المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 840 - بتاريخ: 08 - 08 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٤٠

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 840

- بتاريخ: 08 - 08 - 1949

ص: -1

‌14 - أمم حائرة

الخاتمة

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

بالعدل، وهو شريعة لا تناقض فيها، ولا اضطراب، ولا تخلف، تسكن نفس العادل إلى طريق الأحبة، وتطمئن إلى خطة بينه، ويملأها السلام. وكذلك تسكن وترضى وتطمئن أنفس الآحاد والجماعات التي يدير العدل أمورها، ويصرف شئونها، فيسري السلام فيها ويربط الوئام بينها، ثم يشيع السلام والوئام في أمور الجماعة جليلها ودقيقها، كلها أو أكثرها، والسلام هو سعادة الأحدان والجماعات، وقوام الخير والشر بينها، ووسيلة الصلاح والاستقامة في كل أمورها. وقد سمى الله تعالى نفسه السلام. وفي القرآن الكريم:(والله يدعو إلى دار السلام)(يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور).

فالإيمان بالله يؤدي إلى العدل وفضائل أخرى كثيرة عظيمة. والعدل يؤدي إلى السلام، والسلام قوام السعادة والطمأنينة في نفوس الوحدات والجماعات.

فلهذا فليعمل العاملون، وعلى هذه القواعد فليبين بناة الجماعات والأمم، وهذه السبيل فليسلك دعاة الحق والخير، وهذا النهج فلينهج المعلمون والمربون على اختلاف درجاتهم، وأممهم ومواطنهم وعصورهم.

إن الناشئ في هذا العصر تتلقفه آراء لم تحكمها الروية والتثبت، وأقوال لم يزنها الصدق والإخلاص، وأفعال لم يرد بها وجه الله. وتحيط به هذه الآراء والأقوال والأفعال أنى سار، وتلزمه كل حين بما اخترع العلم من وسائل النشر والإذاعة. وهو هالك إن لم يدركه العقل والعمل.

وعلى قادة الرأي وأولى العلم أن يجنبوا النشء كل حين بكل وسيلة القلق والحيرة والزلل والشطط بهذه الآراء والأقوال والأفعال، في الدار والمدرسة وبالإذاعة والكتب والصحف، وبكل ما هدى إليه العقل السليم والعلم الصحيح من وسائل.

ص: 1

إن هذا الصخب المحيط بنا، وهذا القلق المستمكن في أنفسنا والظاهر في كثير من معايشنا ونظمنا وشرائعنا وأمورنا، وهذه الحيرة الدائرة بالناس على غير طريق إلى غير غاية، وهذا التناهر في الأقوال، والتخالف في الأفعال، كل أولئك مردة إلى فقد السلام في النفس الواحدة، وبين الأنفس المتعددة، في كل طائفة وكل قبيل وكل أمة ثم بين الناس أجمعين.

ولا سبيل إلى السلام إلا بالعدل يجمع الناس على شرائع من الحق وسنن من الخير والبر، ويقيها الأهواء المتصادمة في الأنفس المتنافرة، والأحداث المتلاطمة في الأمم المختلفة.

ومرجع العدل وأخوات له بها أمن الناس وائتلافهم وتوادهم وتعاونهم وأخونهم، وفيها الخير العميم والسعادة الشاملة، هو الإيمان بالله، والإيمان الذي يعظم النفس كما قلت آنفاً، ويجمعها ويرفعها عن الدنايا وعن سفاسف الأمور وعن الأهواء وعن المادة إلى معالي الأمور وجلائلها، وإلى الحق وإلى عالم الروح المتلائم المتناسق الطرد المنسجم.

نحن في عالم تتصادم آراؤه لأنها لا ترجع إلى أصل يوحد بينها، بل تنشأ عن نزعات ونزعات؛ وتختلف أقواله لأنها لا ترجع إلى صلة يجمعها ويؤلف بينها، وتتقاتل بما فقدت الحق والعدل، والمعاني العامة، والشرائع الهادية الجامعة.

ولا منجاة من التصادم والتخالف والتقاتل إلا بالسمو عن الأهواء إلى الخ وعن الظلم إلى العدل، وعن الأحداث الجزئية إلى القوانين الكلية. ولا يتسنى هذا إلا بالعلو إلى أصل الأصول وحقيقة الحقائق وهو الله تعالى مصدر الخير والجمال والعدل والسلام وما يتصل بأولئك جميعها.

هذا الكلام الموجز عنوان لمعان لاتحد، يعيا عنها البيان، وتحسر فيها العقول والألسن والأقلام وإنما هو إشارة إلى عالم فسيح، للعقل فيه مراد، وللوجدان في أرجائه مجال. فليفكر المفكرون، وليتأمل المتأملون، وليدع المصلحون، وليضرب الأخيار الأمثال، وليبين هذا للناس كل من أوتي نصيباً من العلم وحظاً من الرأي: غير آل جهداً ولا مقصر في فكر أو عمل حتى تستبين السبيل ويتضح النهج وتلوح الغاية ويستقيم المسير. والله ولى التوفيق.

أما بعد فهذه كلمات مخلصة لله، اطرد فيها، وفاض بها القلب في غير تكلف ولا تزيد ولا مراءاة.

ص: 2

وقد عرضت فيها أسباباً لقلق الناس وحيرتهم، وشقاوتهم بعقولهم وأعمالهم، وبما صنعت أيديهم، وراء هذه الأسباب أسباب أخر. وما أردت الاستيعاب والاستقصاء. وقد دعوت إلى أمور رأيتها طباً لهذه الأدواء، وشفاء لهذه العلل، ومعها أمور أخرى، متصلة بها أو تابعة وما حاولت الاستقراء والإحصاء

ولم يقف بالقلم عند هذا الحد بلوغ الغاية أو الإبقاء عليها. ولا ضيق المجال، ولا نضوب الرأي وقصور القول: بل وقف بالقلم طول لا طريق وبعد الغاية، وأنها سبيل يغني فيها الإيجاز، وتكفي فيها اللمحة والإشارة والدعوة والتنبيه والإيقاظ والتحذير. وكذلك وقف بالقلم الترويح عن القارئ والإشفاق من أن يمل من هذه السلسلة الطويلة وراء هذا العنوان الوحيد.

وإني لأدعو كل مفكر وأحفز كل كاتب إلى أن يمنح هذا الموضوع بعض عنايته، ويصرف له بعض وقته أداء للأمانة وقياماً بالواجب.

وعسى أن أعود إلى هذا الموضوع أو موضوع يتصل به ويمت إليه. والله نسأل السداد في الرأي والإخلاص في القول والعمل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

عبد الوهاب عزام

ص: 3

‌أيتها الشمس

للأستاذ راجي الراعي

أيتها الخمرة البيضاء التي يسكبها لنا الله في وليمة الحياة. .

أيتها النقية الطاهرة التي لم تمسها يد البشر. . . ولم يتسرب إليها لؤم الأرض ونفاقها. ..

أيتها الكريمة الباسطة يدها لتصافح الخارجين من الظلمة. . .

أيتها الجندية الأمينة الواقفة على باب السماء. . .

أيتها الجبارة التي تحتل الخليقة. . .

أيتها الساحرة التي علقت باشتراكها الأرض. . .

أيتها الشعلة المتقدة في دماغ الأفق. . .

أيها الثغر الجميل الذي يفتر عن الشعاع. . .

أيتها الشمس!

يا مصدر النور

ويا هدية السماء إلى الأرض

أيتها اليد الحمراء التي ترفع ستار الليل وتسدله والليل صابر مطيع. . .

أيتها الأميرة المتكئة على وسادة الفجر. . .

أيها القلب المشتعل الذي يفيض حباً وحناناً. . .

أيتها الناظرة إلى الأرض نظرة السيد القديم إلى العبد القديم

أيتها الرفيقة المخلصة الشريفة النادرة التي عاهدت الخالق أن ترافق الخليقة من يومها

الأول إلى يومها الأخير ولم تنقض عهدها

أيتها الكرة النارية التي تتقاذفها القرون. . .

أيتها الشمس!

يا ابنة الله. . .

ويا صاحبة الجلالة

ويا فتنة الخليقة

ص: 4

ويا منارة الهدى

أيتها الفاتحة التي تغزو بأشعتها القاهرة. . .

أيتها الضاربة خيامها في كل بقعة من بقاع الأرض. . .

أيها الشلال الذي يتدفق نوراً من جبال الآلهة. . .

أيتها الرقيبة التي ترقب الخلائق بعين لا تنام. . .

أيتها المستحمة في البحور، المرتدية حلة العذراء، الضاحكة بأشعتها كالأطفال، الواقفة

مكانها لا تتزحزح عنه، وقد سحرها جلال الله. . .

أيتها الموزعة هداها على الضالين. . .

أيتها المرأة التي اقترنت بالأفق ولم تخن رجلها. . .

أيتها الأميرة الناصبة عرشها على رءوس الليالي. . .

أيتها الدرة المستقرة في أعماق بحر الأثير. . .

أيتها الشمس!

يا عين الله. . .

ويا قلب الزمان. . .

ويا كبد السماء. . .

ويا ذروة الكمال. . .

ويا حجة المؤمنين على الكافرين!

أيتها الأم الكبرى الحنون التي لم تستطع الأمومة في الأرض أن تجاريها في حنانها. . .

أيتها الشمس!

يا معقل الكبرياء

ويا وطن الكهرباء

ويا عدوة الخبث والرياء

ويارسولة المساواة والإخاء

ويا سيدة الفضاء

ويا علة الهناء والشقاء

ص: 5

لقد فررت من الأرض وأتيتك أسألك عن اليوم العتيد. . .

هل أنت مقيمة على عرشك إلى الأبد؟

أيطول أمر هذه الخلقية؟

اكشفي لي سرك. . . أنت النور. . . والنور فضاح. . .

ألم تسأم نفسك الشروق والغروب؟

إلى متى نظل مسحورين بجمالك الذي لا يعدله جمال؟

لقد أنهك السحر قوانا. . .

إلى متى تأخذين منا ليالينا وتعيدينها إلينا؟

لقد حار فيك الليل! إن جلالك لا حد له ولا يفوقه جلال وقد ناء به كاهل الخليقة

الضعيف. . .

أيتها الشمس المشرقة علي اليوم. . .

هل أنت تلك الشمس التي أشرقت على الرجل الأول؟

هل نورك اليوم كنورك بالأمس؟

هل أنت تلك التي عرفتها القرون الأولى؟

أم أن العمر فعل فعله فخف ضرامك واعتراك العياء؟

اكشفي لي سرك. . . أيتها الشمس. . .

إن لك الملايين من الأشعة. . . فانفذي إلي شعاعاً واحداً يهمس في أذني كلمة السر

ويريحني. . .!

راجي الراعي

ص: 6

‌إلى اللقاء

للأستاذ كامل محمود حبيب

(إلى أبنائي الذين أحسوا لذع الفراق يوم الوداع الأول، وهم

ما يزالون أطفالا، فاغغرورقت عيونهم بالعبرات، ثم كفكفوها

لأنني قلت لهم: يازجال!)

إلى اللقاء، يا بني، هناك على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى.

إن الإنسان ليحن - دائماً - إلى حيوانيته الأولى فيسعى ليتحلل من أعباء الرزانة والعقل وليحطم أغلال الإنسانية حين يحس أنها قد كبلته بقيود من الجدار والثوب.

يا لبؤس الحيوان حين تعصره الزريبة بين جدرانها فلا يستطيع أن ينفلت منها إلى الحقل. . . إلى العشب والنور والشمس والهواء! ويا لشقاوة الطير حين يضغطه القفص بين قضبانه فلا يجد السبيل إلى روح الغابة. . . إلى الحرية والسعادة والجمال!

هناك على شاطئ البحر، عند الربيع الأزرق، يخلع المرء ثوبه فيخلع إنسانيته حيناً بالحيوانية، ويئد عقله لينعم بالجهل، ويفزع عن صوابه ليسعد بالحمق.

وأنت - بابني - طفل يلذ لك أن تنطلق إلى طفولتك لا يربطك ولا يمسكك غل ولا يحدك عقل.

فإلى اللقاء، يا بني، على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى.

أتذكر - بابني - يوم أن جاء خالك يطلب إلي أن أدعك تصحبه إلى الإسكندرية فتشبثت بي ترجوني، لأنه شاقك أن تمرح على شاطئ البحر مرة أخرى. ونزلت أنا عند رأيك الفطير، رأى الطفولة الوثابة، لأنني خشيت أن يضربك الأسى والحزن وأشفقت أن تعصف بك معاني الخيبة واليأس، فتستشعر الصغار والذلة وأنت ما تزال غض الإهاب لين العود لدن العظم

لقد كان بودي أن أرافقك لولا غل الوظيفة وشواغل العيش وعنت الصيام، فبقيت أنا هنا -

ص: 7

في القاهرة - ترمضني الهاجرة ويمضي لا فراق. ونسيت أنني سأجد فقدك لاذعاً في قرارة نفسي

ولبثت ليلتك تهيئ حاجاتك، وإن إهابك ليكاد ينقد من شدة الطرب والسرور. وأرغمني على أن أشاطرك فرحة نفسك فغبرت حيناً طفلاً كبيراً وقد وخطه الشيب وهدته السنون يعبث بين أطفال صغار. واستشعرت اللذة والسعادة فاندفعت أرتب حاجاتك بين المزاح والدعابة. ثم انحلت عزيمتك وكلت قوتك فانحططت في فراشك تغط في نومك، ووقفت أنا إلى جانبك أتملى سمات البهجة وقد رسمها الأمل الحلو على قسمات وجهك النائم!

وفي القطار أقبلت أقبلك قبلة الوداع، فأحسست أنت مرارة الفراق، فاغرورقت عيناك بالدمع وشرقت بالكلمات، وأوشكت عواطفك أن تثور، فتشبثت بي وقد طغت مشاعرك الطاهرة على نوازع طفولتك وهي تدفعك إلى البحر. ولكنني قلت لك:(ماذا جرى، يا رجل؟). . . فكفكت عبراتك وتماسكت وكتمت خفقات قلبك النقي، ثم تعلقت عينك بي فما تطرف حتى تحرك القطار، وتواريت أنا عن ناظريك. . .

لشد ما حز في قلبي أن تحمل نفسك عل تكفف عبراتك الرقراقة الغالية، يابني لتبدو رجلا قبل الأوان!

آه، يا بني، لقد كانت هذه الكلمة - كلمة الرجولة - شديدة الوطأة على نفسك لأنها حملت طفولتك فوق الطاقة وكلفتها فوق الجهد، ولكن. . .

ولكن إلى اللقاء، يا بني على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعري!

لقد دعوتك، يا بني، أن أفسح صدري لطهر الطفولة وسخفها، وأن أسع عبثها ومجونها، وأن أتقبل نزواتها وطيشها، وأن أستسيغ حلوها ومرها، فلا تنفض طفولتك كلها أمام خالك فيحس بالجفوة أو يستشعر الضيق، أو يجد الملل!

وإذا ربت على كتفك في عطفن أو قبلك في حنان، أو ضمك في شوق، فلم تحس لين كفه، ولا حرارة قلبه، ولا دفء صدره، فلا تمتعض ولا تتململ، لأنك لن تلمس اللين والحرارة والدفء إلا في رجل واحد هو أنا. . . لأنني أنا أبوك!

وإذا طلبت إليه أمراً فأغضي عنك، أو أمتهن رغبتك، فلا تحزن لأنني أنا وحدي الذي لا

ص: 8

أضيق بحاجاتك ولا أسخر من نزواتك. . . أنا أبوك!

وإذا ابتسمت فعبس أو عبست فابتسم فلا تأس لأنني أنا وحدي الذي أشاطرك سرورك وحزنك، وأشاركك مرحك وشجوك. . أنا أبوك!

وإذا افتقدني - على حين فجأة - فضاقت نفسك بالحياة وهي تتألق فيك عن اللذة وهي تضطرم في قلبك، فلا تدع شجونك تستلبك من سعادتك وأنت على شاطئ البحر كالفراشة الطروب تطير وتقع فلا تقع إلا على مرح وبهجة!

وإذا أحسست بالغربة والضياع فلا تضق بما ترى ولا تفزع مما تجد فغداً أكون معك!

وإلى اللقاء، يا بني، على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى!

لست آسي، يا بني على عمر مضى خلو من نبضات القلب، ولا على شباب انطوى من دفعات الهوى، لأنك أنت أفعمت قلبي بالحب والأمل والحياة جميعاً!

