الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 839
- بتاريخ: 01 - 08 - 1949
13 - أمم حائرة
العدل أيضاً
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
(وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية)
إذا أنار الأيمان النفوس ورفعها وهداها إلى العدل، ثم أنفت العدل ودربت عليه واطمأنت إليه، وأخذت به في الكبير والصغير والعظيم والحقير، والجليل والدقيق، وارتفعت عن الأهواء المتصادمة، والمنافع المتقاتلة، وأََمَرٌّتْ كلَّ هذا في الأنفس الثقافة والتربية والأسوة الحسنة، والمثل الصالح، سيطر العدل على الآراء والأقوال والأفعال، وماتت العصبيات المضلة، وهلك الهوى المفرَّق. يخلص الإنسان في الفكر، ويتنزه فيه عن الهوى، ويعدل بين الحجج، ويلتمس الصواب حيث كان، يسأل الله الهدى، ويحرص عليه مبرأ من الميل، والجور وابتغاء مصلحة له أو مضرة لغيره فيدرك الحق أو يقاربه، ويخلص الإنسان في قوله، فلا يقول إلا بالحق، وبالعدل، ولا يتزيد لنفسه، ولا يبخس حق غيره، ويهجر الكلمة المضللة، والقولة الفاتنة، ولا يلبس الحق بالباطل فيما يدعي لنفسه أو جماعته وفيما يدعي على غيره من الآحاد والجماعات، ويتعاون الوحدان والجماعات على بيان الحق، وإيضاعه، وحياطته، والدفع عنه، وتيسيره للعقول، وتقريبه إلى الأذهان، وعرضه على الناس، نقياً جلياً، لا يحجبه ضباب الباطل، ولا يخفيه زخرف الكذب وتمويهه (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا) ولو سار الناس على هذه السيرة أو قريب منها، ما فتنتهم الدعاوي الباطلة، وما أضلتهم الأقوال الخادعة، وما سولت لهم أنفسهم أن يلبسوا الباطل ثوب الحق ابتغاء منفعة لهم، ويصوروا الحق في صورة الباطل للأضرار بغيرهم، وما ابتليت الأمم بهذه الجلبة والضوضاء التي يسمونها الدعاوة، يدعى كل قبيل لنفسه، ويزين باطله، ويفترى على غيره ويبطل حقه، وما أخذت الناس هذه الفتن، والمحن في العقائد والأقوال والأعمال، وما سد القوى على الضعيف الآفاق، وضرب عليه الأسداد بما ينشره يذيع ويكرر نشره وأذاعته ابتغاء الغلب بالحق والباطل بل إيثاراً للغلب بالباطل وحباً للظفر الفرية والبهتان. لو سار الناس على السيرة العادلة أو قاربوها ما استعانوا
بالنشر والإذاعة لترويج الأباطيل، يفسدون بها الاخلاق، ويفتنون بها الضعفاء ويثيرون الخوف والقلق ويشيعون الهرج والمرج ويزلزلون الجماعات لينالوا في الفتن المائجة رغائبهم، ويبلغوا في النقع المثار رغائبهم، لا يبالون انصروا الحق أم خذلوه، وباعدوا العدل أم قاربوه لو عدل الناس في الرأي والقول، وجعلوا العدل قسطاساً لهم ولغيرهم، وحداً بينهم وبين إخوانهم، ما أجازوا بذل الأموال، لفتنة الأفكار، والتوسل بالشهوات إلى تضليل العقول، وما رضوا أن يحكم السلاح في نشر المذاهب، وزلزلة الجماعات ليبثوا فيها رأياً أو مذهباً. ثم لو عمل الناس في أعمالهم. ما شهدت الأمم هذا النزاع المستمر، والقتال المستعر بين أمة وأمة، وما رأينا قوياً يظلم ضعيفاً، ولا غنياً يجور على فقير. ولا رأينا أنفس الأنيس كأنفس السباع يتفارسن جهرة واغتيالا كم قال أبو الطب. لو عدل الناس في أعمالهم لجمعهم العدل على الحب، وأحاطهم الحب بالاخوة، وتعاونوا بالاخوة على الخير، وأدى التعاون إلى الرفاهية والطمأنينة والسعادة. لو فكر الناس بالعدل وقالوا به، وعملوا، كما قال القرآن:(وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). ما شقي الناس في هذه المدينة الحاضرة، وقد أتت بكل عجاب، واخترعت كل بدع من الصناعات وكشفت الخليقة عن أسرارها، وسخرتها بقوانينها، وبلغت في العلوم والمعارف ما تمنى الناس بل أكثر مما تمنوا. لو عدل الناس ما رأينا هذه الأمم التي بلغت الذروة من هذه الحضارة تفرق بين شرقي وغربي، وأبيض وأسود، وما شهدناها تشقى بعلمها، وتهلك بصنعها، وتقاد إلى الموت بأسباب الحياة، وتتوسل إلى الدمار بوسائل العمران، ولما صارت، كما ترى، أجساداً تتصادم، وآلات تتقاتل، وقطعاناً تتفانى. لقد حرموا العدل في كل نفس، وبين الواحد والواحد والطائفة والطائفة، والأمة والامة، والشعب والشعب. ففرقتهم المعارف وكانت حرية أن تجمعهم، وأهلكتهم الصناعات، وكانت جديرة أن تحييهم. ولو عدلوا ما تفرق بهم السبل، واختلفت الوجهات، ولجمعهم سبيل الحق الواحد، وطريق العدالة البين. (وأن هذا صراطي مستقيماً فأتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) إن الناس يريدون الاخوة، ويحاولون السلام، ويسعون ليجمع أممهم نظام واحد من الحق والعدل، ولكن تخفق أعمالهم وتخيب مساعيهم بما أستقر في أنفسهم، من الأثرة والهوى، وتمكن فيها من العصبية والجور. وقد رأينا هيئة الأمم تتكلم باسم الامم، وتتحدث عن الحق والعدل والاخوة والسلام
حتى إذا امتحنها الحادثات القضايا، رأينا الهواء تنأى بهم هن الحق والعدل، والتبعد عنهم عن الاخوة والسلام. وشهدنا المنافع والشهوات تسخرهم للباطل، وتغريهم بالظلم. فعرفنا أنهم أهلاً للأمانة التي حملوها، وأن دون ما يبتغون من السلام، ولكنهم حرموا العدل والإيمان. إن البشر لا يجتمعون على الأهواء المختلفة، ولا يأتلفون الشهوات المتفرقة، فلا مناص لهم - إن أرادوا السعادة يحكموا العدل في الأهواء والشهوات ليجمعهم على ويشملهم بقانون، ويربط بينهم بالحق، ويحكم بينهم إلا ولن يستطيعوا حتى تغلب الروح المادة في أنفسهم وتنتصر القوانين على الجزيئات في معيشتهم، قوانين والعدل والخير. ولن يبلغوا هذا المستوى إلا بإيمان ينير النفوس ويرفعها ويعظمها. . .
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام
أنا والصحراء.
. .
للأستاذ راجي الراعي
وقفت أمس في قلب الصحراء أتحدث إليها، وإليك ما دار بيننا:
من أنت أيتها الصحراء؟
أنا الجبال منبطحة وقد صرعتها الأقدار. . .
ألست شيئاً آخر؟
أنا بحر ماتت أمواجه وتقمصت رمالاً. . .
كيف أنت والأفق؟
أرى في نجومه رمالي ويرى في شمسه. .
والعبقرية؟
أنا أذنها التي تلتقط أصواتها التي لا يلتقطها الناس. .
والمرأة والحب؟
أنا ليلى ومجنونها. . وجميل وبثينة. . وعروة وعفراء. . والبحتري وعلوة. . وابن أبي
ربيعة والثريا. .
والجمل؟
هو رفيقي القديم، أحبه ويحبني ويعانق صبره صبري. .
على أي شيء تصبرين؟
أصبر على لهيب القدر الذي جاءني بهذه الأرحام المضطرمة. .
أنا في رمالي نار تأكل نفسها!. .
أقاسية أنت أيتها الصحراء أم رحيمة؟
أنا قاسية لأضل الذين يضلون الناس، ورحيمة إذا رضيت بأن أكون الصحراء لتبقى لك
الروضة تستلذها، وليبقى لكالماء نستطيبه. . . ألا ترى أنه لولا شبح الليل لم يكن لشعاع النور معناه. . . إن القدر أقامني رحمة بك. . لقد بسطني لتطوى مراحلك في الحياة طروباً. . .
كيف أنت والشعر؟
إن رمالي جاءت (ببحورة). لقد عرف الشعر نفسه في مجاهلي. . . أنا امرؤ القيس
والأعشى وزهير والنابغة والأخطل وبشار وأبو نواس وعمر بن أبي ربيعة والمتنبي والبحتري وأبو تمام والمعري فيلسوف الشعراء وشاعر الشعر. . أنا ألف عبقري في ألف جنة خالدة. .
هذه الرمال فيك، ما هي؟
هي حبات قلبي. . .
بماذا تحلمين أيتها الصحراء؟
إذا شققت قلبي تكشف لك عن ينبوع تظله شجرة. .
أتريدين أن تكوني الغابة الغبياء؟
بربك يا شاعري ارحمني من وطأتي. . اجعلني في خيالك أشجاراً خضراء لأستريح فيك
ساعة من الزمن. . ارحمني يا ابن الخيال فأنا أرضي قاحلة موحشة. . . غذني بمائك وارفعني إلى سمائك. . . دعني أتنشق هواء الجبال وعبير الرياض. . أقمني في مملكتك قمة لجبل أو فماً لينبوع أو نهراً في جنة. . ارحمني أيها الشاعر واستر عريي. . ارحمني. . أنا امرأة تحلم بالينابيع والظلال. . لقد تعبت من رمالي. . أنا قتيلة الشمس التي لا ترحمني. . . أنا ظمأى ظمأى أفتش عمن يبرد لظاي. .
ظمأى؟. ولكنك سقيت التاريخ كؤوساً من الشعر والخمر قل أن مر على شفتيه مثلها. . .
إني أخاف إذا ما تخليت عن رمالك للماء والشجر أن تضيعي شاعرك العظيم وثائرك الخالد وروحانيتك المضطرمة وأحلامك الكبار وإلهامك البديع. . إن ظمأك هو الذي سقى الناس، ونارك هي التي جاءت بأجرأ وثبة دهش لها التاريخ. . إن سرك في الرمال فلم تفتشين عن الظلال؟ أنت تائهة أيتها الصحراء كالحالمين التائهين فيك. . . إذا كانت شمس قتلتك فالقمر الذي يغمرك بنوره قد أحياك. . . وإذا كنت بعدت عن ضجيج الناس فقد اقتربت من الخالق. . . أنت للحالم فلا تظلميه. . أنت للأحرار المستقلين فلا تقيدي نفسك بحجر أو شجر. . أنت أرحمك حمر ولكنك امرأة ولود، وإن في رياحك روحاً وفي ضلالك هدى ينير السبيل. . ليس الدواء كله في الماء، وليست الثمرة كلها في شجرة، فإن في وهج وحيك ألف بلسم لألف جريح، وفي خصب خيالك من الأشجار ما تضيق عنه ألف غابة
كثيفة. . . أنت للملهمين فلا تستري أقمارك بالأوراق، وللروحانيين فلا تحجبي جمال الأرواح بما يقف بينها وبين أهدافها. . لا تلبسي الثوب مهما يكن لونه ونسيجه. . أنت امرأة عريانة ولكنها في عريها تكسو الشعراء والحالمين.
راجي الراعي
صور من الحياة:
يوم عيد. . .
للأستاذ كامل محمود حبيب
ما أشد وقعك - يا يوم العيد - على نفسي، لأنك قذى في عيني وشجى في حلقي وأسى في قلبي! فالدار خاوية من الأحباء تلفظني في غير هوادة ولا لين، والطريق خلو من الرفيق يدعني إلى غير غاية، والنفس خواء إلا من خطرات الحزن وخلجات الاسى، والقلب يحس لذع الوحدة فيلمس الجدب والامحال فيما حوله وإنه ليرى الدنيا أمامه تموج بالزهر النضير والفرحة المتوثية والعبث البريء والثوب الجديد. وهؤلاء أقاربي قد حبوني بالجفوة والقلى، فرق بيني وبينهم نهم المال وجشع الذهب فما أرى فيهم إلا العداوة والبغضاء وإلا الازورار والعبوس، وأخي. . . أخي الذي أحبه قد أوصد بابه من دوني لأنه أراد أن يكون واحداً من ذوي قرابتي. أما زوجي فقد فزعت عني لاختلاف في الرأي والثقافة وتباين في المشرب والبيئة، فخلعت رشدها واستنامت إلى حماقته فطارت إلى دار أبيها لتذرني وحيداً في يوم العيد. وأبنائي أين هم؟ إنهم لم يدرجوا - بعد - في فناء الدار فتمتلئ به حياة وبهجة، ويطفح في قلبي نوراً وضياء وتزخر نفسي هدوداً وسكينة. وجلست إلى نفسي أشكو بثي وأنا أشرف على الناس من حولي وهم يضطربون في لجة العيد، يرفلون في الجديد ويتدافعون إلى البشرى ويغتمرون في المرح. ووجدت لوحدتي حرقة ضاقت لها نفسي فترقرقت العبرات في محجري تريد أن تنهمر. . وشملني الخزي على أن أكون رجلاً لمعت في فوديه شعرات بيض علامة الرجولة والعقل، وتألقت في رأسه فلسفة الحياة، وكابد حلو العيش ومره؛ ثم استخذى لهذه الخواطر أو أتعبد للضعف الإنساني وآذاني أن أستسلم للوحدة فتصفعني مرة وتعكرني مرة ثم لا أستطيع أن أنفلت من بين مخالبها وإنها لتعصرني عصراً. وأهبت بشجاعتي فطرت عن الدار على أجد السلوى والراحة أو أجد متنفساً من همومي أو أنفض عن نفسي الشجن، فألفيت - آخر الأمر - ملجأ في مقهى من مقاهي القاهرة. وفي المقهى جلست إلى فنجان القهوة والسيجارة إليها أتحدث حديث ميراث ضئيل لم أطعم لذته بعد ولكني أدفع قطرات من دمي الحار أنزفها يوم العيد من خلال هموم تتوالى فلا تذرني إلا حطاماً. وغرقت في خضم الفكرة فاستولت مشاعري فما أحس
مما يدر حولي شيئا. وغبرت ساعة فما عن شواغل نفسي غير رجل يطلب صدقة. وفي مقاهي القاهرة مفزعات تغضي عنها الحكومة فتنطلق من مكامنها في وضح النهار لتزعج الآمن في جلسته وتقطع خواطره وتؤذي نفسه. . . مفزعات منها ماسح الأحذية وأوراق النصيب و. . والشحاذ. ليت الحكومة تعرف أن القهوةمثابة يستجم فيها المرء من عناء أو يستريح من نصب، وليتها توقنبأن هذه الزمر من المفزعات وصمة في جبين البلد لا تستطيع يد أن تمتد إليها فتمحوها إلا يدها هي، ليتها تعلم، ليت. . واستقر الرجل إلى جانبي لا يريم فرفعت بصري إليه أنظر وعجبت أن رأيت أمامي شحاذاً في ثوب العيد وسمته، لعله هو أيضاً أن ينعم بفرحة العيد وسعادته! وهو رجل قد تخطى عمر الكهولة فبدا عليه أثر الضعف والهزال، ولكنه تجمل للأيام فهو حليق الذقن مفتول الشارب تفوح منه رائحة خفيفة لا يتنشاها إلا من أصاب قوة في حاسة الشم، وهو يرتدي بذلة إفرنجية أنيقة قريبة عهد بالكواء، وقميصاً أبيض ناصع البياض يزينه رباط رقبة أسود جميل، ويتألق على رأسه طربوش أحمر قان، وحذاؤه لامع نظيف. ووقف الرجل بإزائي في أدب يسأل في هدوء ويطلب في خضوع رغم أنه شديد الإلحاح صفيق الوجه. وراعني أن أرى هذا الرجل في زيه وهندامه يتكفف الناس في غير حياء وخجل، ولكن نفسي حدثتني قائلة (لعل ما ترى بقية عز باد من زمان!) فحبوته بعض عطفي ثم صرفته في لين. ونظر إلى النادل - وهو يعرفني منذ سنوات - نظرة ذات معنى وابتسم حين رآني أنفح هذا الشحاذ الأنيق بشيء من المال ورابني ما رأيت من النادل. فقلت لعل في الأمر حادثة أو متعة فناديته أريد أن أكشف عن الخبر، فقال:(أفلا منحت دراهمك - يا سيدي - لفقير تقتله الحاجة، أو مسكين تلح عليه الفاقة) ولكن الرجل يسأل الناس فما باله؟ وإني لأراه جميل الهيأة، أنيق المظهر، يسري في عروقه دم الشباب، وإن بلغ سن الشيخوخة؟) قال:(إن له حديثاً). قلت: (هات). فقال: هذا الرجل واهي الرجولة، ساقط الانسانية، وضيع الكرامة، وهو شحيح النفس، كز اليد، بخيل الجبلة يقضي نهاره بين مقاهي القاهرة يتكفف الناس في أدب ويسألهم في ذوق، يموه عليهم بخضوعه ويزور بمسكنته، يتخذ من ذلك مهنة يزجى بها الفراغ، وعملاً يقتل به الوقت، فلا يأوى إلى داره آخر النهار أو الليل إلا وقد امتلأت يده وفاض جبينه، ثم هو يحرم نفسه من كل ما أصاب فيقنع باللقمة ويرضى بالكسرة. . .
