المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 838 - بتاريخ: 25 - 07 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٣٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 838

- بتاريخ: 25 - 07 - 1949

ص: -1

‌12 - أمم حائرة

العدل

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك وزير مصر المفوض

بالمملكة السعودية

إذا اجتمعت النفس بالإيمان، وقويت واستنارت، وارتقت إلى عالم المعاني، وأنِست بالمعاني الجميلة العامة، وأحست الوئام والسلام، ونفرت من النزاع والخلاف، وانطلقت من حدود الأهواء والشهوات والرغبة والرهبة والعصبية، وعلت على الزمان والمكان - حينئذ تؤهل للحق والخير والجمال والعدل والإحسان وإذا أهلت النفس للعدل. وسكنت إليه وآثرته كانت أهلا لأداء الأمانة التي قال فيها القرآن:

(إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنا وأشفقَ منها وحملها الإنسان).

وكانت أهلا لخلافة الله في الأرض، أي القيام بعدله بين خلقه، وجهدت للارتقاء إلى منزلة العدل، العدل المطلق، في الرغبة والرهبة، والمنشط والمكره، والرضا والغضب، ومع القريب والبعيد، والعدو والصديق، في كلُّ حين وعلى كلُّ حال.

العدل الذي قال فيه القرآن:

(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا هو أقرب للتقوى)

وقال: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)

فتجعل النفس هذا العدل قصدها وغايتها، وغايتها، وأملها ومنيتها، وتسير إليه دائبة، وتعمل له جاهدة، حتى تبلغه أو تقاربه، أو تبقى راغبة فيه، سائرة إليه على قدر الطاقة، حتى تبلغ أو تقارب أو تنقطع دونه وقد سارت إليه مراحل، وضربت في طريقها أمثالا وخلقت فيه آثاراً.

بهذا العدل قامت السموات والأرض، واستقامت الخليفة، واتسقت أمور الأمم.

(والسماء رفعها ووضع الميزان، ألاّ تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تُخسِروا

ص: 1

الميزان)

فإذا عدل الواحد فيما بينه وبين الناس، وعدلت الجماعات فيما بينها، والتزمت العدل وآثرته ومرنت عليه ودأبت، زال البغي والعدوان والطغيان، وكل ما يمت إلى هذه المعاني، مما هو خلل في النظام، وميل في الميزان وحيد عن الائتلاف والوئام، ونزوغ إلى الاضطراب والخصام.

وإذا زال التنافر والتنازع والتغابن في صورها الكثيرة، وأحوالها المختلفة، وغلبت قوانين العدل المؤلفة الجامعة، وأخذ الوحدان والجماعات بالحق وأعطت به، وصرَّفت صغار الأمور وكبارها بالعدل، ائتلفت الأعمال، وانقلب البغض حباً، والاختلاف ائتلافاً، والخصام وداً، والتنازع تعاوناً، والتقاطع تعاضداً.

تمثل الوجدان والجماعات، وقد أخذ كلُّ حقه وأعطى حق غيره، وتعاونت الألسن والأيدي والقلوب على خير وسعادة الناس، وتحول هذا الجهد الدائب والعمل الناصب في تدريب الجند، وإعداد السلاح، وتدبير خطط القتال، للتسلط والغصب والجور، إلى اجتهاد في إسعاد الناس دون تفريق بين شرقي وغربي وأسود وأبيض. وانقلب مصانع الدمار وآلات البور مصانع للعمران وآلات لرغد العيش، وجلب الرفاهية للناس ودفع الشر ومغالبة الفقر والمرض وما يتصل بهما من بؤس وتعاسة.

تمثل هذا ثم اعجب لهذه الإنسانية الضالة، والبشرية الشقية تملأ الأرض والسماء عداء وقتالا، وتشغل بالقتال والإعداد له عن خيرها وسعادتها، ثم تحاول بعد كلُّ معركة غسل الدماء، وضمد الجراح، ودفع البؤس غير آلية في الإعداد للمعركة الأخرى. ولن يستقم للناس العمل للخير والشر والسعادة والشقاء معاً، لن يستقم العمل للحرب والسلم، والسعي للعمران والدماء سواء؛ فإما عملوا للشر والتعاسة. يرجون النجاة ولا يسلكون مسالكها، ويقصدون الخير ولا يسيرون على نهجه!

(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلنا جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم).

(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا عليهم بركات من السماوات والأرض).

كلُّ هذا القلق وهذا الشقاء مما حاد الناس عن العدل.

ص: 2

إن آفة الناس في البغي والعدوان، وشقائهم في الاثرة والعصبية التي تحيد بهم عن العدل، وتنأى بهم عن النحاب والتعاون.

وإذا تعامل الناس بالعدل بينهم، وضعفت الأثرة أو امّحت في نفوسهم، أرتقوا من بعد درجات إلى الفضل في المعاملة، والإيثار فيما بينهم. وراء هذا درجات من السعادة لا تنتهي.

يرى كثيراً من الناس أن هذا خيال أو حلم، وأن الناس لن يتعاملوا بالعدل مقيدا أو مطلقاً، ولن يكفوا عن العدوان والبغي. ولست أذهب مذهبهم.

ففي وجدان الإنسان خير، وفيه نزوع إلى الحق والعدل إذا أوقضت في نفسه دواعي الخير بالدعوة الصالحة، والأسوة الحسنة، وإذا أحيط من العلم والعدل بما يعظم رغبته في الخير، وصدوفه عن الشر وينبه معاني الحق والعدل في وجدانه.

وإن كانت درجات العدل التي ندعو إليها أرفع من العامة، وأعلى من الدهماء، فليس بعيداً أن يستجيب لها في كلُّ أمة طائفة من أولى العقل والعلم. وإذا قامت في كلُّ أمة أئمة تدعو إلى العدل ونبع فيها قادة تسير عليه وتعمل به وصرّفوا الأمور بالعدل المطلق وأخذوا الناس به طوعاً وكرهاً عمّت الأسوة وسكن الناس إليها وغلب العدل في قلوب الناس وأعمالهم، واستقرت عليه الأمور، وشاعت به المحبة والسلام. . .

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌مصطفى كمال الزعيم التركي

بقلم الكونت سفورزا وزير خارجية إيطاليا

للأستاذ أحمد رمزي بك

(تتمة)

وددت كثيراً لو أن ما رأيته في المؤتمر الذي عقد بلندرة في فبراير سنة 1921 كان كافياً ليكتشف الغطاء عن أنظار أولئك السياسيين الذين أبوا أن يصغوا لأي نصيحة فيتبينوا الحقائق.

حضر إلى هذا المؤتمر وفدان تركيان. .

الأول يمثل تركيا الرسمية حكومة السلطان المعترف بها وعلى رأسه توفيق باشا، وهو رجل طاعن في السن محترم من الجميع تولى الصدارة العظمى عدة مرات.

والثاني وفد حكومة أنقرة يرأسه وزير خارجيتها بكير سامي بك. وقد رفضت الحكومة البريطانية استقباله حتى لا يؤخذ هذا منها بأنه اعتراف رسمي بحكومة الكماليين.

ولكن كم كانت دهشة المفوضين الأوربيين الذين كانوا يؤملون رؤية أعضاء الوافدين تفرق بينهم الكراهية والبغضاء أن يجدوهم في تآلف تام جالسين على نفس المقاعد.

وكم كان تعجبهم لدى رؤية ذلك الشيخ الوقور توفيق باشا يقف بما حوله من حق الرياسة على المندوبين الترك ليعطي الكلمة لبكير سامي بك رئيس وفد أنقرة الذي تكلم بالنيابة عن الوفدين.

وقد أدرك بكير سامي بك قيمة النصائح التي أسداها إليه المسيو بريان رئيس الوفد الفرنسي والتي أبديتها من جهتي بالتمسك يخطه معتدلة وقد ما يمكن أن تكسبه قضية بلاده إذا أظهر أنه أكثر رغبة من المفوضين اليونان رأى هيئة تحكيم منصفة.

وبناء عن هذه الخطة تم القبول التحكيم ومشروع إجراء التحقيق الدولي في آسيا.

وكان هذا القرار على جانب من الأهمية السياسية لما قد يأتي به من النتائج الحاسمة ولأن في قبول دول إنجلترة وفرنسا وإيطاليا إجراء تحقيق في الأناضول اعترافاً ضمناً من واضعي معاهدة سيفر، أنهم لم يحسنوا استقاء المعلومات الحقيقية فبنوا عملهم في سياستهم

ص: 4

الشرقية على مبادئ غير مستقيمة مع الواقع.

ولم يكن لدى الزعيم التركي ما يحمله على التشدد، لأن كلُّ المظاهر تدل على أنه قد اقترب من الحصول على صلح يصح أن يقبل.

ولكن لم تمض ثلاثة شهور على هذا حتى انهار كلُّ البناء لأن حكومة أثينا رفضت الاعتراف بقرارات لجنة التحقيق ولجأت إلى تحكيم القوة.

فكانت هزائمهم لسنة 1921 التي أعقبت توغلهم في الداخل وانتهت بتراجعهم إلى خط أفيون قره حصار وكوتاهية حيث وقفوا سنة بطولها ينتظرون، ذلك لأن الزعيم التركي أراد لهم هذا - وقد يكون المرء في تريثه وإمهاله لخصمه أكثر شجاعة منه في مبادرته بالهجوم ومناجزته لعدوَّه.

وهكذا تحفز بهم سنة بطولها حتى أتم عدته ثم قضى عليهم بضربة كانت الأخيرة.

لأنه في 26 أغسطس سنة 1922 هاجم أفيون قره حصار؛ وفي اليوم التالي أتم فتح الثغرة في قلب الجيش اليوناني، فأصدر القائد العم الجنرال تريكوبيس أمراً بالتراجع انتهى بتمزيق الجيش كله ووقوع القائد نفسه أسيراً في يدي مفرزة من الفرسان الأتراك، وكان ختام المعارك احتلال أزمير التي دلها الترك بعد مضي أسبوع وأحد على اختراقهم الجبهة.

أعقب ذلك ضياع الملك من يدي قسطنطين ثم اجتماع مندوبي إنجلترة وفرنسا وإيطاليا في 11 أكتوبر سنة 1922 ليوقفوا الحركات العدائية بهدنة مودانية التي اختتمت بعدها أربع سنوات مملوءة بالأوهام والأخطاء، والتي أرجعت لحكومة أنقرة استنبول وترقيا الشرقية وأدخلت جيشهم إلى أوربا منتصراً تحت قيادة مصطفى كمال فكر بعض عمال بريطانيا عند بدء الاحتلال في نفيه إلى مالطة.

وليس الغرض من سياق هذا الحديث والدخول في التفاصيل أن أشرح حوادث كنت شاهداً لها وعاملاً فيها فبطبيعة المراكز التي شغلتها كمندوب سام لإيطاليا في باريس وقت عقد هدنة مودانياً، وإنما قصدت أن أشير في هذه التفاصيل إلى الأسباب الخارجية الحقيقية التي سببت نجاح الزعيم التركي وساعدته على الوصول إلى هذه النتيجة

لقد حكم الزعيم التركي بلاده منذ ذلك التاريخ وأظهر رغبة وحماساً شديدين للتجديد والتبديل متجهاً بكليته نحو أوربا بشكل جعل مفكري الغرب ينظرون إلى هذه التغييرات

ص: 5

بغير النظرة التي كان ينتظرها منهم، لأن أغلبها مظهري، ثم هي ثانوية بجانب الأعمال الضرورية الأخرى ولم تقتصر نتيجتها على أعمال التقاليد الإسلامية التي طالما استمد منها الشعب التركي قوته وجلده في القرون الماضية.

والخطأ العظيم الذي ارتكبه الزعيم في عمله الإصلاحي هو محاولة الجري بسرعة لم يجرؤ عليها المصلحون الذين تقدموه، ولا يبعد أن تكون وسائل الاتصال الحديثة من السكك الحديدية وغيرها وما طرأ على العالم بعد الحرب العظمى قد أثرت فيه وجعلته يعتقد إن فكرة التقريب بين شعوب تختلف اختلافاً ليلً في الأفكار والعواطف أصبحت أمراً سهلاً ولكن هذه الإصلاحات الغربية مهما تشعبت وكثرت فلم تكن في يوماً ما إلا دوراً ثانوياً الذي قام به الزعيم كمنظم وموجد للقوة العسكرية التي كونها من العدم في بلاده، ثم كمحرك لعوامل الدفاع والجهاد بين قومه، وسيبقى أسمه كجندي ورجل من رجال الحرب يذكره التاريخ دائماً مقروناً بالحركة العظيمة التي كان على رأسها.

وقد امتاز مصطفى كمال في كل أدوار حركته الاستقلالية بتيقظه وضبطه لنفسه وطول أناته؛ وكان في أشد الأوقات وأعصبها مالكاً لحواسه شديد الحذر في تصرفاته بقدر ما كان سريع الإقدام والتنفيذ في إصلاحاته وتغييره الطربوش وأخذه بالقبعة.

ولطالما دفعه أنصاره - وفريق منهم يبطن الكيد له - إلى التعجل. فكان يا [ى إلا أن يكون يصبر الشهور وهو لا يبدي نشاطاً للقتال، بل يجمع قواته ويزيد في معدات جيشه، ويزن الآمر حتى يتأكد من أن كل عوامل النجاح في صفه، ثم يوجه ضربته الآخرة. وما أن يقذف بقواته حتى يرى أعوانه أن ذلك التباطؤ الذي طالما أخذوه عليه قد أنقلب إلى دفعة ومناجزة للخصم قوية يسيرها نشاط دائم منظم لا يوقفه عائق حتى يقذف بالأعداء إلى البحر.

والذي يدهش إليه الإنسان إن الصفات التي ملكها الزعيم التركي لم تغادره وهو في أعلى قمة مجده وعلى رأسه أكاليل النصر وطوع أمره جيش يترنح بنشوة الظفر - لأنه غداة المعارك التي أكتسبها تلاقت طلائع جيشه أمام غاليبولي بقوات بريطانية تحاول منعه من العبور إلى الشاطئ الأوربي إذ قرر لويد جرج ساعتئذ أن يوقف سيل الجيش المنتصر أمام المنطقة المحايدة للمضايق، ومعنى هذا قيام حرب جديدة.

ص: 6

وكان رئيس وزراء بريطانيا مصمماً على هذا الرأي على رغم مخالفة فرنسا وإيطاليا له، وقبل أن يستشير رؤساء وزارات الممتلكات البريطانية الحرة - الدومنيون - قبل قذفه بالإمبراطورية في غمار حرب جديدة، وهذه غلطة أخذها عليه السياسيون الإنجليز لمخالفتها النصوص نظام تكوين إمبراطوريتهم.

ولكن الزعيم التركي فاز بصبره عليه إذ عرف كيف يتجنب خطر ذلك الموقف الزلق، وكيف يدرأ عن بلاده مصيبة حرب، جديدة، وقدر على نفسه وهو في قمة مجده وبيده مقاليد رجال طوع إشارته، فردها على سراب الأطماع وأخضع نفسه لإرادته

ويلذ لي هنا ذكر ما كتبه تشرشل وهو الواضع مع لويد جورج أساس السياسة التي أتبعتها بريطانيا في الشرق الأدنى والمسئول معه عن نتائجها وإن كان كاتبها لم يقدر تماماً ما كان للزعيم التركي من فضل في حقنه للدماء وإيقافه اشتعال حرب جديدة مع دولة أوربية بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب العظمى قال. .

