الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 841
- بتاريخ: 15 - 08 - 1949
أخي عزام
قرأت فصولك الأربعة عشر التي كتبتها لقراءة الرسالة بقلم المؤمن الصادق والمصلح الحكيم والخبير المجرب والكاتب المفتن، من هذه الحيرة الاجتماعية التي عوقت الأمم، وهذا القلق النفسي الذي أشقى الأفراد؛ فكنت كلما قرأت منها فصلاً نشأت في خاطري فكرة، وحفزتني إلى الكتابة رغبة؛ فإذا قرأت الفصل الذي يليه ذهبت فكرة وجاءت فكرة، وسكنت رغبة وتحركت رغبة، حتى قرأت (الخاتمة) فوجدتك قد جمعت شتيت الأخطاء والأدواء ثم رددتها إلى مصدر واحد هو ضلال الإنسان، ووصفت لها طباباً واحداً هو هُدى الله، فلم تدع في الموضوع فضلةً يناقشها أديب، ولا علةً يعالجها طبيب.
كلام يشرق في الحق وعلاج يهدي إليه العقل، فما كان يجوز أن يختلف فيهما صاحب دين ولا صاحب دنيا، ولا أن يعمى عنهما أهل شرقٍ ولا أهل غرب؛ ولك الله لأمره يعلمه شاء أن يجوز العمى على البصير فلا يرى إلا بتنبيه، وإن يجري الصمم على السميع إلا بتبليغ!
ولقد كان من بداءة المنطق ومسلمات الطبع إلا تستبد الحيرة والقلق بقوم يأمر ربهم بالعدل والإحسان، ويقوم شرعهم على الهدى والفرقان؛ ولكن المسلمين اليوم قد اتبعوا سبيلاً غير سبيل محمد، واتخذوا دليلًا غير دليل الله؛ فأصبحوا كسائر الأمم الغربية عباداً للذهب والسلطان والهوى، لا يتبعون غير رجال المال والسياسة بالطمع، ولا يطيعون غير رجال الحكم والحرب بالخوف. إمارجال الفكر ورجال الدين فقد جعلوهم من نوافل الحياة؛ مكانهم على الهامش لا في المتن، وميدانهم نوازع الكمال لا دوافع الضرورة؛ إلا من استغنوا منهم فقد استحبَ عماهم على هداه، وآثر هواهم إلى عقله.
ورجال الفكر أمثالك يا أخي قومُ جعلوا (وظيفتهم) التفكير للناس. فهم ينتجون الفكر كما ينتج أصحاب العمل المال، ورجال السياسة الخداع، وأرباب الحكم الغطرسة! فما كان اجدر بابن آدم وهو لا يزال يتبجح بالعقل ويتمزى به على غيره أن يجعل قياده لرجل الفكر! ولكن ابن آدم إنسان وحيوان، فإن استجر بإنسانيته للقلم، فلن يستجر بحيوانيته إلا للعصا!
لقد قرأ الناس ما كتبت واعجبوا بما قرأوا. ولكن إعجابهم به لا يعدوا أن يكون إعجاباً بالجمال في ذاته. سيزعم كل قارئ انك عنيت بكلامك سواه. فالفرد يقول أنا ضعيف؛ فليتني أقوى لتكون لي إرادة. والشعب يقول أنا جاهل؛ فليتني أعلم ليكون لي رأي.
والحزب المعارض يقول أنا غير مسؤول؛ فليتني أحكم ليكون لي أمر. الحزب الحاكم يقول أنا غير مستقر؛ فليتني أثبت ليكون لي تنفيذ! فإذا قوى الفرد عمل لنفسه، وإذا تعلم الشعب عصف الطغيان في رأسه، وإذا حكم المعارض لها بيومه عن أمسه!! وإذن تذهب كلماتك الطيبة وأمثالها يا عزام كما تذهب النغمات الرخيمة في هزيم العاصفة، أو النسمات الرخيمة في لفاف الغابة!
أغلب الظن يا صديقي أن أبرار الكتاب سيظلون يقولون الخير لأن لذتهم في أن يقولوه، وأن فجار الساسة سيظلون يعملون الشر لأن لذتهم في أن يعملوه؛ حتى يشاء الله وحده للوئام أن يعم وللسلام أن يعود، فيهيأ حينئذ لكلام الكتاب السبيل إلى أذهان الأحزاب والأقطاب، فتتجدد دعوة الأنبياء، وتتصل الأرض بأسباب السماء، ويصبح الإدلاء في ركاب الحياة من أمثال عمر وصلاح الدين، لا من أمثال ترومان وستالين.
فكر يا أخي وعبر، ضير عليك ألا يفهم الناس عنك؛ فإن التفكير متعة العقل، كما أن التعبير متعة الروح.
(المنصورة)
أحمد حسن الزيات
حديث الطائر الصداح
للأستاذ كمال كيلاني
مر السلطان ذات ليلة بمنزل، فتسمع فيه إلى ثلاث أخوات يتمنين الأماني
وقالت الكبرى: أتمنى ان يبنى بي خباز السلطان!
وقالت الوسطى: أتمنى ان يبنى بي طباخ السلطان!
وقالت الصغرى: أتمنى ان يبنى بي السلطان نفسه!
ثم اصبح الصباح، فحقق السلطان للأخوات الثلاثة أمانيهن، دبفي نفس الأختين الكبرى والوسطى دبيب الغيرة من أختهما الصغرى. . . فكيف تفسدان بينها وبين السلطان؟
حملت الصغرى، وجاءها المخاض، ولكن لم تضع أميرا صغيراً، بل وضعت - فيما زعمته شقيقاتها - كلباً!
وفي العام التالي وضعت قطاً! وفي الثالث وضعت قرداً! جازت حيلة الشقيقتين على السلطان، وفعلت الخيانة فعلها في نفسه. . . فهجر زوجته البريئة!.
ترعرع الأمراء الثلاثة أبناء السلطان الحقيقيون. . . وفي ذات يوم أقاموا مأدبة حضرها البلبل الصداح. . . وكان قد أشار على الأمراء ان يحشو الخس والخيار باللآلئ!.
غير ان السلطان لم يرقه ذلك، فلما أبدى استنكاره، هتف البلبل الصداح بالنشيد التالي، وهو مقتبس من قصة (عجائب الدنيا ثلاث) للأستاذ كامل الكيلاني
حباتُ هذا اللؤلؤ الصغار
…
حشى بها الخسُ أو الخيار
تثيرُ منكَ حيرةً فتنكرُ
…
عينكَ - من دهشتها - ما تبصر
ترى عجيباً قد تناها في العجبِ
…
وغفلةْ، في طيها سوءُأدب
تراه شيئاً لا يجوزُ أبدًا
…
تنكرهُ، وليسَ يؤذي أحد
وقبلُهذا صدقَ السلطانُ
…
أن يلدِ البهائمُالإنسان
هل تلدُالكلبةُعنزاً أو حملا
…
أو تلدُالنعجةُفيلاً أو جمل؟
أو تلدُالنمورة الغز لأنا
…
أو تخرجُالتفاحةُالرمانا
أو تلدُالوحشيةُالإنسانية
…
أو تلدُالقطةُآدمية؟!
فكيفَ جازَ في العقولِ ان تلدَ
…
سيدة الساداتِ في هذا البلد
كلباً وقطاً بعدهُ، وقردا
…
أيهزلونَ. . . فتراهُجدا!
وهو محالُ، عقلنا يأباهُ
…
وسنةُالحياةِ لا ترضاه!
حشو الطعامِ بنفيسِ الماس
…
أدنى إلى المنطقِ والقياس.
3 - فلسفة الشعب
الفلسفة الصامتة
للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي
لست ابغي ان امحي الفروق العديدة التي تميز فكر الفيلسوف من فكر الجمهور، إنما أريد التقريب وعقد الصلات بينهما، وبيان ان الهوة المزعومة بينهما لا وجود لها. ذلك ان المذاهب الفلسفية استمرار طبيعي لفلسفة صامتة، تتسلسل في آلاف الأذهان خفية كما تتسلسل النار الكامنة، حتى تشتعل وتومض وميضاً يبهر الأبصار بعد ان تكون مرت بدور كمون طويل. فما من مذب جديد إلا وله دور وسوابق وممهدات في مذاهب السابقين، وهذه بدورها سبقتها نضرات ولمحات صامتة تبدو في حكم العامة وأساطيرهم وشعر الشعراء وقصص الأدباء. ولكن هؤلاء جميعاً بدت النظرات الفلسفية في إنتاجهم دون قصد أو وعي بها ومن اجل هذا اسميها فلسفة صامتة. إنما الفلسفة الناطقة هي التي تعبر عنها المذاهب الفلسفية التي صاغها أصحابها على وعي منهم بها، والتي تبدو جديدة مبتكرة. وما هي - لو تأملناها أحطنا بملابساتها - غير تأليف وتفيق جديد بين عناصر قديمة مرت بالعقل البشري من قبل وبوسعنا الاهتداء أليها في مذاهب السابقين بل مثبتة في ثنايا الشعر والحكمة الشعبية القديمة قدم الإنسان ذاته،
إليك مثلاً أفلاطون وهو صاحب أول مذهب متكامل شامل في تاريخ الفلسفة، يبدو مذهبه عملا ابتكارياً صرفاً، ولمن الحقيقة التي يكشف عنها تاريخ الفلسفة ان بعض النتائج التي وصل إليها غيره من المفكرين السابقين عليه، قد دخلت في تكوين هيكل فلسفته: نظرية هرقليطس في التغير المستمر، وفكرة فيثاغورس في العدد والموسيقى، ورأي بارمنيدس في الوجود ثم فلسفة سقراط أستاذه الحبيب، هذه جميعها امتصها أفلاطون وتمثلها حتى استحالت إلى كيانه الفكري كما تستحيل الأغذية إلى كياننا الجسمي. ليس هذا فحسب بل نستطيع لو ثابرنا ان نجد في الفكر القديم عند الهنود والمصريين أفكارا تتصل بسبب قريب بأفكار منبثة من مذاهب أفلاطون.
يقول الأستاذ إسماعيل مظهر:
(ان مبادئ أفلاطون الأساسية وفكراته الجوهرية التي قام عليها مذهبه، تدفع بنا إلى
الرجوع سعياً، لا إلى أسلافه الأقربين ولا إلى معلمه العميق الغور سقراط، الذي عاش في صفحات ما كتب أفلاطون، ولكن إلى مدارس سبقته فأكبت على التأمل الفكري في إغريقية وايونانا وإيطاليا. ومن قبل هؤلاء قد نرجع إلى عصر العر، ذلك العصر الذي ترى فيه بدايات الفلسفة تكاد تبدو في ضباب الزمن، وهي لا تكاد تعرف حتى من قيمة ذاتها شيئاً. ثم مد بصرك إلى ابعد من هذه الفلسفة غير الواعية الحقيقية ما هي، وانغمر في ضمير الزمان إلى تلك البدايات التي تمثلت في الميول العقلية الخلجات النفسية وترامي قوى الفكر إلى حجب العالم، تجد ان هذه الأشياء قد شهدت ميلاد فكرات أفلاطون بنسب، منحدرة إليه من مدنيات عتيقة موغلة في القدم من الهند ومصر، وتجد فوق ذلك ان هذه الفكرات لا تزال حتى اليوم تؤثر أثرها المحتوم في عالم التأمل)
وليس هذا غريباً إذا علمنا ان الطريق إلى التعليمات الفلسفية ليس عقل الفيلسوف وحده فهنالك لدى العامة حدس صادق، أو حس سليم هو طريق آخر يفضي إلى نظرات عامة في الكون والأخلاق فيها من الصدق والصفاء ما يجعل لها قيمة تداني قيمة مذاهب الفلاسفة والخلاصة ان المذاهبالفلسفية يقابلها فلسفة واقعية صامتة أو هي - كما قال الأستاذ إسماعيل مظهر:(لاتعي ذاتها).
عقد الأستاذ (البير بأبيه) في كتابه (أخلاق العلم) فصلاً يبين فيه النظريات الفلسفية الأخلاقية، سبقتها أخلاق واقعية، وإنها مجرد تركيز أو تبلور لتصورات الناس الواقعية لمثل أعلى. بل ويفضل الأخلاق الواقعية على النظريات الفلسفية لان اثر الأخير في المجتمع اثر يكاد ينعدم.
يقول الأستاذ بابيه بهذا الصدد:
(أتنظر في اكبر تحول عرفته المجتمعات البشرية: وهو إلغاء الرق. ولو سئلنا اليوم في القرن العشرين باسم أي مذهب نستنكر الرق؟ استطعنا ان نجيب جواباً لا يخلو من منطق: ان ذلك باسم فلسفة القرن الثامن عشر التي أعلنت حقوق الإنسان ولكنا نعلم حق العلم ان تلك النظرية لم تحرر إلا بعد حين، أي بعد ان كانت المهمة قد تمت، وبعد ان كان الرق كله قد اختفى أو كاد ان يختفي من مجتمعاتنا، ولكن نبحث في التاريخ عن المبادئ التي أدت إلى إلغاء الرق: يحيل بعض المفكرين إلى الأخلاق الرواقية، ولكن الرواقيين كان لهم
أرقاء. ولقد كان المفكرون من جميع المدارس يجدون صيغة مرنة تعينهم على ان يراعوا النظام العتيق، وكأنهم يحملون عليه بإحدى اليدين ويؤيدونه باليد الأخرى. ابحث ما شئت في التاريخ، فانك لن تجد ذلك المشهد الرائع: مشهد مذهب يقوم فيقضي على الرق. ولكن من حسن الحظ ان هناك أخلاقا واقعية كانت تعمل وتؤثر، بينما كان الفلاسفة يكتبون ويتكلمون. وتلك الأخلاق الواقعية هي التي ألهمت (نيرون) ذلك المحسن إلى الإنسانية، ان يحقق ذلك العمل الثوري العظيم الذي أباح للرقيق إذا عومل معاملة بالغة القسوة ان يرفع شكواه إلى القضاء. وألهمت القرارات الكثيرة التي أصلحت حال الرقيق ثم الموالي. فماذا كانت حقيقة تلك الأخلاق الواقعية؟.
لو سئل الذين كانوا أول من عمل هذه الأخلاق، يقومون في متناقضات تستدعي الإشفاق حين يستهدفون إلى الإشارة بهذا الصدد إلى شئ من المبادئ. ولكنا نرى بعد حين النهج الذي سلكوه، والذي انتهى إلى حقوق الإنسان. ان الأخلاق الصامتة المتضمنة في جهودهم المتواصلة أقوى من العبارات المزعومة التي نقرأها في كتب الفلاسفة).
اجل، بينا كان الفلاسفة يكتبون ويناقشون مذاهبهم الفلسفية في الأخلاق كانت عناك في ضمير الشعب فلسفات أخلاقية صامتة، تؤثر اثراً قوياً ولكن في صمت حتى تحققت بعد ان كان أملا تهفو إليه النفوس ذلك هو التحرير من الرق والعبودية.
الفلسفة في الإنتاج الأدبي
ألا ينهض ذلك دليلاً على ان الفلسفة تمد جذورها في حياتنا إلى أعماق سحيقة؟ وان لحظات قد تواتي جمهور الناس - رغم طغيان المشاغل اليومية - فتنف بصائرهم إلى هذه الأعماق، وتغوص عقولهم إلى القاع لتصعد محملة بلآلئ الأفكار يذيعونها أمثالا مأثورة أو حكما، وقد لا يفصحون عنها لفظاً ولكن تفصح عنها حياتهم بما تنطوي عليه من معنى فلسفي؟ ولو تركنا طبقة الجمهور إلى طبقة الكتاب من غير الفلاسفة، لوجدنا في طيات كتبهم نظرات وتعميمات فلسفية. مثال ذلك: مسرحيات سوفوكليس وشكسبير وموليير وروايات برناندشو واندريه جيد ونجيب الريحاني وشارلي شابلن وجوته، نرى فيها جميعاً لمحات فلسفية منبثة هنا وهناك في أنتاجهم، وطالما كانوا اكثر توفيقاً من الفلاسفة؛ إذ سرعان ما تنفذ اتجاهاتهم إلى شعاب نفسك في يسر لتستقر في الأعماق. وما ذلك إلا لأنهم
لم يعمدوا إلى ما يعمد إليه أهل الصنعة من الفلاسفة حين يجرون الأفكار من الحياة، وينتزعونها من الواقع الذي ولدت فيه، ونمت وازدهرت.
