الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 837
- بتاريخ: 18 - 07 - 1949
11 - أمم حائرة
الإيمان بالله
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية
قوام العقائد الصحيحة، ونظام السير القويمة، وعماد الحياة الروحية السعيدة، ومدد كل خير، ومنبع كل طمأنينة، ومصدر كل سعادة، والهادي إلى الصراط المستقيم، والسنن القويم، والمنير في ظلمات الحياة، والدليل في مجاهلها، والجامع ما ظهر وما بطن من حقائق العالم، والمجلي لما جل ودق من مواهب الإنسان - هو الإيمان بالحقيقة العظمى، حقيقة الحقائق، ومركز الدائرة من الخلائق، الحقيقة التي نطق بها الكون مفصحاً ومعجماً وصريحاً ومجمجماً، وتكلم بها الإنسان ضالا ومهدياً، وسعيداً وشقياً، وقرأها القارئ والأمي، وبصر بها البصير والضرير، وأعرب عنها الناطق والصامت، وتحدث بها المتكلم والساكت، وأقر بها المنكر وهو لا يدري، واعترف بها الجاحد وهو لا يشعر، والتي ظهرت حتى بهرت، واستسرت حتى حيرت. وهي من فضائلها ظاهرة للمتوسمين، وفي ظهورها خافية على الغافلين. الحقيقة التي تخترق كل حجاب، وتدخل من كل باب. ويبين عنها النور والظلام، كسواد المداد وبياض القرطاس، لا تدري أيهما أدل على المكتوب، وأهدى إلى المحجوب، وكالليل والنهار، في نظام الشهور والأعوام، من النور والظلام، فيهما يسير الزمان، ويستمر الحسبان.
ذلكم الإيمان بالله جل وعلا.
(تسبح له السموات والأرض ومن فيهنَّ وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لاتفقهون تسبيحهم.)
الأيمان بالله حياة النفوس وقوامها. يجمعها ويدفعها ويصلها بالكون العام، والروح الشامل، فينظم قواها، ويحكم ملكاتها، ويشرف بها على العالم، مسيطرة عليه، نافذة إلى أسراره، مسخرة لقوانينه لا تتفرق أجزاء متخاذلة، ولا تسقط أهواء متهافتة، ولا تضطرب مطامع ومخاوف، يجذبها ميل ويدفعها آخر، وتقدم بها رغبة، وتصدها رهبة، بل تضئ سريرتها،
وتصفو بصيرتها، وتستقيم سبيلها، وتبين غايتها.
والإيمان بالله العظيم، وذكره والاتصال به، تملأ النفس عظمة وقوة، وتصغر أمامها الأهوال، وتذلل العقبات، فتنطلق كأنها إرادة الله في خلقه، وقدره في عباده. ولله من عظماء خلقه أقدار. يسلطهم ويمكنهم، فإذا هم ينشئون الأجيال، ويخلقون الإعصار. لا يعتلون بالزمان والمكان، ولا يفرقون بين اليسير والعسير، والبعيد والقريب، يصدق الله أقوالهم، ويبر أقسامهم. ويقسم بأيديهم أرزاقه، ويصرف بعزائمهم أقداره. بصرهم الإيمان، وأضاء لهم العقل والوجدان. . . لولا الإيمان بالله ما اهتدوا ولا قدروا، وما جاهدوا وما صبروا.
الإيمان بالله الواحد السلام، يوحد النفس ويملؤها سلاماً ووئاماً، وألفة ونظاماً، فتدرك الالتئام في الحق والخير والجمال والحب، وتعرف التنافر في الباطل والشر، والقبح والبغض. فتسير على الأرض سلاماً يهدي إلى السلام، ونظاماً يدعو إلى النظام، وجمالا يهفو إلى الجمال، وحباً يرشد إلى الحب.
وما أحسب الشر وما يتصل به في هذا العالم إلا قلقاً وتنافراً أو سبيلاً إلى القلق والتنافر. ولا أرى الخير وما هو منه بسبيل إلا سكينة وائتلافاً، أو وسيلة إلى الائتلاف والسكينة. وإذا لم يوحد النفس الإيمان، تنازعتها أصنام من آلهة أو أهواء، وتجاذبتها أوثان من أرباب أو مطامع، فلم تلتئم في نفسها، ولم تعرف الالتئام في غيرها.
ذلكم مبدأ الضلال والهدى، والشقاء والسعادة.
والإيمان بالله الذي لا يحده زمان ولا مكان، يطلق النفس من قيودها، ويخرجها من حدودها ويرفعها على الزمان والمكان، فإذا هي، فيما تحب وتكره، وفيما تأتي وتذر، سنة من سنن الله لاتحول، وقانون من قوانينه لا يزول. فتستكبر على الشهوات المحدودة، والنزعات الضيقة، ولا تبالي المنافع والمضار الخاصة، فيسمى الإنسان لنفسه ولأسرته ولطائفته وللناس جميعاً، على قوانين الحق العامة، وسنن الخير الشاملة، لا يسعه غيرها، ولا يتسع هو لغيرها. وكذلك يعلو على الأهواء والعصبيات والنزعات والنزغات المتزاحمة المتصادمة، المتنازعة المتقاتلة، المنفرة المفرقة، المهلكة المدمرة. إنما انتصاره للحق والحق لا يتغير، وتحيزه للعدل والعدل لا يتعدد. فهو في توحيد من إيمانه، ومن عقله ووجدانه، ومن قوله وفعله، في سره وعلنه.
إذا أضاء الإيمان بالله في سرائر الإنسان، وعمل في نفسه فجمعها ورفعها ووصلها بالحق والخير، وعظمها وقواها، وأحكم قواها، ووحدها وملأها سلاماً ووئاماً، وحباً للحق والخير والجمال، ثم أطلقها من قيودها، وأخرجها من حدودها، عملت جاهدة مصلحة راضية صابرة، وأدركت اللذات الروحية وأنست بها، وسكنت اليها، وكلفت بالسلام والوئام، وبكل ائتلاف واتفاق، ونفرت من كل اضطراب واختلاف، وتفرق وتنافر.
وقد جاء في بعض الآثار أن يتشبه المخلوق بخالقه، أو يتخلق العبد بأخلاق ربه. فهذا هو التشبه والتخلق. يسير الإنسان من الخاص إلى العام، ومن المقيد إلى المطلق، ومن المتغير إلى الثابت، ومن الجزئيات إلى الكليات، ومن الأحداث الفانية إلى الباقيات الصالحات، حتى يكون كأنه سنة من سنن الله في خلقه، وشريعة من شرائعه في عباده. وإذا نزعاته وشهواته مهجورة إلى الخير العام. بل نزعاته وشهواته في الخير العام، ولذته وطمأنينته في صلاح الناس كلهم، وانتظام العالم جميعه.
وإن لم يكن هذا هو الفناء في الله كما قال الصوفية فليس بعيداً منه، وإن لم يكن هو البقاء بعد الفناء في طريقتهم فليس نائياً عنه.
عبد الوهاب عزام
المتنبي
للأستاذ راجي الراعي
تمر الأجيال بالمتنبي فلا تجسر أن تلقي عليه ستار النسيان وتتابع السير في طريقها فيستوقفها لتنشد الشعر؛ شعره الذي نظمه كله ليرويه له الدهر فتروى له بعضه والموتى من حوله واقفون إجلالاً والخلود يلقي ظلاله وينصت فخوراً طروباً. . .
وليس من السهل أن تنطفئ شعلة أضرمها المتنبي. ومن يزر ضريحه يشهد فوقه كل يوم صراعاً دامياً بين الموت والخلود يقع بعده الموت في كل مرة قتيلاً يتشحط في دمه. . . أن الموت يخاف الشاعر العبقري ويحسب له حساب خلوده. وهو إذا أتاه أتاه مكرهاً قياماً بوظيفته التي لا تعرف الإقالة والاستقالة، وكل ما يستطيعه الموت هو أن يوقف حركة القلب الواحد الخفاق في صدر الشاعر العظيم. أما القلوب الأخرى التي يحملها فتظل على الرغم من الموت والفناء حية نابضة في صدور قصائده. . .
هاهو ذا المتنبي الذي قال الشعر لينشده الدهر، يقف أمامي في ساحة الموت في نبوته التي لم تشهده نبياً أتحدث إليه أو أتحدث عنه كأن ابن أبي جهل لم يضربه تلك الضربة التي حسبها قاضية ولم تقض له أمراً. . . وإذا كنت قد فكرت في المتنبي وناديته في عالم الأرواح لأراه واحييه وأقول كلمتي فيه والناس لا يحتفلون بذكراه التي مضى يومها، فذاك لأني لا أحب أن أتقيد بما يتقيد به الناس وهم يحتفلون بموتاهم ويحددون لاحتفالاتهم البرامج والمواعيد. فالميت الحي الكبير ماثل أمامي في كل حين أناجيه ويناجيني. وليس للمتنبي يوم خاص لذكراه ثم تطوى صفحته، إن له علينا حقه الكبير كلما أشرقت هذه الشمس وغابت بالأشعة من شاعريته. ومن أخلص لمن أحبه وقد هيل عليه التراب دفعه الحب والوفاء إلى رفع الغطاء عن ضريحه بين الحين والحين ليرى وجهه ويشعره أن يد الموت قد قصرت عنه. . .
وبعد فمن هو المتنبي؟ من يكون هذا الجبار الذي تهيبه الردى فارتد عنه؟ إنه يطربنا، فما هو هذا الذي يطربنا به؟ وهل كل ما فيه يطرب؟ وكيف رفع بناءه؟ وهل من صدوع في ذلك البناء؟ وما هي وأين هي؟ ما هي نقطة الاحتراق التي التقت فيها أشعته؟ قال بعضهم إنه أشعر الشعراء؛ ولكنني لا أذهب إلى هذا الحد، فلا محل لأفعل التفضيل. كتاب الشعر
ودولة الشعر لا تعرف لها ملكاً واحداً؛ وإنما هي عروش وإمارات متفرقة. وصولجان الشعر أكبر وأرفع من أن تقبض عليه يد واحدة ولو كانت يد هوميروس. . .
لكل شاعر لونه وصوره ومجاله؛ والألوان والصور والمجالات كثيرة، فما هو مجال المتنبي؟
هو شاعر القوة والطموح والكبرياء، يطاعن خيلاً من فوارسها الدهر، ويقدم إقدام الأتي كأن له سوى مهجته، ويعلن أنه (إذا قال شعراً أصبح الدهر منشدا) وأن (الخيل والليل والبيداء تعرفه والسيف والرمح والبيداء والقلم) ويجري القسمة على هواه (فله النفوس وللطير اللحوم وللوحش العظام وللخيالة السلب) وليته أبقى للخيالة غير هذا الدور ولم يدخل السلب في هذه القسمة التي تخيلتها البطولة.
هو سيد الأولمب وشقيق المشتري ورب البادية والسيف والقلم. هو القوة بكل ما فيها؛ ولكنها قوة لم تتعد عالم خياله. أرته فيما أرته النبوة؛ فلما عاد من تحليقه إلى الأرض والتفت حوله لم يجد المحراب ولا المصلين. . نبي وهم وخيال؛ غير أن هذا الطموح إلى ذروة الذرى نفخ في شعره الروح التي نهتز لها؛ ولولاها لما استطاع أن يأتينا بروائعه. . . إن الكبرياء شيء لا غنى عنه للفنان الكبير، فهو يقيم على قاعدتها تماثيله الفنية. .
هو الشاعر الذي يدور في شعره حول كلمة هي (أنا)، وقد تمركزت في رأسه وتزعمت، وللرأس زعامته، فدارت حولها الصور النفسية الأخرى. ولو أن المتنبي نظر إلى العظمة دون أن ينظر إلى نفسه لكان شعره أبلغ أثراً في النفوس، فكلمة (أنا) وإن نبعت من أعماق طبيعة الإنسان لا يلتف حولها الخلق، وهي تشير إلى المتكلم، التفافهم حول العظمة العامة الشاملة. . . إن تغنيك بعظمتك شيء وتغنيك بالعظمة شيء آخر. . وقد خيل إلى البعض إن المتنبي نسي تغنيه بنفسه عندما راح ينظم القصائد لسيف الدولة وضد الدولة وابن العميد وكافور، ويرفعهم بمدائحه إلى الأوج طمعاً في المال الذي كانوا يغدقونه عليه، وتسائلوا عن عظمته وهو بين أيديهم. والحق أن المتنبي أنفق الكثير من عبقريته في هذه السوق الملكية الرابحة بدلاً من أن يقول الشعر للشعر ويقيم هياكله للفن وروحانياته. غير أن من نظر إلى البيئة التي نشأ فيها والى العقيدة العربية وسلطان الملوك في عهده وقدرهم قدر الشعراء لا يرى في مدائحه لملوكه ما يغض من عظمته التي كانت تظل مكانها لو أنه
كف عن هجائهم يوم كانوا يقطعون عنه الصلات. . .
المتنبي شاعر الخيال قبل أن يكون شاعر العاطفة؛ فخياله أكبر من قلبه. إن بدائعه صور تصيبك بدوار الإعجاب، ولكنك لا تسمع فيها صراخ القلب ونحيبه. ولعل طموحه وتعاظمه شغلاه عن الدمع فلم يأت به غزيراً محرقاً، وعن دم القلب الجريح فلم يره إلا على شفار السيوف، وحولاه عن المرأة مع مالها من سلطان وصدر أرضع الشعراء في كل زمان ومكان فلم يقف عندها طويلاً، في حين إن أبياته فيها حين كانت تستوقفه في سيره إلى العظمة لا تنحط عن سائر ديوانه، بل هي أشد ما فيه روعة وقد فاض بها القلب. وهل أجمل من قوله:
تناهى سكون الجسن من حركاتها
وقوله:
أتراها لكثرة العشاق
…
تحسب الدمع خلقة في المآقي
وقوله:
نرى عظما بالبين والصد أعظم
…
ونتهم الواشين والدمع منهم
ومن لبه مع غيره كيف حاله
…
ومن سره في جفنه كيف يكتم
ولما التقينا والنوى ورقيبنا
…
غفولان عنا ظلت أبكي وتبسم
فلم أر بدراً ضاحكاً قبل وجهها
…
ولم تر قبلي ميتاً يتكلم
ليت المتنبي وقف طويلاً عند هذا الوتر من قيثارته! كان لامرئ القيس عنيزة، ولطرفة هريرة، ولمجنون ليلى ليلاه، ولجميل بثينة، ولأبنأبي ربيعه الثريا، وللبحتري علوة. أما المتنبي فقد كان عالياً على الحسناء، (علوته) العلياء. . .
ولا نرى المتنبي يشرب الكأس التي نعرفها للشاعر وخمرته وانما كانت كأسه كأساً صب فيها بدل الخمرة مجداً سكر به فلم يسأل عن الخمار والخمرة ولم يقل فيها وحولها شعراً لا سراً ولا جهراً، وكم من شاعر استعان بها لتثير ما كمن في صدره وتطلقه حمماً ومعجزات. كان شاعر الخمرة التي لا كأس لها، شاعر العروش التي لم يشأ أن يجلس عليها المرأة وهي التي تقيمها. . .
ليس المتنبي مع إبداعه بالشاعر الوجداني الروحاني؛ فاعتداده بنفسه ومزاجه وبيئته، وحبه
للمال، وبريق سيوفه وهزيم رعوده وصهيل خيوله وروعة أوتاره أقصته عن تلك الأصوات والهمسات التي تأتي من الأعماق فلم يسمعها؛ فهو يمدح ويهجو ويرثي ويصف ويفخر ويتغزل ويطلق الحكم، ولكنك لا تحس في ذلك كله تلك الخلجات والرعشات التي لا يعرفها غير الإحساس المرهف الدقيق الصارخ القاطر دماً ودمعاً، القائم بين الحيرة والاضطراب والذهول والوجد. . كان شاعر الحس والمادة لا شاعر الروح والروحانية. . وكان شاعر الحكمة التي تكاد تحتل قمة شاعريته، وكأنه شعر بذلك فقال: أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري.
إن الحكم والأمثال التي أطلقها هي الدعامة الكبرى التي قامت عليها شهرته فقد تداولها الناس وحفظوها لأنها تعبر عما تنطوي عليه صدورهم، وهي حكم وأمثال معروفة دونت قبله بأجيال فلا إبداع فيها، ولكنه عرف كيف يصوغها في قالب جديد.
إن في شعر المتنبي روعة الصور التي يجيش بها الخيال الخلاق وهو اليد التي تشير إلى العبقرية. وقول القائلين أنه سرق بعض شعره قول فيه الكثير من الجور والتعسف؛ فشاعر يأتيك بقوله:
وتكاد الظبي لما عودوها
…
تنتظي نفسها إلى الأعناق
وقوله:
كأنها الشمس يعي كف قابضة=شعاعها ويراه الطرف مقترباً
وقوله:
وخص تثبت الأبصار فيه=كن عليه من حدق نطاقاً لا تنسب إليه السرقة في الشعر. ويكفي أن يأتي الشاعر ببيت واحد يدل على الإبداع حتى يقال إن فيه منجماً من ذهب. .
على إن كل ما قذفت به أرحام المتنبي ليس بالرائع العجيب. فبينما تسمعه يقول:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه
…
لمن ادخرت الصارم المصقولا
إذا بك تقع على قوله:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
…
شيم على الحسب الأغر دلائل
وقوله:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا
…
ثم انصرفت وما شفيت نسيسا
وقوله:
لو استطعت ركبت الناس كلهم
…
إلى سعيد بن عبد الله بعراناً
إلى ما هناك من هذا الطراز.