(وجه كمال كل مجهوده إلى الغرض الأساسي الذي أمامه والذي كان من السهل الوصول إليه وأستعمل قوات الفرسان التي كانت تحمى جناحيه ليظهر قوته أمام الإنجليز المحتلين لجناق - ولكنه أصدر لضباطه تعليمات شديدة ليتحاشوا القيام بأي مظهر عدائي، وأن يكون تقدمهم بطريقة ودية. ولم يتغير تصرفهم هذا أمام كلُّ الظروف التي اعترضتهم، بل ذهبوا إلى إظهار التآخي بطلب بعض المهمات والأشياء التي يحصل تبادلها بين قوات متحابة معسكرة في مكان واحد - وبهذا أمنت كلُّ القوات البريطانية التي كانت محتلة للمضيق في الوقت الذي كان الخطر محدقاً فيه باستانبول التي لم يكن من اختصاص بريطانيا الدفاع عنها.

لقد عرفت عن كثب أنور باشا وهو من رجال الحرب نبغ من أحرار الأتراك، وكان عاملا من أول الحركة التي أشعلتها جمعية الاتحاد والترقي، ثم قائداً في حرب طرابلس ضد إيطاليا، وأخيراً في الحرب البلقانية.

ولم أر اليأس قط متغلباً على أنور حتى في أشد الأوقات محنة حينما كان البلقانيون على خطوط تشا طلجة، ولكن مزاياه الخلقية والفكرية كانت تتضاءل أمام حبة للمباهاة بنفسه وخيلائه.

ص: 7

ولذلك قصر عن تملك القدرة على النظر بدقة إلى الأمور وتفهم الأشياء على طريقة كمال الذي يتبع خطة للعمل يقرن فيها إقدام المتناهي مع الصبر والتأني الطويل ويعرف كيف يُملى على نفسه وهو قائم يحرك الجيوش على جبهة القتال - وهذا هو سر نجاحه -

وهذا دليل على أن الروح العسكري القديمة التي كانت لدى العثمانيين القدماء ومكنتهم من تدويخ أوربا ومقارعتهم لها وهم تحت أسوار فينا قد عادت وتقمصت فيه.

ولكن المهمة السياسية التي ألقيت على عاتق هؤلاء كانت سهلة ليست مستعصية كالتي تلقاها خلفهم في القرن العشرين لأنهم دخلوا أوربا منتصرين واحتلوا بلاداً وأقطاراً شاسعة وكان من حقهم إهمال من يعيش فيها ما دامت القوة في جانبهم.

إني أصرف النظر كما ذكرت في السابق عن موضوع إصلاحاته الغريبة التي أعدها من قبيل عمل المسيطرين الغواة المتشبعين بطريقة بطرس الأكبر - وأعود إلى سياسته التي أوجدها لنفسه أمام الظروف القاسية التي وجد فيها بلاده، تلك السياسة التي أملاها بحزم، وقصر نفسه عليها من المبدأ إلى النهاية تم دوام على اتباعها مخالفاً بذلك تقاليد الدكتاتوريين الذين قبله وما يعمله دكتاتوريو هذا العصر.

لأن كلا منهم في حاجة إلى اتباع مظهرية ترمي إلى إدخال الهيبة في نفوس العامة، وفي حاجة إلى إشعال الشعوب التي فقدت حريتها بشيء من المجد.

وأرى مصطفى كمال الأول من هذا النوع من الناس الذي أوتي من الشجاعة الأدبية ما جعله يقرر من أول الأمر أن يقصر نفسه عن هذه المظاهر الفخرية - ثم أن يدام على حرمان نفسه وعدم إشعال أمته بمثل هذا بعد انتصاره وقد بلغ من الأمر منتهاة. فكثيراً ما هددت الدولة العثمانية بخلافتها وبإعلانها الجهاد رغبة منها في الظهور الدولة ذات السياسة العالمية وإن كانت تمثل الرجعية والتقهقر بأجلى مظاهرهما. وجاء مصطفى كمال فكان أول من تحقق من أن مصلحة تركيا تقضى بتنازلها عن أي نفوذ أو سلطة خارج حدودها القومية، ولذلك وضع نصب عينية أن يتحاشى أشغالها بأي عمل يشتم منه الرغبة في مغامرات خارجية فوق طاقتها.

وقد عانيت ذلك بنفسي في الشهور الأولى من عام 1919 حينما كنت باستانبول وتيقنت من أن الزعيم التركي قد عزم على اتباع هذه السياسة الإيجابية التي تؤدي حتما إلى

ص: 8

استقلال فعلي حقيقي لتركيا.

وكان قد لجأ إلى بروسة في تلك الأيام السيد أحمد السنوسي الزعيم الديني المشهور في برقة حينما أيقن من ضياع آماله في إخراج الإيطاليين من بلاده. ولما كنت مقنعاً بأن السياسة العملية الوحيدة لتوطيد الأمن والسلام في ربوع المستعمرين الإيطاليتين تتلخص في إعطاء الأهالي الوطنيين شيئاً من الحكم الذاتي الواسع النطاق، لم أتردد لحظة واحدة في قبول المفاتحات التي عرضها على أصدقاء السيد السنوسي باستنبول، وفعلاً دخلت معه في محادثات طويلة على الطريقة المعتادة للشرقيين انتهت به إلى فهم وتقدير مشروع اتفاق مع الحكومة الإيطالية يعطى للسيد السلطة متسعة في الداخل على شرط أن يعترف نهائياً بسيادة إيطاليا على بلاده وأن يعطى المواثيق بتشجيع ومساعدة المصالح الاقتصادية والسياسية في بقية الجهات الواقعة تحت حكم إيطاليا مباشرة في طرابلس وبرقة.

وقد عقد فعلاً وزير المستعمرات الإيطالية السنيور لويجي روسي على أساس هذه المحادثات اتفاقاً حكيماً جنت منه إيطاليا ثمرات عديدة حتى جاءت الحكومة الفاشية فضربت به عرض الحائط، لأنها وجدت في المستعمرتين ميداناً واسعاً لاستغلال منشوراتها وتقاريرها عن انتصاراتها الحربية التي يتضح للمتأمل عبث القيام بها بجانب ما تتكلفه من التكاليف والخسائر.

ولم يكن منتظراً بقاء مثل هذه المحادثات في طي الخفاء ونحن في جو استنبول لأنها سرعان ما تنتقل إلى علم أنصار مصطفى كمال وقد يعملون على إحباطها، ولذلك رأيت من المصلحة إبلاغه عنها فجاءني منه الرد الآتي:

(كان علة شقائنا وسقوطنا محاولتنا المحافظة على سيادة تركيا على الأقطار العربية فنحن لا نريد أن نسمع من الآن شيئاً عن ذلك، والسنوسي حر في أن يفاوضكم على ما يرغب وأن تتفقوا معه على ما تريدون).

ولقد زادني هذا الرد القاطع المقرون بالصراحة اعتقاداً في أننا على وشك أن نلمس عصر إحياء جديد في النفس التركية - ووصل مصطفى كمال إلى أوج ما ينشد من المجد والسلطة فلم يغير من خطته هذه - وهو موقف يستدعى الإعجاب والتقدير وهو نادر في نفس الوقت.

ص: 9

لقد عرف من البداية أن الدولة العثمانية بلاد متأخرة تقع بين أوربا وآسيا، وأن تركيا إذا اقتصرت على توجيه قواها إلى استغلال آسيا الصغرى أمكنها تحت نظامها الجديد أن تصير عامل حضارة وتقدم، وقد تأتى يوم تلعب فيه دوراً مهماً تجاه آسيا الوسطى.

وهنا يظهر عمله الإنشائي الحقيقي الذي أتمه بحنكة وشجاعة وإن بقى مجهولاً لدى الكثيرين بجانب ما يتحدث الناس به من إصلاحاته الثانوية في تغيير الحروف وفرض القبعة.

وإنه لمن المشرف له أن يشاد بعمله هذا وأن يقال إن هذا الزعيم وصل من بين الدكتاتوريين أن يجنى ثمار نجتحه بحق، لأنه أقدم على ما لم يقدم عليه غيره، وعرف كيف ينظر شزراً إلى مخلفات سياسة المجد الكاذب التي كانت تتبعها الحكومة العثمانية السابقة والتي لم يكن لها غرض إلا ما تحدثه من الضجيج الفارغ والضوضاء الكاذبة. . .

أحمد رمزي

ص: 10

‌طرائف من العصر المملوكي:

الشكوى في شعر ابن نباتة

للأستاذ محمود رزق سليم

لا ريب أن البشرية غايتها السعادة؛ فهي تسعى إليها أفراداً وجماعات، وتطرق كلُّ باب يؤدي إليها، وكل سبيل تفضي نحوها. - وقد اختلف الناس - ولا يزالون مختلفين - في كنه السعادة وفي الوسائل المؤدية إليها. ولكن - ليت شعري - أيكون البؤس مظهراً من مظاهر السعادة، أو يكون وسيلة من وسائلها؟ نتساءل، لأن النفوس مختلفة الطباع، متباينة الاتجاه. ومن الناس من يجد لذته في شقائه، وسعادته في بؤسه. إذ خلقت نفسه ذات طبيعة قلقة حائرة تنشد الهدوء، حتى إذا وجدته نفرت منه، وعاودت سعيها إليه. وتطلب الرضا، حتى إذ ظفرت به ونعمت بأسبابه، قطعت ما بينها وبينه، ثم شاقها الحنين للبحث عنه. هذه نفوس من طراز خاص توسع في آمالها ما أفسح لها الخيال، وتسعى في سبيلها ما بدا لها السعي. حتى إذا وصلت إلى أمل جددت أملاً؛ وإذا ما انتهت من سعى عاودت سعيا. لأن غايتها في السعي نفسه، لا في عاقبته. ولأن إربتها في البحث ذاته، لا في نهايته، فهي أبدا في عمل دائب وهم ناصب. وهي لقلقها الذي فطرت عليه، وحيرتها التي خلقت بها، لا تستريح إلى طريق في الحياة ممهدة معبدة، لا أمت فيها ولا عوج. ولا تطيب لها السبل، إذا امتلأت جبناتها بالورود والأزاهير. بل تفضل منها المعقدة الملتوية المجذبة، على السهلة المستقيمة المخصبة. وتختار المشقة على اليسر، وتؤثر التعب على الراحة. كلُّ ذلك لا ليقال: مجيدة بلغت السيادة بجدها وجهادها، ولا ليقال: فريدة حازت السعادة بكدها وجلادها، بل لكي تلائم بين هذه المشقات وبين طبيعتها، وما فيها من قلق وحيرة. ولكي تجد فيها من الأسباب ما ترتل عليه شكواها وتوقع أنينها. فهي مطبوعة على حب الشكوى، تجيدها وتجد فيها راحتها، ومفطورة على الأنين تحبه، وتستشعر خلاله طمأنينتها. وهي لا تستطيع الحمد فلا تجأر به، ولا تستسيغ الرضا فلا تهدأ إليه. ولو راحت تحمد وترضى، ما استطاعت ذلك إلا متكلفة مجهودة، ومتعبة مكدودة.

هذه نفوس من طراز خاص كما أشرنا. وتأبى الأقدار إلا أن تهيئ لها كلُّ العوامل التي تنضج فيها هذا الفن من فنون الحياة فتلقى في طريقها الأشواك، وتبث الشراك، حتى يكثر

ص: 11

عثارها، ويتكرر نفارها. وهي - في الحق - راضية في قرارتها، هانئة في أعماقها؛ لأن ما تصنعه لها الأقدار يتلاءم مع سجيتها، وينسجم مع طبيعتها. وهكذا تبدو بائسة يكاد يأكلها البؤس، ونحسة يكاد يطويها النحس. فتقر بقلقها من دار إلى دار، ومن سبيل إلى أخرى. تنشد ما تزعم من سعادة وعزاء، شاكية آنة، باثة حانة. حتى إذا ما ظفرت نفرت وإذا وصلت فصلت. ولم تستطب هذا الاستقرار، ولا ما هيأه لها من سعادة، ولا ما دعاها إليه من لهج بالحمد والثناء.

تتجاذبنا هذه الخواطر كلما جلسنا إلى ديوان ابن نباتة الشاعر المصري الكبير، لنقرأ طرفاً من أبياته؛ إذ نرى فيها شاعراً بادي القلق ظاهر البؤس، كثير الشكاية، وتلك سمة واضحة في شعره، وفي مراحل حياته.

كان جمال الدين بن نباتة (686هـ - 768هـ) أمير شعراء مصر في جيله غير منازع، وهب الله له نفساً أديبة خصيبة، وخيالاً واسعاً رحيباً، ولساناً طيعاً، ومنطقاً مصوراً بارعاً. فهام لذلك في أودية الشعر، وطرق الجم من فنونه. وحق له أن بفخر بقوله:

فما الدر إلا دون نظم أصوغه

وما القصر إلا دون بيت أشيده

ويقول:

من مبلغ العرب عن شعري ودولته

أن ابن عباد باق وابن زيدونا

ظن ابن نباتة، وقد طاع له من القول عصيه، ودان له من الشعر أبيه، أن من حقه على الزمن أن يسعده لا يجحده، وأن ينعمه لا يشقيه، وأن يهيئ له من أسباب الرضا ما تقر له عينه، وتطيب به نفسه، حتى يستبقى جهده، لفنه وحده لا تشغله عنه شواغل الحياة، ولا تقعده دونه هموم الرزق.

ظن ابن نباتة ذلك، ولم يعلم أن الزمان قد استحال، وأن الدهر قد تغير، وأن دولاً ذهبت، وجاءت على أنقاضها دول. وأن الملوك قد استعجمت بل والشعوب، وذهبت أيام الرواج للشعر، وطويت بسط الإنشاء، وانفض سامره، وقضى عهد التكسب، وقبضت يد العطاء عن الشعراء، وأقفلت في وجوههم جنات النعيم.

هذه حقيقة فطن لها انداده من شعراء عصره فلووا جيدهم وانصرفوا عن التكسب بالشعر إلى التكسب بغيره. فكان منهم العالم الفقيه، أو الكاتب المنشئ، أو التاجر المتنقل، أو

ص: 12

المعترف الصانع. والتمسوا الرزق بالوظيفة في القضاء أو الكتابة في الدواوين، أو التجارة والصناعة. ورفهوا عن أنفسهم بين الفينة والفينة بأبيات من الشعر ينظمونها في حاجاتهم النفسية. ولم يسلموا مصيرهم إلى يد الشعر، يستمطر لهم الرزق من الملوك وأشباه الملوك، كما كان أسلافهم في عهد بني أمية، وعهد بني العباس - حتى بدا لبعضهم أن يحمل على صناعة الشعر، ويفضل عليها صناعته الدنيا التي يقتات منها. ويعلل لذلك فيحسن التعليل، ويوري فيجيد التورية. وقد قال أبو الحسين الجزار (679 هـ):

كيف لا أشكر الجزارة ما عاش

ت حفاضاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجِّي

ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا.