فأنت النبتة اليانعة النضيرة في صحراء العمر، وأنت الزهرة الرفافة الزاهية في بيداء الحياة، وأنت النشاط في زمن الخمول، والقوة في سني، والخلود في دنيا الفناء!

وأنت نور العين إن أظلمت الحياة، وانطوت زهرة الشباب، وأنت بهجة القلب إن ذوى العود وهي الجلد. . . إن أوشكت القدم أن تنزلق إلى طريق الأبد!

وأنت عمري الدائم، وصوتي المدوي، وحكمتي الأبدية، وروحي الخالدة!

فدعني، يا بني أوقع على أوتار القيثارة الإلهية - قلبي - لحن الحنان الأبوي الذي فاضت به مشاعري يوم أن دفعني العطف لينزل عند نزوات طفولتك الطائشة، فافترقنا لأول مرة!

إن ألحاني شجية أخاذة، غير أن عقلك الغض لا يدرك معناها، ما تبرح في جهلك الأول. . . ولكن حين تصقل السنون عقلك، حينذاك أجلس إلى نفسك وأستشف - في إمعان - ما وراء هذا النغم الحي. . .

لقد رأيت يا بني - ذات مرة - رجلاً يضن على صغاره بالضئيل ويبخل بالتافه، ولكنني رأيت - أيضاً - الحيوان يطعم صغاره ويستمرئ هو المسغبة، ورأيت الطير يزق فراخه ويستعذب المخمصة!

آه، يا من أفنيت عمرك صعلوكاً في دنيا العزوبية!

ص: 9

لقد سفلت حين نبذت معاني الأبوة في نفسك، وصغرت حين مسحت على آثار النبوة في دارك، وانحططت حين استعبدت لأنانيتك الوضيعة!

يا لحكمتك أيها الفلاح الساذج حين ذهبت تجتث جذور الشجرة التي لا تثمر ولا تفيء الظل!

ويا بني، لا تجزع إن تراءت لك كلماتي فوق عقلك الصغير، وبدت لك خواطري فوق قلبك الغض!

فإلى اللقاء على سيف البحر حيث تموج الدنيا بفلسفة الحرية في معاني اللهو والعرى. . .

وإلى اللقاء حين تصقل السنون عقلك وتشحذ الأيام ذهنك فترقى إلى المعاني السامية التي تفيض بها قلب أبيك الكبير، وهي تتدفق بالعطف والحنان. . .

كامل محمود حبيب

ص: 10

‌قناة السويس ومستقبلها

للأستاذ أحمد رمزي بك

حديث الليلة، يتناول قناة السويس، وموقع مصر الممتاز باعتبارها صاحبة البذخ، الذي كان يفصل بين البرين لافتتاح القناة.

1 -

ولبيان أهمية هذا الموقع، أعرض عليكم تاريخين مهمين:

في 7 مارس سنة 1949 وقعت الحكومة الملكية المصرية اتفاقاً مع شركة القناة بعد مفاوضات ومباحثات قامت بها وزارة التجارة والصناعة: وهو اتفاق تناول أقطاب الوزارة نصوصه وبنوده بأحاديث، وأبانوا ما حصلت عليه مصر من مزايا وما حققته لنفسها من أهداف: وبعد إتمام هذا الاتفاق عملاً وطنياً كبيراً يصح لوزارة التجارة والصناعة أن تفخر به، وهو عمل معروض الآن على الهيئات التشريعية للبلاد لإقراره والتصديق عليه.

وفي 17 مارس سنة 1968 ينتهي عقد الامتياز المنوح للشركة.

2 -

وبين هذين التاريخين تقع فترة من الزمن تقرب من عشرين عاماً، تحتم علينا أخذ الأهبة والاستعداد لتسلم هذا العمل العظيم حتى ننهض به ويتحمل أعبائه أمام العالم بالتوقيع على الاتفاق أصبحنا شركاء لحد ما مع الشركة نقاسمها وتقاسمنا المغانم والأعباء ونعمل معها على قواعد أكثر ملاءمة لنا مما عهدناه من قبل وفي فترة تحضر لتمصير القناة وجعلها مشروعاً قومياً صميما.

3 -

فهل لنا أن نتساءل، ماذا أعددنا لهذا اليوم؟ أما من الناحية الإدارية والفنية، فأعتقد أن مصر لن تعجز عن إخراج الفنيين والإداريين الذين يتولون هذا العمل ويثبتون كفايتهم وجدارتهم على صيانة هذا الطريق العالمي: أما من ناحية المستقبل الذي يحيط بالقناة وما يتبعها من اثر موقع مصر الجغرافي الممتاز، فهذا الذي يجعلنا نفكر تفكيراً منطقياً يتفق مع ما يحيط من أحداث وما يغمر الدنيا من اتجاهات وتطورات، أخشى أن تؤثر في أهمية القناة وموقعنا الجغرافي، أو تساعد على الإقلال مما كان لهذا الموقع العالمي يسبغه علينا من مظاهر احتكار إحدى طرق المواصلات العالمية.

4 -

إنا لا ننسى أن مصر تعرضت مرتين وسط كل من الحربين العالميتين في القرن العشرين لهجومين يرمي كل منها إلى انتزاع هذا الموقع الجغرافي الهام. ففي سنتي

ص: 11

1915، 1916 تعرضت القناة مباشرة لهجوم من جانب الجيش التركي، وإذا من ضفة القناة الشرقية تبدأ حملة الهجوم المضاد الذي اقتحم سيناء وفلسطين وسوريا ولبنان وانتهى عند جبال طوروس سنة 1918

وفي سنة 1941 - 1942 تكرر الهجوم من ناحية الصحراء الغربية ووجهته منطقة القناة، والذي ساعدته الظروف لزيارة هذه الجهة أيام معارك العلمين كان يرى التجمعات التي أتت تترى من قوات الجيش التاسع وأخذت أماكنها على الضفة الشرقية لقبول المعركة إذا قدر لقوات المحور اقتحام استحكامات الدلتا ووصولها إلى منفا في قناة السويس.

فهذه الجيوش التي تجمعت في الحرب العالمية الأولى والثانية كانت تقصد بهجمتها قناة السويس وانتزاع هذا الموقع الهام باعتباره الشريان الحيوي الذي يربط القارات الثلاث، وجاءت هزيمتها في العلمين بهجوم مضاد استمر حتى تونس في الحرب الأخيرة 1942.

فالذي يسيطر على القناة، يسيطر على مقدرات الحروب وتوجيهها وانتصاراته، ويفرض على خصمه ما شاء من القرارات الحاسمة التي يتوقف عليها مصير الحروب ونهاية المعارك ونحن إزاء هذه الأهمية نرجو ألا يشاركنا غيرنا بامتلاك طريق عالمي آخر يقلل من أهمية هذه المنطقة في يوم من الأيام.

5 -

هذا ما لمسناه في السنوات الاخيرة، أما في الماضي فقد لعب هذا الموقع الجغرافي لمصر صاحبة السيادة على برزخ السويس دوراً هاماً في حياتها، إذ جعلها صاحبة احتكار الطرق البرية والبحرية بين الشرق والغرب.

ففي القرون الوسطى، كانت مصر تحتل مكاناً مرموقاً في اقتصاديات العالم المعروف وقتئذ. وكانت تجارة جزء كبير من الدنيا يمر من البحر الأحمر عبر مصر إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت مراكز التجارة في إيطاليا تشارك مصر في هذا الاحتكار وخصوصاً مدينة البندقية.

6 -

وما كاد يكتشف طريق رأس الرجاء الصالح إلى الهند حتى فقدت مصر أهمية موقعها الجغرافي الممتاز الذي كان يدر الخير عليها، ولم تقبل مصر أن تقف موقفاً سلبياً بل أرسلت حملات بحرية إلى آسيا عن طريق برزخ السويس وساعدها في ذلك حلفاءها من البنادقة، وكان القصد منها رد غائلة البرتغاليين عن الهند. وأراد هؤلاء أن يهاجموا مراكز

ص: 12

مصر في البحر الأحمر فتعرضت سواكن وغيرها لحروبهم، واستمر هذا النزاع حتى العهد العثماني.

7 -

وفي عدد المجلة الجغرافية الأمريكية بواشنجتن، مقال تحدث فيه كاتبه عن أثر التوابل في اكتشاف طرق الملاحة وفي خدمة علم الجغرافية العالمية، ويفهم منه أن مصر بحكم سيطرتها على هذا الموقع الجغرافي، كانت تسيطر أيضاً على تجارة التوابل، وأن هذا الاحتكار للطرق المائية أدى في النهاية إلى اندفاع الدول البحرية نحو اكتشاف آفاق بعيدة وطرق مواصلات تقلل من أهمية هذا المركز الممتاز وتضعف من أثر هذا الاحتكار

وتنتهي هذه الاكتشافات العظيمة بأن تفقد مصر هذا المركز الذي يدر عليها الخير، وتهبط أهمية البندقية وجنوة وغيرها وتصبح ثغوراً من الدرجة الثانية بعد أن كانت دولاً مستقلة فيها مستودعات المتاجر ومراكز الثروات المالية.

8 -

وها نحن اليوم نواجه عهداً يذكرنا بتلك الأيام البعيدة: إننا نرى أمامنا تقدماً بعيد المدى وانقلاباً شاملاً في طرق المواصلات الجوية والبرية والبحرية التي تربط الأرض.

ونعيش في زمن مليء بالأحداث الكبرى والتطورات السريعة وأرى في الآفاق بنا قوات قد اتجهت إلى البناء والخلق والإنشاء وهي نعتقد أن عمل المعجزات ممكناً وأنه بوسعها إحياء الأموات من الأرض ونقل السكان وإجلائهم عن مواطنهم. ونشعر بأن الشرق الأوسط يتمخض عن تطور وتغيير شامل.

9 -

فمن ناحية المواصلات يتحدثون عن طرق القوافل القديمة التي كانت تخترق ويؤملون في إعادة تعبيدها حتى تستعمل لنقل البضائع، ويتحدثون عن العقبة وأثرها ومستقبل خليجها، ونسمع عن طرق حديدية توضع على الخرائط ثم تنفذ مشاريعها، ونرى أنابيب البترول تأتي من الأماكن البعيدة لتصب في أماكن معينة، ونسمع عن موانئ وثغور توسع وتفرض نفسها على هذا الجزء من شرقي المتوسط.

10 -

وقد يبدو هذا لأول وهلة صعب التحقيق ولكن المطلع على ما كان عليه الشرق من عظمة وحضارة وغنى لا يعجب أن يسمع في القريب العاجل بعودة العمران إلى هذه المناطق، ويكفي أن نستعيد ما كانت عليه مدينة أنطاكية في العصور السالفة لنعرف شيئاً مما يخبئه المستقبل لثغر مثل حيفا يطل علينا.

ص: 13

11 -

إنه من أصعب الأمور مواجهة المستقبل على قياس الحاض، كما أنه من أخطر الأمور الاكتفاء بنظرتنا القومية بل يجب أن نتبعها بنظرة عامة لما يبدو حولنا.

ولهذا نقول أن منطق الحوادث الدائرة حولنا يحتم علينا دراسة مستقبل قناة السويس دراسة علمية، لا من ناحية المصلحة المحلية وحدها، بل على ضوء التطور العالمي وما يدور في بقاع هذه المنطقة المحيطة بنا والتي تحاول أن تشاركنا في مركزنا الممتاز.

12 -

إننا في حاجة إلى عدة مشاريع إنشائية: أهمها توسيع الموانئ المصرية في بور سعيد والسويس، وإنشاء مناطق حرة متسعة، وفي وضع شبكة من المواصلات البرية السهلة من الشرق إلى القناة ومن الغرب إليها، وفي حاجة لسياسة عامة للخطوط الحديدية حول القناة، ثم في حاجة إلى عدد من المطارات الكبرى والمحطات المائية لبتي تسمح بهبوط أي نوع كبير من الطائرات فيها.

13 -

إن تطور مصر سيفرض نشر العمران في سينا، ومصلحة القناة تحتم إنشاء منطقة صناعية كبرى في المثلث الذي تشغله المعسكرات البريطانية: لأن توسيع الصناعات الكبرى يفرض من المبدأ أن تكون على الطرق المائية.

هذه نظرة لمستقبل القناة في السنوات القادمة إذا أخذنا بها نقول: أن مصر قد انتقلت من الزمن الذي كانت معدة فيه لخدمة القناة ودخلت العهد الجديد الذي يضع القناة في خدمة مصر

أحمد رمزي

ص: 14

‌خلف الرداء الجامعي

للأستاذ أبي حيان

لم أكد آخذ في قراءة كتاب (الهجاء والهجاءون في الجاهلي) للدكتور م. محمد حسين المدرس بجامعة فاروق الأول، وأتجاوز الفقرات الأولى منه، حتى وقفتني هذه العبارة التي يقولها في سياق الكلام عن تصنيف الشعر العربي ونصيب أبي تمام من ذلك في حماسته. قال:

(أما أبو تمام، فهو يخرج الأبيات في كثير من الأحيان عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها. وقد لاحظ هذا الخلط بعض المتقدمين كصاحب اليتيمة)(ص3).

وقفتني هذه العبارة وصرفتني عن المضي في القراءة، إذ أحسست فيها - لأول وهلة - نوعاً من التناقض الصارخ يشيع فيها، ويباعد بين طرفيها، ويضرب بعضها ببعض.

صاحب اليتيمة يعرض لأبي تمام في يتيمته، وينقد منهجه في حماسته، إذ يلاحظ عليه خلطه الأبواب بعضها ببعض؟!

هذا هو العجب العجاب الذي لفتني إليه لفتاً شديداَ، ووقفني عليه وقفاً طويلاً، وأنا أحاذر ألا يكون في طرفي ضل فيه، أو تاه عقلي في أدراك مراميه ومغازيه، ألا أن العبارة - كما نرى - يسيرة صريحة مستوية لا عوج فيها ولا أمت. فما لليتيمة وأبي تمام، وأين يمكن أن يقع منها؟ وكيف له أن يقتحم نطاقها ولم يتجاوز الثعالبي بها الشعراء المعاصرين، أو على حد قوله - في تحديد موضوعها -:(نجوم الأرض من أهل العصر، ومن تقدمهم قليلاً وسبقهم يسير)؛ ومن هنا كانت تسميتها: (يتيمة الدهر في شعراء أهل العصر). وعصر الثعالبي هو ما بين منتصف القرن الرابع وأوائل القرن الخامس. فكيف أمكن لأبي تمام من أهل القرن الثالث، بل أوائل ذلك القرن، أن يطوي الزمن، ويتخطى أعناق الأجيال، ثم ينضو عنه الكفن، وينفض عنه ركام التراب، ثم ينتفض قائماً، ليستوي مائلاً بين أصحاب الثعالبي ورجال اليتيمة؟!

أليس هذا عجباً عاجباً جديراً بأن يشتت الذهن ويستغرقه، ويثير بعض ألوان الإعجاب بهذه الجامعية الجديدة القديرة على (الخلق الفن)، والجمع بين الاشتات والاضداد؟!

بلى! وتلك هي الأعجوبة التي ساورتني وملكت على مذاهبي منذ نظرت في تلك العبارة

ص: 15

السالفة. وقد جعلت الحيرة تشيع في نفسي: بينما كنت أحسبه حقائق مقررة، وصفات ثابتة محررة وبين ما ينبغي أن توحي به الجامعية من ثقة، أن تقترن به في الذهن من ضبط ودقة، وما تدعو القارئ أو الدارس إليه من طمأنينة وإيمان، ومن تسليم وإذعان. فبأيهما آخذ، وإلى أيهما أطمئن وأسكن، ألا أن يتحقق الإعجاز، وتلتحق الأولى بالإعجاز. وهكذا جعلت أسائل نفسي: أو يمكن لهذه الجامعية الجديدة أن تغير طبائع الاشياء، وأن تبدل الأرض غير الأرض والسماء، وتنسخ قوانين الوجود فتضع من تشاء حيث تشاء وأيان تشاء، فتنشر أبا تمام بين ناس غير ناسه، وفي زمان ير زمانه؟!