لو كان تعاظم المتنبي سمح له بأن يضحي ببعض ما نظم لزاد عدد ملوكه وقل حجابه. . . وحبذا لو اختير الملوك في شعر المتنبي وجمعوا في قاعدة واحدة فيتجلى سلطانه على غير الوجه الذي يعرفه الناس. هذا الكتاب الذي يجمع ملوك المتنبي وجواهره دون الحجاب والأصداف تطالب به المكتبة العربية وهو روح ديوانه! وهو ديوانه الحقيقي الذي لا أرى له في غيره روقين ينطح بهما النجوم ودهراً يروي له القصائد وينشد. . .
راجي الراعي
صور من الحياة
زلة. . .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا عجباً! وي كأن الحياة تأبى إلا أن تسخر منك - يا صاحبي - فتفسح لي مكاناً في زاوية دارك لأكتب قصة حياتك بين جدران حجرتك، أستلهم الوحي مما كان يدور هناك من عبث وسخف، وألتقط المعاني مما كان يشرق به المكان من حماقة وطيش.
خَّبرني، يا صاحبي، أي لذة استشعرتها في الكأس الأول عند أول رشفة تجرعتها من قدح الخمر؟ لا تدع قلبي يرثي لحماقتك وأنت ما تزال فتى في عنفوان العمر، ولا تذر النفس تساقط حسرات لجهلك وأنت موظف كبير تدر عليك الوظيفة ما يكفيك أنت وزوجك وأولادك. آه، يا صاحبي، لو ثاب عقلك فرجعت من غيك! إذن لأصبحت - كما عرفتك منذ سنوات - رجلاً طيب النفس هادئ الطبع رضي الخلق.
لقد عرفتك يا صاحبي، بعد أن تخرجت في كلية التجارة، شاباً كثير الدأب والنشاط شديد القوة مفتول العضل وسيم الطلعة جميل السمت، ولمست فيك توقد الذكاء ورجحان العقل وقوة الحجة، ثم ضربت بيني وبينك نوازع الحياة ومشاغل الوظيفة فما تلاقينا منذ سنوات.
أما أنت فقد تلقفتك الحياة لتلقي بك بين براثن الشهوة وتقذف بك بين براثن الشر. وقال لك شيطانك: لا عليك إن أنت ألقيت بدلوك في الدلاء فتكون قد تذوقت رحيق الحياة ورشفت رضاب اللذة واستمتعت بجمال السعادة.
إن الحياء الذي دفعك عن النساء هو الذي دفعك لتعب الكأس الأولى حتى الثمالة. وسرت حميا الخمر - أول الأمر - في مفاصلك فأحسست بالنشوة تتدفق في عروقك فتشيع المرح في أعصابك والطرب في قلبك. وخيل إليك أن في الخمر سحراً تتجاب له هموم النفس وتنزاح أعباء الروح، فطابت لها خواطرك وهدأت جائشتك: لا ضير علي إن أنا اختلست من عمري فترات أقضيها بين رفاق الحانة أسعد بحديثهم وهو طلي وأشاطرهم الكأس وهي لذيذة، وأنا أجد فيها شفاء من رهق الحياة ودواء من هموم العيش وجلاء من صدأ العقل. ولكن الخمر جذبتك إليها في شدة وعنف فما استطعت أن تنصرف عنها. يا لحماقتك يا من تضع قدميك عند حافة الهاوية ثم تطمع أن ترتد عنها قبل أن تبلغ القرار.
لقد كان راتبك يربو على حاجات عيشك، ومتعة نفسك، ولذة قلبك. ولكن الخمر قد سيطرت عليك فسلبتك مالك، واستنفدت وفرك، فقنعت بالعيش الخشن، واللباس الوضيع، والحياة المضطربة، ثم شعرت بضيق ذات اليد، فتعرفت على (فلان بك)، وهو فتى في مثل سنك من أبناء الذوات، يغمره الثراء ويفهق جيبه المال، ولصقت به في غدوه ورواحه، تشاركه عبثه ولهوه، وتشاطره هزله وجده، وراقه حديثك وطرب له، فصاحبك وسكن إليك. ووجدت أنت في ماله دريئة تقيك ثمن الخمر وهو باهظ، وتزيح عنك تكاليف اللهو وهي ثقيلة، ثم انحطت همتك، وسفلت رجولتك، ففتحت له بابك، وأفسحت له مكاناً بين زوجك وأولادك ليقضي هناك لياليه في عبث ومجون وقد لعبت الخمر بعقله وهتكت عنه أستار الخجل وسلبته نعمة الحياء. ثم مرت أيام وإذا رفيقك - سعادة البك - يحس بثقلك ويضيق بشهواتك ويضن عليك بماله، ثم راح يدفعك عنه - بادئ ذي بدء - في رفق ولين، ويفر من صحبتك في لباقة وذوق. ثم ضاق بك مرة أخرى فانطوى عنك وأنت تطلبه وينفر منك وأنت تتلمسه، ثم طار عنك فما عدت تراه ولا تسعد بماله.
ونظرت حواليك فإذا سعادة البك قد ضربك بالقلى والهجران وصفعك بالاحتقار والازدراء، وإذا راتبك لا يكفيك إلا أياماً. لقد خذلك رفيق اللهو وان الذكاء ليتألق في ناظريك، وإن الحيلة لتضطرب في خيالك، وأنت موظف كبير في مصلحة الضرائب. وركبك شيطان الخمر وشيطان الحاجة معاً حين عز عليك ألا تجد ما تنفقه في ملذاتك التافهة، وألا تجد ما تسد به طلبات زوجك وأولادك، وخشيت أن تنهار حياتك في المنزل وأن تبدو على أولادك سمات الذلة والمسكنة، فانطلقت تريد أن تتلمس فرجة تنفذ منها إلى رغبات نفسك ورغبات الأسرة.
وخلوت إلى نفسك تحدثها حديث شهواتك والشيطان من ورائك يوسوس لك ويزين الشر في عينيك، ورأيت في مصلحة الضرائب فجوات يستطيع المرء أن ينفذ منها إلى المال في غير مشقة وأن يبلغ الثراء من خلالها في غير جهد، ولكنك نسيت أنها فجوات لا يسترها إلا الرياء والمداهنة، ولا يداريها إلا المكر والخداع، ونسيت أيضاً أنك إن واريت الجيفة التراب لم تستطع أن تكتم رائحتها النتنة أن تفوح فتملأ الخياشيم فتتقزز لها النفس ثم غدوت تجمع حواليك أصحاب رءوس الأموال من التجار والصناع تناقشهم في يسر
وتخضع لهم بالقول وتتبسط معهم في الحديث حتى أنسوا إليك. لقد كان الواحد منهم - من قبل - يخشى وطأة قلمك ويرتعد لحدة ذكائك ويشفق من سلاطة لسانك ويفزع من جفوة حديثك. أما الآن فقد أنفتح الباب ولان الحاجب و. . .
وهمست الألسن بكلمات، وطارت شائعة بين موظفي مأمورية الضرائب انك - لأمر ما - نزلت عن جفوتك ونأيت عن غلظتك وجمعت كبار التجار والصناع في مكتبك تحبوهم بعطفك وتسبغ عليهم من رقتك وظرفك.
وجاءك - ذات مرة - تاجر أجنبي من كبار التجار يساومك لترفع عن ظهره الرقيق سوط المصلحة وهو جاف غليظ ويوحي إليك أنه يريد أن يدفع ثمن رأيك وجاهك، فوعدته. . . وجلس التاجر أمامك في صمت وأمل ليرى ما عساه أن يكون. وأمرت أنت فجاءك موظف شاب سمهري القوام مرفوع الرأس علامة الكبرياء، ثابت الخطوة علامة الثقة بالنفس، تتأجج في عينيه نار الذكاء وتبدو على قسمات وجهه علامات الفطنة وتتوثب حركاته نشاطاً وحياة وهو - إلى ذلك - جميل الطلعة طلق المحيا أنيق اللباس من أثر النعمة والثراء. . .
جاء الموظف الشاب يتأبط أوراقاً وفي رأيه انك تسهلت بعد صعوبة، ولنت بعد صلابة، وأسلست بعد شماس، ونظر فرأى التاجر إلى جانبك فبدا له ما تكن نفسك، وآذاه أن تحدثه في شأن من شئون العمل وهذا التاجر الأجنبي يسمع ويرى، ولكنه صبر على مضض وسكن على غيظ، وبدأت أنت تحدث الموظف الشاب بقولك:(ماذا فعلت - يا بني - بهذا الملف) فقال في هدوء: (يا سيدي، لقد انتهيت من فحصه وربطت عليه الضرائب، والأمر الآن في سبيل التنفيذ). فقلت أنت: (ولكني أريد أن تجيل بصرك ورأيك فيه مرة أخرى، لأن التاجر يشكو عنت المصلحة وغلوها فأجابك (لا سبيل إلى ذلك، فالعمل من ورائي يستحثني وقد خلصت من هذا الأمر منذ زمان) فقلت له في غلظة (ولكنني آمرك) فنظر إليك الموظف الشاب في احتقار ونفضك في مهانة ثم قال لك (تأمرني، نعم، لأنك رئيسي، ولكنني لن أطيع أمرك) فنهرته في شدة قائلاً (ماذا؟ ماذا تقول؟ كيف؟ إنني آمرك ولابد أن تطيع) فألقى الموظف الشاب أوراقه على مكتبك وخرج من لدنك وهو يقول (هذا هو الملف خذه، افعل به ما تشاء. أما أنا فسأعرض الأمر على سعادة المدير العام!) وسقط في
يدك، يا صاحبي، حين ألقى الموظف الشاب عليك درساً عنيفاً قاسياً لن تنساه أبداً، لأنه أمتهنك أمام التاجر الأجنبي ولأنه سخر من أمرك وعبث برغبتك، فما فاستطعت أن تفعل شيئاً.
الآن برح الخفاء واستحالت الهمسات إلى كلام يسمع، تتناقله الألسن في نواحي المصلحة ويتشدق به صغار الموظفين، فما لبث أن بلغ مسمعي المدير العام. وذعر المدير للخبر وعجب أن يرتدغ في هذه الحمأة موظف في المصلحة ذو رأي ومكانة. وتحدث إليك بالأمر فما استطعت أن تنكر وأمامك الموظف الشاب يرمقك بنظرات يتطاير الشرر من خلالها. وترفق بك المدير فأرغمك على أن تترك المصلحة كلها في أقرب وقت.
ولفظتك المصلحة لتلقي بك في زاوية من وزارة المالية وان رائحة النتن لتفوح من بين مخا زيك، وأصبحت مفتشاً بالمالية. والمفتش في رأي الحكومة موظف واهي الهمة أو وضيع الكرامة لا يستطيع أن ينهض بعمل ولكنه يعتاص عليها أن تقذف به إلى الشارع لأن القانون يحميه، وهو - دائماً - يكتب التقارير لتلقى في سلة المهملات.
والآن، يا صاحبي، لقد انثلمت كرامتك ولوثت الأقذار ذكرك من اثر الإدمان على الخمر، ولكنك ما تزال تأنس إلى الشراب وتطمأن إلى الكأس، فعمى بصرك عن حاجات البيت فهذه زوجك تضيق بك لأنك تنفق جل مالك في التافه الوضيع وتغضي عن رغبات نفسها، ولأنك - دائماً - محطم الأعصاب ثائر النفس كثير الشغب في المنزل وفي الديوان وفي الشارع. وإن أولادك ليفتقدون عطفك أحوج ما يكونون اليه، ويفتقدون مالك حين يحسون الضياع والشقوة وإن شهواتهم لتدفعهم إلى اللباس الأنيق والطعام الشهي والى الحلوى واللعب فلا يجدون شيئاً منها، ويفتقدون عقلك حين تترنح في فناء الدار من أثر الخمر، ويفتقدون الهدوء حين يعج المنزل برفاق السوء.
فهل تستشعر - يا صاحبي - اللذة في الكأس أو تلمس السعادة في الشراب؟ إن قلبي يرثي لحماقتك وإن نفسي تساقط حسرات لجهلك، لأنني عرفتك يوم أن كنت فتى متوقد الذكاء راجح العقل قوي الحجة تفور شباباً وقوة وجمالاً. . .
كامل محمود حبيب
خليل مطران
1871 -
1949
فجع العالم العربي بأفول نجم لامع في سماء الشعر والبيان، شغل الناس أكثر من نصف قرن بشعره الطريف الجديد. ولد خليل مطران سنة 1871 في بعلبك ونشأ تحت سماء سورية بين أوديتها الخضراء وجبالها البيضاء وبحرها الصافي وأمواجه المتدفقة وصخوره الناتئة، فكان لذلك كله الأثر البين في صقل خياله وتغذية روحه ووجدانه بالعواطف النبيلة والجمال العبقري. ثم قدم مصر سنة 1892 وهو ما يزال في فورة الشباب فشب وترعرع بين آثار المدينة القديمة وأهرام مصر الخالدة، فهو شاعر بعلبك والأهرام، تغنى بوطنيه في قصائده الرائعة. وهو إذ يذكر بعلبك وآثارها، إنما يذكر أيام الطفولة المرحة والحياة الطروبة، ويحن إلى وطنه الأول ومسقط رأسه. استمع إليه في قصيدة (بعلبك) يصف آثارها وقلعتها ويتذكر طفولته:
إيه آثار بعلبك سلام
…
بعد طول النوى وبعد المزار!
ذكريني طفولتي وأعيدي
…
رسم عهد عن أعيني متواري
يوم أمشي على الطلول السواجي
…
لا افترار فيهن إلا افتراري
نزقا ًبينهن غراًلعوباً
…
لاهياً عن تبصر واعتبار. . .
إلى آخر هذه الأبيات الوجدانية الرقيقة.
وهو إذ يتغنى بمصر وطنه الثاني، إنما يتغنى بمجدها التليد وأهرامها المجيدة ونيلها السعيد وسمائها الصافية ويثني عليها وعلى كرم ضيافتها ونبل أخلاق شعبها العريق. استمع إليه يقول:
يا مصر أنت الأهل والوطن
…
وحمى على الأرواح مؤتمن
أي الديار كمصر ما برحت
…
روضاً بها يتقيد الظعن
فيها الصفاء وما به كدر
…
فيها السماء وما بها غضن
مصر التي أخلاق أمتها
…
زهر سقاه العارض الهتن
فهي التي عرفت مروءتها
…
أمم ويعرف مجدها الزمن
ويقول من قصيدة (تحية الشام لمصر):
فحباً أيها الوطنان إني
…
وسيط العقد في هذا النظام
بلادي لا يزال هواك مني
…
كما كان الهوى قبل الفطام
قدم خليل مطران مصر وعرف صاحب الأهرام واشتغل مدة في تحريرها، ثم أصدر جريدة الجوائب، وأنشأ أيضاً المجلة المصرية، واشترك في تحرير المؤيد واللواء، وناصر المرحوم مصطفى كامل في جهاده المجيد، وأتقن دراسة الأدب العربي قديمه وحديثه، كما أتقن الأدب الفرنسي مما أثر في نزعته الثورية ألي التجديد في الشعر إلى أبعد حدود التأثير. ولم تشغله صناعة الأدب، عن أعمال ليس لها صلة بالأدب، وهو في أثناء ذلك كله لم ينقطع عن نظم الشعر والتأليف المسرحي وترجمة المسرحيات. وقد تولى إدارة الفرقة القومية زهاء سبع سنوات.
ولا يهمنا في دراسة خليل مطران تلك الدراسة العاجلة إلا الناحية الشعرية منه وان كانت آثاره جميعا جديرة بالدراسة العميقة. خليل مطران صاحب مدرسة حديثة في الشعر العربي، فهو أول شاعر ثار على أساليب المدرسة التقليدية، وجاهر بمذهبه الجديد في الشعر ورأى أنه المذهب الذي سيسود في شعر المستقبل حينما أصدر ديوانه الأول؛ لأنهذا الشعر كما قال (شعر الحياة والحقيقة والخيال جميعا).
نهج خليل مطران نهجاً جديداً في نظم لشعر ونادى بمذهبه حيث قال (اللغة غير التصور والرأي، وان خطة العرب في الشعر لا يجب حتماً أن تكون خطتنا، بل للعرب عصرهم ولنا عصرنا، ولهم آدابهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم ولنا آدابنا وأخلاقنا وحاجاتنا وعلومنا؛ ولهذا وجب أن يكون شعرنا ممثلا لتصورنا وشعورنا لا لتصورهم وشعورهم، وان كان مفرغاً في قوالبهم محتذياً مذاهبهم اللفظية). بهذا الرأي الجريء الغريب نادى خليل مطران ودعا إليه؛ بينما كان شعراء مصر في ذلك الحين يتورطون في شعر المديح والتهاني يرفعونه إلى السدة العلية والأعتاب السنية.
ومن هنا كان شعر مطران ومذهبه في النظم نقطة تحول في تاريخ الشعر العربي وانقلابا بعيد المدى، فهو بحق شاعر العربية الإبداعي، يمر شعره على أوتار القلوب فيحركها ويهز الوجدان ويثير العواطف.
