الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 842
- بتاريخ: 22 - 08 - 1949
إبراهيم عبد القادر المازني
موجة من الأسى غمرت شعوري كله وأنا أقرأ نعي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني منذ أيام. . . ألأنه ودع الحياة وفارق أصدقائه ومحبيه على غير ترقب وانتظار، أملأني قد رأيته وجلست إليه ساعة أو بعض ساعة كانت هي اللقاء الأول والأخير، أم لأني قد هاجمته على صفحات (الرسالة) هجوماً عنيفاً راعيت فيه جانب الحق وأهملت كل ماعداه؟!
ليس من شك في أن تلك الأمور جميعاً قد تركت في نفسي إحساساً
عميقاً بالأسى لفقده؛ ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء
ويصبحون فلا يجدون المازني يملأ مكانه، وأن ألقاه أنا منذ قريب
فيتحدث إلي وأتحدث إليه، ثم يشاء القدر أن أهاجمه هجوماً عنيفاً دون
أن أعلم أنه قد شد الرحال ومضى في طريقه. . . إلى لقاء الله!
لقيت المازني أول لقاء وآخر لقاء بمكتب الأستاذ توفيق الحكيم في (أخبار اليوم)، وكان ذلك منذ شهور. . . وحين دخلت الحجرة لم يكن بها غير بضعة أشخاص ما لبثوا أن استأذنوا مودعين وبقينا نحن الثلاثة: المازني وتوفيق الحكيم وأنا. . . ومضينا نطرق من أبواب الحديث ما شاءت السياسة والأدب والفن، متفقين حيناً ومختلفين حيناً آخر، ثم شاءت الظروف أن نعرض لمشكلة طال حولها الجدل بيني وبين المازني حيث قنع توفيق الحكيم بالإنصات ومضى يرقب نهاية الشوط بصبر لا ينفذ.
كان رحمه الله إنساناً جم الأدب في نقاشه، مهذب العبارة، مشرق اللمحة، لبقاً في التخفيف من حدة الجدل بالبسمة العذبة والنكتة البارعة، ولكن القضية كانت قضية بعدت فيها الشقة بين نظرتين: نظرة الشيوخ ونظرة الشباب، أو نظرة الأمس ممثلة في الماضي القريب، ونظرة اليوم ممثلة في الحاضر المشهود. وكأنما ضاق المازني بحجج محدثه فراح يسأل عنه توفيق الحكيم!. . .
ونظر إليه توفيق الحكيم في شئ من الدهشة وهو يقول: لقد ظننتك تعرفه حق المعرفة، ومن هنا لم يخطر لي أن أقدم كلاً منكما للآخر. . . هذا (فلان) كاتب (التعقيبات) في
الرسالة.
ورأيت المازني رحمه الله يمد إلي يده مصافحاً في حرارة، مصافحاً للمرة الثانية وهو يقول: معذرة، فأنا أقرأ لك ولا أراك! ومن العجيب أنك ثائر هنا وثائر هناك! ولكن لماذا تهاجم بعض من أعزهم من حين إلى حين. . . لماذا تهاجم العقاد مثلاً وفضله على الثقافة والأدب لا ينكر؟!
وأجبت وعلى فمي ابتسامة تسجل للمازني معاني الوفاء: ومن قال لك أني أنكر هذا الفضل؟ أنا أول من يعترف به، وإذا كنت قد هاجمت العقاد يوماً فلأنني أقدره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى طه حسين وتوفيق الحكيم!
وكأنما أعجب المازني بهذا الجواب فارتسمت معالم السرور على وجهه، ثم قال وهو يغرق في الضحك ونغرق معه: هل أفهم من هذا أن ليس لي عندك منزلة هؤلاء السادة لأنك لم تهاجمني حتى الآن؟!
فقلت معقباً على اللفتة الرائعة: معاذ الله يا صديقي، أنك سترغمني إرغاماً على أن أقول عنك ما في نفسي إثباتاً لتقديري لك!
ويهتف المازني والابتسامة العذبة لا تفارق شفتيه: أنا أدرى الناس بما يمكن أن تقوله عني. . . ستقول إن المازني كان بالأمس خيراً منه اليوم، وإنه ترك زمرة الأدباء وانضم إلى زمرة الصحفيين، وإنه يكتب في كل مكان، ويكتب في كل شئ، حتى أصبح تاجر مقالات يهمه ملاحقة السوق أكثر مما تهمه جودة البضاعة، أليس كذلك؟. . . ولكن لا تنس أن الأديب في (بلدكم) مجبر على أن يسلك هذا الطريق ليكسب عيشه وعيش أولاده، وليستطيع أن يحيا حياة كريمة تشعره بأنه إنسان. . . ترى هل بقي شيء يمكن أن تقوله؟
فأجبت وأنا مأخوذ بصراحته المحببة وتواضعه الجم: نعم، بقي أن المازني لم يهتد حتى الآن إلى خير ملكاته، خيرها على الإطلاق. . . لو عرف المازني أن معدنه القصصي من أنفس المعادن لأفسح الطريق لملكته القاصة، ولغدا في ميدان القصة وهو قمة من القمم. . . لقد قلت ذلك لتوفيق الحكيم أكثر من مرة فكان يوافقني كل الموافقة!
وضحك المازني وهو يقول: هذا حق، ولكنك تريدني على أن أكون منافساً يسد الطريق في وجه توفيق الحكيم. . . لا يا سيدي، أنا لا أحب أن أرزاق الناس!
ويهتز توفيق الحكيم من الضحك وأهتز معه، ويمضي الوقت حافلاً بأسباب الأنس الأنيس والمتعة التي تغمر آفاق النفس والروح
ويستأذن المازني فأنهض لتوديعه قائلاً: أنا سعيد بلقائك!
ويشد المازني على يدي بكلتا يديه قائلاً لي: ويسعدني أن يتكرر هذا اللقاء!
ولكن اللقاء لا يتكرر، ثم تشاء الظروف أن يثيرني رحمه الله مرتين فأهاجمه مرتين: أهاجمه وأنا لا أعلم أنه شد الرحال ومضى في طريقه. . . إلى لقاء الله!
لقد كان المازني عالماً من خفة الظل وعذوبة الروح، وعالماً من سماحة الطبع ونقاء السريرة، وعالماً من كرم الخلق وندرة الوفاء، وكان المازني وكان. . . وأصبح كل شيء في عداد الذكريات!
هذه كلمة عابرة تحدد من نفسي ونفوس عارفيه؛ أما مكانه من تاريخ الأدب العربي المعاصر فله حديث غير الحديث، ومناسبة غير المناسبة. . .
وأهتف مع العقاد في غمرة حزنه ووهج أساه: سلام على إبراهيم، وسلام على الدنيا!!