وبعد، فها هنا إذن نوع من الاستحالة الظاهرة في نسبة هذه الملاحظة إلى صاحب اليتيمة، وهي - كما رأينا - استحالة لا مساغ لها ألا على ذلك المذهب العابث، فكيف تأتي للأستاذ ذلك؟ وأنى صدر بهذه النسبة الغريبة التي كان يجب أن تلفته لو أنه وقع عليها على ما فيها من غرابة على الأقل؟! أن تتبع هذه المسألة يثير بين أيدينا لوناً من ألوان الطرافة بديعاً، فلم يظن علينا الأستاذ الفاضل ببيان المصدر الذي صدر بتلك الملاحظة عنه، وإ كان هو لا يعبأ في كثير من الأحيان بالتنبيه إلى مصادره، فأثبت في الهامش تعليقاُ على تلك العبارة الآنفة:(تاريخ آداب العرب للرافعي 366: 3 نقلاً عن اليتيمة3: 416).

وهكذا تكون - والله - الدقة الجامعية والأمانة العلمية! تاريخ آداب العرب عن اليتيمة! عنعنة جديرة بالبحوث العلمية الجامعية!

على أنه ينبغي أن تكون اليتيمة هذه مصدراً نادراً أتيح للأستاذ الرافعي أن يطلع عليه، ويرجع إليه، ويصدر عنه بتلك الملاحظة، ثم تقطعت أسبابه، وغاب عن حياتنا الأديبة وجهه، فلم يبقى لنا من ذلك ألا ما نقل الرافعي عنه.

هكذا يجب أن يكون الأمر لتكون هذه العنعنة قيمتها، إذا كان من الأوليات المقررة في أسلوب البحث العلمي أن يكون النص في مصدره الأصلي هو الذي لا معدل عنه، ولا مترخص في التزامه، ولا سبيل إلى تجاوزه أو المسامحة فيه، ما دام ذلك المصدر الأصلي ممكناً بأي وجه من وجوه الإمكان، فلابد إذن أن تكون اليتيمة مصدر غير ممكن.

أفكذلك هي؟

أما أن اليتيمة ليست مصدراً ممكناً فحسب ولكنها مصدر قريب ميسور حاضر، فقد طبع

ص: 16

غير مرة في دمشق والقاهرة، ولم يبعد العهد بعد بطبعته الأخيرة. ويستطيع أي إنسان - دون أن يكون أستاذاً جامعياً تفتح له خزائن الكتب وتتاح له ذخائر الآثار - أن يمد يده إلى أية دار من دور الكتب، أو أي دكان من دكاكين الوراقين، فإذا به يديه. فكيف ساغ للأستاذ الباحث أن يتجاوز هذا المصدر الأصلي، وهو - كما رأينا - قريب حاضر، إلى مصدر آخر غير مباشر؟ وكيف أجيز في رسالة جامعية أن ينكب عن هذه السبيل العلمية المعهودة، وأن يتحدى على هذا النحو أوليات البحث المقررة؟

وقد فعل الأستاذ هذه الفعلة مرة أخرى، بالنسبة لكتاب ككتاب اليتيمة، ذيوعاً وقرباً، وهو أمالي الشريف المرتضى، فقد تجاوزه في نص من نصوصه نقله في كتابه (ص59)، فلم يتكلف الرجوع إليه والأخذ مباشرة عنه، وإنما اكتفي بأن ينقله من كتاب الرافعي أيضاً!

فماذا عسى أن يسمى هذا الصنيع الذي يصر عليه صاحبه إصرارا، ويكرره تكراراً، وبأي وصف يمكن أن يوصف؟ وماذا يرى الجامعيون في هذا المنهج العلمي الجديد الذي يؤثر الدعة، ويأخذ الأمور من حيث تتفق لا من حيث يجب، ويحسب إنما يكفيه في تحقيق الصورة العلمية أن يورد هذه العنعنة التي لا معنى لها، إلا أن يكون القصد إلا شيء من الخداع الرخيص المفضوح؟!

ومع ذلك، فهذا الخطأ المنهجي، وذلك التحدي لقواعد البحث الاولية، أو ذلك الإهمال والاستخفاف بما يجب للعلم والصفة الجامعية الصحيحة من حق وحرمة. . . كل ذلك ليس شيئاً كبير الخطر بالقياس إلى ما وراءه من منكر علمي لا ندري كيف أباحه الأستاذ لنفسه، وكيف أجازته له الجامعة وأجازته عليه:

الرافعي - بمقتضى ذلك التعليق المعنعن - هو المسؤول المباشر عن تلك الإحالة الظاهرة في نسبة القول في حماسة أبي تمام إلى صاحب اليتيمة. . . هكذا جعله الأستاذ - غفر الله له - في سذاجة وغفلة، وبذلك مثله أمام القارئ المتفحص أدنى تفحص في مظهر شائن من الجهالة بالتاريخ الأدبي، والإغفال، لجانب التحقيق العلمي.

والذين يعرفون الرافعي رحمه الله وأكرم مثواه - يعلمون علم اليقين أنه كان من سعة العلم وقوة العقل، ونفاذ البصر في حقائق التاريخ الأدبي، أنه كان من سعة العلم وقوة العقل، ونفاذ البصر في حقائق التاريخ الأدبي، ورهافة التذوق لأسراره، والإحاطة التامة

ص: 17

بأطرافه المختلفة، والدقة العلمية البالغة، وقوة الشخصية والضمير العلمي الذي لا تتطرق إليه الشبه، بحيث لا يمكن أن يتورط في مثل هذه الإحالة، فيضع أبا تمام بين رجال اليتيمة.

وكذلك كنت مستيقناً منذ أول وهلة أن هذه النسبة إلى الرافعي لا يمكن إلا أن تكون مدخولة، وأنه قد أصابها - ولا ريب - نوع من أنواع التزوير، أو فسرت على لون من ألوان التحريف والتحوير. . . . ومعذرة إلى سيدي الأستاذ - غفر الله لنا وله - فالذي استشعرته سلفاً حققته المراجعة، وها هو ذا نص الرافعي - كما جاء في كتابه تاريخ آداب العرب -:(وقد انتقد كتاب الحماسة حمزة بن الحسين، فزعم أن فيه تكريراً وتصحيفاً وإبطاء وإقواء، ونقلا لأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليقبها، ولا تصلح لها، إلى ما سوى ذلك من روايات مدخولة، وأمور عليلة).

هذا هو كلام الرافعي بنصه عن حماسة أبي تمام، وقد صدر به عن رسالة لأبي الحسين أحمد فارس، أوردها صاحب اليتيمة في سياق ترجمته له بين رجال (الجيل)، فليت شعري كيف استطاع الأستاذ الفاضل أن يفهم من هذا النص ما قرره من أن صاحب اليتيمة هو الذي لا حظ على أبي تمام أنه (يخرج الأبيات في كثير من الأحيان عن أبوابها إلى أبواب لا تليق بها)؟

كيف جاز هذا الفهم في نص صريح مستقيم هين قريب، لا عوج فيه ولا غرابة ولا تعقيد، إلا أن تبطل العلاقة بين اللفظ والمعنى، وتنقطع الصلة بين الدال والمدلول، وتصبح اللغة عبثاً وباطلاً، أو هذيانا لا مؤدى له؟ ليس في هذا النص إشارة ما إلى صاحب اليتيمة، فمن أين جاء به؟

هذا هو الأمر الذي يغمرني بالحيرة من جميع جوانبي، إذ لا أستطيع أن أجد له تعليلاً، أو أنفذ فيه إلى تأويل، مهما ساء ظني بالقيم الجامعية الجديدة في هذه السنوات الأخيرة، منذ وقعت في ذلك الكتاب على تلك الأبيات التي عرضت لها في (الرسالة) من قبل، وعرفت بها كيف يفهم الشعر القديم في هذه الأيام، وكيف تدرس النصوص الأدبية في بعض حلقات الجامعة!

ولكن الأمر لم يعد - فيما يبدو - قاصراً على النصوص الأدبية التي تحتاج في درسها إلى

ص: 18

ألوان من الثقافة مختلفة، فقد أصبحت النصوص التقريرية أيضاً موضع خلط في فهمها والاستدلال بها، فهل في هذا النص الذي بين أيدينا أية علاقة أو شبه علاقة بينه وبين ما فهمه الأستاذ منه ونسبة إليه؟ لا شيء من ذلك مطلقاً، إلا أن يكون قد خيل للأستاذ الفاضل أن حمزة بن الحسين المذكور في النص هو صاحب اليتيمة. نعوذ بالله ونبرأ إليه أن يذهب بنا التشاؤم وإساءة الظن إلى هذه الغاية المنكرة!

فهذه سلسلة من الأخطاء يأخذ بعضها برقاب بعض في نقطة واحدة بعينها لم نتجاوزها إلى غيرها، وكلها أخطاء غليظة فاحشة تبعث الفزع وتثير الرعب من هذا المنحدر السحيق الذي يبدو لنا - من خلال هذه النظرات - أن القيم الجامعية التي ظلت الجامعة زماناً حفية بها، حريصة عليها، قد أخذت تتهاوى فيه، ويوشك أن تتردى في قاعه، إلا أن يقيض الله - جلت قدرته - للجامعة من يستطيع أن يعصمها ويحيد بها عن ذلك المصير المزعج المشؤوم!!

وبعد، فما نريد أن ندع هذا الفصل قبل أن نبين للقارئ كيف كان أبو تمام - في نظرة الدكتور الفاضل - يخرج الأبيات عن أبوابها إلى أبواب لا تليق به، وهي الدعوى التي ادعاها حمزة بن الحسين في القرن الرابع، وأخذها عنه صاحبنا في القرن الرابع عشر، ثم أبى إلا أن يوجهها ويستشهد لها، ليكون أحق بها وأجدر أن يتبناها، أو لهتف مع الشاعر:

كم ترك الأول للآخر؟

وسنكتفي هنا بأن نورد شاهداً واحداً من الشواهد ساقها تقريراً لتلك الدعوى، لنتبين مبلغ ما أتيح له ووفر في سبيل تبنيها، ونتعرف قيمة تصدى مثله في العلماء، لمثل أبي تمام في الشعراء، نقدا ًله، وتسفيهاً لصنيعه. ولعلنا نستطيع نرى في خلال ذلك مدى فهم الشعر في صورته المجملة، رأينا في ذلك الفصل، مدى فهمه له في صورته المفصلة:

عقد أبو تمام في حماسته باباً سماه باب (الأضياف والمديح قد اعترض أستاذنا الفاضل على عقد هذا الباب بقوله: باب الأضياف والمديح، فهو لا يصلح أن يكون قسماً من الشعر أصلاً، لأن تفريقه على الأقسام الأخرى ممكن، فما يدخل في الفخر فهو حماسة. . . وبعض هذا الباب يدخل الهجاء. . .)

وهذا اعتراض - كما يرى القارئ - متهافت لا قيماً إذ كان تصنيف الشعر أمراً اعتبارياً

ص: 19

وليس من قبيل التقسيم العقلي.

على أن هذا لا يعنينا الآن، وإنما نحن بصدد استشارة لدعوى الخلط في أبواب الشعر، وقد أورد في عقب تلك التي اعترض بها من الأمثلة، مما أخطأ - عنده - أبو تمام - وأي خطأ! - فجعلها من هذا الباب، باب الأرض والمديح وحقها عنده أن يكون في باب الهجاء. فخطأ أبى تمام هنا إذن لا سبيل إلى اغتفاره أو تمحل العلل له، إذ هو - لو صح - غليظ كل الغلظ، شنيع غاية الشناعة، أن يمحو اسمه من ديوان الأدباء والمتأدبين، بل جدير أن ينأى عن خواص العامة، والمثقفين منهم أدنى ثقافة، أو الذين يملكوا منهم قدراً يسيراً من الذوق والإدراك، ليلحقه الحفاة الأقدام الذين لا يفرقون بين ما هو مديح ما هو هجاء!

فالاتهام - كما نرى - خطير غاية الخطورة، وبقدر خطورته هذه يحتاج مع الجرأة - وهي موفورة جداً عند صالح فيما يبدو - إلى بذل غاية الجهد في تأييده والتدليل عليه والاستشارة له، والتبسط في ذلك، وتحليل الشواهد تحليلاً تسطع فيه الحجج وتمتلخ به الشبهة. ولكن الدكتور لم يلبث - بعد أن يتشدق بالتهمة ويرفع بها عقيرته - أن انكمش وتضاءل في بسطها وبيانها وتأييدها وتوجيهه، فاكتفى من ذلك كله بالإشارة العاجلة المسرفة في العجلة، إلى بعض الشواهد التي اعتبرها حجة له، بإيراد مطالعها وحسب، دون بيان الموضع الحجة فيها.

وها هو ذا أحد هذه الشواهد، نورده كاملاً عن ديوان الحماسة لنتبين فيه مبلغ المطابقة بين الدعوى والدليل، وقد زعم الدكتور أنه مما يدخل في الهجاء، وهو من شعر حطائط بن يعفر:

تقول ابنة العَّباب رُهم: حربتنا

حطائط، لم تترك لنفسك مقعدا

إذا ما أفدنا صرمة بعد هجمة

تكون عليها كابن عمك: أسودا

فقلت، ولم أعي الجواب، تبينى:

أكان الهزال حتف زيد وأربدا

أريني جواداً مات هزلا لعلني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

وليت شعري أين رائحة الهجاء هنا؟ ليتني أستطيع أن أدرك مهب هذه الرائحة التي زكمت أنف الأستاذ الفاضل، فجعلته يراها هجاء صريحاً برغم أبي تمام، بل برغم أنف كل من يقرأ الشعر ويلم به أدنى إلمام.

ص: 20

ألا ليت من يدلني على لمحة خفيفة من الهجاء في هذه الأبيات، أم لعلها كلمة (أسود)(ويعني الشاعر بها أسود بن يعفر النهشلي) هي التي غامت في عين الأستاذ واحلولكت، فغمرت جو الأبيات بالسواد، وإن يكن لون المديح أبيض فلون الهجاء لا شك أسود، وكذلك أخطأ أبو تمام - عفا الله عنه - فأقحم في المديح هذه الأبيات السوداء، وقد غفل عن أن السواد لون الهجاء!

أستغفر الله وأتوب إليه!

هذا الشاهد وحده - وسائر الشواهد مثله في مبلغ المطابقة بينها وبين الدعوى - بين لنا بياناً صريحاً قاطعاً مبلغ وفاء الأستاذ بما أخذه على عاتقه وأراد أن يبذ بها الأوائل والأواخر من الاحتجاج لتلك الدعوى، وتعزيز ذلك الاتهام الخطير ضد أبي تمام.

لقد كنا نرقب أن نرى وجهاً جديداً من وجوه المعركة القديمة بين العلماء والشعراء، فإذا بنا أمام مهزلة تملأ النفس خجلاً وتغمرنا معشر أهل العلم بمعاني الخزي والاستخذاء!!

ومن حقنا وحق كل قارئ أن يتساءل إذ كان هذا مبلغ فهم صاحب كتاب (الهجاء والهجاءون) لشعر الهجاء، على النحو الذي رأينا - فيما يزعم - لهذه القطعة من صفة هجائية، فما عسى أن يكون الظن بكتاب يضعه في هذا الفن، ويريد أن يؤرخ به له، ولابد أن يعتمد - أول ما يعتمد بطبيعة الحال - على ما أثر في الأدب العربي من شعر هجائي ليكون مادة بحثه؟

وبعد فهل لنا أن نعتبر هذا مثلاً من أمثلة الدرس الأدبي الجامعي في هذه السنوات الأخيرة؟

وهل لمؤرخي الحياة الجامعية في مصر أن يروا في هذا الكتاب وثيقة تبين بعض مسالك هذه الحياة في هذه الأيام؟

وددت والله ألا يكون الأمر كذلك، وأن يكون مثل هذا الكتاب شذوذاً ولا يؤخذ به وفلتة لا تدل على الحالة العامة، فإنه ليحزنني أشد الحزن ويأخذ بأكظام قلبي أن تتكشف الحياة الجامعية أخيراً عن مثل هذا الاستخفاف، وأن ينفرج الرداء الجامعي عن مثل هذا الخزي!

(أبو حيان)

ص: 21

ٍ‌

‌فلسفة المعتزلة

للدكتور ألبير نصري نادر

إن المعتزلة يمثلون سلسلة من المفكرين المسلمين تبدأ بواصل ابن عطاء المتوفى سنة 131هـ أي 748م وتمتد إلى أبي هاشم بن الجبائي المتوفى سنة 321 هـ أي 933م وهو أستاذ أبي الحسن الاشعري رأس الأشاعرة.

بعد الأبحاث التي قام بها الغربيون والشرقيون، وبعدما كُتب عن المعتزلة بقى أن نبين طريقتهم الفلسفية وأن نستخرج الأصول التي بنيت عليها. هذا ما حاولنا نفعله في الرسالة الكبرى التي تقدمنا بها إلى أساتذة جامعة السريون بباريس وعنوانها فلسفة المعتزلة.

