلتها بالسماء!

فأنشق صدر الليل عن كوكب

مشعشع الوهج، دفوق الضياء

كأن روح الله من فوقه

تمده بنورها عن سخاء

فأنخطفت في ذهلة روحها،

خلف النهايات، وراء الفضاء.

هناك، حيث النور لا ينتهي،

هناك حيث النور فوق الفناء

هناك غشتها طمأنينةٌ

علوية، ما لمداها حدود

وصاح عن أعماقها هاتف

ينتظم الأرض مداها البعيد:

يا أرض، أهواؤك مهما طغت

وأقعدت خطوى بثقل القيود. .

يا أرض، أحزانك مهما قست

وطبقت حولي مجالي الوجود

هيهات أن تلمس روحاً سرى

فيها من الله ضياء الخلود!.

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 37

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

كرسي شوقي للأدب العربي الحديث:

تحت هذا العنوان وفي جريدة (الأساس) منذ أسبوعين، كتب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني كلمة عن شوقي بمناسبة الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يشغل كرسيه الذي أنشأته كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول. مؤكداً أنها مبالغة في التيسير على طالب هذا الكرسي لأنه للأدب العربي الحديث كله لا للأدب المصري وحده. . . وليس أدل على هذا التيسير في رأي المازني من أن الجامعة قد اشترطت على من يتقدم لشغل هذا الكرسي أن يكون حاصلاً على الدكتوراه من مصر أو ما يعادلها من الخارج، أو أن يكون حاصلا على أعلى الأجازات العلمية التي كانت تمنح قبل إنشاء الجامعة المصرية، أو أن تكون له أبحاث أتت للعلم بفائدة محققة، أو أن يكون قد مضت أربع عشر سنة على حصوله على درجة بكالوريوس أو ليسانس، وأن تكون له أبحاث قيمة مبتكرة.

هذه هي خلاصة الشروط التي حددتها الجامعة، والتي يرى فيها المازني وأرى معه أنها مبالغة في التيسير على طالب هذا الكرسي الجامعي الممتاز؛ لأنها لا يمكن أن تنهض بالدراسة الفنية التي تتفق ومكانته، ولا بالمستوى العلمي الذي يجب أن يتوفر فيه شاغله. . . ومرة أخرى يضع المازني الأمر في مكانه ويزنه بميزانه حين يقول (أن درس الأدب العربي الحديث على وجهه الصحيح في هذا العصر يتطلب علماً وافياً بلغة أو لغات أجنبية وآدابها وفلسفتها أيضاً، فما تستطيع - ولا سيما في زماننا هذا - أن تباعد بين الفلسفة وبين الأدب ونقده. ثم أن أستاذ هذا الباب لا يستغني عن الإحاطة بأحوال الاجتماع والسياسة في كل قطر عربي، وبكل عامل من العوامل التي تؤثر في الأدب وتطوره، وبمذاهب الفلسفة والنقد، وبأثر الأداب الغربية في الأدب العربي فأن الأدب - أي أدب - ليس شيئاً قائماً بذاته مستقلاً عما عداه، وإنما هو فرع من شجرة ضخمة، ومن أولى من رجال الجامعة بأن يحرصوا على الأصول التي أخرجت الفروع؟!. . .

أكاد أقول - بل أنا أقول - أن هذا الكرسي الذي يعد من أعظم الكراسي شأناً يحتاج إلى علم غزير وإلى إحاطة شاملة بالآداب العربي والغربية، والى دماغ فلسفي منوع الثقافة،

ص: 38

وإلى معرفة بالتاريخ السياسي والاجتماعي، وإلى بصيرة نافذة؛ فليس يكفي أن يكون مشروطاً أن يكون لطالب هذا الكرسي أبحاث قيمةلأنالأمر أكبر من ذلك، والموضوع أوسع و؟ أعمق، وأحوج إلى العلم الشامل المنوع. . . وأخشى ألا تكون العجلة في هذا الأمر إلا من الشيطان، فالتريث أحجى وأرشد، ولن تعاب الجامعة إذا هي تأنت، ودققت، إيثاراً لحمل الأمانة العلمية كما ينبغي أن تحمل. ولكنها تعاب ولاشك إذا هي اكتفت (بملء الخانات كيفما اتفق، أي إذا قدمت المظهر على المخبر والصورة على الحقيقة)!

من هذه الكلمات تخرج بأن المازني لم يكن غالباً في شعوره بأهمية الموضوع الذي تعرض له بالبحث والمناقشة، ولا بضخامة العبء الذي يجب أن يقوم به من هو أهل للقيام به، ولا بقصور النظرة الجامعية إلى مقومات الأستاذية الكاملة التي تنهض بواجبها العلمي عن جدارة واستحقاق. . . ولكن المازني - غفر الله له - شاء أن يدرس بين زهوره الفكرية أشواكا تبخر معها الشذى المعطر والعبير الفواح، وبقيت منها وخزات تجرح الذوق والفن والشعور! يقول المازني عن شوقي في ثنايا كلمته:(وقد سرني أن كلية الآداب أنشأت هذا الكرسي وسدت به نقصاً ملحوظاً في دراستها. . . ومع احتفاظي برأيي القديم في شعر شوقي أقول إنه قد سرني أن يطلق اسمه على هذا الكرسي)!!

ترى ألا يزال المازني بينه وبين الناس؟ أخشى أن يكون الفرض الأخير هو الأصح، لأنني أعلم أن هناك أدباء يشعرون بالحرج إذا ما واجهوا الرأي العام الفني يتغير آرائهم بين الأمس واليوم. . . إننا نعلم أن رأي المازني في شعر شوقي يرجع إلى أيام الشباب وحماسة الشباب واندفاع الشباب، ولكن للشباب نظرة التي قد يهذب من جموحها مضى الزمن، وذوقه الذي قد يحد من انحرافه تقدم السن، وحكمه الذي قد يعدل من مقاييسه اكتمال الثقافة واتساع الأفق0 لهذا كله أخشى أن يكون المازني قد نبذ بينه وبين نفسه رأيه القديم في شعر شوقي واحتفظ به بينه وبين الناس، خشية الحرج من أن يتهم بتقلب الرأي بين اليوم والأمس وترجحه بين اليمين والشمال!. . . إننا نعرض لهذا الآمر على أنه فرض يحتمل أن يكون هو الواقع أولا يكون، فإذا كأن فيما أحوجنا إلى شيء من الشجاعة يردنا إلى الحق ويرد الحق إلى نصابه فأن ذلك أدعى إلى التقدير لا إلى الحرج والتشهير. أنني لم أقدر الدكتور طه حسين يوماً كما قدرته وهو يذيع على الملأ منذ قريب استنكاره لرأيه

ص: 39

القديم في أدب المنفلوطي. . . بل لقد زاد تقديري له وهو يعلن في صدق نادر وصراحة محببة أنه يشعر بالخجل كلما تذكر أيام الشباب وما جنت حماستها على القيم الأدبية ومنها آثار المنفلوطي، حتى لقد نعت نقده لتلك الآثار بأنه لم يكن إلا لوناً من ألوان السخف!