أينما نولي الطرف في الإنتاج الخالد يقع بصرنا على بطل يجسم مشكلة من المشاكل الإنسانية، تعترضنا جميعاً أيا كان زمننا وأيا كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال كما تصورها مأساة (فاوست)، والصراع الدائم بين قوى الفرد وقوة المجتمع العاتية التي لا تأبه لآمال الأفراد وآلامهم كما تبرزها قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، أو روايات نجيب الريحاني التي تضحكنا رغم انطوائها على المأساة البشرية الكبرى: ما تلقيه النفوس الخيرة من عنت في هذا الأعلم والتي تنتهي جميعاً إلى اعتبار الخير غاية في ذاته والسعادة في راحة الضمير. والمتتبع لروايات شارلي شابلن خاصة في الفترة الأخيرة من حياته يلمس روحاً فلسفياً تسري في جوانبها. وتأملنا آخر روايات (المسيو فيردو) محترف قتل السيدات لاستخلصنا الدرس العميق الذي يلقيه على الإنسانية العاتية الحمقاء (التي ترفع مثيري الحروب الذين يسفكون دماء الملايين إلى منزلة الأبطال الخالدين، وتحكم الإعدام على فرد قتل عدداً القليل من النساء ليحصل منهم على ان يقيم الأود بعد ان طرق الأبواب فلا يجد رزقاً)، ذلك الدرس يقره شارلي العظيم في الحوار الأخير بينه وبين القسيس الذي أتى يباركه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه، إذ يعلن للقسيس عدم احتياجه إليه فيلح القسيس عليه ان يصلي ويتحدث إليه لعل الله يستجيب له فيقول (المسيو فيردو):(ليس الخلاف يا سيدي بيني وبين الله انه بيني وبين البشر) اجل ان النظام الطبيعي خير لكن البشر هم الذين يفسدونه. البشر وحدهم هم مسؤولون عن وجود الشر في العالم ويخطئ من يدعي ان الله يرد بالعالم شراً.
عالج كثير من الفلاسفة في أسفار عدة موضوع الإرادة الإنسانية أهي حرة أم مجبرة، وعالجوا فكرة القضاء والقدر، وفكرة الاتفاق في الطبيعة والحظ لدى الإنسان. ونستطيع الاستنارة في هذه الموضوعات لو فتشنا عنها في كتب الفلاسفة، ولكنا نراها في ضوء باهر ونلمسها ونحياها لو أنا عشنا لحظات مع الشاعر الروائي سوفوكليس في مسرحيته (أوديب ملكا) التي كتبها في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد، أو أنا جلسنا إلى (اندري جيد) نقرأ روايته (أوديب) التي كتبها في فرنسا منذ أعوام قلائل. خمسة وعشرون قرناً من
الزمان تفرق بين الخالدين. دون ان تمحو من الأذهان مشكلة فلسفية كبرى: تلك هي الصراع بين القضاء المحتوم والإرادة الإنسانية المختارة.
ولأترك القارئ لحظات إلى أستاذنا الدكتور طه حسين يكشف له عن الفلسفة التي تتضمنها قصة أوديب عند كل من سو فوكل وجيد:
(هناك قضاء كان اليونان يؤمنون بأنه مسيطراً على كل شئ وعلى كل كائن لا يفلت منه الآلهة أنفسهم. وهناك الإنسان كان يشعر بان له عقلاً يميز به بين الخير والشر، وبان له إرادة يعمد بها إلى أحد هذين الشيئين اللذين يميز العقل بينهما وهما: الخير والشر. فليس هناك إذن بد من ان يكون اصطدام بين القضاء المحتوم الذي لا يفلت منه الإنسان والآلهة، وبين هذه الإرادة التي زعم الإنسان إنها حرة مختارة تستطيع ان تعمد إلى ما تحب وتنصرف عما تكره سواء أراد القضاء أم لم يرد.
هذه الفكرة التي عمد سو فوكل إلى ان يصورها في قصته ومن قبله كان الشعار اليوناني الممثل (ايسكاوس) الذي ذهب في تمثيله إلى تغليب القضاء على الإرادة الحرة المختارة، ومن بعده جاء الشاعر اليوناني الممثل (اروبيد) الذي ذهب إلى كسب الحرية للإرادة الإنسانية وانكر القضاء أو كاد ينكره. إماسو فوكل فتوسط بين الأمرين. لم ينكر القضاء ولكنه لم يلغي الإرادة الإنسانية، وإنما اعترف لها بشيء من الحق واعتراف لها بأنها ان لم تستطع تغيير مجرى القضاء، فإنها تستطيع ان تقاوم هذا القضاء مقاومة ما. . .
صور لنا سو فوكل صراع بين القضاء وبين الإرادة واظهر لنا الإنسان وقد غلبه القضاء. ولكنه لم يغلبه في سهولة ويسر. وإنما غلبه بعد قاومه الإنسان مقاومة عنيفة متصلة، بالغة أقصى ما يمكن ان تبلغ من القوة والعنف. . .).
ثم بمضي الدكتور طه مبيناً تصور اندري جيد لنفس المشكلة: (يصور لنا أوديب مصارعاً للقضاء يغلبه القضاء أولاً. ثم مؤمناً بنفسه معتزاً بآرائه وينتصر على القضاء آخر الأمر. . . أوديب عنده رمز الإنسان الذي لا يؤمن لا بنفسه وبإرادته، قد قبل سعادته راضياً عنها، وهو يقبل شقاءه راضياً عنه، وهو مطمئن كل الاطمئنان إلى ان الرجل الحق هو الذي يتلقى الحياة صامداً لها راضياً عنها، متنعماً بخيرها على علم وثقة أيضا، لا يشكو ولا يتوعوع، فهناك سؤال واحد دائما يلقى على كل إنسان ليس له إلا جواب واحد. إماالسؤال
فهو: ما اللغز وكيف يحل لغز الحياة الإنسانية؟ وإماالجواب فهو: ان اللغز هو الإنسان، وحله ان يمضي الإنسان تبعا لإرادته، وفق عواطفه وشعوره وغرائزه وعقله.
هذه هي القصة التي كتبها اندري جيد وهي كما ترون تمعن في الفلسفة، وتبعد عن العناية الفنية).
(الإسكندرية)
عبد المنعم المليجي
عبقرية محمد علي الكبير
للأستاذ كمال السيد درويش
(حقا لقد كان عبقريا!)
هتفت بهذه العبارة من أعماق قلبي ونطق بها لساني بعد ان ملك الإعجاب نفسي. كان ذلك بعد ان انتهيت من قراءة بعض صفحات تاريخه الخالد بمناسبة ذكراه.
قلبت تلك الصفحات، فاستوقفني ذلك الحوار الذي دار بين محمد علي وبين بركارت الرحالة السويسري. كان الرحالة قد اعتنق الإسلام وتسمى بالشيخ إبراهيم أطلق لحيته حتى يتسنى له الاختلاط التام بالمسلمين. وكان محمد علي قد سافر بنفسه - كما هو معروف - إلى بلاد العرب على راس حملة عسكرية لمساعدة نجله في قتال الوهابيين. ويصل الشيخ إبراهيم إلى الحجاز في ذلك الحين ليؤدي فريضة الحج مع المسلمين ومدون ذلك كله في كتابه المشهور.
ويستدعي الباشا الرحالة - وقد علم بوجوده - ما السر في حضوره إلى الحجاز؟ وفي ذلك الحين بالذات؟ إلا يحتمل ان يكون جاسوسا إنجليزيا؟ دارت هذه الأفكار في ذهن الباشا فالتفت إلى بركات وهو يقول مداعبا: إلا ترى معي يا شيخ إبراهيم ان اللحية وحدها لا تكفي لجعل الإنسان مسلما حقيقيا؟ وحين يحجم الرحالة بين ذلك على تكرار الزيارة لان الباشا يشك في أمره - كما فهم - يقول محمد علي لترجمانه: اخبره باني ارحب به سواء كان مسلما أو غير مسلم.
وتعددت المقابلات بينهما. . .
ويستفسر محمد علي منه عن أسفاره السابقة إلى بلاد النوبة، ثم يستدرج السؤال عن المماليك ومدى قوتهم وعن رائيه في عدد القوة التي تكفي للقضاء عليهم، وافضل الطرق للوصول إلى السودان وعن المال اللازم لإعدادها.
وتصل إليهما في أثناء ذلك الحين أخبار هزيمة نابليون وبدخول الحلفاء باريس وإبعاد نابليون إلى جزيرة ألبا، ويسأله الرحالة عن رأيه في تلك الحوادث، ويعلق محمد علي بقوله: ان نابليون كان جبانا في سلوكه. وكان يجدر به ان يلقى حتفه في الميدان بدلا من الاستسلام للذل والهوان وللحبس في هذا القفص حتى غدا أضحوكة العالم بأسره. ثم يلتمس
محمد علي العذر لنابليون فيقول: لقد كان أعوانه خونة كالعثمانيين. لقد تخلى عنه أعوانه الممتازون وقواده المشهورون من يدينون له بالفضل والشهرة والجاه، فهو ضحية خيانة الأصدقاء قبل ان يكون ضحية الأعداء!.
ويروي الرحالة ان الباشا كان شديد الشوق لمعرفة اثر التطورات الأخيرة في حوادث أوربا على العلاقة بين روسيا وبريطانيا في نيات الأخيرة نحو مصر. وحين حاول الرحالة إزالة مخاوف محمد على وشكوكه من جانب إنكلترا وإقناعه بسلامة نيتها نحو الدولة العثمانية ونحو مصر بالذات أبى الباشا ان يستجيب له، وهز رأسه في إنكار وهو يقول: ان السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة، ومصر ضرورية لإنكلترا، فكيف اطمئن على نيتها نحو مصر؟ أنا لا أخاف من السلطان، فأنا اعرف كيف أتفوق عليه في المكر والدهاء، ولكني أخشى على مصر من إنجلترا وأطماعها.
ولاحظ بركات في لهجة محمد علي حماس الشاب الولهان، وغيرته على زوجته الصغيرة الحسناء من الغرباء، بالرغم من تأكده من حبها وإخلاصها.
عند ذلك يرد محمد علي على محدثه وهو يقول في حماس شديد كلمته الخالدة: (حقا أنا احب مصر، احبها حب العاشق المتيم الولهان، ولو كنت املك سوى روحي عشرة ألف أخرى، لضحيت بها في سبيلها).
أفلا يحق للقارئ - وقد انتهى من هذا الحديث الخالد - ان يهتف من أعماق قلبه: (حقا، لقد كان رجلا عبقريا؟)
كان وهو يحار الوهابيين في بلاد العرب يفكر في مصر وفي أهلها، وفي علاقتهم بولده إبراهيم وتركه حاكما عليها، فيسأله الرحالة عن مدى حب الأهالي لولده وعن رأيهم فيه؟ ألم يكن بهذا أول حاكم يبني علاقة الحاكم بالمحكوم على أساس متين من المحبة الصادقة؟ في الوقت الذي كان فيه الاستبداد من الأصول المرعية لدى الحكام والمحكومين؟
ألم يتابع - وهو في عزلته - تطور الحوادث العالمية مقدرا ما سيكون لها من اثر على مستقبل مصر؟ ألم يدرك بثقاب فكره وحسن تقديره، ونفاذ بصيرته، حقيقة العلاقة بين إنكلترا ومصر؟ وان واجب مصر يحتم عليها الأخذ بأسباب القوة حتى لا تلتهمها تلك السمكة الكبيرة؟
ولقد فعل فلم تكشف إنكلترا عن نواياها، حتى إذا تركنا الأخذ بأسباب القوة، وتنكبنا الطريق التي رسمها، هب إعصار الآنجليز، فاكتسح استقلالنا، ومسخ قوميتنا، وشوه تاريخنا؟
حقا، لقد أيدت الحوادث صدق نظر محمد علي وسذاجة الرحالة السويسري!.
وهكذا تفتحت عبقرية محمد علي الكبير وهو بعد لم يزل واليا صغيرا!
لقد احب مصر لدرجة العشق والهيام، وتمنى ان لو كان لديه اكثر من روح واحدة حتى يقدم الآلاف في سبيلها؟
ولقد ضحى فعلا بابنه إسماعيل وبطوسون وبإبراهيم، وأخيرا بروحه هو نفسه.
وهكذا أعطى مصر اكثر مما أعطته، ومنحها اكثر مما منحته واصبح اسمه علما على نهضتها وعظمتها في تاريخها الحديث. لقد اخلص محمد علي في حبه لمصر لمعشوقته الحسناء، وفتاته الهيفاء، حتى الرمق الأخير. . .
فلا عجب إذا احتفلت قلوب المصريين بذكرى المؤسس الأول الخالد في سجل الخالدين وهي تهتف بلسان واحد:
حقا لقد كان عبقريا!
كمال السيد درويش
مدرس بالرمل الثانوية - الإسكندرية ليسانسيه الآداب بامتياز
ودبلوم معهد التربية العالي وعضو الجمعية التاريخية لخريجي
جامعة فاروق
من ظرفاء العصر العباسي
أبو دلامة
توفي سنة 161هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 3 -
عرف أبو دلامة بخل المنصور، وانه لن ينال منه العطاء إلا بعد تعب طويل، فكان ينتهز الفرصة في إرضائه إلى ما يعلم انه يستريح إلى سماعه. فهو يعرف مثلا المنصور - بعد قتله أبا مسلم الخرساني - كان يحب من الناس ان يبرروا عمله ويعتبروا أبا مسلم مستحقا لتلك المأساة التي ختمت بها حياته، فلينتهز أبو دلامة هذه الفرصة ولينشد المنصور في محفل من الناس:
أبا مسلم خوفتني القتل فانتحى
…
عليك بما خوفتني الأسد الورْدُ
أبا مسلم ما غير الله نعمةً
…
على عبده حتى يغيرها العبد
وانك لتجد في هذين البيتين قوة في السبك تشعرك بان أبا دلامة في القصيدة لم يكن شيئا يستهان به أو يستخف بوزنه. لذلك سر المنصور بهذه القصيدة وقال لأبى دلامة: احتكم، قال: عشرة ألف درهم. فأمر له بها: فلما خلا به قال له مازحاً: ايه! إماوالله لو تعديتها لقتلتك!
بل أعطاه المنصور دارا وكسوة لإعجابه بقصيدة وصف له فيها سوء حاله وقلة ماله وجوع أهله، ومدحه فيها أثنى على بني العباس واسمع إذ شئت هذه القصيدة:
هاتيك والدتي عجوز همةٌ
…
مثل البليلة دِرعها في المِشجب
مهزولة اللَحيين من يرها يقلْ
…
أبصرتُ غولاً أو خيالَ القُطرب
ما إن تركتُ لها ولا لابن لها
…
مالاً يؤمل غير بَكْر اجرب
ودجائجاً خمساً يُرحن إليهمُ
…
لما يبضن، وغيرَ عَيْرٍ مغرب
كتبوا إليَ صحيفة مطبوعة
…
جعلوا عليها طينة كالعقرب
فعلمت ان الشر عند فكاكها
…
ففككتها عن مثل ريح الجورب
وإذا شبيه بالأفعى رُقشتْ
…
يوعدني بتلمُظ وتثؤب
يشكون أن الجوع اهلك بعضهم
…
لَزَباً فهل لك من عيال لزَُب
لا يسألونك غير طل سحابة
…
تغشاهمُمن سيلك المتحلب
يا باذل الخيرات يا بن بذولها
…
وابن الكرام وكلٍ قرم منجب
أنتم بنو العباس يُعلَم أنكم
…
قدْماً فوارسُ كل يوم أشهب
احلاس خيل الله وهي مغيرة
…
يخرجن من خَلَل الغبار الاكهب
وكانت الدار التي أعطاها المنصور أبو دلامة قريبة من قصره، فأمر بان تزاد في قصره بعد ذلك لحاجة دعته إليها. فدخل عليه أبو دلامة فانشده قوله:
يا ابن عم النبي دعوة شيخٍ
…
قد دنا هدم داره ودمارُه
فهو كالماخض التي اعتادها الطلـ - ق فقرَت وما يقر قراره
ان تحزْ عسرة بكفيك يوماً
…
فبكفيك عسره ويساره
أو تدَعه فللبوار وأني
…
ولماذا وأنت حي بواره؟
هل يخاف الهلاك شاعرُ قوم
…
قدمتْ في مديحه أشعارُه؟
لكم الأرض كلها فأعيروا
…
شيخكم ما احتوى عليه جداره
فكأنْ قد مضى وخلَف فيكم
…
ما أعرتم أقفرت منه داره
فاستعبر المنصور، أمر بتعويضه داراً خيرا منها ووصله. ولو لم يتأثر بمعاني الشعر أبو جعفر، لما دمعت عيناه فاستعبر، ولما عوض عليه تلك الدار بأحسن منها وطيب خاطره واجزل سلته مع علمه بأنه اكثر إجادة للتمثيل منه لوصف حقيقة حاله. وانظر إلى تمثيل أبى دلامة واستخدامه الأساليب التي ترقق من قلب المنصور تارة، وتضحكه حتى تبدو نواجذه تارة أخرى، يوم دخل عليه فانشد قصيدته التي يقول فيها:
ان الخليط أجد البيَنَ فانتجعوا
…
وزودوك خبالاً بئس ما صنعوا
والله يعلم ان كادت لبيْنيهمُ
…
يوم الفراق حصاة القلب تنصدع
عجبتُ من صبيتي يوماً وأمهمُ
…
أمَ الدلامة لما هاجها الجزَع
لا بارك الله فيها منْ منبهة
…
هبت تلوم عيالي بعد ما هجعوا
ونحن مشتبهون الألوان أوجُهنا
…
سُودُ قباح وفي أسمائنا شَنع
أذابك الجوع مذ صارت عيالتنا
…
على الخليفة منه الرَيُ والشبع
لا والذي يا أمير المؤمنين قضى
…
لك الخلافةَ في أسبابها الرَفع
ما زلت أخلصها كسبي فتأكله
…
دوني ودون عيالي ثم تضطجع
شوهاء مشنأةُ في بطنها ثجَلُ
…
وفي المفاصل من أوصالها فدع
ذكرتها بكتاب الله حرمتنا
…
ولم تكن بكتاب الله تنتفع
فاخرنطمتْ ثم قالت وهي مغضبةُ
…
أأنت تتلو كتاب الله يا لكعُ
أخرج لتبلغ لنا مالاً ومزرعة
…
كما لجيراننا مال ومزدَرَعُ
واخدع خليفتنا عنها بمسألة
…
ان الخليفة للسؤال ينخدع
ولقد انخدع أبو جعفر حقا بهذه المسالة فانه ضحك ثم قال: أرضوها عني واكتبوا له بمائتي جريب عامرة ومائتي جريب غامرة فقال له: أنا اقطعك يا أمير المؤمنين أربعة آلاف تجريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وان شئت أزدك. فضحك وقال: اجعلها كلها عامرة.
