الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 84
- بتاريخ: 11 - 02 - 1935
كلمات في الصداقة
للآنسة النابهة (مي)
مهداة إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات، وإلى الدكتور طه حسين، وإلى أصحابهما جميعاً
قد تبدو هذه الكلمات غريرةً للذين لا يرون في الصداقة إلا وسيلة نفعية تعود على كلٍ من المرتبطين بها بفائدةٍ محسوسة: كالظهور بمظهر العظمة، أو التمكن من دحر منافس، أو التعاون على الإساءة إلى شخص أو أشخاص، أو جني ثمرةٍ ملموسة وتحقيق غرض مالي أو اجتماعي
ونخطئ إن نحن نسبنا إلى أهل هذا العصر وحدهم الصداقة المغرضة، لأن تلك كانت شيمة الكثيرين في جميع العصور وعند جميع الأقوام. قد تكون في هذا العصر أكثر لنور وإلى الهواء - إذا أنت طلبت هذا من الصداقة وعند الصديق، فما أنت في نظر تلك الفصيلة من الناس إلا من أهل الشذوذ والغباوة. . . على الأقل!
وعلى رغم كل ذلك فموضوع الصداقة من الموضوعات التي نُقبلُ عليها في اهتمام ولهفة ولو جاز لي أن أشير إلى خلق خاص في، قلتُ إني أشعر بشيء غير قليل من الأسف كلما انتهى إلى أن صديقين كريمين تجافيا بعد التصافي. وقد يكون ذلك أن انفصام عرى الصداقة بين الآخرين كأنما ينال من إيماني بالصداقة ويزعزع من رجائي فيها
أولى ذكرياتي في هذا الموضوع ترجع الى قصة فرنسية، هي (أبرص بلدة آووستا) بقلم كزافييه دي ميستر، واظنني قرأتها لأول مرة وأنا في سن العاشرة تقريباً. فيها وصف ذلك الجندي الكاتب اجتماعه برجلٍ ابتلى بداء البرص المروع، فنبده الناس من مجالسهم، وحايدوا الدنو من الدار التي عاش فيها وحده حبيساً طوال الأعوام
تُطوح السبيل بالكاتب الغريب إلى تلك البلدة وتسوقه الى الدار المخيفة، ويلجُ باب الحديقة فيبصر الرجل الموبوء وهو لا يدري بحالته. وعندما يحذره الأبرص ويفضي إليه بمحنته لا يلوذ الكاتب بالفرار، وإنما يقترب منه ويجلس إليه مستفسراً عن معيشته وأحواله، وعما يحسه في الابتعاد عن أولئك البشر الذين هم منهم، فيعترف الأبرص بأن آلامه الأدبية تفوق أوجاعه الجسدية، يعترف بعذابه في حزن هادئ يشبه الامتثال والرضى، يعترفُ بحاجته الى الشعور بأن قلباً يعطف عليه ويحن إليه، بأن يداً تصافح يده، بأن صدراً يتلقاه
ويحتضنه، حتى أنه لشدة حاجته تلك يحتضن أحياناً جذوع الشجر ويضمنها إليه ما استطاع، كأنها كائنات انسانية. يعترف بشوقه الى سماع صوت بشري، الى تبادل السلام والحديث مع من يفكر تفكيره ويحس إحساسه، الى جميع تلك الأمور التي عرف قيمتها لأنه حُرِمَ منها، والتي يتمتع بها الجميع جاهلين أنها منحة ومتعةٌ لأنها عاديةٌ بينهم. ويقولُ فيما يقول وكأنه يلخص جميع صنوف عذابه في هذه الكلمة:
- لم يكن لي يوماً صديق
والكاتب الذي عرف كيف يُصغي الى شكايته في هدوء ورباطة جأش، تهتاج تلك الكلمة شجونه وتحز الشفقة في قلبه فلا يتمالك من الهتاف:
- يا لك من تَعس!
تلك الكلمة من الأبرص، ورد الجندي الكاتب عليها، استقرت في موضع عميق من روحي عند قراءة القصة، بل القصة كلها تجمعت عندي في تلك الكلمة وفي التعقيب عليها؛ وقد يكون لها الأثر الكبير في تكوين إيماني العنيد بأن لابد من وجود الصداقة - مع اعتقادي بأن نفاسة الصداقة نفسها تحتم فيها الندرة
لسنا في حاجة إلى دهور نعيشها لندرك كم في هذه الحياة البشرية من خبث ومراوغة ونفاق. اختباراتٌ قليلة تكفي لتدلنا على أن بعض المُثُل العليا تخذلنا وتصرعنا بلا رحمة، ثم تنقلب مسوخاً ساخرة مزرية، لا تلبثُ أن تكثر عن أنيابها، مهددة متوعدة - وهي التي تجلببت في نفوسنا من قبل جلباب القدسية والعبادة!
اختباراتٌ قليلة في أحوال معينة، وأحوال مفاجئة، تكفي لتظهر لنا أن من الناس من يتاجر بكل عاطفة صالحة لتنفيذ أغراض غير صالحة، ومن يستغل كل استعداد كريم لنتيجةٍ غير كريمة، ومن لا يكتفي بالظلم والاجحاف، بل لا يتورع عن إيذاء الذين أخلصوا النية في معاملته، ولم ينله منهم إلا الخير.
وكم مِن مذيعٍ أنباء الصداقة لا لسبب آخر سوى التوغل في الإيذاء باسم الصداقة، في أساليب سلبية أو إيجابية لا يعلم إلا هو كم هي خبيثة وكم هي فعالة
وكيف تعامل أولئك الناس عندما تكشف عما يضمرون؟ أتحاسنهم. إنهم يحسبون المحاسنة ضعفاً ومداراة، فيمعنون في الأذى؟ أتخاشنهم؟ إنهم يزعمون المخاشنة جحوداً ومكابرةً،
فيمعنون في الأذى. ولعل الشاعر العربي كان في حالةٍ كتلك عند ما أرسل هذه الزفرة المنغومة التي هي من أبلغ ما أعرف في معناها:
عذيري من الإنسان، ما إن جفوتهُ
…
صفالي، ولا إن صرتُ طوعَ يديه
وإني لمشتاقٌ إلى ظل صاحب
…
يروقُ ويصفو إن كدرتُ عليه
يأس هذا الشاعر يدل على حاجته الضميمة إلى صداقة نقية غير مغرضة. فنحن مهما تنر لنا معنى الصداقة الصافي، ومهما غدر بنا الغادرون فعلمونا الحذر - فإننا لا نستطيع إنكار احتياجنا العميق إلى الصديق. لأن لدينا مرغمين كمية في المودة والوفاء والتسامح والغفران والتضحية لابد من تصريفها وإنفاقها لنزيد بالعطاء غنى. وعند من نصرفها وعلى من ننفقها إلا على الأشخاص الذين نراهم قمينين بأنبل ما عندنا من فكر، وأصدق ما لدينا من عاطفة؟
أيها الذين ربطت الحياةُ بينهم بروابط المودة والأخاء والتآلف الفكري والنبل الخلقي، حافظوا على صداقتكم تلك واقدروها قدرهاّ فالصداقة معينٌ على الآلام ومثارٌ للمسرات، وهي نور الحياة وخمرتها، وكم تكن من خير ثقافي وعلمي للنابهين!
لا تخافوا أن تكونوا من أهل الشذوذ والسذاجة في نظر المغرضين! ألا يئست نفسا فقدت كل سذاجة، وسارت على وتيرة واحدة، لا تعيش إلا للغرض وبالغرض! ما أفقرها وإن كانت ثرية! وما ألصقها بالثرى وإن كانت علية! وحسبكم أنتم أنكم بإيمانكم بالصداقة توجدون الصداقة، وبممارستكم أساليب الصداقة إنما تكونون خميرة الصفاء والصلاح والوفاء!
(مي)
3 - كلمة وكُليمة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
إذا أَسندت الأمةُ مناصبها الكبيرة إلى صِغَار النفوس، كبرت بها رذائلهم لا نفوسُهم. . .
شَرّ المًصْلحين رجلُ مُسلطٌ على أُمةٍ يحكمُها بعقل كبيرٍ فيه موضعُ فكرةٍ مجنونة. . . .
إذا فَسَقَ الحاكم، فقد حَكمَ الفسق
تُبْتلى الأممُ أحياناً ببعض المجددين، فلا يكون أولُ جديدهم إلا عيوبَ أنفسهم
يقول لك الكذابُ إنه سكره الكَذِب، ولكنه في هذا أيضاً كذاب. .
قيمةُ كل شيء هي قيمةُ الحاجة إليه؛ فترابُ شبرٍ من الساحل هو في نظر الغريق أثمن من كل ذهب الأرض
حقيقة الذل ألا يعرفَ الذليل حقيقةَ نفسهِ
المعلمُ ثالثُ الأبوينْ؛ فلينظرُ كيفَ يأبو حين ينظر كيف يُعلم
إنما كَثُرت الآراء في المرأة، لأن المرأة هي ما يفهمهه كل رجلٍ منها بنفسه
لا تبلغُ الفلسفةُ ولا العلمُ ولا النهضة النسائية. . في تعريف المرأة، أكثر من أنها ليست رَجلا. . .
لو عًقًلَ نساءُ هذا الزمن؛ لطالَبْنَ بحقوقهن في الرجال، لا بحقوقهم على الرجال
يبالغٌ بعضُ الكتاب في مُظاَهَرة النساء على تمردهن، إذ كانت هذه هي اللغة الفصيحةَ التي يُنادى بها جمالُ المرأة. . . . .
أبلغُ الرد على هؤلاء المغالياتِ في المطالبة بحقوق المرأة، أنهن أو أكثرهم، بين واحدةٍ فَقَدَت الرجُل، وأخرى سُلِبت الرجُل، وثالثةٍ لم تَنَل الرجُل؛ فهي أحلامُ إفلاسٍ كما ترى. . .
إسْتِرجَال المرأة، وسوءُ خُلُقِ المرأة، وقَذَارةُ المرأة، أحَدُ الثلاثة هو في قُبحِهِ - كالثلاثة جميعاً
العشقُ الدنئ دنيءُ مرتين؛ حتى إن المرأةَ الساقطةَ لو أخْلَصت الحب لرجل من عشاقها، لسقطت مرة ثانية في رأي الباقين
في الأممِ المنحطة، تجد نفاق الكبار للكبار، هو الذي أضاع الكبارَ والصغار
في مثل هذا العصر، يكادُ يكون التعريفُ الصحيح للأفضلِ من الناس أنه الأقل سفالة
كثيراً ما جَنًتِ المروءة على أهلها؛ ولكن احتمال هذه الجناية هو أيضا من المروءة
إذا عاملت لئيماً فأنت بين اثنين: أما أن تبيعه ذمتك بلا شيء، أو تشتري ذمته بشيء. . .
أقنع اللئيم بالكرم الذي في نفسك؛ فبهذه الطريقةِ وحدها يفهم اللؤم الذي في نفسه
الخطرُ الذي تكونُ فيه العنايةُ الإلهية، هو نجاحٌ اسمه الخطر.
علمُ الجاهل في شيئين: في سكوته، وفي السكوت عنه
أشد ما في الكسل أنه يجعلُ العملَ الواحدَ كأنه أعمالٌ كثيرة
الرجلُ العظيم في فنه، قالبٌ إنسانيُ لا إنسان؛ فلا يُقاسَ إلا ليُقاسَ عليه غيرهُ
من هوان الدنيا على الله أن رذيلة المًلحد في رأي المؤمن هي أخت غفلة المؤمن في رأي الملحد
ليس في بغضاء اللئيم أبغضُ من طريقة إظهارها، إنه لا يعلن بُغضه بل لؤمه المبغضُ
الرأسُ الفارغُ من الحكمة لا يُوازنه في صاحبه إلا فمٌ ممتلئ من الثرثرة
ما أضيع النصح في الحب وفي الخمر؛ لأن العاشق والمُدمنَ كلاهما أشدُ افتقاراً لسروره منه إلى عقله
أفلا ترى المرأة أن طبيعته تجعلُ نظرها إلى الرجل في بعض الأوقات مهيأ لبعض العمى. . .
قال لي عاشقٌ حزين: ما أقدس الحزن الذي فيه روحانيةُ الفرح؛ إنه حزنٌ وسرورٌ وشهوةُ نفس
إذا لم يكن في الدنيا إلا قاضٍ واحدٌ ينفذُ قضاؤه، ثم احتجتَ أن ترفع قضية غصبٍ أو (نصبٍ) على هذا القاضي. . . فهذه صورةُ كل عاشقٍ ومعشوقة في الدنيا
رأيتْ في نومي ذات مرة أني دعوتُ طبيباً لمريض عندي؛ ثم قلت له وقد وصف الداء: هل نُسخنُ الماء؟ فقال: لا تسخن الماء؛ ولكن ضَعْه على النار حتى يَسْخُن. . . هذا بعينه أسلوبُ كبرياء المرأة العاشقة حيت تقول: لا على وزن (لا تسخن الماء ولكن. .)
إذا طال هجرُك لمن تحبها، كان أثرُ مرور الزمن عليها كأثره في الحرير المصبوغ؛ إن لم يبدُ في العين ذليلَ النسيج، بدا فيها ذليلَ اللون. . .
الرجلان العاشقان لامرأة واحدة لا يتحابان، والملكان الطامعان في مملكة واحدة لا يتسالمان،
والطفلان الشريكان في لعبة واحدة لا يتصافيان. فاللعبة إمرأة الطفلين، والملك إمرأة الملكين؛ أما المرأة فهي إمرأة ومُلكٌ ولعبة، وأتم النساء من تجمعهن
يقول لك الزاهد العابد: أخرج من الدنيا وأدخل في نفسك، ويقول لك الماجن الخليع: أخرج من نفسك وادخل إلى الدنيا، ويقول لك الحكيم العاقل: كن في الإنسانية تكنْ في نفسك وفي الدنيا
تُرى ماذا يحتاجُ الحيوانُ في أوربا من قوام عيشه ولذاته، غير ما يحتاج إليه حيوانٌ مثله في قرية من قرى الزنج؟ فليس فقرُ المدينة فقر الطبيعة، ولكنه فن العقل والخيال والوهم. وهذه الطبيعةُ تكفي كل أهل الأرض شمساً وهواءً وطعاماً وشراباً وجمالاً. ولكنها لا تنبتُ خيالات للعيش ولا قواعدَ للعيش.
فأصبحت لا تكفي ما دام غنيُ واحد ينفق في لذة يومٍ قوت مدينة. لا يأكل الحمار الأرض كلها ليجيع الحمير. ولكن الغني يفعل ذلك
رأيتُ القوانين كملاجئ اللقطاء. هذه تربى صغار الأطفال وتلك تربى صغار الجرائم. .
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
في الأدب المصري
مجالس الأدب في القرن الثامن عشر
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لقد هممت اليوم أن أكتب إلى الرسالة الغراء مقالاً ثانياً أستأنف فيه وصف مجالس الأدب في مصر في القرن الثامن عشر في أيام رضوان بك أمير مصر وأحد مليكيها في ذلك العصر، ولكني رأيت الأمر قد استعصى علي إذ جعلت انقل من قول أحد شعراء العصر بعض ما راقني، وذلك الشاعر هو ابن الصلاحي، فرأيت ذلك البعض الذي اخترته قد زاد على المقدار الذي يجمل بي أن أجعله لمقال واحد. فعدلت عن رأيي الأول وقلت حسبي أن أخص بهذا المقال ذلك الشاعر وحده. ولعل الاختصار على حديث شاعر واحد أبلغ في قصدي وأقوى لحجتي التي أرمي من ورائها إلى بيان حقيقة في تاريخ مصر. فان غزارة قول شاعر واحد من شعراء هذا العصر لدليل على أن ثقافة ذلك العصر لم تكن ثقافة ضحلة، بل كانت ثقافة أعمق وأقوى مما يتوهمه الكثيرون
كان ابن الصلاحي ناظماً وناثراً وعالماً من علماء العصر. نال من العلم الموروث أقصى ما يناله المتطلع إلى الحياة العقلية. وقد كان تلميذاُ للشيخ محمد الحفني المشهور وأجازه ذلك الشيخ إجازة علمية قد يكون من الطريف أن ننقلها هنا. قال الشيخ:
(نحمدك يا عليم يا فتاح، يا ذا المن بالعلم والصلاح، ونصلي ونسلم على أقوى مسند، وعلى آله وصحبه معادن الفضل والمدد. أما بعد فان المولى العلامة الفهامة الحاذق الأديب، واللوذعي الأريب، مولانا الشيخ محمد الصلاحي السيوطي قد حاز من التحلي بفرائد المسائل العلية أوفي نصيب، بفهم ثاقب وإدراك مصيب، فكان أهلاً للانتظام في سلك الأعلام، بإجازته كما هو سنن أئمة الاسلام، فأجزته بما تضمنته هذه الوريقات، من العلوم العقلية والنقلية المتلقاة عن الاثبات، وبسائر ما تجوز لي روايته أو ثبتت لدي درايته، موصياً له بتقوى الله التي هي أقوى سبيل للنجاة، وألا ينساني من صالح دعواته في أوقات توجهاته، نفعه الله ونفع به، ونظمه في عقد أهل قربه، وأفضل الصلاة والسلام على أكمل رسل السلام وعلى أئمة الهدى، وصحبة نجوم الاقتدا. كتبه محمد بن سالم الحفناوي الشافعي ثامن جمادي الثانية سنة ثمان وسبعين ومائة وألف)
وقد كان ابن الصلاحي فوق ذلك كاتباً حسن الخط كتب نسخة من القاموس بخط يده، وقد كان للخط الحسن نهضة في ذلك العصر مثل سائر أحوال البلاد، فقد نبغ من معلميه جماعة من أفاضل الكتاب مثل الضيائي والشاكري والحزانري والحمامي
ولكن أكبر ما امتاز به ابن الصلاحي ميله الى فن الأدب، فقد أخذ منه بالحظ الأوفر، وقد اتصل بحلقة الأدب في بلاط الأمير رضوان ونال من خيره الشيء الكير. على أنه كان غير منقطع إليه، بل كانت له مجالس خاصة مع جماعة من أدباء عصره ومشيخة العلم فيه. ولعل خير ما قاله من قصائد ما جاش في نفسه في تلك المجالس الخاصة
قال يصف خطرات نفسه
بُثا عن النائي الغريب
…
جملاً من الخبر العجيبِ
واستوقفا الركبان ما
…
بين الاراكة والكثيب
واستنشدا القلب الذي
…
قد ضاع من بين القلوب
سلبته يوم الدوحتي
…
ن طليعة الرشأ الربيب
وسرت به نحو الخيا
…
م يد الصبا ويد الجنوب
ترنو الهوادج عن صفا
…
شمس تميل إلى الغروب
والبدر يذهب من خلا
…
ل السحب في مرأى عجيب
والرق يخفق والمزا
…
هر مثل قلبي في وجيب
يا حادي العيس التي
…
سارت على قلبي الجنيب
علل عليل هوى فعه
…
دك ما تقادم بالطبيب
إني وإن شط النوى
…
وقف على حب الحبيب
كابدت ما كابدت من
…
شق المرائر والجيوب
وعلمت كيف تقوم أس
…
واق المعارك والحروب
ولقيت دون البيض وقع
…
السمر بالصدر الرحيب
من كل ريم جائل
…
في برد جردته النشيب
يحكى الغزالة في الترف
…
ع والغزالة في الوثوب
ألحاظه ترويك ديوا
…
ن الحماسة عن حبيب
وقعات أسمهه ترك
…
ن جميع حسمي في ندوب
كم ليلة عانقت في
…
ها قامة الغصن الرطيب
في معهد ما فض عن
…
هـ الأنس إلا ختم طيب
والزهر يضحك من بكا
…
ء الطل بالثغر الشنيب
والريح تكتب في الغدي
…
ر حديث أسرار الغيوب
والطير تقرأ والغصو
…
ن تهز أعطاف الطروب
والورق تصدح في الغصو
…
ن بصوت محزون كئيب
في رنة الشادي وهي
…
نمة القطا والعندليب
عجماء تعرب في السؤا
…
ل وتستجيب بلا مجيب
والليل أرسل ذيله
…
رصداً على أعلى القضيب
يحكي الشعور كأنه
…
يروي الفروع عن الخطيب
أرنو وأحشائي من ال
…
حدثان في شك مريب
لولا الرقيب ظفرت من
…
لقياه بالفرج القريب
وكشفت من وصلي به
…
ما قد ألم من الكروب
ولئن حل بنفس القارئ من هذه النفثة مثل ما حل بقلبي، لأيقن أن ابن الصلاحي إنما كان يترجم عن قلب نابض بحياة حقيقية لا تكلف فيها، وأنه كان يصدح بأنغام تبين عن حرارة ووجدان طبيعي. وها هي ذي نفثة أخرى أختار منها البعض لا أنه أحسن ما بها، ولكنه مثل مما تحويه من آيات. وهي في مدح شيخه الحفني:
مِلْ بي فقد وقد الهجير
…
إني بظلك مستجير
وأرح مطيك يا سمي
…
ر فقد أضر بها المسير
هذا الحمى فارصد إذا
…
ما استأنس الظبي النفور
واطرق كناس الغيد حي
…
ث ينام راعيه الغيور
وأمط ستائره فذ
…
لك حين تنفتح الخدور
واسأل من الظبيات عن
…
عهد تضن به الصدور
واحفظ فؤادك أن تصي
…
ب عيونهن فهن حور
من كل غانية يل
…
ح بوجهها القمر المنير
تختال في مرح الشبا
…
ب فيخجل الغصن النضير
تسعي فتعقدها روا
…
دفها وينهضها الحضور
سكرى رأت كسر القلو
…
ب فصار ناظرها الكسير
فعلت بسحر جفونها
…
ما ليس تفعله الخمور
حنثت معاطف خدها
…
لكن لواحظها ذكور
لم أنس إذ وافى البشي
…
ر يلوح في فمه السرور
إذ أقبلت ريح القبو
…
ل بها وأدبرت الدبور
فضممتها وبمهجتي
…
من حر أشواقي سعير