(أ. م)
ترميم الجامعة العربية
للأستاذ نيقولا الحداد
تقرر أن تجتمع اللجنة السياسية للجامعة العربية في 20 أغسطس الحالي. وقد نشرت جريدة المصري مجموعة الاقتراحات التي تقدمت بها الحكومات العربية وستكون جدول أعمال اللجنة. وهي مستخلصة في 12 مادة. وبالاطلاع على هذه المواد رأيت أن المقصود من التعديلات المقترحة هو ترميم الجامعة كترميم منزل آيل إلى السقوط وتلافي سقوطه أو تأجيل سقوطه إلى أجل قصير، كالبت في موضوع الأمانة العامة وربما كان هذا أهم موضوع عند المرممين. ثم يليه في الأهمية الروابط الاقتصادية والثقافية والمواصلات. ثم مشروع الدينار العربي وبنك الجامعة إلى غير ذلك مما لا يمكن أن يتقرر ما دامت الجامعة متداعية إلى السقوط. ليس في هذه الاقتراحات والتعديلات المطلوبة ما يبني جامعة عربية بل ستبقى في تداعيها وتزعزعها بحيث يستحيل أن تتعدل هذه التعديلات والجامعة في هذا الوهن المتناهي والتقلقل المنذر بالهبوط العاجل.
فبل أن تفكروا يا قوم بالأمانة العامة والدينار والاقتصاديات الخ يجب أن تهدموا هذه الجامعة إلى الحضيض وتقذفوا بأنقاضها إلى البحر أو إلى الصحراء وثم تبنوها من جديد على أساس متين بمواد قوية وبنيان راسخ.
والمقترحات المقترحة آنفاً إنما هي مقترحة على هيئة سياسية إدارية غير موجودة ولا وجود إلا لظل لها - فظل جامعة أو جمعية لا يمكن أن ينشئ بنكاً ولا يقرر ضريبة ولا ينظم علائق اقتصادية الخ - لابد من وجود الجامعة أو الهيئة أولا، والجامعة غير موجودة. كانت خيالاً وقد أمحى الخيال حين طلعت شمس الحقيقة
شمس الحقيقة التي طلعت ومحت الظل هي انخذال 30 مليون عربي أمام 3 أرباع مليون صهيوني وقيام دولة إسرائيل أمام الدولة العربية المزعومة وتشرد مليون عربي أمام 3 أرباع مليون يهودي وانصباغ فلسطين بالصبغة اليهودية أمام كلمة فلسطين عربية وستبقى عربية للعرب. ولم يبقى للعروبة إلا استجداء حقوق عرب فلسطين من أيدي اليهود. واليهود لا يتكرمون إلا بعودة مائة ألف من المليون عربي اللاجئين إلى فلسطين ممن ينتقيهم اليهود ليكونوا فعلة وخداماً عند اليهود وعبيداً وإماء.
هذه هي الحقيقة التي طمست معالم الجامعة العربية.
الجامعة العربية صارت في خبر كان، والزائل لا يرمم، والذي مات لا يقوم من الموت قبل يوم الحشر. نحن الآن في حاجة إلى جامعة عربية جديدة توجد مادة وروحاً وقوة.
الجامعة لا تكون باجتماع وفود من الدول العربية تحت رئاسة أمين عام. ما هذه جامعة. هذه جمعية لا تمثل إلا الأشخاص المجتمعين فيها. الجامعة العربية ليست الجماعة التي لا تمثل إلا أشخاصها ولا التي تمثل الدول التي أرسلتها. الجامعة العربية هي التي تمثل الأمم العربية أنفسها تمثيلاً حقيقياً بمعنى أن يجوز لكل فرد عربي أن يقول إني ممثل شخصياً في جامعة العرب (لا حكومتي بل أنا شخصياً).
الجامعة العربية الحقيقية هي التي تجمع أفراداً عرباً ينتخبهم العرب لا التي توفدهم دولهم كما حدث في الجامعة الحالية التي حبطت وأمحى ظلها.
الجامعة العربية الحقيقية هي برلمان عربي أعلى والنواب فيه يمثلون الأفراد العرب كل نائب يمثل مليوناً أو نصف مليون. ينتخبه أفراد العرب من مثقفين أكفاء خبيرين لا من ذوي الأملاك أو ذوي الثروات.
ويكون لهذا البرلمان (الجامعة العربية) السلطة العليا الدفاعية على جميع الدول العربية المشتركة فيه. وليس للدولة مهما كانت عظيمة وقوية سلطة على هذا البرلمان أو الجمعية.
يقتصر اختصاص هذا البرلمان على الإدارة الدفاعية عن جميع الدول العربية. ولهذا يجب أن تنتقل قوة الدفاع الجندية من أيدي الدول إلى يد هذا البرلمان. ولا يبقى للدولة من القوى الجندية سوى قوة البوليس وقوة الجندية (المليشيا) المحدودة اللازمة لحفظ الأمن في الدولة.
بناء على هذا يجب أن يكون تحت أمر البرلمان الدولي العربي المذكور لا أقل من ربع مليون جندي وإذا لزم الأمر فنصف مليون أو أكثر حسب اللزوم. تؤخذ هذه الجنود من الأمم العربية بالنسبة العددية المعلومة.
ثم هذا البرلمان يجبي من جميع الدول بنسبة عدد السكان المال اللازم للدفاع عن وجوهه بحيث لا يقل عن مائتي مليون جنيه. وإذا لزم أكثر فأكثر يجبيها هذا البرلمان من جميع الأمم العربية من غير اعتراض ولا تمنع أو نقاش. هذا المال هو حق للدفاع عن الأمم العربية قاطبة وهو واجب على هذه الأمم.
تكون سلطة هذا البرلمان نافذة لا مرد لها. وهو ينفذ مقتضياتها بما له من السلطة المسلحة.
يتولى هذا البرلمان سياسات الدول العربية الخارجية.
هذا البرلمان يفض خلافات الدول الدولية العربية وينفذ أحكامه بقوة السلاح.
يكتسب هذا البرلمان هذا الحق لأنه ممثل جميع الأمم العربية.
قد يعترض عليه لأن لبعض الأمم كمصر مثلاً نصف البرلمان تقريباً ولهذا تكون أحكامه متحيزة لمصر. ولتلافي هذا التحيز يختار مجلس شيوخ إلى جانبه لا يكون أعضاؤه بنسبة عدد الأهالي بل كعدد الأمم الممثلة فيه عضو أو عضوان عن كل أمة صغيرة أو كبيرة على حد مجلس الشيوخ الأمريكي.
هذا البرلمان الشامل المجلسين يعتبر (الجامعة العربية) القانونية النافعة الذي يستطيع أن يحمي ذمار العرب ويدافع عن العروبة.
هذا البرلمان سيختار قيادة الجيش العليا ومجلس أركان الحرب وهو يقرر الحرب أو الصلح. وليس لأية دولة حق التدخل بشئونه. يكفي أن يكون لكل أمة ممثلون فيه يحرصون على حقوقها وحياتها.