ولقد كان موظفاً في الحكومة أحيل على المعاش لبلوغه سن التقاعد، سن الستين. والحكومة تلفظ الموظف حين يصيبه الكلال من أثر الكبر والشيخوخة، ولا تطرده إن انحلت أخلاقه واتضعت كرامته وتمزقت إنسانيته. وهي تطلب من ذي العمل الشريف أن يحصل على رخصة، فترهقه في الطلب وتسد عليه المسالك وتضيق الخناق، ثم تذر صاحب المهنة الوضيعة يتقلب في الشوارع كيف يشاء. وهي - دائماً - تزعج التاجر في متجره أو الصانع في مصنعه، تكلفه الشطط وتحمله الرهق، على حين تطلق العنان للشحاذ يستلب الناس من أموالهم في غير رقبة ولا حذر. إن أخي - يا سيدي - خياط، دفعه الأمل إلى أن يفتح دكاناً عسى أن يصيب منه قوت عياله، وطمع أن يدر عليه إخلاف الرزق بعد عسرة، فانحطت عليه وزارة الصحة ومصلحة العمل في وقت معاً، حتى أرغمته أن يغلق الدكان بعد أن سار شوطاً فيه التوفيق والنجاح. فماذا ترى؟ لعل الحكومة تريد أن تقول للعامل الشريف: كن عاطلاً. وتقول للشحاذ: تمتع كيف تشاء! هذا الرجل أحيل على المعاش، وإن دخله ليربو على خمسة عشر جنيهاً، وله زوجة وأولاد. فلما أحيل على المعاش سول له خرف الشيخوخة أن يطرد زوجه وأولاده ثم ينطلق هو في نواحي القاهرة يتكفف الناس، فطرد أولاده جميعاً وإن فيها الصبي واليافع، ألقي بهم إلى الشارع ليذوقوا مرارة الحرمان وحرقة الفاقة ولذع الضياع، ولفظتهم المدرسة حين لم يجدوا ثمن العلم، وفيهم الذكي المجتهد والسابق المتفوق، ورآهم هو على حالهم هذه فلم ينبض قلبه برحمة ولا خفقت نفسه بشفقة. ثم غوى مرة أخرى فطرد زوجه وهي عجوز انهد كيانها وذوى عودها، وهي فقيرة لا تجد ما تتبلغ به إلا دريهمات يغلها وقف. والوقف ملك ضائع وقع بين فكين شديدين: ناظر الوقف وهو رجل لا يرتدع من دين ولا يرعوى من ذمة، يثقل الوقف بما لا يطيق، ثم يزعم بأن الأرض لا تغل شيئاً. ووزارة الأوقاف وهي ترقب في غير رعاية وتحاسب في غيردقة، والمستحق يقف ببابها مثلما يقف الشحاذ فيه الحياء بباب كز شحيح فلا يظفر إلا بالشتيمة والطرد. . . يقف دهراً لينال فضلة من مال لا تسمن من جوع ولا تغني من عرى. . . أما هو فهو كما ترى. . . . وتركني النادل وأن الأفكار لتصطرع في خاطري من أثرحديثه، وأصابني الجزع أن تثور حماقة صعلوك عجوز فتلقى بصبية صغار إلى عرض الشارع، تضربهم الفاقة وتصفعهم الحاجة وقد فقدوا - على حين فجأة -
عطف الأب وحنان الأم وسعادة العيش في وقت معاً، وأن أرى زوجة عجوزاً تضطرب في غمرات الكرب تأسى على تاريخ طويل كانت تنعم فيه براحة الضمير في الدار، وبهجة القلب في الأولاد، وعز الحياة في الزوج. وآذاني أن يكفر هذا الرجل بحق زوجته وهي رفيقة الصبا وصديقة الشباب وعمود الأسرة، وأن يجحد فضلها وهو قد قضى عمره في كنفها يسعد بالهدوء والطمأنينة، وأن ينسى أن الأسرة معنى من معاني الإنسانية السامية لا يفزع عنها إلا الأحمق والمجنون! أفأمن الرجل أن تتدفق عليه بلايا الأيام أو أن تنصب عليه مصائب الزمن، فتذره حطاماً في ناحية من حجرة يقاسي العنت والشدة، ثم لا يجد الأسى في زوجته ولا العون في أولاده؟ ولكن. . . آه، إن في الناس وحوشاً ضارية لا تشبع إلا أن تلغ في دم الأنسان، وأن تهش لحمه، وأن تفرى عظمه! يا لقلبي! لقد فزعت من داري لأنفض عن نفسي هماً واحداً فرجعت بهيمن: همي وهم هذا الحيوان المفترس الذي يتكفف الناس في غير حياء ولا خجل! فما أشد وقعك على نفسي. . . يا يوم العيد!
كامل محمود حبيب
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة!. . .
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 1 -
اسم هذا الظريف زَند بن الجون، و (أكثر الناس - كما قال صاحب الأغاني - بصحف اسمه فيقول:(زيد) بالياء، وذلك خطأ. . . إنما هو زند بالنون). وإنما سلكناه في عداد الظرفاء العباسيين - مع أنه أدرك شبابه آخر عهود بني أمية - لأنه لم يكن له في أيامهم نباهة، ولم يذع له في عصور خلفائهم صيت، فما نبغ واشتهر إلا في أيام بني العباس، إذ انقطع إلى أبي العباس السفاح وأبي جعفرالمنصوروالمهدي، فكانوا يقدمونه في المجامع، ويصلونه أحسن الصلات، ويستطيبون مجالسته، ويستعذبون نوادره.
وإذا كانت المراجع التي بين أيدينا لم تلق ضوءاً كافياً على مولد هذا الظريف، ففي وسعنا أن نستنبط ذلك من خلال السطور، فهو لم ينسب إلى الكوفة إلا لمولده فيها أو نشأته بها على الأقل. وهو - بلا ريب - لم يدرك آخر أيام بني أمية طفلاً لا يعي شيئاً لأننا سنرى في نوادره وطرائفه ما يشير إلى أنه بلغ سن الشيخوخة بعد أن عاش في ظلال الدولة العباسية وحدها تسعة وعشرين عاماً: إذ حضر خلافة السفاح التي دامت أربع سنوات وتسعة أشهر ثم خلافة المنصور التي دامت اثنتين وعشرين سنة هلالية إلا ستة أيام، ثم شهد من خلافة المهدي ما يقارب ثلاث سنوات توفي على أثرها إحدى وستين ومائة.
ولكي نقبل أنه بلغ سن الشيخوخة يحسن بنا أن نفترض أن أبا دلامة ولد بين سنة مائة - ومائة وخمسة، فقضى طفولته وصباه وشبابه حتى بلغ الثلاثين - أو الخامس والعشرين - في أواخر العصر الأموي ثم أمضى ما تبقى من عمره في أيام السفاح والمنصور والمهدي. ولم يوصف أبو دلامة بأكثر من أنه كان أسود، بيد أنه أضطر - هو نفسه - في مجلس حافل إلى وصف خلقه بشعر يجعلنا موقنين بأنه كان على جانب من الدمامة عظيم: دخل على المهدي يوماً وعنده إسماعيل بن محمد وعيسى بن موسى والعباس بن محمد ومحمد
بن إبراهيم الإمام وجماعة من بني هاشم. فقال له المهدي: أنا أعطي الله عهداً لئن لم تهج واحداً ممن في البيت لأقطعن لسانك - وفي رواية لأضربن عنقك - فنظر إليه القوم، فكلما نظر إلى واحد منهم غمزه بأن عليه رضاه. . . قال أبو دلامة: فعلمت أني قد وقعت وأنها عزمة من عزماته لابد منها، فلم أر أحداً أحق بالهجاء مني، ولا أدعي إلى السلامة من هجاء نفسي، فقلت:
ألا ابلغ إليك أبا دلامة - فليس من الكرام ولا كرامة
إذا لبس العمامة كان قرداً - وخنزيراً إذا نزع العمامة
جمعت دمامة وجمعت لؤماً - كذاك اللؤم تتبعه الدمامة
فإن تك قد أصبت نعيم دنيا - فلا تفرح فقد دنت القيامة
فضحك القوم ولم يبق منهم أحد إلا أجازه وما أحسبه رضى أن يسلك هذا المسلك في هجاء نفسه لمجرد التخلص من هذا الموقف الحرج الذي أوقعه فيه الخليفة المهدي، فقد كان في مكنته أن يحسن التخلص بما لا يؤذي نفسه أو يجرح كرامته، ولكن هذا النوع من الناس قلما يكترث بتلك المظاهر التي يقيم لها المجتمع أكبر الوزن، لأنه - لشدة صراحته - يصف حقائق نفسه مكشوفة مفضوحة. ولو ظننا أبا دلامة مغروراً يحسب أنه في الجمال بدر مشرق وهو مشوه كالقرد، قذر كالخنزير، فهل يمنع غروره الناس من وصفه بأنه جمع الدمامة كلها ما دامت أعينهم لم تكن تقع منه إلا على رأس كرأس الدب في ضخامته، وعيون كعيون الحرباء من الضيق، وأنف عارض في احديداب، وشفتين منتفختين من الغلظ، وعلى جسم مكتنز على قصر، وذراعين مرتخيتين من الشحم، وساقين مقوستين في تموج. . . وليس الناس عمياً فيحتجب عنهم هذا الجمال الساحر في تقاطيع هذا المخلوق العجيب! ولك أبا دلامة كان من الدهاء بحيث لم يفسح للآخرين مجالاً لوصف خلقه والشماتة به والضحك منه فأظهر الناس على حقيقة نفسه ليقطع عليهم سبيل السخرية اللاذعة التي تجد في دمامة المخلوق باعثاً على مواصلة التهكم والازدراء. وهذا الأسلوب الذي نهجه أبو دلامة في إظهار الناس على مدى بشاعته وفر عليه كثيراً من مفارقات غلاظ القلوب، ومن سخافات صلاب الافئدة، إذا ما كانوا ليجدوا في هجائه وصفاً لدمامته أعنف من وصفه. والإنسان إذا سمع ما حكم به على نفسه رضى بحكمه، وإن سمع ما حكم
عليه سواه لم يرضه منه إلا ما يتفق مع عزته، ولا يتنافى وكرامته. والذي يعنينا ما سبق أن هذا الظريف قد جمع إلى سواد لونه دمامة شكله، ولكن الله عوضه من هذا النقص لساناً حلو الحديث، رائع البيان قوي البرهان. ونعرف أنه كان مولى لبني أسد، فقد كان أبوه (جون) عبداً لفضافض الأسدي الذي أعتقه. فمن نسب أبا دلامة إلى بني أسد فإنما يقصد أنه كان أسدياً بالولاء. ولذلك تتسامح مع الذين وقعوا في هذه النسبة خطأ أو عفواً كأبي حيان التوحيدي في كتابة (الإمتاع والمؤانسة) وإن الباحث لتأخذه الحيرة إذا ما استعرض حياة هذا الظريف إذ يتساءل كيف أمضى شبابه - حتى أواخر العصر الأموي - مغموراً لا يحس به أحد، ولا يعرف له شعر، ولا يطير له ذكر، ثم وثب إلى الشهرة فجأة في أيام السفاح والمنصور والمهدي، فأصبح ينادمهم ويداعبهم ولا يكاد ينقطع عن مجالستهم! فأين كان قبل اتصاله بأبي العباس السفاح؟ وأين ومتى وكيف تلقى العلم؟ كل هذا مما أغفلته المراجع كأنها لا ترى فائدة في الإشارة إليه. ونحن نحاول أن نرجح - على الأقل - أصوب الأجوبة على الأسئلة المتقدمة: فأبو دلامة كان في بلدة (الكوفة) قبل اتصاله بالخلفاء العباسيين، ولم يكن من السهل على مثله أن يتصل بمن كان قبلهم في قصر الخلافة بدمشق لبعد الشقة من ناحية، ولانشغاله بتحصيل شيء من العلم وكسب قليل من القوت من ناحية أخرى، ولأنه أيقن بأن بضاعته المنادمة والمداعبة، وأن مثل هذه البضاعة مزجاة في أواخر أيام بني أمية التي كانت بركاناً يثور، وزلزلة لا يقر لها قرار. أما الأشخاص الذين طلب عليهم شيئاً من العلم فلم يكونوا من نباهة الذكر بحيث يفردهم الرواة من قبلنا أو نفردهم من بعدهم بالتخصيص، بل لنا أن نحكم بأن أبا دلامة لا رواية له، لأن معلوماته ليست نصوصاً تنقل، وإنما كانت فكراً نابعة من ذكائه الوقاد، وبديهته الحاضرة التي كانت تأذن لمن يسمعه إن يظن أنه على جانب من العلم عظيم! والحق أن أبا دلامة كان من هؤلاء الظرفاء الذين عرفوا بخفة الروح، ورشاقة النكتة، ولطف الدعابة، لا عن علم محفوظ، ولا عن سند مقبول، ولا عن استنباط للأصول. غير أنك إذا تلوت أشعاره طالعتك فيها قوة السبك ورصانة في التعبير، فتغزو قلبك الحيرة وتميل إلى الظن بغزارة علمه، فنوفر عليك حيرتك ونؤكد لك أنه بلغ هذا كله بمواهب فطرية لا باجتهاد عملي، فقد كان مطبوعاً على الشعر في سليقته، يرسله متى شاء دون توقف ولا انقطاع. وأظنك راغباً في
معرفة سبب اشتهار هذا الظريف بأبي دلامة إذ تجد في هذه الكنية شيئاً من الطرافة، والأمر أهون من هذا فطرافة كنيته دعت إليها الصدفة المحضة التي وهبته ولداً متعباً سماه (دلامة) لأنه (كنى باسم جبل بأعلى مكة يقال له أبو دلامة كانت قريش تئد فيه البنات في الجاهلية) كما روى الأصبهاني في أغانيه ذاهلاً عن تصريحه - في مواضع من ترجمة هذا الظريف - يذكر اسم ابنه (دلامة) وضروب عبثه مع أبيه! ومن النوادر التي صرح فيها أبو الفرج بذكر دلامة بن هذا الظريف - قصة نذكرها على سبيل المثال، ونقرأ فيها - في الوقت نفسه - شيئاً من نفسية أبي دلامة وابنه الخبيث: حجت الخيزران، فلما خرجت صاح بها أبو دلامة. قالت: سلوه ما أمره؟ فقالوا له: ما أمرك؟ فقال: أدنوني من حملها. قالت: أدنوه فأدنى. فقال: أيتها السيدة إني شيخ كبير وأجرك في عظيم. قالت: فمه؟ قال تهبين لي جارية من جواريك تؤنسني وترفق بي وتريحني من عجوز عندي قد أكللت رفدي، وأطالت كدي، وقد عاف جلدي جلدها، وتمنيت بعدها، وتشوقت فقدها. فضحكت الخيزران وقالت: سوف آمر لك بما سألت. فلما رجعت تلقاها وذكرها، وخرج معها إلى بغداد فأقام حتى غرض. ثم دخل على أم عبيدة حاضنة موسى وهارون، فدفع إليها رقعة قد كتبها إلى الخيزران فيها:
أبلغي سيدتي بالله يا أم عبيدة
أنها أرشدها الله وإن كانت رشيدة
وعدتني قبل إن تخرج للحج وليده
فتأنيت وأرسلت بعشرين قصيدة
كلما أخلفت لها أخرى جديدة
ليس في بيتي لتمهيد فراشي من قعيدة
غير عجفاء عجوز ساقها مثل القديدة
وجهها أقبح من حوت طري في عصيدة
ما حياة مع أنثى مثل عرسي بسعيدة
فلما قرأت عليها الأبيات استعادتها منه لقوله (حوت طري في عصيدة) وجعلت تضحك. ودعت بجارية من جواريها فائقة فقالت لها: خذي كلما لك في قصري، ففعلت. ثم دعت
ببعض الخدم وقالت له: سلمها إلى أبي دلامة. فأنطلق الخادم بها، فلم يصادفه في منزله. فقال لامرأته: إذا رجع فادفعيها إليه وقولي له تقول لك السيدة، أحسن صحبة هذه الجارية فقد آثرتك بها. فقالت له نعم. فلما خرج دخل ابنها دلامة فوجد أمه تبكي، فسألها عن خبرها فأخبرته وقالت: إن أردت تبرني يوماً الدهر فاليوم فقال: قولي ما شئت فأني أفعله، قالت تدخل علي فتعلمها أنك مالكها وتطؤها فتحرم عليه، وإلا ذهبت بعد وجفاني وجفاك. ففعل ودخل إلى الجارية فوطئها ووافقها ذا منه، وخرج. ثم دخل أبو دلامة فقال لامرأته: أين الجارية قالت في ذلك البيت. فدخل إليها شيخ محطم ذاهب، فمد يده إليها وذهب ليقبلها. فقالت له: مالك ويلك! تنح عني وإلا لطمتك لطمة دققت منها أنفك. فقال لها: أبهذا أوصتك السيدة فقالت: إنها قد بعثت بي إلى فتى من حاله وهيئته كيت وكيت وقد كان عندي آنفاً، ونال مني حاجته. فعلم أنه قد دهى من أم دلامة وابنها. فخرج إليه أبو دلامة فلطمه ولببه وحلف ألا يفارقه إلا عند المهدي. فمضى به ملياً حتى وقف على باب المهدي فعرف خبره وأنه جاء بابنه على تلك الحالة فأمر بإدخاله. فلما دخل قال له: مالك ويلك؟ قال: عمل بي هذا ابن الخبيثة ما لم يعمل ولد بأبيه، ولا ترضيني إلا أن تقتله. فقال له ويلك ما فعل؟ فأخبره الخبر. فضحك حتى استلقى ثم جلس. فقال أبو دلامة: أعجبك فعله فتضحك منه؟ فقال: على بالسيف والنطع. فقال له دلامة: قد سمعت حجته يا أمير المؤمنين فاسمع حجتي. قال هات قال: هذا الشيخ أصفق الناس وجهاً، (يلامس) أمي منذ أربعين ما غضبت، (ولامست) جاريته مرة واحدة فغضب وصنع بي ما ترى! فضحك المهدي أكثر من ضحكة، ثم قال: دعها له يا أبا دلامة وأنا أعطيك خيراً منها. قال: على أن تخبأها لي بين السماء والأرض، وإلا (لامسها) كما لامس هذه فتقدم إلى دلامة ألا يعاود بمثل فعله، وحلف أنه إن عاود قتله، ووهب له جارية أخرى كما وعده إنها قصة طريفة كما رأيت، وفيها تصريح بذكر دلامة (ابن شاعرنا الظريف) وتصريح بذكر أم دلامة زوجته الخبيثة فنفهم منها أولاً إنما اشتهر هذا الظريف بأبي دلامة كما يشتهر الآباء عادة بابنهم البكر، لا لشيء آخر، وتفهم منها - وهو الأهم - شيئاً من نفسية هذا الظريف وابنه وزوجته. فأما أبو دلامة فجريء يتدلل على أهل الخليفة، فيصيح بالخيزران ويطلب ما يريد في غير ما خجل، ويستبطئ الوعد فيؤكد غرضه بشعر يفيض بالدعابة حتى يجاب طلبه، فترسل إليه
تلك الجارية الحسناء التي طالما حلم بالوصول إلى مثيلاتها بعد أن مل امرأته التي أقعدها كبر السن عن تمهيد فراشه والقيام على خدمته. وأما دلامة فهو أصدق مثل للولد الخبيث الذي لا يرعى حرمة أبيه ولا يقيم له وزناً، وإنما يسترسل في إيذائه وتعذيبه، فيوافق أمه الماكرة على أن ينال حاجته من جارية أبيه كأنه لا يجد خيراً من هذا ليبر أمه. ثم نراه أمام الخليفة المهدي يدافع عن نفسه مضحكاً، فهو لم يقض تلك الحاجة مع الجارية الحسناء إلا بعد أن قضى أبوه مع أمه أربعين سنة، ويصف مع ذلك أباه بأنه أصفق الناس وجهاً. فما أهون - بعد هذا - جميع الأوصاف التي يلصقها ابن بأبيه! وأما أم دلامة فيالها من عجوز شمطاء، سليطة اللسان، خبيثة النفس، عرفت الأسلوب الذي تستطيع به إلزام زوجها بما تشاء، فاستعملت ولدها في إيذاء أبيه. وهكذا ترى أن بيت أبي دلامة جمع أنواع الدعابة وأسباب الطرافة؛ في الأب والأم والولد، وكأنما خلق الله كل واحد من هؤلاء الثلاثة لكي ينسجم مع الآخرين، ولقد كان الانسجام من توثق العرى بحيث أنه جعل ما يبدو من أي واحد منهم مفهوماً للآخرين لا يستغربه أحد منهما وإن أضحك الناس زمناً طويلاً. ولكي يتضح لك هذا الانسجام العجيب بين هؤلاء الثلاثة فتعرف مقدار ما انطوت عليه أنفسهم من خبث، تأنى على ذكر قصة جديدة فيها بعض ما تريد.