فتعوذت بالروض من
…
شر بأنفاسي يطير
روض تعلق بالمجر (م)
…
ة من جوانبه نهور
تبدو به زهر الزهو
…
ر لأنه فلك يدور
ضحكت ثغور زهوره
…
فبكى لها النوء المطير
وحنت نواعره وحن
…
ت وهي من غيظ تفور
ذكرت قديم عهودها
…
فأنهل مدمعها النمير
يا طيب أنفاس الربي
…
ع ففي تنفسها عبير
والجو مجمرة علي
…
ها من ضبابتها بخور
والورق ساجعة لها
…
في كل ناحية سمير
عجماء تعرب عن ضما
…
ئرنا وليس لها ضمير
والريح تعتنق الغصو
…
ن بها فتعتبق الزهور
وبدت شموس الراح تح
…
ملها الكواكب والبدور
وبكت عيون السحب حي
…
ن تساقط الدمع الغزير
نحنا معاً فتحلت ألم
…
أغصان منا والنحور
رعيا لذياك الحمى
…
والطرف متهيج قرير
ومرور أيام الصبا
…
من دونها العيش المرير
ثم انتقل إلى مدح شيخه ومضى فيه مثل قوله:
ملأ النواظر منه إج
…
لالا وليس له نظير
وحماه ينفك الأسي
…
ر به ويستغنى الفقير
منن تذل لها الرقا
…
ب ولا يقوم بها الشكور
وجرت لنحو حماك آ
…
مالي وأنت بها جدير
خذها على شرط الصيا
…
رف إن ناقدها بصير
أليس هذا قولاً يترجم عن
…
قلب جياش وخيال وثاب؟
وقال في بعض مجالسه:
هات لي قهوة الشفا من شفاهك
…
وإسقنيها على فخامة جاهك
عاطينها يا أوحد العصر لطفا
…
وبديع المثال في أشباهك
يا غزالاً لو صور البدر شخصا
…
ليضاهيك في البها لم يضاهك
عاطنيها جهراً شفاها ولا تخ
…
ش ملاما فلذتي في شفاهك
وأرسل إلى صديق له:
ذكرتك لا أني نطقت وإنما
…
ذكرتك في نفسي فكنت سميرها
ذكرتك في روض تبسم عن شذا
…
وقد فتحت كف النسيم زهورها
ذكرتك والأطيار تنطق عن هوى
…
كأنك قد آويت منها ضميرها
فلا خير في أرض إذا لم تكن بها
…
سميراً ولا في روضة لن تزورها
ذلك مثل من أدب حي حياة تنبض قوية، يتفتح عن زهر نظير غض، وهو في الوقت عينه أدب عميق قوي، تسمع منه نغمة حلوة بليغة تدل على روح شعب محس بنفسه آخذ في سبيل الحياة والشباب
فالحق أن شعب مصر في القرن الثامن عشر، كان آخذاً في سبيل نهضة حقيقية في كل جوانبه، نهضة وطنية صرف لا تشوبها رطانة أجنبية ولا لوثة أعجمية ولا سيطرة غربية. نهضة لو سارت في سبيلها وبلغت قصاراها لكانت مصر بها اليوم في مستوى اليابان أو إيطاليا أو فيما هو فوق ذلك. غير أن القرن الثامن عشر، وا حسرتاه، انتهى بنكبة شاملة وداهية فادحة بإغارة الفرنسيين على مصر، واكتساحهم كل آثار تلك النهضة الشابة فقضى
عليها ولما يتم نموها، وحفرت بين ماضي مصر وحاضرها هوة عميقة تقطع تيار الرقي الوطني، وتقف في سبيل وصل الطارف بالتالد
فمجد مصر السياسي في القرن الثامن عشر أصبح نسياً، ومجد مصر الاجتماعي في ذلك القرن ذلك قد أصبح أثراً دارساً، وجهاد مصر الدستوري قد صار دفيناً تحت أنقاض تلك الكارثة، فلم تبق منه معالم ولا آثار. غير أنا إن فاتنا أن نبني على أثر هذا التراث المنهوب، أو ضاع علينا أن نصل حاضرنا بذلك الماضي المضيع، فليس أقل من أن نعرف أن لنا في ذلك الماضي أنفاساً يليق بنا أن نحرض عليها، وأنغاماً يجمل بنا أن نسجلها
محمد فريد أبو حديد
كيف حفرت بئراً. . . . . . لنفسي؟
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
شقراء، ذهبية الشعر، لا أدري كيف أنبتتها هذه الصحراء؟ ومن بنات الفقراء، ولكن لها دلاً وأناقة تخطئهما عند اللواتي نشأت في كنف النعمة والترف والثراء، وفي كلامها خفة وهَزَجٌ، وفي مشيتها تبختر لا يقل، وميسْ ليس من الاختيال. وكانت ترسل شعرها الوحف ولا تفرقه أو تضفره أو تعقصه، بل ترده عن جبينها الوضاء وتحسر جمته عن أذنٍ، وتستر أذناً. ولا تثبته بالأمشاط أو الدبايبس، ولا تعصب رأسها بالمناديل، فإذا عبث به الهواء وأسال قصتها على وجهها رفعت الشعرات بإصبعها أو نحتها عن أذنها، وكنتُ لا أراها تبتسم إلا خيل إلى أنها ترى حلماً يسرها فيثب قلبي إلى حلقي، واجد حر النار في كفى
وكان بيتي في ذلك الوقت على (تخوم العالمين) وكانت له حديقة صغيرة جعلتها شغلاني. وكان الماء كثيراً وثمنه زهيداً، لا يتجاوز خمسة عشر قرشاً في الشهر بالغاً ما بلغ ما أجريت منه، فكنتُ آخذ كفايتي منه وأسنه على وجهه للجيران، وكانت هذه الشقراء تجيء كل مساء بجرة فتملؤها مرةً أو اثنتين أو عشراً - كما تشاء. فأقف لها وأحادثها وأساعدها على رفع الجرة إلى رأسها. ولم تكن هي الوحيدة التي تستسقي، ولكنها كانت أبرعهن شكلاً وأخفهن على الفؤاد، وكانت تأنس مني الميل إليها والإعجاب بها، فتطيل الوقوف معي أحياناً، أو تتولى عني عزق الأرض أو بذر الحب أو سقي الزرع، وإجتزاز الكلأ والعشب والحشيش أو نزع ذلك بأصوله، وكانت أعرف مني بذلك كله واخبر، وكانت تضحك مني لجهلي فتقول لي مثلاً:
(ألا تحش هذه الملوخية؟ لقد كادت تكتهل)
فأقول: (ملوخية؟ لقد طرحتُ هنا حب فجل فكيف تخرج الأرض ملوخية؟)
فتقول: (كلا، هذه ملوخية وقد بلغ نبتها المدى، فاختضرها وإلا فسدت)
فأقطع ورقة وأمضغها فأجد طعم الملوخية ولا أجد طعم الفجل، وكنت أهمل أن أكتب أسماء البذور على الورق الذي أحفظه فيها، واعتمد على ذاكرتي والذكاء فيختلط علي الأمر، وأروح أظنني زرعت جزراً فإذا هو خيار، وكنت لجهلي ألقي البزر ولا أعني بإعداد
الأرض وإخلائها من الحجارة، وكانت أرض هذه الحديقة جَلْدَةً في مواضع كثيرة وفي بطنها حجارة غليظة مختلطة بطينها، فلا يخرج شيء مما يقع على هذه الجلاميد.
فكانت الشقراء تنبهني إلى ذلك وتعرفنيه. وكنت ربما تركت في الشتاء ما لا يبقى عليه أصله، وقلعت ما يُبيد الشتاء فرعه ويُبقي أرومته، فتصلح لي من خطئي ما يتيسر إصلاحه، ولم أكن أعرف الفرق بين ما يسمو من النبات صُعداً ويستغنى بنفسه، وما يحتاج، وهو يسمو، إلى ما يتعلق به ويرقي فيه، وما يتسطح على وجه الأرض، فأغرس الأعواد لما ينبت مفترشاً، وأدع ما يحتاج إلى التعلق بلا عصب، فكانت هي تعلمني وتقوم المعوج وتعالج ما أفسدت
ثم حدث ان شركة الماء وضعت لنا في البيت (عداداً) يحاسبنا على القطرات بعد أن كنا نأخذ بلا حساب، ولا ننقدها في الشهر إلا خمسة عشر قرشاً، فأرهقني هذا (العداد) وكلفني فوق ما أطيق، وصرت بين أمرين: إذا أبقيت على الحديقة جعت وتضورت، فان أرضها كثيرة الرمل يذهب فيها الماء ولا يبقي منه للنبات ما يكفيه، فحاجتها إلى السقي لا تنقضي. وإذا أنا ضننتُ بالماء ذهبت الحديقة. فشق على ذلك واشتد همي، وطال وجومي من جرائه. ورأت هي اغتمامي وسهومي فسألتني فأمضيت بشجني فقالت:
(احفر بئراً)
قلت: (ايه؟ أحفر بئراً؟)
قالت: (نعم. ماذا يمنع أن تفعل؟)
قلت: (يمنع أن هذه أرض مضرسة، حشوها حجارة ولا يمكن أن يكون في جوفها ماء)
قالت: (من أدراك؟ إني أعتقد أن في أرضك ماء غزيراً)
قلت: (أما الحرث والزرع فشيء عرفنا أن تعرفينه، وإن كنت لا أدري من أين جاءك هذا العلم، وأما الآبار وحفرها. .)
فقاطعتني وقالت: (أظنني أستطيع أن أدلك على موضع العين في هذه الأرض - غداً في النهار اختبر الأرض وأجسها)
وفي عصر اليوم التالي جاءت وفي يدها عود على هيئة اللام ألف، ولكن في ساقه، قبل موضع التشعب، طولاً وقالت:
(أنظر. سأجس الأرض بهذا) ورفعته لعيني
فقلت: (وكيف تصنعين؟ إنه غصن لا أكثر)
قالت: (هو حسبي. وما أعرفه خذلني أو كذبني قط، ولكن عهدي بهذا الجس بعيد وأخشى أن أكون فقد فقدت القدرة على استنبائه)
قلت: (استنباؤه؟ أو يقول لك هذا الغصن أين منبع الماء في جوف الأرض؟)
قالت: (نعم، وسترى بعينك إذا وفقني الله)
وأقبلت على الأرض تجسها شبراً شبراً، وكانت تضع العود على الأرض كأنها تغرسه فيها بأصابعها وتنظر إلى شعبيته برهة، ثم ترفعه وتقدمه خطوة أو خطوتين، وهكذا يميناً وشمالاً، حتى رأيت إحدى الشعبتين تميل قليلاً فعجبت
فقالت: (هنا ماء ولكنه قليل)
ومضت تنقل العود من مكان إلى مكان حتى بلغت الجدار الآخر فقالت:
(يخيل إلي أني سأخفق)
فلم أقل شيئاً، وماذا عسى أن أقول؟ لقد تركتها تختبر الأرض وأنا كافر بها - أعني بالفتاة وقدرتها على الاهتداء إلى منابع الماء في بطن الأرض، ولكني قلت إنه لا بأس علي من ذلك، وحسبي أني أقضي معها ساعة أنعم فيها بحديثها وبالنظر إليها، ولكن انثناء العود إلى الأرض، من تلقاء نفسه، ومن غير أن يمسه شيء حيرني، وصرفني عن الفتاة وجمالها، إلى هذه الظاهرة الغريبة
وجعلت أقول لنفسي: (إذا كان كل ما يتطلبه الأمر أن يجيء الإنسان بمثل هذا العود ذي الشعبتين، وأن يركزه أو يغرسه في الأرض، فإذا كان هناك ماء انثنى وحده، فما أسهل ذلك!! وكيف غاب هذا عن الناس وفاتهم هذا العلم اليسير؟)
ولم أكتم هذا الذي دار بنفسي، فقالت بابتسام:(لا. إن المعول على اليد لا على العود)
ولم افهم شيئاً، ولكني سكت، فقد تجهمتْ، وطال سكوتها وتقطيبها، وثبت حملاقها، وبدت لي كأنها تعصر نفسها عصراً، ثم قالت:
(افتح هذا الباب)
وكان باب حجرة مهجورة في فناء البيت، نحبس فيها الدجاج، ففتحته فدخلت وقالت: (انزع
هذا البلاط)
فأطعت، وتجشمت عناء شديداً، ولكني أمضيت لها مشيئتها، فحنت على الأرض، وأقامت العود في ترابها، وإذا بالشعبتين جميعاً - بعد هنيهة - تنثنيان على الأرض - عمودياً - حتى لخيل إلي أنهما ستقصفان
ونهضت، ومسحت العرق المتصبب، وقالت:
(هنا يجب أن تحفر. الماء غزير، ولكنه بعيد. وماذا يهم؟ ستجد فوق الكفاية من الماء)
ولم يخالجني شك في صدقها، فجئنا بعد أيام بالرجال، فحفروا ووسعوا، واحتجنا أن نهدم الجدار الذي فيه الباب فأتينا عليه، وانحدر الرجال الى أكثر من ستة أمتار، وقضوا في ذلك أياماً طويلة، حتى بلغ أحدهم حجراً فزحزحه بالمعول فأنبط الماء من تحته واستغنيت عن شركة الماء
وقلت للفتاة: (لماذا جشمت نفسك هذا العناء)
قالت: (هو جزاء المعروف)
قلت: (ليس إلا؟)
قالت: (وعز علي أن تضطر الى تضييع الحديقة)
قلت: (وماذا أيضاً؟)
قالت: (لا أدري ماذا أيضاً؟ غلبني شعوري)
قلت: (ليس في وسعي أن أجزيك. . .)
قالت تقاطعني: (لا تحاول!. . . حسبي أني أعدت الى وجهك الابتسام)
قلت: (اسمعي. إن الحديقة مدينة لك بحياتها، وأنا مدين لك بمعنى هذه الحياة، ولست أظنها تقوي على فراقك، ولا أنا يا فتاتي. . . . . .)
قالت: (لم أصنع شيئاً)
قلت: (أزخرت حياة كادت تجف وتذوي، فماذا يستطيع إنسان أكثر من هذا؟)
قالت: (كلا. كل ما صنعت أني وجدت ماء، وقد وجدته مائة مرة قبل اليوم، فلم أسمع مثل كلامك. . . . إنك تمزح ولاشك!)
قلت: (بل أنا جاد. لا غنى بي ولا بالحديقة عنك. . . فما قولك؟)
قالت: (كلا. للحديقة صاحبها. ولك الدنيا، أما أنا فذاهبة)
قلت: (ذاهبة؟ أين؟)
قالت: غدا - أو بعد غد - يرحل أبي، وأنا معه، فما بقي ما يستوجب مقامنا)
فدنوت منها ووضعت يدي على كتفها وسألتها:
(أنت أو عزت إليه؟)
قالت، وهي مطرقة:(نعم. والآن أستودعك الله!)
فتعلقت بها فلم يجدني ذلك وقالت:
(أنا بنت الصحراء، وأنت ابن المدينة. . . لست لي، ولست لك. . . . وقد تركت لك الحديقة. . . لتذكرني بها)
وكان هذا آخر عهدي بها. . .
ولكني لم أطق هذه الذكرى، ولم أعد أحتمل أن أرى الحديقة أو البئر التي حفرتها، فتركت ذلك كله وانتقلت الى بيت آخر. . . بعيد. . . . بعيد جداً، ولا حديقة له
إبراهيم عبد القادر المازني
الغرض من التربية في المدرسة الإنجليزية
للأستاذ محمد عطية الأبراشي
المفتش بوزارة المعارف
الغرض من التربية الإنجليزية تهذيب الخلق وتربية الروح والعقل والجسم، مع المحافظة على الاستقلال الشخصي لكل فرد من الأفراد. ولا يُقاس النجاح في التعليم بإنجلترا بمقدار ما يعرف التلميذ من المواد الدراسية فحسب، ولكنه يقاس كذلك بما يستطيع أن يفعله وبمقدار استعداده للعمل. فعلى هذه الأسس الثلاثة وهي: العلم، والقدرة على العمل، والاستعداد للعمل - يقاس النجاح في التعليم بإنجلترا. ومع أن عدد المتعطلين هناك قد بلغ نحو ثلاثة آلاف ألف عامل، وعدد المتخرجين في المدارس كل سنة يبلغ نحو 250 ألف شاب لا تجد فرداً واحداً يقول: أغلقوا المدارس، ولكنك تجد من يقولك أطيلوا مدة الدراسة، وافتحوا موارد العلم لطلابه، فبغير نور العلم لا تزدهر نهضة، وبغير المدارس لا تعتز أمة. والحياة العملية مفتوحة أمام الجميع.
وإذا ترك الطالب المدرسة وكان عالماً قادراً على العمل، مستعداً لأن يعمل، فلا خوف عليه في هذه الحياة. وما المدرسة إلا عالم مصغر، فالحياة المدرسية الإنجليزية صورة من الحياة العالمية الخارجية، تُعد التلميذ للحياة الاجتماعية التي تنتظره، فيخرج من المدرسة عالماً بشؤن الحياة، يحاول أن يعرف نفسه، ويعرف العالم الذي يعيش فيه، عاملاُ بما علم، مستعداً لأن يعمل أي عمل تصل إلى ذروة العلا. يعيش الشاب في عالم الحقيقة لا عالم الخيال، ولا يضيره أن يظهر صغيراً في عمله في بدء الأمر، بل يعمل ويثابر، ويخطئ ويصيب، ويجتهد حتى يصل إلى الكمال أو ما يقرب منه
وإذا تمثلت الروح العسكرية في التربية الألمانية، وظهرت الروح التعاونية في التربية الأمريكية، فتربية الشخصية المستقلة تتمثل في التربية الإنجليزية
وإن روح التعليم في إنجلترا مؤسسة على دراسة الطفل والتفكير فيه، وفي شخصيته ومستواه، وتقديمه على سواه؛ أي مؤسسة على التضحية بكل شيء في سبيل النهوض به فالطفل هو مركز التعليم، وهو النقطة الرئيسية التي يعني الجميع بها، وهو الذي يضحي من أجله بكل شيء. ولئن عني الأسبرطيون قديماً بالقوة الجسمية والتربية العسكرية، واهتم
الاثينيون من اليونان القدماء بالفلسفة وتربية الذوق وحب الجمال، وأولع الرومان في غابر الأزمان بالخطابة والقوة الكلامية فلقد عني الإنجليز اليوم بأعداد الطفل للحياة، للقيام بواجبات الحياة
وقد رأى أحد الإنجليز، ورأى فلاسفة اليونان من قبل، أن العقل السليم في الجسم السليم، ولكن المربين من الإنجليز يرون الآن أن يضيفوا إلى العقل السليم والجسم السليم: الخلق القويم، والشعور بالواجب. فالمدرسة الإنجليزية لا تفكر في تعليم المواد فحسب، بل تعمل على تربية العقل، والجسم، والخلق، وتهذيب الادارة، وتقوية الملاحظة لدى كل فرد، وتعطيه الفرصة في أن يستفيد من قوانين الطبيعة، ويقدر ما فيها من فن أو جمال، وتفهمه الحياة كما هي، وتشعره بواجبه نحو غيره وواجبه نحو الله ونفسه وأمتهن وتعده للحياة الكاملة. فللمدرسة أثر كبير في تكوين الطفل لا ينقص عن اثر المنزل والأصدقاء وتجارب الحياة
وإن المدرسة الإنجليزية تشعر بالواجب الملقي على عاتقها نحو التعليم، ونحو تحسين الأحوال الاجتماعية والصحية والخلقية، وتقوم به خير قيام. والمدرس الإنجليزي في إنجلترا يستطع بما له من نفوذ، وباجتهاد في أن يكون المثل الأعلى الذي يصح الاقتداء به - أن يثبت في نفوس التلاميذ أحسن العادات من الجد والمثابرة على العمل وأداء الواجب، وكتمان الشعور، وإجلال كل نبيل، والاستعداد لتضحية النفس، والعمل على الوصول إلى الحقيقة والشعور بالواجب والاستقامة. فالمدرس يعمل على تكوين أعضاء عاملين ينفعون المجتمع الذي يعيشون فيه بحيث تفخر بهم الأمة التي ينسبون إليها
محمد عطية الأبراشي
إلى الأستاذ توفيق الحكيم
سياحة في نهر (الجنون)
هل هناك اقتباس. . . .؟!
بقلم جورج وغريس
ليعذرني الأستاذ توفيق الحكيم إن أردت أن أقوم بسياحة قصيرة في (نهر الجنون) ذلك النهر الرهيب الذي شاء الأستاذ أن يتدفق ماؤه من قطرات قلمه على صحائف إحدى عشرة من (مجلتي) الغراء في العدد الرابع منها الصادر في منتصف شهر يناير الماضي. والحق إنني لا أخشى أن أصاب بالجنون إن قمت بسياحة قصيرة في ذلك النهر أو انتهل جرعة من مائه، فليس أحب الى نفسي من أن ترشف من فيض ذلك القلم العذب الذي يذكرنا بصاحب (أهل الكهف) و (شهرزاد) و (عودة الروح). . . .
ونهر الجنون الذي خطر لي أن أكتب عنه هو عنوان لقصة تمثيلية طريفة من فصل واحد تناولها الأستاذ الحكيم في حوار لطيف، وتتلخص وقائع تلك القصة في أنه في قديم الزمان كان يجري في بلاد نائية نهر يشرب منه سكان تلك الجهة، ففي إحدى الليالي نقمت الآلهة على ذلك النهر، فأرسلت أفاعيها تهبط من السماء ثم تسكب سمومها في مائه فإذا به في لون الليل، ويرى الملك كل ذلك في رؤيا هائلة، ويسمع من يهتف به:(حذار أن تشرب بعد الآن من نهر الجنون. . . .) فيمتنع الملك هو ووزيره عن الشرب من ماء النهر، ويكتفيان بنبيذ الكروم فإذا بهما في تمام قواهما العقلية. أما الملكة وسائر أفراد الشعب فانهم يتهافتون على الماء ويستقون منه فيصيب عقولهم مس من الجنون.