ولعلك تذكر أن قد مر بك - حول الجريب العامر والجريب الغامر محاورة شبيهة بهذه بين أبي دلامة والسفاح فلا تسرع إلى اعتبار أحدهما موضوعة، فكثيراً ما يستطيع اللاحق نكته للسابق فيتناقلها استمتاعاً بها ورغبة في سماع جواب جديد عليها. وجواب أبي دلامة للمنصور هنا - وان أشبه جوابه للسفاح - إلا ان الرد الجديد اكثر طرافة. فقد قال هناك. لقد اقطعتك أنا يا أمير المؤمنين خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد، ولم يكتفي بفيافي بني أتسد فقد ابعد الثقة فقال له: أنا اقطعتك يا أمير المؤمنين أربعة ألف جريب غامرة فيما بين الحيرة والنجف، وان شئت زدتك.
ولأبي دلامة في مسألة المنصور والوصول إلى عطائه أسلوب ادعى إلى الغرابة من كل ما سبق، فقد تطوع له نفسه تلفيق الرؤيا، وهو يعلم انه متهم بالكذب فيطلب من الخليفة تصديقه كأنه يريد ان يشهده على خداعه.
دخل على المنصور يوماً فانشده:
رأيتك في المنام كسوت جلدي
…
ثياباً جمةً وقضيت دَيني
فكان بنفسجيُ الخز فيها
…
وساجٌ ناعم فأتم زيني
فصدقْ يا فدتك النفس رؤيا
…
رأتها في المنام كذاك عيني
فأمر له بذلك وقال له: لا تعد ان تتحلم علي ثانية، فاجعل حلمك أضغاثا ولا أحققه
ونديم يجد في نفسه الجرأة على تلفيق الرؤيا إما م الخليفة له من الدلال عليه ما يشفع له، وإلا لالتمس لنفسه أسلوبا اسلم. ونعرف دلال أبى دلامة على المنصور من إعفائه إياه من السواد والقلانس دون الناس: فقد أمر أبو جعفر أصحابه بلبس السواد وقلانس طوال تدعم بعيدان من داخلها، وان يلقوا السيوف في المناطق ويكتبوا على ظهورهم (فسيكفيكم الله وهو السميع العليم). فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزي فقال له أبو جعفر: ما حالك؟ قال: شر حال، وجهي في نصفي، وسيفي في استي، وكتاب الله وراء ظهري، وقد صبغت بالسواد ثيابي. فضحك منه وأعفاه وحده من ذلك، وقال له: إياك ان يسمع هذا منك أحد.
وفي هذا يقول أبو دلامة:
وكنا نرجى من إما م زيادة
…
فجاد بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها
…
دنان يهود جللت بالبرانس
فهل كان الخليفة يعفيه من ذلك اللباس من دون الناس لولا دلاله عليه؟. . .
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح
تعقيبات
للأستاذ انور المعداوي
عتاب وطني كريم من السودان
تحية طيبة وتقديرا عظيما، وشكرا على هذا الأدبالحار الذي تمتعنا به في (الرسالة) كل أسبوع. . .
وبعد فقد ذكرت في كلمتك بعدد (الرسالة)(833)
تحت عنوان (بين نعيم الديمقراطية وجحيم الشيوعية) كلمات مدحت بها الإنجليز في حفاظهم على مبدأ الحرية وتأثرهم بالحياة الديمقراطية الحرية حينما تقارنهم بالأمريكيين أو الروس.
وكاتب هذه السطور يحتقر الشيوعية، كما يكفر بكل هذه النظم الغربية الفاشلة. إماالذي دعاني إلى الكتابة إليك، فهو أني استكثرت جدا ذلك المدح المعمم الذي اضفيته على الإنجليز عندما قلت انهم (أصحاب ديمقراطية يؤمن بها الحكام ويستشعرها المحكوم، ويلتقون جميعا في رحاب كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم). . .
إذ كنت تقصد يا سيدي انهم يسيرون وفق هذا المبدأ في إنجلترا وحدها فهو صحيح، لكن الإنجليز لا يستحقون على ذلك كل هذا المدح، بل يجب ان نقول انهم أنانيون وغير إنسانيين، وانهم لم يؤمنوا بعد بمبدأ الحرية الذي يجعل الناس سواسية كأسنان المشط مستعمرين أو مستعمرين. فالإنجليز خارج إنجلترا حكام إرهابيون بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وأظنك قد سمعتك بالقنابل التي فتكت مواطنيك من أبناء الجنوب في شهر نوفمبر الماضي من (عطبرة) و (بورسودان)، وبمئات الجرحى ومئات الذين ضربوا بالعصى الغليظة في (الخرطوم)، ومئات الذين زجوا في سجون البلدان الأخرى بالسودان لشيء بسيط هو ابسط ما يسمح به للفرد في ظل الحكومة الديمقراطية، هو إعلان الرأي سواء بالكتابة أو الخطابة أو المظاهرة السلمية العزلاء!.
واظنك تسمع بسلسلة المحكمات الجارية اليوم تحت المادة (105 من قانون عقوبات السودان)، لان فلانا كتب مقالا، أو أدلى بتصريح من شانه ان يسبب كراهية الإنجليز أو حكومة السودان، وغير ذلك. . . فما رأي الأستاذ في هذه الديمقراطية المزيفة؟ أقول لن
يستطيع الإنكليز الحصول على مدحك هذا عن جدارة واستحقاق حتى يتساوى المحكوم في (الخرطوم) بالمحكوم في (لندن) في كل الحقوق الديمقراطية، وحتى يؤمن الإنكليز ببيتي فيلسوف العرب المعري:
ولو أني جبيت الخلد فردا
…
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
…
سحائب ليس تنتظم البلادا
واني لفي انتظار ردك الكريم.
(السودان)
ج. ح. البشير
هذا هو العتاب الوطني الكريم الذي تلقيته من الجنوب أشرت إليه في عدد مضى من (الرسالة). . . ان كلماته الملتهبة بصدق الوطنية وحرارة الأيمان لتهزني هزا عنيفا، تهزني لأنها تحمل ألي من أعماق النفوس الأبية نفحات ونفحات، وتنقل إلى من سجل الجهاد النادر سطورا هي في حساب الشعور صفحات. . . إماالعتاب - وان كنت لا استحقه - إلا أنني انزل من نفسي منزلة الود الخالص والاخوة المتسامية، الاخوة التي استروحت انسام الأرض الطيبة على ضفاف نهر واحد وتحت سماء وطن واحد!.
يا اخي، يا اخي في الله والدين والوطن. . . ان الأرض التي جمعت بين قلبي وقلبك لتجمع بين جراح وجراح، وان النيل الذي ربط بين روحي وروحك ليربط بين كفاح وكفاح. . . أنا هنا وأنت هناك، ويا بعد الشقة في منطق الظلم البغيض، ويا قربها في منطق الحب المتغلغل في طوايا الوجدان. . . نحن يا اخي ميدان الجهاد يد تمد إلى يد، وفي معرض التضحية قدم تسعى إلى قدم، وفي مجال الوفاء عاطفة تقبس من عاطفة. . . فكيف تعاتبني على كلمات قلتها في سياق الحديث عن قوم يؤمنون بالديمقراطية في أرضهم، ويكفرون بها في أرض الناس؟!.
اجل، يا صديقي، لقد كنت أتحدث عن الإنجليز في بلادهم، انهم هناك أصحاب ديمقراطية يؤمن بها الحكام ويستشعرها المحكوم، ويلقون جميعا في رحابها كأكرم ما يلتقي الإنسان الكريم بالإنسان الكريم. . . حقيقة نسجلها في اطمئنان ويسجلها التاريخ، حتى إذا ما سجلنا
النقيض كنا أمناء على الحق سواء أشدنا بالعدل أم أشرنا إلى الظلم والطغيان!.
من الحق ان ننعت الإنجليز بأنهم مثاليون في بلادهم، مثاليون في قيم النزاهة ومعايير الخلق وموازين الإنسانية والضمير! ومن الحق ان ننعتهم أيضا بأنهم مثاليون في غير بلادهم، مثاليون في الأنانية والجشع، وضيعة الضمير والخلق، وانتفاء العدل والإنصاف. وتلك هي العناوين الضخمة التي يسطر تحتها التاريخ كلماته الخالدة حين يعرض للحكم البريطاني في أرضه وكل أرض سكنها الأحرار في كل زمان ومكان!
يا أخي، يا أخي في الله والدين والوطن. . . ان الأنشودة الرائعة التي بدأناها في شمال الوادي، أنشودة الجهاد التي انطلقت من قيثارة الأحرار، قد أذن الله ان ترسل أنغامها في جنوبه. وكل نغم إلى فناء، وكل نار إلى رماد، وكل ذكرى إلى نسيان. . . ولكن أنغامنا ستضل إلى الأبد ترن في مسمع الزمن، ولكن نارنا ستضل إلى الأبد تضيء الطريق للسالكين، ولكن ذكرانا ستضل إلى الأبد قصة تروى وعطر يفوح!
ولا عليك يا اخي من تلك القيود. . . ان معدنها الرخيص سيذوب يوما تحت وهج النار المتأججة في حنايا الضلوع!
ولقد قال أبو العلاء ما قال لأنه إنسان، ولكن أين من يستمع لنداء الإنسانية وقانون السماء؟ ألا ليت الطغاة قد جعلوا شعار حكمهم هذه الكلمات التي انطلقت من أعماق بطل الحرية أبرا هام لنكولن:(ان ضوء الشمس لا يفرق في يد الله بين أحرار وعبيد، فلم يفرق ضوء الحرية في أيدينا بين انصار وخصوم)! ومع ذلك فنسير يوما جنبا إلى جنب، وقلبا إلى قلب، وعيوننا أبدا إلى الأفق البعيد!.
ضجة أدبية حول كتاب لأرتير رامبو:
ارترير رامبو شاعر من شعراء الرمزية في الأدبالفرنسي توفي في أواخر القرن التاسع عشر عام 1891. . . ولقد كان رامبو صديقا حميما لشاعر الرمزية الأول بول فرلين، حتى لقد تعرضت تلك الصداقة الوطيدة لتجريح بعض النقاد من ناحية السلوك الأخلاقي! ونترك هذه الناحية الشائكة لنقول ان إحدى دور النشر الكبرى في باريس قد اعلنت في الأيام الأخيرة عن حصولها على مجموعة شعرية لرامبو، وانها على أهبة طبعها لتكون بين أيدي القراء. . . ولقد كان معروفا ان هناك أديبا فارسيا كبيرا يمتلك هذه المجموعة التي
كتبها رامبو بخط يده وتركها بعد موته دون ان تأخذ طريقها إلى المطبعة. ومن هنا احدث الخبر ضجة كبرى في الأوساط الأدبية الفرنسية، حتى لقد تهافت المعجبون بفن رامبو على ألوف النسخ المطبوعة فنفذت في مدى يومين! إماالنقاد الفرنسيون، فقد استقبلوا الكتاب بحفاوة بالغة دفعت أحدهم وهو (باسكال بيا) إلى ان يكتب عنه كلمة مستفيضة رفع فيها شعر رامبو إلى القمة من الأدبالفرنسي الحديث. . . وحين فرغ الكاتب الفرنسي الكبير (فرانسو مورياك) عضو الأكاديمية الفرنسية من مطالعة المجموعة تناول قلمه ليكتب مقالاً يصب فيه إعجابه البالغ بفن رامبو، ذلك الإعجاب الذي فجر الدموع في عينيه وهي ينصت لهمسات الشاعر في كل قصيدة من قصائده! وفي الوقت الذي هم فيه مورياك بان يبعث بمقالة إلى جريدة (الفيجارو) أذاع أحد الكتاب الفرنسيين وهو (بيير بريسون) خبرا فحواه ان هناك خدعة كبرى وقعت فيها (المار كيردي فرانس) حين أقدمت على نشر كتاب لا يمت إلى الشاعر الفرنسي بصلة من الصلات، مؤكدا ان النسخة الخطية التي طبعت لم يكتبها رامبو وإنما كتبها شابان عابثان يسعيان إلى جمع المال عن طريق غير شريف! واهتزت الأوساط الأدبية الفرنسية تحت وقع الخبر، وبخاصة حين أعلن الكاتب السريالي الكبير (اندريه بريتون) ان النسخة الخطية التي كتبها رامبو بين يديه وان تلك التي نشرت ما هي إلا تقليد بارع! وانقلبت الضجة إلى خصومة عنيفة انقسم بسببها الأدباء الفرنسيون إلى فريقين: فريق ينتصر لباسكال بيا وفرانسو مورياك حين يزعمان ان التقليد لايمكن ان يسمو إلى مثل هذا الأداء الفني الرفيع، وفريق آخر ينتصر لندريه بريتون وبيير بريسون حين يؤكدان ان الأمر لم يكن الا خدعة نسجت خيوطها بمهارة! واخيرا انتهت الخصومة العنيفة إلى مهزلة ليس لها نظير. . . لقد اعترف الأديبان الناشئان بفعلتهما الجريئة، ذاهبين إلى انهما لم يهدفا إلى الحصول إلى المال عن طريق غير شريف، ولكن هدفهما ان يحصلا على شهرة أدبية لا يستطيعان ان يصلا إليها عن طريق اسمين غير معروفين، وقد دانت لهما تلك الشهرة عن جدارة أيدهما بقلبه وقلمه عضو من أعضاء الأكاديمية الفرنسية. . . هو فرانسو مورياك!.
قصة فريدة نهديها إلى أدبائنا الناشئين ممن تعرض على إنتاجهم دور النشر وتوصد المجلات الأدب يه أبوابها في وجوههم. . . نهديها إليهم لندلهم على اقصر طريق يصلون
منه إلى الشهرة الأدبية وقلوب الناشرين!!.