(فمطران أول من عمل على إخراج الشعر العربي من نطاق الذاتية والفردية إلى باحة
الموضوعية وميدان الحياة. وهو أول رائد خرج على الطريق الاتباعية الكلاسيكية إلى الطريقة الإبتداعية الرومانتيكية وأن ساير الاتباعية غالبا في الأسلوب. وهو أول من أثر في شعراء الشرق سواء باتجاهاته أو شاعريته). ولعل السبب في ثورة مطران على الطريقة التقليدية في نظم الشعر هو إن هذه الطريقة وذلك اللون من الشعر التقليدي اصبح لا يعبر عن العواطف تعبيراً صادقاً ولا عما يعتلج في النفس من أحاسيس، وزاده إيماناً بذلك ثقافته الأجنبية ولاسيما في الآداب الفرنسية وهي أغنى الآداب الأوربية بالشعر العاطفي الوجداني ذي النزعة الإبداعية. لذلك لم يكن غريبا أن ينبذ مطران المدرسة القديمة العتيدة ولها أنصار كثيرون في مصر، ويأخذ بالمدرسة الحديثة قي نظم الشعر. ونلاحظ هنا أن كثيراً من الشعراء الذين أخذوا بهذه المدرسة الحديثة ونهجوا نهج مطران في الشعر بالغوا إلى أبعد حدود المبالغة وأصبح الواحد منهم على حد قول محب الدين الخطيب:(يظل يومه يسطو على منظومات الإفرنج يستل منها معانيها الغريبة عن الأذواق العربية فيصوغها بألفاظ وتراكيب يلعن بعضها بعضاً!! فلا يفهم منها القارئ العربي إلا بقدر ما أفهم أنا من الصيني!!) أما خليل مطران فهو وإن تأثر بالآداب الإفرنجية لا يزال عربيا خالصا في أسلوبه وتعبيره وصيغه، ومحل ما أدخله على الطريقة التقليدية في الشعر العربي هو التجديد الطريف في المعاني والأخيلة والموضوع. وقد ذكرنا أن مطراناً نفسه قال:(. . . وجب أن يكون شعرنا ممثلا لتصورنا وشعورنا وان كان مفرغا في قوالبهم (أي قوالب العرب) محتذيا مذاهبهم اللفظية).
فمطران إذن عرف كيف يستفيد من اللغات الأجنبية دون تقليد، وأن ينهج نهج قدماء العرب دون تقييد، فاحتفظ بصيغة العرب في التعبير، وأدخل أساليب الإفرنج في التأليف والتفكير.
ومن هنا نجد الفرق الشاسع بين هؤلاء الشعراء الذين يدعون (التجديد) وبين إمام المجددين خليل مطران.
وقد أدخل مطران على الشعر العربي لوناً طريفاً من ألوان التجديد وهو الشعر القصصي. وقد ثار البحث بين الأدباء عما إذا كان للعرب شعر قصصي أم لا. وأخذوا يتلمسون ذلك اللون في الشعر العربي القديم؛ ولكنا نستطيع أن نجزم أنه قبل مطران لم يكن للشعر
القصصي مكان في العربية. فمطران أول شاعر نظم شعراً قصصياً بالمعنى المعروف. ولا شك أن هذه النزعة في شعر مطران تساير نزعته الإبداعية في سائر فنون الشعر التي نظم فيها. ولعل من روائع هذه القصص الشعرية قصيدة (الجنين الشهيد) التي لا مثيل لها في الشعر العربي، وقصيدته (فتاة الجبل الأسود) و (العصفور) و (فنجان قهوة) و (نيرون) التي تعد من عيون الشعر القصصي.
ومطران واقعي في قصصه الشعري لا يحلق به الخيال في آفاق مفقودة بيننا في الحياة العادية، ولكنه يستلهم الحوادث المألوفة لنا في الحياة الواقعية ويفرغها في قالب قصصي رائع بديع.
وقصصه الشعرية تستأهل دراسة مستفيضة منفصلة عن باقي شعره؛ ذلك بأن القصص هو العنصر الفذ الذي قامت عليه شاعرية مطران.
ولخليل مطران (تجارب شعرية) رائعة أمتاز بها على المعاصرين من شعراء العصر الحديث، نذكر من هذه التجارب الشعرية قصيدته الرائعة (المساء) وقصيدته (الحمامتان) وقصيدته (الشمس والنبتة) وقصيدته (بدري وبدر السماء) التي خلع فيها على أحداث الطبيعة سمات البشرية.
ويلاحظ في شعر مطران ظاهرة واضحة هي أنه لا يعنى بالبيت منفرداً كما هي عادة العرب حيث (ينفرد كل بيت من القصيدة بإفادته في تركيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله وعما بعده) وإنما يعني مطران بالوحدة الفنية في القصيد كله، ولذلك نشعر بانسجام تام وتسلسل بديع إذا قرأنا له قصيدة من قصائده الوجدانية جملة واحدة بينما يفسد ذلك تجزئة القصيدة كما تنال من الوحدة الفنية فيه.
أما عن الخيال عند مطران فإن نشأته بين الخضرة والماء والصخور في ربوع الشام وجبل لبنان، ثم في ربوع الوادي وربى الأهرام، فتق خياله عن معان عبقرية رائعة. استمع إليه من قصيدة يستقبل بها الشام:
هذي رؤس القمم الشماء
…
نواهضاً بالقبة الزرقاء
نواصع العمائم البيضاء
…
روائع المناطق الخضراء
يا حسن هذي الرملة الوعساء
…
وهذه الأودية الغناء
وهذه المنازل الحمراء
…
راقية معارج العلاء
وهذه الخطوط في البيداء
…
كأنها أسرة العذراء
وذلك التدبيج في الصحراء
…
من كل رسم باهر للرائي
مشوش النظام في جلاء
…
منتسق بالحسن والرواء
وهذه المياه في الصفاء
…
آناً وفي الازباد والإرغاء
تنساب في الروض على التواء
…
خفية ظاهرة اللألاء
وهذه القصيدة كما يقول الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم في بحثه القيم عن مطران (تلمس فيها طبيعة الشام وتستحضر في ذهنك صورة محسوسة بين يديك عنها). وكما يقول المنفلوطي الكاتب الوجداني (يكاد يلمسك خياله ويسمعك رنين أوتار قلبه) وذلك لأن نفس الشاعر كالمرآة الحساسة ينطبع عليها كل ما يمر بها ولذلك كان الخليل شاعر الشعور والخيال.
ومن روائع شعره قوله في قصيدته الخالدة (المساء):
يا للغروب وما به من عبرة
…
للمستهام وعبرة للرائي
أو ليس نزعاً للنهار وصرعة
…
للشمس بين جنازة الأضواء
والشمس في شفق يسيل نضاره
…
فوق العقيق على ذرى سوداء
مرت خلال غمامتين تحدرا
…
وتعطرت كالدمعة الحمراء!
وهذا من رائع الوصف ورائق الشعر العربي:
ومجمل القول في مطران أنه أول شاعر إبداعي عرفته العربية. وقد أثر إلى أبعد حدود التأثير في الشعر العربي بمدرسته الحديثة التي أخلص لها وغذاها بروائع شعره الإبداعي والقصصي فالتف حوله جمهور من شباب الشعراء والأمل معقود عليهم في أن يحملوا مشعل الإبداعية في مصر بعد أن رفعته يد مطران نصف قرن تقريباً.
رابح لطفي جمعة
مراجع البحث:
بحث الأستاذ الدكتور إسماعيل أدهم عن (خليل مطران شاعر الإبداعية) في المقتطف
سنة1939.
شعراء مصر للأستاذ عباس محمود العقاد.
كتاب (نقد الشعر المعاصر) للأستاذ مصطفى السحرتي.
كتاب (رواد الشعر الحديث) للأستاذ مختار الوكيل
مقال للأستاذ سلامة موسى عن خليل مطران في مجلة الهلال.
مجلة الزهور.
ديوان الخليل.
كتاب (شوقي) للأمير شكيب أرسلان.
مصطفى كمال الزعيم التركي
بقلم الكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا
للأستاذ أحمد رمزي بك
- 2 -
كان مصطفى كمال يتمتع بعد الحرب العظمى بشهرة عامة في بلاده باعتباره بطلاً من أبطال الجندية التركية الذين أبلوا بلاء حسناً في معارك الدردنيل، وقد أعتقد الباب العالي إبان هذه الحوادث أن في بقائه باستنبول خطراً على الحالة السياسية الداخلية، ولذلك أسندت إليه وظيفة عسكرية لإقصائه إلى داخلية الأناضول، وكانت رغبتهم في التخلص منه كبيرة لدرجة أعمتهم عن تقدير ما في عملهم هذا من أن المبعد سيكون أشد خطراً في آسيا منه في العاصمة. وقد علم مصطفى كمال بخبر احتلال أزمير وهو في سمسون فكان وقعه شديداً عليه، ولذلك جمع أهالي هذه المدينة وألقى عليهم خطاباً حماسياً من أشد الخطب التي ألقاها في حياته، فأسرع الضابط البريطاني الذي كان مكلفاً من قبل القيادة العامة بمراقبة أحوال وسير الولاية في إرسال برقية إلى استنبول يطلب فيها استدعاء هذا الضابط المهيج للخواطر.
وهنا قررنا بناء على إلحاح المندوب السامي البريطاني التدخل بطلب استدعائه فقبل الباب العالي ذلك، ولكنه لاعتياده الأساليب البيزنطية لم يستدعه نهائياً، وإنما طلبه لأخذ آرائه واستفتائه في مجرى الأحوال العامة، وقد بادر أصدقائه المقيمون باستنبول إلى تحذيره من هذه الدعوة، فقرر عدم إجابتها وتنصل منها بسفره فجأة إلى أرضروم محتجاً بأن الاستدعاء الرسمي وصل متأخراً بعد قيامه.
لقد كن من الممكن إنقاذ الحالة بعمل سياسي قاطع، وكنت الوحيد بين المندوبين السياسيين الذي أبلغ حكومته وأبلغ مجلس الأربعة بباريس أن الحالة تستدعي قراراً حاسماً بعرض صلح عادل يسلم ببعض مطالب تركيا مع المحافظة على المزايا والمصالح الأجنبية التي يجب التمسك بها في أراضيها. أما حكومة الباب العالي، فقد بدأت تتردد في قراراتها وتبدو عليها مظاهر الضعف التي هي عوارض كل نظام انتهى دوره.
وبعد مضي أسبوعين على احتلال أزمير طلب مني الصدر الأعظم مقابلة خاصة سرية، فقابلته في مصيف السفارة الإيطالية بطرابيا على البوسفور، حيث أسمعني حديثاً منمقاً بالجمل التي كالها في مدح إيطاليا وما تتمتع به من المحبة في القلوب، ثم شكى إلي بشدة من وقع القرار الذي أصدره مؤتمر الصلح بالتصريح لدولة كانت في القريب تحت حكم الترك لتحتل جزءاً من وطنهم ولتستعبد وتدوس حقوق أحفاد أولئك الذين كانوا سادة لأجداد رعايا هذه الدولة. ثم قال: - ألا يفهم رجال باريس أن هذه هي الطريقة الوحيدة لأحياء روح الكراهية، وأنه إذا قامت يوماً ما مذابح من جراء اتباعكم هذه السياسة سيكون أول عمل لكم اتهمانا بها كما حدث في المائة السنة الماضية من إلصاق تهم المذابح دائماً بالترك أني أرى من واجبي تنبيهكم إلى ذلك، وتحميلكم من الآن مسؤولية ما يحدث في المستقبل.
ثم التفت إلى كمن يريد أن يبوح بسر خاص قائلاً:
- من المسلم به أنه لن يكون هناك موضع لهذه المخاوف لو كانت تقدمت دولة عظمى من الدول المحبوبة للترك وأخذت على احتلال أزمير وولايتها.
- قال ذلك منتظراً إجابة مني لم يظفر بها مدة العشر دقائق التي دامت فيها محادثتنا، والتي توقعت في خلالها ما يريد أن يقول، وأخيراً ألقى كلمته قائلاً:
لماذا لا تطلب إيطاليا عمل استفتاء بين أهالي ولاية أزمير الذين يفضلون بالإجماع أن يروا إيطاليا تحتل بلادهم بدل اليونان؟
كان فريد في ذلك مقلداً للسياسة القديمة التي أتبعها وأتقنها عبد الحميد، واستعملها لمدة ثلاثين عاماً ضد أوربا يحرك الغيرة بين دولها، ويشجع أطماعها، ويزيد في شقة اختلافها، حتى يضمن بقاء استقلال بلاده. ولكن هذه السياسة كانت علاجاً مسكناً نجح في وقته؛ أما الآن فقد انتهى ذلك العهد، ومن جهتي لم أكن واثقاً من نجاح مشروع كهذا بفرض التسليم بإمكان وقوعه، ولا واثقاً من فوائده لإيطاليا، لأن مصلحتها هي في اعتبار كل تركيا سوقاً لمصنوعاتها. أما أزمير وولايتها، فلا تصلح لنا كبلاد لتشجيع هجرة الإيطاليين إليها، لأن أهاليها أكثر انتشاراً وتناسلاً من الإيطاليين أنفسهم، ثم احتلالها مع كثرة ما سيتطلبه من التكاليف سيكون عقبة في سبيل التوسع السلمي التجاري، ذلك التوسع الذي كنت أعلق على تنفيذه أهمية خاصة.
أما الاعتراف لنا بالجميل، فكان من الظاهر أنه ينتهي بعد مضي شهر من رحيل اليونان، بل وينقلب إلى كراهية إذا أقمنا هناك.
كانت تجول بمخيلتي هذه الأفكار وقت حديثي مع الداماد، ولم أشأ أن أبوح له بشيء منها، ولكنه أخذ صمتي كأنه تحوط دبلومتي وخرج من عندي مقتنعاً بأنه وجه طعنة قوية إلى صلب الاتفاق السياسي القائم بين الحلفاء.
ولكن الأخبار تتسرب بسرعة غريبة في الشرق، حتى ما يقال في السر بين رجلين تتناقله الآذان، ويذاع بين الناس كأنه قد ألقي من على منابر المجالس النيابية في أوربا. وبالفعل انتقلت فكرة الداماد إلى آذان مصطفى كمال وأعوانه، لأن أحد رجاله حضر إلى وخاطبني باحترام قائلاً: إن أصدقاءه - ويريد بذلك مصطفى كمال - يؤملون مني ألا أشجع من جهتي مشروع الباب العالي، لأن تركيا الحديثة ترى من واجبها أن تحارب إيطاليا بنفس الشدة التي تحارب بها اليونان إذا طمعت في شطر من أراضيها.
ولم يكن في وسعي إلا أن اعجب - في داخل نفسي - من صراحة هذا القول، وارى فيه فتحاً جديداً في السياسة الشرقية لم نكن نحن في أوربا نعتاد سماعه.
وبمضي الزمن انتهى كل من زميلي الأميرال كالثروب والأميرال أميت، رغم الروح الحربية المتغلبة عليهما، والتي اعتبرها طبيعية واحترمها في الوقت نفسه، إلى التسليم بأني لم أكن بعيداً عن الصواب في إبداء رأيي بخصوص التعجيل بالصلح. ولكن الوصول بهما إلى الدفاع عن هذا الرأي أو زعزعة الفكرة السائدة لديهما كان صعباً على عقلي رجلين خرجا من الحرب وكانا لا يزالان واقعين تحت تأثير ثورة القتال. ولكم من مرة طرق بالهما أنني رغم ضعف مركزي باعتباري رجلاً ملكياً (غير جندي) لم أتأخر عن تبليغ ما أعتقد أنه حقيقة ملموسة إلى علم حكومتي.
ولكن ما فائدة أي نصيحة يبديها الآن المندوب السامي البريطاني لحكومته إذا كان تأثيرها يضيع بجانب تقارير ضباط قلم الاستخبارات الذين كثر عددهم وكثرت بالتالي تقاريرهم إلى لندرة. وأصبح أسلوبهم بعيداً عن التقاليد البريطانية الأولى المعروفة بنزعتها إلى التسامح وطول الأناة، فكثرت أغلاطهم في جو العاصمة التركية الذي أستوعب في السابق دهاء الدبلوماتية الغربية وصبر رجالها. لقد جاء أسلوبهم هذا ليعمل على ضياع الهيبة التي
كان الدبلوماتيون الغربيون يتمتعون بها في نفوس الشرقيين، إذ من الخطأ البين الاعتقاد بأن اليد القوية واستعمال العنف هي السياسة المنتجة في الشرق.
وقد كان يصعب على مثلي - الذي بدأ حياته السياسية في القاهرة، وقدر عمل أمثال كرومر وونجت، وأعجب بالتقاليد البريطانية في تسامحها وتمسكها بالحرية والعدالة - أن يسمع وهو متأثر صديقي طلعت باشا يقول بلهجته التهكمية، والابتسامة على شفتيه عن بريطانيا:
- هي ألمانيا فقط تنقصها الدقة والضبط الألمانيين.
مثال ذلك حوادث بوليس الحلفاء باستنبول، وبعضها جدير بالتدوين، لأنه في صباح أحد الأيام أخبرنا أننا قد نجونا من مؤامرة خطيرة كانت تدبر في الخفاء ضد الحلفاء، ولم نصدق نحن
- لأول وهلة - هذه الأخبار. ولكن الجنرال البريطاني قرر العمل بسرعة بمجرد علمه بخبرها، وقدم كشفاً إلى السلطات التركية يحتوي على أسماء المتآمرين وطلب القبض عليهم. وكان في الكشف ثمانية وعشرين اسماً بينهم أحد عشر شخصاً منهم يشتغلون بالسياسة ويقيمون فعلاً بأنقرة، أي بعيدون عن متناول السلطات، والباقي سبعة عشر اسماً لأشخاص غير معروفين يصعب العثور عليهم، إذ يتعذر بطبيعة الحال القبض على مثل علي أو أحمد في مدينة كبيرة مترامية الأطراف مثل استنبول.