فإذا كان أول هذا الفصل يظهر الملك منفرداً مع وزيره في القصر، ويتحادث معه في تل الرؤيا الهائلة التي رآها، ويبدي جزعه الشديد أن تشرب الملكة مع الشاربين من النهر برغم تحذيره إياها فيصيبها الجنون كما أصاب جمع الناس الذي شربوا معها، ثم يُظهر حزنه لعظيم على عقلها الراجح وذهنها اللامع في سماء تلك المملكة، ويتمنى لو أن وزيره أمكنه أن يجد لها الدواء الناجع، أو لو أنه استطاع أن يحضر لها رأس الأطباء، فيخبره وزيره أن رأس الأطباء أيضاً قد أصابه الجنون، فيسأله أن يأتي لها بكبير الكهان فيعلمه
أنه أيضاً مجنون لأنه شرب مع الشاربين، ولا يوجد في المملكة من لم يشرب من ماء النهر سواهما، فيحزن الملك لذلك أشد الحزن، ويذهب، ويذهب مع وزيره الى معبد القصر يسألان السماء الغوث والرحمة. . . .
يخرج الملك والوزير من باب فتدخل من باب آخر الملكة ورأس الأطباء وكبير الكهان، ويبدو الجزع على وجوههم، ويتحدثون عن الملك ووزيره اللذين أصيبا بالجنون لامتناعهم عن الشرب من النهر دون جميع الناس، وتسأل الملكة رأس الأطباء وكبير الكهان أن يستخدما الطب ويستنزلا المعجزات لإنقاذ الملك من هذا الجنون المفرط فلما يُظهر كل منهما عجزه عن رده الى صوابه تحزن الملكة لذلك أشد الحزن وتشير عليهما ألا يذيعا الخبر لأن المصيبة سوف تكون فادحة لو علم الناس أن الملك والوزير قد جنا. وتبكي المكلة زوجها الذي أصبح معتوهاً لا يذكر النهر إلا في فزع، ويزعم ن ماءه مسموم ولا يشرب إلا نبيذ الكروم، وبينما هي تدير الرأي معهما تلمح الملك آتيا عن بعدن فتطلب منهما أن يتركاها منفردة معه، لعلها تستطيع أن تقنعه بأن يشرب من ماء النهر، ثم يقبل عليها الملك، فيتفرس كل منهما في صاحبه وفي قلب كل منهما إشفاق على الآخر لما أصابه من الجنون، فتسأله الملكة عن السر في هذه النظرات العميقة، فيجيبها أنه يسأل السماء أن تستجيب دعاءه، فتفرح الملكة لهذه الرغبة في الشفاء وتخبره أنها عثرت على الدواء المطلوب، وأن هذا الدواء هو أن يشرب من ماء النهر، فيغتم الملك ويعود الى حزنه ويأسه، لأنه كان قد ظن أن الملكة قد اهتدت الى دواء لشفاء جنونها، ويخرج صارخاً بوزيره ينجده.
أما الوزير الذي كان في خارج القصر فيدخل على الملك في تلك اللحظة وهو يرتجف من الخوف ويخبره أن جميع الناس أصبحوا يعتقدون أن الملك ووزيره قد أصيبا بجنون، أما هم فعقلاء؛ فيدهش املك لذلك أشد الدهش ويدور بينه وبين وزيره الحوار الآتي:
الملك: صه! من قال هذا الهراء. . . . . .؟
الوزير: تلك عقيدتهم الآن
الملك: (في تهكم حزين) نحن المصابان وهم العقلاء. . . .!
أيتها السماء رحماك! إنهم لا يشعرون أنهم قد جنوا
الوزير: صدقت
الملك: يخيل إلي أن المجنون لا يشعر أنه مجنون
الوزير: هذا ما أرى
الملك: إن الملكة وا حسرتاه كانت تحادثني الآن وكأنها تعقل ما تقول، بل لقد كانت تبدي لي الحزن وتسدي إلي النصح
الوزير: نعم نعم. . كذلك صنع بي كل من قابلت من رجال القصر وأهل المدينة
الملك: أيتها السماء رفقاً بهم!
الوزير: (في ترد) وبنا. . . .؟!
الملك: (متسائلاً في دهش) وبنا. . . . .؟!
الوزير: مولاي. . . إني. . . . أريد أن أقول شيئاً
الملك: (في خوف) تقول ماذا؟
الوزير: إني كدت أرى
الملك: (في خوف) ترى ماذا.
الوزير: انهم. . . كل شيء
الملك: من هم؟
الوزير: الناس المجانين. إنهم يرموننا بالجنون ويتهامسون علينا ويتآمرون بنا، ومهما يكن من أمرهم وأمر عقلهم فان الغلبة لهم، بل انهم هم وحدهم الذين يملكون الفصل بين العقل والجنون. لأنهم هم البحر وما نحن الاثنان إلا حبتان من رمل. . أتسمع مني نصحاً يا مولاي. . .؟
الملك: أعرف ما تريد أن تقول
الوزير: نعم هلم نضع مثلهم ونشرب من ماء النهر!
الملك: (ينظر إلى وجه الوزير ملياً) أيها المسكين! إنك قد شربت. أرى شعاعاً من الجنون يلمع في عينك
الوزير: كلا لم أفعل بعد
الملك: أصدقني القول
الوزير: (في قوة) أصدقك القول أني سأشرب. وقد أزمعت أن أصير مجنواً مثل بقية الناس: إني أضيق ذرعاً بهذا العقل بينهم
الملك: تطفئ من رأسك نور العقل بيدك!
الوزير: نور العقل! ما قيمة نور العقل في وسط مملكة من المجانين؟ ثق أنا لو أصررنا على ما نحن فيه لا نأمن أن يثب علينا هؤلاء القوم. إني لأرى في عيونهم فتنة تضطرم، وأرى أنهم لن يلبثوا حتى يصيحوا في الطرقات (الملك والزير) قد جنا. فلنخلع المجنونين)
الملك: ولكن لسنا بمجنونين
الوزير: كيف نعلم؟
الملك: ويحك. . . أتقول حقاً؟
الوزير: إنك قد قلتها الساعة يا مولاي: إن المجنون لا يشعر أنه مجنون
الملك: (صائحاً) ولكني عاقل وهؤلاء الناس مجانين!
الوزير: هم أيضاً يزعمون هذا الزعم
الملك: وأنت ألا تعتقد في صحة عقلي؟
الوزير: عقيدتي فيك وحدها ما نفعها؟ إن شهادة مجنون لمجنون لا تغنى شيئاً
الملك: ولكنك تعرف أني لم أشرب قط من ماء النهر
الوزير: أعرف
الملك: وأن الناس كلهم قد شربوا منه
الوزير: أعرف
الملك: وإني قد سلمت من الجنون لأني لم أشرب وأصيب الناس لأنهم شربوا
الوزير: هم يقولون إنهم إنما سلموا من الجنون لأنهم شربوا وأن الملك إنما جن لأنه لم يشرب
الملك: عجباً! إنها لصفاقة وجه
الوزير: هذا قولهم وهم المصدقون. أما أنت فلن تجد واحداً يصدقك
الملك: أهكذا يستطيعون أيضاً أن يجترئوا على الحق؟
الوزير: الحق؟ (يخفي ضحكه)
الملك: أتضحك؟
الوزير: إن هذه الكلمة منا في هذا الموقف غريبة
الملك: (في رجفة) لماذا؟
الوزير: الحق والعقل والفضيلة كلمات أصبحت ملكاً لهؤلاء الناس أيضاً. هم وحدهم أصحابها الآن
الملك: وأنا. . .؟
الوزير: أنت بمفردك لا تملك منها شيئاً (الملك يطرق في تفكيره وصمت)
الملك: (يرفع رأسه أخيراً) صدقت إني أرى حياتي لا يمكن أن تدوم على هذا النحو
الوزير: أجل يا مولاي. وإنه لمن الخير لم أن تعيش مع الملكة والناس في تفاهم وصفاء ولو منحت عقلك من أجل هذا ثمناً
الملك: (في تفكير) نعم إن في هذا كل الخير لي. إن الجنون يعطيني رغد العيش مع الملكة كما تقول. وأما العقل فماذا يعطيني. . .؟
الوزير: لا شيء. . . أنه يجعلك منبوذاً من الجميع مجنوناً في نظر الجميع
الملك: إذن فمن الجنون إلا أختار الجنون
الوزير: هذا عين ما أقول
الملك: بل إنه لمن العقل أن أوثر الجنون
الوزير: هذا لا ريب بين العقل والجنون
الملك: ما الفرق إذن بين العقل والجنون
الوزير: (وقد بوغت) انتظر. . . . (يفكر لحظة) لسن أتبين فرقاً
الملك: (في عجلة) على بكأس من ماء النهر
هذا مجمل القصة والجزء المهم من الحوار الذي دار بين الملك ووزيره، وانتهيا منه بأن العقل لا يغنيهما شيئاً في ملكة من المجانين، لذلك آثر أن يكونا منهم. وموضوع القصة - كما ترى - لطيف طريف، وليس في هذا مجال لشك أو موضع لغرابة، ولكن مما استرعى نظري إنني كنت أقرأ بدايتها قراءة الشاعر بما سيحدث في نهايتها، فما أتيت على آخرها حتى ظللت أفكر فيمن سمعت أو قرأت عنه تل القصة حتى هداني التفكير الى كتاب
(المجنون) للمرحوم جبران خليل جبران فعثرت فيه على قصة قصيرة تحت عنوان (الملك الحكيم) وقبل أن أقول عنها شيئاً أورد نصها فيما يلي:
(كان في إحدى المدن النائية ملك جبار حكيم، وكان مخوفا لجبروته محبوباً لحكمته - وكان في وسط تلك المدينة بئر ماء نقي عذب يشرب منه جميع سكان المدينة من الملك وأعوانه فما دون، لأنه لم يكن في المدينة سواه. وفيما الناس نيام في إحدى الليالي جاءت ساحرة إلى المدينة خلسة، وألقت في البئر سبع نقط من سائل غريب، وقالت: (كل من يشرب من هذا الماء فيما بعد يصير مجنوناً)
وفي الصباح التالي شرب كل سكان المدينة ماء البئر وجنوا على نحو ما قالت الساحرة، ولكن الملك والوزير لم يشربا من ذلك الماء
وعندما بلغ الخبر آذان المدينة طاف سكانها من حي الى حي، ومن زقاق الى زقاق، وهم يتسارّون قائلين (قد جن ملكنا ووزيره. . إن ملكنا ووزيره أضاعا رشدهما. إننا نأبى أن يملك عليك مليك مجنون. هيا بنا نخلعه من عرشه!)
وفي ذلك المساء سمع الملك بما جرى، فأمر على الفور بأن يملأ حق ذهبي (كان قد ورثه عن أجداده) من مياه البئر. فملأوه في الحال وأحضروه إليه. فأخذ الملك بيده وأداره إلى فمه.
وبعد أن ارتوى من مائه دفعه إلى وزيره فأتي الوزير على ثمالته
فعرف سكان المدينة بذلك وفرحوا فرحاً عظيماً جداً، لأن ملكهم ووزيره ثابا إلى رشدهما)
فما رأي القارئ اللبيب في هذا. . . . . .؟ وما رأي الأستاذ الفاضل فيما كتب. . .؟ أليس هناك تشابه تام بين القصتين في الفكرة والمعنى والأشخاص بل وفي بعض الألفاظ. . . . . . . . . .؟
إني مع احترامي الشديد وتقديري العظيم للكاتب الفنان، أرى في ذلك أحد أمرين: إما أن تكون الفكرة مأخوذة مما كتبه المرحوم جبران خليل جبران، وليس في هذا حرج، ولكن كان الأجدر بالكاتب في هذه الحالة أن يذكر اسم المؤلف الذي اخذ عنه تلك الفكرة، وله بعد ذلك الفضل في تقربها إلى الأذهان بصوغها في قالبه الخاص الرائع، وفي تحويرها من حكاية قصصية إلى قصة تمثيلية
وإما أن يكون ذلك من قبيل توارد الخواطر وتشابه الأفكار بين كاتبين مختلقين في زمنين متقاربين، وليس في هذا أيضاً من حرج. . . ولكن دعني ألا أعتقد به هنا قبل أن تأتيني بجرعة من ماء ذلك النهر في حق من ذهب أو إناء من خزف
إسكندرية
جورج وغديس
(الرسالة) هناك فرض ثالث وهو ان يكون مصدر الكاتبين
واحداً
الشيخ الخالدي
مجلس أخر من مجالسه
للدكتور عبد الوهاب عزام
كتبت في عدد من الرسالة ما سمعته من الشيخ الخالدي في أحد مجالسه بحلوان. واليوم أنشر حديثاً آخر حدث به في مجلس بالروضة:
جمعني والشيخ الجليل مجلس في دار الأستاذ عبد الحميد العبادي ليلة الاثنين الثالث والعشرين من رمضان سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة وألف، فلما اطمأن بنا المجلس قلت: قد سمعنا حديث شيخنا العلامة عن المدراس في المشرق إبان مجد المسلمين، فهل له أن يتم الحديث بذكر مدارس مصر والمغرب
قال: بقي من دارس المشرق مدارس الأناضول، ومنها مدرسة آلتون باي التي بناها السلاجقة في قونية، وبقيت معمورة الى زمن الحرب الكبرى. وقد طلب العلم بها السيد الشريف الجرجاني والفناري (وها من ذرية سيدنا عمر. وسيف الدين الآمدي عربي من بني ثعلية إخوة بني يربوع). وفيها مدرسة قره طاي كبير في قونية، ولا تزال آثاره قائمة وهي من بناء السلاجقة أيضاً، وقد درس فيها جلال الدين الرومي، وفي بروسة مدرسة السلطان مراد الأول ومدرسة السلطان محمد حلبي. ومن علمائها الخيالي وخواجه زاده الذي كتب (تهافت الفلاسفة) يتوسط فيه بين الغزالي وابن رشد؛ ومن علمائها كذلك ملاخسرو وحسن جلبي. وله حاشية على كتاب المطول في البلاغة
ومن مدارس حلب المدرسة الحلوية وكان يقرأ فيها الكاشاني صاحب كتاب البدائع في الفقه، وكان يفتي هو وامرأته، لا يخرج الفتوى حتى تعرض عليها. ثم المدرسة المستنصرية في بغداد في غنى عن التعريف
ومن مدارس مصر المدرسة الكاملية التي بناها الملك الكامل الأيوبي ومدرسة صلاح الدين، بناها للأمام نجم الدين الخبوشاني قرب مسجد الإمام الشافعي. والخبوشاني منسوب إلى خبوشان إحدى قرى نيسابور. وقد دفن بجانب الإمام الشافعي واندثر قبره، والمدرسة الصالحية التي أسسها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وكانت لمذاهب الفقه الأربعة، والمدرسة الشيخونية ، وكل هذه المدارس كانت صغيرة القدر بالقياس إلى جامع عمرو
الذي كان مباءة العلوم الإسلامية منذ الفتح الإسلامي إلى القرن التاسع. وقد رأيت بالآستانة كتباً قديمة قرئت بجامع عمرو وعليها سماعات العلماء إلى سنة 700 وسنة 800 والشاطبي إمام القراء درس بهذا الجامع. ومن دور العلم في القاهرة خانقاه سعيد السعداء بالجمالية، وكان ينزل بها كبار العلماء، وممن نزل بها القطب الشيرازي والشريف الجرجاني، ومبارك شاه المنطقي، وقطب الدين الرازي. ويؤسفني ان وزارة الأوقاف لا تعني بها عناية تكافئ مكانتها في التاريخ الإسلامي: ومن مدارس القاهرة مدرسة المؤيد
وأما الأزهر فقد صار من دور العلم الكبير بعد سنة تسعمائة، وعلماؤه الذين ذكرهم الجبرتي متأخرون وأقدمهم الشيخ خالد الأزهري. وأما ابن هشام وابن عقيل فلم يتعلما فيه
وكان في الإسكندرية دار الحديث، ومدرسة الحافظ السلفي، وكان ينزل بها العلماء الوافدون من المغرب، ومدرسة الأمام الطرطوشي مؤلف سراج الملوك
ودور العلم في المغرب كانت جامع القيروان؛ قرأ فيه أصحاب الإمام مالك وأئمة مذهبه ومنهم سحنون، وابن عكر، وابن الحداد، وسحنون الصغير، وابن اللباد، والإمام اللخمي أحد محرري مذهب مالك، وعبد الحميد الملقب بمالك الصغير، وهو شيخ المازري، وغير هؤلاء ممن ذكروا في كتاب معالم الإيمان في تاريخ القيروان لابن ناجية، وهو شارح الرسالة التي ألفها عبد الله ابن أبي زيد صاحب كتاب النوادر، وهذا الكتاب واحد وعشرون مجلداً في مكتبة أياصوفيا، وبعض مجلداته في مكتبة القرويين بفاس
وجامع الزيتونة بتونس، وهو قديم عمره بند الأغلب سنة 145. ومن علمائه المازري شارح صحيح مسلم، وشارح التلقين للقاضي عبد الوهاب وهو عشر مجلدات كبار. ولا تزال اسطوانته معروفة في الجامع، وابن عبد السلام، وابن عرفة، وابن خلدون، وابن راشد القفصي وهو أعلمهم، والوانشريسي صاحب كتاب المعيار، والأبي شارح صحيح مسلم (وشرح المازري الذي ذكرته آنفاً اسمه المعلم في شرح صحيح مسلم، وكتاب الأبي اسمه متمم المعلم، وللقاضي عياض شرح اسمه إكمال المعلم)، ويحيى بن خلدون أخو عبد الرحمن بن خلدون المعروف، وأبو الحسن الشاذلي، وله أسطوانة في الجامع معروفة. ومن دور العلم بجاية وتلمسان، وكان بها مدرسة السلطان أبي الحسن المريتي، ومدينة سبتة، وقد ألف فيها القاضي عياض كتاب العيون الستة في أخبار سبتة. وهو كتاب يشهد بكثرة
العلماء الذين نبغوا فيها.
ومن دور العلم العظيمة جامع القرويين بفاس أسسه مولاي إدريس الأصغر. وهو يضاهي جامع القيروان بفاس أسسه مولاي إدريس الأصغر. وهو يضاهي جامع القيروان في سعته، وواجهته مركبة على 200 اسطوانة بين كل اثنتين خمس خطوات
وقد ألف في تاريخ علماء فاس كتابان: الأول جذوة الاقتباس فيمن حل من العلماء بفاس، وهو لابن القاضي الفشتالي (نسبة إلى فشتالة على نهر ورغة)، والثاني جذوة الأنفاس فيمن اقبر من العلماء بفاس، وهو للشريف الكتاني من المعاصرين ومن مدارس المغرب مدرسة يوسف بن تاشفين في مراكش
وكانت مدن العلم في الأندلس، قرطبة، واشبيلية، وطليطلة، ومرسية، وبلنسية، وشاطبة، وسرقسطة، وغرناطة، في الزمن الأخير
وكان أهل الأندلس يحفظون دواوين شعراء الجاهلية بالرواية والاسناد كالحديث النبوي، وقد جاء في تاريخ قرطبة (كانت قرطبة في الدولة الإسلامية قبة الإسلام، ومجتمع علماء الأنام والأعلام. بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدية واليمانية. وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء)
وقد بلغ من تشددهم في الرواية أن أبا علي القالي جاء الى الأندلس ومعه كتاب سماع في اللغة، فاستعاره الخليفة (لا أدري أكان الخليفة الناصر أم ابنه المستنصر؟) وأبقاه عنده زماناً فلما أرجعه أبطل القالي العمل به في الرواية. لأن الكتاب خرج من يده زمناً طويلاً قرأت هذه الحكاية في كتاب (الألماع في أصول السماع) للقاضي عياض. رأيت نسخة من هذا الكتاب في الأستانة (أيا صوفيا) وأخرى في الشام، وللقاضي عياض (الشارحة) في الحديث. أعجب به ابن الصلاح فقال:
مشارق أنوار تجلت بسبته
…
وذا عجب كون المشارق بالغرب
مشارق أنوار طلعن بمغرب
…
أنرن جميع الشرق بالطالع الغربي
فلله ما ابدي عياض فأشرقت
…
مشارقه في كل قطر بلا غرب
ومن اجل عناية آهل الأندلس برواية الشعر نبغوا في اللغة.
وحسبك ابن سيده صاحب المخصص والمحكم، وقد رأيت الجلد الأول من المحكم بخط
الجواليقي
هذا ما اقتبسته من حديث شيخنا الخالدي في هذا المجلس، أفاض فيه دون أن يرجع الى كتاب أو ورقة. وكم من مجالس للشيخ العلامة لم تدون. ولو كتبت أحاديثه ونشرت معها كتبه ونتفه في تاريخ العلم والعلماء لاستفاد المسلمون علماً واسعاً، وظفروا بما فقدوه من تاريخ أسلافهم. ولعلنا نسعد بكتابة بعض مجالسه. والله ولي التيسر
عبد الوهاب عزام
من تراثنا العلمي
تعبير الرؤيا لأبن قُتيبة
وصف وتلخيص لنسخة مم كتاب مفقود
للأستاذ علي الطنطاوي
يزاول ابن قتيبة في هذا الكتاب بأسلوبه المتين، وطريقته السوية، بحثاً هو اليوم جيد في اللغات الأوربية، لم يكد يعرفه أصحابها قبل فرويد النمساوي وأصحابه: يونج السويسري، وادلر الألماني، وبودوان الفرنسي، ورفرز الانجليزي، وهو ينفق وهؤلاء الباحثين في كثير من مسائل هذا البحث، وإنما يختلف عنهم في أنه استمد من معين النبوة، فأصاب كبد الحقيقة، وتمكن من سواء الثغرة. اتكلوا على ظنونهم، فحاموا حول الورد، وصدروا من غير ري!
والكتاب كما سترى في وصفه من الكتب الجليلة التي نرجو أن يتيح الله لها ناشراً، وهذه النسخة التي تصفها من مخطوطات (المكتبة العربية) العامرة (بدمشق)
أما تعبير الرؤيا فقد ثبت في الدين، ونطقت به السنة، وتواترت به الأخبار: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن أبى هريرة رضي الله عنه، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة واربعين جزءاً من النبوة)
وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن سَمُرةَ بن جُندب، انه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(نحن الآخرون السابقون، وبينا أنا نائم إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبرا علي وأهماني، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فطارا. فأولتهما الكذابين بين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء (أي الأسود) وصاحب اليمامة (أي مسيلمة)
والأخبار في ذلك مستفيضة
وأما ابن قتيبة، فهو الإمام العَلَم. صاحب التصانيف الجليلة: أدب الكاتب، وعيون الأخبار، وطبقات الشعراء، والميسر والقداح والمعرف وغيرها. . .
قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير سورة الإخلاص (هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة) وقال الحافظ السيوطي في البغية: (كان أبن قتيبة رأساً في العربية واللغة والأخبار وأيام الناس، ثقة ديناً فاضلاً) وقال القاضي ابن خلكان: (وان فاضلاً ثقة وتصانيفه كلها مفيدة) وقال الخطيب البغدادي: (كان ثقة ديناً فاضلاً) وقال الحافظ الذهبي: (ما علمت أحداً اتهمه في نقله) وقال ابن النديم: (كان صادقاً فيما يرويه، عالماً باللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه، والشعر والفقه، كثير التصنيف والتأليف، توفي ابن قتيبة سنة (276) وله (63) سنة
أما كتابه تعبير الرؤيا فقد ذكره ابن النديم في الفهرست في باب الكتب المؤلفة في تعبير الرؤيا، وسماه تعبير الرؤيا. وذكره أبو الطيب اللغوي في كتابه (مراتب النحويين) كما نقل الأستاذ محب الدين الخطيب في مقدمة (الميسر والقداح)
وذكره في كتاب (فهرست ما رواه عن شيوخه من الدواوين المصنفة في ضروب العلم وأنواع المعارف الشيخ أبو بكر بن خير ابن عمر بن خليفة الأموي الأشبيلي (طبع سرقسطة سنة 1893) باسم (عبارة الرؤيا) قال:
كتاب عبارة الرؤيا لابن قتيبة؛ حدثني به أبو بكر محمد بن أحمد بن طاهر رحمه الله، عن أبي علي الغساني، قال: حدثني به أبو العاصي حكم بن محمد الجذامي، عن أبي بكر أحمد بن محمد ابن إسماعيل المهندس. عن أحمد بن مروان المالكي عن ابن قتيبة
ثم ذكر لروايته طريقاً أخرى، والنسخة التي نصفها مروية من طريق أقصر وتلتقي برواية أبي بكر هذا عند أحمد بن مروان المالكي، وهذا مما يثبت صحة نسبة هذه النسخة لأبن قتيبة رحمه الله
وقال الزمخشري في (الفائق) في مادة (جنه) وهو يفسر بيت الفرزدق
في كفه جنهى ريحه عبق
…
من كف أروع في عرنينه شمم
قال القتبي (يعني ابن قتيبة) الجنهى، الخيزران. ومعرفتي بهذه الكلمة عجيبة، ذلك أن رجلاً من أصحاب الغريب سألني عنه (الجنهى) فلم أعرفه. فلما أخذت من الليل مضجعي أتاني آت في المنام، فقال لي: ألا اخبرته عن الجنهي؟ قلت: لم أعرفه قال: هو الخيزران! فسألته شاهداً، فقال:(هدية طرفنه، في طبق مجنه) فهببت وأنا أكثر التعجب، فلم ألبث إلا
يسيراً، حتى سمعت من ينشد: في كفه جنهي. . . . . . . وكنت أعرفه: في كفه خيزران.
قال في (تاج العروس) في تفسير الجنهي:
هو الخيزران رواه الجوهري، عن القتيي قال (يعني ابن قتيبة) وسمعت من ينشد: في كفه جنهي. .
والقصة التي رواها الزمخشري مروية في الورقة الخامسة عشرة من المخطوط الذي نصفه، وهذا مما يثبت صحة نسبته إلى ابن قتيبة، ومما يثبت هذه النسبة أسلوب الكتاب، فأنه لا يكاد يختلف عن الأسلوب الذي نعرفه لابن قتيبة، في تحقيقه اللغوي وتفسيره الغريب، وإكثاره من الشواهد
أما هذه النسخة فتقع في (134) صفحة من القطع الصغير في كل صفحة (15) سطراً، وهي مكتوبة بخط نسخي جميل، على ورق صقيل، ويزيد عمرها على (500) سنة
في الصفحة الأولى منها، اسم الكتاب:
كتاب عبارة الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري رضي الله عنه
وفيها كتابات أخرى، أكثرها ممحو:
من مواهب ذي الكرم على عبده رجب الأعلم اشتريته من سي يحيى الذهبي وقيل في المعاني:
ونكس الرأس أهل الكيميا خجلاً
…
وقطروا أدمعاً من بعد ما سهروا
إن طالعوا كتبه بالدرس بينهم
…
صاروا ملوكاً وان هم جربوا افتقروا
تعلقوا بجبال الشمس من طمع
…
فتى منهم قد غره القمر
ونو - الشمسي خادم - الفقير - لسنة 1209=من شهر ذي الحجة من تركة الشيخ عمر بن عبد الهادي رحمه الله
وفي الصفحة الأخيرة، هذه العبارة مكتوبة بخط الناسخ:
(آخر كتاب تعبير الرؤيا لأبن قتيبة رضي الله عنه، قابلناها على نسخة الأصل بقدر الإمكان:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد وقع الفراغ من كتابة هذه النسخة الشريفة الموسومة بكتاب عبارة الرؤيا على يد العبد الضعيف
النحيف الراجي إلى رحمة الله الباري يحيى بن محمد البخاري في عشرين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثمانمائة بدمشق المحروسة صانها الله تعالى عن الآفات والنكبات، اللهم اغفر لكاتبه ولمن نظر فيه آمين يا رب العالمين)
وفيها أسماء بعض المالكين:
دخل هذا الكتاب في نوبة العبد الفقير رجب الأعلم المجاور بمدرسة العمرية عفى عنه آمين
الحمد لله مالكه من فضل ربه الهادي، الشيخ عبد الرزاق الهادي غفر الله له آمين، كتبه الفقير ابنه محمد
ساقها الرب الهادي، إلى محمد الهادي
والنسخة مشكولة ولكنه شكل لا يعتد به، وليس في هوامشها تعليقات تذكر
رواية الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين
كتاب تعبير الرؤيا تصنيف أبي محمد عبد الله بن محمد بن مسلم ابن قتيبة
قرأت على الشيخ الصالح أبي الحسن عبد الباقي بن فارس بن أحمد المقري المعروف بابن أبي الفتح المصري، أخبركم أبو حفص عمر بن محمد بن عراك الحضرمي قراءة عليه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان قال أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن مسلم بن قتيبة الدينوري، قال:
مقدمة الكتاب:
الحمد لله الذي رفع منار الحق، وأوضح سبيل الهدى، وقطع عذر الجاحدين، بما أشهدنا من صنعته الظاهرة، وآياته الباهرة وأعلامه الدالة عليه، وآثاره المؤدية إليه. في كل ماثل للعيون. من فلك دائر، وكوكب سائر، وجبال راسيات، وبحار طاميات ورياح جاريات، وفُلك في البحر مسخرات بأمره الخ. .
(قال) حدثني محمد بن عبيد، عن. . . . عن. . عن أم كرز الكعبية قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وحدثني محمد بن زياد عن. . .
عن. . . . عن عروة أنه قال في قوله الله عز وجل: (لَهُم البُشرى في الحياة والدنيا وفي الآخرة) قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له
(قال أبو محمد) وليس فيما يتعاطى الناس من فنون العلم، ويتمارسون من صنوف الحكم، شيء هو اغمض والطف، واجل واشرف، وأصعب مراداً وأشكالاً، من الرؤيا، لأنها جنس من الوحي، وضرب من النبوة الخ. . . ولأن كل علم يطلب فأصوله لا تختلف، ومقاييسه لا تتغير، والطريق إليه قاصد، والسبب الدال عليه واحد، خلا التأويل: فان الرؤيا تتغير عن أصولها باختلاف أحوال الناس في هيئاتهم، وصناعاتهم وأقدارهم، وأديانهم، وهممهم، وإراداتهم. وباختلاف الأوقات والأزمان فهي مرة مثل مضروب يُعبر بالمثل والنظير، ومرة تنصرف عن الرائي لها إلى الشقيق أو النظير أو الرئيس، ومرة تكون أضغاثاً
ولأن كل عالم بفن من العلوم، يستغني بآلة ذلك العلم لعلمه، خلا عابر الرؤيا: فانه يحتاج إلى أن يكون عالماً بكتاب الله عز وجل وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم. ليتعبرهما في التأويل.
وبأمثال العرب، والأبيات النادرة، واشتقاق اللغة، والألفاظ المبتذلة عند العوام، وأن يكون مع ذلك أديباً لطيفاً ذكياً، عارفاُ بهيئات الناس وشمائلهم وأقدارهم وأحوالهم، عالماً بالقياس حافظاً، ولن تغنى عنه معرفة الأصول، إلا أن يمده الله بتوفيق، يسدد حكمه للحق، ولسانه للثواب، وأن يحضره الله تعالى تسديده، حتى يكون طيب الطعمة، نقياً من الفواحش، طاهراً من الذنوب، فإذا كان كذلك، أفرغ الله عليه من التوفيق ذَنوباً، فجعل له من مواريث الأنبياء نصيباً
وسأخبرك عن كيفية الرؤيا، بالاستدلال على ذلك من كتاب الله والحديث، إذ كنت لم أجد فيه مقالاً كافياً لإمامٍ متبع، وأقدم قبل ذلك ذكر النفس والروح، إذ كنت لا تصل إلى علم كيفيتها إلا بمعرفتهما، وفرق ما بينهما. وعلى الله أتوكل فيما أحاول واستعين
(الى أن قال) وفد اختلف الناس في النفس والروح، فقال بعضهم، هما شيء واحد يسمى باسمين، كما يقال، إنسان ورجل، وهما الدم أو متصلان بالدم، يبطلان بذهابه، والدليل على ذلك، أن الميت لا يٌفقد من جسمه إلا دمه، واحتجوا لذلك أيضاً من اللغة: بقول العربي: نُفِست المرأة (إذا حاضت) ونَفِست (من النفاس) وبقولهم للمرأة، عند ولادتها: نٌفَساء،
لسيلان النفس وهو الدم. ويقول ابراهيم النخعي: كل شيء ليست له نفس سائلة لا ينجس الماء - الخ. . .
البقية في العدد القادم
علي الطنطاوي
12 - محاورات أفلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
- أو ليس البواسل من الرجال يحملون الموت، لأنهم يخشون ما هو أعظم من الموت شراً؟
- هذا صحيح
- إذن فكل الناس ما خلا الفلاسفة شجعان، إلا إنها شجاعة من الخوف والوجل. وإنه لعجيب ولا شك أن يكون الرجل شجاعاً لأنه مذعور جبان!
- صحيح جداً
- أو ليس هذا بعينه شأن المعتدلين؟ إنهم معتدلون لأنهم مفرطون - قد يبدو ذلك متناقضاً، ولكنه مع ذلك هو ما يحدث في هذا الاعتدال الأحمق - فهناك من اللذائذ ما يحرصون على تحصيلها ويخشون ضياعها، فهم لذلك يتعففون عن نوع من الملذات لأن نوعاً آخر قد استولى عليهم، وإذا عرِّف التفريط بأنه:(الخضوع لسلطان اللذة) فانهم لا يقهرون لذة، ألا لأن لذة تقهرهم، وذلك ما أعنيه بقولي إنهم معتدلون لأنهم مفرطون
- يظهر أن ذلك حق
- ومع ذلك، فليس من الفضيلة استبدال خوف أو لذة أو ألم بخوف آخر أو لذة أو ألم، وهي متساوية كلها، أكبرها بأصغرها، تساوي النقد بالنقد. أي عزيزي سمياس، أليس في النقد قطعة واحدة صحيحة هي التي ينبغي أن تستبدل بالأشياء جميعاً؟ - وتلك هي الحكمة، ولن يشرى شيء بحق أو يباع، شجاعة كان أم عفة أم عدلُ، غلا إن كان للحكمة ملازماً، وإلا إن كانت هذه الحكمة له بديلاً. ثم أليست الفضيلة الحق بأسرها رفيقة الحكمة، بغض النظر عما قد يكتنفها من المخاوف واللذائذ أو ما إليهما من لخيرات أو الشرور؟ إلا أن الفضيلة التي يكون قوامها هذه الخيرات التي تأخذ في استبدال بعضها ببعض بعد أن تكون قد انفصلت عن الحكمة، ليست من الفضيلة إلا ظلها، ولا يكون فيها من الحرية أو العافية أو
الحقيقة شيء، أما التبادل الحق فيقضي أن تمحي هذه الأشياء محواً، وما ظهورها إلا العدل والشجاعة والحكمة نفسها. وإني لأتصور أن أولئك الذين أنشأوا الاسرار، لم يكونوا مجرد عابثين، بل قصدوا إلى الجد حينما عمدوا إلى شكل فرمزوا به إلى أن من يمضي إلى العالم الأسفل دنساً جاهلاً سيعيش في حمأة من الوحل، أما ذلك الذي يصل إلى العالم الآخر بعد التعليم والتطهير فسيقيم مع الآلهة. وكما يقولون في الأسرار:(كثيرون هم من يحملون عصا السحر، أما العالمون بالسحر فقليل) وهم يريدون بهذه العبارة فيما أرى، الفلاسفة الحق، الذين أنفقتُ حياتي كلها أبحث بينهم لعلي أجد مكاناً، ولست أشك في أني عندما أبلغ العالم الآخر، بعد حين قصير، سيأتيني إن شاء الله علم يقين، عما إذا كنت قد التمست في البحث سبيلاً قويمة أم لا، وإن كنت قد أصبت التوفيق أم لم أصبه. أي سمياس وسيبس، لقد أجبت بهذا على أولئك الذين يؤاخذونني بعدم الحزن أو الجوع لفراقكم وفراق سادتي في هذا العالم، فقد أصبت بعدم الخوف لأنني اعتقد أنني سأجد في العالم الأسفل أصدقاء وسادة آخرين، يعدلونكم خيراً، ولكن الناس جميعاُ لا يسيغون هذا، وإنه ليسرني أن تصادف كلماتي عندكم قبولاً أكثر مما صادفت عند قضاة الأثينيين
- أجاب سيبيس - إني موافقك يا سقراط على معظم ما تقول، ولكن الناس أميل الى عدم التصديق فيما يتصل بالروح. إنهم، يخشون ألا يكون لها مستقرٌ إذا ما فصلت عن الجسد، وإنها قد تذوى وتزول في يوم الموت ذاته - فلا تكاد تتحلل من الجسد حتى تنطلق كالدخان أو الهواء، ثم تتلاشى في العدم. فلو قد تستطيع أن تتماسك أجزاؤها، وأن تظل كما هي بعد أن تكون قد خلصت من شرور الجسد، لرجونا يا سقراط، محقين فيما نرجو، أن ما تقوله حق، ولكنا بحاجة الى كثير من الإقناع ووفير من الحجج، لإثبات انه إذا مات الإنسان فروحه تظل مع ذلك موجودة، وتكون على شيء من قوة الذكاء
- فقال سقراط - هذا حق يا سيبيس، فهل لي أن أقترح حديثاً قصيراً عما يحتمل لهذه الأشياء من وجوه؟
- قال سيبيس - لست أشك في أني شديد الرغبة في معرفة رأيك عنها
- فقال سقراط - لا أحسب أن لأحد ممن سمعني الآن، حتى ولو كان أحد أعدائي القدماء من الشعراء الهازلين، أن يتهمني بالخبط في الحديث عن موضوعات لا شأن لي فيها.
فأذنوا إن شئتم بأن نمضي في البحث
إن مشكلة أرواح الناس بعد الموت: أهي موجودة في العالم الأسفل أم غير موجودة، يمكن مناقشتها على هذا النحو: يُؤكد المذهب القديم الذي كنت أتحدث عنه، إنها تذهب من هذا العالم الى العالم الآخر، ثم تعود إلى هنا حيث تولد من الميت، فان صح هذا وكان الحي يخرج من الميت، للزم أن تكون أرواحنا في العالم الآخر، لأنها إن لم تكن، فكيف يمكن لها أن تولد ثانياً. إن هذا القول حاسم، لو كان ثمت شاهد حقيقي على أن الحي لا يولد إلا من الميت، أما إذا لم ينهض على هذا دليل، فلا بد من سوق أدلة أخرى
فأجاب سيبيس - هذا جد صحيح
- إذن فدعنا نبحث هذه المسألة، لا بالنسبة إلى الإنسان وحده، بل بالنسبة إلى الحيوان عامة، وإلى النبات، وكل شيء يكون فيه التوالد، وبذلك تسهل إقامة الدليل. أليست كل الأشياء التي لها أضداد تتولد من أضدادها؟ أعني الأشياء التي كالخيِّر والشرير، والعادل والجائر - وهناك من الأضداد الأخرى التي تتولد من أضدادها، عدد ليس إلى حصره من سبيل، وإنما أريد أن أبرهن على أن صحة هذا القول شاملة لما في الكون من أضداد، أعني مثلاً أن أي شيء يكبر، لابد أنه قد كان أصغر قبل أن أصبح أكبر
- صحيح
- وأن أي شيء يصغر، لابد أنه قد كان يوماً أكبر ثم صار أصغر
- نعم
- وأن الضعف يتولد من الأقوى والأسرع من الأبطأ
- جد صحيح
- والأسوأ من الأحسن، والأعدل من الأظلم؟
- بالطبع
- وهل هذا صحيح عن الأضداد كلها؟ وهل نحن مقتنعون بأن جميع الأضداد ناشئة من أضداد؟
- نعم
- ثم أليس ثمت كذلك في هذا التضاد الشامل بين الأشياء جميعاً، فعلان أوسطان، لا ينفكان
يسيران من ضد الى الضد الآخر جيئة وذهاباً؛ فحيث يوجد أكبر وأصغر، يوجد كذلك فعل متوسط بينهما، يعمل للزيادة والنقصان، ويقال للشيء الذي ينمو إنه يزيد، وللشيء الذي يتناقص إنه يذوي
فقال - نعم
- وهناك غير ذلك عمليات كثيرة أخرى، كالتجزئة والتكوين والتبريد والتسخين، التي تضمن تساوياً بين ما يخرج من شيء وما يضاف الى شيء آخر. أليس ذلك صحيحاً بالنسبة الى الأضداد كلها، حتى ولو لم يعبر عنها باللفظ دائماً - فهي تتولد الواحد من الآخر، وثمت انتقال، أو فعل، بين بعضها وبعض
- فأجاب - هذا جد صحيح
- جميل، أفليس هناك ضد للحياة، كما أن النوم ضد اليقظة؟
- فقال - بل هذا حق
- وما هو ذاك؟
- فأجاب - هو الموت
- فان كان هذان ضدين، فهما متولدان إذن. أحدهما من الآخر، وبينهما كذلك فعلان أوسطان.
- بالطبع
(يتبع)
زكي نجيب محمود
من صور التاريخ السلامي
الفردوسي
للأستاذ عبد الحميد العبادي
تتمة
بينت في مقالي السابق السبب الذي من أجله يكبر الفرس الفردوسي ويعدونه شاعرهم القومي فقلت إن الفردوسي بنظمه (كتاب الملوك) الذي يضم بين دفتيه تاريخ الفرس الأقدمين وأساطيرهم وآدابهم، قد أمد القومية الفارسية واللغة الفارسية الحديثة، بمد قوى، رسم للأولى حدوداً واضحة، وشرع للثانية منهجاً ظلت تسير فيه حتى يومنا هذا؟ والفردوسي بهذا الصنيع الجليل قد هيأ السبيل لظهور فارس الحديثة ذات الشخصية البارزة في تاريخ الشرق الحديث
ولكن ما السبب في أن شعوباً أخرى غير الفرس تحفل بالفردوسي وتجله، ولم تتحاش أن تعلن ذلك الاحتفال بذكراه الألفية؟ وجواب هذا السؤال موضوع هذا المقال
يعد الفردوسي عند علماء الأدب ونقاده شاعراً قصصياً من شعراء الطبقة الأولى، فهو في مرتبة هوميروس ودانتي وملتن. والشاعر القصصي العظيم هو الذي ينشئ ملحمة أي منظومة قصصية طويلة بليغة يعتبرها قومه غرة أدبهم. وحفظ هذه المنظومة من الذيوع والانتشار يتوقف على نوع موضوعها. فإذا كان الشاعر قد اخترع الموضوع اختراعاً وتخيله تخيلاً ثم أفرغ عليه بعد ذلك ثوب بلاغته وقوة تصويره فهي ملحمة محدودة الذيوع، يقبل على قراءتها خاصة الأدباء والمثقفين وأساتذة الأدب في الجامعات. ومن هذا الصنف (المهزلة) لدانتي و (الجنة المفقودة) لملتن. أما إذا ألف الشاعر موضوعه من الحكايات الشائعة في قومه، وأساطيرهم التي يعتقدونها، وأغانيهم التي يتغنون فيها بذكر ما اختلف عليهم من الأحداث، ثم عرض ذلك كله عرضاً شعرياً قوياً بليغاً، وكان في ذلك فيلسوف النظرة يتناول العالم من ثنايا الخاص فيصور العالم وهو يصور قطعة منه محدودة، ويصف الطبيعة البشرية وهو يصف قبيله ومعشره، ويتناول الزمن وهو يتناول برهة منه، إذا فعل الشاعر ذلك فقد كتب لملحمته الذيوع والخلود. وسرعان ما يحل الحديث الموفق
المحكم محل القديم المبعثر المتفرق، فتنسخ الملحمة الجديدة الحكايات القديمة، وتأخذ مكانها من قلوب الأمة التي تصور فعالها، وعلى مر الزمن تنفذ الملحمة من حدود المحلية والإقليمية وتشيع في أنحاء العالم المتمدين وتستحيل أثراً أدبياً عالمياً. وأشهر ملاحم هذا النوع، الألياذة والشاهنامة التي نحن بصدد الكلام عليها
والشاهنامة تسترعي اهتمام غير واحد من خاصة المتأدبين فاللغوي يطالع فيها صفحة واضحة من تاريخ اللغة الفارسية الحديثة، والاجتماعي يجد فيها عوناً على تصور المجتمع الفارسي القديم، ومعرفة أخلاق القوم وعادتهم ومواضعاتهم، والمعنى بالأساطير القديمة ينتفع بها انتفاعاً جماً في دراسة الميثولوجيا الإيرانية والمقارنة، ومؤرخ الأديان يستخلص منها صورة مجملة لعقائد الإيرانيين القدماء، والمؤرخ السياسي يرجع إليها في دراسة النظم الفارسية القديمة ويجد فيها صدى قوياً لعلاقة الفرس بمن جاورهم من الأمم وخاصة الهند والترك والعرب. والفنان الذي تستهويه بلاغة العبارة ودقة المعاني وقوة التصوير يرى في الشاهنامة مُثلاً عُليا لكل ذلك.