الأصل الأول والعام لهذه الفرقة التي توصلنا إليه بعد كل ما طالعناه من مراجع، هو أن العقل البشري عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يتوصل إلى الحقائق الكبرى الأول وهي:

أولاً: أن وجود العالم يدل حتماً على وجود كائن أسمى متعال منح العالم هذا الوجود.

ثانياً: أن الإنسان يفعل حراً وهو مسئول عن أعماله محاسب عليه.

لذلك قسمنا الرسالة إلى قسمين كبيرين: أحدهما خاص بالتوحيد وما يتعلق به من مسألة الخلق، والآخر خاص بالحرية عند الإنسان وما يتوقف عليها.

في القسم الأول بينا أن المعتزلة لا تقول بأي مشابهة أو تمثيل بين الله والعالم من جهة، ومن جهة أخرى هم يقولون بالمذهب الوجودي، فلا نعرف عن الله سوى حقيقة واحدة هو أنه موجود، ولكن ماهيته لا يمكننا إدراكها لأنه غير متناه ونحن متناهون. ثم أن ماهيته هي علمه وقدرته وإرادته. وإذا ما تكلمنا عن صفاته تعالى فهذه الصفات لا توجد حقيقة بل هي اعتبارات ذهنية نلجأ إليها لضعف عقلنا. ونتيجة لمنع المشابهة بين الله والعالم المخلوق قالت المعتزلة إن الله لم يخلق ماهية العالم بل إنه وهب الوجود فقط لماهية كانت في حالة العدم. وحسب قولهم هذا يصبح المعدوم شيئاً وذاتاً وعيناً ينقصها الوجود فقط. وهذه نتيجة منطقية لقولهم بالمذهب الوجودي ومؤداه أن لكل فكرة مقابل في الحقيقة ففكرة المعدوم نقابلها حقيقة.

ذهبت المعتزلة إلى هذه النتيجة لأنهم كانوا يريدون أن يصونوا فكرة التوحيد من كل شرك ومن كل مذهب حلولي؛ وهو يفتخرون بأنهم أهل توحيد - وقولهم إن العالم لا يستمد

ص: 22

ماهيته من الله بل يستمد منه وجوده فقط يدلنا على أنهم تأثروا بعض التأثر بالفلسفة الأربسطوطالية ولا سيما فيما يختص بفكرة الهيولي، وهي عند أريسطو المادة الأولى التي لا صورة لها والتي يقول عنها إنها قديمة وأنها الماهية الأولى للعالم. وفي هذه المناسبة تقول إن القسط الأكبر من مؤلفات الفلاسفة والطبيعيين اليونانيين ترجمت إلى السريانية والعربية في عهد المعتزلة؛ ويكفينا أن نذكر (دار الحكمة) في عهد الخليفة المأمون وعلى رأسه حنين بن إسحق.

إن المعتزلة متفقون على تفسير خلق العالم هذا التفسير وهو أصل أساسي في مذهبهم؛ ولكن هناك مسائل تعد ثانوية في نظرهم تختلف آراؤهم فيها. إذ بينما نرى مثلاً أبا الهذيل العلاف يقول بالجوهر الفرد أي الذرة، نجد النظام يقول إنه لا جزء وإن تقسيمه جائز ولو بالوهم. وبناء على هذا القول كان النظام أول من قال بالطفرة في الفلسفة الإسلامية؛ ومعناها أن الجسم يمكنه أن يمر من مكان أول إلى مكان ثالث أو رابع بينها أجزاء غير متناهية في القسمة وذلك بأن يطفر من الأول إلى الثالث أو الرابع.

الأصل الثاني في فلسفة المعتزلة هو الحرية عند الإنسان. فهم يقولون إن العقل عندما يكتمل نضوجه يمكنه أن يصل إلى إدراك الحقائق الأولى التي يسترشد بها الإنسان في أعماله، وذلك قبل أي تنزيل. ثم إن الإنسان حر أن يعمل بمقتضاها أولاً. فإذا معرفة الخير والشر وما يترتب عن الإعمال من مسئولية وجزاء كلها مسائل يدركها العقل المكتمل. وإذا ما جاء تنزيل فلا يجوز أن يناقض ما يدركه العقل في هذا المضمار بل يجب أن يقويه ويتممه.

جزأنا هذا الأصل أيضاً جزأين: أحدهما خاص بعلم النفس - وكل هم المعتزلة في دراسة النفس هو البرهنة على حرية الإنسان في عمله؛ وهم يردون بكل حماس على الجبرية، في مذهبهم دور أخلاقي مهم يقوم به وهو التمييز بين ما هو خير وما هو شر بواسطة النظر. والجزء الثاني خصصناه للمسألة الأخلاقية. إنهم يقولون إن الخير خير في ذاته، وان الشر شر في ذاته، وليس بموجب إرادة خارجية حتى ولو كانت إرادة إلهية هذه النظرة سيكون لها أهميتها عند دانس سكوت والقديس توما والأكويني في القرن الثالث عشر، ورأى المعتزلة فيها هو رأى توماوي قبل القديس توما بحوالي ثلاثة قرون.

ص: 23

عندما يصل العقل إلى معرفة الشريعة يكون الإنسان حراً أن يفعل بمقتضاه أولاً يفعل. فحينئذ تظهر مسألة المعاصي والفسق، ولكن المعتزلة لا يبدون حكماً على الظواهر (أي أعمال الإنسان الخارجية) لأنها لا تدل على ما تكنه القلوب؛ لذلك يلزمون التحفظ في الحكم على أعمال الغير.

ولما كان الإنسان يأتي المعصية حراً فيمكنه أيضاً أن ينوب منها. ولكن المعتزلة يضعون شروطاً للتوبة حتى تكون مقبولة. فيقولون إنها لا تجوز إلا إذا ندم الإنسان على فعله وعزم على أن لا يأتي بمثله. ولكن ألا يمكن أن يتدارك الله الفاسق بلطف ويساعده حتى يصبح مؤمناً؟ إنها لمسألة دقيقة ولكن المعتزلة قالت: إذا وهب الله ذا الكبيرة أي فاسق لطفاً من عنده ليؤمن جاز أن يقول أنه يهيئ كفراً للمؤمنين لصيبح كافراً. ويزيدون على ذلك قائلين إن من آمن حراً فضله أكبر من فضل الذي وهب لطفاً ليؤمن. ومع ذلك لا ينكرون أن الله يهب أحياناً لطفه لبعض الناس ليؤمنوا ولكنها حالات شاذة.

بقي أخيراً مسألة الجزاء. فإن المعاصي تجلب حتماً العقاب، كما أن العمل الحسن يجلب حتماً الثواب. والعقل يدل على ذلك وبطلبه. ولكن في هذا العالم لا يوجد تكافؤ بين الأعمال وجزائها وعقابها فيجب أن يصير هذا التكافؤ في عالم آخر. وعليه فالجنة والنار لازمتان.

فها نحن أولاء بصدد فلسفة كاملة شاملة متماسكة الأجزاء: النقطة الأولى: الله متميز تام التمييز عن العالم - ليس بينه وبين العالم أي مشابه أو تمثيل.

العالم كان في حالة عدم - العالم لا يستمد من الله إلا الوجود

النقطة الثانية: المسالة الأخلاقية - في عالم خاضع لقوانين ثابتة لا يمكنه رد نظرية الجبر وجعل الإنسان مسئولاً عن أعماله إلا إذا كان حائزاً على ملكه خاصة تمكنه من تمييز الخير من الشر كما يجب أن يكون حراً في قصده وعمله.

لذلك سميت المعتزلة أهل توحيد وأهل عدل.

هذا المجهود الفكري مدة قرنين متتاليين فتح الطريق للفكر الإسلامي. وأثر المعتزلة سيكون بيناً واضحاً عند الفلاسفة المسلمين المعاصرين أو اللاحقين لهم مثل الكندي والأشعري.

لذلك سميناهم فلاسفة الإسلام الأسبقيين.

البير نصري نادر

ص: 24

دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 25

‌حول بيتين للخطيل بن أوس

للأستاذ السيد مصطفى غازي

عرض الأستاذ (أبو حيان) في العدد 834 في مجلة الرسالة الغراء مثلاً من فهم الشعر القديم في كتاب (الهجاء والهجاءون) للدكتور (م. محمد حسين). وكان مدار الحديث حول بيتين للخطيل بن أوس هما:

فدى لبني ذُبيان رحلي وناقتي

عشية يحدى بالرماح أبو بكر

ولكن يد هدى بالرجال فهبنه

إلى قدر ما إن تقيم ولا تسري

قالهما الخطيل في حركة الردة، وأوردهما الدكتور في مستهل حديثه عن نشأة الأحزاب السياسية في المجلد الثاني من كتابه.

وقد أحس الأستاذ أبو حيان (بالحسرة تلذع قلبه) وهو يقرأ هذين البيتين مضبوطين بهذا الضبط، مرويين على هذا النحو، وهالهه أن يتجاوز الدكتور البيت الأول فلا يعلق عليه بشرح أو تفسير أو تحرير. وإلا فكيف مر بكلمة (يحدي) دون أن يحس في البيت إشكالاً؟ كيف يحدى أبو بكر بالرماح والحادي من يحدو الإبل بغنائه فتنساق خلفه وتطرد وراء حداثه؟ كيف يمكن أن تكون الصورة حين تأتي الرماح في مواضع الحداء؟. . . إن الأمر - في رأي الأستاذ أبو حيان - أيسر من هذا العناء. فالدال (يحدي) إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها. والعبارة في البيت الأول إنما هي (عشية يحذى بالرماح أبو بكر) بمعنى يطعن ويمزق جسده كما هو الأصل في معنى هذا وأخواتها، كحذ وحذق وحذف وحزم.

ثم أنتقل الأستاذ أبو حيان إلى البيت الثاني (فأفزعه أشد الفزع) أن يعلق المؤلف عليه، شارحاً له، بقوله:(دهديت الحجر فتهدى دحرجت. هبنه كذلك هي بالنص. لعلها من أهاب الإبل والخيل إذا زجرها قائلاً: هاب، هاب فيكون المقصود أن هؤلاء الرجال يزجرون أبا بكر وجيوشه ويدفعونهم إلى قدرهم وحينهم) وهاله أن يروي الدكتور (يدهدى) بصيغته المبني للمفعول، وأن يجمد عند (فهبنه) فيتعسف في تأويلها هذا التعسف وإلا فكيف يمكن أن تكون (هبنه) معدولة عما ينبغي أن تكون عليه باعتبارها من (أهاب)؟ ومن هم هؤلاء الرجال الذين يزجرون أبا بكر وجيوشه؟ أهم رجال أبي بكر يريدهم أن يزجروا انفسهم؟ أم هم بنو ذبيان يجعلهم يتدحرجون كما تتدحرج الحجارة؟. . . إن الأمر في هذا البيت شبيه

ص: 26

- في رأي الأستاذ أبي حيان - بالأمر في البيت الاول، تصحيف يسير قريب ولكنه أدى إلى ذلك الخلط العجيب. فليس كلمة (فهبنه) المؤلفة من فاء عطف لا يدري ماذا تعطفه وماذا تعطف عليه، وفعل لا يعرف من أي أصل هو، ونون نسوة لا موضع لها، وضمير غيبة لا مرجع له - ليست هذه الكلمة والجملة إلا تصحيفاً قريباً لكلمة واحدة، هي كلمة (مهينة) من الهوان وبذلك يكون البيت.

ولكن يدهدي بالرجال مهينة

إلى قدر ما أن تقيم ولا تسرى

ويدهدى بصيغة المبني للفاعل لا المبني للمفعول والفاعل هو أبو بكر، وبذلك يستقيم البيت وبطرد المعنى، دون تحد للنحو أو معاندة للصرف أو معارضة للمنطق.

ويبدو لنا أن الأستاذ أبا حيان قد أعجلته الرغبة في النقد، وشغله الاهتمام بالتجريح واللمز، عن أن يرجع إلى المصدر الذي نقل عنه المؤلف بيتي الخطيل. ولو أنه رجع إلى الطبرى في تاريخه وأصطنع التحقيق والتدقيق في بحثه، لأفاد من فهم التي لابست هذين البيتين، ولأطمئن إلى (يحدى) في البيت الأول كما اطمأن المؤلف، ولم يجزم هذا الجزم العجيب بأن الدال إنما هي ذال معجمة ذهب إعجامها. فقد روى الطبري في تاريخه أن بعض المرتدة، وفيهم نفر من ذبيان أعدوا العدة للإغارة على المدين ليلاً بعد أن خلفوا بعض رجالهم في ذي حي ليكونا لهم رداءاً. فأسرع أبو بكر للقائهم (وخرج في أهل المسجد على النواضح إليهم، فأنفس العدو، فأتبعهم المسلمون على إبلهم حتى بلغوا ذا حي، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نقخوها وجعلوا فيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل، فتدهده كل نحي في طوله، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها - ولا تنفر من شيء نفارها من الانحاء - فعاجت بهم ما يملكونها حتى دخلت بهم المدينة، فلم يصرع مسلم ولم يرهب. فقال في ذلك الخطيل بن أوس أخو الحطيئة بن أوس. . . الأبيات (أهو فأبو بكر ورجاله قد عادوا إلى المدينة إذن دون يصيب أحدهم مكروه (فلم يصرع مسلم ولم يصب)، ولم يطعن أبو بكر أو يمزق جسده كما أراد الأستاذ أبو حيان أيفرض ذلك علينا فرضاً. وعلى ذلك فلا محل للجزم بأن الدال (يحدى) إنما ذال معجمة ذهب إعجامها. ولا غرابة بعد ذلك (يحدى) أبو بكر بالرماح، وان يساق بها سوقاً كما تساق الإبل بالحداء. فالاستعارة في ذلك مألوفة مأنوسة، واستعمال الحداء هنا على سبيل التهكم كاستعمال القرى في معرض التنديد

ص: 27

بالقتل، وكاستعمال البشرة في معرض الهديد بالعذاب.

ولو أن الأستاذ أبا حيان رجع إلى نص الطبري، ولم تجعله الرغبة في النقد والتجريح، لعدل عما أنزلق إليه في البيت الثاني من تأويل. فالطبري يحدثنا بأن المرتدة هم الذين دهدهوا الأنحاء في وجه أبي بكر، وأن أبا بكر هو الذي دهده بهذه الأنحاء، دهدهه بها الرجال، رجال بني ذبيان فيمن معهم من المرتدين. وعلى ذلك فالقصة كما رواها الطبري تقتضي أن يكون (يدهدى) بصيغة المبني للمفعول لا المبني للفاعل. وإذا فلا محل للجزم بأن الفعل مبني للفاعل وأن الفاعل أبو بكر، وأن المقصود بالرجال هنا المرتدة من بني ذبيان وليس ببعيد أن تكون (فهبنه) التي تشكك المؤلف في أمرها قائلاً:(كذلك هي بالنص) والتي حاول تأويلها قائلاً: (لعلها من أهاب الإبل والخيل إذا زجرها قائلاً هاب هاب) - ليس ببعيد أن تكون هذه الكلمة من (الهاب) وهو زجر الإبل عند سوقها فقد جاء في لسان العرب في مادة (هـ ي ب): (ولهاب: زجر الإبل، عند السوق. . . وإما الإهابة: فالصوت بالإبل ودعاؤها). فالهاب إذن زجر الإبل وتنفيرها، والإهابة دعاؤها وجمعها. والهاب - كما لا يخفى على الأستاذ أبي حيان - مصدر من الفعل الثلاثي. فأي غرابة في أن يكون الثلاثي من هذه المادة مستعملاً؟ وكيف تكون (هاب) بعد ذلك مجهولة الأصل والمصدر منها موجود في معاجم اللغة؟ أما ضمير الغيبة في (فهبنه) فرجعه أبو بكر في البيت الأول. والفاء تعطف (هاب) على (يدهدى). ويدهدى فعل مضارع، ولكنه يدل على المضي هنا، وإنما عدل به عن المضارع لاستحضاره صورة الحادث فكأنه يقع الآن أمام أعيننا. والأمثلة لاستحضار صورة الحادث فكأنه يقع الآن أمام أعيننا. والأمثلة على ذلك كثيرة نكتفي منها بما ورد في السيرة:(فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ). وإذا كان استعمال نون النسوة هنا غريباً، فليس هناك ما يقطع بأن الشاعر القديم لم يقصد إلى استعمالها قصداً. وما أكثر ما كان الشاعر القديم يخرج على قوانين النحو والصرف لقيم شعره! وما أكثر ما كان يخرج على هذه القوانين نتيجة السهو والخطأ. فإذا أخذنا بعد ذلك براوية الشطر الثاني من البيت (إلى قدر، ما إن يقيم ولا يسرى) - وهي رواية أوردها ناشر تاريخ الطبري في حاشية الكتاب إذا أخذنا بهذه الرواية، فقد استقام البيت واطرد المعنى، إذ أن عبارة (ما إن يقيم ولا يسرى) تعود

ص: 28

بذلك إلى بكر مصورة حالة حين عاد إلى المدينة مضطرباً مفزعاً قد أخذت منه الحيرة والمفاجأة كل مأخذ. وعلى ذلك تكون قراءة البيت:

ولكن يدهدي بالرجال فهبنه - إلى قدر، ما أن يقيم ولا يسرى

أي أن رجال بني ذبيان يدهدهون أبا بكر بالزقاق، فيزجونه إلى قدره وقضائه، وقد سدت في وجهه المسالك، وأعيته الحيلة وأخذت منه الحيرة، ونالت منه المفاجأة، فهو لا يقيم ولا يسري

ذلك - فيما نرى - أدنى إلى سياق القصة، وأقرب إلى روح العلم، وما ينبغي لطالب من الأمانة في التدقيق، ومن البعد عن البت والجزم حين تحتمل المسائل أكثر من وجه. ولعل الأستاذ أبا حيان واجد في كلمتنا هذه ما يشيع الرضا في قلبه فلا يحس (بالحسرة تلدعه)، وما يعيد الطمأنينية إلى نفسه فلا يعود (يشكو إلى الله) أن يتهجم الجامعيون على الشعر القديم فيما يعرضون له من بحوث.