والأغرب إن السلطات التركية لم يبد عليها أي انزعاج، بل قدمت تهانئها للجنرال، لأن رجاله تمكنوا من اكتشاف هذه المؤامرة الخطيرة، وفعلاً وعدوا بتسليم المتآمرين ونفذوا ذلك بالقبض على عدد من يدعون علي وأحمد جمعوهم من أحياء غلطة واستنبول ممن لا شأن لهم واعدموهم شنقاً. فاكتفى الجنرال بذلك وأعلن رضاءه وسحب تهديداته. . .
وقد علمت في ما بعد أن هذه المؤامرة الموهومة وضع شباكها بعض الترك وأدخلوها على رجال قلم الاستخبارات للانتقام من بعض مواطنيهم، وكان كل ذلك مدعاة للتسلية والتهكم إذا استثنينا حادث شنق الأفراد الذين ذهبوا ضحية هذا التلفيق وهم أبرياء.
إن الأخطاء التي ترتكب في سياسة أي دولة تضطر هذه الدولة أن تدفع ثمنها في الغالب غالياً. وكذلك كان الحال مع دول الحلفاء في تركيا، لأن الزعيم التركي وأنصاره لم يجدوا
بداً بعد كل هذه الحوادث من المجاهرة بعدائهم ضد الإنجليز والفرنسيين واستثنوا الإيطاليين فقط من ذلك. فما كان من الإنجليز إلا أن ازدادوا تمسكاً برأيهم وأرادوا أن يؤثروا في الترك باتخاذ هذه الطرق الشديدة.
أما الزعيم التركي، فقد باشر بحرب عصابات مسلحة تحميها قوات من الجيش المنظم الذي بدأ ينظمه في الداخل بإرادة تشهد بعبقريته المنظمة.
وبقدر ما كانت تزيد قواته المنظمة بقدر ما اتجه الناس إليه، حتىأن موظفي حكومة الباب العالي لم يعودوا يخفوا إعجابهم به وشعورهم نحوه.
وهكذا فهم الترك أن الزمان حليفهم، وأن حل المسائل المعلقة بأيديهم.
بقيت أمامنا بعد هذه الحوادث مسألة واحدة موضعاً للتساؤل، وهي ماذا ينوي الحلفاء عمله بعد أن صدقوا في المؤتمر الذي عقد في سان ريمو في أبريل سنة1921 على الشروط القاسية التي وضعت في لندرة؟
لقد وقف اللورد كيرزون عند افتتاح جلسات المؤتمر يقول:
(انه قد بولغ كثيراً في تقدير القوة التي لدى الكماليين، وليس مصطفى كمال بالعامل المهم الآن كما يحاول إظهاره بعض السياسيين) وكنت طبعاً المقصود بهذه الإشارة، لأنني داومت من روما حيث كنت أقيم في ذلك الوقت على إسداء النصيحة بعرض صلح مقبول على تركيا.
وبعد انفضاض مؤتمر سان ريمو الذي انتصرت فيه السياسة الإنجليزية على فرنسا وإيطاليا تابع لويد جورج التمسك بخطته التي سار عليها، وجاهر بثقته بها في خطبة رنانة ألقاها بلندرة في شهر يونية حيث قال: إن اليونان هي الدولة الوحيدة القادرة على تأخذ مكان الحكومة التركية في آسيا الصغرى.
وفي اجتماع هيث حيث التقى لويد جورج بميليران عرض فنزيلوس على انجلترة فكرة تعاون حكومته باستعمال الجيش اليوناني في تأديب الكماليين، وكان اقتراحه يرمي إلى توجيه قوات مشكلة من90000 جندي يوناني مزودون بأحدث الأسلحة للقيام بحركة سريعة إلى وسط الأناضول لقطع كل اتصال بين الكماليين والساحل تلجئ الأخيرين إلى التقهقر إلى الداخل، حيث يكون مصير قواتهم الانحلال والتشتت.
وكان ميليران على علم بما في هذا الاقتراح الإنجليزي اليوناني من المجازفة والأخطار، ولكنه فضل التسليم به رغبة منه في استبقاء مودة لويد جورج، وهو في حاجة إليه لتعقد الحالة على نهر الرين.
أضف إلى هذا أن نشاط الترك كان كبيراً في هذا الوقت على حدود سوريا، حيث سببوا لفرنسا مشاكل لا يستهان بها.
ولكن الوزيرين كانا في حاجة إلى موافقة إيطاليا حتى تأخذ هذه التصميمات صبغتها الدولية؛ فعقدا مجلساً لهذا الشأن بعد عدة أيام من هذا التفاهم اختاروا له مدينة بولونيا وحضرته نائباً عن إيطاليا بصفتي وزيراً للخارجية، وما أن عرضت فكرة حملة الأناضول حتى بينت لهما بشكل قاطع أوجه الخطأ في تنفيذ هذه الخطة التي لن يتحقق بها تشتيت القوات التركية، بل تؤدي حتماً إلى إذكاء الروح الحربية وتقوية عوامل القتال والوطنية لدى الأتراك وفي مدينة أسبا حيث عقد مؤتمر آخر كنت أشد تمسكاً بهذا الرأي، ولكن المؤتمر قرر قبول اقتراح فنزيلوس لسوء حظ الشعب اليوناني.
أحمد رمزي
(البقية في العدد القادم)
مالتوس
ومشكلة السكان في مصر
للأستاذ محمد محمد علي
يعتبر مالثوس أشهر من كتب في مسألة السكان، إذ أثار الرأي العام في بلاده وفي البلاد الأخرى، كما نبه إلى ضرورة دراسة السكان، فهي أساس المشكلات الاجتماعية.
وقد ألقى مالتوس ضوءاً جديداً على مسألة السكان وقد أثار هذا جدلاً واختلافاً في الرأي. ولعل ما يعنينا في مصر هو معرفة الحد الذي تتحقق عنده آراء مالتوس في مشكلة السكان في مصر. وللوصول إلى ذلك يجمل بنا أن نعرض آراء مالثوس ونظريته في السكان، ثم نلخص النقط الأساسية في مشكلة السكان في مصر.
هنالك دوافع ثلاثة حفزت مالتوس إلى وضع كتابه المشهور: هي حياته وثقافته، والعصر الذي عاش فيه، ثم آراء معاصريه. فقد كان أبوه صديقاً لجان جاك رو سو، ونشأ في بيت تسوده المحافظة على التقاليد، لذلك كان لا يعتقد في إمكان إصلاح المجتمع عن طريق الثورة. وفي كمبردج جعلته حياته الدينية يؤمن بملازمة الألم للإنسان بسبب وجود الغريزة الجنسية وغريزة البحث عن الطعام.
وكان للعصر الذي عاش فيه أكبر الأثر في تكوين آرائه، ووضع نظريته؛ إذ كانت أوربا - في أواخر القرن الثامن عشر - في حالة سيئة نتيجة الثورة الفرنسية، وإنجلترا كانت تسودها أزمة اقتصادية واجتماعية، فقد ساء المحصول الاقتصادي في الريف. وكانت الصناعة تتقدم تدريجياً وزاد السكان تبعاً لذلك، وحالت الضرائب ورسوم الجمارك دون ازدياد موارد الغذاء. كما نتج عن الاختراعات لتحسين الآلات الاستغناء عن الكثير من العمال فانتشرت البطالة وعم البؤس مما أثقل كاهل الفقراء.
وكان من نتيجة كل ذلك ظهور آراء فوضوية بغية الإصلاح. وكان من زعماء الحركة الاشتراكية حينئذ: جودرين الذي كتب بحثاً في العدالة الاجتماعية، وكان يعتقد في طبيعة الخير التي تنطوي عليها البشرية؛ وكندرسيه وكان يرى إن الإنسانية تسير نحو الكمال في عشر مراحل وإنها كادت تبلغ ذروة الكمال في عهده.
إذن فالظروف التي سادت في عصره أوحت إليه بالتشاؤم فأراد أن يحذر مواطنيه من سوء
العواقب. ثم إن آراء معاصريه لم ترقه فأراد أن يرد عليهم. لذلك وضع مالتوس كتابه وظهرت الطبعة الأولى منه 1798 بعنوان طويل اختصره في الطبعة الثانية عام 1803 ويبحث الكتاب في أربعة موضوعات:
العقبات التي تعترض زيادة السكان في الأزمنة الغابرة. ثم العقبات التي تعترض زيادتهم في الأمم الحديثة. ثم دراسة النظم المقترحة لعلاج أضرار زيادة السكان، وأخيراً عرض لآرائه ومقترحاته.
وتتلخص نظريته في السكان في نقط ثلاث:
1 -
إن عدد السكان يحدد بالغذاء، فهناك علاقة بين عدد السكان وكمية القوت.
2 -
يزيد عدد السكان كلما زادت كمية القوت إلا إذا وجدت عقبات قوية.
3 -
هذه العقبات التي تجعل ازدياد السكان متناسباً مع الغذاء هي البؤس، أي المجاعة والحرب والأوبئة، والرذيلة أي الخيانة الزوجية والعلاقات الجنسية الفوضوية؛ والضابط الأخلاقي أي تأخير الزواج مع حياة العفة. وهذا العامل الثالث أضافه في الطبعة الثانية بعد إذ أتهمه الناس بالكفر لظنهم أنه إنما ينسب البؤس والرذيلة إلى قوة إلهية.
فمالتوس يرى أن المجتمع الإنساني كالكائن الحي في حاجة دائمة إلى الغذاء. وان من العبث معالجة الفقر بالتوزيع العادل للثروة. وينسب الفقر في المجتمع إلى اختلال التوازن بين عدد السكان وموارد الغذاء، على أن السكان يزيدون على حسب متتالية هندسية والغذاء طبقاً لمتتالية حسابية. لذلك يتضاعف عدد السكان كل ربع قرن: ما لم تكن هناك ضوابط إيجابية أو مانعة. ولم يناد مالتوس بضبط النسل بل نادى بالضابط الأخلاقي.
هذا عرض عام لآراء مالتوس والظروف التي أحاطت به حين تأليف كتابه. أما عن مشكلة السكان في مصر، فقد تحدثت عنها بإيجاز في مقال سابق. وأساسها ازدياد عدد السكان زيادة لا تتناسب مع زيادة الموارد الغذائية، وسوء توزيع الثروة، وإحجام أصحاب الأموال والشباب عن خوض غمار الصناعة واستغلال الثروة المعدنية. والآن يمكن أن نتبين مدى تحقق آراء مالتوس في مسالة السكان في مصر:
لم يتضاعف عدد السكان في ربع قرن بل تضاعف في نصف قرن. وقد يكون هذا راجعاً إلى الضوابط الإيجابية وهي البؤس والرذيلة.
وزاد السكان زيادة خطيرة في حين أن الغذاء زاد زيادة بسيطة. وهنا يحسن ألا ننظر إلى المسألة بعين مالتوس، فقد قامت الصناعة في مصر وبدأت تزدهر منذ ربع قرن وذلك بفضل عاملين: الحرب العالمية الأولى، والتعريفة الجمركية وحمايتها للصناعة المحلية. وليس من شك في أن العامل الصناعي يعيش في مستوى أرفع وأرقى مما يعيش فيه العامل الزراعي، وأوضح دليل على ذلك تكوين النقابات العمالية واهتمام الحكومات بالعامل الصناعي وخاصة في (وضع الكادر) والتأمين الاجتماعي. . . ومما يبعث على الأمل إمكان ازدهار الصناعة المصرية في المستقبل، وغنى مصر بثرواتها المعدنية، وما سيحدثه من تغيير عظيم مشروع توليد الكهرباء من خزانة أسوان.
ومن الصعب تنفيذ الضابط الأخلاقي في مصر في ظل المدنية الحديثة وما يعج فيها من مباهج و. . . حقاً يعمد الشباب إلى تأخير الزواج لدوافع اقتصادية واجتماعية، ومن جهة أخرى يستخدم ضبط النسل بنجاح بين الطبقة العليا والمثقفة.
أما توزيع الثروة توزيعاً عادلا فهذا ليس من العبث كما قرر مالتوس فليس يعيب ثروة مصر كميتها بل توزيعها. إذن لم تتحقق آراء مالتوس كلها كاملة:
ويرى الدكتور وندل كليلند حلاً لمشكلة السكان في مصر بما يأتي:
1 -
العمل على زيادة الموارد الطبيعية زراعية وصناعية.
2 -
تحديد عدد السكان بوسائل ضبط النسل.
ويظهر لنا من كتاباته أنه يحبذ الاتجاه الثاني لأنه لاحظ أن التقدم الحضاري في أوربا يصحبه نقص في المواليد، وذلك لزيادة رغبة الناس في صحة أحسن وسعادة أعظم وثقافة أرقى ورغبات أسمى، ولكن تحديد النسل من الصعوبة بمكان تبعاً للتقاليد والعادات والأفكار القديمة.
ولعل من المفيد أن أختم هذا المقال بما اختتم به كليلند كتابه إذ يقول:
إن موقع مصر الجغرافي يجعل من الصعب عليها أن تحل مشكلتها وحدها بل لابد من التعاون مع جاراتها، ذلك لأن النيل دولي:
محمد محمد علي
ليسانسيه في الآداب
من أدب رمضان
للأستاذ أحمد مصطفى حافظ
(. . . ورياضة للنفس بالتجرد، وثقافة للروح بالتأمل، وتوثيق لما وهن بين القلب والدين؛ وتقريب لما بعد بين الرافه والمسكين. . . ونفحة من نفحات السماء تفعم دنيا المسلمين بعبير الخلد وأنفاس الملائكة!. . . فالبيوت الباقية على العهد تتقرب إلى الله بالذكر والصدقات، والمساجد المقفرة طول العام تعج بالوعظ والصلوات. . . والمآذن الحالية بالمصابيح الشادية بالتسابيح ترسل في أعماق الأبد نور الله وكلمته!)
(الأستاذ أحمد حسن الزيات)
عن ابن مجير، قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلم جوع يوماً، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه، ثم قال:(ألا ربّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة. ألا رب مكرم نفسه وهو مهين لها! ألا رب مهين نفسه وهو مكرم لها) فانظر - عافاك الله - إلى إنسانية سيد الخلق العليا، فهو يضرب أروع الأمثال لكي تتأسى به أمته من قبل ومن بعد. . . وهو الذي خير أن يكون له مثل (أحد) ذهباً فقال:(لا يارب، أجوع يوماً فأدعوك، وأشبع يوماً فأحمدك!) فالسواد الذي تراه في فقره صلى الله عليه وسلم هو السواد الحي، سواد الليل حول الروح النجمية الساطعة، كما يقول الرافعي الخالد. وبعد فالغرض الأسمى من صوم رمضان المبارك إن هو إلا العمل المصمم على إضعاف الحيوانية، وكسر شرة الهوى، وكفكفه النفس عن الشهوات والأهواء، بالحرمان والمجاهدة فتتحرر الروح من ربقة الأسر في الجسد، وتتطهر من الأدران المخجلة، وتسمو إلى مراتب الإيمان العالية. . . فتتهدى إلى جلال ربها، وتدرك ما كانت عليه من زيغ وغفلة، فتتذكر الموت وهوله، والقبر وسؤاله، والبعث وأهواله. . فتخشع وتخضع وترجع إلى طاعة ربها راضية مرضية. . .
ما لذة الأيام تتعاقب على استواء حالة واحدة؟. . . بل كيف يصنع المرء إزاء الدهر وتقلباته، وضرباته وهجماته. . . أن لم يتزود بذخيرة من الصبر والجلاد؟. . .
ولقد فاضت كتب الدين، وخطب المصقعين، تحض على التآلف والإخاء، والتمسك بأهداب الشرائع السماوية المقدسة، ولكن كل ما كان ويكون لها من أثر لا يقاس بأثر الردع
والأديب الإلهي، الذي تحس وقعهما في أعصابك وحلقك وأحشائك. . . وسعار الجوع هو الذي يدع الخيال يصنف للمعدة معاني متجددة متعددة للطعام. . . فلا تنفك تستشعر - على التضور - آلاماً لذيذة ولذات أليمة!. . .
وليس يطرب صوت الماء منحدراً
…
كما ترى وقعه في سمع ظمآن!
وترى الغني المترف المتنعم وقد ردعه الضمير، وأدبه الدين. . فلديه ما لذ وطاب ولكنه يصبر ويصابر، ويتذكر أنه يسأل عن النعيم. . .
ولا صيام للنمامين والمغتابين؛ فعن ابن مسعود، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل، فوقع فيه رجل من بعده. . . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(تخلل) قال: مم أتخللّ؟ ما أكلت لحماً. . .) قال: (إنك أكلت لحم أخيك!). . .
أحمد مصطفى حافظ
محرر بمجلة المدينة المنورة
(السويس)
رسالة الفن
نظرات في الفن
للأستاذ نجم الدين حمودي
الفنان والطبيعة:
علاقة الفنان بالطبيعة متينة محكمة، فهي مصدر وحيه وإلهامه، منها يستقي عبقريته، ومن جمالها يروي أحاسيسه ومشاعره. ومع أن الطبيعة ينبوع الجمال وموطن الروائع، فهي ليست كل شيء عند الفنان، كما أنه من العبث أن نشبه الفن بتقليد الطبيعة، أو محاكاة الجميل فيها، إذ ليس الفن تقليداً وتشبيهاً، وإنما هو تفسير وتحليل وخلق وإبداع. وليس من المبالغة في شيء أن يقال: يبتدئ الفن عندما يبتعد الفنان عن التزامه لتقليد الطبيعة.