فالفردوسي يعرج في سماء البلاغة حتى يسامي النجم، وهو في الوقت نفسه يخاطب الناس بمألوف حديثهم ومتعارف معانيهم، ثم هو وصاف مبدع، إذا تصدى لوصف واقعة حربية أراك ميدان القتال، وجلا على عينك ما يجري فيه من كر وفر، وهجوم وتحيز، وأراك السيوف تلمع، والحراب تشرع، وأسمعك تصايح الكماة، وصهيل الخيل، وأنين الجرحى، وصور لك ظفر الغالب وهزيمة المغلوب. فإذا انتقل إلى وصف مجلس من مجالس الدعة والأنس مثل لعينك أسباب السرور ودواعيه وأدواته، ونقل إليك ما يشيع في المجلس من صفاء النفوس، واختلاط القلوب، فإذا أراد تصوير العاطفة البشرية أراك حنو الأم، وعطف الأب، وله العاشق، ووفاء الزوجة وإخلاص الصديق. لقد أدرك الفردوسي قوام الفن وملاكه، أدرك معنى الجميل ومعنى الجليل، وعرف كيف يعبر عنهما
على أن الناحية الأخلاقية من الشاهنامة هي عندي أهم نواحيها وأبعثها على التقدير العام بها. فالفردوسي لم يقصد إلى أن يكون مؤرخاً، ولا إلى إظهار بلاغته بمقدار ما قصد إلى أن يكون كتابه كتاب أدب وحكمة وتهذيب، نلحظ ذلك في الجانب التعليمي من كتابه، فالفردوسي لا يبرح واعظاً ومرشداً وهادياً، سالكاً حينا طريق الحقيقة وحينا طريق المجاز،
ونلحظ ذلك القصد أيضاً في خلو الشاهنامة خلواً مطلقاً من الألفاظ والمعاني التي ينبو عنها الأدب والذوق السليم. . . بهذه المزية يصح القول بأن (كتاب الملوك) كتاب يتأدب بمطالعته الناس في كل زمان وكل مكان، وإذا كانت (الألياذة) تنمي فينا عاطفة الحياء والغضب للحق، وفضيلة الإيثار والانتصار للضعيف، وإذا كانت (مهزلة) دانتي تعرفنا بطريقتها الرمزية أي أساليب الحياة يؤدي في الآخرة إلى الثواب وأيها يؤدي الى العقاب، وإذا كانت (الجنة المفقودة) تقوي الروح الديني في نفس القارئ، فإن الشاهنامة ترمي إلى تهذيب النفس وتكميلها
وفلسفة الشاهنامة الأخلاقية تقوم على أربعة أمور عظام: الأيمان، والواجب، وطهارة القلب، والزهد
والأيمان عند الفردوسي ليس ذلك الشعور الذي يخالط ضعفاء النفوس وخورة الطباع، ولكنه إيمان الأبطال والملوك.
فالفردوسي يتعمد أن يظهر أبطاله وملوكه عند استكمالهم أسباب العزة والجبروت في مظهر النقص والافتقار إلى عون الله ومدده مبالغة منه في توكيد ضرورة الإيمان في الحياة، ورغبة منه في كبح جماح النفوس الطاغية، وكسر شرة القلوب العاتية. ولنمثل لذلك من الشاهنامة نفسها: فعندما خرج الملك (كيخسرو) إلى قتال (أفراسياب) انتقاماً لمقتل ابنه (سيا وخسر) جعل يدعو الله أن ينصره على عدوه. تقول الشاهنامة (وبعد ذلك اغتسل الملك كيخسرو ودخل متعبداً لهم، وجعل طول ليلته يتضرع إلى الله تعالى ويبتهل ويعفر خده بالتراب ويستنصره على أفراسياب، ويستعين به عليه، فقطع ليلته تلك بالسجود لله تعالى والدعاء، فلما انتصر على خصمه وفر خصمه من وجهة وأعياه طلابه رجع إلى الله يستعينه ويستهديه). تقول الشاهنامة (فاغتسل ذات ليلة وأخذ كتاب الزند وخلا بنفسه في مكان خال ولم يزل طول ليلته ساجداً لله تعالى يبكي ويتضرع إليه سبحانه ويقول (إن هذا العبد الضعيف الموجع الجسم والروح طاف الدنيا، فسلك رمالها وقفارها، وقطع جبالها وبحارها، طالباً لأفراسياب الذي أنت تعلم أنه سالك غير طرق السداد، وسافك بغير الحق دماء العباد، وأنت تعلم أني لا أقدر عليه إلا بحولك وقوتك، فمكني منه. وإن كنت عنه راضياً، وأنت تعلم ولا أعلم، فاصرفني عنه، وأطفئ من قلبي ثائرة عداوته وقف بي على
سواء الطريق والنهج القويم) وعندما غمر الثلج أسفنديار وأصحابه في طريق (هفنجوار) الوعر الشاق ووجد ذلك البطل المغوار نفسه أمام قوة لا قبل له بها لم يسعه إلا أن يسلم أمره إلى الله تعالى فتقول الشاهنامة (فبينا هم كذلك إذ أظلم الجو واشتدت الريح، ونشأت سحابة أبرقت وأرعدت وأطبقت عليهم ثلاثة أيام بلياليها، تهيل عليهم الثلج هيلاً، حتى امتلأت الأودية، فصاح اسفنديار. . وقال: قد اشتد علينا الأمر وليس ينفعنا الآن رجولة ولا قوة. والرأي أن نلجأ إلى من لا ملجأ منه إلا إليه، فانه الكاشف للضر والقادر عليه. فاجتمعوا ورفعوا أيديهم وتضرعوا إلى الله تعالى مبتهلين، ودعوه دعوة الصادقين، فسكت الهواء وانجلت السماء)
والأصل الثاني من أصول الفلسفة الأدبية (لكتاب الملوك) القيام بالواجب: الشاهنامة تعني بهذا الأصل الذي هو قوام الحياة اليومية أتم عناية. فأعظم ملوك الشاهنامة أقومهم بواجبه، وواجب الملك في رعيته العدل، والحلم، والسخاء، وترك الاستبداد فإذا ما حاد الملك عن هذا السنن (جفت الألبان في الضروع، ولم يأرج المسك في النوافج، وشاع الزنا والربا في الخلق، وصارت القلوب قاسية كالحجر الصلد، وعاثت الذئاب وضريت بالأنس، وتخوف ذوو العقول من ذوي الغواية والجهل،) وعهد كسرى أنوشروان لابنه هرمز حافل بتلك الآداب السلطانية التي تنص صراحة على ما يجب على الملك نحو نفسه ونحو رعيته
وبطولة أبطال الشاهنامة تستند إلى شعورهم القوي بالواجب. أنظر كيف لبي رستم طلب (جًيْو) إنقاذ ابنه (بيثرن) وكان مقيداً مغلولاً في مطمورة مظلمة بأرض طوران. وقوله له (لا تهتم فإني لا أحط السرج عن الرخس حتى آخذ بيج بيثرن وأضعها في يدك) وانظر خطاب جيو للملك كيخسرو (أيها الملك! إن أمي ما ولدتني إلا لطاعتك، وتحمل المكاره فيما هو سبب راحتك. وهأنذا أشد وسطي في امتثال أمرك، ولا أسألك إلا سبيل خدمتك ولو أمطر الهواء على ناراً، وتحولت الأشفار في عيني شفاراً) وقول (اكشهم) لبيثرن وهو يجود بروحه (أيها الحبيب النافج لا تحمل على نفسك كل هذا، فانه أشد علي مما أنا فيه. واستر جراح رأسي بالترك، واجتهد في حملي الى حضرة الملك، فان قصارى بغيتي، وغاية أمنيتي، أن أتزود منه بنظرة، وأقر عيني بطلعته ولو لحظة، وإذا مت بعد ذلك مت وليس في قلبي حسرة، فإني لم ألد إلا للموت، ومن أدرك أمله فكأنه لم يمت، وأيضاً تجتهد
فلعلك تستطيع أن تحمل هذين العدوين للذين أهلكهما الله على يدي إلى المعسكر، وأن لم تقدر فاحمل رءوسهما وعدتهما حتى تعرضها على الملك، ليعلم أني ما هلكت في غير شيء)
وروعة شخصية المرأة في الشاهنامة تقوم على وفور حضها من الأنوثة والوفاء لزوجها، يدل على ذلك نواح (ثهمينة) على ابنها (سهراب) ووفاء (منيزة) لزوجها (بيتزن) في محنته مع إن أباها كان المسلط على عذابه
وكما تفرض الشاهنامة القيام بالواجب من حيث هو فضيلة أساسية للحياة الفاضلة فإنها تدل بالأمثلة المحسوسة والوقائع المادية كيف يؤدي الواجب. فينبغي أن نؤدي الواجب محلى بأحسن آداب السلوك من جد ورفق، وسهولة خلق، وضبط نفس، ورقة شمائل، ولا أدل على ذلك من الحوار الذي دار بين بطلي الشاهنامة (رستم) و (اسفنديار) عندما لج بهما اللجاج وحمى الخصام، فهو حوار ينم عن نبل خلق وسراوة نفس. وقد بلغ من دقة حس الفردوسي ورقة قلبه أن أوجب علينا الوفاء لمن أحسن إلينا ولو كان حيواناً أعجم. أنظر بأي قلب وأية شمائل يخاطب رستم الغزالة التي كان طرده لها سبباً في وقوعه على عين ماء روي منها بعد أن كاد يهلك عطشاً، فهو يخاطبها بقوله:(لا زلت يا غزالة الريف، تفيئين الى الظل الوريف، وتكرعين في الزلال المعين، وتتقلبين بين الورد والياسمين، وأيما قوس راعك أنباضه: فلا زالت متقطعة أوتاره، فانك سددت رمقي وشفيت غلتي)
والأصل الثالث من أصول فلسفة الشاهنامة الأدبية طهارة القلب؛ والفردوسي يحثنا في غير موضع من كتابه على أن ننفي عن قلوبنا أدواء الحقد والحسد والضغينة. يقول رستم لاسفنديار: (. . . . . . . وطهر قلبك بفضيلة الرجولة من دنس الداء الدفين) والفردوسي لا يكتفي بأن يندب قارئه الى تطهير قلبه، بل لقد يتولى هو بنفسه ذلك مستخدماً في ذلك طريقه العرض الدرامي التي نلحظها في أكبر الملاحم والقصص. نلحظها في آثار هوميروس، وسفوكليس، واسخيلوس، وشكسبير، وملتن، ودستويفسكي. وذلك أن يعمد الشاعر الى حادث رائع مفظع، فيعرضه عرضاً فنياً قوياً، فيهز قلب القارئ ويمخضه، فيكون ذلك منه بمنزلة الدواء المر يتجرعه المريض على مضض، ولكنه تكون فيه سلامته من علته؛ وقد بلغ الفردوسي بسلوك هذه الطريقة أسمى غايات الفن، وأتى من رائع
القصص ما يشغف القلب حسنه، ويسحر اللب بيانه. انظر كيف يعرض قصة قتل رستم ابنه سهراب على غير علم منه بأنه ابنه! تقول الشاهنامة:(. . . . ثم تناوشا الحرب، وتطاعنا حتى انتثرت كعوب رماحهما، فاستل كل واحد منهما سيفه، وتضاربا، وكأن النار تمطر من سيوفهما، ولم يزالا حتى تكسرت سيوفهما، فمدا أيديهما الى عموديهما، ورفعاهما، وجعلا يتضاربان ويتقارعان حتى تمزقت الأدراع الموضونة على أكتافهما، وتقطعت التجافيف على خيلهما، فضعفا، ووقف دوابهما، وبقيا من العرق غريقين، ومن العطش محترقين، فوقف الأب من جانب، والابن من جانب آخر، ينظر أحدهما الى الآخر. فيا عجبا! كيف انسدت دونهما أبواب التعارف، ولم تتحرك بينهما عروق التناسب؟ والأبل من غلظ أكبادها، تعطف على أولادها، والطيور في جو السماء، والحيتان في قعر الماء، لا تنكر أولادها وأفراخها! والإنسان من فرط حرصه تخفى عليه فلذة كبده ويستنكر قرة عينه ولا ينزع الى ولده!)
ثم يقول رستم: (لم أر قط قتالاً بهذه الصفة، ولقد انقطع رجائي من رجولتي) فإذا ما استأنفا القتال، قال سهراب لرستم وهو يجهل أنه أبوه:(إني أرى أن نخلع الجوشن، ونطرح السيف، ونكف عن القتال، فإن قلبي يميل كل الميل إليك، وإن وجهي ليغمره الحياء منك) ولكن يخيب رجاه، ويعود الأب وابنه الى المبارزة، فيتغلب الأب ويصرع ابنه، ويجثم على صدره، ثم يذبحه ذبحاً، ثم يتبين له، وقد سبق السيف العزل، أنه إنما ذبح ابنه، فيشق جيبه، ويضرب صدره، وينتف شعره، ويندب ولده، ويحاول استنقاذه من براثن الموت فيعجزه ذلك؛ ويموت سهراب، فتتقد لوعة الحزن في صدر رستم، ويصيح من فرط العذاب:(من الذي أصيب بمثل ما به أصبت؟ ومن الذي فجع بمثل ما به فجعت؟ قتلت ولدي حين شاب رأسي وانقضى عمري!)
إن القارئ ليتابع مشاهد هذه القصة وقلبه يتوثب في صدره فرقاً وذعراً. فإذا بلغ الى الكارثة الأخيرة فقد لا يملك دمعه أسى وحزناً، وهذا الذي قصد إليه الشاعر رغبة منه في أن يمكن فيه لعاطفتي الحنو والرحمة
ولا يقف الفردوسي عند هذا الحد من تطهير قلب قارئه، بل يجتهد في أن يروض من نفسه ويكبح من جماحها بأن يجلو لها تقلب هذه الدنيا، وتصرف أحوالها بالناس تصرفاً قد يسوء
ضعاف النفوس، ولكنه لا ينال من ذوي النفوس القوية منالاً وهو على عادته يعمد الى أقوى شخصياته فيجعلها مناط فلسفته رامياً بذلك الى أن نأخذ الدنيا كما هي فنفرح بها إذا أقبلت في غير اغترار بها؛ ولا نأسى عليها إذا هي أدبرت. وإن فلسفته من هذه الناحية لترجع فلسفة الرواقيين الذين يريدوننا على أن نتجرد من العاطفة جملة، فلا نفرح ولا نحزن، ولا نغضب ولا نعتب. انظر كيف يصف الشاعر مصير الملك أفراسياب عندما قلب الزمان له ظهر المجن، وتجهم له وجه القدر، فآل أمره الى أن وقع أسيراً في يد رجل عابد فشد وثاقه واضطره الى أن يخاطبه بقوله (أيها العابد! ما تريد من رجل اختفى في مغارة ضيقة) فلما عنفه العابد على ما احتقب من أوزار قال (بهذا جرت على أقلام قضاة الله في الأزل، ومن المعصوم في هذه الدنيا الغدارة من الزلل؟) وإن مصير الملك دارا واغتيال عبديه له تقرباً بدمه الى الاسكندر ليجري مجرى حديث أفراسياب من حيث الدلالة على تقلب الدنيا، وهي تربنا الفردوسي جبرياً يرى أن الإنسان لا يملك لنفسه مع القدر نفعاً ولا ضراً
وإذا كان ذلك دأب الدنيا، فحليق بالعاقل أن يرفضها ويزهد فيها. والزهد في الدنيا هو الأصل الرابع من أصول فلسفة الشاهنامة الأخلاقي، والفردوسي لا يألو جهداً في صرف قلوبنا عن أن تفتن بالدنيا ولكن في غير اخلال بالواجب الذي يفرضه علينا وجودنا فيها. انظر إلى تصويره الحال المعنوية على الملك كيخسرو عندما انقبضت نفسه، وأزمع التخلي عن الملك، والذهاب في الأرض، فقد عهد إلى ابنه، وودع أكابر الدولة (ثم سار. . . وصحبه رءوس الإيرانيين. . . إلى أن صعد إلى جبل، فأقاموا عليه أسبوعاً، وخرج في أثره نساء الإيرانيين ورجالها زهاء مائة ألف نفس، يبكون ويضجون حتى طن بصياحهم وعويلهم السهل والجبل. ثم بعد أسبوع أشار الملك على الأكابر والسادات بالانصراف من ذلك المكان وقال: إن أمامنا طريقاُ صعباً لا ماء فيه ولا عشب، فانصرف دستان، ورستم وجوذرد، ولم ينصرف عنه الباقون، فسار الملك، وساروا معه حتى وصلوا إلى ماء، فنزلوا هناك، وقال لهم الملك: إذا طلعت الشمس غداً حان وقت المفارقة، فباتوا ليلتهم عند العين. ولما كان الثلث الأخير من الليل، قام الملك ودخل العين، واغتسل ثم ودعهم إلى إيران، ولما طلعت الشمس ركب الملك، وغاب عن أعينهم)
وحديث الاسكندر الملك الشاب الفاتح الطموح مع أهل مدينة البراهمة المنقطعين عن الدنيا، والراضين منها بأيسر أمرها يرى إلى أي حد يذهب الفردوسي في تقرير فلسفته القائمة على العزوف عن الدنيا وعدم الركون إليها
وبعد، فأرجو أن أكون قد بينت للقارئ السبب في تقدير غير الفرس للفردوسي وللشاهنامة، وأختم هذا البحث بأن أنبه على أن مظهر هذا التقدير قديم، فقد ترجم الفتح بن علي البنداري الشاهنامة إلى العربية الفصحى في أوائل القرن السابع الهجري، وأن الشاهنامة قد نقلت إلى أشهر اللغات الأوربية الحديثة، وأن بعض هذه التراجم في غاية الدقة والعناية والإتقان
عبد الحميد العبادي
10 - بين القاهرة وطوس
طهران الى قم واصبهان
للدكتور عبد الوهاب عزام
أوى الركب الى الفندق متعباً، وجمعتُ التعب والمرض، وكان وزير المعارف والعلامة بديع الزمان قد كلماني والأستاذ العبادي في إلقاء محاضرة في مدرسة سبهسلار بعد الإياب من مشهد، فعدنا الى طهران وإذا رقاع الدعوة قد أرسلت، وإذا الجرائد تخبر بأني سألقي محاضرة في مدرسة سبسهلار والساعة ست من يوم الخميس. فأصبحت في شغل من هذا الأمر أجهد للوفاء بالوعد، فإذا جسم علل وصوت مبحوح، فكلمت الأستاذ بديع الزمان معتذراً، فجاء الى الفندق هو ورئيس المدرسة وطلبا من الأستاذ العبادي أن يقول كلمة، فوعدهما، ووعدتهما أن أكون طوع أمرهما إن رزقت العافية، وإلا أرسلت كلمة تقرأ على الحاضرين فلما دنا الموعد أجاب الأستاذ العبادي الدعوة، وأرسلت كلمتي مع السيد صالح الشهرستاني مكاتب البلاغ في طهران، فقرأها على الجمع، وكان موضوعها موقف المسلمين من مدينة أوربا، وما يلزمهم من الاستمساك بسنتهم، وأخذ الحذر أن يفتتنوا فيقلدوا فيضلوا. وتكلم الأستاذ العبادي في العلائق التاريخية بين مصر وإيران، وقد قرأت في الجرائد الإيرانية بعد العودة الى مصر وصف الاحتفال وترجمة الكلمتين، وخطبة الأستاذ بديع الزمان في مكانة اللغة العربية بين الفرس. وقد نشرت جريدة البلاغ الخطب الثلاث، كما نشرت بياناً وافياً عن حفلات الفردوسي كلها
وكان في خطة وفود الفردوسي الذهاب الى أطلال مدينة الري وهي على مقربة من طهران، فتخلفت مكرها أسفاً، ويوم الجمعةُ جلنا في المدينة، فاشترينا من الكتب والاسطوانات (والإيرانيون يسمونها الصفحات. وهي تسمية أقرب الى الحقيقة واللغة) وزرنا المفوضية المصرية مودعين ثم خرجنا الى دار على أصغر خان المعروف في طهران باسم المصري، وهو أخو حسن بك اليزدي التاجر الكبير بالقاهرة، وكان يحتفل بختان أنجاله، فجلسنا في جماعة من الفضلاء، واستمعنا للمرة الثانية الى غناء المطربة ملوك خانم، واقترحت أن تسمعنا الأغنية المطربة:(مرغ سحر ناله سركن) لنودع طهران على هذه النغمات الحزينة، ثم تحدثت المغنية، فإذا هي تعرف أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب
وتدلي برأيها بينهما، فقلنا هذا كلام ملوك. قالت نعم. وكلام الملوك ملوك الكلام. فانظر كيف يعني الإيرانيون نساء ورجالاً باللغة العربية عناية آبائهم من قبل. ثم استأذنا في القيام لنأخذ أهبتنا للسفر الباكر صباح الغد
برحنا طهران والساعة عشر من صباح السبت حادي عشر رجب (20 أكتوبر) أنا والأستاذ العبادي في سيارة مفردة، وهو أول سفر لنا في إيران منفصلين عن وفود الفردوسي؛ سافر جماعة من طريق الشمال، وآخرون طريق بغداد أدراجهم، وجماعة آثروا المقام في طهران يوماً أو يومين، وكانت نيتنا اصبهان، وبينها وبين طهران تسع ساعات بالسيارة، وقد تقدمنا بمدة يسيرة الشاعر الإنكليزي درينك ووتر
وقفنا بعد أربعين دقيقة على قرية، فرُئيت جوازات السفر، وكذلك طُلبت الجوازات في كل مدينة مررنا بها، حين ندخلها وحين نخرج منها حتى رجعنا إلى همذان على طريقنا الأولى من بغداد إلى طهران. وذلك أن هذه الطريق كانت طريق الوفود في ذهابهم وإيابهم فيُسر لهم السير وأعفوا من مراسم السفر في إيران
وبعد الظهر بقليل نزلنا في محطة على الطريق اسمها منظرية فدخلنا بستاناً فيه أشجار رمان فأكلنا واسترحنا ساعة، ثم سرنا حتى بلغنا مدينة قم والساعة اثنتان وثلث. فدخلنا ونحن نذكر قصة الصاحب بن عباد وقاضي قم. كتب إليه الصاحب
أيها القاضي بقم
…
قد عزلناك فقم
فكان القاضي يقول إذا سئل عن سبب عزله: أنا معزول السجع من غير جُرم ولا سبب
قم مدينة في العراق العجمي على الجادة بين طهرن واصبهان وعلى 120 كيلاً إلى الجنوب الغربي من طهران. يشقها نهر يأتي من جُرباذقان قرب همذان. وفاكهتها كثيرة منها الرمان والتين والبطيخ والفستق
قال يا قوت: (وهي مدينة مستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم بها، وأول من مصرها طلحة بن الأحوص الأشعري) وذلك في عهد الحجاج بن يوسف. والظاهر أنها قديمة كانت قبل الإسلام، ثم عمرت في الإسلام ومصرت
وقد قال دعبل بن علي فيها
تلاشى أهل قم واضمحلوا
…
تحل المخزيات بحيث حلوا
وكانوا شيدوا في الفقر مجداً
…
فلما جاءت الأموال ملوا
ظلت بقم مطيتي يعتادها
…
همان: غربتها وبعد المدلجَ
ما بين علج قد تعرب فانتمى
…
أو بين آخر معرب مستعلج
وأهلها عرفوا بالتشدد في التشيع قبل أن يعم التشيع إيران؛ وقد روى ياقوت في ذلك حكاية ظريفة قال:
(ومن ظريف ما يحكى أنه ولّيَ عليهم وال، وكان سنياً متشدداً، فبلغه عنهم أنهم لبغضهم الصحابة الكرام لا يوجد فيهم من اسمه أبو بكر قط ولا عمر. فجمعهم يوماً وقال لرؤسائهم: بلغني أنكم تبغضون صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنكم لبغضكم إياهم لا تسمون أولادكم بأسمائهم. وأنا أقسم بالله العظيم لئن لم تجيئوني برجل منكم اسمه أبو بكر أو عمر، ويثبت عندي أنه اسمه لافعلن بكم ولأصنعن. فاستمهلوه ثلاثة أيام، وفتشوا مدينتهم واجتهدوا فلم يروا إلا رجلاً صعلوكاً حافياً عارياً أحول، أقبح خلق الله منظراً، اسمه أبو بكر لأن أباه كان غريباً استوطنها فسماه بذلك، فجاءوا به فشتمهم وقال: جئتموني بأقبح خلق الله تتنادرون علي وأمر بصفعهم: فقال له بعض ظرفائهم: أيها الأمير اصنع ما شئت فان هواء قم لا يجيء منه من اسمه أبو بكر أحسن صورة من هذا. فغلبه الضحك وعفا عنهم.)