جاء دلامة يوماً إلى أبيه وهو في محفل من جيرانه وعشيرته جلس فجلس بين يديه، ثم أقبل على الجماعة فقال لهم: إن شيخي - كما ترون - قد كبرت سنة، ورق جلده، ودق عظمه وبنا إلى حياته حاجة شديدة، فلا أزال أشير عليه بالشيء يمسك رمقه ويبقى قوته، فيخالفني فيه. وأنا أسألكم أن تسألوه قضاء حاجة لي أذكرها بحضرتكم فيها صلاح لجسمه، وبقاء لحياته، فأسعفوني بمسألته. فقالوا: نفعل حباً وكرامة. ثم أقبلوا على أبو دلامة بألسنتهم وتناولوه بالعتاب حتى رضى وهو ساكت، فقال: قولوا للخبيث فليقل ما يريد، فستعلمون أنه لم يأت إلا ببلية. فقالوا له: قل. فقال: إن أبي إنما يقتله كثرة إتيان النساء فتعاونني عليه حتى أخصيه، فلن يقطعه عن ذلك غير الخصاء، فيكون أصح لجسمه، وأطول لعمره. فعجبوا من ذلك وعلموا أنه إنما أراد أن يعبث بأبيه ويخجله حتى يشيع ذلك عنه فيرتفع له بذلك ذكره، فضحكوا منه. ثم قالوا لأبي دلامة: فأجب. قال: قد سمعتم أنتم وعرفتكم أنه لن يأتي بخير. قالوا فما عندك في هذا؟ قال قد جعلت أمه حكماً بيني وبينه
فقوموا بنا إليها. فقاموا بأجمعهم فدخلوا إليها، وقص أبو دلامة القصة عليها وقال لها: حكمتك. فأقبلت على الجماعة فقالت: إن ابني - أصلحه الله - قد نصح أباه وبره ولم يأل جهداً، وما أنا إلى بقاء أبيه يأحوج مني إلى بقائه، وهذا أمر لم تقع به تجربة منا، ولا جرت به عادة لنا، وما أشك في معرفته بذلك، فليبدأ بنفسه فليخصها، فإذا عوفي ورأينا ذلك قد أثر عليه أثراً محموداً استعمله أبوه. فنعر أبوه وجعل يضحك به، وخجل ابنه وانصرف القوم يضحكون ويعجبون من خبثهم جميعاً واتفاقهم في المذهب. وللقوم الذين شهدوا هذه المحاورة التي تضحك الثكلى أن يعجبوا ما شاءوا، ولهم أن يروا فيها دليلاً على خبث الثلاثة واتفاقهم في مذهب العبث والمجون، فقد رأينا فيها ولدا يخجل أباه، وأماً تخجل ابنها، وأباً يوزع خبثه على الاثنين، فيسمع كلام ابنه غير غبي ولا متغاب، ثم يحتكم إلى زوجته احتكام العالم بما ستقوله، لأن عبث ابنه ينالها. ومن هنا نرى أن أم دلامة - وإن كانت تحب أن تخجل زوجها في بعض الفرص - لم تكن لتخذله دائماً، فهي تحبه على ما فيه من عبث ومنقصة، وهو يثق بها في تمام ما يعجز عن إتمامه بنفسه، لأنه عرفها وعرفته، واستطاع كل منهما أن يستكمل بالآخر مواضع نقصه، ونقط الضعف فيه!.
صبحي إبراهيم الصالح
أساليب التفكير
فلسفة الشعب
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
اعتذار:
منذ أكثر من شهرين كنت أتحدث إلى قراءة الرسالة عن الأسلوب الفلسفي في التفكير، وكلي عزم أن أواصل الحديث حتى يكتمل؛ ولكن شئون العيش، وشجون الحياة، وهموم العمل الرتيب، وفوضى المعاملات الإنسانية، تحرم المفكر نعمة التأمل، وتسلبه صفاء الذهن؛ فلا يعود يعمل إلا كما تعمل الآلة ويمضي في غمار الحياة اليومية كما تمضي قطرة الماء في خضم التيار: مسلوب الإرادة، فاقد الوعي، خامد الحس، موزع النفس. وهل من سبيل إلى التفكير المشرق الصافي، ما لم نكن بمنجاة من عمل مرهق يأخذنا من جميع أقطارنا، وما لم نهتد إلى فرجة من وقت نتسلل من خلالها إلى الوطن العزيز: وطن الفكر المقدس؟ والمثل اللاتيني يعزينا بقوله: (عش أولاً وتفلسف بعد ذلك).
لا مفر من الفلسفة:
انتهينا في مقالات سابقة إلى أن أداة التفكير الفلسفي هي العقل بوسائله الخاصة: من تجريد إلى حكم إلى استدلال إلى برهان. ولما كانت هذه الوسائل في متناول كل إنسان - أياً كان ذكاؤه وأياً كانت ثقافته - لم يكن مناص من أن يتفلسف الناس جميعا، وإن كانت الانفعالات والأهواء تتدخل أحياناً فتفسد ملكة الحكم السليم، وتطمس إشراقة الذهن، فليس ذلك بمنك وجود القدرة على التفكير الخالص. إن ومضات الفكر قد تنبثق في لحظات لدى أجهل الناس، كما أن ضياء العقل قد تكتنفه سحب الانفعال أحياناً لدى أعمق المفكرين. وقد كان إمامنا سقراط يؤكد هذا المعنى فيخاطب العامة والخاصة على حد سواء، ويدعو إلى فلسفته في عرض الطريق، وفي الأسواق، وفي أروقة المحاكم كان يناقش الصبي الغرير، واليافع البحاثة، والمثقف المتحذلق، موقناً أن الجهل عرض زائل، وغشاوة تنجاب بشيء من الجهد والاخلاص، حتى ليذهب إلى أن الصبي يمكنه بقليل من التوجيه والارشاد، أن يستنتج جميع مبادئ الهندسة التي وضعها أقليدس الرياضي. وكان منهج ديكارت (أبو الفلسفة
الحديثة) يقوم على أساس أن العقل (أعدل الأمور قسمة بين الناس، وأنصبة الناس منه متساوية. .) وقد يعجز الناس في عصر من العصور عن فهم ما يكتبه فيلسوف من الفلاسفة، بل قد يرمونه بالخلط والالتواء في التفكير، ويسخرون منه، وينالون من عقليته. وعندي أن ذلك لا ينهض دليلاً على استحالة فهم الناس لتلك الفلسفة، إنما مرده إلى قلة حظ هؤلاء من الثقافة، وعدم اعتيادهم التعمق في التفكير وخشيتهم من كل جديد يزلزل عقائدهم فضلاً عن كون الفيلسوف يعمد أحياناً إلى التعبير في غموض عن أفكار تخطر ببال كثير من الناس العاديين، ويستخدم أسلوباً فنياً مشحوناً بالمصطلحات الغريبة عنهم، فيقيم بذلك بينه وبين أذهانهم سداً منيعاً. ولذلك كانت لا تكاد تمضي حقبة من الزمن، يكون الشراح قد تناولوا فيها إنتاج الفيلسوف بالشرح والتفسير، وتكون العقول قد نضجت بعض الشيء، والإفهام تهيأت بقبول ما نبذت، فإذا المجنون عبقري خالد، والمارق قديس متبتل، ومذهبه عقيدة راسخة. وقد كان الفيلسوف الألماني (عمانوئيل كنت) يقول:(جئت بمؤلفاتي قرناً قبل موعدها، ولن أفهم إلا بعد مائة سنة، وحينذاك ستقرأ كتبي وتقدر قدرها.) وقد صدقت نبوءة الفيلسوف العظيم فلم يكد ينتصف القرن التاسع عشر حتى كان في كل قطر من أقطار أوربا مدرسة فلسفية بأسرها تستمد مبادئها من فلسفة كنت.
الفيلسوف إنسان:
إن الفيلسوف لا يأتي بدعا، ولكنه يرى ويسمع، فيحكم ويستنتج، وما يراه وما يسمعه أمور تقع تحت بصر الناس وسمعهم، وملكة الحكم أو ملكة الاستنتاج ليست وقفاً عليه، فالناس جميعاً يحكمون ويستنتجون؛ ولكنه أدق منهم حساً، ولديه من الفراغ والذكاء والصفات المزاجية ما يكفل له التعمق في تأملانه ومزاولتها أغلب الوقت، والانشغال بمحاولة فهم الكون عن كل ما عداها من شئون الحياة الجارية. ناهيك بقدرته على التجرد من أهوائه، والوقوف من حوادث الكون موقف المحايد: لا تعنيه التقاليد الموروثة والآراء الشائعة، إن تعارضت مع العقل. وكل امرئ بمقدوره ذلك ولو في فترات متقطعة عبر حياته. ويمكننا كمربين أن نعود النشيء كيف ينتزع نفسه - زمناً ما - من استغراقه في تيار الحياة اليومية، وكيف يستخلص العبر العامة من حادث مفرد، وكيف يتجرد من عواطفه، ويتجرد من تأثير غيره ليحكم في نزاهة، وينقذ في جرأة، ويسمو فوق المشاغل الجزئية التافهة.