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
رسالتان من (العراق) وكلتاهما من (بغداد)، إماالأول فمن الأديب الفاضل عمر عيسى السأمرائي بمعهد التربية البدنية وبها سؤال عن بعض ما بكتاب (على هامش السيرة) من آراء متناقضة للدكتور طه حسين، وإماالثانية فمن الأديب الفاضل إسماعيل محمد السامرائي وبها سؤال آخر عن بعض ما جاءبمسرحية (شهرزاد) من فلسفة لفضية تخالف منطق الواقع للأستاذ توفيق الحكيم، وسأجيب على السؤالين في العدد القادم من (الرسالة). وهذه هي الرسالة الثالثة من (عمان - شرق الأردن) تحمل إلى معلومات طريفة صبت في قالب التهكم اللاذع على ذلك القصاص العامي النابغ الذي قلت عنه انه درس فن القصة في كتاب القرية، ولقد كنت أود ان اثبت هذا التهكم غير أني تذكرت ان المقصود به أهون إليه ان يشار بأي لون من ألوان الذكر، ولذا اعتذر للأديب الفاضل أحمد عزيز بيتوغن شاكرا! له كريم تقديره. والرسالة الرابعة من (المحرق - البحرين) اشكر لمرسلها الأديب الفاضل مبارك راشد الخاطر حسن ظنه، وأجيبه ان رأيي في شعره هو ان أداءه اللفظي لا بأس به وان كل ما ينقصه هو العناية بالأدبالنفسي، وتلك ناحية سأعرض لها بالتحليل والنقد في عدد مقبل من (الرسالة) تحت عنوان (الأداء النفسي في شعر المهجر). والرسالة الخامسة من (عدن) يا أخ علي بها الأديب الفاضل علي باذيب ذلك الرأي الذي سبق وان أبديت فيه اعتراضي عن إخراج كتاب مادام الجمهور معرضاً عن شراء الكتب، يا صديقي أنا شاكر لك ثنائك وثقتك الغالية، إماالإعراض عن التأليف فهو إلى حين، وليس بمستبعد ان تنتهي أزمة القراء ويتجدد الأمل!.
وأنتقل بعد ذلك إلى الرسالة السادسة وهي من (عطبرة - سودان) لأقول لصاحبها الأديب الفاضل مكرم سعيد أنني مقدر له هذا الشعور النبيل المتدفق من كلماته، ولست املك الا ان استجيب لرغبته في الأيام المقبلة. وإلى الرسالة السابعة وهي من (الخرطوم - السودان) أيضا لاقدم خالص امتناني للأديب الفاضل عبد الرحيم محمد أحمد على تحيته الصادقة، ولاجيب عن رغبته في ان أخص الأدبالسوداني بشيء من العناية بأنه يؤسفني كل الأسف الا يكون بين يدي من نصوص هذا الأدبما يمكنني من الكتابة عنه، وحبذا لو بعث ألي
كتاب السودان وشعراؤه بإنتاجهم الأدبي مطبوعا لاقوم بدراسته وتقديمه إلى القراء. إماالرسالة الثامنة فمن الأديب الفاضل عبد الرحمن السياسي بهيئة الإذاعة البريطانية (بالخرطوم - سودان) وفيها يرد على الأستاذ محمد غنيم بمناسبة تخطئته لي حين قلت (لم اكن اعرف) مستشهدا بالآية الكريمة من سورة المدثر (ولم نكن نطعم المسكين) ان تعقيبي على هذه اللفتة الموفقة بعد خالص الإعجاب هو ان الأستاذ غنيم معذور لأنه (لم يكن يعرف): ان التعبير صحيح لا غبار عليه.
وتبقى بعد ذلك أربع رسائل مصرية. . . الأولى من الأديب الفاضل السيد علي الشوربجي الطالب بكلية الحقوق، وفيها يناقشني نقاشا طويلا حول الكلمة التي كتبتها عن أبى العلاء، يا صديقي أرجو ان تعود مرة أخرى إلى ما كتبت لان هناك بعض معاني قد خفيت عليك ولعلها تتكشف لك بعد التأمل والمراجعة. والثانية حول أبى العلاء أيضا وهي من جندي فاضل بالجيش المصري رمز لنفسه بتلك الحروف الأولى من اسمه (م. ف. أ). . . أنا شديد الإعجاب ان يكون بين جنودنا من يقرا (الرسالة) ويعشق الأدب، ويغوص في بفكره فيما كتبت عن أبي العلاء، ويخاطبني بقوله (سيدي طبيب الأدب، أنا مؤمن بما جئ به عن الحرمان النفسي والأدب ي عند أبي العلاء، ولكن ماذا تقصد بالحرمان القلبي حين قلت ان قلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة مع ان هذا القلب كان عامرا بالعاطفة الإنسانية)؟. . . عزيزي أديب الجيش، أنا اقصد العاطفة الأنثوية لا العاطفة الإنسانية.، تلك التي تنسب إلى المرآة وكان يمكن ان تملا بعض الفراغ في حياة أبي العلاء. إماالرسالة الثالثة فمن الأديب الفاضل (م. م. س) بمعهد أسيوط الديني، ان ردي عليه انه يستطيع ان يدرس اللغة الإنجليزية وهو باقي في دراسته الأزهرية، وذلك عن طريق الدروس الخاصة من أحد المدرسين الأكفاء، وهذا هو الطريق الوحيد الذي يحقق له ما يصبو إليه. وأنتهي إلى الرسالة الرابعة أو الثانية عشر والأخيرة لشكر لمرسلها الأديب الفاضل محمد فتحي سعيد بدمنهور هذا الإخلاص الرائع للمثل العليا الفكرية، إماالشعر الذي بعث الي به فأود ان يتعهد بالصقل لأرضى عنه بالمستقبل القريب.
أنور المعداوي
الأدبوالفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
لسنا أوربيين ولا حالمين:
كتب الأستاذ إبراهيم المصري في العدد الأخير من (أخبار اليوم) حديثا جرى في مجلس حضره، بين رجل أجنبي يستوطن مصر وبين شاب مصري جامعي. حمل الرجل الأجنبي على الثقافة الشرقية، واتهم العقل الشرقي بالهوس الديني والتواكل القدري والتجرد المطلق من الروح العملية، وزعم ان العلم المادي التجريبي كما تفهمه الحضارة الحديثة دخيل على العقل الشرقي المولع منذ القدم بالأخيلة الدينية.
وقد رد عليه الشاب الجامعي بالتفرقة بين الشرق الإسلامي وبين الشرق الأقصى والعقائد الأسيوية التي تنفر من الحياة وتحتقر العمل وتنادي بخنق الرغبات البشرية، وقال الشاب ان الحضارة الإسلامية استمدت قواها من الغرب اكثر مما استمدتها من الشرق، فالعلم العربي مدين للإغريق اكثر مما هو مدين للهند أو للصين أو للشرق الأقصى. إلى ان قال:(فالشرق الإسلامي إذن ليس هو الشرق الذي تزعم. ونحن في الحقيقة لسنا الشرقيين الأسيويين الحالمين. نحن من الغرب. نحن أوربيون).
أعجبني تفريق الشاب بين الشرق الإسلامي وبين الشرق الحالم المغرق في العقائد البعيدة عن الحياة العملية، كما أعجبني إرجاعه التأخر الملحوظ علينا اليوم إلى سياسة الأجنبي المستعمر وسياسة بعض الإقطاعيين من رجالنا. ولكن الشاب لم يعرف الشرق الإسلامي تعريفا صحيحا، فليس استمدادنا من أوربا بالذي يجعلنا أوربيين، كما ان أوربا لم تصبح من الشرق الإسلامي لأنها أخذت منه في بعض العصور. ونحن لسنا بحاجة إلى ثبات اتصالنا بأوربا أو نسبتنا إليها لننفي عن أنفسنا ما نتهم به من الإغراق في الخيال والبعد عن الحياة المادية وما يسمونه الهوس الديني. والواقع ان بعض الذي يرموننا به هو الذي ينفي عنا هذه التهم، وهو النزعة الدينية فالدين الإسلامي لم يفصل في شؤون الحياة بين مادي وروحي يدعوا إلى هذا وينهى عن ذاك، بل هو ينظر إلى الحياة باعتبارها وحدة كاملة، وليس هو دين عزلة، بل هو نظام حياة إنسانية وتشريع مجتمع كامل.
والعقلية العربية هي كذلك عقلية عملية، إلى جانب تمسكها بالقيم الإنسانية والمثل العليا، فقد
كان العربي يصنع الصنم فإذا جاع أكله، وهذا يدل على العقلية العملية البعيدة عن العقائد الحالمة.
فنحن لسنا من الحلمين ولسنا أوربيين، إنما نحن. . . نحن عرب مسلمون، لم تؤخرنا نزعة دينية ولا فلسفة روحية، وأنا لم يأخذني أبدا رنين الكلمة السائرة التي قالها أمين الريحاني وهي:(أنا الشرق عند فلسفات، فمن يبيعني بها دبابات؟) فالشرق العربي الإسلامي لم تعقه فلسفات عن دبابات، وإنما العائق، كما جاء في مقالة الأستاذ المصري سياسة الاستعمار والاقطاع، وبالتخلص من هذين يشتري الشرق العربي الإسلامي الدبابات، لا بما لديه من فلسفات.
في مسابقة المجمع اللغوي:
أعلن المجمع العربي عن مسابقة في نقد الشعر العربي من منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم.
فهل يريد المجمع الشعر العربي في جميع البلاد الناطقة بلغة الضاد الممتدة من المحيط الأطلسي غربا إلى الخليج الفارسي شرقا، ومن جبال طوروس شمالا إلى خط الاستواء جنوبا، بالإضافة إلى إنتاج الشعراء الذين يقيمون في أمريكا وأوربا؟
ارجوا التكرم بالإفادة ولكم جزيل الشكر.
محمد سيد كيلاني
رجعت لنص المسابقة وهي مسابقة سنة 1949 - 1950 فوجدته يتضمن ان يجاز بمائتي جنيه (احسن بحث في نقد الشعر العربي في الفترة التي تبدأ في النصف الثاني للقرن التاسع عشر إلى اليوم - ولا ينقد شعر الأحياء) والواقع انه موضوع مترامي الأطراف، وهذه الفترة بالذات زاخرة بالإنتاج الشعري المتنوع المذاهب والمختلف الألوان، بل هي تشمل الشعر العربي الحديث كله وهذا الشعر ليس من السهل الحصول عليه أو على نماذج لمذاهبه ومواطنه، ومراجعه نادرة، وطرقه متشعبة. وهو الموضوع الذي قررت الجامع إنشاء كرسي له يسمى (شوقي) ولا تزال حائرة في اختيار أستاذه.
فكيف يوفى ذلك الموضوع في بحث يقدم في مثل هذه المسابقة؟ ان المجمع ينظم هذه
المسابقات لتشجيع الإنتاج الأدب ي، ولكن الأمر يكاد يخرج من هذا الموضوع إلى التعجيز الأدبي. .
لقد حاولت ان افهم ان المقصود من الموضوع بحث جزئي لا يخرج عن نطاق الفترة المحددة حتى يكون معقولا، ولكني رأيت النص لا يساعد على هذا الفهم، ولو كان هذا هو المراد لما اعيا بيانه لجنة الأدببالمجمع.
المرأة:
تعيش فاطمة مع أبيها المقعد في الإسكندرية. يتهدم المنزل الذي يقطناه وهي في المدرسة، فيذهب بأبيها ولا عائل لها سواه، فتتوجه إلى القاهرة حيث أمها متزوجة من رجل آخر. يرحب بها زوج أمها ويتودد إليها توددا مريبا، ولما تقف على حقيقة نواياه تغادر منزله ليلا، وتنقذها الحاجة محروسة من يد الشرطي الذي اشتبه فيها، وتأخذها إلى منزلها وتكرمها. والحاجة محروسة هي (ملكة البسبوسة) التي تبيع هذا الصنف من الطعام وامثال إلى عمال مصانع الزجاج الأهلية. تعيش فاطمة في منزل الحاجة محروسة الملاصق لمنزل يسكنه أخوان من عمال المصنع هما محمود وفريد، ويشاهد كل منهما فاطمة وهي تغني في نافذة مقابلة لنافذتهما، فيحاول كل منهما ان يظفر بها، بخطبها فريد من الحاجة محروسة، ولكنها تحب محمودا. ولما يعم محمود بالخطبة يحزن ويذهب إلى مرقص ليتسلى هناك. وتأتي إليه نجمة الراقصة ويشربان معا، وتوصله إلى منزله وهو ثمل، ويراها عنده أخوه فريد، ويدور حديث بين الأخوين يقول فيه فريد لمحمود انه تنازل له عن فاطمة لما عرف انها لا تحبه ولم يكن فريد صادقا في ذلك وإنما كان يريد أمرا، اتفق فريد مع نجمة الراقصة على ان تذهب إلى أخيه محمود بحيث تراها عنده فاطمة. ويظل الأخوان يتنازعان إلى ان ينتهز فريد فرصة صعود أخيه على آلة عالية في المصنع فيعبث بأسفلها حتى يسقطه، وينقل محمود إلى المستشفى، وتذهب إليه نجمة الراقصة، فتدرك من حديثه إليها ان أخاه هو الذي دبر اسقاطه، فتصر على إبلاغ (البوليس) ويسمعها فريد، فيلقها في ممر بالمستشفى ويطعنها بسكين، ويفر ثم يقبض عليه. ويشفى محمد فتاتي فاطمة إليه ويخرج بصحبتها من المستشفى مسرورين. ذلك هو مخلص قصة فلم (المرآة) الذي عرض لأول مرة في سينما أوبرا بالقاهرة، والقصة من وضع عبد الفتاح حسن ومحمود
السباعي، والأول هو مخرج الفلم، واشترك الثاني في التمثيل وهو في الفلم (فريد) ومثل كمال الشناوي (محمود) وأحلام (فاطمة) وسميحة توفيق (نجمة) وماري منيب (الحاجة محروسة).
والقصة كما ترى تدور عن نزاع أخوين على امرأة، وهي قصة عريقة في القدم، قصة ابني آدم قابيل وهابيل. ولننظر كيف عولجت في هذا الفلم، ولكن أرى أني أمام أمر آخر هو ولا شك أهم من موضوع القصة في نظر العاملين في إعداد الأفلام المصري، وذلك هو استخدام مميزات في الممثلين وتطويع الحوادث لإبراز هذه المميزات، معنا الآن: صوت أحلام، ووسامة كمال الشناوي، وظرف ماري منيب، ورشاقة سميحة توفيق. إماأحلام (فاطمة) فتراها في أول الفلم تلميذة في المدرسة، فلا بد ان تكون مدرسة موسيقى لتغني في (الفصل) أغنية تتضمن التنديد بظلم الرجل للمرأة، وهي أغنية لا مناسبة لها، وهي أيضا تافهة فهي تلخص ظلم الرجل للمرأة في انه يريدها عالة عليه! ثم تقول انها لا بد ان تطالب بحق الانتخاب، وهناك تضع أحلام اسفل قبضة يدها على كفها اليسرى وتحركها لغيظ الرجال واشعارهم بحرقة الفلفل! وهي حركة غير لائقة، وهي كذلك بائخة.
وفي أحد المناظر يقال ان فاطمة ذهبت إلى أمها بحلوان، ثم تظهر فاطمة في حلوان لا مع أمها ولا في منزلها بل في حديقة كبيرة، وذلك لتغني أحلام بين الأشجار والأزهار في حديقة حلوان التي خلت لها. . . ارأيت حديقة عامة تخلو لمطربة كي تغني فيها وحدها. .؟.
وأحلام مغنية ذات صوت جميل، ولكنها في الفلم تغني بطريقة واحدة في المواقف المختلفة، ولا ينسجم غناؤها مع الحوادث، فتشعر كأنها تغني ريثما يتيسر تتابع المناظر. وقد أجادت تمثيل البنت المسكينة، وهي تصلح للأدوار التي تستحق فيها العطف لا الحب.
إماكمال الشناوي فله نصيب الأسد في هذا الفلم، فقد طغى على من معه، وهو الممثل الأول فيه، وتسير به القصة على انه البطل الجميل المحبوب الخير، واخوه مكروه لا تستخف البطلة ظله فلا بد ان يكون مرذولا يدبر الأذى حتى يقع في شر أعماله. قد يقع هذا في الحياة أو قد لا يقع، لكنه لزام في اكثر أفلامنا المصرية.
وإماماري منيب فقد اختيرت (ملكة للبسبوسة) وملجأ لفاطمة، ولكثرة قيامها بمثل هذا الدور
في الأفلام المختلفة أصبحت ذات شخصية تتميز بالظرف الشعبي الأصيل، وهي كذلك في هذا الفلم، إماعلاقة فاطمة بها عجيبة. . . أمراه ترتزق من صنع البسبوسة والكنافة والمهلبية، تؤوي في بيتها فتاة لا عمل لها الا الغناء في الشرفة، كأنها تعدها خاصة لمغازلة محمود إياها وليتنازع عليها الأخوان!.
وإماسميحة توفيق فقد قامت بدور الفتاة اللعوب فأجادت في هذا الدور اكثر من تأديتها لدور الفتاة المحبة المضحية، فلقد كانت متكلفة في هذا، كما كانت متكلفة في الأغنية التي غنتها، والأغنية نفسها كانت سخيفة، فهي تغني لحبيبها فتقول:(يا خرابي عليك!) وفي هذه الفتاة الحيوية والقدرة على التعبير، ويلمح المشاهد فيها مواهب لم تظهر، لأنها لم تغتسل، في هذا الفلم.