وقم تلي المشهد الرضوي بين مزارات الشيعة في إيران، بها حرم السيدة فاطمة بنت موسى الكاظم وأخت علي الرضا، ولذلك دفن فيها كثير من العلماء والصالحين والملوك. وقد روي الشيعة فيها عن جعفر الصادق: ألا إن الله حرماً وهو مكة. ألا إن لرسول الله حرماً وهو المدينة. ألا إن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا إن حرمي وحرم ولدي من بعدي قم. ألا إن قم الكوفة الصغيرة. ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم (تقضي فيها امرأة هي من ولدي واسمها فاطمة بنت موسى. ويدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم) اهـ
لما اقتربنا من المدينة رأينا قبة المعصومة أخت الرضا تبص في الهواء في حلتها الذهبية. ولما دخلنا المدينة على مخفر الشرطة فرأوا جوازات السفر. وقال سائق السيارة لشرطي، هذان من المستشرقين يريدان زيارة الحرم فاصحبهما. فسار الشرطي أمامنا في رحبة
تملؤها أنقاض دور مهدمة، وبصرنا بنهر صغير سريع الجرية. قال الشرطي: طغا الماء على المدينة منذ أشهر فخرب مئات من دورها. ثم عبرنا الماء على خشبات ممدودة عليه فرأينا ماء ضحضاحاً يخوض فيه الناس والدواب. وسرنا في شارع به دكاكين وفنادق صغيرة، فانتهينا إلى باب المسجد.
رأينا صحناً رحباً ينتهي إلى بناء عال مقبب. ولقينا شيخ فتقدمنا فدخلنا إلى مرقد السيدة فاطمة، وهو ضريح كبير عليه سياج من الفضة كثير الحلي. فوقف الشيخ يدعو بالعربية دعاء طويلاً ذكر فيه الأئمة العلويين. ثم ملنا ذات اليسار إلى حجرة بها قبر كبير مربع لا سياج له ولا زينة، قال هذا قبر الشاه عباس، ثم ولجنا باباً إلى حجرة أخرى بها قبران أحدهما للشاه حسن آخر الصفويين، والآخر للشاه طهماسب، فيما أذكر، فهؤلاء ثلاثة من الملوك الصفويين دفنوا في جوار المعصومة. ثم خرجنا إلى الصحن فرأينا حجرات فيها قبور لملوك القاجاريين وبنيهم. رأينا فيها قبر محمد قارجار وفتحعلي شاه وعليهما صفيحتان من المرمر الشفاف عليهما صور ملائكة ذات أجنحة، وعلى قبر فتحعلي صورته منحوتة في المرمر. وقد رأينا من قبل في النجف الأشرف في مسجد الإمام على قبرا آخر للقاجاريين على هذه الشاكلة.
ولست أعرف في القبور الإسلامية قبوراً عليها صور غير هذه القبور. وسرنا الى يسار الداخل إلى الصحن فإذا باب يفضي الى صحن آخر فسيح: وهذا المسجد معهد للدراسة الدينية يقيم به الطلاب.
قال الشرطي وهو يحدثنا: في قم أربعة وأربعون وأربعمائة وأربعة آلاف من بني الأئمة الطاهرين قتلهم الظالمون
ركبنا السيارة والساعة ثلاث وعشر نسير صوب الجنوب نؤم أصبهان
وفي المقال الآتي حديث اصفهان الرائعة الجميلة
(يتبع) عبد الوهاب عزام
استدراك
1 -
نسيت أن أذكر في حديثي عن مدينة المشهد أني زرت فيها الشيخ الكبير بهاء الدين
العاملي الهمداني أحد أعلام المسلمين في القرن الحادي عشر وصاحب المؤلفات الكثيرة في التفسير وألف بها كتاب الكشكول وقال فيها:
يا مصر سقيالك من جنة
…
قطوفها يانعة دانية
ترابها كالتبر في لطفه
…
وماؤها كالفضة الصافية الخ
توفي بأصفهان سنة إحدى وثلاثين وألف، ونقل إلى المشهد فدفن بها في داره. وقبره اليوم في حجرة في السوق قريبة من أحد أبواب مسجد الإمام الرضا
2 -
كان طبيب قافلتنا في الذهاب من طهران إلى المشهد والأياب، الطبيب الحاذق نجم آبادي، وقد عني بي وبغيري ممن توعكوا في السفر. فكان حقاً على أن أذكره بالثناء، وقد جاء إلي ونحن بنيسابور عند قبر الخيام فقال أكتب لي في دفتري تذكاراً. فكتبت:
قد عراني على الطريق سقام
…
ولنعم الطبيب نجم آبادي
قد نعمنا بخلقه ودواء
…
وشكرنا له جميل الأيادي
عزام
صورة شتوية
إلى بائعة شوك. . .
للأستاذ أنور شاؤل
ألْبرْدُ يَلْذَعُ وَجْنَتَيْكِ وَسَاعِدَيْكِ الْعَارَيَيْنْ
وَالْحَقْلُ أَقْفَرُ لَا رَفِيقَ يُزيلُ عَنْكِ الْغُمتيْنْ
إلا الطُّيُورُ مُرَفْرِفَاتٍ حًوماً في الْجانَبَيْنْ
لَوْ تَسْتَطيِعُ بمنِقْرٍ دَفَعتْ أذَاكِ وَمخْلبينْ
وَحَمَتْ حِمَاكِ بُمْقلَتَيْنْ
الزَّمْهَرِيرُ هُوَ اْلأليفُ يَهُبُّ لَا رِيحُ الصَّبَا
وَخَزَاتُهُ فَوْق السُّهُوِل وَفَوْقَ هَامَاتِ الرُّبى
تَنْسَابُ في بُرْدِ الضُّحى أَفْعَى وَتَلْسَعُ عَقْرَبَا
رِفْقاً بِحُسْنِكِ يَا صَبيَّةُ وَاحْذَري أَنْ يَنْضَبَا
رِفَقاً مُخَضَّبَة الْيَدَيْنْ
إنْ كَانَ ظَهْرُكِ خَاضِعاً لِعَناَءِ مَا حَمَّلْتِهِ
أوْ كَانَ عُنْقُكِ طَائِعاً رَهْناً بِمَا كَبلْتِهِ
فَاْلَقلْبُ أنِّى يَسْتَريحُ لِما بهِ عَللتِهِ
وَالْفِكرُ عَنْ آماله وَرُؤاهُ أني يلتهي
يًا مَنْ تَطيلً النظرتينْ؟
أَلُّشوكُ يًدْمى رَاحَتَيْكِ فَلَا يرِقُّ وَلَا يَلِينْ
وَغَداً يَزُفُّ النَّارَ تَحْمى في الليَالي إلآخرينْ
هُمْ يَدْفَؤُونَ وَأَنْتِ مِنْ قُرِّ الشِّتاَ تَتَضوَّرينْ
تَشْقَيْنَ أَنْتِ لكَيْ تَزيدِي في رَفاَهِ الْمُسْعَديِنْ
فَتَقرُّ مِنْ بَلْوَاكِ عَيْنْ
قَطْرُ النَّدَى هَذَا عَلى الأْشْوَاكِ أَمْ دَمْعُ المُقَلْ
نَارُ الأَسى هَذِى التي تَخْفِينَ أمْ نَورُ الأمَلْ
إني أَرَاكِ إلى المْدَيِنَةِ تَقْصدِينَ عَلَى عَجَلْ
فَحَذَارِ تَخْدَعُكِ الَبهَارِجُ في مَقاَلِ أوْ عَمَلْ
أوْ تُؤْمنينَ بِماَ تَرَيْنْ
بغداد
أنور شاؤل المحامي
إلى الريف.
. . . .
للأستاذ محمد يوسف المحجوب
إلى الريف سِرْ بي يا قطارُ فان لي
…
فؤاداً للقيا الريف لهفان صاديا
إلى الريف طِرْبي، فالليالي بغيضة
…
بمصر إلى مَنْ بات حيرانَ شاكيا
إلى موطني الغالي، ومَهْد طفولتي
…
ومَبْعث آمالي، ومأوى رجائيا
إلى مَشْرعٍ، أرْوَى فوادي نميرُه
…
وأُسقيت من رقراقه الماء صافيا
إلى مَرْتعٍ، فيه صحابي ومِعْشري
…
وأهلي وجيراني، ومجلى شبابيا
إلى (قريتي) حيث المروج شذية
…
تفيض جمالاً باهرَ النور باهيَا
بريك عَجِّل، كي أُعيدَ نضارتي
…
لديها، وأَقضي العيدَ جذلانَ لاهِيا
هنالك نُعمى الله فَيضٌ، فلا ترى
…
فقيراً تشكي البؤسَ أو بات طاويا
ولا الشمسَ فيها بالضياء ضَنينةً
…
ولا الماَء مَقْطوعاً، ولا النُّورَ خابيا
ولا الدفَء ممنوعاً، ولا البردَ قَاتِلاً،
…
ولا الأفقَ مَحدوداً، ولا الطرفَ نابيَا
هناك الثرى المحبوبُ يَذكو عبيرهُ
…
كأن الثرى المحبوبَ مَسَّ الغواليا
حقول زهاها الحُسْنُ طُرَّا فأسْفَرتْ
…
تتيهُ به وَهْداً، وتزهَي روابيا
تَضم بِساطاً سندسَّيا، وجَنَّةً،
…
ومطبوعَ حُسْنٍ فاتِن اللُّب سابِيَا
أيا (قريتي) هذا وفائي أصوغه
…
لديك ثناءً خالد القول باقيا
إذا امتدح الناس المدائن وارتضَوْا
…
حضارتَها، واستعذبوها مغانيا
فهأنذا أُعْلى مكانك في القُرى
…
وأدْرَأُ بالأشعار عنك العواديَا
وأفْصح عن حُسْنِ بِوَادْيك كامنٍ
…
ليُبْصر قَوْمي منه ما كان خافيَا
حياتُكِ أقصى ما تمنَّاه مُْتَرفٌ
…
بمصر إذا ما راح عن مصر ضاحيا
هدوء، وإشراق، وزرع، وجَدْول
…
وأنسٌ إذا أمسى بك الذئب عاويا!
ألَيْسَتْ ذئابُ الوَحْش خَيْرً امَغبَّةً
…
من الذئبِ إنْساناً لئيماً مُرائيا؟
أيا (قريتي) كم أشتهي أن أعيش في
…
ظلالِك دَهْري هادئ البال راضيا!
ويا رُفقتي فيها، إذا شَطتِ النوى
…
وأصبحتمُ تَسْتَبعْدُون التلاقيا
فهأنذا أدنو بقلبي وخاطري
…
وهاهي ذي روحي تؤدِّي الجوازيا
إن أرتحلْ عنكم إلى دار غُربتي
…
فما زالَ قلبي حافظ العهد راعِيَا
محمد يوسف المحجوب
مدرس بالأوقاف الملكية
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
6 -
تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا
للأستاذ خليل هنداوي
لهنري هاين صفحة قيمة يقارن فيها بين مذاهب هؤلاء الثلاثة، ويذكر ما لهم من تأثير في الحركة الفكرية، وكأنه يجد أن الرسالات التي بشروا بها لم تكن تنطق إلا عن رسالة واحدة هي رسالة الكمال والمثل الأعلى. يقول:
(لا نجد - عند كانت - إلا كتاباً مسطوراً. أما عند - فيخت - فنحن نتجرد من الكتاب ونرى أنفسنا إزاء رجل جبار قد اتحدت إرادته وفكرته حتى صارتا قطعة واحدة، كنت أقارن بين نابوليون وفيخت، وهما متفقان مزاجاً، وظهورهما في قومهما متشابه من جميع الوجوه، كلاهما يمثل سلطته (الذاتية) حيث لا نرى الفكرة إلا مقرونة بالعمل. ولكن هذه المبالغة في الإرادة والاعتماد على الذات جعلت عملها سريع الانهيار، فمذهب - فيخت - العملي يشبه إمبراطورية ذلك العظيم، تلك الإمبراطورية التي لم تكد تظهر حتى تصدى لها الزوال فأصبحت كأن لم تغنَ بالأمس. ولكن ثورة (نابليون) لا تزال تسري في عروق أوربا، وهكذا كان شأن فلسفة (فيخت) فإن مذهبه قد انهار. ولكن النفوس والأفكار لا تزال - من بعده - مضطربة حائرة
جاء (مذهبه في المثل الأعلى) خطيئة كبيرة في مجموع فلسفته. ترى في كل جزء من أجزائها استقلالاً سائداً وإرادة واسعة وحرية بعيدة، وتحس بشيء يسيطر على عقول الفتيان.
ومذهب (فيخت) في (الذاتية) كان يلائم خلقه الحديدي، ومثل هذا المذهب القوي لا يلائم غير صاحب هذا الخلق الجبار. ولا ننسى نصيب (شيلنج) فقد كان علماً من أعلام الفلسفة الألمانية. نظر إلى الطبيعة نظرة سلم وأحب أن يعلن الهدنة بينها وبين النفس، وأراد أن يجمع بينهما، فأحيا الفلسفة القديمة التي جاء بها اليونان الأقدمون قبل سقراط. ولكنه استسلم كثيراً لسلطان الخيال، ولم يخاطب العقل كثيراً فتضعضعت فلسفته تحت مطرقة العقل، فجاء (هيجل) وتبوأ مقعد الفلسفة، فاعتزل (شيلنج) ونزل في (مونيخ) وهناك رأيته يعيش هائماً كالشبح، بعينين غشيتهما صفرة، ووجه ذليل كأنه صورة شقية لمدينة خربة مهجورة)
1770 -
1831
حياته
ولد (هيجل) في (استتجار) وأكب في بدء نشأته على اللاهوت كزميله من قبل، فقضى خمسة أعوام في جامعة (توبنج) حيث تعرف فيها الى (شيلنج) ونشأت بينهما صداقة متينة. . . وبينا أعوام يركب مركب الحيرة من دنياه مات أخوه؛ فأحيا ما ورثه منه في نفسه شيئاً من الأمل الذي كاد ينطفئ بعد إيماض. فعاد الى (ابنا) حيث التقى للمرة الثانية (بشيلنج) وأخرج معه المجلة الفلسفية. ولم يكن هيجل حتى ذلك الحين ليطمع في أكثر مما بلغ أو يمد عنقه الى أكثر مما نال، ولكن عبقرية هيجل أخذت تميط اللثام عن وجهها وتدرج بدون استحياء، وظهرت براعته وحرية تفكيره في المقالات التي حبرها للذود عن أراء زميليه، وكأن الحظ أراد أن يواتيه مرة أخرى، فترك (شيلنج) منبر الجامعة، فاتسع المجال لهيجل لإبداء قوته وإظهار مقدرته؛ فعجل ذلك في تعيينه أستاذاً. وفي عام 1806 حين كان المدفع يلعلع في (ابنا) أنجز الفيلسوف كتابه
' الذي يحتوي على جميع نظراته الفلسفية. وازاء هذه الضربات التي نزلت ببلاده، وقف وقفة المتأمل ونظر إليها والى عللها نظر الفيلسوف. وقد كتب الى أحد أصدقائه هذه الرسالة. . (قد سر نفسي ما علمته عنك بأنك عازم على قضاء الشتاء مستسلماً الى العزلة والفلسفة، وقد تحب الفلسفة العزلة الهادئة؛ ولكنها مع ذلك لا تحتاج الى أن تكره المجتمع أو أن تفر من أعمال الناس. . وأنت، أنت معير انتباهك لتاريخ اليوم، وفي الحق لن تجد أبلغ منه ولا أوعى، هو يريك أن الحضارة لا بد غالبة على البربرية، وأن العقل الذي يفر سوف يقهر الفطنة المسكينة التي لا تفكر، العلم هو حصننا المنيع. . . يعلمنا ألا نبقى فاتحين أفواهنا كالمتثائبين أمام الحوادث، لا نجعلها وليدة مصادقة غريبة أو ابنة براعة رجل واحد، ولا أن نقيد حظ نصر مملكة بربوة كان يجب عليها امتلاكها، أو بأخرى أهملت نسياناً، ولا أن نرسل الأنين حزناً وراء انتصارات قضى عليها جور الحظ. إن ثورة فرنسا الدامية قد أنقذت الشعب الفرنسي من أوضاع شوهت النفس الإنسانية وخنقت أراوح الشعوب كما خنقت روح هذا الشعب، كل فرنسي ألف أن يتمثل مصرعه أمامه،
وهذه الأوضاع والتقاليد التي يحمل عليها الناس حملاً قد لقيت مصرعها في فرنسا، وهذا ما يكتب روح العظمة لهذا الشعب. . . . .)
وليس التحليل النفسي موضوع هذا الكتاب، وإنما هو يصف مراحل النفس في أصل نشأتها وحياتها حتى اليوم الذي يتيقظ فيها كل شعورها ووعيها، إذ تشعر بذاتها أنها قادرة على تحقيق (العلم المطلق) وبهذا يمكننا أن ندعوه درس أطوار النفس البشرية، وهذا الدرس يعمل بواسطة نظرياته المنطقية على إنماء الحركة البشرية وعلى إعداد حركة العلم المطلق الذي تبدو بوادره
وأخيراً يعد محاولات وتجارب أخفقت في ميدان الحياة أهاب به الحظ فدعي الى (برلين) الى المنبر الذي كان يشغله (فيخت) فلبث فيه حتى نزل به الوباء الذي اجتاحه فيمن اجتاح عام 1831. وهو خلال تدريسه قد قام بأسفار ورحلات صغيرة تدل عليها رسائله الخاصة إلى امرأته اللطيفة ذات الروح الرقيقة التي كانت تعبد زوجها وتعجب به وتحترق، ولكنها لا تفهمه. زار المناطق المنخفضة، ونزل في (فينا) وهبط (باريس) ضيفاً على الفيلسوف الفرنسي (فيكتور كوزان) وقد كان منزله في برلين محط النازلين من فلاسفة ولاهوتيين وأدباء على اختلاف نحلهم ومللهم، ورجال لدولة الذين يهرعون إلى سماع حكمه ودرره، وكتب في هذه الفترة كتابه (المنطق) و (معلمة فلسفية) وبعض المحاضرات التي كان يؤثر بها طلابه في الجامعة
أسلوبه
على أن أسلوب هيجل قد جاء مثلاً قاسياً في التعقيد والإبهام اللذين اتصف بهما، فهو صعب صعب لا يقدر على إدراك أحاجيه ومراميه إلا النبيه المفكر، وهو - برغم هذا كان أعظم مفكر ألماني يجهر بآرائه، وينزل بها صريحة إلى قرائه؛ تتلمسه فتجده مظلماً، وتستوضحه فتراه مبهما، أما هيجل الأديب فانك ملاقيه واضحاً في تضاعيف رسالاته، أما هيجل الفيلسوف فهو ذو أسلوب وحشي، تسنح له فكرة فيزجيها إلى الناس كما يريد بأسلوبه. ولقد تلمح في ثنايا سطوره كلمة أو عبارة لامعة فتعجب من هذا وتود لو يدوم! وهو أشد استرسالاً - من كانت - إلى المبهمات، لأن - كانت - تكاد تكون عباراته محدودة في مواطن معدودة، أما أسلوب هيجل فهو يحالفه - أني أشرفت عليه - ، اشرف
عليك، هذا الإبهام وهذا التعقيد. . .