لست أقصد بطبيعة الحال أن الناس جميعاً فلاسفة ولكنني أقصد أن كل امرئ بمقدوره أن ينتهج في حياته نهجاً فلسفياً، وأن الفيلسوف لا يفضل المفكر العادي إلا في الدرجة، وأقصد علاوة على ذلك ما أقصده أرسطو بقوله:(إذا لم يلزم التفلسف فلتتفلسف أيضاً لتثبت عدم لزوم التفلسف.) أي أن المرء ليس بوسعه إلا أن يتفلسف ما دام كائناً في عالم دائب الحركة، زاخر بالتطورات والمشاهدات والمفارقات كل ما يقع عليه البصر يثير العجب والدهشة، ويستفز نزعة الاستطلاع الكامنة في تحفز هو لا يستطيع أن يقف موقف المسجل لهذه الظواهر فحسب، فعقله دائب التساؤل، وهو قلق ما لم يصل إلى تفسير لما يرى، وتصور معقول للكون في مجموعة أو في ناحية من نواحيه. وهو إذا ما صاغ نظرية ما، هدأ القلق، وحقق - إلى حين - الطمأنينية العقلية التي لا غنى عنها للمضي في رحلة الحياة. قد تكون النظرية التي يفضي اليها تفكير المرء خاطئة أو قاصرة ولكن ذلك لا يقضى على قيمتها من حيث إنها كافية لإعادة الأمن العقلي إلى نفسه القلقة، والتعلل بها حتى يتهدى لتفسير نهائي. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن الوصول إلى تفسير نهائي، فلا يبرر ذلك أن ننكر الفلسفة أو نمتنع عن التفلسف كما حدث لبعض المفكرين: شكوا في قدرة العقل الإنساني، ويئسوا من بلوغ الحقيقة كاملة، فارتموا في أحضان التصوف، ومنهم من آثار الجهل على علم ناقص. يذكرني ذلك بالنقاش الطويل الذي احتدم بين سقراط - إبان إعدامه - وبين تلامذته حول وجود الروح وعلى خلودها، وبعد موافقة تلامذته عليها، بصعوبة المسألة وعدم جواز القطع برأي نهائي بصددها. حينئذ يتشجع أحد الحاضرين، (سيبيس) ويقول قولاً حكيماً: (يبدو لي يا سقراط، كما يبدو لك، أنه من المستحيل، أو بالأحرى من العسير جداً، بصدد هذه الأمور، أن نعرف الحقيقة في حياتنا هذه. ومع ذلك نرى من الجبن ألا نفحص بعناية فائقة كل ما أسلفنا قوله، وأن ندع جزءاً دون بذل قصارى جهودنا: ذلك أنه لا مناص من أحد أمرين؛ إما أن نعلم الحقيقة عن غيرنا وإما أن نكتشفها بأنفسنا؛ فإن استحال كلا الأمرين فلنتخذ من الآراء الإنسانية أقومها وأبعدها عن التفنيد، ولنمتط هذه الآراء كما نمتطي زورقاً يعبر بنا، مخاطرين، هذه الحياة حتى يتيسرلنا أن نعبرها على نحو أسلم وأقل تعرضاً للخطر. . . أجل إن لكل نظرة فلسفية قيمتها، وليس بقادح فيها بعدها عن الصواب أو قصورها عن مطابقة الحقيقة، ما دامت ضرورة
حيوية لتهدئة توتر الذهن عند ما يعجز عن حل مشكلة من المشاكل. وعلى هذا الأساس يحق لي أن أتحدث عن فلسفة شعبية تنطوي عليها حياة عامة الناس، وقد يصرح بها نبهاؤهم قولا كما سنبين:
فلسفة الخير والشر:
رجل الشارع إذ يقول: (كله فانٍ) إنما يركز في لفظين اثنين مذهباً فلسفياً ضافياً ملأ أسفار كثير من فلاسفة الأخلاق، لم يستمده من بطون الكتب ولا هداه إليه معلم، إنما هي مدرسة الحياة بتجاريبها تمده بالعرفان، وملكة الحكم السليم:(أعدل الأشياء قسمة بين الناس) تهديه إلى نظرياته. إنه يستقرئ الحوادث والكائنات، ويلمس انتهاء حياة كل كائن إلى الموت. كلما يقع تحت حسه ينمو ويزهو، ثم يذوي ويذبل. كل حي يدب على البسيطة دبيباً قد يتجاوب صداه في الآفاق، وينتفض من فرط القوة والحيوية، ويأتي من الأفعال ما نحمده وما ننكره، ثم إن هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى يتلاشى الدبيب، ويزول الصدى، وتخمد الحركة وتستحيل السيرة ذكريات لا تلبث أن تنمحي:
أتُرى الدنيا سوى دار سفار
…
ذات بابين ظلام ونهار
كم وكم من ملك جمِّ الفخار
…
حلَّ فيها برهة وارتحلا
حين لبى دعوة الداعي المطاع
ذلك ما يدور بخلد العامي حينما يخلو إلى نفسه يناجيها، أو إلى جماعته يؤانسها، أي حينما ينتزع نفسه من غمار العيش الرتيب، فيطل على الكون من قمة الفكر التي تشرف على الزمان والمكان، ويتحرر إلى حين من إلحاح الحاجات الجسدية التي تعطل التفكير الخالص ما لم ترتو. وحكيم الشعب الذي يقضي العمر لا يحمل حقداً أو ضغينة، ولا يحس إحناً أو سخيمة، يقدم للناس كل خير فلا يجد منهم غير الحسد ونكران الجميل، تقصد مضجعة خيانة الإنسان لأخيه الإنسان، وتترك عشرة الناس في نفسه ندوباً أليمة، حتى ليعصف به شك في وجود الخير في هذه الحياة التي نحياها، شكاً يعبر عنه غناء في أسى نبيل:
(يا زارع الودّ هو الودّ شجرهُ قل
…
ولا سواقي الوداد نزحت وماءها قل؟) وقد يكون لشكه
هذا أبلغ الأثر في سلوكه العملي: إما نقمة وسخط على المجتمع فإعلان الحرب عليه وتلمس السبل للانتقام، وإما عفو وغفران فمضى على الصراط المستقيم لا يرعى في شيء
إلاً ولا ذمة، ولا ينتظر جزاء ولا شكوراً. وهو في الحالين مبرر سلوكه بفلفسة تثبت فؤاده، وتؤكد سلامة اتجاهه أمام نفسه أو أمام الناس. فهو في الحالة الأولى نفعي، قيمة الفعل الأخلاقي في نظره رهن بمقدار ما يجلب لصاحبه من نفع وما يدفع من نكر، وهو في الحالة الثانية مثالي يفعل الخير للخير، قيمة الفعل عنده لا ترتهن بما يجلبه من نفع، ولكن بما تحدثه في النفس من رضى وطمأنينة. ولو تتبعنا تاريخ الفلسفة لوجدنا كلا الاتجاهين في الفلسفة الأخلاقية. يمثل الاتجاه الأول طائفة السوفسطائيين الذين قادوا حركة فكرية في أثينا إبان القرن الخامس قبل المسيح أعلنوا الثورة على العقائد الموروثة، وسخروا في جسارة من آلهة اليونان ومضوا في شكهم حتى تناول قواعد الأخلاق فأنكروها زاعمين أنها بدعة ابتدعها ضعاف النفوس ممن جردتهم الطبيعة من القوة والامتياز، فتوسلوا بالأخلاق والدين للسيطرة على الأقوياء والموهوبين. أما الخير عندهم فهو المنفعة، والسعادة في إشباع الرغبات والميول التي فطر عليها الإنسان. والواجب يقتضي تحطيم أغلال الأخلاق، لأنها ابتداع يتعارض مع الطبيعة البشرية، وعليه فالإنسان كما يقول أحدهم (بروتا غوارس) مقياس الأشياء جميعاً. . . (فالأشياء هي بالنسبة إلى على ما تبدو لي، وهي بالنسبة إليك على ما تبدو لك، وأنت إنسان وأنا إنسان.) أجل: أنا إنسان، وأنت إنسان - فليمض كل منا وفق هواه، وليجرد كل سلاحه، فالقوة فوق الحق والبقاء للاصلح. وقد أجاد الكاتب الفرنسي (هو نوريه دي بلزاك) في تصوير هذا الأتجاه الوصولي النفعي فيشخص مجرم خطير هو (فوتران) الخارج على المجتمع. يلتقي (فوتران) ذات يوم بشاب هبط باريس يطلب العلم هو (راستنياك) الذي يحمل بين جنبيه نفساً أبية وقلباً ذكياً، وطموحاً نبيلاً، ولكنه مع ذلك كغيره من الموهوبين في مجتمع منحل يعجز عن بلوغ المجد لأنه وقف على من يضحي بمبادئ الشرف والكرامة. يلقاه (فوتران) وهو على هذه الحال من الألم واليأس والرضا - مع ذلك - بالأوضاع والمقادير فيلقنه فلسفة في تلك الكلمات:(أندري كيف يشق الناس طريقهم في هذه الدنيا؟ يشقونه ببريق العبقرية، أو بالمهارة في الخسة. يجب أن تسقط في صفوف البشر كقنبلة أو أن تتسلل بينها كوباء. أما الشرف فلا فائدة فيه). تلك فلسفة يتخذها نفرمن الناس يؤيدون بها مسلكاً عملياً ويبررون بها ثورتهم على مجتمع يرونه ظالماً، وهي لعمري تحمل بين طياتها اعتذاراً ضمنياً عن فعال يحسون
في قرارة نفوسهم مجانبتها للصواب. وفي المقال القادم أحدث القراء عن الفلسفة المقابلة، تلك التي ترى الخير غاية في ذاته، والسعادة في رضى النفس وراحة الضمير. . .
عبد المنعم المليجي
دراسة الطفل
من الوجهة النفسية الحديثة
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
بعد بحث وتنقيب دام حوالي النصف قرن قدمت لنا صورة عن طبيعة سلوك الطفل تختلف كل الاختلاف عن الصورة التي قدمها لنا الباحثون القدماء في ميدان التحليل النفسي. فقد قدم لنا العلماء الحديثون القواعد الأولى التي بنيت عليها الدراسات الجديدة، وإن النقاط الرئيسية التالية تلخص وجهات النظر الحديثة في ميدان الدراسات العلمية التجريبية، في علم النفس الحديث يقول:
1 -
إن الطفل تركيب عضوي حي نام يتطور على شكل تحولات وتغيرات متناهية في الدقة من الخلية الأولى إلى التكوين العضوي المعقد الذي يؤهل الفرد للعمل وفق مستويات الراشدين. وفي ميدان هذا النمو والتطور يشرح العلماء خصائص الأعمال والتكوينات الجديدة، وعناصر التغيرات التي تتناول الحجم والشكل والتركيب، وصفات التغيرات التي تتناول مستوى الفعاليات وأوجه النشاط. كما أنهم يبحثون أيضاً في المبادئ الأساسية التي تحلل أساليب هذا النحو المستمر وأحواله وهذه الفعاليات النشطة.
2 -
إن الطفل وحدة حية مستقلة بنفسها، تعمل بمفردها عملاً منظماً إزاء المواقف التي تواجهها. وهذه الخصائص الجزئية التي يتميز بها السلوك تحتاج إلى تأكيدات خاصة. وتثبت العلوم الكيمياوية والفيزيولوجية بأن الوحدات المنظمة تستطيع أن تنقسم إلى أجزاء متشابهة، وهذه الأجزاء تنقسم إلى أجزاء أصغر منها، وهكذا باستمرار. وبمقتضى هذا فإن القوانين التي تحكم هذه الوحدات المنظمة ستستمر في عملها بنوع من الدقة والتماثل ينتج أعمالاً منسجمة متحدة. وبما أنه لا الطفل ولا سلوكه يتجزأ هذا التجزؤ نفسه، فقد وجدت الصعوبات في ميدان التحليل العلمي للطفل من هذه الناحية، لأن كل الوسائل النفسية والأساليب القياسية التي استعملت لتحليل السلوك إلى وحدات نموذجية معينة قد اقتصرت على الأعمال التي يقوم بها التركيب العضوي بمجموعه. ولهذا السبب عندما نتكلم عن الذاكرة وعن التعليم وعن العاطفة، فإنما نتكلم عن أعمال سلوكية مستقلة صنفت وفق قواعد التماثل والتشابه، لأن هذه المظاهر ليست ظاهرة قائمة بذاتها، ولكنها جمعت مع بعضها
لخصائصها الجوهرية المتماثلة، فكل نشاط يمكن أن يصنف تحت عدد من المراتب المختلفة، فإنما نفعل ذلك تسهيلاً لمهمتنا العلمية. ولهذا فإن نفس السلوك الواحد يمكن أن يصنف كإحساس أو كمعرفة أو كعاطفة أو كذاكرة. . . الخ. وهذه الوحدة في قوى النشاط الطفولي تستعمل إجراءات تبدو شاذة ولا تتصل اتصالاً مباشراً بالعلوم البيولوجية.
3 -
إن الطفل يعيش في محيط لا يتميز هو نفسه لا بطابع الوحدة، ولا بمظهر البساطة، ويعمل باستمرار مؤثراً على سلوك ونمو الطفل. وإن نماذج الدوافع الفعالة تأتيه من خارج محيطه، وبعد ذلك - بصورة غير مباشرة - وبواسطة دفع ذاتي فيه، يختار من بين مظاهر محيطه ما يناسبه ويوافقه. ويظل هذا التبادل المشترك بين الكائن البشري وبين المحيط الاجتماعي الطبيعي مستمراً في جميع الأوقات. وبما أنه قد يحصل نوع من التثبيت والتوقف في النمو، فإن صنفاً من السلوك يتشكل ويتحدد، وإن النماذج النوعية السلوكية تتطور في ميدان البواعث المتحركة وفي ميدان النظام الذاتي الخالص. وإن بعض هذه البواعث تصبح بواعث محركة منتجة بسبب تأثيرها على مجرى النمو بالتجارب العلمية وبالعلاقات الاجتماعية مع الآخرين، بينما تبقى بواعث غيرها غير ذات تأثير، لأنها لم تؤثر في هذه العلاقات المتشابكة المتبادلة. وأما لماذا تصبج يعض البواعث مؤثرة، وتبقى غيرها، مؤثرة، فإن هذه مسألة لم يبت فيها نهائياً في الدراسات النفسية الطفولية.
4 -
إن الطفل يبقى خاضعاً لعملية نمو مستمرة متتابعة، لا ترتد إلى الوراء ولا تقف. فلايمكن للبيئة ولا للعلاقات الطبيعية والاجتماعية أن تظهر مرة ثانية بنفس الشكل الذي ظهرت فيه في مرة سابقة، وذلك بسبب تجدد النمو وتجدد العلاقات المشتركة المتبادلة. إن السلوك في أية لحظة من اللحظات هو ثمرة تاريخ الطفل وتعبير عن باعث مؤثر معاصر. وعلى ضوء هذه القاعدة، فإن دراسة الأسباب المفردة والبسيطة يجب أن تستبدل ويستعاض عنها بدراسة البواعث المتجددة، والعلاقات المتبادلة، والتأثيرات النامية المتراكمة.
المشاكل النفسية للطفل:
ينقسم منهج العالم الذي يبحث في المشاكل النفسية للطفل إلى قسمين رئيسين مختلفين من
ناحية البحث والعمل. فهو يبحث أولا عن قواعد عامة، أو مبادئ تنطبق على نماذج وأشكال كثيرة تعين على فهم السلوك وعلى السيطرة عليه والتكهن بمداه ونتائجه. وفي هذه العملية يتناول بحثه:
(أ) أعمال الكائن الحي الآلية، أو ما تسمى النوازع الذاتية الأصلية للكائن الحي نفسه التي توجه أعماله توجيهاً مستقلاً عن تأثير خاص يسببه شخص معين أو بيئة معينة.
التأثيرات التي يؤثر بها الكائن الحي على البيئة التي تحيط به، أو ما تتركه الكائنات الحية من مظاهر خاصة على العالم الخارجي الذي حولها.
(ج) التأثيرات التي تؤثر بها البيئة على الكائن الحي، ودراسة كيف يحكي تغيير السلوك وتكييفه البيئة التي ينمو بداخلها الكائن الحي. وأما القسم الثاني، فيتناول تفسير وشرح الظواهر، وهما الأمران اللذان يتمثلان تمثلاً رئيسياً في عدد من العلوم. فالعالم النفسي يحاول أن يفسر عملية النمو نفسها بنماذج متقاربة ومفهومة، إذ يشمل عمله أولاً أن يصنع القواعد العامة المشتركة بين جميع الأفراد. وفي هذا المجال توجد طائفتان من القواعد:
(أ) قواعد النمو التناسلي أو التكويني المتعارض أو المتقاطع.
(ب) قواعد النمو التناسلي أو التكويني الطولي.
ثم يقوم ثانياً بمهمة شرح وتفسير وفهم السلوك الفردي بحثاً عن الوحدة العامة بين أنواع السلوك. وفي هذا المجال يجب التمييز أيضاً بين أمرين:
(أ) ترتيب الأفراد حسب مستواهم.
(ب) شرح حالة الفرد شرحاً يتناوله كوحدة جامعة.
أعمال الكائن الحي الميكانيكية:
في كل نظام من الأنظمة تنجز فيه الأعمال بمجموعها ومتحدة نتائج معينة في مرحلة وزمن معينين يفترض العلم بأن هذا النظام يقوم على مبادئ منطقية، وأن هذه المبادئ تعمل مستقلة استقلالاً يتفاوت كثرة وقلة عن المجهودات الآلية للكائن الحي، وعن تأثيرات البيئة التي تحيط بهذا الكائن، وأن هذه المبادئ تعمل بصورة ميكانيكية مختلفة ومتعددة وفي بيئات مختلفة، فإذا عرفنا هذه المبادئ فهمنا سلوك الأفراد واستطعنا السيطرة على هذا السلوك، وان كنا لم نعرفها فلا نحصل على ما يسمى السلوك غير المفهوم. هذه هي -
بصورة عانة - المبادئ الأولى في علم النفس، ومن استعراضها يظهر لنا بان التجربة أصبحت الأساس الفني لتنظيم الدوافع والعوامل والسيطرة عليها. لذلك فإن فهمنا يزداد وإنتاجنا يغزر كلما:
1 -
رتبت الدراسات بشكل يسمح للدوافع والحوافز بأن تعمل بكل قواها لتجنب الانهماك بأجزاء صغيرة من العلافات موضوعة البحث.
2 -
ونظمت الدراسات على أساس اتصال العوامل والحوافز وأشراكها.
3 -
وأعطى اهتمام أكثر سواء عند وضع التجربة وتنظيم المبادئ، أو عند المباشرة في الدرس والبحث، إلى المبادئ المتشابكة وتوافقها مع البيانات الإيضاحية. ولذلك بدلا من إشاعة الاضطراب والفوضى في البحث باستعمال الأساليب التقليدية التي تخضع الكائن الحي لآراء متنوعة بدلاً من إخضاعه للطرق البيانية المستمدة من الوقائع والتجارب. وهناك مسألة أخرى - تجابهنا في حقل الدراسات النفسية لمشاكل الطفل - وهي اختلاف قابليات النمو، واختلاف الأعمار وتأثيرها على الآراء والتجارب، ثم درجة وطبيعة التغير بالنسبة لهذه الاختلافات في الأعمار والقابليات.
تأثير الكائن الحي على البيئة:
يجب أن ينظر إلى الطفل في أية لحظة من اللحظات كنموذج خاص، أو كنظام تركيبي مشغول في مواجهة البيئة الخارجية، وكلما تحرك إلى الأمام مع الزمن، فإن علاقته بالعالم الخارجي تتحدد في جانب منها بانفعالاته الخاصة، فإن الأطفال يختلفون اختلافاً كبيراً من ناحية الذكاء، والقابلية الموسيقية، والقدرة لإنتاجية، والقابلية الأساسية، والأحوال البيئية. فإذا أمكن ترتيب الأساليب حسب ما يمكن قياسه من هذه الخصائص مفردة ومجتمعة، فإنه يمكن فيما بعد تسجيل وتحديد وتعميم الإنجازات الفردية التي لوحظت بدرجات متقاربة. ولكن هذه الملاحظات جميعها قد أجريت - وهذا مما يؤسف له في قياس الذكاء - مع أنه ليس هناك ما يمنع من توسيع هذا القياسات لتتناول مجالات أخرى غير دراسة الذكاء وقياسه، إذ أن مواضيع علم النفس المقارن كتلك التي تتناول الفروق الجنسية والعنصرية من الممكن أن تؤدي إلى وضع تصميمات نافعة جداً إذا أمكن تصنيف الجماعات في المراحل الأولى وتبع ذلك دراستهم دراسة مثمرة. ومثل هذه الدراسات الآن غير كاملة
تماماً لاختلاطها بالتأثيرات الطبيعية الكثيرة المزدحمة. ولهذا، ففي هذه الناحية يستعمل الفرد كنشاط متطور مستقل نام، أو ينظر إليه كبيئة نفسية يقوم هو نفسه ببنائها.