هذا مثل طيب يجب أن يحتذيه المازني وغير المازني من شيوخ الأدب إذا ما خطر لهم أن يرجعوا إلى آرائهم القديمة في صدر الشباب لينفضوا عنها غبار التجني الذي أثاره الهوى والغرض إذا ما كانت هناك أهواء وأعراض. . . ونستطيع بعد هذا كله أن نلغي هذا الفرض وما حمله بين طياته من مقدمات ونتائج، لنقول أن المازني بينه وبين نفسه كان وما يزال محتفظاً برأيه القديم في شعر شوقي، إذا عبر هذا الفرض الآخر عن الواقع فليس من شك في أنه سيعبر عن واقع آخر، وهو أن موازين النقد الأدبي ستحتفظ برأيها الصريح في ذوق المازني!؟. . .

جولة فكرية في ربوع الريف:

لم أستطيع في الأسبوع الماضي أن أكتب (التعقيبات) لأنني غادرت القاهرة إلى الريف على غير انتظار. . . وفي غمرة الحزن على فقد قريب تلقيت نعيه المفاجئ، راعني ما رأيت على طول الطريق من شتى المشاهد والصور والوجوه، حتى خيل إليَّ أنني منذ عشرين عاماً لم أر كل هذا الذي بدا لعينيَّ غريباً، مع أنني لم أتغيب عن الريف إلا عاماً وبعض عام!

وقلت لنفسي وأنا أنقل الطرف بين الوجوه الصفر والحقول الخضر: أين أنا اليوم مما كنت فيه بالأمس؟ أين المدينة الصاخبة الضاحكة الجياشة بالحياة، من هذا الريف الهادئ العابس الذي يطالعك منه ألف معنى من معاني الهمود والجمود والموت؟! ألا ما أبعد الفارق بين أرض وأرض وبين أحياء وأحياء. . . هذه الأجسام الذابلة ما أحوجها إلى تدفق العافية، وهذه العقول المظلمة ما أحوجها إلى نور المعرفة، وهذه القرى المهملة ما أحوجها إلى شيء من الاهتمام والرعاية! ومع ذلك فأنت هنا تلمس حلاوة الرضا حين تلمح مرارة التذمر هناك؛ ذلك لأن نفس الريفي قد طبعت على القناعة، وفطرت على الصبر وجبلت على الإيمأن. . . وتلك أمور تنثر في تربت النفوس بذور الصفاء الروحي الذي يرفع الملتصقين بالأرض إلى آفاق السماء!

ص: 40

إن أجمل ما في القناعة أنها تظهر لك القليل على قلته وهو أكثر من الكثير، وأن أروع ما في الصبر أنه يفلسف لك أعباء الحياة فلسفة تنقلك من عالم المادة إلى عالم الروح. . . أما الأمان فهو قائم من وراء هذا كله ليرد الأمور إلى أسبابها من حكمة القدر ومشيئته فلا اعتراض للناس!

من هنا أعرض المسئولون عن إصلاح الريف، لأنهم لا يستجيبون في الكثير الغالب إلا للأصوات الساخطة المتذمرة تحمل إليهم العجيج والضجيج؛ تحملهما من قلم كاتب، أو من حنجرة نائب، أو من وساطة يتقدم بها صاحب جاه وسلطان!

ومن العجيب أنك تجد أكثر الكتاب والنواب وأصحاب الجاه قد نشاءوا في ربوع الريف، واستروحوا طيب أنسامه، وترعرعوا بين أحضانه، ومع ذلك فلا يرتفع لهم صوت إلا للمدينة على حساب القرية، وللمتعلم على حساب الجاهل، وللطائفة على حساب الفلاح، وللمصلحة الفردية على حساب المصلحة العامة!

ذلك لأن الكاتب إذا ذهب إلى الريف فإنما يذهب إليه طلباً للهدوء والترويح عن النفس، وأما النائب فليجدد للناخبين عهوده الكاذبة ووعوده الباطلة، وأما صاحب الجاه والسلطان فليشرف على استغلال الأرضليستكرش بطنه وتمتلئ خزائنه!

صدقني إذا قلت إن ريفنا المصري مصنع نادر للبطولة. . . البطولة الكريمة على الضيم، الصابرة على الشدائد، العامرة بأعمق مشاعر التضحية. كل من فيه أبطال، وأروع ما يروعك من هؤلاء الأبطال. . . أنهم شهداء!

كلمات عن فقيد الفن نجيب الريحاني:

كتب إلى أكثر من قارئ، وقال لي أكثر من صديق: لماذا لم تكتب عن نجيب الريحاني؟. . . إن الذي مات فنان، فكيف لم يحرك فقده في نفسك كوامن الشجن، وكيف لم يستجب قلمك للفجيعة كما استجابت بقية الأقلام؟ ورجعت إلى شعوري أسأله: أمن الممكن أن يهزني نجيب الريحاني أعنف الهز في حياته، ثم لا يهزني أعنف الهز في مماته؟ وسمعت جواب الشعور منبعثاً من الأعماق: محال!

ومع ذلك فلن أكتب اليوم عن نجيب الريحاني. . . لن أكتب عن الفنان الإنسان الذي كان أسطورة أبدع فكرتها خيال الفنان الإله. . . لن أكتب عن اللحن الخالد الذي وقعته على

ص: 41

قيثارة الأبد أنامل العبقري الأعظم. . لن أكتب عن الحلم القصير الذي داعب أجفان الحيارى، ثم صحو من بعده على صرخات الدموع!