السيد مصطفى غازي

ليسانس في الآداب من جامعة فاروق الأول

ص: 29

‌من ظرفاء العصر العباسي:

أبو دلامة!. . .

توفي سنة 161هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

وحين ندرس نفسية هذا الظريف من خلال قصصه ونوادره - وهي غاية ما وصل إلى أيدينا من حياته - سنضطر إلى ذكر بعض مداعباته لنستدل بها على شيء مما نراه. ومن تلك المداعبات التي نشير بها إلى ما كان من انسجام بين أبي دلامة وزوجته اشتراكهما في خداع المهدي وزوجته الخيزران: فقد دخل أبو دلامة يوماً على المهدي وهو يبكي. فقال له مالك؟ ماتت أم دلامة، وأنشده فيها:

وكنا كزوج من قطاً في مفازه

لدى خفض عيش ناعم مؤنق رغد

فأفردني ريب الزمان بصرفه

ولم أر شيئاً قط أوحش من فرد!

فأمر له بثياب وطيب ودنانير، وخرج. فدخلت أم دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك، فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلتهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.

ومثل هذا الاشتراك في الخداع الذي كان يمضي طليقاً حتى يصل إلى الخليفة وزوجته - يدل على تفاهم عميق بين الزوجين، وعلى وحدة في نظرتهما إلى الحياة، فكأنهما يشرفان على العالم من منظار واحد فيه مرح النكة، ولطف الدعابة.

وهنا نرغب في معرفة اسم هذه المرأة الخبيثة - زوجة شاعرنا الظريف - فتضن به علينا المصادر كأنها لا ترى في ذكره فائدة.

ونعلل هذا - كما يبدو لنا - بأن أمثال هذا الظريف تروى في كتب الأدب حياتهم للإشارة إلى جانب يستحق الدراسة فيهم وهو ظرفهم ومرحهم وسلاطة ألسنتهم، وما بعد هذا الجانب فأمور تتعلق بأحدهم من قريب أو بعيد كما تتعلق بآحاد الناس فلا تستأهل الدراسة، ولا تستحق التسجيل.

لذلك سنمر - في أثناء عرضنا لحياة أبي دلامة - مروراً رفيقاً بما يتصل بأسرته، فنعلم

ص: 30

أنه كان له أولاد غير دلامة وأن فيهم بنتاً قبيحة ولكنا لا نعرف أسماءهم، ولا نحاول أن نعرف ما إذا كان له أخوة، فقد سكتت عن هذا كله النصوص التي بين أيدينا. ولكن الذي يجدر بنا أن نعرفه منزلة هذا الظريف لدى أبي العباس السفاح، وأبي جعفر المنصور والمهدي أيام انقطع إلى مجالستهم ومناداتهم.

ويبدو أنه كان رفيع المكانة لدى السفاح، وأنه - للطف محله منه - كان ينال ما يشاء من المطالب ولا سيما إذا أحسن في أسلوب الطلب: من ذلك أنه وقف يوماً بين يدي السفاح - فقال له: سلني حاجتك. قال أبو دلامة: كلب أتصيد به. قال: أعطوه إياه. قال ودابة أتصيد عليها. قال: أعطوه دابة. قال: وغلام يصيد بالكلب ويقوده. قال: أعطوه غلاماً: وجارية تصلح لنا الصيد وتطعمنا منه. قال: أعطوه جارية. قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين عبيدك فلابد لهم من دار يسكنونها. قال: أعطوه داراً تجمعهم. قال: فإن لم تكن لهم ضيعة فمن أين يعيشون؟ قال: قد أعطيتك مائة جريب عامرة ومائة جريب غامرة. قال: وما الغامرة؟ قال: ما لا نبات فيه؟ قد أعطيتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد. فضحك وقال: اجعلوها كلها عامرة. قال: فائذن لي أن أقبل يدك. قال: أما هذه فدعها. قال: والله ما منعت عيالي شيئاً أقل ضرراَ عليهم منها.

فانظر في هذه القصة - إلى مكانة أبي دلامة لدى السفاح، تلك المكانة التي تهيئ له أن يجاب له كل طلب بعد أن يصير عليه الخليفة فلا يسكته، بل يتقبل جرأته ويثيبه عليها فيجزل ثوابه، ثم انظر - كما قال الجاحظ - (إلى حذقة بالمسألة ولطفه فيها: ابتدأ بكلب فسهل القصة به، وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة، حتى نال ما سأله بديهة إليه!)

وكما أحسن السفاح إلى أبى دلامة الظريف مقيماً على الوفاء له يمدحه في كل مناسبة ويذكره بكل خير، بل لقد أقام يذكر جميله حتى بعد موته، فرثاه بأبيات كثيرة. ومما قاله في قصيدته الهمزية:

وكنا بالخليفة قد عقدنا

لواء الأمر فانتفض اللواء

فنحن رعية هلكت ضياعاً

تسوق بنا إلى الفتن الرعاء

ولم يكتف بهذا، بل إنه دخل على المنصور والناس عنده يعزونه في السفاح فأنشأ يقول:

أمسيت بالأنبار يا ابن محمد

لم تستطع عن عقرها تحويلا

ص: 31

ويلي عليك وويل أهلي كلهم

ويلا في الحياة طويلا

فلتبكين لك النساء بعبرة

وليبكين لك الرجال عويلا

مات الندى إذ مت يا ابن محمد

فجعلته لك في الثراء عديلا

إني سألت الناس بعدك كلهم

فوجدت أسمح من سألت بخيلا

ألشقوتي أخرت بعدك للتي

تدع العزيز من الرجال ذليلا

فلأحلفن يمين حق برة

بالله ما أعطيت بعدك سولا

فلم سمع الناس هذه الأبيات بكوا. فغضب المنصور غضباً شديداً وقال: لئن سمعتك تنشد هذه القصيدة لأقطعن لسانك. فقلا أبو دلامة: يا أمير المؤمنين إن أبا العباس أمير المؤمنين كان لي مكرماً وهو الذي جاء بي من البدو كما جاء الله بأخوة يوسف إليه، فقل كما قال يوسف لأخواته:(لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) فسرى عن المنصور وقال: قد أقلناك يا أبا دلامة، فسل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً - وهو مريض - ولم أقبضها. فقال المنصور: ومن يعرف هذا؟ فقال: هؤلاء، وأشار إلى جماعة ممن حضر، فوثب سليمان بن مجالد وأبو الجهم فقالا: صدق أبو دلامة، نحن نعلن ذلك فقال المنصور لأبي أيوب الخازن وهو مغبظ: يا سليمان ادفعها إليه.

ولو لم يكن السفاح يكثر العطاء والصلة لأبي دلامة مقرباً إياه على سواه لما مدحه الشاعر هذا المدح العظيم، ولما رثاه أمام المنصور ذاك الرثاء البليغ، ولما بقى مقيماً على الوفاء له. ويظهر أن لحذق أبى دلامة في المسألة ومهارته في إظهار حاجته ولباقته في طلب ما يريد - أكبر الأثر في رغبة الخلفاء العباسيين بوصله ولا سيما الذي اشتهر ببخله، ومع ذلك (لم يصل إلى أحد من الشعراء ما وصل إلى أبي دلامة منه خاصة) كما قال صاحب الأغاني.

وحسبك أن تعلم أن أبا دلامة دخل على المنصور يوماً فأنشده:

أما ورب العاديات ضبحا

حقاً ورب الموريات قدحا

إن المغيرات على صبحاً

والناكئات من فؤادي قرحا

عشر ليال بينهن ضبحا

يجلعن مالي كل عام صبحا. . .

ص: 32

فقال له أبو جعفر: وكم تذبح يا أبا دلامة؟ قال: أربعاً وعشرين شاة. ففرض له على كل هاشمي أربعة وعشرين ديناراً، فكان يأخذها منهم، فأتى العباس بن محمد في عشر الأضحى يتنجزها. فقال: يا أبا دلامة، أليس قد مات أبوك؟ قال بلى. قال: انقصوه دينارين. قال: أصلح الله الأمير لا تفعل، فإنه ترك على ولدين. فأبى إلا ينقصه. فخرج وهو يقول:

أخطاك ما كنت ترجوه وتأمله

فأغسل يديك من العباس بالياس

واغسل يديك بأشنان فأفقهما

مما تؤمل من معروف عباس

جزاك ربك يا عباس عن فرج

جنات عدن وعن جرزتي آس

فبلغ ذلك أبا جعفر فضحك، واغتاظ على العباس، وأمره بأن يبعث إليه بأربعة وعشرين ديناراً أخرى

فرجل يفرض له المنصور عطاء على كل هاشمي لا بد أن يكون محبوباً، مقرباً عنده. ولم لا يقرب المنصور أبا دلامة وهو لا يستريح إلى منادمة أحد سواهن بل يضحك لدعابته في أدق الظروف؟

توفيت حمادة بنت عيسى وحضر المنصور جنازتها. فلما وقف على حفرتها قال لأبي دلامة: ما أعددت لهذه الحفرة؟ قال: بنت عمك يا أمير المؤمنين حمادة بنت عيسى يجاء بها الساعة فتدفن فيها! فضحك المنصور حتى غُلب فستر وجهه.

وما أظنك إلا ضاحكاً مع المنصور لو سمعت من أبي دلامة مثل هذا الجواب الذي يدل على بديهة حاضرة، ونكتة سريعة، لا يستطيع صاحبنا أن يغلبها حتى في أحرج المواقف.

ويمثل هذه الطلاقة في الرد والسهولة في الجواب تستطيع أن تفرق بين نكتتين إحداهما متكلفة مصطنعة، والأخرى صادرة عن طبع وملكة. وأنت نفسك إذا سمعت النكتة الباردة - أو التي يسمونها (بايخة) - رفضتها وضجرت من سماعها ونبا عنها ذوقك، وإن أنت سمعت النكتة الموافقة المحكمة أدركت حلاوتها فضحكت لها من صميم قلبك، لأنك تحس فيها روح الدعابة كما تحس في الشعر الرفيع عبقرية الإلهام، فتنتقل من عالمك الصغير المحدود، إلى عالم الجمال والخلود!

(يتبع)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 33

‌وداع مصر.

. .

للشاعر الكبير الأستاذ محمد علي الحوماني

جددي يا مصر. . . فينا الخيلاء

نُخِف الأرض ونحتل السماء

(المعز) اختال في كل حشا

من بنيك الشوس، عزا وإباء

منذ كان (النيل) كانت (مصره)

جنة تطفح بشراً وراء

وعلى شطيه من فم. . .

درة تضفي على الفجر الضياء

يا لماء النيل ما اسمره!

في شريانك ناراً لا دماء

تنشدين المجد من عبقرية

زاحفاً جيشاً، وخفاقاً لواء

كل قرم قذفت (مصر) به

لم يخر عزماً ولم ينكل مضاء

سل فلسطين به إذ رخصت

عندها الأنفس بيعاً وشراء

في سبيل الحق من أمته

نبذ الفردوس واختار العراء

يا لمرأى النيل، ما أروعه

تحت أفيائك صبحاً ومساء

يا لأفق النيل ما أحفله

بالمنى منك خلوصاً وصفاء

بالوشى النيل ما أبهجه

فوق إعطائك ظلا لا رداء

يا لصوت الفن ما أعذبه

في فم النيل خريراً لا غناء

كلما أمعنت في تحليله

هزني العجب وعفت الكيمياء

ذهب سال فأجني ثمراً

لفظ الشمس، ومج الكهرباء

بالماء النيل، ما أنضره

في وجوه الغيد، لوناً لا طلاء

شفق ذاب على كل فم. . .

فجلا الكأس وحيا الندماء

وبدا خلف المآقي حورا

يرصد ويصطاد الظباء

وعلى المعصم من كل يد

أفعوانا يتحدى السفهاء

هذه (مصر) وهذا نيلها

خصنا الله بما شاءت وشاء

شرف من عهد (خوفو) لم يزل

يخلع الدهر عليه الكبرياء

ثقف الدنيا على أمجاده

فتغض الطرف أو تغضى حياء

وجمال يحلم (السين) به

فيرى (باريس) أن لا تتراءى

ص: 35

فاتها من (مصر) أفق لم تفت

أوجه الأقمار صيفاً وشتاء

وعلى ضاحية النيل رؤى

تذهل الرائي أماماً ووراء

يرد النزهة والماء معاً

كتل الخلق رجالاً ونساء

فقبيل حال منهم بشراً

وقبيل لم يزل طيناً وماء

فبنات القصر يركعن الطلا

وبنات الكوخ يشددن الوكاء

مشهد إن شئت أغواك وإن

شئت أشجاك وساء

بالماء النيل، ما أعرقه!!

في الدم المصري، حذقاً ودهاء

عالجوا الحكم فسادوا ساسة

ورعوا الفن فسادوا أدباء

وبنو الأزهر فاءوا بنا

للهدى بروا فكانوا حنفاء

لغة القرآن عزت بهمو

فمشوا فيها إلى الله ظماء

ينشدون الحق فيما كتبوا

أبعد الناس، خداعاً ورياء

عهد الفن أقلامهم

بأمانيه فكانوا أمناء

لا يريم الخلد عن ساحتهم،

وعلى الأهرام، باثوا خفراء

يا لماء النيل، ما أحفله!!