نعم، إن الطبيعة مصدر الجمال ولها أعظم الأثر في عمل الفنان، إلا أنها - كما ذكرنا سابقا - ليست كل شيء عنده. فالفنان في روائعه يضفي على الطبيعة من أعماق نفسه جمالاً يزيد من جمالها، وألواناً من خلقه وإبداعه تكسبها جاذبية وتأثيرا. وإذا كانت السمفونية الريفية لبيتهوفن قطعة فنية رائعة، فهي ليست كذلك لكونها تقليداً لأصوات طبيعية، بل لأن بيتهوفن نفسه استطاع أن يعبر فيها عن احساسات تفتحت من جراء اتصاله وانغماسه بجمال الطبيعة، وتمتعه بنغمات أصواتها الجميلة العذبة، فخرجت تلك الاحساسات، وتفجر ذلك الشعور إلى عالم الواقع بأصوات موزونة ونغمات منسجمة، وبهذه النغمات وتلك الأصوات برزت عبقرية الفنان وقوة خلقه وإبداعه، فجعل من توفيقه بين هذه وتلك قطعة موسيقية رائعة تتوق القلوب لسماعها، وترتوي النفوس من أنغامها وألحانها.
فالابتهاج الذي يغمرنا عند سماعنا السمفونية الريفية، والروعة التي برزت بأجلى مظاهرها في أنغامها المنسجمة الموزونة، لا يرجعان كلية إلى الطبيعة، بل إلى عبقرية بيتهوفن وملكته الفنية.
يشير الأديب الفرنسي أندريه جيد في دراسته للفنان الفرنسي بوسان إلى رأي الكاتب كريستفر مارلو عن أثر الطبيعة في نضوج الفنان فيقول: (يثبت الأستاذ مارلو بأن الباعث على الخلق الفني في كل الرسامين لا يتأتى مباشرة من الطبيعة، وإنما يتأتى من بعض
الروائع الفنية التي أنتجها قبلهم عظماء الرسامين الذين حللوا في روائعهم ما في الطبيعة من جمال وفتنة وكمال). ويعلق الأستاذ أندريه جيد على ذلك بقوله: (لا شك أن جمال العالم الخارجي ومظاهره البديعة الخلابة لا يمكنها أن تترك بوسان دون أن تؤثر في مشاعره واحساساته، بل في الحقيقة أن اتصاله بالروائع الفنية القديمة هو الذي دعاه إلى أن يدرك قابليته في الخلق الفني).
نقد الفن:
إن تعذر إيجاد مقاييس عامة لمعرفة المدى الذي تبلغه الروائع الفنية من الكمال، كل حسب نوعه، هو الذي جعل أمر نقد الفنون الجميلة من الصعوبة بمكان عظيم. ويقول الأستاذ أندريه جيد في هذا المعنى:(إن نقد الفنون الجميلة من أخطر أنواع الكتابة، ولم يجد في هذا الباب إلا النزر القليل من الكتاب) ومن الممكن حصر الأسباب التي تجعل النجاح في نقد الفن عسيراً في ثلاثة أمور:
عدم وجود نماذج مثالية تقاس عليها القطع الفنية.
اختلاف الأذواق وتباين النزعات في تقدير القطع الفنية، ومن النادر أن تجد ناقدين يتفقان على أمر واحد بحذافيره.
والسبب الثالث ويتفرع من الثاني، هو صعوبة وجود التجرد التام في الحكم على القطع الفنية.
وكثيراً ما يصدر النقاد حكمهم على قطع فنية عظيمة دون أن يعيروها الوقت الكافي، فيكون حكمهم غير دقيق وبعيد عن الحقيقة والواقع. ويذكر الناقد الكبير كلايف بل في موضوعه (مهلاً أيها النقاد) بأن نقاد الفنون على الرغم من ادعائهم بعدم التسرع في الحكم على القطع الفنية كثيراً ما يقترفون أخطاء جسيمة ويجورون على الفنانين بغير حق.
ويستمر كلايف بل في بحثه قائلاً: (إن بعض القطع من الممكن تذوقها من أول التفاتة يوجهها الناقد إليها، أما البعض الآخر فيستحيل عليه إدراك مواطن الجمال فيها، واكتشاف الأفكار التي تحملها، والبواعث التي دعت الفنان أن يجعل قطعته بهذا الشكل دون غيره ما لم يمعن هذا الناقد في النظر ويتعمق في التحليل).
ويدعم الأستاذ كلايف بل معالجته لهذا الموضوع بأمثلة عديدة لأخطاء جسيمة أقترفها كبار
النقاد.
يذكر الأستاذ ماك كول في كلامه عن نقاد الفنون أن هناك نوعين من هؤلاء: النوع الأول وأحسن كلمة نصفهم بها هي كلمة (مراسلون)، وهؤلاء لا هم لهم سوى حشو الصحف والمجلات بكلمات فارغة معسولة عن المعارض التي يحضرونها نيابة عن الصحف والمجلات التي يراسلونها، ومعظم هؤلاء لا يملك المعرفة الكافية التي تؤهلهم لنقد القطع الفنية، فإذا ما عرضت عليهم قطع ترجع في طابعها إلى الفن الكلاسيكي القديم، قالوا: لقد سبق أن صدر الحكم الفن القديم، وإن جادلتهم في معروضات الفن المعاصر، أجابوك بقول: إما ينطوي على عدم الاكتراث، أو يدل على الإطراء والإمعان في المديح.
ويقول الأستاذ ماك كول في هذا: (ليس الفنانون بضاعة يكال لها المديح والإطراء، أو الذم والافتراء، من النقاد حسب ما تمليه عليهم أذواقهم وأهوائهم).
أما النوع الثاني من النقاد، فمنهم من يملك معرفة كافية واطلاعاً واسعاً بالفنون، ولكنهم إلى جانب هذه المؤهلات مدفوعين بعامل التحيز. ولهذا فإنهم ممقوتون من الفنانين لافتقارهم إلى النزاهة في الحكم، وتراهم يختارون من القطع ما لذ لهم، ويجعلونها هدفاً لصب معلوماتهم، كأنه لا فرق بين القطع الفنية الرائعة والمواد الأولية التافهة.
نجم الدين حمودي
سكرتير مجلة سومر - بغداد -
حيران!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
حيران في دنيا الجمال
…
نشوان من خمر الخيال
لمن العيون كأنها
…
نور يطوف بالظلال؟
حوراء إن نظرت تخا
…
ل بها - وليس بها - الكلال
سكرى من الخمر التي
…
لعبت بأفئدة الرجال
لمن العيون كأنها
…
أفق توشح بالجلال؟
زرقاء تحلم في هدو
…
ء لا يعذبه ملال
كبحيرة مسحورة
…
سحرت حواليها الرمال
تسبي القلوب كمنظر
…
الآفاق من قمم الجبال
لمن الغدائر حرة
…
من كل قيد أو عقال!
يشدو النسيم لها فتر
…
قص في اليمين وفي الشمال
سوداء في لين الحري
…
ر، ورقة الماء الزلال
لمن الخدود نقية
…
كالنبع في أعلى القلال؟
قد ضمه وحنا علي
…
هـ في خشوع وابتهال
زهر يقبله الندى
…
وتضمه ريح الشمال
لمن الشفاه نواضراً
…
ريا بأحلام الليال
شعت كشمس في الضحى
…
وتقوست مثل الهلال
تدعو الرشيد إلى الضلا
…
ل، وآه من هذا الضلال!
لمن النهود روانياً
…
في كبرياء واختيال؟
متحفزات للوثو - ب، مبادرات للنضال!
تدنو لمن تهوى، وتب - عد عن سواه، فلا تنال
لمن الخصور الراقصا
…
ت مع الأشعة والضلال؟
من كل خصر مرهف
…
ريان من خمر الدلال
أخشى عليهم من النسي
…
م دنا فطوقه فمال
ومن الغلالة إذ تعا
…
نقه، فيشعر بالملال!
أواه لو رويت هـ
…
ذا القلب من خمر الجمال!
أواه! لكني أعي
…
ش كزهرة بين التلال!
أبكي من الحرمان حتى
…
صرت أنتظر الزوال
فتن تمر بناظري
…
وبخاطري منها مثال
فتن حرمت وصالها
…
وأنا المشوق إلى الوصال
علقت بها نفسي كما
…
علقت بأطياف المحال!
فتن أعانقها وأل
…
ثمها، ولكن في الخيال!
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مع الأستاذ توفيق الحكيم في (أوديب الملك):
في العدد (835) من الرسالة، سألني أديب عراقي فاضل هو الأستاذ فؤاد الونداوي عن بعض الآراء التي عقب بها الأستاذ توفيق الحكيم على مقدمة الترجمة الفرنسية لمسرحية (أوديب الملك). . . ولقد عرض الأستاذ الونداوي لتلك الآراء بالنقد والتحليل، مخالفاً صاحبها فيما ذهب إليه من تفسير لبعض القيم النفسية والفنية، طالباً أن أعقب على الرأيين: رأي الكاتب ورأي الناقد.
يقول الأستاذ الونداوي إن الأستاذ الحكيم قد حاول أن يوفق بين فكرة الأسطورة وبين روح الإسلام، فجعل من رغبة أوديب في العلم بالحقيقة وبحثه المتصل عنها سبباً يدفع أوديب إلى الكارثة، أي أنه جعل الموجب للكارثة طبيعة أوديب ذاتها؛ طبيعته المحبة للبحث في أصول الأشياء الممعنة في الجري خلف الحقيقة. ثم يعقب الأديب العراقي الفاضل على ذلك بقوله: ولست أدري كيف استساغ كاتب فنان كتوفيق الحكيم أن يجعل من حب أوديب للحقيقة وسعيه ورائها إثماً يستحق عليه ذلك العقاب المنكر الفظيع؛ فإن حب الحقيقة والسعي وراءها - مطلقة كانت أو نسبية، عامة كانت أو جزئية - لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق وخلد ذكرهم في أعماق الأفئدة، وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور!
أود أن أقول للأستاذ الونداوي رداً على اعتراضه: هل أقمت اعتراضك يا صديقي على أساس من خطأ الفكرة النفسية، أم على أساس من التعثر في خطوات العمل الفني؟ في رأيي إن الأستاذ الحكيم قد بعد عن منطقة الاعتراض في كلتا الناحيتين؛ لأننا لو وضعنا الفكرة النفسية تحت المجهر لبدت لنا متفقة مع منطق الحياة ومنطق الفن. . . لا خطأ أبداً إذا ما جعل توفيق الحكيم من جري أوديب وراء الحقيقة سبباً يدعو إلى الكارثة؛ لأن طبيعة أوديب النفسية - طبيعة الشك والتحدي والغرور والكبرياء - من شأنها أن تدفع به إلى هذا المصير المحزن الذي انتهى إليه! إننا لو بحثنا عن نقط الارتكاز الفنية في المسرحيات الثلاث وأعني بها مسرحية سوفوكل ومسرحية أندريه جيد ومسرحية توفيق الحكيم
لوجدناها تتفق جميعاً على إن الطبيعة النفسية عند أوديب كانت هي مصدر الكارثة؛ الكارثة التي أدت بأوديب إلى أن يقتل أباه لايوس ويتزوج من أمه جوكاست ويفقأ في النهاية عينيه ليحرم إلى الأبد من نعمة الضياء. . . أوديب عند سوفوكل يبحث عن الحقيقة وعند أندريه جيد يبحث عن الحقيقة، وهو يبحث عنها أيضاً عند توفيق الحكيم؛ فالأساس النفسي موجود عند الكاتب الإغريقي وموجود عند الكاتب الفرنسي وموجود عند الكاتب المصري. وإذا كان الصراع الخارجي بين إرادة الآلهة وحرية الإنسان هو الهدف الأصيل لخطوات العمل الفني عند سوفوكل وأندريه جيد، فإن خطوات العمل الفني عند توفيق الحكيم قد أحالته صراعاً داخلياً بين إرادة الإنسان وبين سطوة الحقيقة. . . هناك صراع مشبوب تثيره في نفس أوديب نزعة التحدي للقوى الخفية ولو كان فيها ألف مورد من موارد التهلكة، وهنا صراع مشبوب أيضاً ولكن الدافع إليه نزعة أخرى هي نزعة الشك الملح في التخلص من الواقع، ولو كان فيه ألف سبيل من سبل النجاة من الكارثة. وكلا الصراعين يتقرر معه المصير على ضوء الطبيعة النفسية التي عالجها الأستاذ الحكيم علاجاً حاول فيه أن يوفق بين فكرة الأسطورة وروح الإسلام!
هذا يا صديقي عن منطق الفن، أما عن منطق الحياة فلا أرى أن توفيق الحكيم قد خالف منطق الحياة أو أعترض سيرها الطبيعي. . . إن الحياة تقدم لنا في كثير من الأحيان نماذج نفسية من طراز أوديب يدفعها حب الاستطلاع والبحث عن الحقيقة إلى كثير من المتاعب والكوارث والآلام! أنا معك في أن حب الحقيقة والسعي ورائها لدى أناس كالفلاسفة والعلماء هو الذي بث شهرتهم في الآفاق وخلد ذكرهم في أعماق الأفئدة، وألهج به الألسنة على مدى الأجيال والعصور. أنا معك حين أقدم إليك واحد ممن ذكرت وهو الفيلسوف الألماني نيتشه. . . ولكن لا تنس إن هذا الفيلسوف العظيم الذي ظل يبحث عن الحقيقة حتى رفع عنها الغطاء، هذا الفيلسوف يا صديقي قد فقد عقله في سبيل الجري وراء الحقيقة!
أختلف معك في هذه النقطة وأختلف معك في نقطة أخرى، هي اعتراضك على الأستاذ الحكيم حين يقول: إن رغبة أوديب في العلم بالحقيقة هي التي جرته إلى ما جره العلم الحديث على الإنسان الحديث ممثلاً في (فرويد) عندما طفق يحفر في أعماق الإنسان إلى
أن وجد أنه عاشق في الباطن لأمه!. . . الواقع إنك لم تعد الحق حين أفصحت عن حيرتك أمام هذا التعليل، وحين قلت إنك لم تفهم كيف أرتضى الأستاذ الحكيم أن يشبه حالة أوديب أمام المأساة بحالة فرويد أمام حقائق النفس! إلى هنا يا صديقي وأقف إلى جانبك لأنه لا وجه للمقارنة على الإطلاق. . . أما بعد ذلك فلا أرضى عن تفسيرك للمشكلة عندما تقول: إن البحث عن الحقيقة قد أدى عند فرويد إلى اكتشاف الحقيقة فحسب، ولكنه عند أوديب قد أدى إلى وقوع الكارثة أو المأساة وواضح إن الفرق بين الحالين أكبر وأوسع من أن يستسيغ أي تشبيه بينهما!
أريد أن أسأل: هل كشف فرويد حقاً عن الحقيقة التي يرددها من بعده الكثيرون في الشرق والغرب، وأعني بها عشق الطفل في الباطن لأمه؟ هذا العشق الناتج عن مص ثدييها في حالة الرضاع مما يترتب عليه لون من ألوان اللذة الجنسية، حتى لتتحل تلك اللذة عند تقدم السن إلى عادة التدخين عند كثير من الناس؛ لأن فيها بقية من المتعة الجنسية في الصغر ممثلة في عملية المص بالشفتين، والفم كما يقول فرويد منطقة من المناطق الشديدة الحساسية والشعور باللذة؟!. . . ليصدقني الكثيرون إن هذا التفسير النفسي الذي جاء به فرويد تفسير يحفل بالشذوذ وانحراف التفكير؛ لأنك لو أرضعت الطفل من ثدي أنثى من إناث الحيوان لهام بها نفس هيامه بأمه، ولتعلق بها نفس التعلق ولأقبل عليها نفس الإقبال؛ لأن عقله الصغير إلى أبعد حدود الصغر لا يهيئ له أن يفرق بين مرضعة ومرضعة ولا بين حيوانه وإنسانه! إن المسألة مسألة الشعور بالجوع واندفاع إلى كل منبع من منابع التغذية يمكن أن يرد عن الطفل الجائع غائلة الجوع، فكيف نقبل هذا الشذوذ الفكري الذي ينادي به فرويد حين يلصق بالطفولة البريئة نزعة الانحرافات الجنسية؟!. . . ثم هل تتحول حقاً تلك اللذة الجنسية المتخلفة عن أيام الطفولة إلى لذة التدخين عند كثير من الناس؟ ترى كيف يستقيم هذا التفسير العجيب إذا ما قدر لفرويد أن يعيش في تلك الأيام التي لم يكن فيها تدخين ولا مدخنون؟!. إننا في انتظار الجواب من المولعين بهذا اللون الطريف من الدراسات النفسية!