أما ابن نباتة، فقد صمم على أن يعيش لفنه، لا تلهيه عنه تجارة أو بيع. . . ظانا أنه سيدر عليه من الذهب النضار، ومن الفضة النثار. فانساق إلى مهواة التكسب حتى أدركته حرفة الأدب، ولحقه كساد الشعر وبواره. ولم يجن من وراء ذلك إلا القلق والبؤس وصار كما يقول عن نفسه وهو بدمشق، متذكراً ما مضى من أيامه:

شهور وصل كساعات قد انقرضت

بمن أحب وأعوام كأيام

ولَّت كأني منها كنت في سنة

ثم انبرت لي أيام كأعوام

مقلقلاً بيد الأيام مضطرباً

كأنما استقسمت مني بأزلام

قد حرمت حالتي طيب الحياة بها

كأن طيب حياتي طيب إحرام

هي المقادير لا تنفك مقدمة

وللحجا خطرات ذات إحجام

وهذه حالة لا مفر منها، مادام قد طرق أبوابها، وسلك رحابها. وما ظنك بمتكسب في غير سوق، وسادر دون وثوق. ليقرع بابا، ويهجر مقصوداً لييمم شطر مقصود. هذا يعطيه وذاك يمنعه، وهذا يهب له وذاك يدفعه. وهو ما بين هذا وذاك ساخط على من حرمه وقلاه، شاك فيمن منحه وأعطاه. هذه - لعمرك - حياة المتبطل الكسول الذي يلبس لبوس عصره، ولم يرتد مسوح زمانه. يقول:

يا سائلي بدمشق عن أحوالي

قف واستمع عن سيرة البطال

ودع استماع تغزلي وتعشقي

ماذا زمان العشق والأغزال

طول النهار لباب ذا من باب ذا

أسعى لعمر أبيك سعي الظلال

ص: 13

وبقول منها:

أترى الزمان يعينني بولاية

أحمي بها وجهي عن التسآل

زحل يقارن حاجتي وقد انحنى

ظهري من الهم انحناء الدال

لم تهتم المقادير بإجابة ابن نباتة إلى سؤله، بل ادخرت له في جعابها أقسى ما ادخرت لإنسان. وحفظت له في قرابها أحد ما أرهقته لامرئ. وهي تعلم - بلا ريب - خبيآت نفسه ومغيبات حسه. فادخرت له ما ادخرت، وأرهفت ما أرهفت لملاءمته لها. وبذلك وحده، ينبغ أدبه، وينبغ فنه، ويصبح شاعر البؤس والشكوى. وما كلُّ بائس بملتئم مع بؤسه في أعماق نفسه. أما ابن نباتة فقد نعم بهذا البؤس، لأن نفسه وجدت فيه معيناً لشكايتها حتى خلقت لتجيدها وتحسن القول فيها. لهذا جاء شعره ترجماناً صادقاً عن مطوى نفسه، ولساناً معبراً عن مذخور حسه. وصارت الشكوى في خلال أبياته، على اختلاف منازعها، اللون الأصيل، واللحن المشترك، الذي لا تتم ألوان القصيدة أو أنغامها إلا به، يقول وقد عجل إليه المشيب:

عجبت خلتي لو خط مشيبي

في أوان الصبا وغير عجيب

من يعم في بحار همي يظهر

زبد فوق فرعه الغربيب

من يحارب حوادث الدهر بخفي

لون فوديه في غبار الحروب

أي فرع جون على عنت الأ

يام يبقى وأي غصن رطيب

لو همي ماء معطفي من ال

ين لأفنته مهجتي بلهيب

ونعتقد أن ابن نباتة، كان في مقدوره أن ينجو بنفسه بعيداً عن نحسه، وأن يجنبها مشاق الحياة ووعثاء العيش بالأرتزاق بإحدى الطرق المألوفة في زمانه، وأيسرها عليه الكتابة في ديوان الإنشاء. ونعتقد أنه لو سعى جاداً إلى الوظيفة لظفر بها. فهو لا يقل باعاً ولا يقصر ذراعاً عن رؤساء هذا الديوان، إن لم يكن في الإنشاء أحفل منهم وأفضل. ولا ندري ما نعلل به حرمانه من وظائف الديوان - وما خلقت إلا لأمثاله - إلا وثوقه من شعره واعتقاده أنه سيكون سبيله إلى الغنى والثراء والعيش الكريم، وإلا خوفه مما في الديوان من قيود ونظم لا تتلاءم مع قلقه وحبه للتنقل. ولعل استحواذ جملة من أدباء العصر - أمثال العلاء بن الأثير، وأبناء فضل الله العمري - على قلب الناصر سلطان مصر حينذاك، كان

ص: 14

في جملة أسباب حرمانه، وتأبى وظائف الديوان عليه.

على أن ابن نباتة كانت لأبيه ثروة بدمشق وبمصر، وكان يعينه بشيء منها بين الآن والآن. فلما مات أبوه بدد ما ورث في مسارح اللهو ومطارح الهوى ومغامرات الشباب، وأنفق وأسرف، وبذر واتلف، كأنما وعده القدر أن يهيء له الأمل الجديد في المستقبل السعيد. ولكن القدر ضحك منه ملء شدقيه وأسلمه للحاجة تأزمه، وللفاقة لا ترحمه.

هذه أمور كان لها أثر في ابتئاسه وشكواه. ويأبى الدهر إلا أن يضاعف له في هذه الأسباب كلما تراخت الأيام وتطاولت عليه الليالي.

فقد ابتلى بالزواج الباكر. والزواج الباكر نعمة وعصمة، لولا مسئولياته الضخمة وأعباؤه الثقال. ولو كان ابن نباتة في بحبوحة من العيش، وسعة من النعمة، لما أرهقه الزواج وآده. وقد كان شاعراً. والشاعر تطن الأحداث في دنياه الباطنة طنيناً مضاعفاً. وكانت أوتار نفسه تجيد ألحان الشكوى، فوجدت في أحداثه ما يحسن التوقيع عليها.

لقد ولد له نحو ستة عشر وليداً. والأبناء عزة وقوة وزينة، إلا مع الفاقه، فإنهم ذلة وجبنة ومذمة. . . هكذا جرى العرف بين الناس. يقول ابن نباتة:

لقد أصبحت ذا عمر عجيب

أقضى فيه بالأنكاد وقتي

من الأولاد خمس حول أم

فوا حرباه من خمس وست

ويقول:

كنت في الشعر جواداً

يحرز السبق بلمحه

فثناني العسر والأو - لاد لا أملك فسحه

كلُّ ابن لي وبنت

كشكال لي وسبحه

وزناد القول لا يس - مح في وجهي بقدحه

وتأبى الأقدار مرة أخرى إلا أن تتخذ من هؤلاء الأبناء هدفاً تقذفه فيه وتصميه منه. فقد كان أبناؤه يموتون واحداً إثر واحد إذا بلغوا الثامنة أو نحوها. فتكررت فجيعته في كلُّ واحد منهم يوم ميلاده ويوم وفاته. . . بكاهم وأودع في رثائهم ما في قلب الأب من وله ولوعة، وما في صدره من زفرة، وفي عينه من دمعة ورثاء الأبناء من أمر ضروب الشكوى. يقول الشاعر في رثاء ولده عبد الرحيم.

ص: 15

أسكنت قلبي لحدك

لا خير في العيش بعدك

يسيل أحمر دمعي

لما تذكرت خدك

وقدَّ بالهم قلبي

لما تذكرت قدَّك

يا سائل الدمع إيه

فما أجوَّز ردك

أقصدتني يا زماني

كأنني كنت قصدك

وكان ما خفت منه

فاجهد الآن جهدك. . . الخ

نبا بابن المقام بمصر، فنزح إلى دمشق ولقي وزراءها أبناء فضل الله العمري، ووجد من لدنهم شيئاً من الخير والبر أطلق لسانه مادحاً مشيداً بذكرهم، حتى قال:

من مبلغ الأهلين عني أنني

بدمشق عدت لطيب عيشي الأرغد

وأمنت من نار الحطوب ولفحها

لما لجأت إلى الجناب الأحمدي

ويقول شهاب الدين بن فضل الله:

نظرت أبا العباس نظرة باسم

لحال امرئ كاد الزمان يبيده

فأحييته بعد الردى وأقمته

وقد طال من تحت التراب هموده

ولكنا لا ندري بالضبط ما الذي نفره من دمشق فزايلها إلى حماة، إلا ما كان في نفسه وطبيعته من حب التنقل، وكراهة الاستقرار. ولعل أريحية المؤيد صاحب حماة، جاذبته عصا تسياره ورحل أسفاره. وهناك في حماة وجد طمأنينة وبلهنية، ورفاهة ونعيماً، وصحبة كريمة، وظفر منه المؤيد وأبنه الأفضل، لقاء ذلك، بأعطر ما تطمع فيه الملوك من القصيد. قال يذكر لقاء المؤيد له ويمدحه:

زمن الأنس قائم بالتهاني

ونوال الملك المؤيد يسري

ملك باهر المكارم يروي

وجه لقياه عن عطاء وبشر

زرت أبوابه فقرب شخصي

ومحا عسرتي ونوه ذكرى

ونحا لي من المكارم نحواً

صانني عن لقاء زيد وعمرو الخ

غير أن الزمان تجهم له في حماة. ولعل ذلك بسبب وفاة المؤيد ثم زوال الأفضل، فعاد إلى دمشق يطرق أبواب وزرائها مرة أخرى، فأدخله ابن فضل الله في ديوان الرسائل. وهكذا نال في شفق حياته ما حرمه وعز عليه في ضحاها. وضج لسانه بشكر ابن فضل حيث

ص: 16

يقول:

بلغتني يا ابن فضل الله مطَّلباً

لم أرجه من بني الدنيا ولم أخل

وقد سموت لديوان الرسائل في

طي ادكارك لا كتبي ولا رسلي

غير أنه ابتلى حينذاك بتأخر مرتبه، وانقطاع هبات علاء الدين بن فضل الله وتغير قلبه عليه. وكان ذلك مثاراً لشكاية ابن نباتة فمدح علاء الدين مدحاً امتزج فيه العتاب واللوم، والاعتذار والشكوى، والأمل والرجاء. فمن ذلك قوله:

أمولاي قد غنى بمدحي لك الورى

وسارت به الركبان في السهل والوعر

إلى أن قال:

على أن عندي كأس شكوى أديرها

على السمع ممزوجاً بدمعي الغمر

أيكسر حالي بالخفاء وطالما

تعودت من نعماك عاطفة الجبر

ويدفعني عن قوت يومي معشر

وأنت عليهم نافذ النهى والأمر

ولو كان ذنب لاعترفت به ولا

تحيلت في عذر ولا جئت من غفر

ويقول له:

يا صاحب الذيل من لفظ وفضل علا

هل أنت مصغ لما تمليه أسمالي

عاثت يد الدهر في يومي وقد بليت

أضعاف ما بليت بالهم أقوالي

وقد تكررت هذه المعاني منه في أبيات كثيرة. ومما زاد في آلامه حينذاك أن أشتد به الحنين والشوق إلى بقية أبنائه ممن تركهم بمصر، وكأنما أبقاهم بها وسيلة ميسورة لقلقه وهمه وشكواه. يقول:

صب بمصر حيث أولاده

بالشام يذري الدمع مصبوبا

ذو كبد حرى وهم بعضها

فالكل يشكو الشوق ألهوبا

ويقول:

يا ساكني مصر تبت للفراق يد

قد صيرت بعدكم حزني أبا لهب

ويقول في سياق مرثيته للتقي السبكي يتشوق إلى مصر

ويصف قلبه الموزع:

من لي بمصر التي ضمتك، تجمعنا

ولو بطون الثرى فيها فيا طربي

ص: 17

ما أعجب الحال، لي قلب بمصر وفي

دمشق جسمي، ودمع العين في حلب

وتنتابه ذكرى أيامه الماضية وما جنت فيه من لذة ومتاع، والذكرى ضرب آخر من الشكوى، فيصف شعوره في أبيات موجعة حيث يقول:

رعى الله دهراً كنت فارس لهوه

أروح إلى وصل الأحبة أو أغدو

جوادي من الكاسات في حلبة الهنا

كميت، وإلا من صدور المها نهد

إلى قوله:

زمان تولى بالشبيبة وانقضى

وفي فيَّ طعم من مجاجته بعد

عاد ابن نباتة إلى مصر بعد رحلة طويلة غير موفقة، إلا في فترات متفرقة. فلقي من الناصر حسن سلطانها الجديد شيئاً من العطف شكره عليه. ولكن كانت لا تزال جراح قلبه نافلة، وعبارات الشكوى على شفتيه حيث يقول:

قضيت العمر مداحا

وهذا يا أخي الحال

فقير الوجه والكف

فلا جاه ولا مال

آمن ابن نباتة أخيراً بالحظ إيمان المضطر، وزهد زهد المغلوب، يقول:

هي الحظوظ فعش منها بما وهبت

ولا تقل عالياً عزمي ولا دونا

ويقول:

منعتني الدنيا جنى فتزهد

ت ولكن تزهد المغلوب

ويلتمس لكساد أدبه المعاذير، فيقول:

لا عار في أدبي إن لم ينل رتباً

وإنما العار في دهري وفي بلدي

والإيمان بالحظ قد يكون مظهراً من مظاهر اليأس، ودليلاً على القلق والبؤس، إذ لا يصل المرء إلى حظيرته إلا بعد مدافعة وممانعة، وأمل وإخفاق. آمن ابن نباتة بالحظ ولكن إيمان البرم به الساخط عليه، الذي عالجه فلم ينجع علاجه، وأوقد له فخبأ سراجه. آمن به إيمان المهزوم المستسلم، وفي نفسه ثورة عليه مكبوتة.

غير أن هذا الحظ الذي تعصى عليه، والقدر الذي عبث به، قد انضجا في شعره فن الشكوى. ولكم لهذا الفن بين الناس من عشاق!

(حلوان)

ص: 18

محمود رزق سليم

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 19

‌حديث الصيام

عدالة قاض

للأستاذ محمد رجب البيومي

(مهداة إلى أستاذي الأديب الشاعر الرواية أحمد شفيع السيد)

- 1 -

كلفت أخيراً بالبحث في تاريخ القضاء الإسلامي فشاهدت صفحات لامعة تغري بالتتبع والاستقصاء، ووقفت على جهود محمودة لنخبة ممتازة من رجال الحق وأنصار العدالة، فتعجبت كيف لا تُجمع هذه الدرر الوضيئة في عقد نضيد يكون موضعاً للمفاخرة والمباهاة!!

وتحن لا نستغرب إذ نجد رجال القضاء في عصور الإسلام الزاهية على جانب كبير من التحرر والدقة، فقد تمكنت تعاليم الإسلام الخالدة من نفوسهم فعرفوا الله حق معرفة، وقرءوا الكتاب والحديث ودرسوا مسائل القياس وقوانين النظر. هذا إلى ما يشرق في قلب المؤمن التقي من نور يهديه إلى الحق مهما تكاثف الظلام!!

ومن هؤلاء الأئمة الأفذاذ القاضي أبو جعفر أحمد بن اسحق أبن البهلول التنوخي الأنباري. وقد أجمع الذين كتبوا عنه على سلامة استنباط وصحة توجهه، وصدق تعليله. وأنت تجدهم يصفونه - في إسهاب زائد - بالبلاغة العالية إذا خطب أو ترسل كما ينقلون شذرات ثمينة من شعره تُنبئ عن عاطفة وذوق، ويجعلونه حجة في التفسير والحديث والرواية والإسناد. أما تبحره في الفقه على مذهب أهل القياس فقد بوّأه منصة القضاء أكثر حياته التي زادت على الثمانين. وإذا اجتمع لفاضل من الناس كلُّ هذه المميزات الرفيعة، فماذا ينقصه من الشمائل والصفات؟!

على أننا لا نكبر الرجل لعلمه وحده، فكثير من الأئمة في القديم والحديث قد جاوزوه في التحصيل والدراية، ولكننا ننظر بكثير من الإجلال والإكبار إلى صرامته في الحق دون مبالاة، وهجومه على الباطل في غير هوادة، مهما جر عليه ذلك من بلاء وعنت. وناهيك بمن يفاجئ رؤساء وصدور الدولة في عهد بما لا يطيق المؤمن الورع صبراً عليه من ميل

ص: 20

عن الحق ونكوص عن الجادة، وولوع في البهتان!!

وهاأنذا أقدم للقارئ الكريم موقفين متشابهين له في نصرة الحق، راجياً أن يكون أسوة حسنة، ومثالا يحتذيه الناس.