إذا شبت الجامعة على هذا النحو أمكن الأربعون مليون عربي أن يرغموا أنف مليون إسرائيلي أو مليونين وإلا فالمليون إسرائيلي يستعبدون الأربعون مليون عربي.
في أقل من خمس سنين يتم هذا الحلم لإسرائيل فليفتح العرب عيونهم وآذانهم قبليروا أنفسهم أمام الأمر الواقع.
في عشرين الجاري سيجتمع أعضاء الجامعة العربية لكي يفضوا هذه الجامعة ويبددوا أنقاضها فنطالبهم بما يأتي:
1 -
أن يطردوا الخونة من بينهم سواء كانوا وفوداً أو دولاً أو ممثلي دول.
2 -
عليهم أن يقدموا حساباً عن كل ما دخل إلى خزينة الجامعة تبرعاً أو اشتراكات دول - حساباً صريحاً واضحا من داخل وخارج بالتفصيل وأن يعلن في الجرائد العربية.
متى تكونت الجامعة على هذا الشكل يشرع البرلمان العربي الأعلى الذي يعتبر جامعة العرب - يشرع أن يعمل الإصلاحات المطلوبة المقترحة على اختلاف أنواعها من بنوك واقتصاديات وجمركيات و. . . الخ
هذا العمل الإنشائي يجب أن يشرع به حالاً وأن ينجز حالاً لأن اليهود لا يصبرون. فقد وضعوا عيونهم على جبال أراراط وأعالي النيل وما بينهما.
نقولا الحداد
طفيلي من الناس
ماذا سألني. . وكيف أجبته؟
للأستاذ راجي الراعي
كنت أسبح في أفق من آفاق الخيال والتفكير فخطر لأحدهم أن يتطفل على نفسي وهي تخوض عباب الأثير وينهال علي بالأسئلة. . وإليك ما دار بيننا:
- لماذا تحلم؟
- لأتعرى من الدنيا.
- ولماذا تكتب؟
- لأرهق دمي في القراطيس.
- ولماذا تنشد المجد؟
- لأنجو من سخرية النجوم.
- ولماذا ترحم؟
- لأنني أتألم.
- ولماذا تصمت؟
- لأن موجة التفكير أغرقت بياني.
- ولماذا تنظم الشعر؟
- لأن أبياته هي الأصابع التي أبسط بها يدي في الوجود.
- ولماذا تحب؟
- لأنني أحب.
- ولماذا تفكر في الغد؟
- لأنني لا أرى أمامي سواه وقد فر الأمس من يدي وأضعت يومي.
- ولماذا تدوس القبور؟
- نكاية بالموت الذي يدوس الأحياء.
- ولماذا تحاول أن تخترع؟
- لأدنو من الخالق.
- ولماذا تشمخ بجبينك؟
- لأنه نطح الأفق ولم يجرح.
- ولماذا تلجأ إلى الهيولي؟
- لأفر من هولك.
- ولماذا تأوي إلى الظلال؟
- لأتحدى الشمس.
- ولماذا تنشق الزهر؟
- لأنه سينبت في ترابي.
- ولماذا تهوى الفجر؟
- لأن فيه من (قطرات نداي).
- ولماذا تصلي؟
- لأصطلي بإيمان.
- من أنت؟
- كلمة نطقت بها الحياة.
- وما هي مهنتك؟
- حفار يحفر في نفسه ليستكشف دفينها.
- وما تلك بيمينك؟
- عصاي.
- ولمن أعددتها؟
- لأمثالك أيها الوقح الثرثار الفضولي المتطفل على هياكل النفوس المنساب بيت القلم ودواته.
ورفعت عصاي ففر الثقيل فتنفست الصعداء وقمت أخط ما وقع بيننا في هذا المقال.
راجي الراعي
القراءة وأصول الثقافة
للأستاذ إيليا حليم حنا
القراءة والحياة:
القراءة فن يربط بين الكتب والحياة ويفتح أبواب التفكير والتصور. وهي وسيلة لتوسيع عقولنا وتنمية تفكيرنا الحر وإيجاد ملكة النقد عندنا وزيادة ثقتنا بأنفسنا وبقيمة آرائنا الشخصية.
ويخطئ شبابنا المتعلم عندما يظن أن أيام الدراسة هي مرحلة القراءة والإطلاع. إننا عندما نقطع أكبر مرحلة دراسية لا نكون قد قبضنا على زمام الحياة بل نكون قد بنينا لأنفسنا أساساً صلباً يمكننا أن نثبت عليه أقدامنا لنسير في الحياة نحو الكمال حتى الشوط الأخير فيها. ولا يمكننا أن نساير روح العصر الذي نعيش فيه مرحلة عمرنا إلا بالقراءة المستمرة والوقوف على أسرار الحياة المختلفة التي يميط العلم اللثام عنها كل يوم ويظهر منها شيئاً جديداً كان مجهولاً. ويموت الشخص عقلياً عندما يقف عند حد محدود من ثمار العقل البشري ويتخلف عن قافلة زمانه الذي يعيش فيه.
والقراءة ليست غاية في ذاتها وإنما وسيلة للعيش عيشة إنسانية سعيدة عندما ننتفع بما نطالع انتفاعاً عملياً يقودنا إلى عمل متقن وحياة أفضل. ولا فائدة من القراءة التي لا نبغي من ورائها إلا حشو رءوسنا لنظهر أمام الناس أننا ملكنا ناصية العلم والثقافة
والكتاب وحده لا يصل بنا إلى النمو والنفسي إلا إذا مزجنا قراءاتنا بتأملاتنا وخبراتنا وتجاريب الغير وما يجري معنا وحولنا كل يوم وكل ما نراه في الطبيعة ويقع تحت حسنا وإدراكنا. فكل هذه كتب مفتوحة يجب ألا نهملها عندما نقرأ ونفكر. قال جو نسن: (من يتصور أن الأفكار لا توجد إلا في الكتب وأن في الكتب كل الأفكار، فما هو إلا واهم. والأفكار تجري مع الأنهار والمجاري. وتطفو على وجه البحر، وتتكسر على شواطئه، وتسكن التلال والجبال، وتسطع مع نور الشمس، وتنسدل طي أجنحة الظلام، إن الأفكار موجودة في كل مكان وزمان).
وتصديق كل ما هو مكتوب والأخذ به دون تأمل وبحث عن حقيقة دلالة على جهل القارئ وموته العقلي فالقارئ الحي اليقظ المتوثب لا يترك كتاباً دون أن يقتله دوساً وتأملاً ونقداً.
يقول جون ستوارت مل (يجب على طالب الثقافة أن يشعر بأنه حر الفكر، له أن يجاري الغير في معتقداتهم، وله أن يخالفهم فيها. عليه إذا شك في أمر أن يبحث وينقب جهده ليقف على ما يروقه ويقنعه. وعليه ألا يلقي الكلام على عواهنه، وألا يأخذه دون روية وإعمال فكر).