واظهر شئ في الفلم مجافاته للواقعية، فحياة العمال ومساكنهم وملابسهم وسائر مظاهرهم لا تقل عن أمثالها في حياة العمال بأمريكا! وتصور ان منزل الحاجة محروسة بائعة البسبوسة فيه أشجار وأزهار تغرد بينها أحلام!.
وعهدنا بالمرقص الكبير ان تكون مرادا للأغنياء والوارثين ولكنا نرى رواد المرقص الفخم في هذا الفلم، ومحط انظار حسانه الفاتنات، من عمال مصانع الزجاج الأهلية. . .
ومن مآخذ القصة ان والد فاطمة بدا في أول القصة شيخا ضعيفا مقعداً، فهو لا يكسب شيئا من عمل يزاوله، ويدل منظره وحالته في المنزل وأثاثه على معيشة لا باس بها، فلا بد ان يكون له أيراد ما، وتهدم المنزل لا يذهب الا بالرجل وأثاثه، ولكنا نرى ابنته شريدة لا تجد قوتها، فأين مصادر الإيراد التي كان يستمد منها أبوها؟
عباس خضر
البريد الأدبي
نعي خليل مطران في جريدة الهدى التي تصدر في نيويورك:
رب القريض وسيد القلم
…
وفيت قسطك للعلى فنم
هذا البيت الجامع الي عبر به المطران عن شعور العالم العربي نحو اليازجي يصح فيه.
بل ان الشعور بفقد خليل مطران أوفر شمولا وامتدادا لان العالم العبي اصبح أوسع اتساعا بعد ان أنتشر أبناء العربية في مشارق الأرض ومغاربها وهم ما يزالون أوفياء بعهد أوطانهم الأولى، والرعيل الأول منهم شديد التمسك والتفاخر بوطنه ألام. ومعظم المهاجرين من المتكلمين اللغة العربية هم من اللبنانيين. وخليل مطران يمت إليهم بصلة النسب.، لأنه رأى النور في ظلال بعلبك: مدينة الشمس ومهب الوحي العلمي في مسارح الفن والجمال. الا ان خليلاً من الهبات التي جاد بها لبنان على العالم، فصار لا شاعر القطرين فقط بل شاعر الأقطار العربية. وكل للقطر الشقيق مصر الفضل الأكبر في إفساح المجال لإنماء مواهبه وتجلي عبقريته. فافضلت مصر بذلك على عالم العروبة بأجمعه.
ولقد رأينا في شواهد المنزلة العليا التي يحتلها خليل مطران في عالم العروبة بشتى فروعه ما كان من إجماع الرأي في العالمين: القديم والجديد على تكريمه في ذكرى يوبيله الذهبي الذي وافق الاحتفال به في سنة 1947. ففي مصر جرى الاحتفال الرائع في الأوبرا الملكية برعاية جلالة الملك، واقيم في نفس الموعد احتفالا متشابها في سائر الأقطار العربية، كما أقيمت حفلة في نيويورك برعاية جريدة الهدى وبحضور الأستاذ أميل زيدان صاحب الهلال ومندوب لجنة التكريم المركزية في القاهرة، وبمشاركة عدد كبير من رجال الأدبمن مقيمين وزائرين، ومن ساسة العرب وفي مقدمتهم فارس بك الخوري.
وما دمنا قد أكرمنا خليل مطران حيا، اعترافا برفيع أدب هـ وعميم فضله فاحر بنا ان نشارك العالم العربي في تكريم ذكراه برهانا على شدة شعورنا بألم خسارتنا إياه وحقا ان الخسارة بليغة والألم شديد، وإذ نحن نقوم بواجب الذكرى فإنما نقدم على ذلك عن شعور صميم.
وما هذه بالمرة الأولى التي تنهض بها جريدة الهدى للقيام بواجب نحو أدباء أفذاذ افضلوا على عالمنا بما خلفوا فيه من آثار خالدة من نتاج الأدب. وإذا نحن لم نذكرهم جميعا فنكتفي
بالإشارة إلى شوقي وحافظ والبستانيين عبد الله وسليمان الذين كانت حفلة تكريم ذكرى كل منهم مجلى لا ينبع نتاج الأدبواجمل مظاهر الشعور الصافي بين المهاجرين.
وقد خاطبنا في أمر الحفلة التأبينية للخليل مطران طائفة من الأدباء فاجتمعوا على إقامتها في موعد الأربعين الموافق اليوم العشر من شهر آب القادم. وكان في طليعة المحبذين الأديب المصري الكبير المقيم بيننا الآن في نيويورك الدكتور أحمد زكي أبو شادي الذي كتب إلينا في الموضوع يقول:
(ان فجيعة العالم العربي في شاعره العبقري النبيل لاعظم من ان تصور. وما الغاية من التأبين الا الاعتراف بالجميل واستخلاص العضات والدروس المهمة من حياة مجيدة، وإذا كانت مصر ولبنان تتنافسان في نسبة الفقيد العزيز إلى ربوعهما فلا مشاحة في ان لبنان - مسقط راس مطران - أحق برعاية تأبينه وان كانت مصر قد تصدرت لطبع آثاره ودواوينه).
وقد تلطف الدكتور أبو شادي بقبول تولي سكرتارية حفل التأبين، كما كان قد تلطف بتولي عرافة حفلة التكريم التي أقيمت للفقيد في نيويورك منذ سنتين بقينا بان علينا جميعا واجب التآزر والتعاون في تكريم النبوغ في ذويه وقد كان الخليل في الطليعة.
في النقد الأدبي:
تتجه مراقبتنا إلى الناقدين في هذه الآونة؛ فلم نجد صراحة التنزه عن الممالاة، فافاضة الإطراء تفيض على الناتج ما يباعد بينه وبين المؤاخذة، وإذا كان العمل الأدبي الفذ أساسه (التعبير عن الحياة).، فقد نأى التذوق عن تبيانه على أسلوب قوام مسقط بعيد عن التحامل والدخل!.
وان منهج (النقد الأدبي) يقوم على (الفهم، والأناة، والإلمام والموازنة)، ولكن أداته لم تعد ذات جلال لانحرافها عن القصد إلى الغاية.، فالوساطة قد تغلغلت في حياتنا حتى شملت حاسة الضمير فأبدلته وأثرت في حكمه، والفت رقابته التي لها القول الفصل في الحكم على الأمور.
وأدبالقصة لون يلون (التجربة والخبرة).، لأنه يصور الحياة تصويرا دقيقا.، فينقل المشاهدات من عبارات تختلف قربا وبعدا على قدر الملابسة (النفسية) لموضوع القصة.
ورسالة القاص يجب ان تلم إلماماشاملا بمعنى (التجربة) حتى يجئ عمله الفني صورة حية مشخصة إما م باشرته، على ان لا يوغل في الخيال الجزاف أو الاسترسال المسرف، استدناء لميول (شعبية)، أو استثارة لغرائز بدائية.
نقول هذا بعد قراءتنا قصة للرجل المهم الأستاذ (توفيق الحكيم). . . اسماها (ليلة الزفاف). وحسبك ان ترى في العنوان سمة استمالة الغريزة، لكنك سترى تصويرا لرجل (مثالي) أضفى عليه الخيال الحكيم ما باعد بينه وبين البشرية، حتى كاد ان يلحقه بالتجريد، ويدينه في خلائق النبوة! وان تلك الصورة - الوهمية - على ما فيها من تجاف عمن الواقع (في الحياة)، تدلنا على مدى رغبة القاص في السمو بالمعاني الروحية، ومجانية الماديات، لكنها في الوقت نفسه تثير الغريزة الفوارة بالجسدية عن طريق أسلوب العرض القصصي استجابة للميول (الشعبية) التي أشرنا إليها.
ولقد صورت لنا صورة (البطلة) انها تنام على وجهها (كذا!) ثم تحتضن الوسادة. فهل يرضى الفن الرفيع ان يعبر رجل أصيل في التعبير الأدب ي السامي: (وطوقته وضمته. . . وإذا هو يجد نفسه مكان الوسادة التي اعتادت ان تحتضنها ليلا!).
كان يمكن للحكيم ان يقول: (ودنت منه. . . ثم سبحت روحاهما في سماء الحب القدسي). . . لكنه تعبير شعبي أثره، وليس هذا فيما نعتقد الرمز الصادق لما يسمونه (الأدبالواقعي).
(بور سعيد)
أحمد عبد اللطيف بدر
تعلم اللغة بدراسة الأساليب:
حضرة المحترم الكاتب النابه الأستاذ عباس خضر
قرأت كلمتكم السامية بالرسالة الغراء عن تعليم اللغة بدراسة الأساليب. وقد كنت ارقب من حين إلى حين الكتابة عن هذا الموضوع الحيوي الذي يتصل بقوميتنا وحياتنا اتصالا قويا.
ولقد راقني جدا الإحاطة بالموضوع من جميع أطرافه، فشفيت نفسي، وأثلجت صدري، غير أني احب ان ازداد فهما لمعرفة استخلاص قواعد اللغة من الأساليب، فانك مع تعليقك عليها لم تشفي غليلي، وتنقع غلتي، لانك أتيت بتفسير من عندك وكان ينبغي ان تأتي
البيوت من أبوابها، تسال حضرات المفتشين عن المراد من تعليم القواعد بالأساليب.، لأنني رائيتك تتكلم عن القواعد باعتبار ما كان. حتى انك قلت:(ولا تزال منهج اللغة العربة في المدار مثقلة بهذا النحو، وخاصة في المدارس الابتدائية. فالطفل في السنة الثانية مكلف ان يعرف الفاعل والمفعول به والمبتدأ والخبر ومطالب بتكوين جمل. . .).
وفاتك ان تعرف بان تلميذ السنة الثانية غير مكلف بمعرفة الفاعل والمفعول به ولا بمعرفة تكوين الجمل، فقد حذف النحو من منهجه، وصار يتعلم اللغة بالأساليب من غير استخلاص القواعد. والواقع ان اللغة العربية في أمر مريح وقلق شديد، فمنهاجها في تغيير دائم، فقد يغير المنهاج الدراسي في العام الواحد مرتين أو اكثر - كما حصل في هذا العام - وبجوارها اللغة الإنجليزية لا تغير منهاجها الا في فترات مختلفة متباعدة.
ومنهج اللغة العربية لو اطلعت عليه لوجدته عجيبا غريبا يدعو للسخرية والابتسام، فالمدرس مكلف - كما تعلم - ان يستخرج القواعد من الأمثلة أو بتعبير أدق من الأساليب، ولكن الكتب المقررة لا تفيد المطلوب، ولا المنهج نفسه يعين على الاستخراج والاستنباط.
فتلميذ المدارس الابتدائية حدد له منهج في اللغة العربية يبدا بمعرفة المبتدأ والخبر فكيف يستنبط المبتدأ ويعرف انه اسم وهو لم يعرف الاسم والفعل والحرف؟ ثم يطالبه المنهج بالمطابقة بين الخبر والمبتدأ وهو لم يعرف علامات الإعراب: الأصلية والفرعية ثم يطالبه بالإعراب والتلميذ قد حماه الله من المعرب والمبني، ثم يطالبه بالمطابقة بين الحال وصاحبها والصفة والموصوف، وهو لم يطالب بمعرفة النكرة والمعرفة، ليفرق بين الحال والصفة، إذ الحال ينبغي ان يكون صاحبها معرفة إلى غير ذلك من الأشياء المتناقضة المتعادية، فليس يكفي ان نقول استخلاص القواعد من الأساليب ونسكت، بل يجب ان يبين لنا الأستاذ العميد الطريقة فالأبواب المقررة على التلميذ معلقة بين السماء والأرض. لا تستند إلى شئ، ولا تقف على أساس.
وما تلك الأساليب أهي أساليب عصرية أم قديمة؟ فاللغة العصرية الموضوعة أمام التلميذ إمامفتعلة متكلمة وضعها الواضع للصغار وقد خلت من الرونق والبهاء وإمامختارة من شعراء وكتاب كشوقي وحافظ والمنفلوطي، ولغتهم أعلى من إدراكه، وإذا كانت الأساليب المشار إليها قديمة فتلك أدهى وأمر، فأنت أيها الأستاذ في حيرة معي، فالنحو في المدارس
قد بتر بترا، والأساليب غير كافية وغير شافية. فماذا نصنع للإبقاء على تلك اللغة والمحافظة على رونقها وبهائها، لقد ابغضنا النحو والإعراب وحيل بين التلميذ والرياضة الذهنية - كما كان يقال - فماذا يقدم حتى يجد في نفسه لنفسه دافعا يدفعه إلى العناية بها، والتعلق بآدابها؟.
إماأنا.، فمتشائم لان إهمال النحو سيعطي للتلميذ فكرة خاطئة بجانب فكرة خاطئة سابقة فهو سيعتقد ان اللغة محفوظات ومطالعة وإنشاء لا بالمفهوم الذي نفهمه نحن، ولكن بالمعنى الذي يفهمه التلميذ، فأي قصيدة تكفيه، والمطالعة فيها تسامح، والإنشاء أي كلام ينفع لان اللغة العامية لغة عربية، وصدقني ان بعض المدرسين لا يتورع من وضع الدرجة على اللغة العامية ما دام المعنى مستقيما. وبجانب ذلك قد تعلم اللغة الأوربية تعلما صحيحا ودرسها بعناية، واهتم بها ليله ونهاره، فهو يتلقاها نقية من العامية، ويتمرن عليها بجد واجتهاد، إمااللغة العربية فتاتيه بعاميتها، ويقبل عليها من غير اهتمام.، لأنه سينجح فيها اهتم بها أو لم يهتم، وهذه نهاية محزنة، وخطب جسيم يجب ان نتحاشاه فالواجب إذن ان يوضع المنهج وضعا جديدا يلائم بين أبواب النحو حتى يفهمها التلميذ فهماً تاماونقدم إليه أساليب جيدة تختار بعد تمحيص وتنقيب.
فإليك أيها الأديب الغيور كلمتي راجيا منك ان تعاود الكتابة في ذلك الموضوع حتى تصل إلى حل يرضي المفتش والمدرس والتلميذ.
السيد حسين قرون
المدرس بسوهاج الابتدائية للبنات
رد على معترض
قرأت في العدد (833) من الرسالة الزاهرة كلمة في البريد الأدب ي بتوقيع السيد راتب يحيى الشامي. يعترض بها على فقرتين من كلمة سبقت لي في الرسالة بعنوان (ثلاثة جاهدوا فصدقوا).
وفيما يتعلق بتلك الفقرتين انبه المعترض الكريم إلى انه حين يدقق النظر في الكلمة نفسها يجد جواب ما يتساءل عنه في ثنايا الكلام.
على ان الذي عجبت له ان يعرف هذا السيد (الشامي!) أنني من (السلط من شرق الأردن) ثم لا يعرف إلى جانب هذه الحقيقة - التي لم أنكرها يوما - أنني مواطن من فلسطين منذ ما ينيف على الأربعة عشر عاماأساهم في التوجيه الثقافي في هذه الفترة من الزمن. ولقد طفت في مختلف أنحاء البلاد زائرا أو محاضرا، فتعرضت إلى النفر المثقف من أبنائها. ولعلي لا أبالغ حين ازعم ان الكثيرين من هذا النفر الطيب يعدونني في معارفهم ان لم اكن في أصدقائهم.
ولقد عجبت أيضا ان يفوت هذا السيد (الشامي!) - إلى جانب ما عرف - أنني منذ سبع سنوات أحاضر من محطتي القدس والشرق الأدنى، ثم من محطتي دمشق وبغداد (بعد ذلك) عن الأدبوالأدباء في فلسطين من قديم وحديث، حتى انتهيت من هذا كله إلى ان أضع كتابا بعنوان (الأدبفي فلسطين) وان انشر في مجلة الرسالة الزاهرة ما يزيد على عشرة فصول منه، دون ان أجد من يعترض على ما كتبته أو حاضرت به من أدباء البلاد وأبنائها!!.