- 2 -

نحن في أوائل القرن الرابع الهجري وقد انحدرت الدولة العباسية من أوجها السابق إلى وهدة سحيقة سقطت فيها هيبة الخلفاء والأمراء، وتنازع الوزراء وأعيان الدولة على الحكم شر تنازع وأبشعه، فكان هم كلُّ وزير أن ينكل بمن سبقه، فيخلق له الاتهامات الخطيرة التي تطيح بحياته ليأمن على منصبه وجاهه فلا يجد المنافس العنيد. وقد كان حامد بن العباس وزير الخليفة المقتدر بالله يضيق ذرعاً بسلفة الوزير أبي الحسن بن الفرات.

فحاك له من خياله الآثم أفظع تهمة يمكن أن توجه إلى إنسان حيث اختلى بالخليفة، وأخبره أنه عثر على وثائق هامة تثبت اتصال ابن الفرات ببعض العلويين المطالبين بالخلافة، وأن الحزم يوجب أخذه بالشدة لتجري الأمور في وضعنا الصحيح. وقد لهتم الخليفة المقتدر بالأمر، فعقد لفوره مجلساً برئاسة لمحاكمة الوزير السابق، وقد أحضر فيه على بن عيسى بن إسحق بن البهلول وأبا عمر محمد بن يوسف. وجئ بابن الفرات مخفوراً إلى المحاكمة حيث وقف غريمة الوزير حامد بن أمام الخليفة يبسط التهمة الخطيرة، ويبين مغبتها الجريئة، ثم اتجه إلى الباب فجأة وصاح بأحد الحجاب: أدخل الجندي في الحال!

فدخل جندي مديد القامة، مكتمل الصحة، فاتجه حامد إلى المقتدر وقال: لقد ضبط هذا الجندي قادماً من مدينة (أردبيل) ومعه كتب خاصة من لأبن الفرات إلى ابن أبي الساج يطلب فيها معاونه الداعي العلوي وتجهيزه للغد إلى بغداد، حيث يستقبله ابن الفرات فيتعاونان معاً على تقويض الخلافة العباسية، وإنهائها إلى العلويين!!

ثم التفت الوزير إلى الجندي وقال له: قل ما سبق أن اعترفت به لدي فقال الجندي: لقد ترددت بضع مرات على ابن أبي الساج في أردبيل أحمل الرسائل المتنوعة من ابن أبى الفرات جاهلا عاقبتها الخطيرة، فهو المسئول عنها وحده، وما أنا غير حامل فدم يتكسب بالمسير والتجول.

دهش الخليفة من هذا الاعتراف الجرئ، وطار شرر الغصب من عينه، وأخذ يصوب

ص: 21

نظراته المحرقة إلى أبي الفرات وهو يتملل في مكانه ممتقع الوجه منقبض الأسارير!

ثم التفت المقتدر إلى القاضي أبي عمر فسأله: ما عندك في ذلك يا أبا عمر؟! فقال في غير روية: لقد أتى ابن الفرات أمراً تخر له الجبال، وللخليفة - أيده الله - أن ينزل به ما شاء من العقاب!. .

فتألق وجه الوزير بالبشر وظن أن المحاكمة ستنتهي على ما يريده من البطش بصاحبه، وجعل يرنح عطفه في نشوة الظافر المنتصر ولكنه رأى الخليفة يتجه إلى بن أسحق فسأله: وما عندك في ذلك يا أبا جعفر؟ فيقول القاضي: لا بد من مناقشة الجندي، فهل يأذن الخليفة بذلك؟ فيجيبه إلى طلبة، ثم تدو هذه الأسئلة بين القاضي والجندي.

القاضي - تدعي أنك رسول ابن الفرات ابن أبي الساج في أردبيل؟

الجندي - نعم رأيتها ودخلها عدة مرات.

- صف لي أردبيل، أعليها سور أم لا؟

فسكت الجندي.

قال القاضي: وما صفة باب الإمارة الذي دخلت منه؟ أحديد أم خشب؟

فسكت الجندي أيضاً.

قال القاضي: ومن هو كاتب ابن أبي الساج الذي ذهبت إليه؟ ما اسمه؟ ما كنيته؟ ما لقبه؟

فبهت الجندي، ولم يرد بشيء.

قال القاضي: وأين الكتب التي كانت معك من أبن أبي الساج لابن الفرات؟

فقال الجندي متلجلجاً مضطرباً: رميتها في البحر حين وقعت في أيدي الجنود.

فاتجه القاضي إلى الخليفة وقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عز وجل يقول:(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وقد صح عندي أن هذا الجندي جاهل متكسب مدسوس على ابن الفرات.

فقال علي بن عيسى في حماسة مشتعلة: قد قلت ذلك مراراً للوزير حامد بن العباس فلم يقبل قولي، وأرى أن يهدد هذا الجندي بالضرب حتى يقر بالواقع الصريح!

أمر الخليفة بإحضار من يضرب الجندي في المجلس، فما كان السوط يلهب جسمه حتى صار: كذبتُ وغدرت، وضمنت لي الضمانات. والله ما رأيت أردبيل، ولا حملت كتباً إليها

ص: 22

طيلة الحياة!

وهنا أمر الخليفة بحبس الجندي وتعذيبه. وكاد يغشي على الوزير المختلق من الهم والانكسار، وانتصر الحق على الباطل بصرامة القاضي النزيه أبى جعفر أحمد بن إسحاق البهلول!

- 3 -

كرت الأعوام تلو الأعوام، فتغير الخليفة المقتدر على وزيره حامد بن العباس فأقاله من منصبه مخفوراً، وأسند الوزارة إلى المتهم السابق أبي الحسن بن الفرات، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

ولقد سعى الوزير الجديد - لأول عهده بالرئاسة - إلى قتل غريمه السابق فشفى لواعج صدره، واستراح من ناحيته، ثم دار بذهنه فيمن حوله من المقربين لدى الخليفة، فرأى أن الوزير الأسبق علي بن عيسى لا يزال متمتعاً بالحياة، وقد يتم صفاؤه مع الخليفة في وقت من الأوقات فيعيده إلى الحكم رامياً يأبى الحسن إلى غياهب السجن، ومن ثم أخذ الوزير يدبر لعلي مكيدة تردبه مع أنه كان من أنصاره المتحمسين يوم حوكم في التهمة الخطيرة، ولكن يالضيعة الوفاء!

رأى ابن الفرات - لانحطاط نفسه - أن يقتدي بسلفه السابق في الاختلاق والوقيعة، فاتجه إلى الخليفة المقتدر وأفهمه أن علي بن عيسى على اتصال بالقرامطة أعداء الدولة، وقد أرسل لهم في مدة وزارته بعض المواد الحربية التي يحظر إرسالها إلى العدو كما أنه لا يعترف بتفكيرهم وخروجهم عن مبادئ الإسلام!

أهتم الخليفة بالوقيعة، وأصدر أمره بمحاكمة علي، على أن يسمع بأذنه ما يدور المحاكمة من وراء حجاب، وقد تم الأمر في أسرع من البرق وشكلت لجنة المحاكمة برئاسة الوزير، وحضر القاضيان السابقان في المحاكمة الأولى: أبو عمر محمد بن يوسف وأبو جعفر أحمد بن إسحاق البهلول.

أفتتح الرئيس الجلسة، وسيق علي بن عيسى إلى المحاكمة وبدأ الوزير فأسرع بإحضار رجل يدعى (ابن قليجة) وأذن له في الكلام فقال:

لقد أرسلني علي بن عيسى إلى القرامطة مبتدئاً، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق

ص: 23

وعدة حوائج فأنفذها إليهم، ومعي خطابه الذي بعث به في هذا الشأن، ثم قرأ الخطاب فُوجد خالياً من تكفيرهم وسبهم كما ينبغي أن يكون في نظر ابن الفرات.

وشاء الرئيس أن يلخص الاتهام في نقط مركزة محدودة، فصاح في وجه علي، والمقتدر يسمع من وراء حجاب.

تقول إن القرامطة مسلمون والإجماع قد وقع على كفرهم، فهل أهل ردة لا يصومون ولا يصلون، وتبعث لهم الأدوات الحربية وهم أعداء الخلافة ومبعث الفساد والشقاق!

قال علي: أردت بذلك المصلحة وإعادتهم إلى الطاعة، دون أن تراق الدماء.

قال الرئيس: ويحك لقد أقررت بما لو أقر به إمام لما وسع الناس طاعته، فكيف يجوز لك التعاون مع أهل الفساد؟!

ثم التفت إلى القاضي أبي عمر فقال له: ما عندك في أمر علي؟ فأفحم ولم ينطق بحرف. فاتجه إلى أبي جعفر وسأله ما عندك يا أحمد ابن أسحاق؟!

قال أحمد: لقد صح عندي أن علياً افتدى بكتابه إلى القرامطة ثلاثة آلاف رجل من المسلمين كانوا مستعبدين فرجعوا إلى أوطانهم أحراراً، فإذا فعل إنسان ذلك على سبيل المغالطة للعدو، فلا لوم عليه بل يستحق أطيب الثناء.

تجهم وجه ابن الفرات، وسأل القاضي: ما تقول فيما أقر به علي من إسلام القرامطة وهم أهل طغيان.

قال القاضي: إنهم كاتبوه بحمد الله والصلاة على رسوله فلم يصح عنده كفرهم، فهم لا ينازعون في الإسلام ولكن ينازعون في الإمامة فقط، ومن نازع فيها فهو غير كافر عند الأئمة الأعلام دهش الوزير من الرد المفحم، ثم أستأنف أسئلته فقال:

- ما رأيك في الأدوات الحربية التي أرسلها إلى الأعداء، أكان ينوي بذلك تقويتهم على الشغب والفساد؟!

- هو لم يعترف بذلك فلا تؤاخذه به.

- كيف نصدقه مع أن رسوله وثقته ابن قليجة قد قال إنه أرسل لهم المعدات!

- إذا قال رسوله ذلك فهو مدع وعليه البينة!

- كيف يكون مدعياً وهو ثقته الذي أستأمنه على حمل الكتب والرسائل؟

ص: 24

- إن علياً قد استوثق به في حمل الكتب، فلا يقبل قوله في الأدوات الحربية بحال من الأحوال.

- أأنت وكيله حتى تحتج عنه أم أنت حاكم وقاض؟

- لست وكيله، ولكني أقول الحق كما قلته فيك يوم أراد حامد بن العباس أن يتهمك أمام الخليفة بما هو أعظم من هذه التهمة، فهل كنت وكيلك حينذاك؟

بهت الوزير، وانكسر انسكاراً طأطأ رأسه إلى الغبراء، وانتصر الحق مرة ثانية على يد أحمد بن إسحاق.

- 4 -

وبعد فقد كان الورع والصلاح ديدن قضاة السلف الصالح في صدر الإسلام، فكانوا يتحرزون ويدققون، مقدرين عظم المسئولية وفداحة التبعة، ومهما قارنت هؤلاء الأتقياء بأعلام القضاء الحديث في الشرق والغرب، فهم الراجحون الفائزون، حيث كانوا يبتغون وجه الله وحده، فأنزلهم منازل الصالحين، وفازوا بأعظم الدرجات!

تبينت أن لا دار من بعد عالج

تسر وأن لا خلة غير زينب.

(الكفر الجديد)

محمد رجب البيومي

ص: 25

‌من كتاب قصور العرب:

الخَوَرْنَقْ

للأستاذ كاظم المظفر

إن من يتجول في جهات العراق، ويطلع على آثاره التاريخية المنتشرة في أنحائه وزواياه؛ تلك الآثار التي تشير إلى ما كان لهذه البلاد من الماضي المجيد، والحضارة الزاهية، وما بلغته في تلك العصور من الرقي والعظمة، والفن والذوق؛ وخاصة من الناحيتين - المعمارية والزراعية - بما هو جلي في معالمها التي صارعت الدهور، وبارزت الخطوب، وتمردت على الجائرين والعابثين، وأبت إلا أن تستمر على ما قطعته على نفسها من العهود، تسامر النجوم، وتضاحك الشمس، وتماشي الخلود. . . ولا يستكثر على العراق الذي يسميه المؤرخون (مهد الإمبراطوريات) إذا ضمَّ بين أطباقه من النفائس الأثرية ما كان من الأهمية من الدرجة الأولى، وفي طليعة نفائس العالم. . . وقد شاهدنا مواقع مهمة من هذه الآثار في سامراء القديمة، وفي الحيرة، وفي القادسية، وفي بابل وأور، وهي لا تفتأ تناطح الزمن، وتصمد للحوادث غير عابئة بهجمات العواصف ولا مكترثة بزعازع الأنواء. آثار قيمة وكنوز ثمينة؛ تتمثل فيها عظمة الأجداد وفخر الأسلاف.

ولما عاد الأستاذ البحاثة (وولى) إلى لندن بعد أن تولى الحفر في أور للسنة الخامسة قال في حديث له: (نعلم اليوم أن حضارة العراق كانت في درجة رفيعة حينما كان سكان مصر القدماء في حالة الهمجية) ولا يبعد ذلك فإن الآثار التي نراها ونشاهدها والتي عثر عليها حتى الآن لتدل دلالة واضحة على ما كان عليه العراق سابقاً من تقدم في المدنية ورقي في الحضارة.

أما الحيرة فقد أشتهرت بحضارتها الواسعة، وملوكها الذين أسسو المدن حين توسعوا في ملكهم، وامتد سلم إلى بعيد، فشيدوا القصور الشامخة، وأقاموا الصروح والعمارات العالية المشمخرة التي تعلوها الشرفات، الحدائق الغناء، والرياض الزاهرة. . وقد سارت بذكر قصة الركبان، وتغنى الشعراء بخورنقها وسديرها، وأنشدوا القوافي لحيانها وأبيضها. . وفيها يقول عاصم بن عمرو.

صبحنا الحيرة الروحاء خيلاً

ورجلاً فوق أثباج الركاب

ص: 26

حضرنا في نواحيها قصوراً

مشرفة كأضراس الكلاب

وكان لقصور الحيرة شأن خطير وأحاديث طويلة، دونها التاريخ فأعطانا صورة واضحة عما بذله أولئك الملوك والأمر من جهود جبارة في تشييدها وإقامتها. كما سنرى ذلك فيما.

ومن أشهر قصور الحيرة (اَلخوَرْنقْ) الذي عقدنا هذا الفصل للتحدث عنه. وهو قصر يقع بظهر الحيرة بالقرب منها مما يلي الشرق على نحو ميل أو في شرقي الحيرة في الطريق بينها وبين النجف، وكان على نهر يسمى بأسمه. وقد تجاهل الأستاذ درويش المقدادي قصر اَلخوَرْنقْ وموقعه وآثاره الظاهرة فقال: وفي جنوبي النجف اليوم تل يقال له اَلخوَرْنقْ لعله من آثار المناذرة.

وقد اختلف المؤرخون اختلافاً كبيراً في أصل هذا الاسم ومعناه الأوَّلى الذي اشتق منه، فذهب الخليل إلى أنه عربي الاشتقاق من الخرنق ومعناه الصغير من الأرانب. وارتأى البحاثة الألماني (نلدكة) أنه حرف من العبرية الربانية بمعنى المزرعة والعريش. وذهب (أندريا) أنه إيراني من (كوورنة) بمعنى ذي السقف الجميل. وقيل أنه معرب من (خورنكاه) أي موضع الأكل والشرب. وقيل بل تعريب (خور نقاه) أو على الأصح (خانقاه) وهو الموضع الذي يؤكل فيه ويشرب وإلى هذا المعنى الأخير تميل كفة الرجحان عند معظم الباحثين واللغويين.