تأثير البيئة على الكائن الحي:
يقوم المجتمع عن طريق إرشاد وتدريب الأطفال بتكييف البيئات التي ينمو بداخلها الطفل، فالعالم يهتم بتكيف البيئات تكييفاً تجريبياً مقصوداً لاستكشاف المبادئ الرئيسية والإجراءات العملية التي يمكن استعمالها في تعليم وتدريب الأطفال.
وهنا تجابهنا مواضع كثيرة تتعلق بالأسلوب المنتج الذي يمكن الاستفادة منه في التعليم والتدريب. . . كيف يحدد مستوى المناهج؟ ما هي المواد التي يجب أن تدرس في الجغرافية مثلا؟ وهل الصور المتحركة والصور الحركية تساعد في تحسين نوعية التعليم؟ إن الدراسات التي تتناول تكييف البيئة تشمل في بعض الأحيان على دراسة العوامل والبواعث الموجهة كل على انفراد، بينما تشتمل في ظروف أخرى على رأسه نماذج معقدة جداً من قوى النشاط، ومن الواضح بأن التصميم التجريبي يتألف من تصنيف جماعات من الأطفال كل جماعة تتميز بعامل من العوامل موضوعة البحث، ويؤخذ بهذه الطريقة، لأن دراسة عوامل وبواعث بسيطة أسهل من تناول بحث يتألف من عناصر متشابكة ومتداخلة. وعلى كل يجب أن لا نفترض بأن المشاكل في هذا المجال تتمركز فقط حول مثل هذه العوامل والبواعث، إذ الحقيقة أن العامل الفرد ذا التأثير الواحد يعتبر حالة محددة من طرف واحد، وان البيئة مع كل تأثيراتها تعتبر حالة محددة من طرف آخر. ولذلك فإن هدفنا النهائي يتناول جميع العلاقات البيئية في جميع درجات الاشتباك والتعقد، فإن كافة البحوث في هذه الدراسات تنتهي بتعميم يعبر عنه باصطلاحات عددية، وبفروض تنبؤية، وبتحديدات معينة تطبق على الجماعات والأفراد. إن مهمة علم النفس في الماضي كانت تنحصر في جمع إنجازات السلوك والرجوع إلى الوراء للبحث عن العوامل المسببة. وهكذا يقارن تحت ظل هذا النوع من الدراسة بين الأطفال الحاذقين وغير الحاذقين، وبين الحسودين وغير الحسودين، وفي هذه الدراسات كذلك يعتبر (النموذج) النتيجة النهائية. وعلى كل فإنه إذا حصل تقدم في معارفنا عن الطفل، فإن البيئة يجب أن تصبح ظاهرة مستقلة متطورة، ويصبح السلوك نشاطاً متحولاً غير مستقل، وذلك بشكل يمكننا أن نتعرف
على السلوك من دراسة البيئة لا التعرف على البيئة من دراسة السلوك. ولكن هناك في هذه الناحية صعوبات عديدة، فقد قام العلامتان شيرمان وهنري (1933) باختيار خمس بيئات متفاوتة حسب قربها وبعدها من المدينة، ثم قاسا بعد ذلك الأطفال، وفي النهاية فشلا في الوصول إلى نتائج واضحة قاطعة من وجهة نظر التعميم العلمي. ويعود سبب هذا الفشل إلى حقيقة أن أية بيئة توجد لمدة طويلة من الزمن ستجرب إخضاع أفرادها إلى نوع من التأثير البيولوجي الانتقائي. ولكن إذا ما رتبت سلفاً البيئات التي تختلف اختلافاً جوهرياً فيما بينها، ثم وزع الأطفال عليها توزيعاً متناسباً يمكن بواسطته السيطرة على العامل البيولوجي الانتقائي، فإنه يمكن الحصول على نتائج هامة.
وقد أمكن الحصول على تعميمات عديدة حول تأثير النظام والإدارة على الأطفال ومن دراسة الأطفال العاديين ومن شرح حالات البيوت التي يجيء منها الأطفال وشرح خصائص جيرانهم ومعارفهم. وعلى كل فإذا أمكن ملاحظة نماذج من البيوت المتباينة من ناحية الأنظمة السائدة فيها والمتشابهة من النواحي الأخرى، وأمكن كذلك قياس سلوك الأطفال، فمن الممكن الحصول على نتائج هامة أكبر. إن السؤال العلمي الدقيق في بحوث علم النفس الحديث اليوم ليس هو من أي بيت جاء الطفل الذي تبدو عليه متناقضات السلوك، بل هو: ما هي أنواع الحالات البيئية التي تعرض الأطفال لمتناقضات السلوك؟ لأن الانتقال في العصر العلمي الجديد من السلوك إلى البيئة أقل إنتاجاً من الانتقال من البيئة إلى السلوك.
فؤاد طرزي
الربيع
للأستاذ محمد هارون الحلو
غدا الربيع فنجوى الحب ألحان
…
دن يراق وقينات وولدان
أرى بنات الربى يرقصن في طرب
…
مع النسيم وفردوس الهوى حان
خماره بات يسقيها على ظمأ
…
وهن من حوله شرب وندمان
حلم يجاذب قلبي وهو مفتتن
…
وكل قلب به ظام وهيمان
لقد نماه بسر الغيب مبدعه
…
تبارك الله ما سواه إنسان
يد تخط كما شاءت مصورة
…
وكل ما نمنمه فهو بستان
ما للأماليد في أعطافها زهر
…
ينهل من نشره روح وريحان
كأنهن عذارى قد خطرن وفي
…
معاصم السحر ياقوت ومرجان
يمسن في خفر عبر الظلال كما
…
يميس من طرب بالراح نشوان
بكرت أصطبح النجوى على شغف
…
بين الورود وكم فيهن فتان
يا للحداق بها كم أيقظت شجناً
…
فنوْح طير الهوى يدنيه لهفان
أنا المصاب وهذا السهم في كبدي
…
رماه ظبي إلى جنبي غيران
يوم استبقت إلى النجوى فغامزني
…
بلحظه وبريق اللحظ وسنان
فملت منه بأذيال معطرة
…
ومال مني. . . وقلبي منه ظمآن
قطفت منه ندياً غير معتصر
…
كما تألق تفاح ورمان
آذار مهلا دفقت الحب في وتري
…
فدف شدو به في القلب حيران
نشدتك الله عرس الروض بلبلني
…
وهاج مني خيالي فهو يقظان
الأمنيات أباريق معتقة
…
تديرهن على الأرواح غزلان
ولؤلؤي الندي المنضور مؤتلق
…
على الخمائل قد وشته عقيان
والدر والتبر في الياقوت نضده
…
بطابع الحسن في الفردوس فنان
له يكف الورى آلاء ذي منن
…
يحفهن به فضل وإحسان
والشمس تضفي غلالات مزركشة
…
يرف منها على الموشى تيجان
كأنها ملك يسمو به أفق
…
وللربيع بها عرش وسلطان
ما كان أسنى بنات الليل شاردة
…
والفها شارد الوجدان سهران
يرنو إليها فتغضى في موادعة
…
وقد أضر به ضد وهجران
فهل ترى أملاً يهفو على أمل
…
وهن منه حوارى وأخدان
أنا الذي هاجت النجوى بلابله
…
وللقمارى في الأغصان ألحان
لكم تسمعت منها ذى وتر
…
يضم عطفيه آلام وأشجان
أما لقلبي ينبوع أذوق به
…
من الأفاويق ما يهواه ندمان
بين الربيع ودنيا الحب آصرة
…
هما على الدهر إن شبهت صنوان
هما حياة بعثناها بأرغنة
…
وكم تغنى بها في الخلد رضوان
لا تسألني أذات الطوق حالية
…
كأمس حيث رياض الحب أفنان
وما حلاها أسوسان الربى عبقا
…
وزئبق القاع في الأعطاف فيان
أم الحوادث بين الشرق قد عصفت
…
بمهرجان الهوى فالتاع غصان
ربيع هذا الورى في كل بارقة
…
للخير، ما لربيع العيش أوطان
ربيع قلبي شبابي طالما انبجست
…
منه عيون إلى النجوى وخلجان
ربيع روحي يقين أستضئ به
…
يشف عنه بنور الله أيمان
ربيعنا العلم إن قرت دعائمه
…
فما يزعزعه بغي وطغيان
الله للعرب قد ناداهم سبب
…
إلى الجهاد فهم في البأس فرسان
إن مال بالقدس إعصار فروعه
…
فسوف يحمى ربيع الحق رحمان
محمد هارون الحلو
إلى الشاطئ
للأستاذ إبراهيم الوائلي
أيها الملاح - والزورق ينساب ويجنح
ونسيم الفجر يختال على الماء ويمرح -
يمم الشاطئ حيث الحلم النشوان يسنح
فهنا كنت مع الطير أناجيها فتصدح
أيها الملاح - والشاطئ مسحور الهضاب
وعروش الكرم تزهي فوق هامات الروابي
وشعاع الفجر ينساب على الطل المذاب
أعد الذكرى وجدد لي أحلام الشباب
مل إلى الضفة فالزنبق يختال ويعبق
ومذاب الطل في الزهر دموع تترقرق
فلكم ينقر مجداف وكم يسبح زورق
والدجى لفت جناحيها وهذا الصبح أشرق
هذه الفتنة في الشاطئ - والطير تغني -
إنها مبعث إلهامي وإحساسي وفني
أيها الملاح جدد لي عهداً ضاع مني
فلكم وقعت كالطير هنا بالأمس لحني
إن في الشاطئ من حبي عهداً لا يزال
هائماً مثلي في الآفاق مشبوب الخيال
في دموع الطل، في النرجس، في خفق الظلال
في خرير الماء، في الانسام، في صمت الرمال
ها هنا حبي واقداحي وساعات اللقاء
وربيع ذاب فيه الصيف واندك الشقاء
وانطلاق قد تساوى الصبح فيه والمساء
وهنا ودعت أمسي مثلما شئت وشاء
أيها الملاح في نفسي للماضي رغاب
لم تزل تضحك للفجر وتحيا في الشعاب
فهنا كان رفاق، وهنا مر شباب
وهنا كان صباح وأماسي عذاب
أيها الملاح في جفني طيف لا يغيب
لترانيم وكأس ولقاء وحبيب
فهنا دنياي بالأمس وماضي الرتيب
وهنا مجلى خيالاتي ومغناي الخصيب
أترى مثلي تشجيك ترانيم الطيور؟
والسواقي تهداى في رمال وصخور؟
والندى الذائب خمر سكرت منها الزهور
فهنا شعت كئوس وهنا رفت ثغور
إيه يا ملاح: إني طال في الشط اغترابي
فلكم أطوى حياتي بين موج وضباب؟
أنا في الزورق ظمآن فهل تدرك ما بي؟
وعلى الشاطئ سمارى وأقداح شرابي
مل إلى الضفة كي ننسى تهاويل الطريق
فهنا العيش رغيداً، وهنا الظل الرقيق
علني أدفن همي بين أكواب الرحيق
وأرى الحاضر يزهي مثل ماضي الطليق
أيها الملاح - والزورق ينساب ويجنح
ونسيم الفجر يختال على الماء ويمرح -
يمم الشاطئ حيث الحلم النشوان يسنح
فهنا كنت مع الطير أناجيها فتصدح
(القاهرة)
إبراهيم الوائلي
اعصفي يا رياح.
.!
للأستاذ رضوان إبراهيم
اعصفي أيتها الرياح وزمجري
من كان له في هذا البلد كوخ يخشى عليه التحطيم فليستعطفك!
اعصفي أيتها الرياح. . من كان له في هذا الحقل سنابل يخاف أن تتقصف فليسترحمك!
اعصفي أيتها الرياح. . من كان له في هذا الوجود أحبة يشفق عليهم من لفحات فليطلب
إليك أن تترفقي!
اعصفي. . . اعصفي يا رياح!؟
مهما عصفت فلن تزلزلي هذا الأساس، لأنه لاصق بالأرض!؟
ومما غضبت فلن تهز في هذا البناء، لأنه وهم من الأوهام!؟
ومهما زمجرت فلن تدكي هذه الصروح، لأنها أشباح الأبدية!؟
اعصفي أيتها الرياح. . . اعصفي!
إنني سار غريب. . . مهما عصفت فلن ينشق عني هذا الإهاب الذي يشد عظامي. . .
إنه هدية أمي يوم جاءت بي إلى هذا الوجود!؟
ومهما ثارت ثائرتك فلن تطيحي بهذه القبة الزرقاء التي أستظل بها كلما ألهبت رأسي
زفرات الهجير. . . هجير المجتمع. كل موطئ لقدمي وطن حتى أنقل القدم إلى غيره. . . وكل مضجع آوى إليه تحت سماء الله بيت حتى أنفض غبار الجهد. وكل كسرة أتبلغ بها مائدة ما دامت تحفظ على الحياة!؟
اعصفي أيتها الرياح. . . اعصفي.
اعصفي زلزلي. . . فقد تزلزلين يوماً صروح الظلام!
اعصفي ودكدكي، فقد تدكين مرة معاقل الظلم والطغيان!
اعصفي وثوري. فقد تحطمين سدود الرحمة فتتدفق فتغمر الوجود!
اعصفي. . . فقد يصحبك برق يمزق الغشاوة التي ترين على الأبصار والقلوب، فيرتد
إليها البصر والبصير، فترى حكمة السماء على الأرض، ونور الله على ظلام الناس.
اعصفي وغبري، فقد يعقبك غيث يهطل على القلوب فيحييها فتخضر في جوانبها
الرحمة، ويمرع فيها الايمان، وتزدهر في حواشيها الإنسانية!
اعصفي واملأي الدنيا ظلاماً ورعباً، فقد تنجلين عن شمس ساطعة تغمر الكون بضيائها،
فتطرد أشباح اليأس، وتتعقب قلول الظلام، وتنشر الأمل والنور والطمأنينية والسلام.
رضوان إبراهيم
مدرس مساعد - العباسية
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
(بنات) للأستاذ أحمد الصاوي محمد:
كتاب يطرق أبواب الشعور في النفس الإنسانية طرقاً عنيفاً في كل فصل من فصوله قصة، وفي كل قصة قلب، وفي كل قلب عاطفة. ويقف المؤلف من وراء هذا كله ليلهب القلب الذي يخفق، وليؤجج العاطفة التي تحرق، وليقدم من صور الحياة نماذج فيها من زهر الشرق، وفيها من عطر الغرب، وفيها القلم الذي يصب الزهر والعطر في قارورة الوجدان! في هذا الكتاب فتاة ظلمها الصاوي كل الظلم حين لخص قصتها الرائعة في ثلاثين صفحة؛ فتاة ليست ككل الفتيات، لأن مبدع شخصيتها كاتب ليس ككل الكتاب! هذا الكتاب الفرنسي أخفض قلمي تحية لفنه، ولا تصفني بالغلو إذا أحنيت رأسي إجلالا لعبقريته! وتسألني لماذا ظلمها الصاوي؟ فأقول لك: لأن هذه المسرحية تهز منك الأعماق وهي ملخصة في ثلاثين صفحة، فما بالك لو أفرد لها الصاوي كتاباً نقل في كل همسة نفسية من همسات الكتاب الفرنسي وكل وثبة فنية من وثبات قلمه؟! مسرحية تعد في رأي النقد نموذجاً فنياً بلغ من النضج في كل عنصر من عناصره ما يدفع إلى القمة من الأدب المسرحي الحديث. . . الفكرة من تلك الأفكار التي لا يلتقطها من أعماق النفس إلا ملقط خبير بمسارب الشعور الإنساني حين يرتطم بواقع الحياة، والحوار موهبة فذة ترقب الشخوص من مرصد الوعي المرهف لتسجل الحركة النفسية قبل الحركة الفكرية، والصراع من هذا اللون الذي تستحيل معه الكلمات إلى متحف من متاحف العرض الفني لصور الأهواء والنزعات، أما طريقة التوزيع المسرحي للأدوار الرئيسية فتذكرك بطريقة الكاتب النرويجي إبسن في مسرحيته الخالدة البطة المتوحشة؛ كل دور يلائم شخصيته القائمة به ملاءمة تجمع بين منطق الحياة ومنطق الفن. ويبقى بعد ذك للكتاب الفرنسي تفرده بحرارة الصراع وعنف الوجيب في القلب الإنساني!