بالدم الفائر خوفا ورجاء

يتقي الزائف فيما يتقي

ويرجى من بنيه الخلصاء

حكمة أفضت به عن كثب

أن يري الداء ويختار الدواء

لم أجد في البلد أنظمة

قام أهلوه عليها حكماء

ورأيت النيل يحمى بلداً

سادت الحكمة فيه الرؤساء

رب شخص أو شخص منيت

بهمُ مصر، فكانوا دخلاء

بيد أن النيل لم ينبت على

ضفتيه شجر يثمر داء

يا لماء النيل،، ما أطهره

في الدم المصري عطفاً وإخاء

كن كما شئت، ولكن مسلماً

عربياً، تنل (النيل) جزاء

يحسب النازل فيهم أنه

وطني ويراهم غرباء

هكذا أعرق فيهم خلق

حال في الأعراق نبلا ووفاء

لم أقف منهم على غير يد

تمطر الدنيا عفافاً وسخاء

ص: 36

لطفت في يد من لاطفها

وجفت في يد من أولى الجفاء

إيه: يا مصر، على أي يد

لك عندي، أبعث الشعر ثناء؟؟

كم جديد حفل الغرب به

طبق الداعي له الأرض نداء

لم يسوءني منه إلا أسف

كلما خامرني زدت استياء

كل زهر نغمت عيني به

لم يهب روحي من العطر غذاء

وجمال صبت النفس له

لم أجد فيه من الروح شفاء

وغناء وعت الأذن به

لم يجد عنك به السمع غناء

ولدى أن همست روح الصبي

بين جنبي تنسمت الهواء

وعرفت السر في الزهر الذي

وهب الصب له القلب وعاء

هو من روضك في (أندلس)

يحسد النجم عليه الظرفاء

هو في (الندوة) حيث اتقدت

شهب الندوة من (عين ذكاء)

هو في (الجيزة) روض وشعث

حبب الكاس لياليه الوضاء

سر هذا الزهر عطر لبست

ضفة النيل به هذا الكساء

وجمال هو في كل دم:

حركات تستخف الشعراء

هذه مصر وهذا نيلها

تنعم الدنيا بها ما أفاء

هذه (نويرك) لم تبطر ولم

يغبط العقل عليها الرقعاء

ناطحات السحاب فيها همم

شمخت عزاً ولم تشمخ بناء

إنها (نويرك) لم تعمل بها

يد إسرائيل كيداً وبغاء

هذه (لندن) لم تطغ ولم

يملك البغي عليها النبلاء

كانت الدنيا. فلما عبثت

يد (صهيون) بها عادت هباء

وستلقى ضعف ما ألقت على

جيرة (الأردن) ذلا وشقاء

هذه (باريس) لم تخسف ولم

تبذل العرض من الخسف وقاء

تنشد القوة لم يعصف بها

نزوان يسترق الضعفاء

هذه الدنيا يرى السعد بها

محسن الناس ويشقى من أساء

أي مستقبل عز ظافر

لك يا مصر. يناديك النجباء!

ص: 37

عرب الدنيا تفديك بما

لم تجد إلا لك الدنيا فداء

نحن يا مصر، بنو الصيد الأولى

فتحوا غُلباً وسادوا رُحماء

لا ترى في قول من ينعتنا

أننا عُرج الوفا، إلا افتراء

لم ترم (دجلة) عن نصرتكم

في (فلسطين) ولم تحجم عداء

البلاء المر في (أهرامنا)

لم يزل في (بابل) ذاك البلاء

لا يرد الغرب عن إجرامه

أن يرى منا خصوما شرفاء

غمة لا تنجلي ما لم نعد

مرة أخرى غزاة رُعناء

ضيف مصر (1949)

محمد علي الحوماني

ص: 38

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

كبار الأدباء وعضوية البرلمان:

حديث الانتخابات المقبلة أهم ما يشغل الصحف في هذه الأيام وقد أمسكت بإحداها وغرقت ساعة في أنهارها وجداولها المملوءة بأحاديث الوزراء ورجال السياسية وتعليقات المحرر، تعديل الدوائر وفتحها وإغلاقها وما إلى ذلك. ثم ألقيت الصحيفة جانباً ورحتُ أفكر في الموضوع على نحو آخر، قلت في نفسي: لا شك أن تمثيل الأمة في البرلمان يتطور من حيث المستوى الفكري لنوابها وشيوخها، تبعاً لتطور الأمة نفسها لانتشار التعليم وازدياد المتعلمين، أن عهد (النمر) الذي بدأت به الحياة النيابية في مصر آخذ في الانقراض شيئاً فشيئاً، و (الموافقون) على ما لا يعرفون ما يوافقون عليه ويوشكون أن يتركوا أماكنهم للعناصر الجديدة. ثم قفز إلى ذهني خاطر آخر، فقلت في نفسي أيضاً: هل أقترب التطور من الحال التي يمكن فيها أن يشتمل البرلمان على الصفوة من رجال الأدب والفكر في مصر؟ ولكن كيف السبيل؟ هل يخوضون معامع الانتخابات؟. وهنا جعلت أتصور بعض هؤلاء الأعلام وقد رشحوا أنفسهم للانتخاب. . .

الدكتور طه حسين خطيب يسحر الجماهير ولكنها ليست جماهير الانتخاب، وهو لا يستطيع أن يجلس إلى أهل الدائرة إذا ارتفع الضحى وإذا أقبل المساء، يسمع منهم ولا يسمعون منه، فيضيق به وقد يضيقون به، حتى إذا بلغ الأمر ما اعتاد أن يبلغ كل عام في أوائل الصيف، ولم يعد في وسعه أحتمال الحر والشر والنكر، فر إلى باريس. . .

والأستاذ توفيق الحكيم لا يستطيع مخالفة حماره الذي هو مصر على مقاطعة الانتخابات ومجانبة (التمرغ) في أحوالها، وقد خبرها أيام كان صاحبه نائباً في الأرياف، فاصبح فيها من الزاهدين.

والأستاذ المازني إذا طاف بالدائرة فسيرغب عن سماع القصائد التي ينظمها أنصاره والداعون له، فقد أنكر شعره فهل يسمع شعر هؤلاء؟ وقد لا يجد له جلداً على قصيدة من الشعر الوسط فلا يصبر عليها ولو أدى ذلك إلى ضياع (تأمين) الانتخابات. . . وسيشعر بضيق وقته عن هذا العناء والعبث فيهرب إلى حين يكتب المقالات المطلوبة للصحف

ص: 39

والمجلات.

والدكتور أحمد أمين بك رجل فكر ومنطق لا يعجبان الناخبين، وعندما يشاهدون ما يبدو عليه من الجد المئوس، وما يصطنعه أحياناً من التغافل، ينصرفون عنه إلى منافسه ويتركونه قائماً يعزى بـ (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) وقد يدرك بعض الخلفاء أنه سيكون عضواً في كل لجنة من لجان المجلس الذي أنتخب له، وقد يكون رئيس لبعضها، فيعملون على محاربته ليظل قانعاً بلجان وزارة المعارف ولجان المجمع اللغوي واللجنة الثقافية بالجامعة العربية ولجنة التأليف والترجمة والنشر.

أما الأستاذ الزيات فتقف (الرسالة) في طريقه عقبة أي عقبة. . . إذا لا بد أن ينجم له في الدائرة (شعراء وكتاب) يريدون أن ينشروا في الرسالة ما تجود به قرائحهم من النظم والنثر، وقد يطلبون تغيير عنوان هذا الباب بحيث يكون (الأدب والفن) في الدائرة وعميد الرسالة لم ينشر لأحد من هؤلاء شيئاُ، والأدب والفن لن يخضعا للدائر. وهكذا تتعقد المسألة على احل فيقنع الأستاذ بظل (الكافورة) في المنصورة صيفاً ونظفر نحن بمجلسه في ندوة الرسالة إذا جاء الشتاء.

وأما الأستاذ العقاد فهو عضو بمجلس الشيوخ عن طريق التعيين، ولو أنه دخل الانتخابات لاصطدم بطلاب الوظائف ومطالب الموظفين من أهل الدائرة فالكاتب الجبار لن يرجو مخلوقاً لمخلوق، فإذا وصل الأمر إلى أن يطلب موظف نقله من أسوان فإن الأستاذ الكبير يعتبر ذلك إساءة بالغة إلى مسقط رأسه، فينسحب من الدائرة في الحال، ويكتب مقالاً بجريدة الأساس منذراً بسوء المآل.

إذا ما هو الطريق المفضي بأولئك الأعلام إلى البرلمان؟ عضوية الأستاذ العقاد بمجلس الشيوخ تبعث إلينا بصيصاً من الضوء، حقاً إنه ينتمي إلى حزب سياسي، والسياسية الحزبية تعين على تقديم الحزبين، ولكن ألست ترى إننا الآن قد أخذنا في عهد قومي جديد وجه إليه جلالة الفاروق، إذا أمر بتأليف الوزارة من جميع الأحزاب على أن يخلع رداء الحزبية في خدمة البلاد.

وقد أوشكت الدورة البرلمانية الحاضرة أن تنتهي، وسيجري الانتخاب في مجلس النواب ولثلثي مجلس الشيوخ، ولندع ذلك لنحصر النظر في الثلث الباقي من مجلس الشيوخ وهو

ص: 40

الذي يختار أعضائه من ذوي الكفايات في الميادين المختلفة فإذا كان يختار الأعضاء من رجال السياسة ومن رجال الاقتصاد وغيرهم، أفلا ينبغي أن يتجه النظر إلى رجال الأدب والفكر فتختار خلاصة منهم أعضاء في مجلس الشيوخ؟ فذلك هو المنفذ الوحيد الذي يصل منه أولئك الرجال إلى مقاعد النيابة عن الأمة. كما أن ذلك يعتبر من دلائل القومية التي تهدف إلى صالح البلاد.

فاطمة وماريكا وراشيل:

هذا هو اسم الفلم الجديد الذي عرض في هذا الأسبوع بسينما راديو، أخرجه حلمي رفلة ووضع قصته وحواره أبو السعود الابياري، وأهم ممثليه محمد فوزي وإسماعيل يس ومديحة يسري ولولا صدقي ونيللي مظلوم.

يوسف جلال (محمد فوزي) شاب لا هم له إلا خداع البنات باسم الحب والتأميل في الزواج وقد اعد له أحد الصاغة تسعة وعشرين خاتماً، على عدد حروف الهجاء، نقش على كل خاتم حرف منها، فإذا اتصل ببنت قدم لها الخاتم الذي يوافق أول حروف أسمها. ويقيم معه حمص أفندي (إسماعيل يس) وهو صديقه وسكرتيره عند اللزوم، يتصل يوسف بفتاة يهودية هي راشيل (نيللي مظلوم) في حفلة زفاف إذ كانت ترقص في الحفلة وكان هو يغني فيها، فيغازلها وتبدي له الحب فقد عرفت أنه غني ويتفقان على الزواج بعد أن يقول لها أن اسمه يوسف كوهين وتذهب به إلى محل تجاري لتشتري ثوباُ، فتستقبلهما ماريكا (لولا صدقي) مديرة المحل وفي غفلة من راشيل يوسف الفتاة الرومية ماريكا ويتسمى بها بإسم جوزيف ترياكو، ويتفقان على الزواج. ثم ينتهي أمره مع كل منها عندما تفاجئه راشيل في حفلة خطوبته لماريكا فيطفيء حمص أفندي الأنوار ويقفز هو وصاحبه من إحدى الشرفات. ثم يتلقى يوسف برقية من والده القروي الثري يأمره فيها بالحضور إلى القرية في الحال. وهناك ينهي إليه أبوه أن يغير راض عن سلوكه وأنه لن يعطيه نقوداً حتى يطيع أمره ويتزوج من فاطمة (مديحة) بنت وصفي بك التي ورثت عن أبيها ثلثمائة فدان، وتقيم مع عمها راشد بك في الضيعة المجاورة، فيعارض يوسف في الزواج من بنت لم يرها ولكنه يضطر إلى الموافقة إزاء تهديد أبيه، وكذلك تعارض فاطمة في الزواج من أبن جلال بك لأنها ظنته فلاحاً ساذجاً، ولكن عمها راشد بك المرشح في الانتخابات والذي

ص: 41

يرجو جلال بك يلح عليها ويرغمها ويذهب يوسف إلى حمص أفندي ويبلغه خبر الكارثة، ويطلعه على صورة الفتاة التي يريد أبوه أن يزوجه إياها، وهي في الحقيقة صورة علية بنت راشد بك الدميمة، وقد اتفقت مع ابنة عمها على إرسالها للخاطب لتنفيره. . . ويتفق يوسف وحمص من الجهة الأخرى على خطة لتنفير العروس من يوسف، فيذهبان إلى منزل راشد بك في زي قروي وقد حمل يوسف (بلاص عسل) وقفة مملؤة من (كيزان الذرة) واحتضن حمص (لبشة قصب)، ثم ينتهي المنظر بطردهما من المنزل في غيبة راشد بك. وفي خلال ذلك يلمح يوسف فاطمة من بعيد وهو لا يعلم إنها المخطوبة، فيضع خطة لما قبلتها ومغازلتها ويتبين إنها تحب رجلاً أسمه ظريف بك النابلسي، ولكن يوسف يظل يطاردها ويضياق ظريف بك حتى يظفر بها ويتفقان على الزواج، وتحدث عدة حوادث يتخللها إصرار كل من جلال بك وراشد بك على الزواج ابن الأول من بت أخ الثاني، ثم يحضر جلال بك أبنه يوسف بالإكراه لعقد الزواج، وكذلك يكره راشد بك بنت أخيه فاطمة ويأمر بحملها حملاً إلى حيث أعدت معدات العقد. وهناك تحدث المفاجأة إذ تنكشف الحقيقة ويعرف كل من يوسف وفاطمة أنه المقصود بالإكراه على الزواج من صاحبه، فيتعانقان ويكون منظر زفافهما حسن الختام

والذي يتبادر إلى الذهن من اسم الفلم (فاطمة وماريكا وراشيل). وهو فلم مصري، أنه يقدم كلاً من هؤلاء الثلاث بخصائصها، على أن تظفر صورة فاطمة المصرية بأحسن إطار، ولكنا نراها فتاة عابثة ليس لها مثل تتمسك به ولم ترسم لها غاية نبيلة تهدف إليها فكل ما تريده رجل كهل (ظريف بك النابلسي) لم يقدم لنا الفلم ما يبرر تعلقها به، ثم هذا الشاب الذي تسمى إليه بعد أن نفضت من ذاك الكهل، إذا تذهب إلى منزله لتخطب حبه، أو في الحقيقة ليرنا المخرج منظرهما في حديقة المنزل وهما يجوسان خلالها حيث تبدي مديحة فتنتها ودلالها ومحمد فوزي يغني لها. . . ولك أن تستمتع بمنظر الجمال وعليك أن تسمع الغناء! وهذا المنظر يعطينا (فكرة) الفلم كله، فهو إحدى الخلايا التي يتكون منها، فاكثر مناظره وأهمها معارض لهؤلاء الحسان الثلاث: مديحة ولولا ونيللي، جمال ورقص وسحر وفتنة. . . والقصة (مفصلة) على قدودهن الرشيقة، وليس لك أن تطلب شيئاً في الفلم غير ذلك، حتى محمد فوزي عليك نتغاضى إدلاله بنفسه وفرحه بشبابه، وقد أخذ إسماعيل يس

ص: 42

في هذا الفلم ملحقاً فكاهياً على الهامش.

والفلم ليس معدوم الغاية القيمة فحسب بل هو على عكس ذلك، لأنه يقدم بطلين منحرفين هما: يوسف وفاطمة، ويظل يعرض انحرافهما وعبثهما في تصوير مغر جميل، ويظل يعطف عليهما حتى النهاية السعيدة، فهو وأن تم له الجمال الحسي، يفقد ناحية الجمال المعنوي الذي يبرز من مناصرة الحق والخير.

وحوادث الفلم تجري نحو مناظر الرقص والمال الغناء، فتعثر في جريها. ومن هذه العثرات أن نرى يوسف يغني في حفلة زفاف ويقود فرقة يحمل أفرادها الطبول من غير أن نعرف صفته في ذلك. ولا نرى أي سبب يدعو إلى يأتي هذا الشاب الغني الغير محترف ليحي حفلة زفاف، ولكن الحادثة تجري بيوسف إلى هذه الحفلة ليلتقي براشيل التي ترقص فيها. والعجيب أن الفلم يملي علينا إملاء أن تعرف راشيل يوسف على أنه شاب غني وهي تراه في زمرة المحترفين حاملي الطبول. . .

ولم أقف على سر الطريقة العجيبة التي كان يتبعها يوسف عندما يعرف أسم الفتاة التي تقع له، فيدس يده في جيبه ويخرج الخاتم المنقوش عليه أول أسمها. . . فلو فرضنا أنه يحمل معه دائماً التسعة والعشرين خاتماً فكيف ينتقي الخاتم ويخرجه بمجرد معرفته الاسم؟

ويظهر أن المنازل و (الفلات) صنعت في هذا الفلم على طراز خاص بحيث يمكن القفز من شرفاتها ونوافذها في غاية اليسر، فترى الهارب يسير من النافذة إلى ممر ممهد فيصل إلى الشجرة المعدة خاصة للهرب. . . حتى يصل إلى الأرض سالماً غانماً. وهل يليق بفاطمة التي تفر من النافذة حين يمنعها عمها عن الخروج، لتلقي حبيبها بثيابها الحريرية المكوية - هل يليق بهذه الفتاة الناعمة أن يمسها أذى أو يذهب صقل المكواة عن ثيابها، من القفز على الجدران والسقوط على الأشجار. . .؟ لا يليق غير ذلك لأن المخرج يريد ذلك!