هذه القراءة الحية التي تقترن دواماً بالتفكير والتأمل والتجرد من أهواء النفس وعدم التعصب للعادات العامة والآراء المتواترة والعقائد الشائعة تخلق منا الإنسان الحي الكامل الذي يتأثر بثقافة عصره ويؤثر فيها بعد أن يكون قد أرضى من البحث حاجته وشفى غليله وأحس الحياة وأمعن فيها إمعاناً بانصرافه إلى التفكير والملاحظة والاستنباط.
القراءة والثقافة:
الغرض الأول من القراءة هو التهذيب الكامل للنفس وليس تعبئة الذهن بالمفردات والتراكيب أو الحقائق مستقلة منفردة. والقراءة الحية تنمي القوى والمواهب الإنسانية وترقيها. فإن ما نكسبه من معلومات ونهضمه ونجعله جزءاً من حياتنا الفكرية وتفكيرنا الخاص يكسبنا قوة ذهنية تتجه بنا نحو الإصلاح بأنواعه وتؤهلنا إلى الاندماج في مشاكل المجتمع الذي نعيش فيه وإنهاض ذلك المجتمع وتجديده، ويزودنا بقوة فكرية مهمتها البحث عن الحقيقة أي كانت والسعي لرقي الإنسان عقلياً وروحياً.
هذه هي الثقافة المنتجة التي تمكننا أن ننعم بالحياة، نسرح فيها ونمرح، ننشط ونستنبط فتنتعش قوانا العقلية وتظهر كفاياتنا المغمورة وتزهو مقدرتنا في أعمالنا أو في أي نشاط ابتكاري تغذيه ميولنا.
هذا كله فعل القراءة الثقافية المجدية التي قال عنها (بيكون) إنها تجعل العقل البشري ينطلق من عقاله لنقبل على كل مجهول ونفكر لنعيش ونعيش لنفكر.
التثقيف الذاتي:
يمكن للقارئ العربي أن يثقف نفسه لو توافر له الميل إلى القراءة المفيدة المحبوبة التي تهدف إلى غرض ثقافي واضح وليست تلك التي يقصد بها التسلية وقطع الوقت.
وقد طرق الكثير من المفكرين والفلاسفة موضوع التثقيف الذاتي فقال (لوك) للتهذيب
الذاتي ثلاثة طرق تبتدئ الواحدة من حيث تنتهي الأخرى:
الأولى: قراءة الكتب وإدراك معانيها.
الثانية: التفكير والتأمل في تلك الأفكار والمعاني.
الثالثة: التحدث مع الناس بها واختبار سقيمها من صحيحها وسليمها من فاسدها.
ويرى الفيلسوف النفساني وليم جيمس ثلاثة طرق أخرى للتثقيف الذاتي وهي:
1 -
إتقان اللغة القومية اتقاناً يمكن الفرد من التعبير عما يدور برأسه من أفكار وآراء تعبيراً صحيحاً. ويقول (باوند) عميد هارفارد في هذا الخصوص: (الرجل الذي لا تبلغ غرائزه اللغوية النضج لا يمكن أن يفكر تفكيراً متقناً أو يصل إلى نتائج دقيقة).
2 -
استيعاب ما يمكن استيعابه من أنواع المعارف المختلفة حتى يمكنه مسايرة الثروة العقلية التي وصل إليها عصره.
3 -
تكوين مبادئ وعادات تخلق منه رجلاً كاملاً خليق بما استوعب من ثقافة. ويعرض (أرنولد بنيت) اقتراحين عامين لتثقيف النفس بالقراءة وهما:
1 -
عين اتجاه جهودك ومداها وأختر فترة معينة أو موضوعاً معيناً أو مؤلفاً واحداً وقل لنفسك مثلاً: أريد أن أعرف شيئاً عن الثورة الفرنسية أو عن اختراع السكك الحديدية أو. . . وتفرغ في زمن معين لما وقع عليه اختيارك فإن متعة عظيمة تستفاد من التخصص.
2 -
فكر واقرأ في آن واحد، فإني أعرف أناساً يقرئون ويفكرون كثيراً ولا يستفيدون شيئاً. . . ذلك لأنهم يجوبون أقاليم الأدب في سيارة وكل همهم الحركة ويفتخرون بعدد ما قرءوا من كتب في العام.
ويقول (أندريه مورو): لا تهمل آراء الأجيال التي سبقتك بل يجب أن تعنى عناية خالصة بالكتب القديمة الخالدة ولنثق بما اختارته القرون السالفة من روائع الكتب، فقد يخطئ الاختيار رجل واحد وقد يخطئه جيل واحد ولكن الأجيال لا تخطئ جميعاً فشكسبير وموليير جديران بما نالا من مجد خالد على الدهر. . . ومن الضروري أيضاً أن نهتم بالكتاب المعاصرين لأننا بدون شك نجد فيهم أصدقاء يشعرون بما نشعر ويحتاجون لما نحتاج إليه).
فيما تقدم آراء مختلفة تصلح جميعاً أن يعمل بها للتثقيف الذاتي وأرى بالإضافة إليها أن
تدرس كاتباً من كبار الكتاب المعاصرين وتتابع مؤلفاته وآراءه ثم تدرسها دراسة وافية فإنك ترتقي معه ذهنياً وتصل إلى مستواه وتقف على أساليب التفكير المنظم في جيلك. وبذلك تكتسب عصارة قلبه وفكره وتفكر مع إنسان يحسن التفكير ولكن لا يجب أن تنساق معه بدون تفكيرك الحر. حاول أن توسع دائرة اطلاعك واجعل ما أنتجه المفكرون أساساً لتكون لك رأياً على ضوئه. وبذلك قد تكتشف نقصاً تكمله في رسالة زميلك الكاتب فتعلو عليه في هذا الزاد العقلي وترقى بالإنتاج الثقافي.
فند آراء كبار الكتاب وحللها وقارن بين ما احتوت عليه مؤلفاتهم. ولا تكتفي بهذا، بل كرس جهودك في ناحية من نواحي الثقافة وأقتلها بحثاً وتمحيصاً وتتبع جميع ما يكتب عنها في اللغات التي تعرفها. ولكن مع هذا لابد أن تعرف أشياء كثيرة دون أن تتعمق فيها.
القراءة للاستلهام والابتكار والاختراع:
هذه هي أرقى أنواع القراءة التي تعمل عملها العظيم في حياة الفرد والمجتمع وتدفع الأمة نحو حضارة أرقى بما يدفع هذه القراءة البارعة من التفوق العلمي والأدبي والروحي.
ويقبل على هذه القراءة أصحاب العقول الممتازة الذين يرون مع الفيلسوف العالم (إسحاق نيوتن): (إن الناس مع كل ما بلغوه من المعرفة وتوصلوا إليه من الاكتشافات، ليسوا إلا أولاداً صغاراً يلتقطون الأصداف والأعشاب التي ينبذها ويقذف بها بحر الحقائق وخضم المجهولات من حين إلى آخر).