لن أكتب عن نجيب الريحاني إلا إذا جاءني الغد المرتقب بأن مكانه الشاغر لم يشغل. . . عندئذ سأصدق أن نجيب الريحاني قد مات، وأن من حقه علي أن أكتب عنه صفحات وصفحات!

رسالة ثائرة من شيوعي ثائر:

حقيبة البريد تحمل إلي من حين إلى آخر كثيراً من روائع العقول وطرائف الأفكار. . . من هذه الطرائف وتلك الروائع ما نقلته إلي في الأسبوع الماضي رسالة ثائرة من شيوعي فاضل آثر السلامة فلم يذكر اسمه! لم يناقشني الشيوعي الفاضل مثلاً فيما كتبته على صفحات (الرسالة)، ولم يناقشني مثلاً فيما جاء به أستاذه الأكبر كارل ماركس من آراء ومذاهب؛ لم يناقشني في شيء من هذا ليقنعني بعدالة قضيته، أو لأقنعه - على الأقل - بأنه مضلل مفتون، ولكنه غمرني بفيض من شتائمه التي أن دلت على شيء، فإنما تدل على طيب عنصره وكرم محتده، شأن كل شيوعي من أمثاله!

يقول حضرته إنني كاتب رجعي مأجور. . . مأجور من الرأسمالية في مصر وغير مصر، ولولا (المرتب) الذي أحصل عليه كل شهر من بعض (الجهات المعينة) لما هاجمت مذهباً من مذاهب الإصلاح الاجتماعي يحتاج إليه ملايين المصريين ليرتفعوا من مرتبة الحيوانات إلى مرتبة الآدميين!

أود أن أقول للشيوعي الفاضل أنني أرحب بالرجعية مادام رائدها الكشف عن مخازي الشيوعية، أما (المرتبات) فلا يعرفها سوى زبائن (الكومنفورم). . . وأما ملايين المصريين الذين أشار إليهم فأؤكد له أنهم آدميون والحمد لله، وإذا كان في مصر حيوانات فهم بضع مئات لعل منهم حضرة الشيوعي المحترم!

أنور المعداوي

ص: 42

‌الأدب والفنّ في أسبُوع

للأستاذ عباس خضر

خليل مطران

فقد عالم الشعر يوم الخميس الماضي (3061949) علماً من

أعلامه بوفاة خليل مطران، كما فقدت به وسائر الأقطار

العربية شاعراً كبيراً، عاصر حقبة مضطربة من حياتها

السياسية ولابس فترة انتقال في حياتها الأدبية، فكان في

الأولى ممن غضبوا للكرامة الوطنية وجاهدوا في سبيل

الحرية، وكان في الثانية أستاذاً من أساتذة الجيل الذين ارتادوا

آفاقاً جديدة في عالم الشعر العربي الحديث، فسبق أقرانه في

الابتعاد بافتنانه في المعاني والصور الشعرية الجديدة، ومهد

السبيل لمن أتى بعد المدرسة الشعرية القديمة من شعراء

اتجهوا بكل فهم إلى الحس والشعور والحياة. . .

نشأ خليل مطران في موطنه الأول لبنان، وأمضى به صدر شبابه، ثم هجره إلى باريس حيث اشترك في بعض الحركات الوطنية، ثم عاد إلى مصر وكان قد نزل بها في طريقه إلى باريس فطاب له المقام بها، واشتغل فيها بالصحافة، وشارك بالإنتاج الأدبي كتابة وشعراً، وكان من العاملين على رقي المسرح فترجم له وألف، وظل يغرد بأشعاره في وادي النيل حتى أخذ مكانه في الصف الأول من الشعراء المقدمين. وكان المطران إلى جانب ذلك نشاط في مجال الاقتصاد والمال، زاوج بينه وبين نشاطه الأدبي.

كان رحمه الله دقيق الجسم، رقيق الحس، كريم العاطفة، وكان من الذين تأكل مشاعرهم

ص: 43

العليا وإنسانيتهم الرفيعة وحيويتهم وغذاء أجسامهم. . . وقد قضى سنواته الأخيرة يعاني الاعتلال ويغالب الأدواء، ثم غلبته ففقدناه.

وكان مطران موضع التقدير والتكرم من كبار الرجال في مصر وغيرها، وكان أباً ودوداً وأخاً كريماً للأدباء والشعراء، ولم يسعد كاتب هذه السطور بلقائه ومعرفته الشخصية، ولكن طالما استرحت نسمات من سيرته الطيبة في مجالس الإخوان، وامتلأت مشاعري بما استفاض من بره ورقة شمائله0

فان مات خليل مطران فهو خالد في ضمير الأمة العربية شاعراً وإنساناً 0

اللغة في الإذاعة:

نشرت مجلة الإذاعة المصرية، أن حديثاً جرى في اجتماع لجنة الشؤون الدستورية بمجلس الشيوخ، بين بعض الأعضاء وبين الأستاذ محمد قاسم بك المدير العام للإذاعة الذي كان يشهد هذا الاجتماع، وأن سعادة العشماوي باشا رأى أن تكون الأغاني والتمثيليات باللغة العربية المبسطة، وقال الأستاذ جمال الدين أباضة بك: أن الشيخ سلامة حجازي الذي كان الجميع يطربون لأغانيه وتمثيلياته كان يلقى هذه الأغاني والتمثيليات باللغة العربية، ثم طلبت المجلة أن يبدي المستمعون آراءهم في هذا الموضوع.

والذي يقرأ هذا يخيل إليه أن الإذاعة تحافظ على اللغة العربية في كل برامجها ولم يبق إلا الأغاني والتمثيليات، والواقع أن جزءاً كبيراً من برامج إذاعتنا يؤدي بلغة لا هي عامية ولا هي عربية، مثل الأحاديث الطبية والزراعية، وما يلقى في ركن المرأة وركن الفلاح وغير ذلك، وأقصد هذا النوع الذي يعده صاحبه على أنه باللغة العربية، وما هو إلا تكسير لها واعتداء على صحتها. وأنها لمهزلة كبرى أن تذاع هذه اللغة المكسرة المهلهلة من الإذاعة الرسمية بأكبر عاصمة عربية في العالم.