بقي أن أرد على النقطة الأخيرة التي أثارها الأستاذ الونداوي حول رأي آخر من آراء الأستاذ الحكيم حين يقول: إن الطعن الذي أنزله أوديب بعينيه قد ذهب في تفسيره أندريه
جيد في مسرحيته إلى كونه إمعاناً في الكبرياء. يؤكد الأستاذ الونداوي أن الواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد لم يقل مثل هذا الكلام ولم يفكر فيه، لأنه قال بصراحة عن لسان أوديب مخاطبا الكاهن تيرسياس بأنه - أي أوديب - إنما يفقأ عينيه لأنهما لم تحسنا تنبيهه إلى الكارثة قبل وقوعها ولم تضيئا له الطريق! معذرة يا صديقي إذا أكدت لك أن الواقع يشهد وصحائف الكتاب بدورها تشهد بأن أندريه جيد قد قال مثل هذا الكلام وفكر فيه. . . أما عن الواقع فهو ممثل في تلك الزاوية التي سلط أضواءه على شخصية أوديب الإنسانية؛ وهي الشخصية المتعالية المتحدية المتكبرة المغرورة الثائرة على الآلهة في كل فصل من فصول مسرحيته. إن طعن أوديب لعينيه لم يكن في الواقع إلا تحديا للألم وإمعاناً في الكبرياء! مهلا يا صديقي ولا تعترض. . . إن صحائف الكتاب تشهد بصدق ما أقول، هناك قبل نهاية الفصل الأخير بصفحتين حيث يقول أندريه جيد عن لسان تيرسياس مخاطباً أوديب بعد أن فقأ عينيه:(إذن فهي الكبرياء التي دفعتك إلى أن تفقأ عينيك. لم يكن الإله ينتظر منك هذا الإثم الجديد ثمناً لجريمتك الاولى، وإنما كان ينتظر منك الندم ليس غير)!
بعد هذا أرجو أن يتقبل الأستاذ الونداوي خالص الشكر على حسن ظنه، وعاطر التحية على صدق إخائه.
حول مستقبل الشعر وانحراف المواهب:
هذا العنوان يجمع بين عنوانين، أحدهما لمقال كتبه الأستاذ يوسف البعيني في العدد (835) من الرسالة، والآخر لمقال كتبته أنا في العدد (797) من الرسالة. . . ولقد لاحظت أن الأستاذ البعيني قد جال بفكره في نفس الأفق الذي جلت فيه من قبل، وأن هناك كثيراً من التقارب بين وجهات النظر وطرائق التعبير ومرامي الألفاظ. أنه لون من توارد الخواطر غير شك؛ لأن طبيعة الموضوع الذي تناولته بالدراسة كما تناوله الأستاذ البعيني حول ماضي الفن وحاضره، من شأنها مع النظرة المتغلغلة في أعماق المشكلة أن يخرج منها الباحث بمثل ما خرج به الأستاذ وخرجت، من تحليل يؤدي إلى تعليل ومن مقدمة تدفع إلى نتيجة.
يبدأ الأستاذ البعيني مقاله عن (مستقبل الشعر) بهذه الكلمات: (أجمع فريق من الحكماء
والمصلحين وفي طليعتهم الموسيقي البولوني المشهور أنتون بادريفسكي على أن الفنون الجميلة تسير بخطى واسعة نحو الفناء. ومما قاله ذلك العبقري الموهوب أن تلك الأنغام العميقة التي كانت ترفع الروح إلى الملأ الأعلى توارت أمام الموسيقى الأمريكية الحديثة. لقد صدق هذا الفنان في تعليله؛ فإن رجل الفن كان في الماضي البعيد يغذي عبقريته بجمال الطبيعة. أما الآن فهو لا يعنى بإغناء موهبته وتهذيبها إذ طغت موجة المادة وتبدلت أغراض الحياة فاختلفت عما كانت عليه في سابق الأجيال). هذا هو مفتاح المشكلة الذي يعالج به الأستاذ البعيني فتح المنافذ المؤدية إلى نتائج موضوعة، وهو نفس المفتاح الذي قدمته من قبل حيث قلت: (. . . هذه الحضارة التي نعيش فيها حضارة قوامها المادة تبدأ منها وتنتهي إليها، وتدفع الناس إلى أن يتلمسوا الوسائل لكسب العيش عن طريق غير الأدب والفن في كثير من الأحيان؛ لأنه طريق غير مرجو الفائدة ولا مأمول العواقب في ميدان النضال مع الحياة ومن هنا يتجهون باستعدادهم وملكاتهم اتجاهاً يبغون من ورائه الكسب المادي والمكان المرموق والفن في رأي الماديين لا يحقق لهم شيئاً من هذا، وماذا تجدي الشهرة في رأيهم مع الفاقة أو يعود عليهم من المجد وفي ركابه الحرمان!. . .
إن صوت هربرت ريد في كتابه (الفن والمجتمع) ليضيع وسط ضجيج المادية الأهوج حين يقول (يجب أن ننظر إلى الفن نظرتنا إلى كل شيء لا يستغني عنه، مثله كمثل الخبز والماء وعلى أنه جزء من حياتنا اليومية لا يتجزأ. وينبغي ألا يعامل الفن كضيف عابر، ضيف يدفع أجر ضيافته، ولكن كواحد من أفراد الأسرة سواء بسواء)!. . .
إن الحضارة الحديثة وتعقد مشكلاتها قد استبدت بالمواهب والعقول فوجهتها تبعاً لهذه المشكلات، وما فيها من تعقد لم يدع لها من لحظات الفراغ ما يمكنها من استلهام الوحي في الفنون الرفيعة، وما أبعد الفرق بين الفنون في ماضيها الغابر وحاضرها المشهود! لقد كان الناس في الماضي البعيد يعيشون للفن ويطربون له ويشجعون المواهب على أن تمضي في طريقها فلا انحراف ولا اعوجاج وإنما اتصال مطلق بالطبيعة واستلهام لمظاهرها وروائعها، فلما تعقدت الحياة وطغت المادة على كل شيء طغيانها الجارف، انحرفت المواهب عن ميادينها الأصيلة وانحرفت معها الأذواق)!
(من وراء الأبد) وجرأة القصاصين العوام:
قيل إن الذبابة هبطت يوماً على رأس الفيل، فلما يئست من أن تشعره بوجودها قالت له: ياعزيزي، إني طائرة عنك. . . ونظر إليها الفيل ضاحكا ثم قال: يا عزيزتي، والله ما أحسست بك هابطة حتى أحس بك طائرة!!
تذكرت هذه القصة الطريفة وأنا أستمع لمن نقل إلي خبراً فحواه أن قصاصاً من القصاصين العوام، اجترأ على أن يتهمني في إحدى الصحف اليومية بالسطو على أحد الأفكار من قصصه لتزدان بها قصتي (من وراء الأبد). . . أما هذا القصاص العامي النابغ الذي أراد أن يشعرني بوجوده كما فعلت الذبابة الخالدة، فهو السيد أمين يوسف غراب!
أود أن أقول لهذا القصاص الذي لا أشك لحظة في أنه درس فن القصة في كتاب القرية؛ أود أن أقول له أنه لو قدر له أن يعاصر المثال الفرنسي العظيم رودان لألهمه الإبداع في صنع تمثال يمثل الغباء النادر. . . ذلك لأنه لو خطر لي أن أنقل فكرة عن أحد القصاصين، فإن الذوق يفرض على أن ألجأ إلى أعلام القصة في أدب الغرب. عندي مثلا في الأدب الفرنسي بلزاك وديماس وفلوبير وزولا وموباسان، وعندي مثلا في الأدب الروسي تولستوي ودستويفسكي وتورجنيف وتشيكوف وجوركي، وعندي مثلا في الأدبيين الإنجليزي والأمريكي ديكنز ولويس ولورنس وبووموم. . فمن يصدق أنني أترك تلك القمم حيث يحلق النسور، لأهبط إلى السفوح حيث يحلق الغراب؟!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تعليم اللغة بدراسة الأساليب
عقد مفتشو اللغة العربية مؤتمراً بكلية دار العلوم في الأسبوع الماضي برياسة عميدهم الأستاذ مهدي علام، ومن الموضوعات التي نظروا فيها موضوع دراسة قواعد اللغة العربية في المدارس الابتدائية والثانوية؛ وقد انتهى المؤتمر في هذا الموضوع إلى أن تدرس اللغة العربية عن طريق اللغة نفسها نصوصها وأساليبها وتستخلص القواعد من هذه الأساليب من غير إسراف في الاصطلاحات النحوية المطولة. وقد عرض الفكرة على المؤتمر، الأستاذ مهدي علام، فلقي معارضة شديدة في أول الأمر من لدن أنصار النحو والقواعد، ولكنه ما زال يبين وجهة نظره ويدلل عليها حتى وافقه الجميع إلا واحداً، وكان عند بدء عرضها لا يؤيده فيها غير واحد. .
وقبل أن أعقب على قرار المؤتمر أبسط الموضوع بعض البسط فأقول: إن الطريقة الطبيعية في تعلم اللغة هي سماع مفرداتها وتراكيبها والتمرن على محاكاتها بالتعبير على مثالها، حتى تصبح القدرة على هذا التعبير ملكة يصدر عنها القلم واللسان، أما القواعد فهي ضوابط يقصد منها التحرر من الخطأ في اللغة لا تعلم اللغة نفسها.
وقد وضعت القواعد أول ما وضعت لذلك الغرض ولكن المشتغلين بها تدرجوا فيها إلى أن صارت دراسة مقصودة لذاتها في العصور المتأخرة، وهي العصور التي انحطت فيها اللغة وركت أساليبها، ومن المشاهد المعروف أن النحوين على قدر ما برعوا في صناعة النحو لحقهم العجز والضعف في ملكة التعبير والبيان، على خلاف البلغاء من الكتاب والشعراء الذين لم يحصلوا من تلك الصناعة إلا القدر الضروري لضبط ما يقولون ويكتبون.
وقد رأينا في عهد التعلم معلمين يتوكؤن على الإعراب حتى في غير دروس القواعد، فإذا عرض أحدهم لبيت من الشعر مثلا شغل بأوجه الإعراب في ألفاظه عن وجه الجمال السافر فيه، وكان لنا أستاذ ألف كتاباً سماه (ترويق الجو بتحقيق لو) ثم كان من فضل الله أن ضاع منه أصل هذا الكتاب قبل أن يدفعه إلى المطبعة فراق الجو بفقده ولم يكن من المنتظر أن يروق بتحقيق لو. . وكم رأينا مدرسين يحولون دروس المطالعة والأب إلى
نحو وصرف لأنهما المجال الذي يحسنون الكلام فيه. وإن ناقشت هؤلاء في جدوى كثير من التفصيلات النحوية التي يخوضون فيها، قالوا: إنها رياضة ذهنية. أوليس من العبث أن تنفق الجهود والأوقات في هذه الرياضة الذهنية العقيم، ي هذا العصر الذي تعددت حاجاته إلى أنواع المعرفة؟
ولا تزال مناهج المدارس في اللغة العربية مثقلة بهذا النحو، وخاصة في المدارس الابتدائية التي يبدأ فيها التلميذ تعرف اللغة العربية، فالطفل في السنة الثانية مكلف أن يعرف الفاعل والمفعول به والمبتدأ والخبر، ومطالب بتكوين جمل تشتمل على مضاف إليه خبر، ومضاف مبتدأ، ومنعوت مفعول به. . . الخ، وهو لم يتصور بعد هذه اللغة التي يطلب منه أن يحللها ويفهم مصطلحات قواعدها. ولابد أن نذكر إلى جانب ذلك حقيقة بديهية مفهومة، وهي أن اللغة العربية الفصيحة ليست لغة البيت والمجتمع الآن، فلا بد إذن من ضوابط تعصم من الخطأ فيها، ولنفرض أننا فرغنا من تصفية هذا الخليط من القواعد ومصطلحاتها وغربلته، حتى حصلنا على القدر الميسر النافع منه، فكيف ومتى يتعلمه الناشئ؟ وهنا نصل إلى ما قرره مؤتمر مفتشي اللغة العربية، وهو دراسة الأساليب واستخلاص القواعد منها، وأقرر أولا أنه لا جدال في ضرورة الإكثار من المطالعة بأنواعها مع التشويق إليها والإكثار من التمرين على التعبير شفوياً وتحريرياً. ثم أسأل ما المقصود باستخلاص القواعد من الأساليب؟ هل هو أن يبدأ بتعليم القواعد على طريقة الإتيان بأمثلة كثيرة واستنتاج القاعدة منها؟ أو المقصود أن يترك الناشئ سنوات يسمع فيها اللغة ويقرؤها ويعالج التعبير بها، بحيث يدركها إدراكاً كلياً، وبحيث يشعر بالحاجة إلى ضوابط لها؟ وعند ذاك تنتهز فرصة تشوقه إلى الضوابط، فيعرف بها بطريقة سهلة ميسرة؟
أما الطريقة الأولى فهي المتبعة الآن، وهي طريقة لهوجة، لأن التلميذ لا يكاد يبدأ في تذوق اللغة حتى يصدم بالقاعدة والمصطلحات، والمأمول أن تعد المناهج الجديدة وفق الطريقة الثانية ليتحقق المنشود من دراسة الأساليب واكتساب ملكة اللغة من نفس اللغة.
كابوس ليلة:
هو فلم (حلم ليلة) الذي عرض في هذا الأسبوع لأول مرة بسينما أوبرا، وهو من تأليف
وإخراج (وجه جديد) في الإخراج بمصر هو صلاح بدرخان، وبطلاه أيضاً وجهان جديدان هما وجيه بدرخان ونور الصباح، واشترك في التمثيل من الممثلين المعروفين بشارة واكيم ومنسي فهمي.
آدم (بشارة واكيم) تاجر قماش شامي بمصر، تحتال عليه امرأة من بنات البلد، فتأخذ منه بضاعة وتغريه بأن يصحبها على أن تحضر له الثمن من زوجها الطبيب، وتفلت منه في عيادة الطبيب الذي ادعت أنه زوجها بعد أن أدخلت على الطبيب زوجها تاجر القماش مجنون، فيفحصه ويدفع به إلى مستشفى المجانين، ثم يهرب آدم من المستشفى ويعود ليستأنف عمله. وفي أثناء ذلك يتوجه ابن أخته نبيل (وجيه بدرخان) إلى عيادة الطبيب ليخاطبه في أمر خاله، وهناك يسمع غناء، فينظر من نافذة بسور الحديقة، فيرى بنت الطبيب نجاح (نور الصباح) تغني ومعها فتيات يرقصن. ثم يدخل من الباب ويلتقي بنجاح ويقول لها أنه موسيقار، وقد سمع صوتها فأعجب به، فستصحبه إلى ملعبهن في الحديقة حيث يعزف لهن، وبعد ذلك يصير معلماً لها في الموسيقى، ويتبرم به رشاد ابن عم نجاح، ويحاول أن يحقره أمام نجاح فتنهره، وينشأ حب بين نجاح ونبيل، ويفاجئهما أبوها في وضع غرامي فيغضب ويطرد الموسيقار العاشق. ويحاول رشاد أن يكسب ود نجاح ويخطبها إلى أبيها ولكنها تعرض عنه وترفض خطبته، فيخرج ساخطاً، ثم يلجأ إلى الانتقام فيسرق خزانة عمه ويدب على ابنة عمه ليلا، ويحرض عليه المجانين في المستشفى فيعتدون عليه اعتداء يذهب ببصره، ثم يختفي لدى قبيلة من الأعراب. ويتوجه نبيل هو وخاله إلى الطبيب، فيتوددان إليه ويخطب آدم نجاح لابن أخته نبيل فيرحب بهما أبوها الطبيب. ويجد نبيل وخاله آدم في البحث عن رشاد حتى يعثرا عليه في البادية، فيفر ويلحقان به ومعهما بعض الأعراب، فيقتلونه، ويعود نبيل بالنبأ إلى مخطوبته ووالدها الضرير الذي يسر ويضمهما إلى صدره، ولابد أن يعود إليه بصره في هذا المنظر الأخير. . .
والقصة كما تراها فارغة لا غاية لها، وقد حشيت مناظر قصد بها الإضحاك، ولكن المضحك حقاً هو نفس الحوادث الجدية فيها فمثلاً هذا الشاب (نبيل) البطل المحبوب الذي يفترض فيه (النبل) يقف ليختلس النظر إلى عورات الناس من النوافذ. . وما يكاد يدخل
حتى تلتقطه الفتاة وفي منتهى السرعة والسهولة يصير لها معلماً ويأتي أبوها تواً ويسأل عن هذا (الأفندي الغريب) ويوافق في الحال!
ولا أدري لماذا أباحت نجاح لنفسها أن تشتم ابن عمها وتهينه عندما أراد أن يخطبها ولم تظهر لنا الحوادث قبل ذلك أن شيئاً بدر منه يستحق عليه هذه الشتيمة التي لا تليق ببطلة الفلم، والغريب أن ما أرتكبه من الحوادث يأتي بعد ذلك، فكأنها تؤنبه مقدماً! وكان منظر دبيب رشاد إلى ابنة عمه داعياً إلى الاشمئزاز وكان يمكن أن ترتبط الحوادث دون الوقوع في هذه الزلة. وكانت خاتمة الأضاحيك هي ختام القصة بذلك المنظر الذي عاد فيه البصر إلى الرجل لأنه سر بقتل ابن أخيه المجرم وزواج ابنته من حبيبها، وهي طريقة فريدة في علاج العمى واسترداد النظر، جديرة بأن يلتفت إليها أطباء العيون أو بأن يستغني بها الناس عنهم.