فلسفته
إن المتعمق في فلسفة (هيجل) يجد أن جوهرها لا يخلو من أجزاء مقتبسة من (شيلنج) و (سبينوزا)، وهيجل هو القائل عن (سبينواز)(لا ينقص هذا الرجل إلا أن يعتبر الجوهر الإلهي روحاً طاهراً ، أن يوحد هذا الروح مع الروح الإنساني بدلاً من أن يرى أن الروح الإنساني هو عنصر جاء على شكل الجوهر الإلهي ولكنه مجرد من الحرية والشخصية) ونظر (هيجل) إلى الواحد المطلق الذي افترضه (شيلنج) فراعه هذا الواحد الذي امتزج فيه ضدان لا يجتمعان بوساطة قانون بارد!. فمر (هيجل) بمادة سبينوزا والواحد المطلق؛ وأناب مناب هاتين المادتين (الفكر) ، الماضي في حركته التفكيرية. . وقد تبدو هذه الحركة في ظاهرها حرة اسمية، ولكنها - في الحقيقة - حركة جديدة تعمل على بناء الكون بناء جديداً. ولم يكن السكون المطلق عاملاً من عوامل هذه الحياة، ولكن هي الفعالية، قانون الحياة الأسمى. وهكذا يحل التبدل المستمر محل الثبات المستقر
وحركة الفكر تتمشى على نمط واحد، وكل خطوة يخطوها الفكر إلى الأمام تتألف من ثلاث حالات متتالية. كل ما هو موجود يكتنفه حد من ذاته، والوجود يحتوي على العدم. وجواز الوجود إلى العدم والعدم إلى الوجود إنما هو التحول. فالوجود والعدم والتحول إنما هي قانون الأشياء بدون استثناء، فلا يحدث شيء ولا يترقى إلا تبعاً لهذه الأطوار. وقد شبهوا مذهب (هيجل) بكنيسة مشيدة على الطراز القوطي، يرى الناظر في كل جزء منها رسم البناء مصغراً؛ يريدون أن الفروع المشتقة من فلسفته صور مصغرة عن الأصول
ها هو ذا الفكر الماضي في حركته التفكيرية يظهر خطره ويبدو أثره في الكون من مهد الحياة الناقصة الى عهد الحياة الكاملة، الى عصر الإنسان، وهو خلال ذلك يمر بأدوار الكمال، وفي كل دور يتبدل شأنه ويقوى سلطانه وينفسح مداه. كل طور يصعد إليه هو أسمى من الطور الذي تخطاه، ولكن السمو كل السمو لا يتجلى إلا في المفكر المبدع. وكل خلق - جماداً كان أو ذا روح - مخلوق لذاته، لا يتزحزح عما هو عليه، ولا يجوز من طوره الى طور غيره. وفي بعض مواطن ترى (هيجل) يرذل مذهب القائلين بالاستحالة. وكل كائن - عنده - يمثل صورة متفاوتة الكمال ملائمة لفكرة الكائن. أو قل (هدفاً) يرقى
إليه في سيره نحو الهيئة الإنسانية، حيث يتم له لأول مرة أن يكمل ويتم. والطبيعة عنده ليست بصورة كاملة، أن هي إلا (مسودة) في كتاب الخليقة، لأن هيجل لا يرى فيها إلا مجموعة متناقضات لا تتوافق ولا تلتئم، تدل على عجز ظاهر وعلى اضطراب في المنطق. وقد أعطانا صورة جديدة عن الكون كما يود أن يكون. فهو في نظراته الفلكية مثلاً لا يبحث كثيراً في هذا الفضاء اللامتناهي. وإنما هو يرى الأرض - نظرياً - قلب الوجود، ويرى النجوم العالقة بالسماء كالبثور الطافحة على جلد الإنسان
(يتبع)
خليل هنداوي
القصص
إبليس يعشق
للأديب حسين شوقي
كان إبليس يقيم في مصيف (دوفيل)، ولم تمض أيام معدودة على قدومه إليها حتى كان من أثر وجوده بها عدة حودث انتحار، وقعت بين رواد قاعتي (الروليت) و (البكارا). .
ولكن هبطت عليه ذات يوم برقية من مجلس الشياطين الأعلى المنعقد في (بروكن) تعدوه الى الذهاب من فروه إلى قرية س. . . في جبال الألب ليقضي هناك على أسرة صغيرة تعيش في سرور وهناء لا حد لهما، لأن الشياطين كما تعلم لا يطيقون رؤية بني البشر سعداء. . بلغ إبليس القرية، ولم يكد يصل إليها حتى قصد الدار التي تسكنها هذه الأسرة السعيدة لينتهي من أمرها في سرعة، ثم يعود على عجل إلى مصيفه في (دوفيل) حيث كان يتلذذ من إلحاق الأذى بلاعبي الورق. .
كانت هذه الأسرة السعيدة مؤلفة من ثلاثة: الزوج، وهو شاب جميل في الخامسة والعشرين والزوجة، وهي فتاة جميلة أيضاً في سن العشرين، والولد، وهو طفل لطيف في الأشهر الأولى من عمره. .
وكانت هذه الأسرة تسكن منزلاً صغيراً جميلاً شيد على رابية تشرف عليها جبال الألب الشاهقة وكأنها أسوار رفعتها يد العناية لحماية القرى المجاورة وسكانها الهادئين، من حوادث الطبيعة العظيمة. .
ذهب إبليس يزو الأسرة السعيدة في زي بائع أم متجول، كي يتعرف موضع عمله، فلم يجد الزوج إذ كان في عمله بالحقل، ولكنه وجد الزوجة في الحديقة تدلل طفلها، وقد ضمته إلى صدرها. حقاً! إن السعادة كانت بادية بأجلى مظاهرها على وجه الزوجة، ولكنها اعتذرت في لطف عن عدم الشراء، قم قدمت إليه قدحاً من النبيذ ليرفه به عن نفسه من عناء المسير، فشربه إبليس ثم شكر الزوجة وانصرف وهو حانق على مجلس الشياطين الأعلى الذي أزعجه في مصيفه (بدوفيل) لأمر تافه مثل هذا، لأن القضاء على سعادة هذه الأسرة بسيط جداً، فقد يكفي إعطاء الطفل جرعة من جراثيم الدفتريا، ليقضي عليه فوراً، فتصبح الأسرة في يأس ونكد
كم واجه إبليس حوادث أدق في (دوفيل)! إنه ما يزال يذكر مع الغبطة حادث البارونة س. . التي وسوس إليها أن تبيع حليها لتعطي ثمنها إلى عشيقها كي يخسر هذه النقود على المائدة الخضراء أولاً فأولاً، ولما نفذت الحلي وهدد العشيق البارونة بالهجر، لجأت إلى تزوير إمضاء وجها على شيك، ولكن اكتشف التزوير فاضطرت البارونة أن تنتحر اتقاء للفضيحة والعار
في مساء يوم زيارته لمنزل تلك الأسرة، اقتنص إبليس بضعة جراثيم دفتريا فوضعها في قنينة ثم حفظها في جيبه. . ثم ذهب إبليس في اليوم التالي يزور الزوجة، وقد تزيا في هذه المرة بزي بائع حرائر، ولن لم يكد يقترب من المنزل حتى سمع صوتاً جميلاً ينبعث من الحديقة لم يسمع أعذب منه منذ خروجه من الفردوس، فوقف يصغي إليه. . ثم تقدم خطوات. . . فشاهد الزوجة الجميلة مكبة على طفلها وهو راقد في مهده تناغيه. تأثر إبليس بجمال هذا النظر تأثراً شديداً، فألقى القنينة بعيداً وانسحب كي لا يعكر صفاء هذه الأم الجميلة. .
أحس إبليس في طريق عودته الى الفندق بسعادة عميقة تغمر نفسه، فخبأ وجهه بين يديه حتى لا يراه شيطان آخر على هذه الحالة، فيحاول أن يقضي على سعادته!
يا للعجب! إن إبليس عاشق! إنها حقاً نهاية النهايات!
أخذ إبليس طوال الليل يفكر في حاله، لا يدري ما يفعل. . فكرأولاً في قتل الزوج ليتقدم بعد ذلك الى المحبوبة في صورة شاب جميل سري، ولكن تراءى له عندئذ المحبوبة سابحاً في الدموع على فقدها زوجها، فأقصى عنه تلك الصورة القاسية المنطوية على الحقد والأنانية، لأن إبليس لم يعد شريراً وقد طهر الحب قلبه. .
وللمرة الأولى، أحس إبليس انه بائس، أشد بؤساً من متسولي الهند. . .
وللمرة الأولى أيضاً، بكى إبليس، وكانت دموعه هذه المرة دموعاُ بشرية بيضاء على غير العادة، إذ كانت عيونه قبل ذلك تفرز سائلاً أسود مثل نفسه السوداء. . .
ولما لم يجد إبليس وسيلة للاستيلاء على المحبوبة دون تكدير صفوها، قرر أن ينتحر. .
غادر إبليس الفندق وسط الظلام، ثم ذهب فتسلق أعلى قمة في الجبل وقفز منها الى السماء، فاحترق جسمه من السرعة التي انطلق بها في الجو. . .
وهكذا قضى إبليس نحبه حاملاً معه أول وآخر حب له!
ولكن هذا لم يمنع المراصد الفلكية أن تذكر في تقريرها، في اليوم التالي، أن شهاباً هوى بجهة قرية س. . . في جبال الألب، وهو شهاب يجهله عالم الفلك للآن فاحدث سقوطه نوراً ساطعاً
كرمة ابن هانىء
حسين شوقي
من أقاصيص الجاهلية
2 -
حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
(عود علي بدء)
قتل كليب فعمت الملأ فتنة عمياء، وهبت عليهم عاصفة هوجاء، ونزع الشيطان بين العشيرتين
هنا قلوب تقطر حزناً، وحزناً يدفع إلى اليأس وإلى الموت، وهنا نفوس تتواثب إلى الانتقام، وتستعذب في سبيله الحمام. وهناك قلوب تجب من هول ما أقدمت عليه، وتستشعر الندم لمقتل كليب، تهمس به في غسق الليل، وتخفيه نهاراً، ضنا بالكرامة وأنفة واستكباراً، وهناك فتية يحترقون للقتال، ولكن لا يثقون بنصرة الرجال، ويخشون أن يتخاذل النصراء عند نزول الخطب ويستخذي الرجال عند اشتداد الكرب، وبين هؤلاء وهؤلاء كهول وشيوخ يسيرون في الليلة الظلماء على قبس الحكمة ونور الأناة، ويتابعون السير في مدلهم الحوادث، يبتغون مخرجاً من الكوارث. فعقدوا عن الحرب في صمت ووجوم، ولم يعينوا ظالماً على مظلوم، ومن هاماتهم الفند الزماني، والحرث بن عباد فارس النعامة
ولكن طغت على القوم ثورة الغضب. وانساقوا إلى الحرب ورداً يؤزهم الشيطان أزّا
ولم يطلب لبني شيبان المقام بأرض فيها مذلة، ولهم فيها ذلة، فارتحلوا ونزلوا (بماء النهى) ولحقت جليلة بأبيها مرة ابن ذهل. وعلى رأس بني شيبان الحرث بن مرة أخو جساس وعلى رأس بني ثعلب المهلهل بن ربيعة أخو كليب واستحر القتال بينهم بماء النهى ودارت الدائرة على بني شيبان، وكانت الغلبة لتغلب؛
ولما أصبح القوم على مدرجة من سيل الحوادث، قال قائل منهم:
(هلموا إلى الكهنة نستلهمهم الصواب، علهم يكشفون الكرب أو يحجبون البلاء) وقال آخر: (ما للكهنة وهذه الكروب؟ إنما يلوون ألسنتهم بالقول كأنما نزل عليهم من السماء، فان تدبرت في قولهم لم تفهم منه شيئاً محدوداً، ولا رأياً مقصوداً، وإن فهمت فقد تفهم من القول معنيين لا تدري أيهما تأخذ وأيهما تدع.)
واستقروا على أن يستشيروا الكهنة والكهنة فان عجزوا عن هديهم اعتصموا بعجزهم عن لوموبعثوا إلى الكهنة رسولاً منهم
وعاد الرسول يتلو عليهم قول الكهنة (يا للمحنة ويا للشقاء! ريح نكباء، وكرب وبلاء، وحرب ضروس، وسيوف تطيح بالرءوس، والقوم أحرص على الموت من حرص الموت على النفوس. قتل كليب ولابد مما كان، والرأي عند الفوارس لا عند الكهان)
- (أفهمتم من قولهم شيئاُ يا قوم؟)
- (أنهم يأمرون بالقتال!)
- (أنهم لا يأمرون بالقتال!)
ومضى القوم في صخب ولجب، وقاموا إلى المهلهل بن ربيعة أخي كليب يعجمون عوده، ويغمزون قناته. فإذا هو في فريق من أهله منهم عتاب بن سعيد بن زهير، وكعب بن زهير. والقوم بين ثائر يدعو إلى القتال وينفخ في ناره، وعاقل يجنح إلى السلام ويدعو الى داره، وفيهم من دسه بنو بكر، ليتنسم الأخبار، ويكشف عن النوايا الستار
وقام المهلهل على شرف واتكأ على رمحه وقال:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها
…
إن أنت خليتها فيمن يخليها
كليب أي فتى عز ومكرمة
…
تحت السفاسف إذ يعلوك ساقيها
نعى النعاة كليباً لي فقلت لهم
…
مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته
…
ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردى في أعنتها
…
زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلقى أسنتها
…
إلا وقد خضبوها من أعاديها
نروي الرماح بأيدينا فنوردها
…
بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
ليت السماء على من تحتها وقعت
…
وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
وكأن المهلهل لم يغب عنه أن في الجمع الذي انتظم عنده أفراداً من بكر يتجسسون، فقذفهم بقوله:
لا أصلح الله منا من يصالحكم
…
ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
فألقموا حجراُ وقاموا إلى أهلهم يتميزون. وبقي التغلبيون، فقال لهم المهلهل: (يا قوم! أما
الحرب فانه لا يقف في سبيلي إليها خوف أو جزع، ولا يتكاءدني في طريقي إليها خور أو فزع، والقوم قد لجوا في عتو ونفور، وسأخسف بهم الأرض فإذا هي تمور. فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً، قال كبيرهم (إن المهلهل لا ينثني. والرأي عندي أن نبعث نفراً منا إلى بكر يعرضون عليهم. الفداء مشتطين فيه حتى لا يكون لبكر قبل بأدائه، ولا يجدوا سبيلاً إلى وفاءه، فان عجزوا - وسيعجزون - كان لنا في حربهم سبب ومعذرة) وابتلوا من بينهم ثلاثة بالسفارة إلى مرة بن ذهل ابن شيبان وهو أبو الحرث وأبو هام وأبو جساس وأبو جليلة.
قالوا له (إنكم أتيتم عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الأبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الاعذار اليكم، ونحن نعرض خلالاً أربعاً لكم فيها مخرج ولنا مقنع)
فقال مرة (وما هي؟) قالوا: (تحيى لنا كليباً! أو تدفع إلينا جساساً قاتله فنقتله. أو هماماً أخاه فانه كفء له، أو تمكنا من نفسك فان فيك وفاء من دمه) قال: (أما إحيائي كليباً فهذا ما لا يكون، وأما جاس فانه غلام طعن على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد احتوى عليه، وأما همام فانه لن يسلمه الى أبناؤه العشرة، ولا أخوته العشرة، ولا أبناء أخوته العشرة أولئك جميعاً لا يدفعون به إليّ ولا إليكم، وهم فرسان قومهم لتقتلوه بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غداً فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت ولكن لكم عدني خصلتان: أما إحداهما فهؤلاء بني الباقون فعلقوا في عنق أيهم شئتم نِسْعَةً فانطلقوا به الى رجالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلاً من بني وائل)
قالوا: (لاّ) بملء أفواههم ، وأصروا واستكبروا استكباراً
وارحمتاه لهذا الشيخ المنكود مرة بن ذهل، هذه ابنته جليلة قد قتل زوجها فعادت إليه مكلومة الفؤاد مهيضة الجناح، وهذا ابنه جساس قد قتل زوج أخته وفر لا يعلم له مستقر، وهذا ابنه الحرث بن مرة فر من الموت في وقعة النهي فأدركه الموت في وقعة الذنائب إثر طعنة من كعب بن زهير، وهذا ابنه همام طلب للموت يوم عرض الفدية فضن به أبوه، وطلبه الموت يوم (واردات) فما استطاع أبوه للموت رداً
وعزيز علي القوم أن يموت همام أبو العشرة وأخو العشرة وعم العشرة. ولقد أصاب موته الوتر الأرن من قلب المهلهل، والمهلهل قد علمت غليظ القلب مصدور، شديد البأس موتور، وقف عند همام وهو طريح تسيل دماؤه على الأرض وتصعد روحه الى السماء تشكو الى بارئها ظلم الإنسان للإنسان وقال:(والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز على فقداً منك)
وتحدث القوم عن موت همام، وعن نكبة أبي همام وقد ابيضت عيناه من الحزن، وقال الملأ:(أما لهذه الويلات من آخر؟ هذا المهلهل يقطر قلبه حزناً لقتل همام ولكنه يمضي في بغية واستئساده كأنما رءوس بكر زرع قد وكل بحصاده)
ولم تكن الحرب سجالاً بين الفريقين حتى اليوم، بل كانت الغلبة لتغلب، أما غداً فسيكون لها شأن آخر
أخرجها: احمد الطاهر
البريد الأدبي
ضوء جديد على حياة موياسان
منذ بضعة أعوام احتفل في فرنسا بتخليد ذكرى الكاتب القصصي الأشهر جي دي موباسان، وأقيم له نصب تذكاري في بلدة مسقط رأسه ميرومزنل؛ ونوه وزير المعارف في خطابه الذي ألقاه يومئذ بما لقيه موباسان أثناء حياته وبعد وفاته من النكران، وبما يجب لفنه وتراثه الرائع على الجيل الفتي من تقدير وعرفان، واليوم تصدر طبعة جديدة مصورة لتراث موباسان له يشترك في تصويرها بول فولكي وشاس لابورد وبونفليس من أعظم مصوري فرنسا. وقد صدرت منها الأجزاء الثلاثة الأولى بعناية الكاتب رينه ودمزنل مترجم موباسان مصورة بدراسة جديدة ضافية للنواحي البارزة في حياة القصصي الأكبر وفنه، وفيه يهدم دومزنل نظرية قديمة عن الأثر الذي تركه مرض موباسان العقلي في أعوامه الأخيرة في بعض قصصه، ولا سيما قصة (لاهورل) التي قيل عنها إنها دائماً تمثل مرحلة الاضطراب العقلي لموباسان؛ فيقول لنا دومزنل إن المرض شيء والقصة شيء آخر وإن موضوعها قد أعطى لموباسان من صديقه ليون هنك، وإن ما قيل بعد ذلك من أنها كتبت بقلم مجنون أو مخبول العقل إنما هو افتراء محض، ويستدل دومزنل بذلك على ما رواه الكاتب الإنكليزي فرنك هاريس في كتابه (حياتي وحوداث غرامي) وقد كان صديقاً حميماً لموباسان منذ سنة 1880، ويتفق هاريس مع بعض أولئك الذين لقوا موباسان في أن مظهره لم يكن يدل على عبقرية أو مواهب ممتازة، وأنه كان في مجالسه الأدبية متحفظاً، ولما كتب (لاهورل) أرسل إلى فرنك هاريس يقول:(سيقول معظم النقدة إنني قد جننت، ولكن إياك أن تخدع بأقوالهم، فأنني متمتع بكامل صحتي وعقلي) فرد عليه هاريس في محادثة جرت بينهما بأن الروع الذي أثارته هذه القصة في نفسه (اي موباسان) لابد أن يكون قد أثر في أعصابه، فأكد له موباسان أنه مخطئ. ولكن هاريس يقص إلى جانب ذلك أن موباسان كان مفرطاً في مطارداته الغرامية، وأنه كان دائماً أبداً صريع الغانيات لا يكاد يفارقهن. والواقع أن موباسان كان عملاقاً جباراً يفر في كل شيء في العمل وفي اللهو؛ وما يكتبه عنه هاريس في كتابه يكشف عن حقائق وسوآت كثيرة في حياته وخلاله الشخصية لم يتناولها مترجموه وأصدقاؤه الذين كتبوا عنه
وقد أثار ظهور هذه الطبعة الجديدة لتراث القصصي الأشهر اهتماماً عظيماً في دوائر الأدب والفن
ملك النور
سبق أن ذكرنا أن بعثة علمية سافرت الى الهند لتبحث عن أصل النور (الفجر)، لما هو ذائع من أن أصل النور يرجع الى بعض القبائل والأجناس الهندية التي تعيش على ضفاف نهر الكنج، ولما هو مقرر من أن معظم اللهجات التي يتكلمها النور تحتوي على كثير من الألفاظ الهندية. ونضيف هنا أن ملك النور - لأن للنور ملكا غير متوج - قرر أخيراً أن يسير الى ضفاف الكنج في موكبه الملوكي ليقف على المباحث التي ستجرى عن أصول النور وأحوالهم. وهذا الملك أو الزعيم هو نوري رومان يدعى ميشيل كفيك، ومقره على مقربة من مدينة شرنوفتر. وقد نظم ميشيل كفيك موكبه الملوكي في ظاهر شرنوفتر، ونصب خيمته المحلاة بالذهب، وأخرج جميع عرباته وخيوله، وحوله أقطاب النور يرفلون في ثيابهم المزركشة، ويعتبر ميشيل كفيك ملكاً على جميع النور في العالم، وعددهم يبلغ زهاء أربعة عشر مليوناً، وقد انتخب للعرش هذا العام في مؤتمر عقد في بعض غابات بولونيا؛ وهو ينوي أن يسير بركبه الى ضفاف الكنج، وينشيء هناك (دولة نورية)، ومن الطريف أن نعرف أنه توجد بالفعل مجلة نورية في روسيا لها صفة رسمية وتسمى (بيروبدجان)، وأن لها علائق رسمية بحكومة السوفيت. وقد حادث مكاتب جريدة الجورنال في بوخارست ملك النور، وسأله في شيء من التهم عما إذا كان يزمع بعد تأسيس دولته الجديدة أن تلتحق المملكة النورية بعصبة الأمم، فأجابه أنه سيعني منذ البداية بتحقيق هذه الغاية
كتب عن كليوباطرة
أصدرت الكاتبة الفرنسية المعروفة (مريام هاري) كتاباً عن (كليوباطرة) ملكة مصر التي عاصرت عصر هيرود الأكبر وعصر المسيح. ومن المعروف أن مريام هاري كتبت من قبل عدة فصول تقول فيها إن جثة ملكة مصر الحسناء توجد في الواقع في فرنسا، وإنها دفنت في باريس، في ناحية من متحف اللوفر؛ ذلك أنها اخذت ضمن ما أخذ الفرنسيون من
الموميات والآثار المصرية، ووضعت هنالك في ناووس، واستمرت كذلك نحو ستين أو سبعين عاماً؛ ثم تغيرت رائحة الموميا ودب إليها العطب، فقررت إدارة المتحف أن تدفنها في ناحية من المتحف ونفذ هذا القرار بالفعل، ولكن مكان دفنها الحقيقي لم يعين ولم يعرف بعد. على أن رواية مريام هاري تفتقر إلى كثير من عناصر الإثبات، ولو أنها أثارت وقت اذاعتها كثيراً من الاهتمام. وتحاول مريام هاري في كتابها الجديد أن تعرض حياة كليوباترة الملكة المستبدة، والمرأة الحسناء الرائعة، التي ما زالت قصص غرامها، ولياليها الغرامية الخيالية ونزهاتها الشهيرة في النيل، مستقى لكثير من الفنانين والكتاب المحدثين
احتجاج غريب للناشرين الفرنسيين
ذكرنا في فرصة سابقة أن لجنة خاصة ألفت تحت إشراف وزارة المعارف الفرنسية للعمل على إصدار الطبعة الثانية من دائرة المعارف الفرنسة التي صدرت منذ نحو نصف قرن واضحت قديمة ناقصة. والمعروف أن هذه الطبعة الجديدة التي سيبدأ صدورها منذ هذا العام (سنة 1935) ستعرض للبيع بثمن معتدل يفي بتكاليف إخراجها فقط. وقد كان في ذلك ما يدعو للمديح والرضى ولكنه كان بالعكس مثار الاحتجاج والنقد. ذلك أن مسيو ارستيد كييه رئيس نقابة الناشرين ومديري الصحف والمجلات قد رفع إلى رئيس الوزارة الفرنسية مذكرة يحتج فيها باسم نقابته على ما قررته الحكومة من بيع دائرة المعارف للجمهور بثمن استثنائي باعتبار أنها مشروع علمي لم يثقل بنفقات أو ضرائب إضافية؛ ويقول مسيو كييه في مذكراته إن مثل هذا المشروع يعرض الناشرين الفرنسيين إلى منافسة غير عادية؛ ويطلب إلى رئيس الوزراء أن تصدر دائرة المعارف طبقاً للعرف العام وأن تباع طبقاً للظروف التجارية العامة، حتى لا يسيء ظهورها بهذه الصفة إلى مصالح الناشرين الفرنسيين
وفاة فنان شهير
توفي أخيراً لوسيان فوجير الفنان والمغني الشهير في عامه الثامن والثمانين. وقد لبث فوجير مدى نصف قرن في طليعة أساتذة الغناء في فرنسا، وبدأ حياته في مسرح (باثافلان) منذ سنة 1870، ثم تنقل في عدة مسارح حتى انتهى الى (الأوبرا كوميك) وذاعت شهرته
عنئذ، وبرز بفنه وابتكاره؛ ووضع أناشيد وأغاني كثيرة كانت تلقي نجاحاً عظيماً. ومن غريب أمره أنه ظل حافظاً لقواه الفتية، ومواهبه الغنائية حتى آخر سني حياته؛ وكان في العام الماضي ما يزال يجذب الجماهير حيثما يغني
ذكرى علامة طبيعي
يتأهب أصدقاء الكاتب الطبيعي لوي ديبري للاحتفال هذا (العام سنة 1935) بمرور خمسين سنة على وفاته، وستقام بهذه المناسبة لوحة تذكارية في قريته (روفر). وقد توفي ديبري في عنفوان شبابه، في الثانية والعشرين، وفي ظروف مؤثرة، إذ توفي في سجنه حيث كان يقضي شهراً حكم به عليه من أجل كتابه الذي ألفه مع هنري فيفر وعنوانه (حول بزج الأجراس).