في الصحف والمجلات رقابة لغوية، وأن لم تكن دقيقة في بعضها، تمنع نشر ما كتب بأسلوب غير سليم، أو تقومه؛ فلم لا يكون بالإذاعة موظفون في مقام رئيس التحرير أو سكرتير التحرير أو المصححين في الصحف، يشرفون على لغة الأحاديث؟ ولم لا يشترط على المتحدث أن يجيد النطق العربي ويجرب قبل إلقاء حديثه؟ وإن بعضهم ليخجل إذا أخطأ في نطق لغة أجنبية وأنه لأجدر أن يخجل لخطئه في لغته.

ص: 44

ذلك مثل من الفوضى اللغوية في إذاعتنا المصرية التي تنطلق بلسان مصر زعيمة العروبة، وفيها غير ذلك كثير، وقد كدت أنفلق من المذيع الذي يلقي النشرة الجوية فيقول: إذاعة مصلحة الأرصاد التنبؤات التالية عن حالة الجو من ظُهَيْرة اليوم إلى ظهيرة غد، فهو يريد أن يظهر مقدرته اللغوية بالإتيان بكلمة (ظهيرة) بدل (ظهر) ولكن نطقه لها يأبى إلا أن يظهر حقيقة مقدرته ولو أنه تجنب الحذلقة لما وقع في هذا الخطأ الفادح.

أما الأغاني والتمثيليات فمن الواجب حقاً أن تكون باللغة العربية المبسطة كما قال العشماوي باشا، فاللغة الفصيحة يجب أن تكون لسان الإذاعة المصرية العربية في كل برامجها، وليس من الحق ما يقال من أن طبقات الشعب الجاهلة لا تفهم العربية فهما صحيحاً، فإن هذه الطبقات تصغي إلى القران الكريم وتفهم كثيراً من آياته، ويقرؤون أو تقرأ عليهم الصحف بالأسلوب العربي المصري فيفهمونه حق الفهم، وأن وسائل الاتصال بالمجهول المعبرة بالعربية لتمد الألسنة بفيض منها فتدنى لغة العامة من لغة الخاصة، فلماذا تتخلف الإذاعة عن سائر تلك الوسائل؟ وتقول مجلة الإذاعة فيما نشرته تسويغاً للعامية، أنها أدق تصويراً لواقع الحياة في المجتمع. وإذاعتنا نفسها تذيع باللغة العربية تمثيليات مترجمة فهل اللغة العربية قادرة على تصوير واقع الحياة في المجتمع الإنجليزي مثلاً وليست بقادرة على ذلك في المجتمع المصري. . .

أقول ذلك وأنا لا أشير على الإذاعة أن تتخذ العربية لغة لكل الأغاني والتمثيليات، فهذا هدف لم تعد العدة الكافية لبلوغه في إذاعتنا أو لم نصل إلى الحال الملائمة له بعد، فإن أكثر المغنين والمغنيات والممثلين والممثلات الذين يعملون الآن بالإذاعة، لا يحسنون إلقاء هذه الفنون بالعربية، فلو أنهم حملوا عليها لما كانت هذه الأغاني والتمثيليات خيراً من تلك الأحاديث.

يجب أن يسبق الإقدام على (تعريب) التمثيليات إعداد ممثلين وممثلات، مدربين على التمثيل بالعربية. وهناك كثيرون مدربون ولكنهم غير الذين يعملون بالإذاعة، وهناك أيضاً خريجو المعهد العالي لفن التمثيل. أما الأغاني فالإذاعة تذيع كثيراً منها بالعربية وبعضها لا بأس به ولكن جمهرة المغنين والمغنيات لا تحسن أداء العربي الفصيح

ومدار الأمر في كل ذلك على السياسة المرسومة والعمل لبلوغ الهدف؛ فإذا لم يكن من

ص: 45

المستحسن أن تكون الأغاني والتمثيليات بالعربية جملة واحدة والحال على ما هي عليهالآنفي الإذاعة - كما أرى - فينبغي أن توضع خطة توصل إلى الحال التي يصح فيها تنفيذ ذلك الغرض.

في قاعة المطالعة بدار الكتب

شيئان في مصر لا يزالان كأول عهدهما لم يلحقهما التطور، ولم تجري عليهما سنة الارتقاء: محراث الفلاح، وقاعة المطالعة في دار الكتب المصرية، فكما أن الفلاح المصري لا يزال يشق الأرض بمحراثه على نحو ما كان يفعل أسلافه منذ آلاف السنين، لا يزال ذلك الساعي ذو الحلة الصفراء يتردد بين المخزن وقاعة المطالعة في دار الكتب. توافينا أنباء الغرب بما يجد هناك في عالم المكتبات العامة وما يصطنعه القوم من أنواع التيسير على جمهور المستعيرين، وأني لأخال آخر نبأ في الطريق أن مكتبة في نيويورك أو واشنطن أو غيرها من العالم الجديد قد استحدثت طريقة تكفل لطالب الكتاب الحصول عليه بمجرد كتابة رقمه ووضعه في ثقب معين، إذ يخرج الكتاب إليه ساعياً إلى لقاءه دون أي انتظار. .

أما في دار الكتب المصرية الكائنة بميدان أحمد ماهر من القاهرة المعزية، فإنك بعد ما تكتب (سند الاستعارة) وتملأ المطلوب فيه من الاسم والوظيفة والسن والمسكن والعنوان واسم الكتاب والجزء والمؤلف ورقم الفن ورقم المعقد. . . الخ، تجلس في القاعة ترقب طلعة الساعي، تستبشر إذا بدا ينقل خطوة كما يخطو الطير الآمن على الأرض. . وقد ضم إلى حضنه مجموعة من الأسفار مختلفة الأحجام، وتؤمل أن يرمي لك أحدها، وإذا هو لا يلتفت إليك بل يجاوزك تنتظر لتعيد التطلع إليه في الدورة القادمة لعل وعسى. . . وقد يرمي إليك بعد كل ذلك (سند الاستعارة)

مخطوطاً عليه مالا تفهمه، فإذا لجأت إلى من يحل الرموز ظهر أن المكتوب:(في الخارج) أو (في المطالعة) أو (لدى الموظفين) أو (ليس في المخزن نور) وما إلى ذلك وخلاف ما يستجد من نحو (الكتاب متعب) أو (في لجنة!)