وكما اختلف في أسم القصر فقد اختلف أيضاً في بانيه فقال ابن السكيت: اَلخوَرْنقْ بناه سنمار للنعمان الأكبر الأعور السائح ابن امرئ القيس وإلى هذا القول ذهب الهيثم بن عدي فقال: إن الذي أمر ببناء اَلخوَرْنقْ النعمان ابن امرئ القيس بن عمرو. وقال الكلبي: صاحب الخورنق والذي أمر ببناء بهرام جوز بن يزد جرد بن سأبور ذي الأكتاف؛ وذلك أن يزدجرد كان لا يبقى له ولد، وكان قد لحق ابنه بهرام جوز في صغره علة تشبه الاستسقاء فسأل عن منزل صحيح ليبعث بهرام إليه خوفاً عليه من العلة، فأشار عليه أطباؤه أن يخرجه من بلده إلى أرض العرب فأنفذه إلى النعمان وأمره أن يبنى له قصراً مثله على شكل الخورنق فبناه له وأنزله إياه. وقال المسعودى في حديثه عن ملوك الحيرة: وملك الحيرة بن النعمان فارس حليمة وهو الذي بني اَلخوَرْنقْ. . .

ولما فرغ سنمار من بناء الخورنق عجب النعمان من حسن بنائه وإتقانه فأمر أن يلقي

ص: 27

سنمار من أعلاه حتى لا يبني مثله لأحد. ويقال إنه إنما فعل ذلك به لأنه لما أعجبه شكره على عمله ووصله، فقال: لو علمت أن الملك يحسن إليَّ هذا الأحسان لبنيت له بناء يدور مع الشمس كيفما دارت، فقال له النعمان: وإنك لتقدر على أن تبني أفضل منه، ولم تبنه! فأمر به فطرح من أعلاه. وقيل: بل قال: إني أعلم موضع آجرة لو زالت لسقط القصر كله. فقال النعمان: أيعرفها غيرك؟ قال: لا. فقال لأدعنها وما يعرفها أحد؛ ثم أمر به فقذف من أعلى القصر إلى أسفله فتقطع. ويقال إن الذي قذف بسنمار أحبحة بن الجلاح بعد أن فرغ من بناء أطم له وهذا القول ضعيف بالنسبة إلى أغلبية أقوال المؤرخين فيما نقلناه أولاً.

والعرب تضرب المثل بفعل النعمان مع سنمار في المكافأة على الفعل الحسن القبيح. فيقال: جازاه مجازاة سنمار. وفيه يقول بعض الشعراء:

جزاني جزاه الله شر جزائه

جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

سوى رمه البنيان ستين حجة

يعل عليه بالقراميد والسكب

وقال أبو الطحان القيني في قصة سنمار:

جزاء سنمار جزوها وربها

وباللات والعزى جزاء المكفر

وقال سليط بن سعد:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر

وحسن فعل كما يجزى سنمار

وقال آخر:

جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا

جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

وقال يزيد بن إياس النهشلي:

جزى الله كمالاً بأسوء فعله

جزاء سنمار جزاء موفرا

وكان النعمان هذا قد غزا الشام مراراً، وكان من أشد الملوك بأساً؛ فبينما هو ذات يوم جالس في مجلسه في اَلخوَرْنقْ إذ أشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار مما يلي المشرق، واَلخوَرْنقْ مقابل الفرات يدور عليه على عاقول كاَلخوَرْنقْ فأعجبه ما رأى من الخضر والنور والأنهار، فقال وزيره: أرأيت مثل هذا المنظر وحسنه؟ فقال لا والله أيها الملك ما رأيت مثله لو كان يدوم. قال. فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في

ص: 28

الآخرة. قال: فيم ينال ذلك؟ قال: بترك هذه الدنيا وعبادة الله والتماس ما عنده. فترك ملكه في ليلته ولبس المسوح، وخرج مختفياً هارباً، ولا يعلم به أحد؛ ولم يقف الناس على خبره إلى الآن. وفي ذلك يقول عدي بن زيد:

وتبين رب اَلخوَرْنقْ إذ أش

رف يوماً وللهدى تفكير

سره ما رأى وكثرة ما يم

لك والبحر معرضاً والسدير

فارعوى فلبه وقال فما غب

طة حي إلى الممات يصير

وقد أكثر العرب من ذكر اَلخوَرْنقْ في أشعارهم وصار مضرب أمثالهم ولم يتصدوا لوصفه وصفاً مسهباً. غير أن المؤرخ يستنتج من أقوالهم أنه كان طرفة من طرف البناء جامعاً بين العظمة وبهاه الزخرف وروعة الموضع. وجاء في كتاب (البرهان القاطع) مادة سنمار: إن السنمار البناء الرومي بنى اَلخوَرْنقْ وأجاد في صنعة كلُّ الإجادة، حتى أن القصر الذي بناه كان يتلألأ ليلاً ونهاراً بالألوان المتنوعة نظير أبى قلمون، فكان يظهر صباحاً أزرق وظهراً أبيض وعصراً أصفر. وفي ذلك خطاب شريح القاضي للضحاك بن قيس: يا أبا أمية أرأيت بناء أحسن من هذا؟ قال: نعم السماء وما بناها.

وفي الروايات أن بناء اَلخوَرْنقْ دام ستين سنة فكان يبنى سنمار السنتين والثلاث، ويغيب الخمس سنين وأكثر من ذلك، فيطلب فلا يوجد؛ ثم يأتى فيحتج حتى فرغ من بنائه. ولا يخفى على القارئ المحقق ما في هذه الروايات من المبالغة القصصية، وما عليها من مسحة الافتعال؛ لأننا إذا دققنا النظر في زمان ملك النعمان نرى أنه حكم تسعاً وعشرين سنة وأربعة أشهر، فكيف جاز أن تستغرق مدة بنائه ستين سنة مع أن ملك النعمان الذي أمر ببنائه لم يتجاوز الثلاثين بعد أن قتل سنمار وبقي في القصر مدة طويلة.

ومما كان يزيد هذا الجوسق بهاء وروعة موقعه الطبيعي الفتان، فكان يشرف على النجف وما يليه من البساتين والنخل والجنان والأنهار. وكان البحر تجاهه، وفيه الملاحون والغواصون والحوت، وخلفه البر وفيه الضب والظبي، ويقابل الفرات فيدور عليه على عاقول كالخندق ولهذا افتتن المؤرخون والشعراء بهذا القصر وهاموا في الإشادة بذكره فقال المنخل اليشكري من قصيدة:

ولقد شربت من المدا

مة بالصغير وبالكبير

ص: 29

فإذا سكرت فإنني

رب اَلخوَرْنقْ والسدير

وإذا صحوت فإنني

رب الشويهة والبعير

وقال الأسود بن يعفر النهشلي:

ماذا أؤمل بعد آل محرق

تركوا منازلهم وبعد أياد

أهل اَلخوَرْنقْ والسدير وبارق

والقصر ذي الشرفات من سنداد

وقال المتلمس للمحرق عمر بن هند مهرط الحجارة:

ألك السدير وبارق

ومرايض ولك الخورنق

وقال ابن كناسة:

الآن حين تزين الظهر

ميثاؤه وبراقه العقر

بسط الربيع بها الرياض كما

بسطت قطوع اليمنة الحمر

وجرى الفرات على مياسرها

وجرى على أيمانها الزهر

وبدا اَلخوَرْنقْ في مطالعها

فرداً يلوح كأنه الفجر

وقال سلامة بن جندل:

ألا هل أتى أبناءها أهل مأرب

كما قد أتى أهل النقا واَلخوَرْنقْ

وقال الأعشى:

ويجبى إليه السيلحون ودونها

صربفون في أنهارها واَلخوَرْنقْ

وقال الثرواني:

يا دير حنة عند القائم الساقي

إلى اَلخوَرْنقْ من دير ابن براق

وقال الثراوني أيضاً يصف دير مارت مريم:

بمارت مريم الكبرى

وظل فنائها فقف

فقصر أبي الخصيب المش

رف الموفى على النجف

فأكناف اَلخوَرْنقْ والس

دير ملاعب السلف

إلى النخل المكمم والحم

ائم فوق الهتف

وقال ابن المولى:

موركة أرض العذيب وقد بدا

فسر به للآئبين اَلخوَرْنقْ

ص: 30

وقد بقى اَلخوَرْنقْ إلى عهد الفتح الإسلامي حين دالت الحيرة بدخول القائد خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه ونزوله باَلخوَرْنقْ.

وقال في ذلك عبد المسيح بن بقيلة:

أبعد المنذرين أرى سواماً

يروِّح باَلخوَرْنقْ والسدير

تحاماه فوارس كلُّ حي

مخافة ضيغم عالي الزئير

وأنشد علي بن محمد العلوي الكوفي الحماني:

سقياً لمنزلة وطيب

بين اَلخوَرْنقْ والكثيب

بمدافع الجرعات من

أكناف قصر أبي الخصيب

دار تخيرها الملو

ك فهتكت رأي اللبيب

قال الحماني أيضاً:

فيا أسفي على النجف المعرى

وأودية منورة الأقاحي

وما بسط اَلخوَرْنقْ من رياض

مفجرة بأفنية فساح

وقال أيضاً:

كم وقفة لك باَلخوَرْنقْ

ما توازى بالمواقف

بين الغدير إلى السد

ير إلى ديارات الأساقف

وقد بقي هذا القصر عامراً - كما ترى من أقوال الشعراء فيه - بعد الفتح الإسلامي وتخطيط الكوفة زمناً؛ وإن كلاً من ولاة الكوفة أحدث فيه شيئاً من الأبنية ومنهم الضحاك ابن قيس بنى فيه مواضع وبيضه وتفقده. وقد سكنه الأمراء العباسيون، وبقي قائماً إلى القرن السابع الهجري، ومفاد ذلك ما جاء في مراصد الاطلاع: والمعروف أنه - أي اَلخوَرْنقْ - القصر القائم إلى الآن بالكوفة بظاهرة الحيرة. بل ظل عامراً إلى القرن الثامن الهجري وذلك حين ذكره محمد بن بطوطه في رحلته المشهورة إذ قال: ولما تحصلت لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سافر الركب إلى بغداد وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة وخرجنا من مشهد علي عليه السلام فنزلنا اَلخوَرْنقْ موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في فضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات. . . أما ما جاء في المعلمة الإسلامية مادة

ص: 31

خوَرْنقْ من أنه أصبح خراباً في القرن الرابع عشر للميلاد فليس بصحيح لما قدمناه من قول ابن بطوطه والحنبلي صاحب مراصد الاطلاع.

وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري أرادت الحكومة العثمانية إنشاء سراي وثكنة وأنبار (مخزن) لواردات الخزينة العينية فأوعزت ولاية بغداد إلى حكومة أبي ضمير أن تشرع بهذا العمل فلم يكن من تفكير قائمقام أبي صخير العثماني في إنشاء هذه البنايات إلا القضاء على قصر اَلخوَرْنقْ هذا الأثر العربي القديم فأمر بهدم ما كان مائلاً من جدرانه وقبابه ونقل تلكم الأحجار والأنقاض إلى أبي صخير وبنوا بها المواقع التي أشرنا إليها ولا زالت قائمة إلى اليوم. وحكى بعض الشيوخ أنهم وجدوا أثناء الحفريات في إحدى غرف اَلخوَرْنقْ المطلة على بحيرة النجف عصاً من الخشب الأسود وعليها نقوش وزخرف، ولما أخبر القائمقام وإلى بغداد بذلك أمره بإرسالها إلى بغداد، ومن ثم أرسلت إلى الأستانة بطلب من السلطان عبد الحميد.

وقد زرت موقع اَلخوَرْنقْ منذ أيام معدودة لقربه من مدينتي النجف، فوجدت آثاره ظاهرة بالقرب من نهر السدير أو ما يسمى اليوم بنهر كرى سعد، ويقع جنوبي النهر المذكور بمسافة قدرها (300) متراً تقريباً، ويبعد عن بدء آثار الكوفة الحادثة على عهد الإسلام بمسافة تقديرها ستة كيلو مترات، وعن بدء آثار مدينة الحيرة بمسافة قدرها أربعة كيلو مترات، وعن النجف (12) كيلو متراً أيضاً. وتقع آثاره على أرض رملية جافة مرتفعة ومتصلة بسلسلة مرتفعات طف الحيرة، ويبعد عن فضاء أبي صخير ستة كيلو مترات تقريباً من جهة الغرب، كما يبعد عن آثار مدينة الحيرة القديمة (كنيدرة) بمسافة تقدر بأربعة كيلو مترات تقريباً ويشرف على أرض منخفضة من أراضي الطف انخفاضاً يقدر بعشرين متراً تقريباً من جهة الجنوب الشرقي، ويطل على مناظر جميلة من الرياض الرحبة والبساتين والأنهر. وإذا توجهت إليه من جهة الجنوب تراه واقفاً على قمة جبل مرتفع وهو يتصل من جهاته الثلاث الأخرى بأراض سهلة من أراضي كوفان الرملية، فضاؤه رحب وهواؤه طلق، مبتعداً عن آثار مباني المدن شأو قصور الملوك، أما مساحة أثار هذا القصر فتقدر بعشرة آلاف متر مربع تقريباً بما في ذلك آثار المباني المندرسة والملحقة به والمرافق المتصلة فيه.

ص: 32

(النجف - العراق)

كاظم المظفر

ص: 33

‌هروب!

للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان

كرهتِ حقائق دنيا الورى

وهمت بأوهام دنيا الخيال

فما يتصبَّاك إلاَّ الرؤى

وسحر الطيوف وسحر الظلال

متى يا ابنة الوهم تستيقظين،

متى ينجلي عنك هذا الخبال

أفيقي، كفاك، لقد طال مس

راك عطشى وراء سراب الرمال

تعيشين في ذهلة الحالمين

بعيداً بآفاق كون عجيبِ!

ويملأ روحك في قيده

حنين المشوق وشجو الغريب

ومن فلك الأرض كم تطلقين

خيالك فوق الفضاء الرحيب

يجوز مدار النجوم ويمعن

في اللانهايات، عبر الغيوبِ

قفي، أين تمضين؟ فيمَ اندفاعك؟

من ذا ترين بأفق الشرودْ

وما هذه؟ رجفة في كيان

ك مما تشدُّ عليه القيود

تمرد روحك في سجنه

يريد يحطم تلك السدود

ليسمو طليقاً خفيف الجناح

وراء الزمان، وراء الحدود!

قفي، أين تمضين؟ من ذا تر

ين هنالك عبر الفضاء العظيم

وماذا يشوقك، أم من ينادي

ويومئ من شرفات السديم؟!

تمرُّ أمامك هذي الحياة

مواكبَ مختلفاتِ الرسوم

فتلوين وجهك لا تنظرين

وفي مقلتيك ظلال الوجوم

ألا كم تهيمين في عالم

تناءى بعيداً بعيداً مداه

وفي عمق روحك شوق ملح

جموح لضاه، عنيف ظماه!

تراك هنالك تستلهمين السمو - ات سر الردى والحياة!؟

تراك هنالك تستطلعين

خفايا الوجود وكنه الإله!؟

أَلست من الأرض، فيم انخطا

فك فيم انجدابك نحو الأعالى!

أأنكرت في الأرض هول ألف

ناء، وظلم القضاء، وجور الليالي؟

تراك افتقدت جمال العدالة

فيها فهمت بأفق الخيال

ص: 34

محيرة والهاً تنشدين الحق

يقة في غامضات المجالي!

أراعك في الأرض سيل الدماء

وبطش القوي والرزايا الكبر؟

أرعاك فيها شقاء الحياة

أراعك فيها صراع البشر

أمن صرخات القلوب الدوامي

تعض عليها نيوب القدر

تلوذين في لهف ضارع

بكون تسامى نقي الصور!؟

بلى، هي هذي المآسي الك

بار تعذب فيك الشعور الرقيق

فتنأين عن واقع راعب

إلى عالم عبقري سحيق. .