دعني أقدم إليك هذه المسرحية الرائعة التي لخصها الصاوي تلخيصاً أميناً تحت عنوان (بنت بين أبوين). . . هي فتاة كما قلت لك ليست ككل الفتيات، فتاة رقيقة الحس، مكتملة العقل، مشبوبة العاطفة. نشأت في بيت من تلك البيوت التي تظلل سماءها الصافية غيوم
من الحيرة والشك والضلال؛ فأبوها رجل مغلق القلب، مغمض العينين، متبلد الشعور والوجدان. زوجته في رأيه ليست زوجته، وابنته في وهمه ليست ابنته. . وتمضي عجلة الزمن لتطوي من حياة الأسرة المعذبة الحائرة عشرين عاما؛ ً لقيت فيها الزوجة ما لقيت من شكوك الزوج وإهماله، ولقيت فيها الفتاة ما لقيت من خشونة الأب وإعراضه! وتشب الفتاة عن الطوق وبين جنبيها قلب يتقلب على جمرات من الحقد على هذا الأب الذي لم يشعرها يوماً بحنان الأبوة، وعلى تلك الأم التي حرمتها هذا الحنان في فجر العمر وشبابه، حين جاءت بها إلى الحياة من رجل غير الرجل. . . وللأسرة صديق يتهمه الزوج بانتهاك حرمة العطر في زهرة كان يمكن أن تملأ بيته بالأرج، وتقف الزوجة والصديق أمام هذا الاتهام السافر موقف المظلوم من القاضي الجائر، فهو إن قدم الدليل على براءته يجد الأذن التي تسمع ولا القلب الذي يشفع! والفتاة البائسة تجلس في الصف الأول من صفوف النظارة لتشهد المأساة بكل خلجة من خلجات الفكر الموزع والعقل المشتت والضمير الملتاع. وينتهي الفصل الأخير بأن تغادر الفتاة المسرح الذي ملأ عينيها بالدمع وأرمض جوانحها بالعذاب، ولكن أين؟. . . إلى هناك إلى البيت الآخر الذي يضم بين جدرانه رجلاً كانت تناديه أبداً بيا (أبي) تناديه بها بالقلب والروح واللسان! كان أبوها حقاً ذلك الرجل الذي لجأت إليه؟ الله يشهد أنه لم يكن للعائلة غير صديق، صديق يحب الزوج ويجل الزوجة ويعطف على الفتاة، ولكن الشك قد أظهره في عيني الزوج المضل بظهر العاشق وفي عيني الفتاة الشقية بمظهر الأب، وما أثقلها من كلمة كانت تلهب شعوره بسياط الأسى الدفين حين تناديه الفتاة بنداء الأبوة وهو عنه بعيد! ويأتي يوم يتدخل فيه القدر ليرفع الغطاء عن وجه الحقيقة، والغشاوة عن عيني الزوج، وكما يستيقظ النائم من نومه الطويل وأحلامه المفزعة، فقد استيقظ الزوج بعد عشرين عاماً ليطلب الصفح من الزوجة والابنة والصديق. . . . ويصفح الصديق عن زلته، وتعفو الزوجة عن سقطته، وتبقى الفتاة يحول البغض والحقد بينها وبين الصفح والمغفرة! وهنا يبد الصراع النفسي العنيف الذي يرتفع بالفن المسرحي إلى الأوج. . . أب يتوسل إلى ابنته أن تصفح، وأت تعفو، وان تعود إليه، أب فرغ قلبه وفرغت حياته من الحب البنوي عشرين عاماً ويريد أن يملأ فراغ القلب والحياة، أب يئن أمام عاطفة ابنته المتحجرة أنين حيوان شجته السهام فراح يلعق جراحه،
أب يحاول أن يقنعها بأنه أبوها وأنها ابنته، وكلما شق طريقاً إلى القلب المغلق وقف الماضي البغيض ليعترض طريق أحلامه وأمانيه!. . . إذا قال لها إن عينيه تشبهان عينيها قال له: أجل يا أبي بما ليس فيهما من حنان! وإذا قال لها يجب أن تؤمن بطهارة الأم التي أنجبتك، قالت له: إن من يعيش معك يا أبي لا يؤمن بأحد! وإذا قال لها أحبي يا ابنتي ما كرهته واجتويته ونفرت منه عشرين عاماً، أنا بشكلي ورأسي ويدي وظهري قالت له: ولكن ابتسامتك يا أبي، ونبرة صوتك، ووقع خطا! وإذا قال لها ألا نحاول يا ابنتي أن يقترب أحدنا من الآخر قالت له: إن من واجبنا يا أبي أن نحاول! ويهتف الأب وهو يغص بلوعته: أرأيت يا ابنتي أن الكلمة الوحيدة التي وجدتها هي كلمة (الواجب) وهي كلمة ينقصها السحر؟! وتجيبه الفتاة وهي تشرق بالدمع: آه لو أمكننا! ويهمس الأب من أعماقه: أن نتسامح، وأن ونتصافح! وأمام اللهفة الضارعة تقول له: تكفي لحظة حنان في حياتنا العدائية، وتذكر شيئاً، شيئا نستطيع أن ننسج عليه مودتنا، ثم محبتنا ثم سعادتنا تذكر عندما كنت طفلة ومرضت، ألا تذكر؟ فلنبحث عن شيء آخر يا أبي، شيء أكون قد قلته لك. . . . كلمة. . . . أو إشارة تسعفنا وتقرب أحدنا إلى الآخرّ ويصرخ الأب في يأس مرير: آه يا ابنتي، لا أكاد أجد شيئاً، لقد كنت بلا ريب طفلة لطيفة، ثم بنتاً جميلة، ولكنني لن أنظر إليك، لقد كرهتك منذ مولدك، أما الآن فلشد ما أحبك يا ابنتي!!. . . انظري أليس مثلنا كمثل كفيفين عمى منهما البصر وهما يتخبطان في الظلام مادين أيديهما ليلتقيا؟ هيا يا ابنتي إلى البيت، ولن نكون الأسرة الوحيدة على ظهر الأرض التي يعيش فيها أب وابنته جنباً إلى جنب بغير حب!
ترى هل ذهبت معه؟ كلا! إن الريشة المبدعة تريد أن تختم المسرحية الفذة ختاماً نفسياً لا نظير له. . إن الكاتب الفرنسي يريد أن يلقي على رجال الفن دروساً ترسم لهم الطريق؛ وها هوذا ينطق الفتاة بأعمق وأروع ما يمكن تنطقها به الحياة: (لن أذهب معك يا أبي لأنني أريد أن أحبك. . . يجب أن نتحاب يا أبي وقد أحبك لأنني أريد أن أحبك. . . يجب أن نتحاب يا أبي وقد أحبك إذا سافرت إلى أي مكان بعيد! إنني لا أستطيع أن أنطق أمامك بشعور الميل والانعطاف لأنك أمامي وحتى لو قلت لي أرني ما عندك فإني لم أتأثر به إذ أنك تقوله بذلك الصوت الذي طالما تثلجت منه أرافي وجرح فؤادي. . لا حيلة لي فيه فهو
ما زال يثلجني ويجرحني! حتى لو بكيت يا أبي فإن دموعك تسيل على وجهك الذي ظل عشرين عاماً وهو يتجهم لي!!. . . وعلى ذلك فلا بد لبناء شيء بيننا من أن نهدم أولا كل شيء، ولكي أحبك لا بد لي من أن أنساك. . . ولكي تزداد قرباً مني ينبغي أن تزداد بعداً. . . سافر إذن لأفكر فيك. وأكتب إليك. . . ولكي تكون أبي الذي بعد عني والذي سيعود إلي. . . أبي المجهول الذي لا يعرفنني، والذي سيجيء يوماً ما. . . سوف ترى، فإنه ما إن يتم البعد بينا قليلاً حتى يشب الحب بيننا قليلاً. . . وفي رسالة من رسائلنا، نزداد جرأة عل إبدائه، والتعبير عنه. . . ثم نتحاب حقاً يوماً، وعندئذ تعود. . . أتريد ذلك يا أبي)؟ ويجيبها الأب وهو يجر قدميه مندفعاً إلى الخارج وفي صوته رائحة الدموع: نعم يا بنيتي. . . وسأنتظر رسالتك الأولى!!
فتاة كما قلت لك ليست ككل الفتيات، لأن القلم الذي قدمها إلى الناس قلم كاتب ليس ككل الكتاب. . . وأقرأ بعد ذلك للصاوي قصصاً أخر وبعضها لكتاب آخرين من الأدب الفرنسي، ومهما بدا لك من الاعتراض هنا وهناك فلن تستطيع أن تنكر على الصاوي أنه إنسان، إنسان يستشير قلبه في قصصه حين يكتب، ويرجع إليه دائماً في قصص غيره حين يعرب! اقرأ مثلاً في الفصل الأول قصة الفتاة التي تضحي بحبها الذاتي في سبيل الكرامة، وفي الفصل الثاني قصة الفتاة التي تضحي بحبها الأبوي في سبيل الزوج، وفي الفصل الرابع قصة الفتاة التي تضحي بحبها الخيالي في سبيل الوطن! واقرأ إذ شئت في الفصول الأخرى ألواناً من المرأة وألواناً من الحب، وإذا كانت هذه الألوان لا تبلغ المستوى الرفيع في قصة الكاتب الفرنسي والقصص الأربع التي أشرت إليها في الفصل الأول والثاني والرابع والأخير، فحسبك أن خفقات القلب فيها تسبق وثبات القلم!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
قلت وما زلت أقول لماذا يؤثر بعض القراء أن يظلوا مجهولين وهم أصدقاء؟. . هذه رسالة من (القضارف - سودان) تحمل إلي من أديب لم يذكر اسمه تحية ملؤها التقدير الكريم لهذا القلم المتواضع الذي يسطر تعقيباته من أسبوع إلى أسبوع. إن هذه التحية الكريمة وأمثالها من التحايا الصادرة من أعماق الشعور والقلب والعاطفة، لتؤكد لي أن رسالة الأدب بخير ما دام هناك خلق وعقل وذوق ووفاء، أما أنا فلا أملك لهؤلاء القراء
الأصدقاء جميعاً غير الشكر، وإنه لشكر العاجز المقصر عن بلوغ ما يريد!. وهذه رسالة أخرى من (الإسكندرية) تحمل إلي أيضاً ما حملته الرسالة السابقة من عاطر الثناء، ولكن مرسلها الأديب الفاضل سعيد كامل غير راض عن الكلمة التي كتبتها منذ أسبوعين عن الريف، لأن قضية الريف كانت تنتظر مني تصويراً أصدق وأوفى واكثر إحاطة مما كتبت! إن ردي على الأديب الفاضل بعد خالص شكري له هو أنني ما أردت من وراء كلمتي عن الريف إلا أن أسجل حالة شعورية صادقة تركت أثرها في نفسي وحسي، وأعتقد أنني قد نقلت حديث الشعور إلى الورق نقلاً يمكن أن يحرك ذوي النفوس الشاعرة من أصحاب الأقلام وأصحاب السلطان أما الرسالة الثالثة فمن تاجر فاضل (بمحلة مرحوم) يهوى الأدب ويحب (الرسالة) وهو السيد حنفي الشريف. . . يسألني التاجر الأديب حلاً لمشكلة سببها له صديقي الأستاذ راجي الراعي في قطرات نداه حين قال:(أتعس الناس رجل ذو ذاكرة قوية يصرف الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة ولا يرى فيه قوة لتعبير عما يشعر به، فتظل تلك الخلائق في رحامه لا تقوى على الخروج وتتراكم مع الزمن حتى يصاب بالاستسقاء الذهني وفي مساء يوم من أيامه ينفجر رازحاً تحت أثقاله ويسلم الروح منتحراً أو مجنوناً! إن النفس إذا غصت ساحتها بما فيها ولم تجد منفذاً أصيبت بالاختناق، فلا تصرفوا أوقاتكم في القراءة إذا كنتم لا تستطيعون أن تكتبوا. القلم فرجة الروح فاكتبوا كلما قرأتم لترتفع أشجاركم بدورها بين تلك الأشجار التي تتفيأونها في غابات الفكر والإحساس. افتحوا كوى أرواحكم بين الحين والحين لئلا يفسد هواؤها)!. . . إن مشكلة التاجر الأديب أنه مشغوف بالقراءة والاطلاع والاغتراف من منابع الأدب، ولكنه لا يملك القدرة على التعبير عما يجيش بنفسه من شتى لا خواطر والأحاسيس بما يرضي أديباً كبيراً كالأستاذ الراعي، فهل يترك القراءة والاطلاع لأنه لا يستطيع أن يعبر؟! هذا السؤال يوجهه إلي صاحب الرسالة، وأنا أترك الجواب للأستاذ راجي الراعي لأن الموضوع موضوعه وهو أحق مني بالجواب! وتبقى بعد ذلك الرسالة الرابعة وهي من (السودان) أيضاً إنها رسالة عزيزة علي لأن ما فيها من عتاب وطني حار قد لفح مني الشعور والوجدان! أود أن أقول لمرسلها الأديب الفاضل ج. البشير إنني سأفرد للموضوع الذي أثرته بكلماتك الملتهبة بصدق الوطنية والإيمان مكاناً خاصاً من (تعقيبات) العدد
القادم. . .
قصة (مالك الحزين) في مجلة الثقافة:
قصة مالك الحزين قصة معروفة لكل من قرأ كتاب (كليلة ودمنة)، وهي قصة قصها بيدبا الفيليسوف على دبشليم الملك حين طلب إليه أن يضرب له مثلاً للرجل يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه. . هذا المثل الذي ضربه الفيلسوف لهذا الصنف من الناس مستمداً معناه من شخصية مالك الحزين، هذا المثل تستطيع أن تعثر عليه في العدد الصادر منذ أسبوعين من الثقافة في صورة دكتور من الدكاترة الشبان يلذ له دائماً أن يحمل عصا الأستاذية في النقد الأدبي! قال الدكتور وهو يعرض لأحد الكتب بالنقد والتوجيه:(دعوت في مقال إلى أن لا يكتب المؤلف كتاباً إلا وقد أصبحت أفكاره تجارب يعيشها ويحياها، حتى يكون الكتاب ذا قيمة حقيقية وحتى يمكن أن ينتفع به الناس؛ فإن الكتاب إن لم يصدر عن منطق المؤلف وروحه، ولم يصبح جزءاً لا يتجزأ من ذهنه ونفسه، يكون شيئاً تافهاً، ولا يكون خليقاً بالنظر والدرس. وقد يظن بعض المؤلفين في هذا عنفاً وقسوة في الحكم على الكتب، ولكنهم إذا نظروا في الساعات التي اقتطعوها من القارئ في غير جدوى، إلا أن يأتوا بأخبار من هنا وهناك، حتى ليغدو الكتاب كأنه سوق غير منظمة يختلط فيها الزائف بغير الزائف والمهوش، إذا نظروا في ذلك اعترفوا بصحة ما تذهب إليه). كلمات الدكتور الناقد حق في حق، ولكن هل يتفصل بتطبيقها على كتبه قبل أن يطبقها على كتب الناس؟ أم أنه يريد أن يعيد لنا قصة مالك الحزين، ذلك الذي قال عنه بيدبا الفيلسوف أنه يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه؟!. .