وإذا كنت من ذوي الجد السعيد وجاءك الكتاب، فعليك أن تقرأه أو تأخذ منه حاجتك في نصف ساعة بقي من الوقت وأنت بين صغار يتحدثون ويعبثون ويتضاحكون، لم يخصص

ص: 46

لهم ولكتبهم مكان في القاعة، بل أنتثروا فيها لا فرق بين كبير وصغير ولا رعاية لمزاج باحث تضايقه حركات الغلمان من قراء روايات حافظ نجيب وأرسين لوبين.

والمترددون على قاعة المطالعة من قراء تلك القصص والروايات هم الذين يضخمون العدد الذي تصدر به بيانات الدار التي تنشر ويظهر أن الدار تحب أن تنشر هذه الأرقام الكبيرة مغتبطة بدلالتها على إقبال الجمهور على التزود من المعارف والآداب، ولكن التزود من المعارف والآداب مظلوم لأن دار الكتب تزحم نفسها بهذه الروايات وبطلابها، وهي ليست بذات غناء في التثقيف من جهة، والجهة الأخرى أنها تباع في الخارج الواحدة بقرش، والأولى منها بالتوفير في الدار الكتب ذات القيمة العلمية والأدبية، وخاصة الكتب والمراجع الغالية التي يحتاج إليها طلبة الجامعة وطلبة الأزهر، والتي يقال لمن يطلب واحداً منها (معار) أو (لا يوجد منه غير نسخة في الدار) فيخرج الطالب وهو ينظر إلى عشرات من الصغار منهمكين في قراءة الروايات البوليسية والغرامية.

لا اعتماد للفن:

كان مجلس النواب قد وافق في ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية على اعتماد 7000 جنيه لإنشاء فرقة نموذجية من خريجي المعهد العالي للتمثيل، و1500 جنيه زيادة على المقرر لتشجيع التأليف المسرحي، 2500 جنيه لإنشاء مسرح صيفي بالقاهرة و300 جنيه جائزة لأحسن فلم خلال العام. ولكن لما عرضت هذه الميزانية على مجلس الشيوخ رفض اعتماد تلك المبالغ، قائلاً أنه لا داعي لإنشاء الفرقة النموذجية، ويلحق خريجو المعهد بالفرقة المصرية ليكسب الشباب الجدد مرأناً وتجربة إلى جانب من مارسوا التمثيل قبلهم؛ أما الزيادة للتأليف المسرحي فلا مبرر لها لأن ما صرفته الوزارة من اعتماد العام الماضي لم يزد على نصفه؛ وأما المسرح الصيفي فكان قد اقترح إقامته في حديقة الأزبكية أو على شاطئ النيل شمال حديقة الأندلس بجوار المسجد المقام بها، فرأى مجلس الشيوخ أنه من غير اللائق إقامة المسرح بجوار المسجد، وسكت عن حديقة الأزبكية؛ وأما من حيث الجائزة السينمية فاستند المجلس إلى أن إنتاج الأفلام يجب أن يترك المنافسة الحرة.

وقد أعيدت الميزانية إلى مجلس النواب، فوافق على حذف تلك الاعتمادات منعاً لتعطيل الميزانية.

ص: 47

وهكذا خرج الفن من هذه الجولة البرلمانية صفر اليدين، فلم يظفر بأي اعتماد في ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية التي تشرف على المسرح والسينما.

والدولة بعد كل هذا تعتبر فن التمثيل ضرورياً لتربية الشعب وتثقيفه عن طريق الإمتاع الفني، فهل يتفق حذف اعتماداته مع هذا الاعتبار؟ لقد علل مجلس الشيوخ رفضه لكل اعتماد منها، ولكن أين الهيئة الفنية التي تستطيع أن تؤيد المشروعات الفنية وتدافع عنها وتدعم رأيها إزاء وجهة نظر المجلس؟ أين من يقول مثلاً بحاجة البلاد إلى عدة فرق مسرحية لا فرقة أو فرقتين، وبأن المسرح الصيفي يمكن إقامته في غير المكان المعترض عليه، وبأن التأليف المسرحي يكاد يكون معدوماً، وبأن مكافأة الفلم تؤدي إلى تحسن الإنتاج.

تتجه الأنظار إلى وزارة الشؤون فهي راعية الفنون، ولكن من المؤسف أننا نجدها غير جادة في هذه الرعاية، ومما يدل على ذلك ما لاحظه مجلس الشيوخ من أنها لم تصرف من المقرر للتأليف المسرحي في العام الماضي غير نصفه. . . فهل هي تحرص على الإشراف على المسرح والسينما لتتفرج أو لتنهض بهما؟

عباس خضر

ص: 48

‌الَبريدُ الأدبيَ

في مجالس الأدب:

أن في مجلس الأدب جمعاً بين إشباع الوجدان، وإمتاع العقل، وإشعاع المواصلة الروحية التي تجمع وحدة الطبع، واتفاق المزاج، وتآلف الميل؛ ولقد تلمع الخواطر، فيبدو في لمعاتها ما يشرق بالمجلس الأدبي. ونعلم أن للرسالة الزهراء ندوة فيها نداء المعرفة، وندى الوفادة، وبالود منا أن يسجل بين الحين والحين ما يألق في جوانب الندى للقبس منه، والأخذ عنه، والمشاركة فيما يترامى إلى أهداف سامية لها وصلة في الحيلة، التي اصطرعت أهواؤها في مصارع المادة، وتنكب جادة المعاني الروحية. ولقد دعانا إلى تلك الإشارة ما عاودنا قراءته عن (المناظرات الأدبية) وما كان لها من شان، بعد أن حاورنا محاور عن الصيغ التي تفيد الصفة، ووثب إلى الذهن ما حققه المازني (النحوي) في حضرة المتوكل في قوله تعالى:(وما كانت أمك بغياً) بعد أن سئل: كيف حذفت التاء وبقى فعيل مع أنه فعيلاً إذا كأن بمعنى فاعل لحقته التاء كفتى وفتية؛ فكان حقها (بغية)؟ فأجاب: أن بغياً ليست بفعيل؛ وأنما هي فعول بمعنى فاعلة - يقصد أنها كصبور - فالأصل فيها (بغوي) وأجرى عليها تقعيد التصريف من قلب الواو ياء وإدغام الياء؛ فهي (بغي)، ووجب حذف التاء لأنها بمعنى باغية. على هذا الأسلوب أمكنه الإعلام والإفحام، وسجل تحقيقه مخلداً تتعاوره الأجيال، فلماذا لا تثبت مباحث الإثبات؟.