وفي أي مكان من بلاد الله تقام حفلة يبحث فيها فتى عن فتاته، فيظل يشتبه في عدد من الفتيات، يتوسم كلا منهن ويقبلها وهي ساكنة تبتسم، فيعرف من طعم القبلة أن (المشتبه فيه) ليست فتاته، وإنما هي تشبهها فقط. . . ولو أن (العدوى) الذي يدعوه الناس للبحث عما يضيع منهم، جرى في عمله على ذلك النمط الذي جرى عليه بطل الفلم في البحث عن

ص: 43

فتاته، لما مل دوام البحث عن الضائعات. . .

عباس خضر

ص: 44

‌رسالة النقد

الوزراء العباسيون

تأليف الأستاذ محمد أحمد برانق

بقلم الأستاذ محمود رزق سليم

تحتاج الدول إلى رجال، من أفذاذ أبنائها، ليعاونوا ولي الأمر فيها، على الاضطلاع بمسئوليتها، والقيام بأعباء الحكم فيها، على الاضطلاع بمسئوليتها، والقيام بأعباء الحكم فيها، وتنفيذ مشروعاتها الإصلاحية، والسهر على حياطتها، والعمل على الترفيه عنها، وإشاعة الأمن والعدل فيا، وراعية الدولة، وتثبيت أركانها، وتدعيم بناينها. ويختارون - عادة - ممن حصفت عقولهم، وصفت أذهانهم، وبلغوا من الثقافة الواسعة حداً متازاً، وأوتوا من الرأي صائبه، ومن النظر ثاقبه، ومن الحيلة نافذها، ومن الدعاء أوسعه - هذه مؤهلاتهم الأولى - وإن اشترطت مؤهلات ثانية في العصر الحديث - التي ترشحهم لأسمى منصب في بلادهم، وهو معونة السلطان على رعاية ملكه وشعبه.

ومن هؤلاء طبقة الوزراء. عرفتها الدول الإسلامية، منذ بنى بنو العباس ملكهم المجيد ودولتهم العتيدة. وقد كان الخليفة حينذاك هو الدولة. وكثير ما كان يلقى بأمور دولته إلى وزيره. ومن هنا كان الوزير - في الحق - هو الدولة، وأن كان المفروض أنه يسير في تصرفاته وفق مشيئة أميره. ومن هنا أيضاً كانت سيرة الوزير جزءاً هاماً من تاريخ عصره، بل ربما كان لعمل الوزير أثر فيما يلي عصره من العصور.

لهذا، كانت دراسة حياة وزراء الدولة، أمراً حيوياً ضرورياً لفهم حياتها واتجاهاتها وتصرفاتها. وتاريخهم من أبرز أجزاء تاريخ دولتهم. وهو يلقي أضواء وهاجة على حوادثها، ويكشف الخبيء من أحوالها، والمستتر المكنون من وقائعها. وذلك لمكانة الوزير من صاحب السلطان.

ومنصب الوزارة - عادة - من المناصب التي إليها تتواثب الآمال، ومن حولها تصطرع الرجال. يسعون للوصول إليها، ويجاهدون لاحتيازها. ولهذا تكثر حولها الدسائس والمؤامرات، وتنشط الشباك وألاحابيل. وهنا تتكشف الأخلاق والنفوس والنيات، وتشتد

ص: 45

المغامرات. ويتألف من هذا كله، قصص من قصص الحياة، ممتعة، فيها كثير من العضات والعبر.

ونقرأ كثير من أخبار وزراء الدول الإسلامية في كتب التاريخ العام، وفي كتب التراجم وكتب الأدب العربي، وهي كثيرة واسعة، غير إنها على رحابتها وامتداد آفاقها، مبعثرة متفرقة، تحتاج إلى مستوعب يستوعبها، ومؤلف يجمع شتاتها، وملائم يلم شعثها، ومنشيء يسبع على عرضها ثوباً جديداً من أساليب الإنشاء، ويضفي عليها من جميل رأيه، وحصيف نضرته، ما يوضح للقارئ خفي أمور فيها، وغامض الحوادث من بينها.

وقد فطن صديقي وزميلي الأستاذ النابه (محمد أحمد برانق) إلى ذلك كله، فوجه عناية محمودة إلى الدولة العباسية وهي الدولة الحافلة بحوادثها، الآهلة بعظيم الأمور. وهي أولى الدول الإسلامية التي جعلت (الوزارة) منصباً من أبرز مناصبها. حتى كاد الوزير سنيها أن يكون المهيمن على أقدارها، والموجه الفرد إلى مسالكها - فطن صديقي إلى ذلك، فأتخذ سير وزرائها وسيلة إلى دراسة تاريخها، وإلى دراسة هذا التاريخ في أعلى مكامنه وأغلق جهاته. وعنى بخاصة بعلاقات الوزراء بالخلفاء وقصورهم. وكشف الغطاء عن كثير مما يحاك في الخفاء، بعيداً عن الدهماء فكان الأستاذ في هذه الدراسة موفقاً ورشيداً.

وقد أصدر الأستاذ من كتابه الكبير (الوزراء العباسيون) الجزء الأول. وقد صدره بمقدمة حافلة واسعة المدى رحبة الأفق طاف فيها طوفة كبرى بالأمة العربية في جاهليتها، وأثبت كيانها السياسي. والاقتصادي. وعنى علي من يفرضونها أمة مغلقة الحدود ضئيلة الصلات بمن حولها من الأمم، تافهة النظم، محرومة من كل نشاط سياسي أو اقتصادي.

وقد دلل ذلك بأدلة كثيرة قاطعة، قذف بها في وجوه بعض المستشرقين ومن لف لفهم من أدباء الشرق، ممن يرمون العرب بالجهل والتفكك ونحو ذلك، في عصرهم الجاهلي،

وتحدث عن الملكة العربية ونظمها في عهد النبوة وما بعدها حتى جاءت الدولة العباسية، فاتخذ خلفائها لأنفسهم وزراء يعينونهم في شؤون دولتهم. وقد شرح المؤلف، كيف قامت الدولة العباسية، وركز حديثه بصفة خاصة في ثلاثة رجال من الأعاجم، وهبوا لها الرأي والنفس، حتى أقاموا عمودها ونشروا بنودها، وهم أبو مسلم الخرساني، وأبو مسلم الخلال، وخالد بن يرمك. وقص قصة كل رجل منهم وما لابس حياته من حوادث وأهوال، مشيراً

ص: 46

إلى موقف كل خليفة من وزيره. ومن رجاله، وأدى إلى ذلك الموقف من حوادث، وما أدى إليه هذا الموقف من نتائج.

وعلى نمط من هذا، درس حياة عدد من وزراء الدولة العباسية، منهم: أبو أيوب المورياني والربيع بن يونس وأبو عبيدة ومعاوية أبن عبد الله، ويعقوب بن داوود، والفيض بن صالح، وإبراهيم أبن ذكوان الحراني

ونود لو عنى الأستاذ في أبحاثه بأن يزيدنا علماً بمنشأ كل رجل من أعلامه، وأن يقدم لنا شيئاً عن سني حياته الأولى، مما يكون له أثر - بلا ريب - في تكوينهه وتوجيهه. نقول ذلك لخلو بعض التراجم منه.

على إنني لحظت أن كثير من دراسات هذا السفر القيم، تركزت في حوادث شخصية. فردية. واعتقد أن الأستاذ الفاضل بجوار ذلك، لو عنى بالحوادث العامة وصلتها بالوزير وصلة الوزير بها، لكان حديثه أرفه وأمتع.

ثم أني أحسب الوزراء في الدول العربية الأولى إنما أختيروا لفرط أدبهم وسليم منطقهم ورائع لفظهم وجامع حكمتهم. وهذه ناحية لم تتضح وضوحها المرجو في كتاب ككتاب صديقنا الأستاذ برانق، وهو من تعرفه علماً وأدباً. وإني لواثق كل الثقة أنه سيعير هذه الناحية عناية في أجزاء الكتاب التالية.

وأخيراً، كنت أحب أن يعقد الأستاذ نبذة بين نبذ تصويره الطويل، يتحدث فيها عن منصب (الوزارة) من الناحية التاريخية، ومن اختصاصات الوزير، والفرق بينه وبين غيره كالحاجب، وبلغ تقلب هذه الاختصاصات في الدول الإسلامية ودرجة سمو منصب الوزير، أو صفته في كل منها. إلى غير ذلك مما يتصل بهذا المنصب الهام ولعل الأستاذ أن يلم بها الموضوع في مناسبة من مناسبات بحوثه القادمة.

وبعد فقد سد هذا الكتاب فراغاً ملحوظاُ في المكتبة العربية الإسلامية. من أجل ذلك نزجي لمؤلفه الفاضل الثناء الجم والشكر المتصل وجزاه الله عن العربية والإسلام خير الجزاء

(حلوان)

محمود رزق سليم

ص: 47

مدرس الأدب بكلية اللغة العربية

ص: 48

‌البريد الأدبي

أهذا من نوادر الخواطر؟!

في 1371949م طالعتنا جريدة المصري بكلمة لأستاذ فاضل

تحت عنوان (آن الأوان لتخليص مصر من الامتيازات) وقد

استرعى نظري في هذه الكلمة بعض جمل وعبارات نقلت

معشيء من التصرف من مقال للأستاذ أحمد حسن الزيات نشر

في الرسالة الغراء في 15 أغسطس سنة 1933 م بعنوان (بين

النيل والأكروبول) ويستطيع أن يعثر عليه القارئ بسهولة في

كتاب وحي الرسالة (الجزء الأول) ص35 وسأنقل هذه الجمل

إثباتاُ لدعواي وإنصافاً للحق وتقريراً للواقع.

يقول الأستاذ الزيات وهو يصف الشعب المصري (أسرف في اللين حتى رمى بالجبن، وأمعن في التسامح حتى وصف بالبلادة، وأفرط في التواضع حتى نسى الأنفة، وبالغ في إكرام الغريب حتى أصبح هو الغريب).

وهذه الكلمات بنصها وفصها مذكورة في كلمة الأستاذ عمر ثم يقول الأستاذ الزيات (وليت الذي قاسمنا أنعم الوادي الحبيب يذكر فضيلة الإحسان ويشكر عطف الإنسان على الإنسان! إنما يتمتع بخيرنا تمتع الغازي الفاتح في يمناه سيفه، وفي يسراه قانونه، فإذا عاملنا احتقرنا، وإذا عافينا أنهرنا، وإذا ضج المغبون أو صاح المسروق أو صرخ الجائع ضربه (الخواجة) ضربته، ثم استعدى عليه دولته).

ويذكر الأستاذ عمر هذا الكلام مع شيء من التصرف إذ يقول (وليت ذلك الأجنبي الذي أغتصب منا أنعم الوادي الحبيب كان على شيء من الأدب والذوق وأحسن معاملة هؤلاء الذين فتحوا له بلادهم على مصراعيها فدخلها دخول الفتح الغازي وأصبح فيها السيد المطاع وحرم أهلها سبل الحياة وحجز عنهم اللقمة، فلا تراه ينظر إليهم نظرة الازدراء

ص: 49

والامتهان ويعاملهم في خشونة وقسوة فإذا ضج المظلوم وصاح الجائع ضربه الدخيل ضربة، واستعدى عليه دولته وحمته قنصليته، وتلك الامتيازات البغيضة).

هذا قولي: فماذا يقول الأستاذ عمر؟!

أحمد محمد مصطفى

أستاذ الأدب بمعهد طنطا الثانوي

الضمير الأدبي والكرامة العقلية:

في العدد الماضي من (الرسالة) قرأت كلمة لأديب فاضل تحت عنوان (الضمير الأدبي وأين يوجد؟). . . ولقد أسفت أن يفلت زمام التعبير من يد الكاتب، حتى خطر لي أن أراد عليه في شيء من القسوة والعنف، ولكنني عدت فقلت لنفسي: ترفق. . . فلعل الأديب الفاضل قد نسي نفسه - وهو في غمرة الحماسة لفكرته - فاندفع قلمه بغير زمام!

مهما يكن من شيء فقد كففت قلمي رعاية لحق قارئ لاح لي من كلماته حسن الظن حين قال: (ولعل الأستاذ المعداوي يجيب على كلمتي هذه (تعقيباته) ليستانس به الضمير الأدبي، ضمير النقد المزيه الذي تعودناه منه)!

يا صديقي، ما دمت قد تعودت من قلمي نزاهة الضمير، فلم ارتضيت أن يكون عنوان كلمتك موحياً بعكس هذا الذي قلت؟ أما أنا، فأؤكد لك أنني لن أتخل عن ضميري الأدبي في يوم من الأيام لسبب واحد، هو أنني أقدس شي أسمه الكرامة العقلية، والكرامة العقلية هي أن يحترم الكاتب عقله وعقول الناس، فإذا فعل فقد أرتفع في رأي نفسه ورأي غيره، وهذا هو ما أحرص عليه كل الحرص منذ أن تناولت قلمي لأكتب!

تسألني ما معنى إعادة الصفاء إلى النفوس وما معنى الاستجابة للصديقين وترك الحقيقة الدبية تنتحب وتلفظ أنفاسها الأخيرة بين يدي الصداقة؟!. . . معذرة إذا قلت لك أن عبارتك قد صيغت في قالب خيالي أشبه بقوالب الكتاب القصصيين، ذلك لأنك - على حد تعبير النقاد القدامى لشعر امرئ القيس - وقد وقفت وأستوقفت وبكيت وأستبكيت على مصرع حقيقة أدبية ليس لها وجود!. . . أين هي الحقيقية الأدبية وأنا لم اكن في موقف الكشف عن مذهب أدبي جديد، ولا في موقف النقد لكتاب أدبي جديد؟! كل ما حدث هو أن أدبياً من

ص: 50

الأدباء هاجمني على صفحات (المقتطف) لأسباب شخصية فرددت عليه بكلمة أوضحت فيها الدوافع الحقيقية لهذا الهجوم، وإذا كان هناك لون من ألوان الحقيقة فقد عرضت له في كلمتي الأولى ورفعت القناع عن كل ناحية من نواحيه. . . وإذن فكل ما يمكن أن يقال قد يل بالفعل، ولو كتبت كلمتي الثانية لما هدفت إلا إلى تأكيد ما جاء في كلمتي الأولى على ضوء الدليل المادي الذي لا يدفع.

بقي أن أقول لك ما دامت الحقيقة قد ذكرت فلا بأس من الاستجابة لغربات الساعين إلى الخير والداعين إلى الصفاء. . . ترى أتكره الصفاء في الأدب وهو الأمنية الكبرى لكل قارئ ولكل أديب؟ أم أنك أردت أن تثيرها زوبعة فكانت زوبعة في فنجان على حد تعبير الصحفيين؟!

أنور المعداوي

حول تعقيب:

عقب الأستاذ محمد غنيم في العدد (834) من الرسالة الغراء على قول الأستاذ أنور المعداوي (لم أكن أعرف - لم تكن تتح) - بأن جزم بأن هذين التعبيرين بينا الخطأ وأوجب إلحاق لام الجحود، ولكنني لا أرى لجزم الأستاذ الناقد بالخطأ هنا محلاً وما كان استعمال القرآن لهذا التعبير بلام الجحود في موضع لينفي استعمال تعبير آخر يجري في مجراه بغير لام الجحود في موضع آخر، ولو حصرنا كل الشواهد في هذا التعبير - من القرآن الكريم - لرأينا كيف يتخلى عنه الصواب في رأيه هذا وجزمه. . . يقول الله تعالى في سورة هود (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ويقول في السورة نفسها (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك) ويقول في سورة العنكبوت (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) ويقول في سورة الزمر (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون).

وإني أسوق هذه الشواهد وأجمعها إلى شاهدة لنقول إن وجود لام الجحود يتوقف على وجود الكون المنفي، ولكن وجود الكون المنفي لا يحتم وجود لام الجحود، ألا ما رأته الأذن العربية وأوحى به الذوق العربي السليم. والسلام. . .

ص: 51

عبد العظيم طه الحمبلي

ص: 52

‌القصص

روز. . .!