وقد كان لهذه القضية يومئذ ضجة كبيرة واحتج عليها أقطاب العصر مثل راول وجونكور ودوديه وكليمنصو وغيرهم
عنكبوت عجيب
بينما كان بعض العمال ينقبون في أحد البيوت القديمة في بلدة شومنيان هفان بالقرب من شنغاي في الصين، رأوا عنكبوتاً غريباً في شكله، عجيباً في تركيب جسمه، له وجه يشبه وجه الإنسان، رأسه عريض كبير، ووجهه يميل الى البياض، وله فوق عينيه حاجبات أسودان وأنف أسود وشفة بيضاء
وقد أرسل هذا العنكبوت الغريب الى معهد تعليم الشعب في شنغاي لعرضه على العلماء ليقولوا رأيهم فيه
من روائع الشرق والغرب
مغرب الشمس في البحر
لأمير النثر الفرنسي (شاتو بريان)
من كتابه (عبقرية المسيحية)
بقلم أحمد حسن الزيات
كانت السفينة التي كنا نعبر بها المحيط إلى أمريكا فوق سوية الأرض اليبس؛ فلم يعد أمامنا مد الفضاء، غير طبقين من زرقة البحر وزرقة المساء! فكأنما كان نسيجاً أعده مصور فنان ليتلقى عليه آية إلهامه وإبداع فنه. وكان لون الماء قد ارتد إلى لون الزجاج المذوب؛ وقد سرت في الموج رعدة قوية جاءته من ناحية المغرب، مع أن الريح كانت تهب حينئذ من جهة المشرق، ثم ثارت من الشمال إلى الجنوب أمواج عالية، كانت تفتح في ثنايا أوديتها فُرجاً طويلة يقع النظر منها على صحاري المحيط. كانت هذه المناظر المنتقلة تختلف وجوها في كل لحظة: فتارة تكون سلاسل من الربى المخضرة، كأنها أخاديد الأحداث في مقبرة واسعة، وتارة تكون إرسالا من الموج تتراغى أعإليه فتحكى قطعاناً من الغنم البيض قد انتشرت في حقول الخَلنْج؛ وغالباً ما ينطبق الفضاء فلا ينطبق عليه تشبيه، فإذا ارتفعت موجة على متن المحيط، وانخفضت لجة فصارت كالساحل البعيد، ومر رَعيل من كلاب البحر في خط الأفق، انفتح الفضاء أمامنا فجأة. إنما كنا نتصور اتساع المدى وانفساح الطرف إذا ما تسحب على وجه البحر ضباب خفيف، فكأنما كان يزيد في سعة الافق، ويدفع في امتداد الجو!
آه! لشد ما كانت صور الأقيانوس في تلك الساعة مظهر عظمة ومثار حزن! ولله تلك الأحلام التي يلقيك فيها ويغمرك بها! سواء بايغال الخيال في بحار الشمال بين الصقيع والزوابع، أو بإرسائه في بحار الجنوب على جزر الرخاء والغبطة؟
كان غالباً ما يحدث أن نهب من النوم بعد وهن من الليل فنجلس على ظهره السفينة حيث لا نجد إلا ضابط النوبة وبعض البحارة يدخنون غلايينهم في سكون وصمت، وكان كل ما يقع في الأذن إذ ذاك إنما هو صوت السفينة تشق بحيزومها عباب المحيط، على حين كان
شرار من النار يجري مع الزبد الأبيض على جانبي المركب. سبحانك اللهم!! لقد نقشت في كل شيء آي قدرتك، ولا سيما في أطباق اللجج وأعماق السموات: ملايين من النجوم تشع في القبة الزرقاء، وبدر ثم يتألق في كبد السماء، وبحر لًجى من غير ساحل ولا حد، ولا نهايةٌ في السماء وعلى الماء! أبداً ما هزت قلبي عظمتك بمثل ما هزته في هذه الليالي، وأنا معلق بين الكواكب والأقيانوس، فوق رأسي سعة لا تحد، وتحت قدمي سعة لا تقاس
أنا لست شيئاً، إنما أنا ناسك ساذج. ولطالما سمعت العلماء يجادلون في (الكائن الأول) فلم أفهم عنهم. ولكني لاحظت أن هذا الكائن المجهول يستعلن وجوده في قلب الإنسان كلما نظر في المشاهد العظمى للطبيعة
ففي ذات ليلة ساجية الجو هفافة الريح، وجدنا أنفسنا في تلك البحار الجميلة التي تنضح شواطئ (فرجينينا)، وكانت الشرُع كلها مطوية؛ وكنت أنا مشغولاً داخل السفينة حين سمعت الناقوس يدعو البحارة الى الصلاة، فأسرعت مع رفقاء السفر أمزج دعواتي بدعواتهم، وأضم صلاتي إلى صلواتهم. وكان الضباط والركاب قد أخذوا مواقفهم على كوثل السفينة، والقسيس في يده كتابه قد وقف من دونهم قليلَا، والملاحون قد انتشروا على ظهر المركب. وكنا جميعاً واقفين ووجوهنا شطر قيدوم السفينة وهي ناظرة إلى المغرب. وكان قرص الشمس وهو على أهبة المغيب في الماء، يتراءى من خلال الجبال في وسط الفضاء، فكان يخيل إلي من نوسان كوثل السفينة أن الكوكب المضيء يغير أفقه في كل لحظة! وكانت قطع من السحاب قد انتثرت على غير نظام في المشرق، والبدر البازغ قد أخذ يرتفع بطيئاً في الأفق، وكانت بقية السماء صافية الأديم سافرة الوجه؛ وفي جهة الشمال انبعث من البحر إعصار يتألق بألوان المنشور الزجاجي كأنه عمود من البلور قامت عليه قبة السماء، فتألف منه ومن كوكب النهار وكوكب الليل مثلث باهر الجلالة!
إن الرجل الذي لا يدرك جمال الله في هذا المشهد ليستحق الرثاء والرحمة! أسبلت أوراق عيني على الرغم مني حين حسر الرفاق قبعاتهم المقطرنة عن رءوسهم وأنشدوا بصوت أصحل أبح نشيدهم البسيط: (سيدتنا صاحبة المعونة وحامية البحارة)
لشد ما أثر في نفسي صلاة هؤلاء الرجال وقد وقفوا وسط المحيط على لوح هَشٍ من الخشب يتأملون الشمس وهي تغرب في اللجة: فالشعور بحقارتنا أمام عظمة اللانهاية،
وأناشيدنا المرسلة على الأمواج، ودنو الليل بويلاته ومكائده، وسفينتنا العجيبة في بحر مسجور بالعجائب، وفريق من البحارة استولى على قلوبهم الإعجاب والخوف، وقسيس جليل عاكف على الصلاة، والله الذي تجلى للبحر فأمسك بإحدى يديه الشمس على حجاب المغرب، ورفع بالأخرى القمر من مهاد المشرق، وهو يسمع من خلال الفضاء المطلق أصوات خلقه، كل أولئك لا يستطيع قلم أن يصوره، ولا قلب مهما دق شعوره أن يتصوره!
الزيات
دعاء
لشاعر الحب والجمال لامرتين
أشار لامرتين في كتابه (رفائيل) الى الأشعار الأولى التي (انجست من قلبه) والتي قرأها (دون أن يجرؤ على رفع بصره الى رفعها إليها)
ومن المحتمل أن تكون هذه الابيات:
أنت يا من ظهرت لي في صحراء هذه الدنيا! يا ساكنة السماء وعابرة هذه الأرض! يا من أضأت لي بشعاع من الحب هذا الليل الغاشي! اظهري بشخصك كله لعيني المشدوهة، وقولي لي ما اسمك، وما وطنك، وما حظك؟ أأنت من سلالة أرضية، أم أنت من نفحة قدسية؟
أتذهبين غداً إلى شهود الضياء الخالد؟ أم لا يزال أمامك في دار البعاد ودنيا الحداد وموطن البؤس خُطى تقطعينها في طريقك الشاق المتعب؟ مهما يكن اسمك وحظك ووطنك يا ابنة الأرض أو يا ابنة السماء، فدعيني ما دام ينبض بالحياة قلبي، أقدم إليك عبادتي أو حبي
إذا وجب عليك مثلنا، أن تستوفي أجلك وتبلغي مداك، فكوني سندي ودليلي، واسمحي لي أن أقبل في كل مكان غبار خطواتك المحبوبة. أما إذا طرت يا أخت الملائكة عن دنيا الشقاء والجحود، لتعيشي بجوارهم في دار النعيم والخلود، فاذكريني في ملكوت السماء، بعد أن أحببتني أياماً على هذه الغبراء!
الزيات
الكتب
على عتبة الأمومة
تأليف الدكتور مصطفى الخالدي
ليس هذا الكتاب كما يتبادر الى الذهن كتاب طب وضع للأطباء، بل
هو كتاب من كتب الثقافة العامة، وضع لكل شابة وشاب، ألفه الدكتور
الخالدي، الأستاذ في فن التوليد والأمراض النسائية في جماعة بيروت
الأمريكية، ويقع في مائتي صفحة كبيرة، متقن الطبع، جميل السبك،
متين الورق
وقبل أن أحدث القارئ عن مباحث هذا الكتاب النافع، أشير الى ناحية فيه قد عظم إعجابي بها: ذلك أن الدكتور المؤلف قد بلغ حداً فائقاً من المهارة في تقديم المسائل العلمية والفنية الى عامة القراء، مما جعل كتابه في متناول كل قاريء، يفهمه في غير عسر، بل يقبل عليه في شغف ولذة، هذا الى ما احتوى عليه من صور دقيقة واضحة، تبين أجزاء البحث، ومنها عدد يتعلق بناحية الجمال والعاطفة دون أن يبعد عن المقصد الذي يسعى إليه المؤلف، إذ كان محوره بيان الأمومة السعيدة والطفولة السعيدة
وينبغي أيضاً أن أشير الى الأسلوب الذي نهجه الدكتور، فهو أسلوب من حدد موضوعه ورسم جزيئاته في نفسه، وتبين غايته منه، فاستطاع أن يكون سهل الأداء قريب المأخذ، بعيد المرمى، مما يتفق مع طبيعة هذا الكتاب وموضوعه الدقيق
والكتاب بعد ذلك مزيج من العلم والعاطفة، فموضوعه الإرشاد في ضوء القواعد والأصول، وغايته إسعاد الأم والأبناء، مع الشعور دائماً (بأن المحيط الذي سيخدمه هذا الكتاب هو محيطنا الشرقي الذي يقدس الشرق والحياء الجنسي، فلا تخجل من قراءته العذراء، ولا يجد القارئ طي صفحاته إلا كل ما يخص على اتخاذ المثل العليا في الحياة غاية لسعادة الأمومة والحياة)
افتتح المؤلف كتابه، بتلك الأسطورة الهندية الشهيرة في خلق المرأة، ثم قدم لبحثه في كلمة
أشار فيها الى تسلط الأوهام والخرافات على كثير من العقول فيما يتعلق بأمر الحمل والولادة بسبب الجهل، مؤدياً قوله ببعض الحوادث التي صادفته وبعض الإحصاءات التي اطلع عليها
بعد ذلك أورد كلمة في الانقسام الخلوي وتكوين الجنين، ثم شرح في دقة وسهولة الأعضاء التناسلية في المرأة، وما يطرأ عليها في سن البلوغ، وتكلم عن الاشتراكات إبان الحمل، وعن الولادة والنفاس والطفل الوليد، وما يجب اتخاذه من وسائل العناية أثناء الحمل والولادة وعقب ذلك، وأختتم موضوعه الخطير بفصل ممتع في الغريزة الجنسية، وبيان بعض الأمراض، وبعض المسائل التي تشغل بال الإنسان في شبابه، ثم بكلمة رقيقة حصيفة الى المتزوجين ومن هم على أهبة الزواج
وإني لأشكر الدكتور المؤلف، معترفاً له بجميله هذا، فلقد استمتعت بقراءة هذا الكتاب واحببته حباً عظيماً، يدعوني الى أن أتقدم الى القراء بخالص النصح عسى ألا تفوتهم قراءة هذا الأثر النافع الجميل
مرآة النساء
تأليف الأستاذ محمد كمال الدين الأدهمي
يطلب من مكتبة صبيح بميدان الأزهر ثمنه ثمانية قروش عدا أجرة البريد
يقع هذا الكتاب في مائتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط، ألفه الأستاذ الشيخ محمد كمال الدين الأدهمي بقلم المحفوظات التاريخية بديوان جلالة الملك، وقد جمع فيه كثيراً مما ذكر قديماً وحديثاً عن المرأة في جميع نواحي حياتها، فأورد بعض ما قيل في مدح النساء والدعوة إلى الرفق بهن، وبعض ما ذكر فيهن على لسان الشعراء والأدباء واوصاف المرأة الصالحة ومسلكها كربة بيتها، ومقاييس الجمال النسوي ومباريات الجمال وأدب المرأة ومبلغ علمها، وعناية الإسلام بشؤونها، وما جاء في الشريعة عنها من الأوصاف، مع ذكر تراجم الكثيرات من شهيرات النساء كالسيدة عائشة رضي الله عنها وكأم هارون الرشيد وقطر الندى وشجرة الدر، وعائشة التيمورية
كذلكتعرض الأستاذ لمسألة الحجاب والسفور وما قيل في هذا الباب في الشرع وما ثار فيه
من جدال بين المفكرين والكتاب
فأنت ترى أن الكتاب أشبه بالجمع منه بالتأليف على أن لكل عمل ثوابه إذا كانت وجهته لخير الصالح العام، وإنك لن تعدم في مطالعة هذا الكتاب الاستمتاع بما ورد في شتى الكتب عن النساء من طرف أدبية ومن بحوث مفيدة، وقد انتظم الكثير منها بين دفتيه، ولعل القارئ حين يطالعه ينفتح له كثير من الموضوعات الجديرة بالبحث فيما يتعلق بالمرأة الشرقية في نهضتها الحالية، وبعين له من أوجه البحث ما نحن في أشد الحاجة إليه.
وإني لأشكر للأستاذ الأدهمي ما بذل من مجهود وما توخى من خير
الخفيف
القصص المدرسية
قال الأساتذة: سعيد العريان، وأميندويدار، ومحمود زهران مؤلفو هذه القصص المدرسية:
(ليس من شك في أن الطفل بطبعه ولوع بالقصة؛ وأن الأدب العربي على سعته وغناه يكاد يخلو من القصة السهلة التي يستطيع الطفل أن يقرأها في رغبة وشوق. فبينما نرى الآداب الأجنبية حافلة بكل ما يجذب الطفل ويحبب إليه القراءة والمطالعة، نجد الأدب العربي يكاد يخلو جملة من (أدب الطفل)؛ وبينما الطفل الأجنبي يتلقى أكثر معلوماته عن الحياة في أسلوب (القصة) الجذاب - نرى الطفل العربي يتلقى أكثر مسائل العلم في أسلوب جاف، وطريقة لا تلائم طبيعته المرحة
ولاشك أن المدرسين أكثر إحساساً بهذه الحقيقة، واشد شعوراً بحاجة الطفل العربي إلى أدب سهل يشوقه ويجذبه، ويوافق نزعته وميله. هذا الشعور الذي دفعنا إلى أن نحاول سد هذا الفراغ، بوضع قصص سهلة تلائم طبع الطفل وتتمشى مع روحه، فبدأنا بوضع سلسلة من القصص، سميناها:(القصص المدرسية)
ورمينا فيها إلى الأغراض الآتية:
(1)
- أن تكون وسيلة إلى تعليم الانشاء؛ فجعلنا أسلوبها سائغاًُمفهوماً، لا يبعد من الفصحى، ولا يتدنى إلى لغو العامية؛ وحاولنا بسبيل ذلك أن نقرب بين اللغة التي يتكلمها التلميذ، والعربية التي يتعلمها؛ فأبقينا على كلمة عامية لها في العربية أصل يؤيدها، غير
وانين في التنقيب والبحث في كتب اللغة عن كل كلمة في مظانها ووضعنا تحت عين التلميذ نماذج من جيد الانشاء، مبثوثة في تضاعيف القصة، مفرقة في حواشي الكلام ليسهل على التلميذ تناولها من غير أن يشعر بسأم المتعلم؛ فلا يكاد يأني على القصة حتى يكون قد اجتمع له من فصيح الكلام قدر يعنيه على تجويد المحادثة والإنشاء
(2)
- وأن تكون وسيلة الى تهذيب الطفل؛ لذلك عنينا بأن يكون موضوع قصصنا غير بعيد من جو التلميذ، بحيث يسهل عليه تصوره ومتابعته بخياله، وبحيث يتهيأ له أن يعرف الطريق الى الرجولة الفاضلة من غير أن يلتوي عليه السبيل
(3)
- وأن تكون وسيلة الى تسليته؛ ولهذا حاولنا ما استطعنا أن نجعلها جذابة في كل شيء؛ صغيرة الحجم، يستطيع الطفل أن يضعها في جيبه ليقرأ فيها متى وأنى شاء، مشكولة، ليمكن التلاميذ قراءتها بغير معاناة؛ جميلة مصورة، زاهية اللون، لتدعو الطفل إليها بمنظرها الجميل، كما جعلناها رخيصة الثمن، ليكون في طاقة كل تلميذ أن يحصل عليها، طيبين نفساً بما نبذل من وقت ومال وراحة في سبيل الغرض الذي ننشده؛ فان أفلحنا في الوصول إليه فذاك حسبنا، وإلا فإننا ماضون في طريقنا دائبون على تكميل كل نقص نراه أو يلفتنا إليه الناصحون)
وقد نشر الأساتذة الفضلاء قصتهم الطفلية الأولى وهي (مُدمس أكسفورد) تقع في 54 صحيفة، مشكولة كلها بالشكل الكامل. وموضوعها جذاب طلي. يصل بنفسه الى أعماق نفس التلميذ، ويجمع له بين القراءة والتفصح والتهذيب ويرمي بهمته الى بعيد، ويسمو بعواطفه الى أعلى
وقد ختمت هذه القصة باستخراج سبعة موضوعات إنشائية منها، مبينة في آخرها، ليكتب فيها التلميذ الصغير؛ فكانت القصة بذلك جامعة بين القراءة والكتابة، محققة لأغراض الأساتذة المعلمين
وثمن كل قصة خمسة مليمات، وتطلب من إدارتها بطنطا