أن من حق الأدب على الهداة إنارة الطريق، وليست المباحث وحدها بكافية للاستنارة، فمجالس الأدب في محاوراتها، ومناظراتها، وطرائفها، وطرائقها ذات تشوق وتشويق!

ولقد أعجبنا من الأديب الموفق الأستاذ (العباس) عرضه قضية ذلك البطر البشم بغروره الذي أنتفخ أنفه باسترواحه رائحة (الأجنبي، وتكسر لسانه برطانة الصلف؛ فعاب على الشرق تربيته العالية، وتورط بعد أن (تبرنط) ثم خرج من لدن المجلس يدُّعه الخزي، ويخزيه العار. من هذه الإبانة وضحت ظاهرة المغالاة في تمجيد الغرب إلى درجة تجاهل الشرقية المشرقة من قوم يجب أن يشرقوا من ماء النيل!

أن رجوتنا تجاوز الإلحاف في وجوب العناية بمجالس الأدب التي ندرت في هذا الزمان الذي نثر الأوقات الرخيصة على كراسي المقاهي حيث إضاعتها بين قالة اللسان، ومطاولة

ص: 49

اليد، والبعد عن سمو الحياة!

(بور سعيد)

أحمد عبد اللطيف برر

أسرفةأم تهافت أدبي؟

قرأت في العدد832 من مجلة الرسالة الغراء قصة بعنوان (مادلين) للأديب يوسف جبرا. وهذه القصة نشرتها جريدة البلاغ بدون توقيع في عددها الصادربتاريح8 ديسمبر سنة 1948. ولقد راعني أن تنقل القصة المنشورة في جريدة البلاغ من ترجمة الأديب يوسف جبرا نفسه؟ وإذا ادعى أنها له فهل له أن يتكرم فيثبت لنا صحة ما يقول بالدليل القاطع الذي لا يقبل الجدل ولا يرقى إليه الشك؟ وإذا أحسنا الظن بالأدب الناشئ فاعتبرنا قصة البلاغمن ترجمته هو فأنا نعتبر السعي إلى إعادة نشرها تهافتاً أدبياً وتكالباً على الشهرة غير مشروعة، وهو أن دل على شيء فإنما يدل على إفلاس عقلي وفرار من الجهد الذي يعانيه الأديب ليخرج للناس أثراً يقرأ. وإن للأديب حدوداً من الأدب واللياقة لا يتعداها المرء إلا حين يحس بالخور والفتور. وإذا كان ما نشر في جريدة البلاغ ليس من عمل الأديب جبرا فهذه سرقة أدبية أربأ به عن أن يرتدغ فيها.

يا سيدي الأديب، هذه هي ثاني مرة ترتكب فيها مثل هذه المخالفة الأدبية. ولابد أن تثق بأن للقراء عيناً وقلباً وعقلاً. هذا وإن عدتم عدنا.

كامل محمود حبيب

وضع الزهور على القبور:

دارت مناقشات في بعض الصحف حول هذه العادة وكيف نشأت، فمن قائل أنها غربية، وقائل أنها شرقية إسلامية والرأي الثاني هو الصحيح.

فقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس قال: مر النبي عليه السلام بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله؛ وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة. ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، قالوا يا رسول الله لم

ص: 50

فعلت هذا؟ قال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا. والحكمة في ذلك أن كل حي ونام يسبح الله دون الميت واليابس، وفي الحديث الشريف إشارة إلى أنهما يسبحان مادامتا رطبتين دونما إذا يبستا0 وهذا الإشراق الروحي للرسول عليه السلام حيث يشاهد تسبيح النبات والجماد من خصوصياته، وقد يكشف الحجاب لبعض الأطهار من أمته حتى يسمع تسبيح الكائنات كما حصل ذلك لبعض الخواص من أهل الطريق ولازالت هذه السعادة عند العامة في جميع البلاد متأسية بالرسول الطاهر ثم أبدلت بالزهور عند الخاصة - والتسبيح من كليهما وأقع - والتخفيف على الترجي بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الرحمان الرحيم

(شطالوف)

محمد منصور خضر

لام الحجود. ومظلنها:

كنا وما نزال نستظهر أن من ضمن نواصب المضارع وعلى التجوز، لام الجحود، ونتذكر أيضاً أن لام الحجود هي المسبوقة يكون ناقص ماض منفي؛ ولكنا كنا نجهل أن لها شرطاً عدا ما تقدم: وهو أن يكون المسند إلى ما كان، ولم يكن هو عين المسند إلى المضارع الآتي بعدها حتى تلحقه اللام المؤكدة للنفي الصريح؛ وزدت الصريح لأنه لو كأن غير صريح لصح للفعل المضارع أن يأتي بعد السكون الناقص الخ - خاليا ًمن اللام، وإليك قوله تعالى:(ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) فإن النفي هنا صوري في معنى الإثبات أي قد تليت عليكم آياتي فكنتم بها تكذبون.

وليتم الاستقصاء أزيد على ما أسلفت أن يكون ثم مقتض بلاغي يقتضيها، والقران الكريم مليء بهذه المقتضيات. وقد بينها لنا بأجلى بيان في معارض شتى: كالتخويف، والإنذار، والتقرير، والإصرار، وها هي ذي طائقة من الآيات توضح ما مر: قال تعالى في معرض الإنذار (لم يكن الله - يستغفر لهم) وفي مجال التقرير: (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) وفي موضع الإصرار: (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) وبلى القران في ذلك الحديث وهاهو ذا يطفئ غلتنا بنغبة من حديث مشهور قال صلى الله عليه وسلم: (وأعلم أن أخطأك لم يكن ليصيبك)

ص: 51

وإذا استوفيت الشروط المتقدمة ولم يكن ثم مقتض لتأكيد النفي فلا داعي لهذه اللام، ويرد الفعل المضارع خالياً منها - كما في هذه الآيات:(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لأرتاب المبطلون)(وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولاجلودكم، ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون)

محمد غنيم

ص: 52

‌القصص

الطفل الضال

للكاتب الهندي ملك راج أناند

ترجمة الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

كان ذلك اليوم مهرجان الربيع، وقد خرج الناس مبتهجين في حلل قشيبة، وازدحمت بهم الطرقات، يسيرون وكأنهم حشد من الأرانب المتعددة الألوان اندفعت خارجة من أجحارها. وأغرقّتهم الشمس في بحار أشعتها العسجدية، أثناء سيرهم قاصدين السوق. فمشى البعض على قدميه، وامتطى البعض صهوة جواده، وجلس البعض الآخر تحمله مختلف المركبات.