ويمضي خيالك مستغرقاً

هناك بتهويمه ما يفيق

هو الوهم، عالمك الشاعري،

المثالي، مسرى الخيال الطليق

توَّحدت فيه بأشواقك الحي

ارى. . . بهذا الحنين العميق!

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 35

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

لحظات في سجن أبي العلاء

جلست وصاحبي

نتجاذب أطرف الحديث في نواحي الحياة المختلفة من بقاء الجنس والنزوع إلى البقاء وآراء بعض الفلاسفة في الحياة، وساقنا الحديث إلى أبو العلاء، فذكرت لصاحبي قوله في بقاء الجنس:

فليت وليداً مات ساعة وضعه

ولم يرتضع من أمه النفساء!

واسترسلنا في الحديث فذكرت قوله في النزوع إلى عدم البقاء:

تواصل حبل النسل ما بين آدم

وبيني ولم يوصل بلامي باء

وأخيراً تطرقنا إلى رأيه في الحياة، وحبه في عدم البقاء، وتشاؤمه من الدنيا، فعرضت لقوله:

دعاني بالبقاء أخو وداد

رويدك إنما تدعو عليَّ

فما كان البقاء لي اختياراً

لو أن الأمر موكول إليَّ

فقال صاحبي: ما هي أهم صفة له؟ فقلت: أعمى! فارتسمت على وجهه علامة استنكار لهذا الرأي، كأنه لم يرتح له، ولم يطمئن إليه. . . ولذا جئت أسألك، وقد سبقني إلى هذا السؤال شاعرناالرصافي حينما خاطب طه حسين قائلاً:(لو لم يكن أبو العلاء أعمى، فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك)؟!

ذلك الله إلى الطريق السوي لطلاب المعرفة الحقة، وجعلك هادياً لمن يريد الهداية، وأدامك ما دمت مجيباً لكل سائل.

(ف. ح)

يوسفية - العراق

سؤال الأديب العراقي الفاضل سؤال يجئ في إبانه. . . لقد قضيت لحظات في سجن أبي العلاء قبل أن أتلقى هذه الرسالة بأيام، وليس أحب إليَّ من أن أعود إلى أبي العلاء من

ص: 36

حين إلى حين لأرجع إلى كثير مما قال، ولأراجع كثيراً مما قيل فيه، سواء أكانت المراجعة لأقوال القدامى، أم كانت لأقوال المحدثين.

إن شخصية أبي العلاء لتعد في رأيي أهم شخصية قلقة في الفكر العربي كله؛ ومن هنا يلذ لي أن أعود إليه، كما تلذ لي العودة إلى الشخصيتين الأخريين المقابلتين في الفكر الغربي، وأعنى بهما بودلير وليوباردي!

إن الشخصيات القلقة تستهويني دائما؛ تستهويني لأنها مصدر خصب من مصادر الدراسة النفسية، تلك التي تحيل الشخصية الإنسانية غرفة تشريح يتكشف بين جدرانها وتحت لمسات المبضع مكامن الداء ومنابع الانحراف. . . إن هؤلاء الأعلام الثلاثة - وإن افترقوا في الوطن والدين واللغة - إلا أنهم يلتقون في ميدان واحد توجههم فيه نزعة نفسية واحدة: هي القلق. . . والقلق - كما يقول صديقي الأستاذ راجي الراعي - هو أبرز صفحة في كتاب العبقرية!

لو قال الباحثون عن أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كلُّ عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره التشاؤم في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!

من الخطأ - في رأيي - أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!

أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأى واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كلُّ يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات!

نعم، فلم يكن أبو العلاء إلا تاجر آراء على التحقيق. . . آراء فلسفية مختلفة متناقضة لا

ص: 37

تستطيع أن تصدق رأياً منها لتكذب الآخر، فإما أن تقبلها جميعاً، وإما أن ترفضها جميعاً، أما أن تقف منها عند رأي بعينه لتخرج منه بلافتة كبرى هي (التشاؤم) فذلك أمر تثور عليه فلسفة أبي العلاء كلُّ الثورة، لأنها فلسفة الإثبات هنا وفلسفة الإنكار هناك! إن وجه الشبه بين تاجر البضائع وتاجر الآراء هو أنك لا تستطيع أن تنسب الأول إلى صنف واحد مما يقدمه إلى الشارين، ولا تنسب الثاني إلى رأي واحد مما يقدمه إلى المريدين؛ وإنما تستطيع أن تنسب الأول إلى أصناف بضائعه كلها فتقول عنه مثلاً إنه يبيع (البقالة)! وهكذا كان أبو العلاء في حقيقة شخصيته وحقيقة فلسفته. . . تاجر آراء. . . فيها التشاؤم وفيها التفاؤل، وفيها الإلحاد وفيها الإيمان، وفيها الإقبال وفيها الإعراض، وفيها الهدم وفيها البناء، وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي (القلق)!

هذا القلق هو الظاهرة الكبرى في شخصية أبي العلاء؛ فإذا أراد الدارسون أن يقتفوا آثاره ليصلوا إلى أسبابه، فليس أمامهم غير حقيقة واحدة، هي أن الذبذبة الفكرية ما هي إلا انعكاس مباشر للذبذبة النفسية. . . وهذه هي المرحلة الثانية التي تدفع بهم إلى الباب الأخير ليفتح على مصراعيه!

ولنا بعد ذلك أن نسأل: ما هو المفتاح الأصيل الذي نعالج به هذا الباب لنضع أيدينا على سر تلك الذبذبة التي وجهت العقلية العلائية هذه الواجهة التي لا تطمئن إلى رأى ولا تستقر على حال؟ أهو العمى؟ أهو تلك الآفة التي أصيب بها وحرمته نعمة الضياء وردد وقعها على نفسه في كثير من شعره؟!

إن العمى قد يبعث على الألم، وقد يدفع إلى الشكوى، وقد يحض على والتشاؤم فما بال الرجل قد خرج عن هذه الدائرة وتذبذب بين الأمر ونقيضه، وأنحرف مرة نحو اليمين ومرة أخرى نحو الشمال؟!

ونعرض للمشكلة من زاوية أخرى فنقول: إذا مال الباحثون إلى الأخذ بهذا التفسير الذي يلتمس في الآفة الجسيمة سر النظرة إلى الحياة فهو تفسير غير مقبول. . . فما أكثر المكفوفين الذين امتلأت حياتهم بالنور، وامتلأت نفوسهم بالرضا، ونظروا إلى الدنيا من خلال منظار أبيض يحمل الدمعة في عيونهم فرحة وابتسامة، وما أكثر المبصرين الذين

ص: 38

نظروا إلى الدنيا من خلال منظار أسود فقضوا كلُّ أيام الحياة وهم يتخبطون في الظلام!

ليست الآفة الجسمية إذن هي مصدر هذا القلق الذي أقض مضاجع الفكر في شخصية أبى العلاء، ولكنه فيما أعتقد شئ آخر نفسر على ضوئه المشكلة دون أن نحمل النفسية العلائية ما لا تطيق. . . إنك لو رحت تبحث عن سر القلق والاطمئنان في كلُّ شخصية إنسانية لما وجدته ممثلا إلا في كلمتين: هما فراغ الحياة، وامتلاء الحياة!

نعم، وهذا هو المفتاح. . . المفتاح النفسي البسيط الذي لا غموض فيه ولا تعقيد. . . لو مأساة تحفل باللوعة والألم والعذاب، ولغدا الفكر الثابت المستقر وهو نهب لزلزلة الرياح والأعاصير!

ولو امتلأت الحياة عند المبصر وغير المبصر لأصبحت في رأى الشعور أملا كبيراً تتبخر تحت أشعة المتوهجة قطرات الهم والأسى وتفر أشباح الحرمان!

الفراغ في حياة أبي العلاء ولاشيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصيلة لتلك الذبذبة النفسية ممثلةً في هذه الذبذبة الفكرية!

ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟

إنها ثلاثة ألوان: فراغ النفس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردها جميعاً إلى الحرمان؛ فنفس أبي العلاء كان تشكو الحرمان من العطف وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة!

وقف طويلا عند هذا الحرمان؟ الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيره بين ألف رأى وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر حيث يتجلى التناقض التضارب والاختلاف!

هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في توجيه العقول والأفكار!

لقد سألني الأديب العراقي الفاضل: لو يكن أبو العلاء أعمى فماذا يكون رأيه في الحياة عند ذاك؟

ترى أيحتاج بعد هذه الدراسة النفسية إلى جواب؟!

ص: 39

بعض الرسائل من حقيبة البريد:

أشكر للأديبة الفاضلة التي كتبت إلي مهنئه بشهر الصوم، أشكر لها هذه العاطفة النبيلة التي حملتها إليَّ سطور وكلمات، أما عن سؤالها إذا كنت مسلماً أو مسيحياً فأنا مسلم والحمد لله. ولو رجعت إلى بعض أعداد (الرسالة) لتأكدت من صدق هذه الحقيقة! أما عن قضيتها الأدبية فأرجو أن تثق كلُّ الثقة بأنني معني لها كلُّ العناية، وسأبذل كلُّ ما في وسعي لأقنع (صاحب الأمر) بعدالة هذه القضية. وأنتقل إلى الرسالة الثانية التي تلقيتها منذ أيام من (دمشق) حيث يقول مرسلها الأديب الفاضل عزة عثمان:(أود أن أتقدم بواجب الشكر وعظيم الامتنان، لما أفدته من أبحاثك حول (الفن والحياة). . . لقد تفهمت تماماً - على الرغم مما قاله الدكتور طه حسين - كلُّ معنى قصدت إليه، وقد توارد على فكري وأنا أقرأ ردك على كلمتي الأستاذين طه والحكيم، ما يقول الأستاذ راجي الراعي:(جميلة هي الموجة المقتحمة الهائجة واجمل منها الصخرة التي تردها!) يا صديقي، أشكر لك هذه التحية الكريمة وأقول لك رداً على الأسئلة التي وجهتها إليَّ: إن الترجمة القديمة، خير من الترجمة الجديدة، خير منها من جميع الوجوه التي عرضت لها في رسالتك، وأكتفي بهذا القدر من الإجابة دون التعرض للأسماء حتى لا يحرج بعض الناس! أما عن رجائك في أن أترجم لقراء الرسالة - ولو مرة في كلُّ شهرين - فصلاً أو قصيدة أو قصة أختارها مما بين يدي من نتاج كتاب الغرب، فإنني أجيبك على هذا الرجاء بأنني لا أميل كثيراً إلى الترجمة لأنها ميدان لا تظهر فيه الشخصية الفكرية كما تحب أن تظهر، ولعلك تلمس من كتاباتي أنني إذا قرأت فصلاً من الفصول في الأدب الغربي أو الأدب العربي حرصت كلُّ الحرص على أن أقف منه موقف العارض والمحلل والناقد، وأظنك توافقني على أن الترجمة لا تحقق لي شيئاً من هذا الشغف الذي فطرت عليه! ومع ذلك فأنا أرجو أن أحقق هذه الرغبة يوماً لأنها رغبة صديق.

ولابد من الشكر مرة ثالثة لصاحب الرسالة الثالثة، وهو الأديب الفاضل محمد دويلة من (شرق الأردن). . . يا صديقي إنني أرحب بصداقتك وبكل صداقة يعطرها الخلق والوفاء، وإذا كانت (من الأعماق) و (من وراء الأبد) قد ربطتا بيني وبين كثير من القراء برباط المودة الروحية المتسامية فكم أود أن أكثر من هذا اللون الوجداني ليزداد عدد الأصدقاء

ص: 40

المتذوقين. أما الرسالة الرابعة فهي من الأديب الفاضل محمد تميم بمصر الجديدة يقول الأديب الفاضل: (أرسلت إليكم كتاباً طلبت فيه شرح الخطوط الفنية التي درستم على ضوئها إنتاج الأستاذ سهيل إدريس القصاص اللبناني في العدد (834) من (الرسالة)، واليوم أعود فأطالبكم ثانية بهذا الشرح، وأرجو أن يكون وافياً موضحاً بالأمثلة من كتاب القصة عندنا وفي الغرب). إن ردي على هذه الرغبة هو أن بين يدي كثيراً من كتب الأدباء في انتظار النقد وكثيراً من أسئلة القراء في انتظار الإجابة، فإذا أرجأت التعقيب بعض الوقت على هذا الموضوع فأرجو المعذرة!

كتاب جديد للأستاذ أحمد الصاوي محمد:

لست أدري كيف أشكر للصديق الأثير الأستاذ أحمد الصاوي محمد هذه المتعة الروحية الخالصة التي غمرني بفيضها حين أهدى إليَّ كتابه الجديد (بنات). . . إن الذين يعرفون الصاوي كما أعرفه، يعرفون فيه إنساناً يضع قلبه على يديه ليقدمه إلى الناس في غلاف من سمو العاطفة، ومن هنا كان الصاوي في أكثر كتاباته دقات قلب تسبق وثبات قلم، وبخاصة في هذا الكتاب الجديد الذي كنت أود أن أقدمه إلى القراء في هذا العدد لولا ضيق النطاق، فإلى العدد القادم حيث أضعه على مشرحة النقد والتحليل.

أنور المعداوي

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

ذكريات منسية

جاءت ذكريات ثلاثة أعلام النهضة الأدبية والفكرية بمصر في الأسبوع الماضي، وهم الشيخ محمد عبده، والمنفلوطي، وحافظ إبراهيم، فماذا لقيت هذه الذكريات من اهتمام؟

أما الشيخ محمد عبده أستاذ الأساتذة والرائد الأول لإصلاح الأزهر، ونافض الغبار عن الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقد انحصر إحياء ذكراه في حديث عنه للدكتور عثمان أمين بالإذاعة يوم الذكرى الموافق 11 يوليه الحالي، وكذلك السيد مصطفى لطفي المنفلوطي الكاتب الإنساني الذي أحبه كلُّ قارئ وقرأه كلُّ شاد في الأدب، إذ كان كلُّ نصيبه من الذكرى حديث عنه للأستاذ محمد خلف الله أحمد يوم ذكراه الموافق 12 يوليه الحالي، أما حافظ إبراهيم شاعر النيل الذي ظل حياته يشجي بالتعبير عن أوجاع مصر، فقد نسيته مصر وتجاهلت ذكراه الموافقة 21 يوليه الحاضر، وأنكرته الإذاعة كأنها لا تعلم أنه كان في مصر شاعر أسمه حافظ إبراهيم!

وقد اقتربت ذكرى أمير الشعراء أحمد شوقي بك، ولابد أن الإذاعة ستستعد لإحيائها كما تفعل كلُّ عام بذلك البرنامج الحافل الذي يتلخص في إذاعة فصل من مسرحية مجنون ليلى، وإدارة (اسطوانة) يا جارة الوادي، وجفنه علم الغزل!

منذ شهور احتفلت سفارة الباكستان في القاهرة بذكرى شاعرها الكبير محمد إقبال، وكان ذلك فرعاً أو مشاركة للمهرجان الكبير الذي أقيم في الباكستان للشاعر العظيم، ومن نحو شهرين تألفت لجنة من مصر للاشتراك في إحياء ذكرى الموسيقى العالمي شوبان، واجتمعت هذه اللجنة في وزارة الخارجية، ووضعت برنامج الاحتفال الذي سيكون في سبتمبر القادم، ومنذ قليل تلقت وزارة المعارف من هيئة اليونسكو كتاباً يتضمن أنها ستحتفي بذكرى الشاعر الألماني جيته وتدعو مصر إلى الاشتراك في إحياء ذكراه، ونشرت الصحف أن الوزارة أخذت في العمل على تأليف لجنة من الأدباء والفنانين المصريين للاحتفال في مصر بذكرى جيته.