ويؤسفنا أن المضمار العلمي عندما يخلو من مثل هذا القارئ العبقري ونسأل أنفسنا ما الذي جعل الاختراع والاستنباط والتفوق العلمي وقفاً على أبناء العرب! ليس السبب في عقولهم أو ذكائهم ولكن لأنهم عرفوا لذة القراءة وانغمسوا فيها وجعلوا شعارهم (اقرأ وفكر وأعمل) فمكنهم ما اكتسبوه من محصول من فهم العالم الذي حولهم وضبطه والكشف عن قوى الطبيعة المجهولة وإخضاعها لفائدة البشر. وهؤلاء القراء البارعون هم حملة المشاعل في الأمم النواهض واجبهم ملائمة التطور والعون على التقدم والسبق.
والقارئ العبقري يقرأ ويهضم ويفكر ويجرب ليستخلص شيئاً جديداً يضيفه إلى تراثنا وحضارتنا ويعمل على تغيير حياتنا وتكييفها. وكلما أكثر من هذه القراءة المركزة المنظمة كلما وجد نفسه يقترب من هدفه فيزداد تفكيراً. وأثناء حرارة التفكير والانغماس فيه بعقله
وكل حواسه تنقدح في ذهنه الأفكار الملهمة فيزداد محصوله العقلي ويزداد هو استحواذاً على العالم الخارجي واندماجا في حياته العقلية.
ومثل هذا القارئ يتبع في قراءته طريقة التفرغ والاستيعاب أي طريقة أخذ الشيء والتمكن من كل جزء من أجزاءه فتظل أفكاره في حركة دائمة تتحرك حول غرض عملي واضح فتتحرك هذه الأفكار إلى ملكة. يقول (هربرت سبنسر): المعرفة لا يكاد يعيها الواعي حتى تتحول عنده إلى ملكة، وتظل بعدها تعينه على التفكير عامة. ويأخذ هذا القارئ المفكر ينمو في نشاطه العقلي يبني المقدمات بالخبرة والمشاهدة والاستقراء والقياس حتى يصل إلى النتائج التي يهدف إليها.
وهذه القراءة المركزة المنظمة السبب القوي في توجيه حياة الأفراد الممتازين إلى نواح معينة وحفزهم لتحقيق غايات جليلة سامية عاد عليهم تحقيقها بالصيت الخالد والجاه والثروة. وأذكر على سبيل المثال أمثلة حية خالدة لما توحي به القراءة عندما تقترن بالتفكير العميق واليقظة المستمرة والرغبة القوية وتحديد الهدف وحشد الجهود.
اشترى لورد كلفن كتاباً عن الحرارة تأليف عالم طبيعي اسمه (فورييه) وانغمس في قراءته واستيعابه. فكان لهذا الكتاب أكبر الأثر في حياة الرجل بما أوحى إليه من الاختراعات.
وقرأ (بت) كتاب (ثروة الأمم) تأليف (آدم سمث) فاستطاع أن يرسم للأمة الإنجليزية سياستها الاقتصادية الرشيدة في وقته. وقرأ (سسل رودس) كتاب (الإمبراطورية الرومانية)، تأليف (جبون) فذهب إلى أفريقية يوسع نطاق الإمبراطورية البريطانية.
وقرأ (فورد) مقالا في مجلة عن العربات التي لا تجرها الخيل؛ فأوحى إليه هذا المقال بالتفكير في صنع السيارة ودأب على تحقيق هذا الحلم الجميل حتى كان له ما أراد.
كل من هؤلاء عرف كيف يستفيد مما يقرأه، وهضم ما قرأه فأصبح جزءاً من كيانه العقلي وحجراً أساسياً لابتكار أو خلق أو عمل شيء جديد.
والأديب الفنان كالمخترع ورجل العلم يقرأ للابتكار والاستلهام وليس ليشبع جشعه الثقافي فقط؛ بل لتوحي إليه الفكرة المقروءة بفكرة جديدة، وهو في قراءته يحلق في الآفاق العليا منطوياً على نفسه، ولا يتقيد بمكان وزمان بالغاً المكانة التي يستشرف منها للإلهام ويتعرض فيها بروحه وبصيرته لنبضات الوحي فيمزق حجب الأشياء وينفذ تواً إلى
صميمها، ويصل إلى أعمق الأغوار من الفكر الإنساني الأصيل.
هكذا يقبل القارئ الأديب على القراءة لتفتح لذهنه آفاقاً جديدة فتنهال عليه الخواطر التي تضطرب في نفسه وتريد أن تظهر، وتملأ قلبه وتريد أن تفيض، وتكرهه على أن يأخذ القلم ويسجل ما تمليه عليه تلك الأصوات الخافتة التي يسمعها داخل عقله وقلبه ويلمسها بإحساسه المرهف في جوه السحري الصامت. إنه لا يقرأ لينقل ولكن ليحس نبضات الفن والإلهام والبصيرة.
(أسيوط)
إيليا حليم حنا
مدرس أول للغة الإنجليزية والآداب
مدرسة النهضة الوسطى: الأبيض - سودان
صور من الحياة
يقتل أخاه. . .!