وهرول صبي صغير، مفعم بالنشاط والبشر، وكأنه ذلك الصباح المشرق البسام يرحب بالناس في حرارة ويدعوهم بصدر رحب إلى ارتياد الحقول بأزهارها وأغأنيها.

وناداه والداه (هلم يا بني، هلم) وقد تباطأ خلفهما. كانت قد جذبته رؤية الدمى القائمة في الحوانيت المصطفة على جانبي الطريق. وأسرع الصبي الخطى صوب والديه. وقد لبت قدماه نداءيها ولما تزل عيناه تتطلعان إلى الدمى وهي تبتعد عن ناظريه. وعندما أقبل إلى حيث وقفا ينتظرانه لم يستطع كبت رغبة فؤاده على الرغم من مشاهدته نظرات الرفض الباردة التي كانت تبدو في أعينهما، والتي كأن معتاداً رؤيتها في توسل (أريد تلك الدمية).

ونظر إليه والده نظرة صارمة بعينين متقدتين، وأولته والدته - وقد ذاب فؤادها بهجة ذلك اليوم - نظرة من العطف، ثم ناولته أصابعها ليمسك به وهي تقول (أنتبه أمامك يا بني).

وما كد ضيق الطفل - الذي أنتابه لعدم تحقيق رغبته - يخمد في الزفرة الحارة المتصاعدة مع أنفاسه وهو ينادي والدته بصوت متقطع، حتى امتلأت عيناه الشفافتان بهجة ما بدا أمامه. كانوا قد تركوا الطريق وغباره، ومشوا في حركة التفاف صوب الشمال، ثم سلكوا طريقاً داخل حقل مزدهر ينبتان الخردل الباهت وكأنه الذهب السائل، أنتشر أميالاً وكأنه نهر من الضوء الأصفر يتماوج مع الريح، وتجري أمواجه لتصب في محيط الضوء اللجيني للأفق البعيد. وقامت الديار على جوانب الحقل بجدرانها الطينيه، وقد تعالت منها أصوات قطانها وصفيرها وصخبهم وهمهمتهم، ترتفع صوب قبة السماء الزرقاء وكانها

ص: 53

صوت ضحكة (سيفا) الجنونية.

ورنا الطفل إلى والديه وقد غمرته البهجة والإعجاب بتلك الغابة الشاسعة. وبدا له كأنما أشرقت السعادة على محياهما، فترك الطريق، واخترق الحقل، يعدو ويطفر وكأنه المهر.

كانت جموع من اليعاسيب تطن بأجنحتها الشفافة الأرجوانية وتترقب تحليق نحلة سوداء منفردة أو فراشة تبحث عن رحيق شذى من أعماق الزهور. وتبعها الطفل بناظريه، وحاول أن يمسك أحدها وقد طوى جناحيه. ولكن سرعان ما فردهما وحام في الهواء. وقامت نحلة سوداء جريئة باستهوائه بطنينها حول أذنيه حتى تتجنب القبض عليها، أن تستقر على شفتيه لولا أن نبهته والدته قائلة (هلم يا بني، هلم، تعال إلى الطريق).

وقصد إلى والديه مبتهجاً، وسار معهما جنباً إلى جنب. ثم إذا به يتركهما وقد جذبته رؤية الحشرات والديدان تسعى على طول الطريق، وقد خرجت من مخابئها لتتمتع بأشعة الشمس.

وناداه والداه وقد جلسا على حافة بئر، يتفيآن ظل دغل، فجرى صوبهما، كانت شجرة التين قد بسطت أذرعتها القوية على الأهليج المزدهر وغيره من النباتات، وألقت بظلها على أحواض الزهور الذهبية والقرمزية، وكأنها جدة بسطت ذيلها على أحفادها الصغار. وقامت البراعم بعبادة الشمس وقد كشفت قليلاً عن أوراقها في حياء. واختلط العبيق الشذي بحبوب لقاحها بالنسيم العليل يهب بين الفينة والفينة.

وتساقط فيض من الزهور الصغيرة على الطفل عندما أتى الدغل، فنسي والديه وأخذ يجمع بين يديه أوراقها المنهملة كالمطر. ولكن. . ما هذا!؟ لقد سمع هديل الحمام، فأسرع إلى الخطى صوب والديه هاتفاً (الحمامة! الحمامة!) وسقطت أوراق الزهور العديدة من يديه المتخاذلتين، وبدا على وجه والديه نظرات الاستغراب والفضول وهتفا يناديان الطفل (تعال يا بني، تعال).

كان الصبي قد ذهب يعدو في طفرات جنونية حول الشجرة فانضموا إليه، ثم سلكوا الطريق الضيق المنحني الذي يؤدي إلى السوق. واستطاع الطفل عند وصوله أن يشاهد العديد من الطرق تعج بالناس القادمين إليه.

ونادى بائع على ما يعرضه من الحلوى، وهو قابع في ركن من أركان السوق، واحتشد

ص: 54

الناس حوله وقد قامت تحت أقدامه أكوام منتظمة من الحلوى الملونة المزكرشة بأوراق مذهبة ومفضضة وحدق الطفل فيها وقد اتسعت عيناه وسال لعابه من رؤيته حلواه المفضلة (البوفي)، وتمتم في بطأ قائلاً (أريد البوفي). ولكنه كان يدري أن هذا الطلب لن يلقى أذناً صاغية، فقد يقول عنه والده أنه شره ولذلك أبتعد دون أن ينتظر أية إجابة.