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
بيني وبين رجل طيب:
تصدى كاتب في مجلة المقتطف لما كنت كتبته في العدد (830) من الرسالة بعنوان (مجمع سلامة موسى للغة العامية) فكتب تحت عنوان (النقد والتعقيب في الصحف والمجلات) متوهماً أنني نقدت في ذلك الموضوع كتاب (البلاغة العصرية واللغة العربية) للأستاذ سلامه موسى، نقداً (إنعدم فيه التجاوب وضاعت الأمانة الواجبة على الناقد. . . الخ) وأنا أبادر أولاً فأقول إني لم أتعرض لنقد الكتاب، وإنما كان مبنى الموضوع على طلب الأستاذ سلامة موسى عضوية مجمع فؤاد الأول للغة العربية، إذ قلت إن الأستاذ دائب الطعن على اللغة العربية وأدبها وثقافتها. والغرض الأول من المجمع هذه المحافظة على هذه اللغة وتنمية أدبها وثقافتها، والأستاذ سلامة يدعو إلى اتخاذ اللغة العامية بدلاً من العربية الفصيحه، وعلى ذلك فهو ليس أهلاً إلا لعضوية مجمع ينشأ للغة العامية، ومن التخليد له أن يسمى المجمع العامي باسمه. واستشهدت على ما قلت ببعض نصوص وردت في كتابه المذكور آنفاً نعى فيها على العربية وثقافتها ودعا إلى اللغة العامية. فهل يعد الاستشهاد ببعض ما جاء في كتاب، نقداً له؟ ولو أنني نقدته حقاً لما ضيعت الأمانة، ولما انعدم (التجاوب) في نقدي ولو أنه في غير صالح الكتاب. ويظهر أن الكتاب رجل طيب مجد مجتهد، كما يظهر نم قوله (وغايتنا من وراء هذا إعلاء مكانة النقد وتنقيته من الشوائب) أنه أيضاً غيور على صالح النقد الأدبي، ولكن كل هذه أشياء غير الأصالة والإصابة، وفقدان هذين هو الذي جر على ما ندبه قلم الكاتب، سامحه الله. وقد صدق الرجل الطيب الغيور في مؤدى قوله:(لقد زعم الكاتب الشاب (الذي هو أنا) أن الأستاذ سلامة موسى يهجم على اللغة العربية ويعيب أدبها ويدعو إلى اللغة العامية وأن آراءه في هذا الكتاب ككل الآراء التي في كتبه وأن رجلاً هكذا اتجاهه لا يجوز أن يحتل مقعداً مع الخالدين في المجمع اللغوي بل إنه ليرشحه لرياسة مجمع يطلق عليه المجمع العامي ويسمى باسمه نعم قلت ذلك ودللت عليه بما جاء في الكتاب، وأزيد عليه الآن ما قاله المؤلف بعد أن ادعي أن السلفية - ويقصد بها الكتابة عن الأسلاف دون هنري فورد وكارل ماركس - منعت الأمة
من التقدم الصناعي، قال في (ص12):(لأن المجتمع الصناعي كان جدياً بأن يحدث مجتمعاً مستقبلياً يكتب مؤلفوه بلغة الشعب وتنتقل اهتماماتهم الذهنية من التأليف عن قدماء العرب إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية في الأخلاق والتعليم والاقتصاد ومكافحة الفاقة. وإني بالطبع لا اغفل هنا ارتباط اللغة بالتقاليد والعقائد وأن هذا الارتباط من أسباب الكراهية للتطور اللغوي) وفي الكتاب كثير من أمثال هذا الكلام. على أن عنوان الكتاب نفسه يدل على أن المؤلف يدعو إلى اللغة العامية، فهي المعنية بـ (البلاغة العصرية) لأن الواو الواقعة بينها وبين (اللغة العربية) في اسم الكتاب، تقتضي التغاير بينهما، أي أن البلاغة العصرية شيء مغاير للغة العربية! والرجل الطيب المجد الغيور ينفي عن الأستاذ سلامة موسى أنه يعيب العربية ويدعو إلى العامية، وقد دفعته طيبته إلى الإغضاء عما استشهدت به من اكتاب، وأعمل جده واجتهاده في عرض أبواب الكتاب ومحتوياته التي منها بحوث في (أثر الألفاظ من الناحية السيكولوجية والاجتماعية والخلقية) ولم يدرك الرجل الطيب - لطيبته - أن المؤلف يقصد بذلك ثلب اللغة العربية فهو يقول مثلاً في أثر الألفاظ النفسي ص 146:(في لغتنا كلمات تحمل شحنات عاطفية سيئة تؤدي إلى ارتكاب الجرائم (الدم والعرض في الصعيد). ومن محتويات الكتاب التي أشاد بها الرجل الطيب ما جاء في قوله (ولم يقف مؤلف كتاب البلاغة العصرية عند هذه الفكرات بل ارتأى أن يكون المنطق أساس البلاغة الجديدة (ولا تنس أنها العامية) وأن تكون مخاطبة العقل غاية المنشئ بدلاً من مخاطبة العواطف، وذلك لأن البلاغة العربية تخاطب العواطف دون العقل، وهذا ضرر عظيم) ومعنى هذا أن نلغي الأدب كله لأنه يخاطب العواطف ونعمل بلاغة عصرية عامية تحرر بها العلوم ويكتب بها عن كارل ماركس وهنري فورد من أجل خاطر سلامة موسى الذي ألف هذا الكتاب متأثراً ب (عاطفة) الكراهية للغة العربية! إن النتيجة التي يستخلصها القارئ الفطن من هذا الكتاب - بعد أن (يتجاوب) معه - هي أن اللغة العربية علة تأخرنا في كل شيء. . . ففيها كلمات تفسد الأخلاق كالدم والعرض في الصعيد، وهناك ألفاظ مثل الحريم تهدر كرامة المرأة، وهناك كلمات أرستقراطية تبسط السيادة الطبقية كصاحب السعادة وصاحب العزة، وخلوها من ألفاظ الصناعة أدى إلى تأخرنا الصناعي، كل ذلك إلى ما فيها من مترادفات وما تمتلئ به من كلمات بدوية منحوتة
من أصول حسية لا تنفع للحضارة العصرية. لذلك الهذيان كله، الذي يوجع القلب ويذهب الوقت سدى بقراءته، وجب أن نتخذ البلاغة العصرية بدلا من تلك اللغة العربية. . . . والتعبير بالبلاغة العصرية ما هو إلا تزويق وطلاء للفظ (اللغة العامية) إذ ترى الدعوة في الكتاب سافرة إلى الكتابة بلغة الشعب والمجتمع وما إلى ذلك، ليكون (المعلم دبشة) الجزار أمير البلاغة العصرية. . . وكاتبنا ذاك رجل طيب جداً، لأنه يدفع تهمة الدعوة إلى العامية عن الأستاذ سلامة موسى، مع أن هذا يجاهر بها ولا يرى فيها عيباً ويسره أن ينشأ باسمه مجمع للغة العامية أو بعبارة أخرى، مجمع للبلاغة العصرية. وقد خير إلى الكاتب المجتهد بعد أن تعب من عرض أبواب الكتاب (أن ما جاء في أقوال كاتب مجلة الرسالة من أن الكتاب يدعو إلى التهجم على اللغة العربية ويعيب أدبها ويدعو إلى العامية لا يقوم على أي أساس من الصدق والحق، ونخشى أن نقول إنه تشويه متعمد قصد به التشهير وإذاعة الآراء الباطلة، وهذا ما نشجى له كل الشجى). يا أخي لا تغضب ولا تشج فأنا لم أشوه ولم أقصد التشهير، لأني لم أرم الأستاذ سلامة بما يكره، وإذا لم تكن مصدقي فسله أو سل أي أحد ممن لا تأخذهم غفلة الناس الطيبين.
هدى:
هو الفلم الجديد الذي يعرض بالقاهرة في سينما ريفولي، أخرجه حلمي رفلة، ووضع قصته نقولا بدران، وكتب حواره بديع خيري، وقام بتمثيل البطلين فيه نور الهدى وكمال الشناوي، واشترك معهما في التمثيل حسن فائق ومحمد كمال المصري (شرفنطح) وآخرون. (هدى) اسم الفتاة التي بنى الفلم على تقديم شخصيتها (مثلتها نور الهدى) تظهر في أول منظر بمنزل والدها فتحي بك (حسن فائق) مدير شركة التصوير والتوريد ببور سعيد، وهي تستذكر دروسها استعداداً لامتحان التوجيهية. ثم تنجح في الامتحان، وما تكاد تفرح بنجاحها حتى تحزن لزواج أبيها من نعيمة الموظفة عنده بالشركة، ويسوئها أن تحل نعيمة، وهي من بيئة سيئة، محل أمها المتوفاة، ولكن والدها يسترضيها وزوجته تحسن معاملتها في أول الأمر تملقاً للوالد الحدب على ابنته، ثم تتغير عليها تغيراً شنيعاً وتذيقها ألوان الهوان حتى يصل الأمر إلى أن تحاول تزويجها من أخيها عاشور الذي كان بائعاً على عربة يد ثم أصبح مديراً للمخازن بشركة صهره فتحي بك، وكانت هدى قد عادت من
القاهرة حيث كانت تقيم مع خالتها وقد لحقت بكلية الحقوق طالبة فيها، ولما كانت في القاهرة عرفها شكري (كمال الشناوي) أخو زميلة لها في الكلية، فغازلها وهم بإغرائها، ولكنها أعرضت عنه وصفعته. وشكري ضابط بحرية يعرف والد هدى من تردده على ميناء بور سعيد، فذهب إليه يخطبها منه، فعارضت نعيمة زوجة الأب وأصرت على تزويج هدى من أخيها عاشور. فهربت هدى وقصدت إلى الأستاذ عبد الصبور الموسيقى الذي عرفته في حفلة بمنزل زميلتها بالكلية، وأفضت إليه برغبتها في الاشتغال بالغناء فرحب بها ومهد لها السبيل إلى الغناء بأحد الملاهي وتستبد نعيمة بزوجها فتحي بك وتمكن لأخيها عاشور في الشركة، فيدأب على سرقة البضائع وتهريبها حتى تسوء حال الشركة ويفلس فتحي بك. ويذهب شكري مرة إلى الملهى فيرى به هدى التي تأبى مقابلته، فيتصل بأبيها ويخبره فيحضر فوراً، ثم نرى في المنظر الأخير شكري وهدى عروسين. والفلم يعتمد - في موضوعه - على تقديم هذه الفتاة المكافحة التي أصرت على أن تحيا حياة كريمة شريفة، فكان ما أرادت رغم ما اعترضها من عقبات وشدائد. ولكنه في الوقت نفسه كلفها معجزات، فقد كانت تقوم، عدا ما قدم في تلخيص القصة، بأعمال (بوليسية) في بور سعيد لكثرة البضائع التي سرقها عاشور، واقتضاها ذلك أن تسقي عاشور وشركاءه الخمر في إحدى الحانات، حتى عرفت منهم وهم سكارى موضع البضائع. وقد أدى ذلك إلى زحمة الفلم بالحوادث الثانوية إلى جانب إرهاق هدى بما ليس في الإمكان المعتاد، فهي طالبة بالحقوق ومطربة بالقاهرة و (أرسين لوبين) في بور سعيد ألم يكن في الإمكان تصوير هذه الشخصية دون وقوع المتناقضات في حياة فتاة نشأت في منزل محافظ ودرست في الجامعة، نراها تحذق سقاية الخمر واللعب بعقول رواد الحانات. .؟ وقصة الحب في هذا الفلم وضعها عجيب، الفتى يحب الفتاة من أول نظرة وهي لا تعيره أية نظرة حتى النهاية حيث نراهم عروسين. نعم هو حاول إغرائها وهي فتاة شريفة، ولكن هذا الوضع؟ لم نر ما يبرره غير أن نشاهد الفتاة معرضة عنه لتتزوجه برغبتها أخيرا. . وقد اضعف ذلك مركز كمال الشناوي في الفلم وأظهره في مظهر تافه رغم أنه الفتى الأول فيه، وقد طغت عليه شخصية حسن فائق حتى تحول مجرى الفلم من قصة حب بين فتى وفتاة إلى قصة بنت وأبيها. ونور الهدى ممثلة بارعة، معبرة في التمثيل وفي الغناء، وقد
قام نجاح التمثيل في الفلم عليها وعلى حسن فائق، فقد أبرزا الحياة فيه ممثله في روعتها وظرفه. ويمتاز الفلم بما اشتمل عليه من مشاهد الفن والجمال الخالية من الإسفاف والتهريج، وقد وجه المخرج عناية كبيرة إلى برنامج الملهى الذي كانت تغني فيه هدى، ومن روائع هذا البرنامج منظر قطع فيه بيت شوقي المشهور:
نظرة فابتسامة فسلام
…
فكلام فموعد فلقاء
ولا تحسبن تقطيعه على (فاعلاتن مستفعلن) بل جسم كلا من النظرة والابتسامة و. . . الخ في هدف تحمله بنت ويرمي إليه السهم وتمر هدى بكل منها وتغني له غناء يشرح القصة الخالدة من النظرة إلى اللقاء.
عباس خضر
البريد الأدبي
الضمير الأدبي. . . وأين يوجد؟!
اعتادت الرسالة الزاهرة أن تقدم لقرائها في سائر أقطار العالم أنضج الثمرات الأدبية وأشهاها لمختلف أدباء العربية من نثر وشعر وفن وعلم ونقد. . وكانت رسالة النقد في (الرسالة) أسمى الرسالات حيث يوضع المؤلف على بساط الفن والبحث ويحمل المبضع ناقد نزيه لا هم له إلا الحرص على المستوى الأدبي والحقيقة العلمية وتميز القول، وتلك رسالة النقد الجليلة. ولكن الأستاذ أنور المعداوي كاتب (التعقيبات) بعد أن سطع نجمه في النقد البريء شط به الهوى فنسى قلمه ونسى ضميره حين كتب في العدد (835) من الرسالة قوله (ولقد كنت أود أن أفي بهذا الوعد لولا رغبة كريمة من صديقين عزيزين بأن أكف يدي وأقبض قلمي تحقيقاً لغاية نبيلة هي إعادة الصفاء إلى النفوس. (إلى هنا وأتسأل في حيرة وتردد أين الضمير الأدبي؟! وأين الحقيقة العلمية السامية التي من أجلها خلق النقد؟ أحب أن أسأل الأستاذ المعداوي ما معنى إعادة الصفاء إلى النفوس؟! وما معنى الاستجابة للصديقين وترك الحقيقية الأدبية تنتحب وتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي الصداقة. . .! ويعلم الله كم كنت مبتهجاً لجرأة هذا الأديب حين تناول بعض الأدباء بالنقد النزيه في إحدى تعقيباتها وكتب (وأنا حين أكتب أنسى المجاملة والصداقة وأتوخى الحقيقية العلمية والأدبية ما استطعت إلى ذلك سبيلا). ولا شك أن هذا الكلام جدير بالتقدير والإعجاب أسطره للأستاذ المعداوي بكل غبطة وسرور. ولع الأستاذ المعداوي يذكر قول القائل (إذا كنت حريصاً على الصداقة فكن على الحق أكثر حرصاً). ولعله يجيب على كلمتي هذه في تعقيباته ليستأنس به الضمير الأدبي ضمير النقد النزيه الذي تعودناه منه. . . وإني أناشد الأستاذ الكبير عميد الرسالة باسم الأدب والحق نشر كلمتي هذه في (الرسالة) الغراء منبر الحق. وللأستاذ المعداوي تحيات المؤمل المنتظر.
سلمان البغدادي
ليسانس آداب
رد على الهجوم:
قرأت في العدد 836 من الرسالة الغراء كلمة للأستاذ كامل محمود حبيب أوجز الرد عليها في السطور التالية: أولاً: يقول إن قصة (مادلين) نشرت من قبل بالبلاغ بدون توقيع. . . وأقول إن التوقيع سقط عند الطبع، ويستطيع السيد أن يسأل الأستاذ إبراهيم نوار بالبلاغ! ثانياً: يريد مني أن أثبت له أن القصة لي. . . وأقول إني أتحدى أن يثبت أي كاتب هذا الشيء بالنسبة لقصة نشرها بإحدى الصحف! أما الأدلة التي أملكها فهي. . . أولاً شهادة والدي الشيخ وأشقائي، وذلك أن أخي الثالث هو بطل القصة، ولأن القصة لا فضل لي فيها غير وضعها في الحروف!. . ثانياً شهادة صديق من الأدباء. . . ثالثاً شهادة (الثلاث أخوات السوريات) وشهادة شقيق (مادلين) وهو طبيب بالقاهرة. . فهل يريد سيدي أن أحمل إليه كل هؤلاء في (تاكسي) ليشهدوا لي؟. . . لقد اضطررت مرة للهرب من القاهرة بسبب قصة لي، هربت من (النبابيت)، فهل يرضى السيد أن أفعلها ثانية؟ ثالثاً: يأخذ على نشر القصة بالرسالة بعد نشرتها بالبلاغ. . وأقول: أين كنت يوم نشر غيري من الأدباء قصائدهم في عد من المجلات في وقت واحد. . . لا أريد بهذا كبار الأدباء بالطبع لأن المسألة هنا فيها نظر؟!. . . نشرت (مادلين) بالرسالة لأن البلاغ لا يخرج عن القاهرة والإسكندرية فيما أظن، بينما تذهب الرسالة إلى مشارق الأرض مغاربها! وإذا علم السيد إني لا أطلب للآن أجراً عما أكتب فهل يعود ليلومني على نشر قصة - سقط منها - للمرة الثانية؟ رابعاً: يشير إلى (سابقة) لي ويعني بها أسطورة (الديك الذهبي) لبوشكين. . هذه القصة بعث بها لرسالة منذ شهور. . . ثم حسبت أنها فقدت بالبريد، فعدت وأرسلتها للبلاغ. وشاء سوء الحظ أو حسنه أن تنشر بالرسالة في نفس الأسبوع! خامساً: يرى أن نشر قصة للمرة الثانية هو (فرار من الجهد، وضعف، وخواء) وأقول إني لا أجهد نفسي في كتابة القصص. . وإنما أتلقاها (جاهزة) من السماء أو الأرض وقد حاولت أن (أجهد) في كتابة بعض القصص فكانت النتيجة أن ضميري الفني أبى حتى الآن أن أرسلها لصحيفة ما! هذا يا سيدي. وحسبي الله ونعم الوكيل!