ثم لا ادري أخيرا كيف فاته ان يعلم ان إدارة المعارف الفلسطينية انتدبتني للعمل في معاهدها بفضل هذه المواطنة التي أشرت إليها آنفا. . . فهل ترى يا أخي المعترض بعد ذلك كله؟ (ان معرفتي بجغرافية فلسطين واهلها (على رأيك) محدودة جداً)، فان كان (خطبك!) - يا أفادك الله - يقف عند حدود الإشفاق على جغرافيا فلسطين (وليس غير؟) فليفرغ روعك، ولتعلم أني ما تحدثت عن مكان الا وقد نطاته قدماي، ولا ترجمت لأديب الا بعد روية وتبصر واطلاع على ما تصل إليه يدي من أثاره. ثم ان الذي نشرته (أو أذعت به) فصول من كتاب، وان في الكتاب ما تفتقده من تتبع تلك الفصول.
ومع ذلك لن يضيرني أبدا ان أجد من يأتي بأوفى مما أتيت به، ويصنع اكمل مما صنعت. فما أنا وذاك الا خادما حقيقة، لا نستوفي عما نصنعه اجراً، الا ان يكون مثل هذا الإعجاب الذي كتمه فؤادك ونم عليه قلمك!.
محمد سليم الرشدان
البلاغة العربية في دور نشأتها
تأليف الدكتور سيد نوفل
بقلم الأستاذ علي العماري
هذا الكتاب يؤرخ الدور الأول للبلاغة العربية، وقبل ان أتحدث عنه أحب ان أقول ان البلاغة العربية تنوء بظلم فادح، فكل فن ينال قسطا غير يسير من عناية العلماء، وهي وحدها التي ظلت قرونا عديدة تضطرب في دائرة ضيقة من قواعدها السكاكية، فدراستها في معاهد التعليم على اختلاف أنواعها في مصر وفي غير مصر لا تبعد كثيرا عن هذا المنهج القديم، والتأليففيها مشدود إلى هذا المنهج نفسه بأمراس كتان، حتى الطريقة الأدبية التي عنى بها بعض العلماء، وخصوصا قبل العصر السكاكي لا تنال حظها من الدراسة والتأليف، ولهذا فكل كتاب يؤلف في علوم البلاغة على نمط جديد نعتبره خدمة جليلة لهذه العلوم، والكتب المؤلفة فيها معدودة تعد على أصابع اليدين وبعضها لا غناء فيه، فلا تزال البلاغة العربية مجاهل يسلكها طلاب المعرفة من غير دليل، ويعتسفون مثانيها ومحانيها على غير الهدى، ولا بد من جهود جبارة ومن عمل دائب، مع إخلاص وصدق حتى ان تعقد على أسس قويمة خالصة من تلك الشوائب الكثيرة التي تعقد مسائلها، وتعكر مناهلها.
والكتاب التي نحن بصدد الحديث عنه عالج شأنا من شؤون البلاغة المهمة، عالج البلاغة في أبان نشأتها، وتحدث عنها في لفائف المهد تباركها أيد قليلة وتربت عليها برفق وحنان وتفديها بما تستطيع ان تقدمها لها في العهود البعيدة والكلام في تاريخ نشأة البلاغة ليس حديث العهد بالدراسة، ولكن أقلاماتناوله، وأظن ان أول من تناول هذا التاريخ صاحب المعالي الأستاذ الشيخ عبد الرزاق في كتاب الأسماء (الأمالي) ومن الذين كتبوا فيه الأستاذ الشيخ أمين الخولي أستاذ البلاغة العربية في الجامعة المصرية في كتابه (فن القول).
وقد قرأت رسالة في هذا الموضوع للأستاذ الشيخ أبي الوفا المراغي مدير المكتبة الأزهرية، غير ان الدكتور نوفل زاد على هؤلاء انه ركز موضوعه في البلاغة عند الجاحظ، والكتاب مقسم إلى قسمين: القسم الأول تحدث فيه عن البلاغة قبل عصر الجاحظ، وقد سجل فيه جهود العلماء والأدباء والمتكلمين والمعلمين ومجالس النقد في نشأة البلاغة، والقسم الثاني تحدث فيه عن جهود الجاحظ في البلاغة، وهذا القسم يعتبر جديدا،
ويا حبذا لو اقتصر المؤلف على هذا القسم، فانه موضوع بكر، وقد بسط القول ووفاه، ولو كتابه (البلاغة عند الجاحظ) لأصاب المحز، وطبق المفصل - كما يقولون - على ان القسم الأول من كتابه جاء تكرارا لما كتبه العلماء، وفيه بسط يعتبر من فضول القول، فقد اخذ الأستاذ على نفسه ان يترجم لكل من له حكمة في البلاغة أو إشارة إليها من قريب أو بعيد، ترجم لأبي بكر وعمر ومعاوية، وترجم للعتابي وسهل بن هارون وشبيب بن شبة وعبد الحميد والمقفع، وجعل كلامهم في فصل مستقل، وكان يمكن ان يكتب فصلا يذكر فيه آراء هؤلاء في البلاغة، ومدى تأثير هذه الآراء في نشأة علومها، وهل يترجم لواصل بن عطاء لأنه ألف كتأبين يحتمل ان يكونا في البلاغة، أو لان الجاحظ نسب إليه العلم بان الخطابة في بحاجة إلى البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة؟ فإذا تجاوزنا الرجال إلى الموضوعات وجدنا فصولا لاحاجة بالكتاب إليها كالفصل الذي عنوانه (العصر الجاهلي) ولو نقل منه كلمة أكثم بن صيفي، واصطناع الكهان للسجع إلى الفصل السابق لاستغنى عن هذا الفصل، وكذلك الفصل الذي يليه لا حاجة إليه، وما دخل حديث القران أو الرسول عن البيان في نشأة البلاغة ليس فيه ما يمس البلاغة إلا الحديث عن مذهب الرسول في القول، وهو كلمات، ولو انه صح لنا ان نرسم للمؤلف المنهج لقلنا: ان القسم الأول الذي ينتهي بالصفحة 92 كان يكفي فيه عشر صفحات، فصل يجمل فيه القول عن اثر النقد في البلاغة، وأظن المؤلف لن يزيد شيئا عما كتبه الدكتور طه إبراهيم في كتابه (تاريخ النقد عند العرب) - كما فعل - مع شئ كثير مما لا حاجة إليه، وفصل يتحدث فيه عن المدارس التي درجت البلاغة قي ظلها، ويكتفي في هذا الفصل بجهود المتكلمين واللغويين والنحاة والأدباء. إماالفصل الثالث فيتتبع فيه آراء السابقين للجاحظ في البلاغة، ويترجم لاثنين منهم أو ثلاثة كأبي عبيده، ثم يتحدث عن كتابه، وكل هذا لا يستغرق عشرين صفحة، وقد استغرق فيه المؤلف تسعين صفحة!
على ان المؤلف فاته ان ينوه بأثر عالمين جليلين في البلاغة، وهما من أوائل العلماء قولا فيها، أحدهما الخليل بن أحمد وقد تحدث عن الجناس والمطابقة والاستعمال المجازي، والآخر سيبويه وقد تحدث في (الكتاب) عن مجاز الحذف، وعن التأخير والتقديم، إلى مباحث أخرى تمس البلاغة.
إماالقسم الثاني، فهو لب الكتاب، وقد بيت القصيد في كتابه، فانه قال في المقدمة:(لما كان الجاحظ هو مؤسس علم البلاغة العربية وجامع مسائلها لم يكن مناص من اتخاذه الأساس الأول لهذه الدراسة). وقد وفق كل التوفيق في دراسة البلاغة الجاحظية وبلغ الغاية، ولا نملك إلا الثناء المستطاب على هذا الجزء من الكتاب، ولو أردنا ان نصور عمله لما وجدنا أوفى من تصويره وهو لمجهوده قال:(ولما كان - يريد الجاحظ - أكثر معاصريه استطرادا، أبعدهم عن مراعاة النظام في التأليف، فقد كان من العسير على من يبحث موضوعا عنده ان يركن إلى كتاب معين، وكان لابد لدارس بلاغته من قراءة جميع كتبه، وجمع المتفرق فيها، والمقابلة بينه وتفسيره، إذ كثيرا ما يبدو متناقضا، وهذا ما صنعت، قرأت ما بأيدينا من كتبه، وجمعت النصوص التي ورد فيها ذكر البلاغة أو أي اصطلاح من اصطلاحات علومها، أو لفظ من ألفاظها، أو معنى من معانيها، وحاولت ان أصور هذه الاصطلاحات كما تدل عليها تلك النصوص المبعثرة). ولم يفته ان يتحدث عن بعض معاصري الجاحظ وعن بعض الذين جاءوا بعده، وان كان حديثه إشارات عابرة.
وقصارى القول في جملة هذا الكتاب ان الجزء الأول منه سابغ فضفاض، وكان من الواجب ان يركز ويقتصر فيه على الأغراض الرئيسية في الموضوع. إماالجزء الثاني، فقد بلغ فيه الغاية، أجاد أفاد، لكن بقيت لنا تفصيلات نحب ان نراجع المؤلف فيها ونطرحها للبحث والدراسة، وسنغض الطرف عن الأغلاط الجزئية، وإنما نتناول مسائل ذات أهمية:
تحدث المؤلف عن قصة نقد النابغة لحسان بن ثابت في بيته المشهور: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى=وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وما كان من قول النابغة له: أقللت جفاتك وأسيافك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان ابلغ في المدح؛ وقلت يقطرن من نجدة دما، ولو قلت يجرين لكان اكثر لانصباب الدم؛ ثم يقول المؤلف:(وقد يقال ان هذه الروايات ضعيفة - على ما قرر ابن رشيق من شهرة حديث النابغة، لكنها تلائم طبيعة الحياة الفنية، فيمكن الاطمئنان إلى وقوعها).
ونقول ان الحديث مشهور، ومشهور كذلك انه موضوع، ولسنا نلف وندور، ولكنا نضع هنا
قول الدكتور طه إبراهيم في هذه القصة، فلعل فيه بلاغا؛ قال بعد ذكر هذه القصة واختلاف وجوه النقد فيها: (وكل ذلك تأباه طبيعة الأشياء، وكل ذلك يرفض رفضا علميا من عدة وجوه:
1 -
فلم يكن الجاهل يعرف جمع التصحيح، وجمع التكسير،
وجموع الكثرة والقلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين هذه
الأشياء، كما فرق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد
لا يصدر الا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف
الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألم بشيء من المنطق.
علي العماري
القصص
الأحلام
مسرحية للكاتب الإنجليزي أرك برادول
ترجمة الأستاذ علي محمد سرطاوي
أشخاص المسرحية:
إيف: (حواء) وهي فتاة جميلة في الثامنة عشرة من العمر
الجد: وعمره فوق الثمانين
روح
طبيب
أمير
امرأة
مكان المسرحية:
(منزل الجد: غرفة مريحة كسيت جدرانها بألواح من خشب البلوط قد عبث بها الدهر. في طرفها موقد كبير يتأجج في ناره حطب جزلي. ضوء الغرفة شاحب مضطرب، يتألف معظمه من لهيب النار. وهي غرفة تتراقص فيها الأشباح ويتراخى فيها هدوء عميق شامل. جلس الجد أمام الموقد، وقد أحنت ظهره السنون، وقد راح ينفث الدخان من غليون يماثله في القدم. ويبدو في مطلع المسرحية هادئاً لا يتحرك إلا قليلاً.
وجلست إيف أمام الموقد، منحرفة عن النار قليلاً، وقد تراقصت على وجهها ظلال اللهب، وتدل نظرات وجهها على القلق والحيرة. وكلما امتد شوط المسرحية يبدو معنى اسمها (حواء) واضحاً جلياً. أما لباسها فبترك لذوق المخرج وفنه وكل ما يتصل بحوادث المسرحية نفسها فإذا أخذ نصب عينيه أن يقلل من أهمية الزمن للمشاهدين فقد يوفق كثيراً وحينما ترتفع الستارة، تقف إيف ناظرة إلى الباب. ولا داعي مطلقاً لقطع الصمت الذي نستغرق فيه. وعندما يبتدئ الحوار يجب أن يكون هادئاً وبطيئاً).
الجد: فيم تفكرين يا بنيتي، وماذا يدور في خلدك؟
إيف: (في بطء) أفكر قليلا في أمور خطيرة، وكثيرا في أمور تافهة!
الجد: أصحيح ما تقولين؟ إذا لم تخني الذاكرة، فقد كانت أمك كذلك، وكانت أمها مثلها.
إيف: نعم! إننا من طينة واحدة. ما اغرب ذلك. الا يدعو أمر من هذا النوع إلى العجب!
الجد: لا يدعو إلى الغرابة الا السر المجهول، وحتى ذلك لا يبدو غريبا إذا اتصل بعلم الإنسان!
إيف: (متنهدة) نعم يا جدي!
الجد: لماذا تتنهدين يا وردتي العابقة!
إيف: لماذا تتنهد كل امرأة!
الجد: حقا. . . لماذا. . .؟ لقد حيرني هذا الأمر طويلا!
إيف: آه. . ترى لو قيل لي اختاري شيئا واحدا بمفرده من الدنيا بأسرها، فهل كنت أستطيع ذلك؟
الجد: لا تتعلقي بأمل واحد، مخافة ان تمر بك آمال أخرى فلا تتلفتين إليها في سير الحياة!
إيف: لست اعرف بالضبط أملا واحدا أهفو إليه.
الجد: أكان هذا سبب تنهدك؟
إيف: نعم. . . انه عمر حافل، تكاد صوره تفلت من ذاكرتي. (يتنهد) والذي اعرفه انه كان طويلا جدا.
إيف: إذن في مقدرك ان تخبرني عن اثمن شئ في الدنيا؟
الجد: ان اثمن شئ في الحياة يا بنيتي، هو الشيء الذي لا تصل إليه يد الإنسان، والإخفاق هو أساس التقدير. لا تتعبي خيالك المرهف بأفكار معقدة من هذا النوع.
إيف: لست أنا التي تضطرب في مهب هذه الأفكار، ولكنها هي التي تدفعني إلى الاضطراب دفعا عنيفا في تيارها.
الجد: ان كل إنسان في الدنيا يتمنى ان يحصل على الصحة والثروة والسعادة.
إيف: (مفكرة) الصحة. . . والثروة. . . والسعادة.
الجد: لا اعرف إنسانا اجتمعت عنده هذه الإما ني الثلاث، وقلما أدرك أحد أمنيتين منهما؛ وإذا كان في استطاعتك الحصول على واحدة منها فان حظك لسعيد.
إيف: (في رقة) نعم. . . يا جدي. (تشير فجأة إلى النار) آه! انظر!
الجد: ماذا؟
إيف: لقد تلاشى. آه. . آه. . لقد خيل إلى إنني أرى شبحاْ صغيراْ يرقص على اللهيب.
الجد: انك مرهق الإحساس، وكثيراْ ما يرى صاحب هذا الإحساس أحلاماغريبة.
إيف: وكثيرا ما أراه هناك حينما أفكر كثيرا (بسذاجة) لعلني أحلم دائما بالآمال
الجد: (ملاطفا) ان الأحلام لا تضر أحدا.
إيف: أحب ان أتمنى الثروة لأننا فقراء. . .
الجد: لكن لا تنسي ان الثروة كثيراً ما تسير في ركبها التعاسة!
إيف: إذن سأتمنى السعادة.
الجد: هل في استطاعتك ان تكوني سعيدة بغير صحة؟
إيف: آه. لقد فاتني ان أتمنى الصحة التي هي اثمن شئ في الحياة (في تصميم) نعم. . . نعم سأتمنى الصحة. ولكن إذا لم أتمن الثروة فسنظل فقراء، ولم اعرف ان الفقر حمل السعادة لنا في الماضي، فأريد أن أتمنى الثروة أيضا. وما دمت ترى ان الثروة لا تجلب السعادة، فأود ان أتمنى السعادة أيضا. (بحرارة) آه. . يا أبت. . . لقد تمنيت الثلاثة مجتمعة بدل من واحدة! (يداعب النعاس عيني الجد، فيأخذ رأسه في حركة بطيئة يميل إلى الإما م، ويستقر على صدره. . . وترتخي يده الممسكة بالغليون فيسقط على صدره أيضا. تخمد النار فجأة. . يمر بالغرفة تغيير مفاجئ تتراقص في جوها الأشباح. . تحملق أيضا في اللهب مبهورة. . . وعلى غير توقع تسمع من ورائها. . . من الظلام صوتا يقول: (
الروح: ولكن ليس في مقدورك الحصول على الثلاث معا.
إيف: لماذا؟ من أنت؟
الروح: أنا روح اللهيب الذي لا يفنى. . . أنا الذي يمنح الإما ني النادرة للذين يستطيعون الاختيار.
(ترى إيف الروح الآن في الظلام الذي يعتصم به غير جلي. . . وقد بدا كتلة من السواد لا تستطيع تبيان شكله. في استطاعة المخرج ان يطلق لفته العنان في الترتيب)
إيف: (في شئ من السرور) يا للسماء؟ لقد رأيتك ترقص في اللهيب.