ونادى بائع الزهر على باقته المختلفة، وبدا الطفل كأنه جذب بالشذى الدائم الذي أتى إليه سابحاً على أجنحة النسيم الواهن. فذهب صوب السلة حيث ترقد باقات الزهور وتمتم قائلاً:(أريد تلك الباقة). ولكنه كان يعرف جيداً أن والديه سيرفضان شراءها، فقد يقولون أنها زهور تافهة، ولذلك تحرك مبتعداً قبل أن ينتظر أجابتهما.

وأمسك رجل بعمود خشبي تدلت منه بالونات تتطايح بألوانها المتعددة، فمنها الأصفر والأحمر والأرجواني، ودهش الطفل من جمال ألوانها وكأنها قوس قرح. وغمرته رغبة جارفة في امتلاكها جميعاً. ولكنه كان يدرك تماماً أن والديه لن يبتاعاها له، فسيقولان أنه أكبر من أن يلعب بمثل هذه الألعاب، ولذلك سار مبتعداً عنها.

ووقف مشعوذ يصفر بمزماره لأفعى تتلوى في سلة، وقد أرتفع رأسها في انحناءة لطيفة وكأنها عنق إوزة. وانسابت الموسيقى إلى أذنيه الخفيفتين وكأنها خرير مسقط ماء صغير. وكاد الصبي أن يتجه إلى والديه لولا أنه كأن واثقاً أن والديه سيمنعانه عن سماع مثل هذه الموسيقى الفظة، فتابع سيره مبتعداً.

وكانت هناك عجلة دائرة في أبان حركتها محملة بالرجال والنساء والأطفال وهي تتحرك بهم حركة سريعة. وشاهدهم يتصايحون في ضحكات جزلة، وراقبهم يدورون ويدورون وقد علت شفتيه ابتسامة حياء زاهية. وعينيه تتماوجان مع حركة العجلة، وفغر فاه دهشته وقد بدأت العجلة تهدئ من سرعتها تدريجياً. ووقف الطفل مذهولا وإصبعه في فمه يشاهدها وهي تقف. وفي هذه المرة - وقبل أن ينطفئ شوقه الشديد بذلك الإصرار الأبدي على رفض كل طلب له - قال في جرأة (أريد أن أركب العجلة الدائرة، أرجو يا أبتي، وأنت ياأماه) فلم يسمع أي جواب وتلفت ينظر إلى والديه فلم يجد لهما أثراً.

وانفلتت من حنجرته الجافة صيحة مدوية عميقة، وفجأة أندفع يجري وهو يصيح في رعب (أبي، أمي) وانهملت الدموع من عينيه، غزيرة جارفة. واختلج وجهه الممتقع خوفاً، وعدا

ص: 55

وقد تملكه الفزع، من ناحية إلى أخرى، في شتى الاتجاهات، دون أن يدري أين يذهب. ونشج بالبكاء وهو ينادي (أماه، أبتاه) وقد تبللت حنجرته بما أبتلعه من لعاب، وانحلت عمامته الصفراء، وثقل جسمه الخفيف، وصار ككتلة الرصاص، بعدما ابتلت ملابسه بما تصبب من جسمه من العرق وما أختلط بها من غبار.

وبعد أن هرول هنا وهناك مقهوراً على أمره، وقد تحول صوته إلى عويل. وشاهد عن بعد، خلال عينيه وقد علتهما طبقتان شفافتان من الدمع، رجالا ونساء راقدين على العشب الأخضر، يتحدثون ويتسامرون. وحدق فيهم بين رقع ملابسهم الصفراء اللامعة، لعله يشاهد أثراً لوالدته أو والديه بين أولئك الناس، وقد بدا المرح على ملامحهم، يتحدثون ويضحكون لمجرد الضحك والحديث وجرى لفي حرارة مرة أخرى، وقصة حرم معبد احتشد فيه الناس. كانت كل بقعة من الأرض تموج بالناس، وعدا بين أرجلهم، وكانت صيحاته الصغيرة تنادي لهفة (أماه، أبتاه) وازردادت كثافة الحشد قرب المعبد. كان الناس يتدافعون بالمناكب، رجال ثقلاء بأعين لامعة من الغدر وأكتاف ثقيلة. وجاهد الطفل يشق طريقه بين أقدامهم، ولكن كانوا يدفعونه هنا وهناك بمخالبهم المتوحشة. وكادوا أن يطئوه بأقدامهم لولا أنه صرخ يقول في صوت جوهري (أبتاه، أماه) فسمعه رجل منهم وانحنى في مشقة ورفعه بين ذراعيه.

وسأله الرجل وهو ينأى به بعيداً عن هذه الكتل المتراصة (كيف جئت إلى هنا يا بني؟ أبن من أنت؟).

وبكي الطفل في مرارة زادت عن ذي قبل وصاح قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).

وحاول الرجل أن يهدئ من روعه فأخذه إلى العجلة الطائرة وقال له وهو يقترب منها (ألا تود أن تجلس على أحد جياد العجلة.؟)

وخرجت من حنجرة الطفل آلاف النشجات المدوية، ولم يجب إلا بقوله صائحاً (أريد أمي، أريد أبي).

واتجه الرجل صوب المكان الذي لا يزال المشعوذ يصفر فيه بمزماره إلى الكوبرا الراقصة وقال في رجاء (استمع إلى هذه الموسيقى الساحرة يا بني) ولكن الطفل صم أذنيه وصاح (أريد أمي، أريد أبي).

ص: 56

وحمله الرجل إلى مدخل المدينة، وكان لا يزال يشفق على الطفل ويرغب في الترفيه عنه، ووقف أمام بائع الزهور وقال له (أنظر، ألا تود أن تشم شذى هذه الزهور اللطيفة يا بني؟ ألا تريد باقة تضعها حول عنقك؟).

وأبعد الطفل أنفه عن السلة وردد نشيجه قائلاً (أريد أبي، أريد أمي).

وظن الرجل أنه قد يبتهج الطفل وتذهب عنه كآبته لو أهداه قطعة من الحلوى، فأخذه إلى البائع وسأله (ما الذي تختاره من هذه الحلوى يا بني؟).

ونحى الصبي وجهه عنها وبكى قائلاً (أريد أبي، أريد أمي)

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 57