(مهداة إلى الأستاذ كامل محمود حبيب)
للأستاذ عمر عودة الخطيب
درج الناس في القرية على أن يستقبلوا صباح اليوم الأول من العيد في المقبرة، فيزوروا الأموات قبل الأحياء، ويضعوا على قبورهم أكاليل الزهر، وفروع النخيل، وباقات الورد، ويواسي بعضهم بعضاً، ويخفف الخلي مصاب الشجي، ويجفف القريب دمع القريب. . . وذهبت صباحاً مع القوم، وبدأت بزيارة ذوي القربى والأصحاب، أقرأ للجميع آيات من القرآن، وأستلهم الله لهم الرحمة والرضوان، وما لبثت أن فوجئت - خلال تطوافي - بصيوان كبير فوق ضريح أبيض قد ازدان بالأقمشة الحريرية الزاهية والورود، كأنه عروس مجلوة ليلة الزفاف وقد تدلت على صدرها أجمل العقود، وكما يزدان رأس العروس ووجهها بالأصباغ والعطور، قد أفعم رأس هذا القبر بأوراق الآس وأكمام الزهور، فوقفت - من بعيد - أنظر إلى هذا القبر، وقد استهواني ما فيه من بهرج وزينة، ألهاني عما يعاني ذووه من حزن ولوعة، فسألت صاحبي عن أهل هذا الميت، ولم يخامرني ريب في أنها (عروس تزف إلى قبرها)، وقد أقام لها أهلها وزوجها المفجوع هذا المأتم الحافل، وهذا الزفاف الباكي. . . أو خيل إلي أن هذا صنيع حبيب رزئ قبل العيد بحبيبته. . . أنس نفسه، وروح فؤاده. . . فدعاه الهوى - والهوى ذو أعاجيب - إلى ما أرى من عناية وتكريم، ولم يفته أن يهدي إلى القب - برهاناً على وفائه وصدق حبه - أجمل الورود وأشذى العطور، إذ فاته أن يضع بين يدي حبيبته أزهى الثياب وأروع الحلي. . . وكادت عيني تبض بقطرات من الدمع، حزناً وأسى، لولا أن صاحبي أخذ بيدي قائلاً: هلم نزور هذا الضريح ونواسي هؤلاء المحزونين! وانحدرت معه إلى الصيوان، فرأيت - على جوانبه - نسوة نائحات، ورجالا باكين، ولفت نظري أن الجمع - وكان كثيراً - كان يبكي بحرقة لاعجة وحزن شديد. . . وليسوا كلهم أهلا للميت أو إخواناً له، فاعتراني خشوع ملك علي نفسي، وهز ما بين جوانحي، فعالجت دمعي فلم يذرف، فجلست ساكتاً مطرق
الرأس، أستمع - بحزن صامت - إلى هذا النواح المتواصل، وهذا البكاء الطويل، ورأيت - والله - أن هذا الدمع الغزير، يغسل من النفس أوزارها، ويشيع فيها الصفاء والنور، ويجعلها بيضاء نقية، وادعة كالحمل، عذبة كالماء، جميلة كالزهر، فواحة كالعطر. . . ونظرت بعيداً بعيداً. . . إلى ما وراء الأبد. . . وقلت لنفسي: لو أن هذا الإنسان القاسي الذي يسعى للمال الكثير والجاه الوفير، والسيطرة والطغيان، متخذا لذلك أعنف الأسباب وأقسى الوسائل. . . لو أنه يختلف كل أسبوع، أو كل شهر، إلى هذه المقابر، ليتلقى منها دروس الرضى والقناعة، والمحبة والصفاء. . . لكن هذا الضجيج، وهدأ هذا العجيج، وعاش الناس سعداء هانئين، تظللهم المحبة، ويرفرف عليهم السلام. . .
ووثب إلى ذهني حينذاك جواب ذلك الفيلسوف الصيني العظيم (كونفوشيوس) حين كتب إليه بعض تلاميذه: (إني أرى للناس أخوة وليس لي أخ)! فأجابه بقوله: (إن الإنسان الكامل ينظر إلى جميع من يسكنون بين المحيطات الأربعة كما لو كانوا اخوته. . .)
قلت لنفسي بعد أن رددت هذا الجواب كثيراً: لو أن الناس جميعاً كانوا هكذا لاختفت من الدنيا هذه الحروب، وانطوت - إلى الأبد - هذه المآسي والكروب. . . ووثبت إلى ذهني - مرة أخرى - محاورة ممتعة بين (بوذا) وتلميذه (برنا)، تصور ما كان يحويه هذا من نفس طيبة، وخلق كريم، وتسامح عظيم، وحب للإنسانية، ورحمة لها وعطف عليها:
بوذا: إنك يا برنا مسل إلى شعب غضوب قاس متوحش سفيه، فلو أنهم بادروك بالسب واللعن، فماذا يكون رأيك فيهم؟
برنا: أرى إنهم أناس طيبون، لأنهم شتموني ولم يضربوني بيد ولا بحجر!
- فإن ضربوك بيد أو حجر؟
- أرى إنهم أناس طيبون، لأنهم ضربوني باليد أو الحجر، ولم يضربوني بعصاً ولا بسيف!
- فإن ضربوك بالعصا أو بالسيف؟
- أرى أنهم أناس طيبون، لأنهم ضربوني بالعصا أو بالسيف ولم يقضوا على حياتي!
- فإن قضوا على حياتك؟
- أرى أنهم أناس طيبون رحماء، لأنهم خلصوا روحي من هذا الجسم المليء بالأدناس
بأقل ما يمكن من الألم!
- هذا حسن يا برنا! وإنك لخير من يستطيع أن يعاشر تلك الشعوب البربرية. . . اذهب يا برنا فإنت الخالص فخلص غيرك وأنت المعزي، فعز غيرك، وأنت الواصل إلى النرقانا، فاذهب وادع إليها الآخرين!
وانصرفت بهذه الوثبات الذهنية عمن حولي، ولم أعد أبصر التياع الباكين والباكيات، أو أسمع صوت النائحات الحزينات، ولم يردني إلى الواقع الدامع، إلا امرأة معفرة الوجه بالتراب، ممزقة الثياب والحجاب، يمشي خلفها شاب دامع العينين، قد اتشح بالسواد، فجثا على أحد جانبي القبر يبكي ويمرغ به وجهه، وجثت المرأة على الجانب الآخر تنتحب وتولول، وكان مشهداً محزنا رأيت فيه عيني تسحان بالدموع. . وبعد قليل رأيت المرأة وقد غابت عن وعيها، وفقدت صوابها، ونظرت إلى ذلك الشاب بعينين دامعتين جاحظتين قد اختلطت فيهما نار الحقد بدموع الأسى. . . ونهضت إليه، وأهوت بيدها عليه تضربه، وهو ساكت ساكن لم يرفع بصره إليها، ولم يحاول أن يفر من أمامها، ونظرت إلى صاحبي ومن حولي، فإذا بهم جميعاً يبكون، وألسنتهم تتمتم قائلة:(لا حول ولا قوة إلا بالله. . .)
أخذت بيد صاحبي ونهضت والدهشة ملء نفسي، والألم يحز في فؤادي، ولم يغب عن فكري أنها مأساة باكية، بيد أني لم أفهم منها شيئاً، وبقيت صامتاً أمشي بين القبور رويداً رويداً وأبو العلاء يصيح في أذني:
سر إن أسطعت في الهواء رويداً
…
لا اختيالا على رفات العباد
رب لحد قد صار لحداً مراراً
…
ضاحك من تزاحم الأضداد
وما إن ابتعدت عن المقبرة، وغاب عن بصري مرأى الصيوان، وانقطع عن سمعي صوت البكاء والنواح حتى التفت إلى صاحبي قائلا:
- يبدو أن ما رأيته فصل محزن من مأساة دامعة وقصة باكية:
فتنهد صاحبي وجفف بمنديله دموعه. . . ثم قال:
- لعلك - يا صاحبي - لم تشهد من هذه المأساة إلا أقل فصولها ألماً، وأيسرها حزناً. . . أتذكر - يا صاحبي - ذلك الشاب الوادع الهادئ الظريف الذي كان يملأ المجالس أنسا وصفاء، والذي كان زهرة عطرة بين أترابه، ونجمة لامعة بين أصحابه. . . جميل؟
وسكت صاحبي ثم قال: نعم. . . جميل الذي. . .
فقاطعته قائلا كان زينة القرية وبهجتها، وأنسها وأمنيتها، ماذا أصابه؟!