وأخلص بعد ذلك إلى ثلاثة عناصر حشي بها الفلم بقصد التسلية والإمتاع أو قل لملئ فراغه من القيمة الموضوعية، تلك العناصر هي: روعة المناظر، والحوادث المضحكة، ثم الرقص والغناء. من الأولى منظر البدو في الصحراء وعدو الخيل ومطاردة الفرسان، عندما عثر على الجاني هناك. ولا تدري لم اختفى الجاني ولجأ إلى تلك القبيلة ولم يصدر أمر بالقبض عليه ولم يجر أي إجراء لمحاكمته، ولكن الرغبة في عرض المنظر نفسه جعلت الأعراب مكان الشرطة، وجعلت الموسيقار الفنان يجيد الرماية ويطلق الرصاص على منافسه في الحب ويرديه قتيلاً!
وأما المضحكات فقد أخذ لها في الفلم بشارة واكيم ومنسي فهمي، ووضع الثاني في موضع رجل بخيل يقتر على زوجته، فيحتال لها جارها آدم (بشارة) ويمثل للرجل الأشباح والأرواح ليفزعه ويهدده إن لم يوسع على زوجته وإن لم يذهب إلى (آدم) ويعطيه مقداراً كبيراً من المال، وهذه الحادثة تمثل مما ربط إلى القصة من غير حاجتها إليه ليضحك، ولكنك ترى إنها أفسدت شخصية آدم إذ جعلته محتالاً على اخذ مال الغير وهو ليس شريراً في القصة. ولم يكن بشارة واكيم واضح الدعابة ولا خفيف الظل في هذا الفلم، ومن أسباب ذلك التواء لسانه وتكلفه تقليد اللهجة الشامية. أما منسي سلامة فكان متقناً لدوره ظريفاً إلى حد ما.
وتأتي بعد ذلك ثالثة الأثافي: الغناء والرقص، وقد امتلأ الفلم بالغناء من البطلين نور الصباح ووجيه بدرخان، وهو غناء متوسط الحال، لا هو مطرب ولا هو مضحك، ولكن تكراره والإكثار من مواقفه والانهماك فيه، بلغت به درجة الطرف الثاني. ولا أريد أن استرسل في وصف غناء هذين المطربين، خشية أن تضمهما الإذاعة إلى مطربيها. . . وحسب الناس ما يلقون من هؤلاء. والحق إن الموسيقى كانت جيدة.
ومن تعمد مواقف الغناء والرقص أن آدم مر في طريقه وهو هارب من المستشفى بعرس فيه راقصة ومغن، فتفرج عليه ومضى في طريقه. . ولم يكن لهذا العرس أية صلة بحوادث الفلم غير ذلك وهذه الراقصة هي الوحيدة التي ترقص في الفلم على أصول الفن، أما بقية المناظر فهي اجتهادية فطرية، وقد أوحى اهتزاز الفتيات اللائى يرقصن في أحد المناظر إلى خيالي منظر (بلاليص) على عربة (كارو) تركت بلا ربط فراحت تتمايل على صرير العجلتين ووقع حوافر الحمار.
والوجهان الجديدان صالحان للتقدم للتمثيل، ولكن ينبغي ألا يعتمدا كثيراً على الغناء.
عباس خضر
البريد الأدبي
المصريون في نظر أنفسهم
دعينا لسماع محاضرة سنوية يلقيها الأستاذ مصطفى شاهين برحبة نادي فاروق الرياضي حيث تطل على شاطئ البحر، ويحتشد فيها الجمع المثقف في جو ينعش الوجدان، ويسحر العقل - مرة في كل عام -!
وكان موضوع المحاضرة (شائقاً - شائكاً) - على حد تعبير المحاضر - لكنه أقتدر على تقديم الأزاهير من بين الأشواك في بيان أخاذ جامع بين لغة الخاصة والتنزل إلى الأسلوب الدارج. ولقد أبان قسمة الأمم بتواضعها، واعتزازها وغرورها، موضحاً المفارقة بينهما ونصيب مصر منها قائلاً: إن المصري يعنف في الحكم على أمته مدفوعاً بتوثب طبيعة النقد لديه؛ لكنه يسرف إلى حد إغفال حقه نحو وطنه؛ فيرميه رميات كلها تسقط السقطات!
وقد عرض بمن يدعون الثقافة وينعون على الوطن أوضاع الحياة، ويتخذون من الحوادث الفردية قاعدة عامة للسلوك الاجتماعي ويجعلون هممهم الزراية عليه في أساليب غير مهذبة تحط بالكرامة الوطنية.
وألمع إلى قول فولتير: (إن الشعور بالنقص أول درجات الكمال. .، وعقب على هذا القول بأنه يعني به (الشعب الناقد الساخر لا ينقد نفسه لذات النقد بل لدافع قوي يحضه على الكمال. لكن هذا المعنى ليس ممثلاً تمام التمثيل لدى الزاري المنتقص لوطنه، لأنه يتخذ أسلوب نقده لتجاهل قيمته.
ثم استطرد المحاضر عارضاً خصائص تفكير الأمم في النقد معرضاً ببعضها على طريقته الساخرة، وخلص من هذا العرض إلى وجوب قيام معرفة النقص على ركنين أساسين أولهما (الكرامة الوطنية) المقصود بها الاعتزاز بالوطن عند نقده، وثانيهما (معرفة الواجب نحو الكمال) باتخاذ الأسباب المهيئة له.
ولقد سوغ حدة ثورة النقد بفترة الانتقال التي شبهها (ببكارة الفتاة، ووثبة بلوغ الفتى) قاصداً عدم القصد في هذه النزوة؛ فكأنه يبرر ما يبدو من نظر المصري إلى نفسه على الطريقة المسفة المسرفة، لكنه يدفع هذا التبرير بوجوب (التوجيه) في أسلوب مقصود به الإصلاح في شتى مناحيه.
وكنا نود أن يلمع الأستاذ إلى نزوات بعض المبعوثين الذين يعدون التقاط بعض الثقافة الغربية (بعثاً) لهم بعد موت شرقي!
فلعقول المستنيرة تغشيها غشاوات هؤلاء المضلين المترامين تحت أقدام الغرب وهم يضعون السم في الدسم استجابة لرغبة جامحة يقصد بها الخفض من رفعة وطنهم ملقاً لمظاهرة كاذبة، وظواهر مخدوعة! على إننا ننوه بقدرة المحاضر على الاستمالة، وإبداعه في العرض وإخضاعه العبارات التي تستعصي على أفهام السواد. ونعتقد إن (الروع) القلب أو الروح و (الروع) الفزع؛ فقد وردت مرات متعددة في المحاضرة على غير وضعها، لكن هذا لن يغض من قيمة هذه المحاضرة القيمة التي يجب أن تكون نواة محاضرات متصلة بالوطنية المتلاقية مع الوعي القومي في حياتنا الماثلة!
أحمد عبد اللطيف بدر
بور سعيد
كلمة هادئة إلى المعقبين اللغويين:
في البريد الأدبي من العدد (834) من الرسالة، وقعت على كلمة موجزة تحت عنوان (تعقيب على تعقيبات) للأستاذ الفاضل محمد غنيم. . . في هذه الكلمة ذهب الأستاذ غنيم إلى أن قولي (لم يكن يعرف) قول بين الخطأ، وصواب الجملة حسب استعمالات العرب أن ترى على هذه الهيئة (لم يكن ليعرف) لأن كان المنفية بما ويكن المنفية بلم، لا يرد بعدها الفعل المضارع إلا مسبوقاً باللام المؤكدة للنفي ويسمونها لام الجحود. وقد ورد القرآن الكريم بهذا الاستعمال، قال تعالى:(لم يكن الله ليغفر لهم) ولما كنت أعلم تمام العلم أن التعبير صحيح لا غبار عليه، وإن كان المنفية بما ويكن المنفية بلم لا يتحتم ورود الفعل المضارع بعدهما مسبوقاً بتلك اللام، لما كنت أعلم هذا فقد رحت أجمع للأستاذ كثيراً من الشواهد من القرآن الكريم والحديث وأدب العرب شعره ونثره، ولكن. . . ولكنني في الوقت الذي تأهبت فيه للرد كفاني الأستاذ مؤونة الرد! لقد عاد الأستاذ غنيم في العدد الماضي من الرسالة فتطوع من تلقاء نفسه بتقديم الأدلة على صحة التعبير الذي خطأني في استعماله، ولم ينس أن يستشهد ببعض الآيات من القرآن الكريم!
أود بهذه المناسبة أن أوجه كلمة هادئة إلى المعقبين اللغويين، هي أن يتريثوا قبل أن يكتبوا، وأن يحتشدوا لموضوعهم قبل أن يعقبوا. . . لأن العجلة من الشيطان، وما أغنى صاحبها عن الحرج الذي يدفع به آخر الأمر إلى ما يشبه الأسف والاعتذار!
أنور المعداوي
زوج وزوجة:
جاء في المصباح وشرح القاموس
قال أبو حاتم وأهل نجد يقولون في المرأة زوجة بالهاء. وأهل الحرم يتكلمون بها. وعكس ابن السكيت فقال وأهل الحجاز يقولون للمرأة زوج بغير هاء، وسائر العرب زوجة بالهاء وجمعها زوجات. والفقهاء يقتصرون في الاستعمال عليها (زوجة) للإيضاح وخوف لبس الذكر بالأنثى إذ لو قيل: تركة أو فريضة فيها زوج وابن لم يعلم أذكر هو أم أنثى أه.
وجاء في لسان العرب
وبنو تميم يقولون هي زوجته وأبى الأصمعي فقال زوج لا غير، واحتج بقول الله عز وجل:(اسكن أنت وزوجك الجنة) فقيل له نعم كذلك قال الله تعالى فهل قال عز وجل لا يقال زوجة، وكانت من الأصمعي في هذا شدة وعسر أه.
من هذا يظهر أن جميع العرب يقولون زوجة ما عدا الحجازيين وعبروا بها في شعرهم ونثرهم كما إن العلماء ورجال الشرع يؤثرونها على زوج دفعاً للاشتباه. وأرى أن نخصصها للمرأة ونخصص الزوج للرجل، ولاسيما في لغة التخاطب.
علي حسن الهلالي
بالمجمع اللغوي
يراعوا الابراع:
علق الأستاذ السيد صقر في العدد 833 على تعليق الأستاذ كرد علي على البيت:
يراعوا إذا ما كان يوم كريهة
…
وأسد إذا أكل الثريد فظاظ
فقال والصواب يراع ' لا يراعوا. وأقول للأستاذ الفاضل إن يراعوا هي الصواب وهي من
الروع بمعنى الفزع قال قطري بن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً
…
من الأبطال ويحك لن تراعي
ولو قرأ الأستاذ الفاضل هذه الأبيات لأدرك أن الكلام عن جماعة لا عن فرد، وأن يراعاً بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط. قال في الأساس:(ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعه ويراع قال. . . فارس في اللقاء غير يراع. كذلك خطأ الأستاذ (فيزين له الكأس) وأوجب تأنيث الفعل ونسي الأستاذ أن الكأس مجازية التأنيث يجوز معها تأنيث الفعل وتذكيره. وأخيراً للأستاذ الناقد تحياتي وإعجابي.
عمر إسماعيل منصور
من صميم العربية:
مما يجري على ألسنة العامة كثيراً حتى ليظن أنه عامي ولا يمت إلى الفصحى بسبب قولهم: (فلان يفك المشاكل) يعنون أنه يحل المعقد من الأمور، وهو بهذا المعنى ورد في اللغة. ففي (تاج العروس) - وهو يفك المشاكل - الأمور الملتبسة - ج7، ص394.
ومن هذا القبيل قولهم: (شكل فلان كذا، ظريف أو جميل) يقصدون صورته - وبهذا ورد في اللغة في (اللسان) شكل الشيء صورته المحسوسة والمتوهمة.
من الأخطاء - أبحاث - والصواب - بحوث - يدور هذا الخطأ على ألسنة الخاصة، ويرد في كتاباتهم مع أن القياس لا يجيزه، وكتب اللغة لم تذكره.
(اللسان) أقتصر على ذكر البحوث جمعاً - لبحث - ومثله - تاج العروس - و (الأساس، ومحيط المحيط، والمختار، والمصباح) لم يتعرضوا له. والغريب أن صاحب (أقرب الموارد) يذكره - ونص عبارته (البحث: طلب الشيء تحت التراب وغيره، ج - أبحاث - ولنا أن نسأل: ما مصدره؟
رياض عباس
دبلوم في التربية، وعلم النفس
تصحيح:
في العدد الأخير من الرسالة وقع خطأ في ترقيم الصفحات. فذكرنا بعد رقم 1099 رقم2000 وكان اللازم 1100.
رسالة النقد
اللهجات العربية
الدكتور إبراهيم أنيس
الأستاذ المساعد بدار العلوم
للأستاذ عبد الستار أحمد فراج
ما من شك أن أستاذنا الدكتور أنيس قد بذل مجهوداً عظيماً في كتابه اللهجات العربية، وحاول مشكوراً تطبيق ما تخصص فيه من علم الأصوات الحديث على ما ورد إلينا من اللهجات العربية وسيجد القارئ تبويباً مرتباً وتسلسلاً مرتبطاً في عرض واضح لفكرته التي يسوقها وهو يكاد يقنعنا بموافقته على آرائه وقد أبدع في معظم فصول كتابه الستة ودل - كما نعهده - على علم فياض.
وإذا جاز أن تكون العادات والتقاليد في جميع العالم خاضعة لناموس واحد، جاز لنا أن نقهر جميع اللهجات العربية على الخضوع لما استنتجه الأوربيون من دراستهم للهجاتهم وأصواتهم ولكن ما أحسب أن العوامل التي أثرت في التقاليد الإنجليزية مثلاً تتفق مع العوامل التي أثرت في التقاليد العربية تمام الاتفاق فليست البيئة كالبيئة وكذلك في اللغة ليست الحروف في أكثرها كالحروف وإذا كانت نظرية الطب أن سوء التغذية مثلاً يسبب ضعفاً عاماً فليس كل ضعف عام في الطب يرجع إلى سوء التغذية ولكن الظاهرة التي نلحظها في كتاب أستاذنا هي وجوب إخضاع اللهجات العربية بدون قيد ولا شرط لما قرره علم الأصوات الحديث فإذا وجدنا بعد البحث أن كثيراً من الظاهرات العربية في لهجاتها غير منطبق على ما قرره طعناً في رواية الرواة مهما بلغت من القوة.
في رأيي أن هذا الاتجاه غير مستقيم، فليس من العدل أن أفرض الفرضيات فرضاً، وإنما العدل أن أدرس وأستقصي ثم أحاول استخلاص قواعد غالبية غير مكتف بمثل أو ببضعة أمثلة. لكنه كما قدمت جعل نظريات علم الأصوات الحديث قضايا مسلمة تنطبق على اللهجات العربية تمام الانطباق، مع أن النظريات الهندسية لا ينطبق فيها كل مثلثين إلا إذا تساوى في الفرض ضلعان والزاوية المحصورة بينهما أو زاويتان وضلع. كما إن الطب
إذا وجد أغراضاً حاول أن يطبق عليها علمه السابق فإذا وجد فيها نوعاً من المغايرة بحث عن الأسباب ودرسها لا أنه ينكرها أو يخضعها بالقوة لمعلوماته.
أول ما يطالعك كتاب اللهجات العربية في مقدمته ويتكرر في ص32: (ولسنا نعلم مؤلفاً من علماء العربية على وفرتهم واهتمامهم بكل دقائق الدراسة اللغوية عني باللهجات العربية عناية خاصة فافرد لها كتاباً مستقلاً) لو أنه قال لم يصلنا مما ألفه علماء العربية كتاب مستقل باللهجات لكان محقاً لكن إنكاره عليهم العناية باللهجات العربية حكم جائر، ولقد رجعت إلى كلمة كتبتها في كراساتي من زمن فوجدتني كتبت منها ما يأتي: وليس إفراد كتاب في لغات العرب بالأمر المستحدث، فقديماً كتبت في هذا الموضوع مصنفات أفردها أعلام العربية بالتأليف، وأول من أفرد كتاباً في لغات العرب هو يونس بن حبيب ونسج على منواله الأصمعي وأبو زيد الأنصاري وأبو عبيده وجرى على نهجهم أبو عمر الشيباني والفراء ثم ابن دريد وغيره، إلا إن أيام الشقاء في بغداد والعراق التي جلبها المغول إليها كانت أشد شقاء على العلم والأدب فعبثت أيديهم بما أنتجته القرائح الفذة وأتت على مجهود كثير من العلماء الأعلام، فلا يوجد بين أيدينا - فيما أعلم - كتاب ينفرد بلغات العرب، وقد قرأ هذه الكلمة أستاذنا المرحوم الجارم بك أيام كان عميداً بالنيابة لدار العلوم منذ ثمانية أعوام، وفيها بخطه لفظان بالقلم الأحمر عدلهما. أرجو أن يراجع الدكتور تراجم من قدمتهم وغيرهم في كتاب ابن خلكان ومعجم الأدباء، وسيجد أنهم عنوا باللهجات العربية عناية خاصة وأفردوا لها كتباً مستقلة، ولكنها مع الأسف لم تصلنا، وقد تكون مختفية في ثنايا مكتبات العالم تنتظر من يخرجها.
في ص42 (ولكن الذي يدعو إلى الدهشة أن قراءة أبي عمرو وتلميذه يعقوب لم تنتصر للإمالة إلا في مواضع خاصة نصت عليها كتب القراءات، ولعل الصراع العلمي الذي كان بين الكوفة والبصرة هو الذي دعا إلى أن تتخذ البصرة طريق الفتح في معظم المواضع حتى لا تشبه الكوفة بإمالتها). . .