للكاتب القصصي الفرنسي جي دي موباسان

ترجمة الأستاذ أنور المعداوي

(إلى صديقي الأستاذ الكبير الزيات

أنت قدمت موباسان إلى الناس فنقلت الفن صادقاً من لغة إلى لغة، ونقلت السحر خالصاً من قلن إلى قلم. . . قدمته في قممه الثلاث:(ضوء القمر) و (الحلية) و (جولي رومان)، فهل تأذن لي في أن أقدم إليك هذه القمة الرابعة، تحية متواضعة؟)

الفتاتان تبدوان للعين غاصتين في فراش من الزهور، وحيدتين في عربة فارهة قد اكتظت بطاقات الزهر، فهي أشبه بسلة مفرطة في الضخامة، وعلى المقعد الخلفي سفطان صغيران قد ملئا بزهور البنفسج (النيسيّ)، وفوق فراء الدب الذي يغطي الركبتين أكداس من الورد والزهور الأقحوان والزنبق والبرتقال، شد بعضها إلى بعض بأشرطة من الحرير يخيل إلى الظن إنها ستصهر الجسدين الناعمين. . . ومن الفراش المعطر في العربة الفسيحة لم يكن يظهر من كلتيهما غير الكتفين والذرعين، وجزء صغير من نطاقين يلتفان حول الخصر النحيل أحدهما أزرق اللون بينما الآخر في لون البنفسج!

وتظهر إلى سوط السائق فتراه وقد لف بغطاء من زهور الأنيمون، بينما أزدانت رءوس الخيل بزهور الزينة وأكتست العجلات بثوب من زهور الخزامي. . . وفي مكان المصابيح طاقتان من الزهر مستديرتان كبيرتا الحجم، أشبه بعينين تطلان من وجه هذا الحيوان الغريب المتدحرج على الأرض في هيكل من الزهور! وتندفع العربة إلى شارع (أنتيب) خفيفة الركض، يحف بها من الأمام والخلف والجانبين جمع من العربات المكللة بالزهور تحمل نساء قد أختفين تحت لجة من بنفسج. . . أنه عيد الزهور في (كان).

وانتهى بهن المطاف إلى شارع (بوليفار)، وعلى طول الطريق من الشارع الضخم كان هناك صف مزدوج من العربات المزركشة يروح ويجيء كخيط بلا نهاية. . . ومن عربة إلى أخرى رحن ينثرن زهوراً تشتق الفضاء كالكرات، ثم ترتطم بالوجوه المشرقة، ثم

ص: 53

ترفرف بالهواء وتسقط على الأرض حيث يلتقطها جيش من الصبية الصغار. وأصطف على الجانبين حشد كثيف من النضارة يثير الضجيج ولكن في شيء من النظام، لقد بقي كل في مكانه بفضل الجنود وهم يعبرون الشارع على ظهور الخيل، ويدفعون بأقدامهم أصحاب الفضول في عنف إلى الوراء، حتى لا يختلط الأوشاب بأصحاب الثراء. ومن داخل العربات راح كل راكب يتطلع إلى صاحبه ويناديه ويطلق عليه قذائف من الورد. وها هي ذي عربة قد غصت بالفتيات الأنيقات في ثيابهن الحمر كالشياطين تتعلق بها الأنظار، وتنظر فترى أحد الفتيان في ثياب هنري الرابع يقذفهن في نشوة الشوق بطاقة ضخمة من الزهر في غلاف من (المطاط)، يقذفهن مرة بعد مرة، وكلما هم خفضت الفتيات رؤسهن وأخفين عيونهن، ولكن القذيفة الرشيقة تنطلق في انثناء ثم لا تلبث أن ترتد إلى صاحبها ليقذف بها ثانية إلى وجه جديد!. . . ويستمر الموكب في طوافه ساعة من الزمن يعتري الفتاتين بعدها شيء من الفتور، فترغبان إلى السائق أن يلتمس طريقه إلى خليج (جوان).

وغابت الشمس وراء (الإستريل)، مخالفة ظلالها القاتمة فوق أرض من اللهب، عل القطاع الجانبي من الجبل الممتد عبر الفضاء. وأنبسط البحر الساكن أزرق صافياً على مدار الأفق البعيد، هناك حيث يمتزج بالسماء، ويمتلك الجماعة التي التقت مراسيها وسط الخليج كقطيع من الحيوانات الغريبة، تلك التي تظل فوق سطح الماء جامدة بلا حراك. . . حيوانات من عالم الغيب تقوست منها الظهور وتدثرت بدروع من الزرد، واتخذت غطاء الرأس من عوارض رقيقة كريش الطير، ولها تلك العيون التي تقدح الشرر حين يهبط الظلام!

وانتثرت الفتيات تحت سماء أشبه برداء فراؤه السحب، ورحن يتطلعن إليها من استرخاء ثم همست إحداهن قائلة:

- لله ما أرق هذه الأمسيات!. . . ألا ترين أن كل شيء يبدو جميلاً يا مارجو؟

- بلى، كل شيء جميل ولكن. . . ألا تشعرين أن هناك شيئاً ما ينقصنا دائماً؟

ما هو؟ من جانبي، أنني لأحس السعادة كاملة فلا ارغب في شيء!

- نعم؟ هكذا تظنين، ربما. . . ولكن مهما كانت السعادة التي تحيط بأجسامنا، فإننا نرغب

ص: 54

فيما هو أكثر في هذا الشيء الذي يسعد القلب! وقالت الأخرى وهي تبتسم: قليل من الحب؟ فأجابت: نعم!

وساد بينهن الصمت، ورحن يرسلن البصر مستقيماً إلى الأمام، وعندئذ هتفت إحداهن وتدعى مرجريت:

- الحياة. . . إنها لا تبدو لعيني محتملة بغير حب. لكم أشتهي أن أحب. . . ولو من كلب! هكذا نحن جميعاً مهما خطر لك من فنون القول يا سيمون!

وصاحت سيمون قائلة:

- كلا كلا يا عزيزتي، أنني لأوثر ألا أحب على الإطلاق على أن أحب من شخص لا خطر له! هل تظنين مثلاً أنه قد يكون من الملائم لي أن أحب من. . . من. . .

وتطلعت سيمون إلى من تستطيع أن تظفر بحبه، وألقت ببصرها إلى الفضاء المجاور، وبعد جولة طوت بها كل جنبات الأفق، هبطت عيناها على زرين من المعدن يتألقان على ظهر السائق، واستمرت في حديثها ضاحكة:

- من. . . من سائق عربتي؟!

وأجابت مرجريت وقد لاح على شفتيها ظل ابتسامة:

- أستطيع أن أؤكد لك أنه ما من شيء يبعث على التسلية مثل أن يقع خادم في حبك. . . لقد جربت ذلك مثنى وثلاث!

ودرن بعيونهن شاخصات، إلى تلك التي كادت تموت من الضحك. . . واسترسلت مرجريت قائلة:

- من الطبيعي أن تلك التي تلقى المزيد من الحب تصبح وهي أكثر النساء قسوة. وعلى النقيض تلك التي تزج بنفسها في طريق لا تجني منه غير السخرية، لسبب تافه يستطيع أي إنسان أن يلحظه!

- وأرهفت سيمون سمعها وألقت ببصرها إلى الأمام ثم قالت معقبة:

- كلا يا مرجريت، أن قلب خادمي ينقع لي غلة ما دام تحت قدمي. . . ولكن هل خبرتني كيف أدركت أنهم قد وقعوا في حبك؟

- لقد أدركت ذلك منهم كما أدركته من الآخرين. . . ولذا فهم يصبحون في نظري أغبياء!

ص: 55

- ولكن الآخرين لا يبدون لي أغبياء عندما يقعون في الحب!

- بلهاء يا عزيزتي، عاجزون عن الكلام، عاجزون عن الجواب، عاجزون عن فهم أي شيء! - وأنت؟ ما الذي أثر فيك حتى وقعت في حب خادم؟ أكنت مسيرة بدافع الملق؟

- مسيرة! كلا! ملق؟ نعم! قليل من الملق. . . أن كل فتاة ليسعدها الملق دائماً إذا ما أحبها رجل، مهما كان هذا الرجل!

- أوه. . . الآن جاء دورك يامرجو!

- نعم يا عزيزتي، انتظري. . . سأقص عليك نبأ مغامرة فريدة وقعت لي، وسترين كيف أن أشياء بالغة الغرابة تحتل مكانها من حياتها في أحوال مماثلة!. . . كان ذلك في الخريف منذ أعوام أربعة، عندما ألفيت نفسي وحيدة بلا خادمة. لقد جربت من الخادمات عدداً من الخادمات يربى على الخمس، جربتهن واحدة بعد أخرى ولكنهن كن جميعاً لا يصلحن لشيء. ولقد تملكني اليأس من أن أعثر على واحدة، حتى وقعت في إعلانات إحدى الصحف على خبر فتاة صغيرة تبحث عن عمل، فتاة تجيد الحياكة، وتجيد التطريز، وتجيد تصفيف الشعر، وتستطيع أن تقدم خبر الشهادات على تتمتع به من خبرة وكفاية، وهي في الوقت نفسه تحسن التحدث بالإنجليزية.

وكتبت إلى الصحيفة على العنوان الذي قرأت، وفي اليوم التالي حضرت الفتاة لتقدم نفسها إلي. كانت أقرب إلى الطول، رقيقة البدن، شاحبة اللون، ينم مظهرها عن خوف بالغ. لها عينان سوداوان جميلتان، عينان تنفثان السحر، حتى لقد راقت لي على الفور. وسألتها عما تحمل من شهادات فقدمت إلي واحدة مكتوبة بالإنجليزية، لأنها جاءت - كما قالت لي - من بيت السيدة (رزويل) حيث طوت من عمرها عشرة أعوام. . . كانت الشهادة تقرر أن الفتاة قد عادت إلى فرنسا بمحض رغبتها الشخصية، وإذا كان هناك شيء تستحق عليه اللوم في خلال خدمتها الطويلة للسيدة (رزويل)، فهو هذا الشيء اليسير من (الدلال) الفرنسي!

وابتسمت قليلاً وأنا ألمح ما وراء العبارة الإنجليزية من تورية مهذبة، ولكنني تعاقدت مع الفتاة على الفور وحضرت إلى بيتي في نفس اليوم، وكانت تسمي نفسها (روز).

وجاء علي يوم أحببتها فيه إلى الحد الذي ينقلب معه الحب إلى عبادة. . . لقد كانت كنزاً

ص: 56

من الكنوز، لقد كانت درة من الدرر، لقد كانت ظاهرة من ظواهر الطبيعية. كانت في تصفيف الشعر صاحبه ذوق شائق، وفي تثنية شريط (الدنتيلا) على غطاء الرأس أكثر دراية من خير الممتهنات، وكانت تجيد حياكة (الفساتين). . . أبداً لم أرى لها مثيلاً في خدمتها لي!

كانت تساعدني في ارتداء ملابسي في سرعة فائقة، وخفة يد تثير العجب، ما شعرت أبداً بمر أناملها على بشرتي الرقيقة، ولا شيء يبدو لي خالياً من اللياقة مثل أن تلمسني يد خادمة!. . وانغمست على الفور في عادات تميز بالإفراط في البطالة، فلكم كنت أشعر بالسرور حين أدعها تدثرني من الرأس إلى القدم، من القميص إلى القفاز، هذه الفتاة الطويلة، الخائفة، التي تخجل كثيراً ولا تتكلم أبداً! وبعد الاستحمام قد تجففني، وتدلكني بينما أكون على أهبة النوم أو مضطجعة على الأريكة. . . وعلى مر الأيام بدأت أنظر إليها كصديقة بائسة أكثر ما أنظر إليها كخادمة!

وذات صباح أقبل البواب في مظهر يثير الظنون، معلناً عن رغبته في التحدث إلي، واستولت علي الدهشة ولكنني أذنت له في الدخول.

كان جندياً كهلاً يبدو عليه التردد في الإفصاح عما يريد أن يقول. . وأخيراً همس في صوت متلعثم:

- سيدتي، أن ضابط بوليس المنطقة موجود في الطابق الأسفل

وقلت متسائلة: ماذا يريد؟

- أنه يريد أن يفتش البيت!

حقاً أن رجال البوليس ضرورة لازمة ولكنني أمقتهم. . . ولا أستطيع أبداً أن أعرف بأنهم يزوالون مهنة شريفة! وأجبت في صوت ألهبته الكرامة الجريحة:

لماذا يفتش هنا؟ لأي غرض؟ أننا لا تعرف السطو! ورد الحارس قائلاً:

- أنه يعتقد أن أحد المجرمين يختفي هنا في مكان ما.

وبدأت أشعر بشيء من الرهبة، وأمرت بأن يصعد إلى ضابط البوليس عسى أن أظفر منه بشيء من الإيضاح. . . كان رجلاً جم الأدب يزدان صدره بوسام (اللجيون دونير). وبدأت أحدثه معرباً عن أسفه، مقدماً اعتذاره، مؤكداً أن هناك مجرماً بين ما لدى من خدم. . .

ص: 57

وكدت أصعق، وأجبت بأني أستطيع أن أشهد لكل واحد منهم، بل وينبغي أن أقدمهم لديه مستعرضة ليقتنع.

هناك (بير كورتان)، جندي كهل. . . ليس هو سائق العربة (فرانسيس بنجو)، مزارع، أبن الشرف على مزارع أبي. . أنه ليس هو.

صبي يعمل في الحضيرة، شمباني، من أبناء مزارعين أعرفهم. . . ليس هو.

ولا أحد بعد ذلك غير هذا الخادم الذي تراه. . . أنه ليس واحداُ من كل من ذكرت. وإذن فأنت ترى انك قد خدعت يا سيدي

- معذرة يا سيدتي، ولكنني واثق من أنني لن أخدع: هل تسمحين بأن يكون استعراضك لخدمك عن طريق إحضارهم هنا ليظهروا أمامي وأمامك، كل خدمك بلا استثناء؟

وترددت بادئ الأمر، وأخيراً أذعنت، ولم أرى بداً من استدعاء كل الخدم رجلاً ونساءً.

وتفحصهم جميعاً في لحظة ثم أوضح: أنهم ليسوا كل الخدم وأجبت قائلة: معذرة يا سيدي، ليس هناك غير خادمتي الخاصة، تلك التي لا يمكن بحال أن تخلط بينها وبين أحد المجرمين!

- هل أستطيع أراها أيضاً! - من غير شك!

وغمزت الجرس فظهرت (روز) على الفور: وفي اللحظة التي دخلت فيها الفتاة أرسل الضابط إشارة إلى رجلين قد كانا وراء الباب فلم تقع عليهما عيناي، وألقى الرجلان بثقليهما فوق الفتاة ثم أمسكا بيدها. وشدت أحدهما إلى الأخرى بالقيود!

وأطلقت صرخة غضب، ورحت أحاول الدفاع عنها ولكن الضابط أوقفني قائلاً:

- هذه الفتاة يا سيدتي ليست إلا رجلاً يسمى نفسه (جان نيكولا ليكابيه). . . حكم عليه بالإعدام لأقدامه على جريمة قتل سبقتها جريمة هتك عرض، ثم استبدلت العقوبة بالسجن مدى الحياة. لقد فر منذ أربعة أشهر، ومنذ ذلك الحين ونحن نجد في البحث عنه.

أصابني الفزع، وعقلت الدهشة لساني، ولم أستطع أن أصدق. . . وأستمر الضابط في حديثه ضاحكاً:

- أستطيع أن أقدم لك دليلاً واحداً، هو أن هناك وشماً على ساعده الأيمن وتحققت من صدق هذا القول عندما كشف عن ساعده، ولكن ضابط البوليس أردف في لهجة نيابة:

ص: 58

- ليس من شك في أنك غير محتاجة إلى الإقناع عن طريق الأدلة الاخرى؟

قالها ثم انصرف مصحوباً. . . بخادمتي!

صدقيني أن أقصى شعور تملكني هو شعور الغضب من أن يغرر بي على هذا الوجه، وأن أخدع، وأن أعرض للسخرية: وصدقيني أنه لم يكن شعوراً بالخزي أن يلمسني ذلك الرجل، وأن يمسكني بيده، وأن أبدو أمامه عارية وكاسية، ولكنه كان شعوراً آخر. . . شعوراً عميقاً بالضعة: ضعة امرأة! ترى هل فهمت ماذا أقصد؟

- كلا، لم أفهم تماماً ماذا تقصدين!

فكري هنيهة. . . لقد أدين ذلك الرجل لأنه قد اقدم على هتك عرض. . . وهذا هو الشيء. . . الشيء الوحيد هناك. . . الذي أشعرني بالضعة! ترى هل فهمت الآن؟

ولم تجب سيمون، بل راحت ترسل البصر مستقيماً إلى الأمام إلى حلة السائق حيث ثبتت عيناها في زرين يتألقان، وعلى شفتيها تلك الابتسامة الغامضة التي تعرفها الغانيات. . . . في بعض المناسبات!!

أنور المعداوي

ص: 59