الروح: آه. . نعم. أنني أرى في كل نار. . . في نار الشباب. . . وفي نار الحب. . . وفي نار الطموح. .!
إيف: ولماذا أتيت إلي!
الروح: لأحضر لك هدية!
إيف: (تدق يدا بيد) ما أجمل ذلك. ما هي؟
الروح: أثمن شئ في الدنيا!
إيف: (في لهفة) ولكن ما هو ذلك الشيء؟
الروح: ان اختياره يتوقف عليك.
إيف: (باكية) ولكنني لا أعرف.
الروح: يجب عليك ان تختاري.
إيف: (في شك) كيف في استطاعتك إعطائي ما اختار!
الروح: أستطيع ان أعطيك شيئا واحدا. . . أي شئ. . . على ان يكون من اختيار نفسك ومن غير إيحاء الآخرين.
إيف: ولكن جدي الذي تراه يغط في نومه إما م النار يقول ان أثمن ثلاثة أشياء في الدنيا هي الصحة والثروة والسعادة كيف أستطيع اختيار واحد منها؟
الروح: هنالك أشياء أخرى (محذرا) ولكن تذكري انك لا تعطين الا شيئا واحدا فقط.
إيف: يبدو لي الأمر أكثر صعوبة مما توقعت. علي ان لا أكون متهورة في الاختيار.
الروح: (بعد صمت) هل اخترت؟
إيف: واأسفآه! لم أستطع. أليس في امكانك مساعدتي؟
(يتلاشى خيال الروح مبتعدا في الظلام)
إيف: أرجوك البقاء! لما أختر! أريد ان أكون أكثر رؤية وحذرا!
الروح: أوه! أود مساعدتك! سأريك الصحة والثروة والسعادة. ولكن اذكري دائما ان هنالك أشياء أخرى غيرها في الحياة.
إيف: كيف؟ أيمكنني ان أرى ذلك؟
الروح: (في غضب) سأريك ذلك. لا تسأليني كيف؟
إيف: أنني لشديدة الأسف! (بعد صمت) أرجو ان لا أكون قد أسأت إليك.
(لا تسمع جوابا. تفتش الغرفة. لقد اختفى)
إيف: (مضطربة) أرجو ان لا أكون قد أسأت إليه.
(قرع عنيف على الباب)
إيف: آه. . من الطارق؟
(تقترب من جدها لتوقظه، ولكنها تتوقف عن ذلك. . . تتراجع إلى الباب ماشية على رؤوس أصابع رجليها. تفتح الباب. يدخل شاب جميل يبتسم)
الطبيب: عمي مساء. أرجو ان تغتفري لي تطفلي بالمجيء إليكم في مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل. لكنها زيارة لم أجد بدا منها.
إيف: هل طلب ذلك إليك أحد؟
الطبيب: لم يطلب الي ذلك! الفرق طفيف. . . أكرر اعتذاري مرة ثانية؟
إيف: آه. . لم نرسل في طلبك أبدا! أتريد ان تقابل جدي؟
الطبيب: رغبة من هذا النوع لم أفكر فيها!
إيف: إذن لماذا أتيت؟
الطبيب: أتيت لأراك!
إيف: أرجو ان توضح ذلك!
الطبيب: أنني طبيب كمعظم الأطباء، غير أنني أختلف عنهم قليلا.
إيف: في أي شئ تختلف عنهم!
الطبيب: أنني لا أعالج مرضى.
إيف: لا تعالج مرضى! ألا يبدو كلامك غريبا!
الطبيب: غريبا! لماذا يبدو لك غريبا!
إيف: (بصراحة) حسنا! إذا كان ما تقوله صحيحا فانك طبيب غير ماهر لا يستعمل معرفته وفنه.
الطبيب: لكنني من طراز نادر من الأطباء.
إيف: إذن لماذا لا تعالج المرضى؟
الطبيب: لا أعالجهم لأنني لا أستطيع شفاء أمراضهم!
إيف: (في لهجة قاسية) فلست طبيبا أبدا!
الطبيب: ما الذي يدعوك إلى هذا الظن؟
إيف: لانك لا تستطيع شفاء المرضى.
الطبيب: (في لطف) لا أستطيع شفاء المرضى لأنني لا أراهم ولعلك تلاحظين الآن الفرق جليا.
إيف: بالتأكيد. هنالك فر ق عظيم.
الطبيب: وان حزنا غريبا ليعتادني من وقت إلى آخر.
إيف: قد يكون ذلك صحيحا.
الطبيب: لا تبصر عيناي المرضى على كثرة عددهم. لا ترى عيناي غير الصحة في أجمل وأروع مظاهرها.
إيف: ان ذلك يبدو غريبا محيرا.
الطبيب: لقد مر ألف عام علي، لم أجد فيها مريضا واحدا أجرب فني في معالجته.
إيف: (غير مصدقة) ألف عام؟
الطبيب: (متلطفا) هل بدا ذلك مخيفاً؟
إيف: آه. ربما. . . لا. . . لا
الطبيب: أتظنين ان ملامح وجهي تدل على عمري
إيف: أبد. انك تبدو قوياً، جميلاً، فاتناً
الطبيب: شكراً لك. ان هذه النقطة مهمة جداً
(يتململ الجد ويسمع لاستيقاظه صوت)
الجد: (يعتدل في جلسته) لقد غلبني الكرى على أمري
إيف: نعم يا أبت
الجد: من هو هذا الشاب يا إيف؟
الطبيب: عم مساء يا سيدي الشيخ الوقور
إيف: انه طبيب يا أبت. هكذا أخبرني
الجد: (مرتجفاً) طبيب! هل نحن في حاجة إلى طبيب؟ أكرر قولي هل نحن في حاجة إلى طبيب يا إيف: (إلى طبيب) لماذا أتيت؟
الطبيب: أتيت لأشاهد جمال حفيدتك الساحر الذي تحدثت به الركبان في كل مكان ذهبت إليه في البر والبحر.
الجد: وماذا تريد؟
الطبيب: أريد ان أطلب يدها للزواج
الجد: أتعني ما تقول؟ ان هذا أول طلب أسمعه. هل في استطاعتك إسعادها؟
الطبيب: كيف تريد ان تكون سعادتها؟
الجد: بمتاع الدنيا
الطبيب: لا أحب متاع الدنيا وما فيها من نوهم وغرور
الجد: (بلهجة جافة) ولكن حفيدتي تحب ذلك. ما هي ثروتك؟
الطبيب: أتريد ثروة الجسد، أو الروح، أو ثروة المادة البراقة الخادعة؟
الجد: لا تدر حول الحقائق. أريد المادة. وأعني الثروة
الطبيب: أنني لا أملك يا سيدي شيئاً من ذلك أبداً. ان مهنتي قد علمتني ان لا أقيم وزناً لأمور تافهة من هذا النوع. ان الجمال في حاجة إلى الصحة، وفي مقدوري ان أمنحها ذلك، كما في استطاعتي منحها أموراً أخرى
إيف: ما هي الأمور الأخرى؟
الطبيب: لا أعطي ما عندي إلا لأولئك الذين يغمرونني بالحب ورغماً عن طلبي يدها للزواج فأريد منها الحب قبل ان أمنحها أي شئ. وسوف ترى كيف يصنع الحب المعجزات وينيل السعادة
إيف: انتهى كل شئ بيننا. لا أحب هذه الصفقة. أنني راغبة عنها. ان التوفيق ينقصها
الطبيب: أنني أعطي الصحة ولكنني أفتش عن الحب
إيف: (غاضبة) اذهب إلى غير رجعة أيها الذي يطلب الحب ولا يشعر به، ولا يعطي إلا الصحة. . . الصحة ليس إلا، لا أريد صحتك. . . ان مرض الجسم ليس شيئاً بالقياس إلى مرض الروح أنني أرضى عن طيبة خاطر ان تهاجم الأمراض جسدي في سبيل المحافظة
على هناءة روحي. إذهب. . . إذهب. . . إذهب
الطبيب: ما دام الأمر قد انتهى إلى هذه النتيجة، فمن العبث الاستمرار في الحديث. لن تتكرر هذه الفرصة التي أتيحت لك فرغبت عنها. أتمنى لك يا آنستي مساءاً سعيداً
(يختفي الطبيب قبل ان يتلاشى صدى كلماته)
الجد: (يعود إلى كلماته) شاب غريب الطباع. ما رأيت على شاكلته أحداً قبل اليوم
إيف: انه لكما تقول. ويخيل إلي الآن أنني كنت متهورة. لقد كان جميلاً جذاباً رائعاً. (يتسلط النوم على الجد فيغفو مرة ثانية) لا أستطيع ان أصدق انه عاش ألف سنة، ولعله لم يكن جاداً في حديثه يا أبت. كم يكون جميلاً ان يكون لإنسان صحة رائعة ثم لا يموت، وان يكون إلى جانب ذلك رائعاً فتاناً. ليتني لمست في بعض حديثه معنى من معاني الحب. لقد ساومني على جسدي فاحتقرته. من يدري! لعله يعود مرة أخرى
(يظهر الروح مرة ثانية بين الضلال المتراصة في الغرفة)
الروح: انه لن يعود إليك أبداً
إيف: أهو أنت مرة أخرى! لقد روعتني!
الروح: ألم تتوقعي حضوري؟
إيف: لا
الروح: تقولين لا. . . ان الانتظار يحمل في ثناياه معنى الشك، ويخيل إلي ان ليس لديك شك أبداً. لعلي مصيب في رأيي!
إيف: لم أفهم معنى ما تقول
الروح: أنني أتكلم كما أعيش
إيف: بالكلام الذي لا يفهم
الروح: أليست الحياة لغزاً؟ ألم تجديها كذلك؟
إيف: ان جميع ما تحدثني عنه غير واضح بالنسبة إلي أليس كذلك؟
الروح: ليس فيه شئ غامض مطلقاً
إيف: أستميحك المعذرة!
الروح: هل احتفلت بالزائر الذي أرسلته إليك؟
إيف: أأنت أرسلته؟
الروح: نعم ألم تعرفي ذلك؟
إيف: ربما. . . لم أكن متأكدة!
الروح: وهل أحببته؟
إيف: (مذعورة). . . لست. . . حقيقة. . .
الروح: (بصراحة) كما توقعت تماما
إيف: (بهدوء) أبداً. . . كيف عرفت ما كان يدور في خاطري؟
الروح: هل كانت مهمته إذن غير موفقة
إيف: (في حنان) بالتأكيد. . . كما تقول
الروح: ان الأشياء في حد ذاتها لا قيمة لها، وإنما ترتفع تلك القيمة حينما تتلاقى الأضداد. ان التناقض أساس الانسجام في الحياة. ان الانسجام هو الذي يولد السعادة
إيف: لقد أحسنت التعبير. لا فض فوك!
الروح: لست في حاجتك إلى معرفة المتناقضات ودراستها، ليكون حكمك صحيحاً على طبائع الأشياء
إيف: كيف؟
الروح: (محتداً) لا تسأليني أسئلة في هذا النوع
إيف: (بهدوء) آسفة جداً. عفواً
الروح: سأريك الثروة، ولست أدري كيف يكون موقفك منها؟
إيف: ولست أدري أيضا
(تسمع أصوات أبواق خارج المنزل، يختفي الروح مرة ثانية، يفيق الجد مذعورا من الأصوات)
الجد: ماذا تسمع إذناي! يا للسماء!
(أصوات في الخارج تردد الأميرالأميرالأميرتسمع إيف الأصوات فتسرع إلى مرآتها تصلح هندامها. ينهض الجد متثاقلا إلى الباب ويفتحه)
الأمير: (من طرف المسرح) أهذا منزل إيف؟
الجد: ان لي حفيدة بهذا الاسم!
الأمير: (يدخل) إذن أرجو ان تحضرها أيها الشيخ. أريد ان أقول لها كلمة.
(يبدو الأمير في ملابس حريرية مزركشة بالحجارة الكريمة النادرة قصير وضخم الجثة. يتلفت حواليه في قلق ظاهر)
إيف: (تشير إليه) أنني إيف التي تسأل عنها.
الأمير: (يحس بشعور من الحب مفاجئ نحوها) آه. رحلة موفقة إنها جميلة.
إيف: ماذا تريد أيها الأمير؟
الأمير: (مرتبكا قليلا) أتيت لأحملك معي الآن!
إيف: تحملني معك!
الأمير: نعم فماذا تقولين؟
الجد: لا. . . ان هذا الأمر مستحيل. لقد مضى الموعد الذي تأوي فيه إلى فراشها. . قد مضى. . عليها ان. . .
الأمير: أغرب عن وجهي أيها الأثر القديم. داعب شعر لحيتك إما م النار. . إياك ان تنبس ببنت شفة
(يتراجع الجد مذعورا دون ان يقول شيئا)
إيف: (في غضب) كيف تجرأت على قول هذه الكلمات القاسية لجدي.
الأمير: تقولين تجرأت أيتها الشابة. ومن غير الأمير يفعل ذلك ويأمر الناس؟
إيف: (بجرأة) أنت تعتقد ذلك. . وربما. . .
الأمير: أنني أعجب بجرأتك التي تماثل جمالك البديع.
إيف: (ببساطة) الجمال؟ أتراني جميلة في عينك؟
الأمير: جميلة ورائعة أكثر مما أصف، وهذا الجمال هو الذي جذبني إليك.
إيف: هذا شئ يحيرني تماما.
الأمير: لقد سمعت كثيرا عن جمالك وسحرك وجمال عينيك فأحببت ان يكون كل ذلك لي من دون الناس جميعا.
إيف: لأية غاية تريد هذا الجمال؟
الأمير: (مقهقها) انك تحملين عقل طفل برئ، وهذا من حسن حظي ويمن طالعي. وهو مما يزيد في رغبتي فيك وحبي لك وتلمسي العزاء والراحة بالقرب منك.
إيف: هل الأمير في حاجة إلى مواساة من أحد؟
الأمير: (في سرور زائد) ان لها لسانا ساحراً أيضا ومنطقا سليما.
إيف: وماذا تريد مني؟
الأمير: أريد. . . نفسك وحسبي ذلك. (يحرك يدا قد أثقلت كمها الجواهر اللامعة) انظري. أنني أدفع ثمن ما أريد ذلك غاليا. من هذا الجوهر الثمين. سيكون كل ذلك لك. . . ولك وحدك
إيف: الثروة؟
الأمير: طبعا
إيف: (في هدوء) يخيل ألي أنني قد بدأت أدرك الحقائق.
الأمير: يسرني جدا ان أساعدك على ذلك.
إيف: كيف تساعدني؟
الأمير: في فهم الأمور على وجهها الصحيح.
إيف: ليبدو لي أننا نتحدث عن أمرين متناقضين، ونرمي عن قوسين مختلفين.
الأمير: ان الثروة فصيحة لا تحتاج إلى لسان.
إيف: (بمرارة) ان الحياة مع أمير لا تروق لي.
الأمير: (بلطف) معذرة يا آنستي، لم يدر بخلدي ان أجعلك أميرة.
إيف: لكن. . . لكن ظننت انك قلت. . .
الأمير: قلت ان ثروتي ستكون تحت تصرفك. وهي كما ترين صفقة رابحة بالنسبة إليك وبالنسبة إلى ما ستقدمين لي من جمال وحب.
إيف: أوه. . . الحب!
الأمير: لقد نسيت ان أذكر لك ذلك، أعطيك الثروة وتعطيني الحب.
إيف: أتعني انك تريد ان تتزوجني؟
الأمير: (ينفد صبره) كلا، كلا. أحسب أنني قد أوضحت لك ذلك بصراحة لا غموض فيها.
أنني أقدم لك الثروة والملابس الفاخرة والمجوهرات.
إيف: وماذا تريد مني عندئذ؟
الأمير: (بقهقهة) أريد منك ان تحبيني كما تفعل كل فتاة جميلة
إيف: لنتحدث الآن بصراحة مهما تكلفنا ذلك!
الأمير: إذن فقد اتضحت لك مقاصدي
إيف: تمامابالضبط
الأمير: هل أنت راغبة فيها
إيف: كلا. بكل أسف.