يوسف جبرا
بويضة وانسجام:
جاء في (الأهرام) تحت عنوان (بعض أوهام الكتاب) أن تصغير بيضة على (بويضة) خطأ في اللغة، وانه من أوهام الكتاب، وأن الصواب:(بييضة) بيائين متعاقبين. كما جاء في مع هذا أن (بينهم انسجام) أي وفاق من أوهام الكتاب أيضاً! وأقول: إن تصغير بيضة على بويضة ليس بخطأ ولا هم، بل هو وارد ومسموع عن العرب الخل. وقد يدهش القارئ إذا علم أن كلمة (بويضة) تصغير بيضة هي مستند النحاة الكوفيين منذ أكثر من ألف سنة في تجويزهم في كل مصغر فيه ياءان متعاقبان أن تقلب الياء الأولى منهما واواً، فيقولون في تصغير شيخ شويخ، وفي بين بويت، وفي عين عوينة وهكذا. وذلك قياساً على ما سمعوه عن العرب. وهو (بويضة). نص على ذلك الأشموني على الألفية عند شرح قول ابن مالك: واردد لأصل ثانياً ليناً قلب. . . والعلامة السيوطي في كتابه همع الهوامع عند الكلام على التصغير بالجزء الثاني من هذا الكتاب. نعم وقد وقع تقصير في كتب المعاجم اللغوية، فلم تذكر ذلك، ولكن عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود. وكم من مفردات لغوية تذكرها كتب المعاجم! أما (بينهم انسجام) فهو صحيح على ضرب من التجوز الذي لا حجر فيه في اللغة العربية متى وجدت العلاقة والقرينة المصححتان للاستعمال. وهذا من تشبيه توافق الناس وانتظامهم في مشاربهم بتوالي انسجام الدمع مع العين، أو الماء النازل من السماء على نمط واحد بدون اختلال. ومن هذا يعلم صحة قول الأطباء: بويضات جمع بويضة، ووجاهة قول من قال: هؤلاء بينهم أو ليس بينهم انسجام.
(كلية التربية)
عبد الحميد عنتر
1 -
حول المؤرخ المصري أحمد بن زنبل الرمال وكتابه:
يذكر أنور زقلمه في كتابه المماليك في مصر أنه اعتمد على كتاب صغير وضعه رجل يدعى ابن زنبل الرمال. وللحقيقية والتاريخ أقول إنه ليس هناك ثمة مؤرخ عرف بهذا الاسم إلا المؤرخ المسلم أحمد بن علي بن أحمد المحل. ولقد ذكر الدكتور محمد مصطفى زيادة طرفاً من الحديث عن هذا المؤرخ في كتابه (المؤرخون في مصر في القرن الخامس عشر الميلادي القرن التاسع الهجري) في ص75، ص76. ويذكر الدكتور زيادة أن لابن
زنبل كتاباً عنوانه (أخذ مصر من الجراكسة) وبالرجوع للكتب المخطوطة والمطبوعة بدار الكتب الملكية لم أجد لابن زنبل مؤلفاً بهذا العنوان. وإنما وجدت عدة كتب مختلفة العناوين تعالج موضوعاً واحداً هو فتح السلطان سليم لمصر وتقارب هذه الكتب في عباراتها بل وألفاظها. فمن عناوين هذه الكتب كتاب السلطان سليم العثماني مع السلطان قانصوه الغوري. ويسمى سيرة السلطان سليم خان والجراسكة وما جرى بينهم ومع قانصوه الغوري، وكذلك يسمى تاريخ ابن زنبل الرمال. وثمة كتاب آخر بعنوان آخر هو الواقعة بين السلطان سليم خان في فتوح مصر مع السلطان الغوري وطومان باي. ومن هذا نرى أنه ليس في دار الكتب الملكية نسخة تحمل عنوان (أخذ مصر من الجراكسة) لهذا آمل أن يحافظ الناشر على عنوان الكتاب وأن يجعله أقرب إلى أحد العناوين السابقة، بل إنني أرى أن خير عنوان للكتاب هو (الواقعة بين السلطان سليم خان في فتوح مصر. . . الخ هذا إذا لم يكن الناشر قد عثر على مخطوطات أخرى تحمله على أن يجعل عنوان الكتاب (أخذ مصر من الجراكسة). ونرجو من ناشر ومحقق الكتاب أن يضرب صفحاً عن هذه الأشعار الكثيرة التي وردت في النسخة المخطوطة رقم 44 تاريخ بدار الكتب الملكية لأن هذه الأشعار تفسد كثيراً رونق الحقائق التاريخية التي ذكرها المؤرخ المصري وتجعل الكتاب أقرب إلى الملاحم الشعرية الأدبية. كذلك على الناشر أن يلاحظ كثرة الأخطاء النحوية والإملائية التي تزخر بها النسخ المخطوطة من الكتاب بجانب اللغة العامية الفاشية في معظم صفحات الكتاب. حقاً إنها شاقة على الناشر والمحقق نأمل أن يوفق فيها فيخرج لنا سفراً هاماً في تاريخ مصر في أواخر عهد المماليك وبداية الحكم العثماني.
2 -
الغَوري لا الغُوري:
وبمناسبة ذكر اسم الغوري أقول إن من الخطأ نطق الغوري بضم الغين وخاصة بعد أن حقق الدكتور عبد الوهاب عزام بك اسم الغوري في كتابه (مجالس السلطان الغوري) فذهب الدكتور عزام إلى أن الضبط الصحيح لهذا الاسم الغوري بفتح الغين لا ضمها. فهل لمدرسة تحفيظ القرآن الكريم التي اتخذت من ذلك البناء الأثري يطل على كل من شارعي الأزهر والغورية - ذلك البناء الذي فيه سبيل الغوري ومسجده على ما اعتقد، ومدفن طومان باي عل ما أرجح، هل لهذه المدرسة أن تبقى اسم الغوري مكتوباً خطأ بضم الغين
وخاصة بعد أن ظهر الحق وبان؟ ارفعوا اليافطة واكتبوا اسم الغوري صحيحاً تخلدوا ذكر الغورى حقاً.
شفيق أحمد عبد الغفور
كلية الآداب - قسم التاريخ جامعة فؤاد الأول
نماذج من عناية المستشرقين بالمخطوطات العربية
للأستاذ عبد العزيز مزروع الأزهري
مما سبقنا إليه عناية المستشرقين منهم ببعث الكنوز الشرقية في عالم المؤلفات المخطوطة وبخاصة ما كان منهم نفيساً نادراً. وساعد على هذا أنهم تخصصوا في كل فرع من فروع الثقافة الشرقية: عربية وهندية و. . . ن وأن مراجع كل فن تحت أيديهم بالمئات، وأن لكل مرجع منها فهارس منظمة لكل ما اشتمل عليه، ففهرس للشعراء وآخر للأعلام، وثالث للأمم والقبائل، ورابع للبقاع، وخامس للقوافي، وسادس لرجال السند مثلاً وهكذا. فكل ما يحتاج إليه الباحث جملة وتفصيلاً في أي علم أو فن يستطيع العثور عليه بنظرة خاطفة بفضل هذا التنظيم المثمر الذي ثبتت دعائمه على تضافر علمائهم، وهيئاتهم الثقافية، وسخاء أغنيائهم، وتقديرهم لكل ما يوضح جانباً من جوانب الثقافة الشرقية التي هي إحدى الجوانب المشرقة للثقافة الإنسانية. وقد كان همنا فيما مضى أن نستفيد من آثار هؤلاء المستشرقين بشراء ما طبعوه من مباحث، أو نشروه من دفائن في مدائنهم الكبرى، ومكاتبهم العامر، أو بعض حواضرنا الشرقية إذا أشرفوا إلى الطبع. أما الآن فقد رأينا جديداً في مصر في هذا الميدان، إذ قد تضافر (المستشرق. ليفي بروفتسال) أستاذ اللغة والحاضرة العربية بالسربون، ومدير معهد الدراسات الإسلامية بجامعة باريس مع (دار المعارف بمصر) فكان من نتائج هذا التضافر نشر كتاب ثمين من أمهات الكتب المخطوطة في الأنساب وهو (جمهرة العرب لابن حزم) الأندلسي المتوفي في منتصف القرن الخامس الهجري، فأراحوا الباحثين من عناء المباحث المرهقة في صحاري المخطوطات القديمة التي هي أشبه بألغاز الخطوط الهيروغليفية أو المسمارية أو الحميرية، ومهدوا بفهارسه سيل البحث لرواد الثقافة. فهل عثر المتصفح لهذا الكتاب الضخم على بعض هنات يرفع عقيرته من قيمة ما صنعوا ويبالغ في النقد والتجريح وينسى الجوانب المشرقة لهذا المجهود الجبار!! إن الإنصاف يدعو إلى تقدير ذلك العمل، وإنصاف من أشرفوا على طبعه، لأنهم لم يألوا جهداً، ولأنهم اختاروا فأحسنوا الاختيار، واجتهدوا وللمجتهد حقه واجتهاده. فإذا ما زل القلم فلا تثريب عليهم، لأن صفحات الكتاب تربى على 524 صفحة، وكثير من أعلامه وقبائله غريب صعب فوق أنها تبلغ عشرات الألوف، وبخط مغربي لا
يكاد يقرأ أنها تبلغ عشرات الألوف، وبخط مغربي لا يكاد يقرأ. . . هذا جوابي لمن طلبوا إلي إبداء رأيي في هذا الكتاب باعتباري من المشتغلين بهذا النوع بل من المؤلفين فيه. أما الإشارة إلى بعض ما ند عن التصحيح، أو ما سها عنه الأستاذ بروفنسال فسأنشر منه في كل فقرة جزء مما عثرت عليه. وإلى حضرات القراء أولى كلماتي في هذا الموضوع إيضاحاً للحقيقية وتبصرة للباحثين: 1 - أول ما عثرت عليه من تلك الهنات كان في صفحة 366 وقد جاء في السطر الثالث: (ومن بنى عرينه بن (نذير) بن قسر بن عبقر: حية بن (جوين) بن علي بن (نهم)) وضبطهم (نذيرا) بوزن زبير خطأ، كما أن ضبطهم (نهماً) بوزن نمس خطأ آخر، والصواب في (نذير) أنه بوزن بشير، (نهم) بوزن قفل بضم النون لا كسرها. يؤيد هذا الضبط ما جاء في أحدث مؤلفاتي (قاموس الأعلام والقبائل) وقد اعتمدت فيه على أمهات المعاجم، وكتب الأنساب المضبوطة بالأوزان، وما جاء في (مختلف القبائل ومؤلفاته (لابن حبيب ص5؛ وما ورد في (القاموس المحيط). وقد يكون الناشر متأثراً في هذا الضبط ببعض المستشرقين الآخرين
2 -
وفي صفحة 220 في الكلام على بني عبد الله بن دارم ذكر خمسة منهم ثم قال: أنهم من بني (اسيد) كزبير بن عمرو ابن تميم، والصواب (أسيّد) بتشديد الياء التحتية المثناء كما في صفحة 45 من المؤتلف والمختلف، ولما ضبطه طابعو الاشتقاق لابن دريد وهم من المستشرقين، بل بدليل ضبط (بروفنسال) نفسه قبل ذلك ص 199 من الجمهرة نفسها.
3 -
وفي ص 190 أمران: (هما) أن المؤلف قال في نسب (بلال بن حارث) إنه من بني مازن بن حلاوة بن ثعلبة، فشاء الأستاذ الناشر أن يضبط باقي سلسلة النسب فقال:(ابن هدمة) بالدال المهملة (ابن الأصم). والصواب: (ابن هذمة) بالذال المنقوطة و (لاطم) لا الأصم وهو من به صم، وقد وضح الصواب فيهما معاً الفيروز ابادي في قاموسه في مادة (هـ ذ م) والمختلف لابن حبيب صفحة 3 بل إن في الجمهرة نفسها ضبطها الناشر نفسه ص 192 اعترفت بلاطم هذا، فوق أن (أسد الغابة) ج2 في ترجمة (شرح بن ضمرة المازني) وترجمة (عبد الله بن درة المزني ج1 منها) وقبل هذا أثبت القاموس المحيط حقيقية الاسم الثاني وهو لاطم فقال:(جرس بن لاطم بن عثمان من مزينة) لا الأصم.
4 -
وفي ص192 (ولد ضبة بن أد: سعد بن ضبة وسعيد، قتله الحارث بن سعد، ثم قتل
ضبة الحارث بن كب، وفي ذلك سارت الأمثال:(أسعد أم سعيد) كأمير، والصواب: سعيد كزبير.
5 -
وفي ص 193 وهي الصفحة التالية قال المؤلف: منهم - أي من بني ضبة - ضرار بن عمرو بم مالك بن زيد بن كعب، فجعل المصحح أبا كعب (بجادا) وهو ابن ذهل بن مالك والصواب:(بجالة) بن ذهل بن مالك بدليل الاشتقاق لابن دريد في كلامه على قبائل بني ضبة ورجالهم 119. 6
- وفي ص 210 قال الناشر في ترجمة (زهرة التميمي قاتل جالينوس الفارسي): (زُهرة) كحجرة بن (جويرية) والصواب في الكلمتين: (زهرة كفرحة) و (جوية بالجيم المضمومة والواو المفتوحة، ويراجع هذا في (أسد الغابة) وغيره كالاشتقاق ص155.
7 -
وفي ص213 عند الحديث في نسب (بني يربوع) ابن حنظلة بن مالك التميمي نقرأ: (منهم واقد بن عبد مناف)(عُزير) وزن زبير بن ثعلبة، وكرر هذا عدة مرات، والحق أن عبد مناف هو بن (عرين) وزن رئيس بالراء لا بالزاي، والنون الأخيرة لا الراء، ولم تختلف كتب الأنساب في هذا الضبط، ولا المعاجم اللغوية كمختلف القبائل ص 46، والقاموس المحيط مادة (عرن) والاشتقاق 135، 138. 8
- وفي نفس الصفحة أراد المؤلف أن يفيض في ذكر (مالك ومتمم ابني نويرة) فجاء مسيو بروفنسال وجعل أبا نويرة (نميرة) بن شداد بن عبيد بن ثعلبة، والصواب (جمرة) فالاختلاف في (الحروف) و (عددها) و (ضبطها) ويراجع هذا في المؤتلف ص 35 والمفضل الضبي ص525 والأغاني ح14
9 -
وفي ص200 عند الكلام عن (الهمهام التميمي) جعل من أجداده (كافية) بن حرقوص، وفعل هذا الضبط في نسب (خفاف بن هبيرة) وأعاد الاسم ست مرات بالضبط نفسه، والصواب:(كابية) وزن رابية بالباء المفردة التحتية قبل الياء المثناة التحتية لا الفاء أخت القاف ويراجع الأدب للبغدادي. 10
- وجعل الأستاذ المستشرق في ص201 (حبيل) ابن ربيعة تصغير حبل جداً لمالك بن الريب التميمي أول من رثى نفسه قبل موته، والصواب:(حسل) وزن عجل كما في المراجع السابقة.
إشارات إلى الهنات:
11 -
وفي ص 136 سطر 15 قال: فأما هاشم فإنه ولد (حنتمة أم عمرو بن الخطاب) والصواب: (عمر) وهو الخليفة التالي لأبي بكر.
12 -
وفي ص 175 سطر 3 قال: وأبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو (جندب) بن يعمر بن (حابس) والصواب: ابن (جندل) بن يعمر بن (حلس)، وقد تكونان غلطتين مطبعيتين. 13 - وفي الصفحة نفيها في سطر 4 قال: ابن عدي بن (الدئل) وابن حبيب مثلا يرى أن ضبطه (الديل) كزير
14 -
وفي ص179 جاء في العنوان: وهؤلاء بنو (ملكان) ابن كنانة بفتح الميم، والصواب كسرها.
15 -
وفي الصفحة ذاتها ولكنفي السطر 11 قال: ولد الهون بن خزيمة (مليح) كأمير، وكررها في السطر 17، والصواب (مُليح) كزبير بضم الأول وفتح الثاني.
16 -
وفي ص 184 سطر 19 قال: فمن ولد نمقذ بن طريف الشاعر (عبد الله بن الزبير) بضم الزاي وفتح الباء، والصواب (الزبير كأمير) أي بفتح الزاي وكسر الباء المفردة التحتية.
17 -
وفي ص 192 سطر 9 قال: (يزيد بن عمرو بن أوس بن سيف بن (عمرو) بن (جلدة) في الوقت الذي سبق أن قال فيه في ص 197 سطر 4 (ابن عرم لا عمرو) بن (حلزة لا جلدة) فأيهما الصواب؟!
18 -
وفي ص 209 سطر 11 قال: فنم بني حمان (ثمرة) ابن مرة والصواب (النمر)
19 -
وفي ص213 سطر 14 قال: وصرد بن (حمزة) الذي سقاه أبو شواح المنى، والصواب:) جُمرة) بالجيم المضمومة لا الحاء المفتوحة، وقبل التاء المربوطة راء لا زاي.
20 -
وفي الصفحة عينها سطر 19 قال: فمن بني سليط (أُسيد) بن حياة، والصواب:(أُسيد) كأمير.
21 -
وفي ص 214 سطر 16 قال: أم مسحل المذكور (الريداة) بنت جرير الشاعر، والصواب:(الربذاء) بالذال المعجمة وهي المنقوطة لا الدال المهملة.
22 -
وفي ص 244 سطر 3 في البيت الثالث:
والذئب أخشاه إن مررت به
…
وحدي وأخشى (الريح) والمطرا
أما ضبط الذئب بالضم فأرجو أن يتذكر قول ابن مالك في الألفية:
(فالسابق أنصبه بفعل أضمرا - حتما موافق لما قد أظهرا)
وأما الريح، فصوابه:(الرياح) أولاً: لأنها الروام؛ ثانياً: لأنه العروض وحسبي هذا الآن وإلى اللقاء. . .
عبد العزيز مزروع الأزهري
بالقبة الثانوية