ولو ذهبنا نسوق الأمثلة لاهتمام الأمم والدول بذكريات أعلامها من الأدباء والفنانين

ص: 42

والمفكرين لطال المقام، كما يطول بسياق الأمثلة لجحود مصر ونسيان الراحلين عنها بعد أن فنوا بأداء رسالاتهمفيها، والعجيب أن تهتم بمشاركة غيرها في الاحتفال للذكريات وهي لا تهتم بذكريات أبنائها!

وجدير بالغير ألا يهتم بهم ما دامت هي غافلة عنهم!

والتقصير في ذلك يرجع إلى الجهات الحكومية وإلى الهيئات الأهلية، أذكر من الأولى وزاراتي المعارف والشؤون الاجتماعية والإذاعة، ويختص الأزهر بالتقصير في جانب الشيخ محمد عبدة!

وما أكثر الجمعيات الأدبية والثقافية في مصر، وما أقل الأدب والثقافة في مصر، وما أقل الأدب والثقافة فيها! وإن أليق شيء به أن تقوم بإحياء ذكريات الأدباء والمفكرين.

ولا ينبغي أن يمهل ذكر الصحافة في هذا التقصير، فإنه لا تغنى كلمة هنا ونتفة هناك، ولا شئ هنا وهناك. . .

وكذلك الكتاب الذين عاصروا وعاشوا الشخصيات التي نسيت ذكرياتهم، وهم أولى الناس بأن يذكروها.

وأعتقد أن أولئك الراحلين ليسوا في حاجة إلى تلك الجفاوات والاحتفالات، إنما تنفع الذكرى الأحياء بما يجلي عليهم في إحيائها من آثار أدبية ومثل عالية في حياة من تحيا ذكرياتهم، فهي للجيل الحاضر معرض رائع من صور الإنسانية الراقية في حياة الماضيين ومما يلابسها من آداب وعلوم وفنون. . . فاذكروا الأحياء بذكرى الأموات!

تعليم العربية في جنوب السودان:

رددت الصحف أخيراً أنباء خلاف وقع في السودان بين وزير المعارف هناك السيد عبد الرحمن علي طه وبين السلطات البريطانية على دراسة اللغة العربية في مدارس السودان الجنوبي، وقالت الأنباء إن السيد عبد الرحمن قام برحلة إلى الجنوب تفقد فيها حالة التعليم هناك، ولما عاد إلى الخرطوم رأى ضرورة اعتبار اللغة العربية لغة أساسية في مدارس الجنوبوهذا النبأ يدل على حقيقة تدعو إلى الأسف، وهي أن أهل السودان الجنوبي يعلم من يعلم منهم بغير اللغة العربية، بالإنجليزية طبعاً. . ولكن الإنجليز لا يشاركوننا هذا الأسف بطبيعة الحال، بل هم يدهشون لاجتراء وزير المعارف السوداني على الاهتمام باللغة

ص: 43

العربية واتخاذها مادة أساسية بتلك المدارس، ولا بد أن يعارضوا في ذلك ويلتمسوا لمعارضتهم أسباباً تحمل (ماركة) البرود الإنجليزي المشهورة. . . قالوا: إن هذه خطوة سابقة لأوانها! واعتلوا بعدم وجود مدرسين للغة العربية ملمين باللغة المحلية الجنوبية: أنه يجب ألا الإنجليزية ولا تفتح أبوابه إلا للإرساليات المسيحية التبشيرية، أي يجنب كلُّ ما يربطه بالشمال من تلك الروابط التي تقلق البال البريطاني ولعلك تعلم أن في (ملكان) من جنوب السودان مدرسة ابتدائية مصرية أنشأتها وزارة المعارف المصرية منذ سنوات هناك حيث توجد إدارة للري المصري، وأن هذه المدرسة يعلم فيها معلمون مصريون أبناء الجنوب باللغة العربية، ويمتحن تلاميذها في امتحان الشهادة الابتدائية المصرية، وقد نجحت جهود هذه المدرسة نجاحاً ملحوظاً. فهل المعلمون المصريون يفهمون اللغة المحلية في جنوب السودان أكثر مما يفهمها معلمو شمال السودان؟

ثم كيف توافر معلمو اللغة الإنجليزية الذين يعرفون لغة أهل الجنوب دون أن يتوفر مثلهم معلمون للغة العربية؟ إذا كان معلمو الإنجليزية من السودانيين الشماليين فحكمهم حكم من يعلمون اللغة العربية من مواطنيهم، وإن كانوا من الإنجليز فما أحسبهم يدعون أن هؤلاء هم الذين أوتوا القدرة على فهم لغة الجنوب.

إن ما يبديه البريطانيون في السودان بهذا الصدد إنما هو تعلات يقصد بها الوقوف في وجه الثقافة المصرية ووجه انتشار التعليم على العموم، فهم لا يريدون تعليماً يستنير به المتعلمون وإنما يريدون تعليماً (يجلنز) وحسب. وزمام الإنجليزية في يدهم يطبعون من يعلمونه بها كما يشاءون، بخلاف الأمر في تعليم العربية غير المأمون.

وتلك (التعلات) ليست جديدة علينا، فقد سمعناهم من عهد قريب يقولون - لمعارضته التوسيع في إنشاء المدارس المصرية بمدن السودان - إنه ليس من مصلحة البلاد تعدد الثقافات فيها وقد فندت هذا القول في حينه. ثم خطب بعد ذلك معالي الأستاذ على أيوب وزير المعارف في حفاة نهاية العام الدراسي الماضي بكلية فيكتوريا الإنجليزية فقال إنه يرى نجاح هذه الكلية في مصر دليلا على فائدة تعدد الثقافات!

وكانت هذه رمية مسددة من معاليه كان أحرى بالإنجليز في أن يبعثوا بها إلى زملائهم في السودان، ولكنهم لم يفعلوا لأنهم يوقنون أن ما يقوله الزملاء هناك إنما هو (تعلات).

ص: 44

وبعد، فإني أبعث إلى السيد عبد الرحمن علي طه بتحية من شمال الوادي، لتشدده في أن تدرس اللغة العربية دراسة أساسية في جنوب السودان، تشدداً بلغ حد التهديد بالاستقالة، ويبدو من آخر الأخبار أنه مصر على رأيه وأنه أدنى إلى النجاح فيه، وهو موقف مشرف ينظر إليه التاريخ نظرة ملؤها الاحترام والاعتبار.

مركب إذاعة

إذا رأيت في الصحف أو سمعت في البرلمان نقداً للإذاعة ينصب على تقصيرها في مسألة من المسائل التي يجب أن تهتم بها، فلابد أن ترى على أثر ذلك في مجلة الإذاعة المصرية - إن كنت تراها - أن إذاعتنا مهتمة بهذه المسألة أكبر الاهتمام ولم تتوان عن أن تتخذ فيها كيت وكيت، وذلك بأسلوب يجتهد فيه كاتبه أن يغطي موضع المؤاخذة بالتعميم والتهويش دون أن يحرج نفسه بالتفصيل والتبيين؛ وبذلك تحاول الإذاعة أن تعوض النقص، ولكنها تركبه. .

وآخر مثل لذلك ما أخذه الكتاب على الإذاعة من تقصيرها في تسجيل روايات نجيب الريحاني المسرحية، وكانت الإذاعة تذيعها من مسرحه، فكان أن توفي ولم يسجل له عمل مسرحي.

ثم طلعت مجلة الإذاعة في الأسبوع الماضي (عدد745) تقول إننا سنقدم قريباً رواية للريحاني، وأعقبت ذلك بأن الإذاعة المصرية تحتفظ بتسجيلات وافية لأصوات العظماء والأدباء والفنانين، وأنها لم تقصر في هذا المضمار.

وتوهم المجلة بذلك أنها سجلت شيئاً للريحاني، دون أن تحرج نفسها بذكر أسم الرواية، على طريقتها التعويضية المتقدمة.

وأخيراً، يوم الخميس الماضي تمخض المذياع فنقل من سينما استديو مصر فلم (سي عمر) لنجيب الريحاني!

وكفى الفلم الإذاعة عناء التسجيلات!!

عباس خضر

ص: 45

‌البريد الأدبي

بيان وتنبيه!

1 -

قرأت للمرة الأولى كتاب التصوف وفريد الدين العطار للدكتور عبد الوهاب عزام بك مع نقده في مجلة الكتاب الغراء، وقد طلب الناقد الكشف عن فقرة فشرحتها، ولم يتيسر إيضاح الفقرة الثانية.

ثم قرأته للمرة الثانية ولا زالت تلك الكلمة أمام ناظري، حتى تبين لي وجه الصواب فيها. وتلك الكلمة هي قول الجنيد كما وردت في الكتاب المذكور (ليس الاعتبار بالخرقة، إنما الاعتبار باُلحرقة).

وقد قال الناقد عنها في مجلة الكتاب (وهذا يدعو أن نسأل الدكتور عن تساهله أحياناً في إيراد القول الواحد على وجهين قد لا يتأثر بهما المعنى، ولكن تتأثر بهما إرادة التحقيق، فقد روى في ص 29 عن الجنيد أنه قال: ليس الاعتبار بالخرقة، إنما الاعتبار بالحرقة) وفي ص 31 ذكر أن الجنيد قال: إنما الاعتبار بالحرقة وليس الاعتبار بالخرقة (ومؤدي الروايتين وملفوظهما يكاد يكون واحداً لولا الفرق بين إيراد النفي أولاً والحصر بإنما ثانياً وما يتبع ذلك من فرق دقيق في المعنى من حيث علم المعاني. . .).

وأقول: إن الصوفية همهم العمل ظاهراً وباطناً، فظاهراً الاحتراف وعدم الكسل، وباطناً تنقية النفس من أدرانها حتى تكون العبادة على صفاء. وقد كان الأكابر من رجال الطريق عندما يأخذون على أحد العهد يقرونه على حرفته ويطلبونه منه عدم تركها والإحسان فيها. ولذا كان الخواص يقول: إن الذي يأكل من كسبه ولو مكروهاً كالحجام أحسن من المتعبد الذي يأكل بدينه ويطعمه الناس لصلاحه. وكان رضي الله عنه لا يجيب فقيراً إلى طعامه إلا إذا علم أن له كسباً شرعياً من تجارة أو زراعة أو صنعة. وقد سأل شخص من الأمراء أن يعمل له مولداً فأبى الشيخ وقال: والله إن كسبي من هذا الخوص لا يعجبني الأكل منه، فكيف آكل من كسب الأمراء أو أدعو الناس إلى الأكل منه!

مما ذكر يتضح أن التصوف الحق هو العمل وهو المراد من قول الجنيد رضى الله عنه. وصحة قول هو: ليس الاعتبار بالخرقة، أي بلبس ثياب المتصوفة، إنما الاعتبار بالِحرفة أي الصنعة، بمعنى أن الدين الصحيح والعبادة الحقة ليس لبس الإنسان لباس التقشف

ص: 46

والمعيشة على حساب الغير وترك التكسب، وإنما هو الإحتراف ومنفعة العباد، فلا خير في شخص لا فائدة في حياته. وهذا بنى الله داود عليه السلام مع مرتبته (كان يأكل من عمل يده).

فالعمل في نظر المتصوفة هو الحياة، ولا خير في حياة بلا عمل.

2 -

ظللت أرتع في رياض كتاب (عبقرية محمد) للأستاذ عباس محمود العقاد وأستمتع بالنظر إليها وبأريجها، وبما فيها من جمال وجلال، ولكني وجدت نبتة صغيرة - ليس لها مكان - يسهل اقتلاعها إذ لا يصح أن يشملها هذا الروض العطر.

وأفصح فأقول وجدت حديثاً في ص 239 وهو (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف. . .).

وهذا الحديث القدسي ليس مذكوراً في الكتب المعتمدة في الحديث، وقد قال عنه ابن تيمية: ليس من كلام النبي عليه السلام ولا يعرف له سند صحيح. (وتبعه الزركشي وابن حجر والسيوطي وغيرهم، ومن المتأخرين من أفتى ببطلانه. ولو ورد على لسان بعض المتصوفة فليس لبعضهم باع في ذلك وقد قال أحد أكابرهم وهو الغزالي (أنا مزجي البضاعة في الحديث). ولأن مدار صحة الحديث على السند، وهذا الحديث الذي معنا لا سند له.

ولو خلا منه كتاب الأستاذ العقاد لما أثر فيه ولما ذهب من جماله شيء بل يزيده جمالاً فوق جماله.

(شطانوف)

محمد منصور خضر

حب عذري

يكاد يجتمع الكاتبون في عصرنا على أن الحب الطاهر لم يعد له وجود إلا في بطون الكتب، وخيالات الشعراء، وأدمغة المحررين، ويرون أن الحب إن كان بالأمس سمواً بالنفس عن الدنيات، واتفاعاً بالروح عن أوضار التراب، فإنه اليوم شهوة جسد إلى جسد، ورغبة جنس في جنس، قالوا، ولا يدعي الهوى الطاهر إلا أحد رجلين إما مجنون أو

ص: 47

مغالط.

وقد حدثني صاحبي - وما عهدته يكذب - بقصة أسوقها لقراء الرسالة، أنا أعلم أن الجم الفقير منهم سيزم شفتيه، وبجحظ بعينيه، ويرسل خياله في الأفق ثم يقول: أين، ومتى؟ وأن القليل، أو الأقل من القليل، سيتغافل، ويقول: يحتمل، ولكنني على كلُّ حال واثق من صدق صاحبي، مؤمن بما قال، وقد أوجز قصة صاحبته فقال: هي فتاة لم تبلغ العشرين من عمرها، وهذه السن هي سن الطيش والنزق عند الفتيان والفتيات، ولكن هذه الآنسة أثبتت بسلوكها أن الفتاة المتدنية المحافظة، المترفعة بنفسها، الخاضعة لكبريائها، تستطيع أن تكون قوية الإرادة، صادقة العزيمة، فلا تندفع وراء عواطفها، ولا يجرفها التيار، رأته فأحبته، أحبته حباً شديداً ملك عليها نفسها، وسيطر على مشاعرها، وكما يقول الرافعي رحمه الله:(أراه حباً فالقاً كبدي) كان شاباً مديد القامة، أبيض الوجه، مفتول العضل؛ وكان فوق ذلك (فناناً)، أحبته، وتطلعت نفسها إليه، وأوشكت أن تنزل إلى الشارع لتتحدث إليه، وتنعم بقربه، ولكنها - بعد جهاد نفسي عنيف - خضعت لكبريائها، ونزلت عند تقاليد أسرتها، فآلت على نفسها أن تتجلد، وتتحمل، وأن تترك حبه يفعل في نفسها ما يفعل.

قال صاحبي: وأتيح لي أن أطلع على سرها وأن أتحدث إليها فيه، فسألتها مرة: كيف عرفت هذا الفتى؟ قالت: ذلك أسم مقدس، لا أسمح لنفسي أن تنطق به، ولا أبيح لغيري أن ينطق به أمامي، قلت: هل تريدينه زوجاً لك؟ قالت: لا. أنه جميل، إنه أجمل مني، وأنا لا أصلح له. إن يتزوج بفتاة جميلة تسعده، ولا أريد أن يضحي بعواطفه في سبيلي. قلت: كأنه يحب أخرى، قالت نعم، قلت هذا شاب صغير النفس، قالت تريد شيدي، أرجو أن تتأدب في الحديث عنه. إنني أحبه حباً خالصاً؟، لا أريد من ورائه ما تريده الفتيات أمثالي، وسأضل وفية له، ولو أحب مائة فتاة أخرى. ويا حبذا لو استطعت أن أقدم إليه ما يساعده على بلوغ آماله.