فقال وكأنه يتحاشى النبأ:
- أسفاً على شبابه الغض! هو - يا صاحبي - هو. . . (القتيل) الذي رأيت على قبره الصيوان والأحزان. . . وتلك التي رأيتها تولول وتنوح (أمه)، وذلك المتشح بالسواد الذي كانت تضربه فل يتحرك هو (أخوه)!
- قتيل. . . ومن القاتل؟!
وهنا تململ صاحبي وهمس بأذني والدمع قد بلل وجهه:
- حقاً إنها مأساة! لقد قتل (أخوه). . . يا صاحبي!
- وكيف قتله ولماذا؟!
- ذلك هو حكم القدر!
وهنا تمثل لي (بوذا وبرنا وكونفوشيوس) باكين محزونين، يلقون على هذه الإنسانية نظرة إشفاق ورثاء، وقد نظر كل واحد منهم إلى صاحبه - والألم يمض نفسه - كمن يذكره بمصير تعاليمه، ومآل مبادئه. . .
ولقد أثار حديث صاحبي كوامن الألم في نفسي، والأسى في لبي. . . فقلت: عليه رحمة الله، ولم أشعر - قبل أن أترك يد صاحبي إلا ولساني يتلو قوله تعالى:
(وأتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين. إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين).
(دمشق - المزة)
عمر عودة الخطيب
من ظرفاء العصر العباسي:
أبو دلامة
توفي سنة 161 هـ
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
- 4 -
وما ترك المنصور أبا دلامة يتدلل محققاً له كثيراً من رغباته إلا لأنه كان يحب العبث به وسماع نوادره، ولا يريد أن ينقطع عنه: بل كان يحاول أن يجعله قريباً منه في مقره. وكان كلما سأل عنه قيل له: أنه في بيوت الخمارين لا فضل فيه. فعاتبه على انقطاعه عنه. فقال أبو دلامة: إنما أفعل ذلك خوفاً أن تملني. فعلم أنه يحاجزه فأمر الربيع أن يوكل به من يحضره الصلوات معه في جماعة في الدار. فلما طال ذلك عليه قال:
ألم تريا أن الخليفة لزَني
…
بمسجده والقصر مالي وللقصر!
فقد صدني عن مسجد أستلذه
…
أعللُ فيه بالسماع وبالخمر
وكلفني الأولى جميعاً وعصرها
…
فويلي من الأولى وعولي من العصر
أصليهما بالكَرْه في غير مسجدي
…
فما لي من الأولى ولا العصر من أجر
يكلفني من بعد ما شبت توبةً
…
يَحطُ بها عني المثاقيل من وزري
لقد كان في قومي مساجدُ جمةٌ
…
ولم ينشرح يوماً لغشيانها صدري
ووالله مالي نية في صلاته=ولا البرُ والإحسان والخير من أمري
وما ضره - والله يغفر ذنبه=لو أن ذنوب العالمين على ظهري؟
فبلغته الأبيات فقال: صدق، ما يضرني ذلك، والله لا يصلح هذا أبداً، فدعوه يعمل ما يشاء.
وقد لا ترضى عن هذا التساهل صادراً من الخليفة المنصور، إذ تراه يدع أبا دلامة وشأنه فلا يعاقبه على تهاونه بشعائر الدين أو على اعترافه بشرب الخمر وإتيان المنكر: ولكنك تغفر للمنصور كثيراً من تساهله إذا حاولت أن تعرف كيف كان فهمه لأبي دلامة: كان يفهمه على أنه مخلوق لابد منه ليسد في هذه الدنيا فراغاً لا يسده إلا أمثاله من الظرفاء، وأن هؤلاء كثيراً ما يطغى هزلهم على جدهم فليس من الحكمة أن تحمل كل بادرة منهم
محمل الجد، وإلا لخرست ألسنتهم فما تنطق، وسكنت حركاتهم فما تداعب، وانطووا على أنفسهم فما يضحكون ولا يضحكون: وبذلك نفقد هذا العنصر من المرح الذي لا نكاد نجده على حقيقته إلا لديهم، والذي ننظر بدونه إلى الحياة بمنظار أسود كئيب.
ولا ريب أن المنصور لم يلز أبا دلامة بمسجده في القصر لمجرد حمله على الصلاة، وإنما أراد قبل كل شئ - كما أفهم - أن يظفر منه بين الحين والحين بشيء من نكاته الظريفة، ومداعباته اللطيفة. حتى إذا وجد أن إلزامه بالصلاة في مسجده سيرهقه من أمره عسراً حتى ليوشك أن تغيب بديهته الحاضرة، وترقد دعابته اليقظة، عاد يعفيه من ملازمة الجماعة؛ ويقال في رواية أخرى أنه أحلفه أن يصلي في مسجد قبيلته.
بيد أن دلال أبي دلامة على المنصور ولطف محله منه لم يحولا دون تطبيق حكم الشرع عليه أحياناً وإن كان هذا التطبيق مشوباً بشيء من التساهل وقابلاً للتعديل السريع: شرب أبو دلامة في بعض الحانات فسكر وانصرف وهو يميل. فلقيه العسس فأخذوه وقيل له: من أنت وما دينك؟ فقال:
ديني على دين بني العباس
…
ما خُتم الطينُ على القرطاس
إني اصطحبت أربعاً بالكأس
…
فقد أدار شربها برأسي
فهل بما قلت لكم من بأس؟
فأخذوه ومضوا، وخرقوا ثيابه وساجه وأتى به أبو جعفر المنصور - وكان يؤتى بكل من أخذه العسس - فحبسه مع الدجاج في بيت. فلما أفاق جعل ينادي غلامه مرة وجاريته أخرى فلا يجيبه أحد، وهو في ذلك يسمع صوت الدجاج وزقاء الديوك. فلما أكثر قال له السجان: ما شأنك؟ قال: ويلك من أنت وأين أنا؟ قال: في الحبس وأنا فلان السجان. قال: ومن حبسني قال: أمير المؤمنين. قال: ومن خرق طيلساني؟ قال: الحرس. فطلب منه أن يأتيه بدواة وقرطاس ففعل، فكتب إلى أبي جعفر:
أمير المؤمنين فدتْك نفسي
…
علام حبستني وخرقت ساجي؟
أمن صفراء صافية المزاج
…
كأن شعاعها لهب السراج؟
وقد طبخت بنار الله حتى
…
لقد صارت من النُطف النضاج
تهشُ لها القلوب وتشتهيها
…
إذا برزت ترقرقُ في الزجاج
أقاد إلى السجون بغير جُرمٍ
…
كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حُبستُ لكان سهلاً
…
ولكني حبست مع الدجاج
وقد كانت تخبرني ذنوبي
…
بأني من عقابك غيرُ ناجي
على أني وإن لاقيت شراً
…
لخيرك بعد ذاك الشر راجي
فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقي معهن حتى أصبحت. فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال له الربيع: أنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين. أما سمعت قوله (وقد طبخت بنار الله) - يعني الشمس - فأمر برده ثم قال: يا خبيث شربت الخمر؟ قال: لا. قال: أفلم تقل (طبخت بنار الله) تعني الشمس؟ قال: لا والله ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرض.