الأمير: ولكن لماذا؟
إيف: ان الزواج يتراءى خيالا جميلا ساحرا إما م عيني
الأمير: لماذا تثرثر النساء كثيرا عن الزواج في مناسبات من هذا النوع؟
إيف: ألا توافقني على ذلك؟
الأمير: ان الزواج حيلة اخترعتها المرأة لترفع من شان نفسها. دعينا من هذه الأمور السخيفة وامضى معي. لا أستطيع الزواج لان زوجتي أميرة ولي محظيات غيرها
إيف: ما أقبح ذلك بك أيها الأمير
الأمير: ليس قبيحا ما يبدو لك. إنما هي عادة اعتدتها. لقد وجدتها بعد التجربة متعبة
إيف: إذن لماذا الي بأسم الحب
الأمير: أنني أبحث عن الحب في كل مكان. انه الشيء الذي لا تستطيع ثروتي الحصول عليه. جربت ان أطلبه بثروتي في محاولات متنوعة، ولكنني عدت منها بخفي حنين. كثيرا ما يبدو لي هذا الأمر غريبا لأنني أدفع ثمن هذا الحب غاليا فلا أعثر عليه.
إيف: مرد ذلك الفشل إلى انك لا تعطي من قلبك ثمن الحب ولكن مما تملك يداك
الأمير: أخشى ان يكون ذلك مستحيلا
إيف: (تنظر إليه) ان لتجده حتما لو دفعت من قلبك ثمن الحب
الأمير: إذن ما الفائدة من الثروة إذا لم تكن وسيلة للحصول على شئ في الحياة؟
إيف: لست أعرف من الثروة ولا من فوائدها شيئا
الأمير: تعالي. . . لتعرفي كل شئ إيف: أنني آسفة لا يمكنني ان أفعل ذلك الأمير: ولكن لماذا لا تريدين؟ (في لهجة منكسرة) لابد من سبب دعاك إلى الرفض
إيف: لانك سمين جدا وغير جميل
الأمير: (في مرارة) كنت أظن ان بريق الجواهر سيذهب بنور عينيك فلا تبصرين عيوبي. واأسفآه. ان المرء لا يستطيع ان يملك كل شئ.
إيف: ربما كان ذلك. ولكنني لم أجد صعوبة كبيرة في اكتشاف ما فيك من العيوب
الأمير: إذن ترفضين طلبي!
إيف: رفضا قاطعا
الأمير: (في لهجة حزينة) هذا ما كنت أخشاه. لقد رضيت بالغاية وكرهت الوسيلة. ان الثروة هي أحبولة الشيطان للمرأة، ولم أجد امرأة لم تقع فيها.
إيف: ان ما تقوله صعب التصديق
الأمير: لقد ولدت أحلام الحب ميتة بيننا. لقد أخفقت وانتهى كل شئ
إيف: إماأنا فلقد ربحت المعركة التي كنت احسبني مدحورة فيها
الأمير: نعم. ان ذلك يدعو إلى التفكير
إيف فكر مليا في سبب إخفاقك، ولعل ذلك يعود عليك بالخير الكثير
الأمير: (متذمرا) لا أجد شيئا يبعث الراحة إلى قلبي غير الحب الذي أضناني التفتيش عليه. لقد أخفقت فيما كان يداعب قلبي من إما ن وأحلام. كم أتمنى ان أنام نوما عميقا في الليل، وأترك الثروة التي لا تنيل الحب، طائعا مختارا
إيف: أوه. أتجد النوم صعبا بالنسبة إليك
الأمير: انه سوء الهضم أيتها الآنسة. ان الثروة لا تسير جنبا إلى جنب مع الصحة لقد دفعت ثمن الثروة غاليا من راحة جسدي. أنني ضعيف الإرادة.
إيف: إذا أصبحت إرادتك قوية فماذا تفعل؟
الأمير: لعل الأمور تختلف آنذاك. إرادة أي إنسان تقوى على الصمود إما م جمال فتاة ساحرة. ان الثروة تفتح أبوابا كثيرة ولا نعرف - إلا متأخرين ان أبوابا أخرى لا تستطيع فتحها. لا أريد ان أعترف لك كثيرا، ولكنني اندفع إلى ذلك تحت تأثير جمالك. أود لو أنني
فقير بائس جميل الصورة فنجد السعادة بدلا من الحب.
إيف: أتحسب ان الفقر والحب لا يجتمعان؟
الأمير: قد يكون ذلك صحيحا أو غير صحيح. إنما مرد كل إلى طبيعة الإنسان.
إيف: (في هدوء) كل رأي مرده إلى طبيعة الإنسان! والآن أرجو ان تذهب، فان بقائك حتى الآن إلى جانبي لمما يؤلم جدي إذا استيقظ.
الأمير: (بدون احتشام) ألا تعاودين النظر في أمري!
إيف: أبدا. أبدا. . . جد آسفة. لن أرغب فيك مطلقا.
الأمير: (متذمرا) أنني لا أحسن الهجوم وهذا ذنبي (مبتهجا) لكن الجواهر لا تزال معي. ما أقبح الحياة إذا لم يجد المرء فيها ما ينسيه الإخفاق في حب امرأة. (صوت أبواق من الخارج) استمعي! ان رجال حاشيتي قد قلقوا لتأخري. الوداع أيتها العذراء الطاهرة. إذكريني. . . لا تجعلي ذكرياتي في نفسك مرتبطة بما تكرهين وإذكري. . . أنني قدمت إليك أحسن ما عندي. (خرج).
إيف: ما أثقل ظل هذا المخلوق القميء!
الروح: (يظهر) لقد بدا لي انك لم تحتفلي به أبدا.
إيف: أبدا. . أبدا.
الروح: ألا يدعو ذلك إلى الأسف؟ لقد كان لديه الشيء الكثير من الذي يتهالك الناس عليه في الحياة وكان راغبا في تقديمه إليك.
إيف: لقد تعلمت من ذلك أيضا ان لدي ثروة نادرة أغلى من الدر والجوهر والذهب يطلبها الناس.
الروح: نعم. نعم. صدقت.
إيف: وعلى ان أكون حريصة على هذه الكنوز فلا أمنحها من لا يستحقها.
الروح: صحيح مرة أخرى. لكن الذي أريد معرفته: ما هو اعتراضك على صديقي الأمير؟
إيف: أنني لأحس في قرارة نفسي بالأسف على خيبته، وانه إحساس يملأ نفسي بالزهو ان أشعر بالأسف على فشل أمير لقد وجدته قد فقد الإدراك الصحيح لموازين الأشياء ومقياس الحقائق.
الروح: إماصديقي الزائر الأول، أفلم يفقد إحساسه بالزمن! ألا بربك خبريني: أيهما وجدت أكثر أهمية إدراك الزمن، أم إدراك حقائق الأشياء؟
إيف: انك تسأل أسئلة محيرة أيها الروح!
الروح: ان الأسئلة المحيرة تغلب على أجوبتها الطرافة.
إيف: اسمح لي ان أقول لك أنني تعلمت كثيرا من صديقك وكثيرا جدا.
الروح: وماذا تعلمت أيتها الآنسة؟
إيف: تعلمت ان الصحة لا تقيم وزنا للثروة، وان الثروة كثيرا ما تطلب الصحة.
الروح: يا للأسف! هل اكتشفت ذلك؟
إيف: ذلك ما تأثرت به على الأقل. وخيل ألي انهما يفتشان عن السعادة. وقد يكون مبهجا - إن لم يكن مغريا - أن يعرف المرء ما هي السعادة. (تضم بيديها) السعادة! ترى أتكون السعادة أثمن ما في الدنيا؟ لست أدري
الروح: أراك تتعجبين؟ ان كثيرا من الناس على شاكلتك
إيف: أتستطيع ان تريني السعادة يا صديقي؟
(يختفي الروح، تتلفت إيف حولهاتسير إلى الموقد وهي تفكر تفكيرا عميقا، يفتح الباب، تدخل امرأة قصيرة الجسم يبدو على محيآها الشحوب والإعياء)
إيف: (مذعورة) آه. لا شك ان هنالك خطأ. .! ماذا تريدين أيتها السيدة؟
المرأة: (في لهجة حزينة) أسفا يا بنيتي! ألا تعرفينني؟
إيف: (تهز رأسها) لا
المرأة: (في حنان) أنني أمك
إيف: أمي؟ أمي! لقد ماتت أمي!
المرأة: ألا تتذكرين تلك الأم؟
إيف: لقد ماتت منذ زمن بعيد، ومحا الزمن صورتها من خيالي.
المرأة: لقد مات جسدها، إماروحها فلم تمت. إنها الشيء الذي لا يموت.
إيف: ولماذا رجعت من العالم الآخر؟
المرأة: لا تقولي هذه الكلمة فما بارحتك أبدا
إيف: وما هي غايتك من هذه الزيارة الآن؟
المرأة: أتيت لأحملك معي. لقد بلغ جدك من الكبر عتيا، ولسوف يسير جسده في الطريق التي تسير فيه الأجساد إلى نهاياتها. سنذهب معا وهناك تعتادين على حبي، وسنجد السعادة معا
إيف: ولماذا غبت عني طويلا!
المرأة: لم أعرف ان الفراق كان طويلا إلا الآن.
إيف: أمي! أرى حديثك غريبا. ماذا تريدين مني!
المرأة: أريد حبك ولا شئ آخر.
إيف: وماذا تعطيني إذا أنا منحتك هذا الحب؟
المرأة: حنان الأم وحبها العميق. لا شئ، غير ما لك في قلبي من حنين، وما لي في قلبك من لهفة وشوق. لك مني الاطمئنان والسكينة والسعادة.
إيف: كيف أسعد الآخرين وأنا لا أجد الطريق إلى السعادة
المرأة: السعادة بين يديك إذا كان في مقدورك ان تحملي بين جوانحك حب الفتاة لأمها.
إيف: لقد سمعت الناس يتحدثون كثيرا عن الحب؛ انهم دائما يطلبون ولا يعطون.
المرأة: إمابالنسبة ألي فانك ستأخذين وتعطين. هذا هو السر. ان البساطة هي الطريق المعبد إلى السعادة.
إيف: ان البساطة هي مفتاح القناعة. لكن أين السعادة الحقيقية من ذلك. هل هنالك شئ يطلق عليه هذا الاسم؟ هل السعادة حديث خرافة يا أم عمرو؟ يخيل ألي إنها شئ معقد جبار يتألف من ألف فكرة، ومن ألف عاطفة، ومن ألف زخرة، ومن ألف عذاب. انها ليست شيئا واحدا أنني لن أجد السعادة الحقة معك
المرأة: ولماذا لا تجدينها معي معي أيتها الابنة الفيلسوفة!
إيف: لان ليس في استطاعة الإنسان ان يتذوق السعادة الخالصة الا إذا شرب كؤوسا مترعة بالشقاء من يد الزمن. ان السعادة شئ بعيد جدا عن مجرد القناعة، والسكون إلى حقائق الواقع المريرة. ليس في استطاعتنا الحكم على حقائق الأشياء دون الغوص إلى أعماقها.
المرأة: ان هذه الأفكار القوية لا تدور بخلد فتاة في عمرك
إيف: (ببساطة) أصحيح ما تقولين؟
المرأة: بعد ان يتعبك السير في الطريق الذي سترسمه لك الحياة، وبعد ان تبدد اليقظة أحلامك الجميلة؛ وبعد ان يتحطم الطموح فيك على صخرة الفشل - تعالي إلي - فستجدينني في انتظارك
إيف: أتحسبين أنني ان ذاك في حاجة إليك. ومع ذلك فان السعادة هي الحلم الجميل الذي لا يستحيل إلى حقيقة ملموسة. ويبدو لي أنني سأحلم كثيرا؛ وأتعلم كثيرا؛ وأعطي شيئا ليس بالقليل من عواطفي.
المرأة: سأنتظرك. سوف تمر بك ساعة تدركين فيها ان السعادة لا تتعلق بزمان ومكان. إنما هي سعادة الروح
إيف: ألا تحبين الصحة والثروة؛ ما رأيك فيهما؟
المرأة: أية قيمة للصحة حينما يموت الحسد؟ وما نفع الثروة إذا لم يستطع الإنسان استعمالها. وماذا يبغي بعد ذلك غير السعادة؟
إيف: نعم انك على حق. ولكن هل هنالك أمور أخرى في الحياة؟
المرأة: (في لهفة) الأمر المهم بالنسبة إلى ذهابك معي
إيف: (تهز رأسها) كلا. لن أذهب معك! ان العجز والهزيمة من الحياة أمر سهل جدا. أريد ان أحل ألغاز الحياة بنفسي. لن تهزمني الحياة أبدا. سأصمد لزوابعها
المرأة: سأكون في انتظارك اذكري ذلك جيدا.
إيف: سوف أتذكر ذلك
(تقف إيف مفكرة ومحملقة في النار، بينما تعود المرأة أدراجها من حيث أتت وتختفي)
إيف: هلم إلي يا صديقي! إلي يا مانح الهبات! ساعدني!
الروح: (يظهر) لبيك! لقد حان الوقت. هل اخترت!
إيف: واآسفآه! لم أستطع، لأنني لا أريد الصحة ولا الثروة ولا السعادة. لا أريد هذه في حد ذاتها بعيدة عن المعاني الإنسانية
الروح: يخيل إلي انك لم تتوقعي رؤيتها على هذا الشكل الذي بدت لك فيه.
إيف: نعم
الروح: لا تنسي ان هنالك أشياء أخرى في استطاعتك اختيار منحة منها
إيف: نعم هنالك أشياء أخرى. انك على صواب!
الروح: (في سأم) إنما عليك ان تختاري واحدة منها
إيف: لقد لاحظت ان الأشياء الثلاثة التي عرضتها علي، كان كل واحد منها يزعم ان في مقدوره إعطائي كل ما أريده، ومع ان كل واحد منها كان يمنح شيئا يختلف عن الآخر، الا انها جميعا كانت تطلب مني ثمن ذلك
الروح: وما هو ذلك الثمن؟
إيف: انه الحب. انها جميعا كانت تفتش عن الحب فيخيل إلي ان الحب أثمن شئ في الوجود.
الروح: أنني لا أستطيع تقرير ذلك.
إيف: لقد ظهر ذلك لي واضحا جليا لا غموض فيه.
الروح: إذن هل تختارين الحب كأغلى منحة!
إيف: كلا. لن أختار الحب. لأنه إذا كان من جانب واحد لم يكن حبا، وإنما هو خداع الطبيعة لاستدامة النوع ومد جذوره إلى المستقبل في وجه مستعار من شهوة الجسد. ليس الحب إلا امتزاج روحين، وتقارب قلبين وفناء جسدين في هدف لا يدرك. أنني لن أطلب الحب. ينبغي ان يأخذ الحب طريقه إلى القلوب بعيدا عن الإرادة والتوجيه. ان الحب الصحيح لا يطلب، ولكنه كالجوهر النفيس تكتشفه القلوب في مسارب الحياة
الروح: إذن أي شئ تختارين
إيف: إذا كان لابد من الاختيار فأختار العقل. انه ينجدني في الشدة؛ فأختار اختيارا صائبا، وأعيش حياة متزنة، وأحب حبا صحيحا. نعم سأختار العقل
الروح: (مقهقها) ها. . . ها. . . لا يختار العقل إلا إنسان مدرك عاقل. وأنت باختيارك لم تطلبي شيئا جديدا. لقد طلبت ما هو لديك. أهذا كل ما تطلبين؟ (يقهقه بصوت مسموع) انك يا آنستي العزيزة في غير ما حاجة إلى من يقدمه إليك!. . . ها. . ها. . ها. . ها. . . .
(يتلاشى الروح)
إيف: (مفكرة) أنني لا أشك في سلامة عقلي
(ترجع إيف إلى وضعها الأول، جالسة إما م الموقد، محملقة في اللهيب، تتلاشى الخيالات تدريجيا ويتوهج لهيب النار، وبعد فترة تفرك عينيها، بينما يأخذ غطيط الجد يخفت، ثم يفتح عينيه)
الجد: لقد غلبني الكرى على أمري
إيف: لقد أغضيت طويلا يا أبت
الجد: ماذا كنت تصنعين أثناء نومي يا إيف؟
إيف: كنت أفكر
الجد: تفكرين! هل أضعت كل ذلك الوقت في التفكير؟
إيف: نعم يا أبت
الجد: لا أحسب انك فعلت ذلك! ربما يخيل إليك انك كنت تفكرين!
إيف: أنني واثقة من ذلك وثوقك بأنك كنت نائما
الجد: انك تفكرين كثيرا يا بنيتي؛ بماذا كنت تفكرين!
إيف: أفكر قليلا في أمور هامة، وكثيرا في أشياء لا أهمية لها! أليس كذلك يا أبت!
الجد: ان أساليب النساء تعجز الفهم، هلمي إلى فراشك
إيف: (تنهض) سمعا وطاعة يا أبت وشكرا
(أصوات ضحك تنبعث من بعيد)
(يهبط الستار)
علي محمد سرطاوي