تلك هي قصة هذه الفتاة المثالية، فما رأي قراء الرسالة؟

علي العماري

الجمع بين الأختين:

ص: 48

ورد في القصة التي نشرتها السيدة بنت الشاطئ في مجلة الهلال لشهر حزيران (يونيه) إن الزواج قد جمع بين أختين في زواج واحد، حيث قالت الكاتبه:(حيث شاع في الحي بعد حين أنه تزوج من أختها وهي أرملة. . .) وجاء أيضاً في الصفحة ذاتها (. . . فسكنت حيث هي، تضع عيناً على طفلتها، وترسل الأخرى وراء الزوج والضرة الأخت وبنتيها).

ولما كان أدب القصة يقضي أن تكون القصة منتزعة من صميم المجتمع مصورة تقاليده، واعية شعائره، ممثلة لشتى النزعات والخلجات التي تدور في نفوس أشخاصه لكي يسهل أداء الرسالة وتحقيق الغاية التي يهدف من ورائها القاص. ولست أدري كيف غرب عن بال الكاتبة الفاضلة أن الجمع بين الأختين محرم في الشريعة الإسلامية السمحة، إذ أن القاعدة فيها أنه يحرم الجمع بين الأختين وبين امرأة وعمتها أو خالتها أو بنت أخيها أو بنت أختها. لأنه لو كانت إحداهما رجلاً كانت الأخرى أخته أو عمته أو خالته أو بنت أخيه أو بنت أخته وذلك لقوله تعالى في كتابه الكريم:(وأن تجمعوا بين الأختين). ولقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها، فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم) وبهذه المناسبة أقول إن الجعفرية تذهب إلى أنه يجوز للرجل أن يتزوج على امرأته بنت أخيها أو بنت أختها برضاً من امرأته. وبعمتها وخالتها مطلقاً قاصرين الجمع على ما ورد في النص.

هذا وللكاتبة الفاضلة ولصاحب (الرسالة) الغراء جزيل الشكر.

(بغداد - كرخ)

محمد العبطة المحامي

ص: 49

‌القصص

قصة من لبنان

رفيق علام

(مهداة إلى الصديق الأستاذ أنور المعداوي)

للأستاذ سهيل إدريس

كانت تشدني إلى رفيق علام صداقة مخلصة وثقت أواصرها خمسة أعوام تلازمنا فيها تلازم الظل وصاحبه، فلم يكن عجباً أن أدرك من شأن رفيق، ويدرك هو من شأني، مثل الذي يتاح للأخ من أخيه. وقد كانت طبيعة عملنا التجاري الواحد، وتجاورنا في السوق بيسر أن لنا اللقاء، كلما وجدنا من وقتنا سانحة. وكنا إلى ذلك نتواعد على قضاء سهراتنا في الملاهي، فيجد كلانا أن صاحبه أقرب إليه من نفسه.

والحق أن صديقي رفيق كان شاباً وسيما جذاب الملامح، ممشوق القامة، تحسبه إذا ما رأيته من أولئك الذين يختارون اختياراً لتمثيل الأفلام السينمائية. . . وكانت الملابس - إذا ما ارتداها - تكتسب أناقة ليست هي من طبعها، فتجتذب إليه أنظار النساء قبل الرجال.

وكان يسعدني أن يجد رفيق فيّ وأجد فيه مستودعاً ينفض كلانا عنده ذات نفسه، فكنا نتعاون على شؤوننا ونتبادل المشورة في الشجون، حتى لم يكن أحدنا يحبس عن صاحبه خبيئة، وقد أتيح لي بفضل ذلك أن أقف من حياة صديقي على نفسية شاب تعد نموذجاً بشرياً في حياة الناس.

لقد تابعت عن كثب قصة حبه الأول، ذلك الحب الذي كانت بطلته فتاة أقسم أني لم أر أجمل منها في النساء اللواتي أعرف وأرى. وقد عاش رفيق هذا الحب بكل ما في أرادته من طاقة الحيوية وبقصارى ما تنطوي عليه جوانحه من رصيد الشباب وحميا الفتوة؛ ثم تحطمت كأس الحب في يده ذات يوم لشدة ما عصرتها أصابعه، فخرج من ميدان المعركة مثخناً بجراحات دامية، لا يكاد يملك وعيه من فرط ما كانت تورث في نفسه من الآم. ولما اندملت الجراحات حسب أنه شفى، وأن بوسعه أن يستأنف طريقه أثبت قدماً، وآمن غاية.

ولقد سلك هذه الطريق حقاً، ولكني رأيته يتهاوى على الجانبين، فأدركت أن آثار الصدمة

ص: 50

لا تزال تفقده توازنه.

كنت أعرف الأثر الذي تركه حب (مها) في قلبه وكيانه ونفسه. كنت أعرف عمق هذا الأثر؛ فلم يكن بدعاً أن يبدو أعمق منه جرح خيانتها إياه، في أعنف فترة من فترات حبه. وقد بلغ من شدة هذه الصدمة أن رفيق لم يحدثني عن الخيانة إلا مرة واحدة بكلمات قليلة مقتضبة، كأنما كان يرغب في أن يوفر على نفسه العذاب الشديد الذي تبتعثه ذكراها. . .

ومنذ ذلك اليوم، تبدى لي صديقي كالشبح التائه الحائر، يسير دون أن يعين مقصداً ومن غير أن يستشرف محجة. كان كهؤلاء الذين كتب عليهم أن يقضوا حياتهم هائمين سادرين، في طريق ضالة، يتناولون الأحداث كما تأتي، ولا يفكرون بغير اللحظة التي يحيون.

على أن شيئاً من ذلك لم يكن ليبدو في ظاهر الحياة التي يسوقها صديقي. . . بل لقد كانت آثار السعادة وآيات الرضى والمرح بادية على وجهه، حتى تحسبه قد طرح عنه هموم الدنيا وتدرع باللامبالاة واتخذ من الحياة كلها أداة لهو ومتعة. . . أفيكون هذا رد فعل عنيفاً للصدمة النفسية التي حطمت أعصابه وأوهنت قواه؟

ولعل أعجب ما في أمره أن سعادته تلك كانت تتجلى أكثر ما تتجلى إزاء مبعث شفائه الغامض ومصدر ألمه المكنون. . . إزاء المرأة نفسها. . . سعادة ترتسم بسمة على ثغره لا تفيض، ومرحاً في عطفه لا ينفذ.

وكنت كلما لقيته أستمع إليه يحدثني عن مغامراته فيصدفني الحديث، فلا أعجب من أن تقبل عليه الفتيات كلفات بحبه شديدات الإعجاب بشبابه، وكان هذا يتيح له أن يحظى من المرأة بما تمتنع عن بذله غالب الأحيان.

وقد كنت موقناً أن صديقي يطلب في المرأة أول ما يطلب الجمال الفاره، والفتنة الطاغية، وكان سرعان ما ينصرف عن الفتاة التي لم يجد عليها القدر بحظ بالغ من الجاذبية والحسن. وقد عرفني ذات مساء بفتاة في متجره ظلت صورتها مطبوعة في عيني طوال تلك الليلة، ولم أستطع أن أخنق شعور الحسد الذي داخلني منه! كانت (سميرة) - وهذا هو أسمها - ذات عينين تنفثان السحر، وملامح تعجز يد فنان النابغ عن أن تخط مثلها في الدقة والانسجام، وقامة نحتت في قالب صناع.

وأقبلت على رفيقي في اليوم التالي أسائله؟

ص: 51

- إنها لجديرة بك حقاً. . . فما تنوي أن تفعل؟

فانتفض يقول: - أتزوجها؟ أهذا ما تعنيه؟

فأومأت برأسي إيجاباً، فإذا هو يصمت لحظات؛ ويرنو إلى بعيد فلا أرى في عينيه غير الشرود. إنه لم يفكر في هذا من قبل، وها هو ذا غير مطمئن ولا مستقر، كأنما كانت تخيفه فكرة الزواج.

وكان هذا شأنه أيضاً يوم سألته لماذا لا يخطب ابنة عمه التي كانت تهوى إليه بكل ما في كيانها من حب، وكانت تنعم بحظ وافر من الجمال والأناقة والثقافة. . . وقد حدثني هو نفسه عنها، ولم يخف علي أنه معجب بها، وأنه سعيد في أن يشعر نحوها بالحب، ولكني إذ جابهته بفكرة الزواج، ألقيته يعود إلى حيرته وتردده، كأنما لم يكن له الخيار في أمره. . .

على أن صديقي أخفى عني أمراً واحداً، هو أنه كان على علاقة بفتاة ثالثة لم يحدثني عنها لحظة، وقد رأيته في صحبتها غير مرة في مطعم أو ملهى. . . وفاجأته ذات مساء بذكرها فعراه الارتباك، ثم أخذ يضحك قائلاً:

- لم أحدثك عنها خجلاً منك. . . إنني أبالغ حقاً في علاقاتي مع النساء!

- فبادلته ضحكته، ولكني لم أجرؤ على مصارحته بأني بت أخشى عليه كلُّ الخشية، وإني أود لو يقر في حياته على قرار. . . هكذا كان رفيق: تحسبه إذا رأيته سعيداً مرحاً راضياً، فإذا أحببت أن تكشف عن دخيلته، ألقيت فكره وحسه غارقين في أمواج متلاطمة من الحيرة والشك والاضطراب.

لقد كنت أقرأ في عينيه أن شقي في أعماقه، وأنه لا يدري هو نفسه ما الذي يريد. وكان هذا الاضطراب مسطراً في نظراً الشاردة التي لا تستقر على معنى. . . بل كنت ألاحظ أنه كان يحاول جاهداً أن يتفادى النظر في عيني والتحديق بهما، كأنما كان يخشى أن اشرف من عينيه على عالمه النفسي المتهافت. . .

ولم أجد آخر الأمر مناصاً من أن أجابهه برأيي الصريح، فانتهزت فرصة أدركت أنه كان متهيئاً فيها للبوح والبث، وساءلته بلهجة لا تخلو من تعنيف:

- إلام تنتظر يا رفيق؟ ألست راغباً في أن تستقر بحياتك على قاعدة؟ أنك الآن في فجر

ص: 52

شبابك، وإن بيدك المال وافراً، فلماذا لا تتزوج إحدى فتياتك الثلاث، وكلهن رائعات الحسن، فتحظى بالطمأنينة التي تفتقر إليها؟

وحاول أن يضحك وأن يعمد إلى المزاح، ولكن سرعان ما انقبضت أسارير وجهه ونظر إليَّ بإحداد، ثم قال بعصبية:

- لا. . . لست أطمع في واحدة منهن. . . إنهن لسن جميلات. . . وأنا لا أحب إحداهن ولست أرغب في الزواج.

وحين حاولت أن أظهر له خطأ نظرته إلى جمالهن قاطعني يقول:

لا. . . ليست واحدة منهن في مثل جمال (مها) ويخيل إليَّ أني لن ألقى بعد الآن فتاة جميلة مثلها، وإني سابقى أبد الدهر أعزب.

وكان هذا كلُّ ما نطق به تلك الليلة، ثم أنصرف عني، على شدة رغبتي في أن أستمع إليه وألتمس المزيد مما يشجيه. . . والحق أن هذه العبارات اليسيرة كانت غامضة لم تحسر لي عن طوايا نفسه. وكل ما خلته ساعتذاك أن امتناعه عن التفكير بالزواج عائد إلى هذا الخوف الغامض الذي تمتلئ به نفسه من الخيانة. . . ومن المرأة. . . ومن الجمال. . . ومع ذلك فهو لا يلتمس غير المرأة وغير الجمال! إنه دون ريب لا يعي هذا الخوف، ولو كان يعيه لما غرق في هذه الحيرة التي تجعله تائهاً في خضم الحياة. . .

ثم وقع صديقي رفيق ذات يوم يرم فجأة في مرض أقعده زهاء ثلاثة أسابيع في داره. وقد عدته في هذه المدة غير مرة، وكان يشكو (الدوسنطريا)، ولكني أيقنت أن مرضاً نفسياً هو الذي أودى بصحته، وإنه كان يشكو عقدة توهن قواه.

وفي تلك الفترة، عادت جراحات الذكرى تدمي روحه وضميره وترهق أعصابه، ثم صارحني بعزمه على أن يهجر البلاد ويسافر إلى أوربا. فإذا وجد راحة لنفسه استقر فيها، وإلا عاد بعد أن يكون قد التمس من العزاء والتفريج قدراً كافياً للانطلاق في طريق جديدة من طرق الحياة.

ولم أجد أنا مبرراً لأن أقنعه بالبقاء، بل لقد شعرت بأن عليَّ أن أحثه على مغادرة الجو الذي فجع فيه بعاطفته البكر، فلعله إذ يبتعد عنه يسلو ويتعزى. . . ولعله يجد هناك - في أوربا - المرأة الجميلة الرائعة التي تمحو من قلبه ونفسه صورة الفتاة الأولى التي يخيل

ص: 53

إليه أنه لن يلقي أجمل منها. . .

وكأن هذا العزم أزال طرفاً من الحيرة التي كانت تقلق حياة رفيق، فإذا البشر يعاوده، وإذا سيماء المرح تشيع على محياه، وإذا هو يشفى من نكسته في وقت يسير، ويأخذ يعد عدته للسفر إلى بلاد الغرب.

ولكنه ما لبث أن فاجأني يوماً بأنه قد عدل عن السفر، وأنه لا ينوي أن يغادر بيروت. وحين سألته تعليل هذا الانقلاب، دعاني إلى تناول الغداء معه ذلك اليوم، ووعدني أن يزيل فضولي إذ أوافيه إلى داره عند الظهيرة. وجعلت أترقب حلول موعد اللقاء، وبي عجب لا ينفضي، ورحت أتساءل: لعل رفيق لقي فتاة حظي جمالها من إعجابه بما لم يحظه جمال سابقاتها الثلاث! أو لعل (مها) نفسها عادت إليه تستغفره، فصفح عنها، واستسلم لجمالها الطاغي؟. . .

وظللت في حيرة وتساؤل شديدين حتى بلغت داره عند الظهر فاستقبلني بترحاب لم أعهده منه، وما عتم أن دلف بي إلى غرفة الطعام. . .

وسرعان ما لا حظت أن المائدة كانت قد أعدت لثلاثة أشخاص، وابتسم رفيق إذ أدرك أني لاحظت ذلك. . . ولكنه امتنع عن أن ينغم بحرف.

وإن هي إلا برهة وجيزة حتى قطع صمتنا وقع خطى متجه إلينا، وقبل أن يتاح لي أن ألتفت إلى مصدر الصوت، كان رفيق قد نهض مرحباً. . .

وحين عدت إلى الجلوس، بعد أن جلست هي. . . كنت ملتاث الحس، مختلط الذهن، أكاد لا أميز معاني الأشياء.

لقد كانت هي. . . علياء، خادمة رفيق. . .

يا إلهي. . . إنها هذه الفتاة التي لم تكن تمتاز بأي حظ من الجمال. . . هذه الفتاة التي كانت تخدمه في إبان مرضه، فلم أكن أوليها نظرة من نظراتي. إنها خادمته. . . خادمته. . .

وانتزعني هو من وهدة التفكير المضنى، حين سمعته يقول لي:

- إنها علياء. . . وقد عرفتها ولا ريب. . . لقد خطبتها أمس.

وكنت مطرقاً ببصري إلى المائدة لا أرفعه إليه، حتى رأيت يده تمتد إليَّ منبسطة تبغي

ص: 54

المصافحة، وسمعته يسألني:

- ما بالك. . . ألا تهنئني يا صلاح؟

وسرعان ما أحسست بكفي تمتد إلى كفه، فتصافحها، ثم تشد عليها بحرارة، بينما كنت أتطلع في عينيه.

لأول مرة منذ عرفت رفيق، قرأت في عينيه الطمأنينة والاستقرار.

(بيروت)

سهيل إدريس

ص: 55