حقيقة إن يعقوب لم ينتصر للإمالة إلا في مواضع خاصة، أما أبو عمرو فهو من الذين انتصروا للإمالة ومن المكثرين فيها - يراجع إتحاف البشر - غاية ما في الأمر أن الإمالة قسمان كبرى وهي التي تسمى الإضجاع والبطح، ومتوسطة وتسمى التقليل والتلطيف،
وأبو عمرو يميل إمالة كبرى تارة ويميل إمالة متوسطة مرة أخرى، ولكنه على كل حال من القراء المكثرين في الإمالة، أما أن الصراع العلمي الخ ففيه نظر حيث إن القراءة سنة متبعة تؤخذ بالتلقي والرواية لا بالتشهي والهوى، وقد يخالف القارئ من حوله لتلقيه عن شيوخ آخرين متأثراً بما تلقاه عنهم، ولهذا لم يكن من الغريب أن عاصماً خالف الكوفيين في إمالتهم لأنه قال لحفص: ما كان من القراءة التي أقرأتك بها فهي القراءة التي قرأت بها علىأبي عبد الرحمن السلمي عن علي. والقراءة التي أقرأتها أبا بكر بن عياش هي القراءة التي كنت أعرضها على زر بن حبيش عن ابن مسعود.
في ص46 (في مثل الفعلين باع، وقال يظهر أنه قد أتى عليهما حين من الدهر كان ينطق بهما بيع وقول بفتح فسكون ثم تطور الصوت الأول إلى والصوت الثاني إلى ثم تطور إلى أي أن فتحة باء الكلمة في الفعل الأول قد أميلت إلى الكسرة وفي الفعل الثاني قد أميلت إلى الضمة - وحقه أن يقول فخمت لأن هذا هو الاصطلاح كما في النشر وكتاب سيبويه ومفصل الزمخشري - ثم تطورت الإمالة إلى الفتح باع وقال).
أين الدليل على إنهما أتى عليهما حين من الدهر كان ينطق بهما بيع وقول مع إن الأفعال الماضية الصحيحة وهي الأكثر متحركة الوسط ويقاس على وزنها الأجوف ولم لم تكن مثلاً من أول أمرها قال وباع والطفل يقول بابا وماما من أول الأمر وهل اللفظ الإنجليزي كان أصله مثلاً ثم تطور وأنه ينتظر تطوره إلى التي بمعنى آخر محافظاً على معناه وهل لفظة مثلاً كانت ثم تطورت إلى ثم صار أخيراً حيث يقول لنا في ص 47 تلك هي المراحل التي تبررها القوانين الصوتية، وهل لفظة كانت ثم تطورت إلى وأرجو ألا يحتج علي بمثل وماضيها لأن الأول مضارع والثاني ماض، وإلا فهمت أن الأول كان يستعمل للماضي أولاً، ومع ذلك فهل سيصير مستقبلاً بالمعنى الأصلي لا بالمعنى الحالي، ثم ما قوله في الشعر الآتي:
ليت وهل ينفع شيئاً ليت
…
ليت شباباً بوع فاشتريت
و: حوكت على نيرين إذ تحاك=تختبط الشوك ولا تشاك
في ص 52 (ثم قسموا الإدغام إلى كبير وهو الذي فيه يفصل بين الصوتين الساكنين صوت لين قصير (أي حركة) وقد نسب الإدغام إلى أبي عمرو بن العلاء، وهذا النوع من
الإدغام يتطلب عمليات صوتية معقدة قبل أن يتحقق. . . أما النوع الثاني للإدغام عند القراء فهو الإدغام الصغير وفيه يتجاوز الصوتان الساكنان دون فاصل من أصوات اللين وهو الذي شاع في معظم اللغات لأن شرط تأثر صوت بآخر هو التقائهما التقاءً مباشراً) أما أن الإدغام الكبير يتطلب عمليات صوتية معقدة قبل أن يتحقق ففيه نظر لأنه لا فرق بين الصغير والكبير إلا أن الكبير يكون فيه المثلان أو المتجانسان أو المتقاربان متحركين مثل: لذهب بسمعهم ويشفع عنده. والصغير يكون أولهما ساكناً مثل: اضرب بعصاك واذهب بكتابي، أما شروط تأثر صوت بآخر هو التقاؤهما التقاءً مباشراً ففيه نظر أيضاً لأن كلمة سراط ومسيطر وباسط وغيرها تأثرت السين بالطاء فقلبت صاداً أو أشمت فقرئ صراط ومصيطر وباصط. الخ وقرئ بعضها بالإتمام وكلها قراءات صحيحة مسموعة وليس الالتقاء فيها مباشراً بل فصلت بينها أصوات ساكنة وأصوات لينة.
ص 57 (على أنه قد روى أيضاً أن بعضاً من تميم يقلبون الهمزة الساكنة إلى صوت لين من جنس حركة ما قبلها فيقولون في رأس وبئر وشؤم على الترتيب راس وبير وشوم).
لقد نقل هذا الخطأ عن حفني ناصف بك فليس هناك كتاب ينسب إلى تميم أو بعضها تسهيل الهمزة، لأن التميميين أحرص العرب على النبر وذلك بإجماع كتب اللغة، فمن أين جاء به وكيف تجمع القبيلة بين متناقضين؟ وقد يجاب أن أبا عمرو التميمي كان يسهل كثيراً من الهمز في قراءته ولكن الجواب قد قدمته في مقالي المنشور بالرسالة في العدد 813 عنأبي عمرووهو أنه تأثر بشيوخه الحجازيين وهم أكثر من أخذ عنهم، وكانت نشأة أبي عمرو الأولى في مكة والحجاز.
ص63 ذكر ما اختلفت عليه القبائل من جهة الإعراب وأورد. . ليس الطيب إلا المسك وما الحجازية وإن النافية وكم الخبرية - مع ملاحظة أنه وضع علامة استفهام بعد أمثلة كم الخبرية ولعله سهو - ولعل والجر بها ومتى. . الخ ثم قال في ص65 (والحق أن هذا النوع من الاختلاف الإعرابي لا يمت للهجات العربية بصلة، وإنما هو من صنع النحاة حين أشتد الجدل بينهم فلم تكن لهجات الكلام عند القبائل تلتزم الإعراب على الصورة التي رويت لنا في كتب النحاة، وإنما ألتزم الإعراب على تلك الصورة في اللغة الأدبية التي نزل بها القرآن الكريم ونظم الشعر) ثم قال في ص66 (وإلا فكيف يتصور من الناحية
الصوتية أن لساناً يعجز عن نصب خبر ما أو نصب اسم لعل أو جر تمييز كم الخبرية)
ونحن قد نسلم أولاً - جدلاً - أن هذا من صنع النحاة فكيف رضي في صفحة 69، 73، 74 أن يعتبر صنع النحاة يمت للهجات العربية حين يقول إن القبائل البدوية تميل بوجه عام إلى الضم واستشهد له ص73 بورود: يا آيه الناس ونحن الذون صبحوا الصباحا وأن بني تميم يعربون أمس. فكيف تصورنا هنا أن لساناً يعجز عن يا أيها الناس ونحن الذين وبناء أمس على الكسر أم أننا حين نقرر نظرية ننكر وحين نقرر نظرية أخرى نثبت؟ ومع ذلك فإن هذه الاختلافات الإعرابية التي نسبها إلى صنع النحاة قد جاءت في القراءات والشعر، فقد قرأ ابن مسعود: ما هذا بشر، وقرئ في رواية المفضل عن عاصم: ما هن أمهاتهم بالرفع. وورد في الشعر:
لعل أبي المغوار منك قريب
…
متى لجج خضر لهن نئيج
فلا معنى لأن نكذبهم في كثير ونصدقهم في قليل بدون مبرر ص70 (القبائل البدوية تميل إلى الأصوات الشديدة في حين أن أهل المدن المتحضرة يميلون إلى رخاوة تلك الأصوات الشديدة بوجه عام، فلباء والتاء والدال والكاف وغيرها من الأصوات الشديدة قد نسمعها من أفواه المتحضرين: فاء. سيناً. زاياً. شيناً. على الترتيب) أما أنا فاعترف أنني لم أسمع أحداًمن المتحضرين يفعل ذلك، ولعلنا سنسمع في المستقبل من ينطق جملة: بركت دابتك هكذا: فرشس زافسبسن، وجملة بنيت بيتي عندكم هكذا: فنيس فيسي عنزشم، وحينئذ ننتقل بالتحضير إلى الرطانة. أما إذا كان قصده بالتاء الثاء وبالدال الذال وحدث خطأ مطبعي فأقول أيضاً إن الثاء حالياً تنطق تاء توب. تلاتة. تور. تعبان. . الخ والذال تنطق دالاً: دهب. ديب. ديل. . الخ ومع ذلك تبقى الباء والكاف فنسمع جملة بثثتك ما في ذاكرتي هكذا فسستش ما في زاشرتي.
ص86 (أجمع الرواة على نسبة صفة خاصة لقبائل ربيعه سموها أحياناً بالكشكشة وحيناً آخر بالكسكسة. . . ثم قال ونحن حين ننظر إلى هذه الروايات على ضوء القوانين الصوتية نستطيع إن نستخلص أموراً:
1 -
أن الكسكسة بالسين لا وجود لها في اللهجات العربية.
2 -
أن الكشكشة مقيدة بكاف مكسورة. .
3 -
ليست الكشكشة مقيدة بحالة الوقف.
4 -
لابد في الكشكشة أن تحل الشين محل الكاف.
5 -
أن ما خيل للقدماء أنه شين ليس شيناً خالصة - وأراد حرف (تش ثم يقول وهذا الصوت هو نفس ما سمعه القدماء في تلك الظاهرة، ثم نقل حفني ناصف أن لهجة بلدتي شرويدة وزنكلون وما حولهما من مديرية الشرقية يجعلون الكاف كالشين في مثل الكلمتين: كلب وكتاب. ثم يقول: (وعلى هذا فلا شك أن أهل شرويدة وزنكلون ينطقون بكلمة كلب على إنها مكسورة الكاف. . .)
إن أغلب الرواة والكتب القديمة والحديثة يقرنون الكشكشة بالكسكسة ولا يفردونهما. واختلافهم إنما هو في نسبة كل منهما إلى القبيلة - انظر الصاحبي والقاموس وشرحه ولسان العرب والصحاح وكافية ابن الحاجب والأشموني وخزانة الأدب - وليس كل منهما قد نسبه معظم الرواة إلى قبيلة واحدة فقد نسب إلى تميم وإلى أسد، وإلى هوازن من قيس، وإلى بكر من ربيعه وإلى مضر عموماً شاملة تميماً وقيساً وأسداً، وإلى ربيعه عموماً شاملة بكراً وتغلب. ومن مجموع هذه الروايات يتبين أن الكشكشة والكسكسة موجودتان. على أن الدكتور أنيس في قسم المترادفات ص145 ذكر أنه قام بجمع عشرات من الكلمات مع ذكر العلاقة الصوتية بينهما، ومما ذكره ص152 تحت اختلاف المخرج: الرعس والرعش. والغبس والغبش. الخ) كما أننا نجد كثيراً من الأطفال وبعض الكبار يجعلون يجعلون الشين سيناً. فإنكار الكسكسة ليس له ما يبرره بل يجب أن ندرسه. أما أن الكشكشة مقيدة بكاف مكسورة وإلزام أن يكون أهالي شرويدة وزنكلون وما حولهما من مديرية الشرقية ينطقون بكلمة كلب على إنها مكسورة الكاف فهو إلزام بغير ملزم إذ ليس من ذكرهم يكسرون الكاف في كلب ولا كمون، ولم يقل ذلك من نقل عنه مع أنه نقل كسر أول المضارع في موضوع آخر تحت ملاحظة أخرى. على أن اللهجات العامية فيما كان على وزن فعال و ' فعال بضم الأول أو كسره ككتاب وحصان وبساط وغراب وصداع يسكنون فاء الكلمة فيقولون كتاب وغراب وذلك البدء بالساكن موجود في اللغات كما أن حرف تش ينطق في كثير مفتوحاً والرواة لم يقيدوا الكشكشة بحالة الوقف، بل قالوا من الناس من يجري الوصل مجرى الوقف ورروا فعيناش عيناها ولبيش اللهم لبيش، وعلى فيها ابتقى
ايفيش. الخ ما رواه الدكتور نفسه في صفحات 86، 87، 90، أما ما أستخلصه تحت رقم 4 فيناقضه ما هو منتشر في اللهجات العامية الآن - ولندع قول القدامى فإنه يناقضه أيضاً - من أنهم يلحقون شيناً آخر الكلام في النفي والاستفهام التقريري سواء كانت هناك كاف أم لم تكن في وصل الكلام ووقفه فيقولون يا فلان ما تلعبش وما قابلنكش وسافرش فلان؟ ونحن وإن كنا نستطيع إرجاع الشين في بعض الأحوال - ماعدا الاستفهام وما آخره كاف خطاب - إلى لفظة شيء مثل ما تلعبش أصلها لا تلعب شيئاً، ثم ضاعت الحركة الإعرابية والتنوين بفعل العامة فصارت: ما تلعبشي أو ما تلعبش، إلا أننا لا يمكن أن نرجعها في مثل: سافرش فلان؟ وما سمعتكش تتكللم إلا بتكلف وتجوز بعيد، ولهذا نرجع أمثال ذلك إلى التوسع في لهجة ربيعه ومضر. وعلى كل حال فهنا صوت آخر اتصل بصوت سابق.
ص128 (كل لهجة من اللهجات أو مجموعة منها قد التزمت اشتقاق المضارع من الماضي الثلاثي على هيئة خاصة ولا تشذ عنها إلا في النادر).
ولقد كتبت في الرسالة في العدد 805 مبيناً خطأ ذلك ولا داعي لتكراره على أننا في لهجاتنا العامية لا نسير على نظام واحد في اشتقاقنا نقول يكتب ويرسم وينسج. . . الخ بكسر الثالث ونقول يرطن وينتر. . . الخ بضم الثالث وحلم ويلعب. . . الخ بفتح الثالث وكل هذا مما له أوزان في الفصحى قد توافق العامة وقد لا توافقها. أما الإمالة والتسهيل ونحوهما فذلك من العادة اللغوية التي لا تشذ فيها الجماعة المرتبطة والبيئة المتفقة.
ص139 (روي أن أبا هريرة لم يعرف المقصود من لفظة السكين لأنها في لهجته تسمى المدية ثم قال: ولعل هذه الحادثة كانت قبل نزول القرآن الكريم بلفظ السكين في سورة يوسف) ولو أنه اكتفى بالمثل دون التعليل لكان أحسن لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع من الهجرة وسورة يوسف نزلت قبل الهجرة ولو قال قبل سماعه سورة يوسف لكان أدق.
ص140 ذكر أن رجلاً ذهب إلى أحد ملوك اليمن فأطلع إلى سطح والملك عليه فلما رآه الملك اختبره فقال له ثب. . . الخ ولست أدري سبب زيادة (اختبره) لأن القصة وسؤال الملك ما شأنه وإجابة الحاضرين ليست عربيتنا كعربيتهم تنفي أنه أختبره.
ص167 (لمقت الشيء بمعنى كتبته في لهجة عقيل وبمعنى محوته عند قبائل قيس) مع أن عقيلاً من قبائل قيس ولو قال عند بقية قبائل قيس لكان أفضل.
لقد أعجبني كال الإعجاب تحليله في الإمالة ووصوله في ص47، 48 إلى أن الكلمات التي أصلها يائي تكون الإمالة فيها هي الأصل ويكون الفتح تطوراً والحجازيون قد قطعوا مرحلة في تطور لهجتهم. وإن الإمالة لأجل الحركة في مثل كتاب وهي التي كان سببها الكسرة للانسجام بين أصوات اللين يكون أصلها الفتح وتكون الإمالة تطوراً إلى مرحلة الانسجام. وكنت أنتظر أن يحكم بعد هذا بأن الحجازيين يميلون الألف لأجل الكسرة لأن النظرية التي قررها سليمة وهي نظرية السهولة والاقتصاد في الجهد العضلي تتجه إليها القبائل المتحضرة ولكنه لم يسعفه الدليل فقال ص69 (أما حين تكون الإمالة نتيجة انسجام بين أصوات اللين كما في إمالة نحو كتاب فتلك صفة اختصت بها القبائل البدوية وقد سبقت فيها القبائل المتحضرة) ولو رجع إلى الهمع مثلاً لوجد النظرية صحيحة إذ نص على أن الحجازيين يميلون الألف لأجل الكسرة. ولاستغنى عما قاله ص69 فناقض به نظريته الصحيحة.
إني أكتفي بهذا القدر وأعتقد مع ذلك أن كتاب اللهجات العربية قيم في أبحاثه جميل في عرض موضوعاتهوإني إذ أنقد كتاب أستاذي فإنما أعطي حق العلم أيضاً ولكل إنسان رأيه وبخاصة أنه كتاب نشر على الناس وأصبح من حق الجميع فأما كنت على حق فيعاد النظر فيما نقدته وإما كنت مخطئاً أم لم أفهم بعد فيردني المؤلف والقراء مع رجائي ألا يكون علم الأصوات الحديث هو كل شيء في الرد وبخاصة ما استنبط بمقارنة السنسكريتية باللاتينية واليونانية مع التعليل المعقول لما عارضت به.
عبد الستار أحمد فراج
محرر بالمجمع اللغوي