فقد رأيت - في هذه القصة - أن المنصور أراد أن يطبق حكم الشرع على أبي دلامة، فعزره على شرب الخمر بالحبس، ولكنه لم يشأ أن يحبسه مع الناس، وأنما ابتكر له سجناً مع الدجاج لعله يسمع منه كلمة تضحكه: فالخليفة كان يتنازعه عاملان: عامل الدين الذي يأمره بمساواة نديمه بغيره من الناس في كل حكم شرعي، وعامل المنادمة الذي يدخل السرور عليه كلما أطلق العنان لأبي دلامة: ولعل العامل الثاني كان أغلب على المنصور مع مثل هذا الظريف.
وإذا كنا قد أطلنا الحديث على نوادر أبي دلامة مع المنصور فلأنه حضر خلافته كلها - وقد دامت اثنتين وعشرين سنة - وكان مقرباً منه، مكرماً لديه. حتى إذا توفي أبو جعفر وبويع بالخلافة من بعده لابنه المهدي ثم علم أبو دلامة بقدومه من الري سارع إليه فورد عليه بغداد وأنشده:
إني حلفت لئن رأيتك سالماً
…
بقرى العراق وأنت ذو وفْر
لتصلينَ على النبي محمَد
…
ولتملأن دراهماً حجري!
فقال: صلى الله عليه وسلم، وأما الدراهم فلا. فقال له: أنت أكرم من أن تفرق بينهما ثم تختار أسهلهما. فأمر بأن تملأ حجره دراهم.
وقد لا تحمد لأبي دلامة مسارعته إلى المهدي - بعد وفاة أبيه - وإنشاده هذين البيتين
اللذين لم يزد فيهما على أن طلب المال بأسلوب طريف، وترى أن قد كان جديراً به أن يعزيه بوفاة أبيه ويهنئه بالخلافة ثم يؤخر مسألته إلى وقت أكثر ملائمة ومناسبة: لكنك تعذر أبا دلامة متى علمت أنه ورد على المهدي بعد مضي زمن غير قصير على وفاة المنصور فأعفى نفسه من التذكير بما طوته الأيام لئلا يكون كمن ينكأ الجرح بعد اندماله؛ ثم إن له من حب المهدي ما يشفع له، فكثيراً ما كان يداعبه - وأحياناً ما كان يعذبه - في حياة أبيه؛ وقد قالوا - وصدقوا -: من لم يوقرك صغيراً لا يوقرك كبيراً.
فأبو دلامة أراد أن يذكر المهدي حين قدم عليه لأول مرة بما كان بينهما في حياة أبيه من دعابة ومزاح ليحتفظ عنده بما كان له من مكانة، وليستشعر بنفسه مدى موقف الخليفة الجديد من ظرفه وهزله، فإن غيرته الخلافة فعبس في وجهه لزم صاحبنا الصمت ووجد الخير فيه، وإن بقي على مرحه وأنسه به زاده من المداعبة ألواناً وظل نديمه الظريف.
ولتهنأ يا أبا دلامة، فما قطب لك المهدي وجهاً، ولا غل عنك يداً، ولا رد لك طلباً، بل ملأ حجرك دراهم منذ أول يوم قدمت فيه!
وكان هم أبي دلامة الأكبر أن يكسب بمنادمته كثيراً من المال: ويأخذه في قصر الخليفة منه ومن أقربائه وممن يتردد على الخليفة من الأمراء والوزراء، بل كان يأخذه من الموالي أنفسهم؛ فإن أمسك أحد منهم يده عنه تنادر به ليفضحه!
دخل على المهدي وبين يديه سلمة الوصيف واقفاً، فقال: إني أهديت إليك يا أمير مهراً ليس لأحد مثله، فإن رأيت أن تشرفني بقبوله. فأمره بإدخاله إليه. فخرج وأدخل إليه دابته التي كانت تحته، فإذا به برذون محطم أعجف هرم. فقال له المهدي: أي شيء هذا ويلك! ألم تزعم أنه مهر؟ فقال له: أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف! فإن كان سلمة وصيفاً فهذا مهر! فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة: ويلك! إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بها في محفل فضحك. فقال أبو دلامة: والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين؛ فليس مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك. قال سلمة: قد فعلت على أن لا يعاود. فقال المهدي لأبي دلامة: ما ترى؟ قال: افعل، فلولا أني ما أخذت منه شيئاً قط ما فعلت منه مثل هذه فمضى
سلمة فحملها إليه.
فأنظر كيف لم يرض أبا دلامة إلا حمل سلمة ألف درهم إليه كانت أشبه بضريبة لم يستطع أن يتخلص منها أحد من موالي الخليفة فكيف بأهل بيته وذوي قرباه؟
وقد صرح الظريف في هذه القصة بأنه لولا أنه ما أخذ من سلمة شيئاً قط ما تنادر به، ففي هذا إنذار لكل من يدخل قصر الخلافة سيداً كان أو مولى بأنه معرض للفضيحة إذا هو لم يرضخ شيئاً لأبي دلامة!
فما كان أعجب هذا الظريف!
(يتبع)
صبحي إبراهيم الصالح
من صور النكبة:
رقية. . .
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
تدلَت عن الأفق أم الضياء
…
ملفعَةً باصفرار كئيبِ
وقد لملمت عن صدور الهضاب
…
وهام التلال ذيول الغروب
وجرَت خطاها رويداً رويداً
…
وأومتْ إلى شرفات المغيب
فأطبقن دون رحاب الوجود
…
وأغرقنه في الظلام الرهيب
وغشَى الدجى مهجات نبضن
…
بشوق الحياة، بوهج اللهيب!
وأخرى تلاعب ثلج السنين
…
بها فخبت في حنايا الجنوب!
وأوغل في حاليات القصور،
…
وأوغل في كل كوخ سليب
فمدَ الجناح على بسمات الشفاه،
…
وفوق جراح القلوب
وضمَ السعيد بأحلامه،
…
وضمَ أخا البؤس نِضْو الكروب
وفي وحشة الليل، ليل المواجع،
…
ليل المواجد، ليل الهموم
وللريح ولولة في الشعاب
…
وللرعد جلجلة في الغيوم
وللبرق خفق توالى دراكاً
…
يشق حجاب الظلام البهيم
بدا (جبل النار) ترب الخلود
…
له روعة الأزليِ القديم
تعالى أشمَ أمام السماء
…
يجاذب منها حواشي الأديم
كأنَ ذراه رُفعن هناك،
…
على الأفق، متكأ للنجوم
وكان وراء غواشي الدجى
…
رهيب السكون عميق الوجوم
تحسُ به رجفة الكبرياء
…
الجريحة والعنفوان الكليم
وفي قلبه النار مكبوتة الزَفير،
…
فيا للهيب الكظيم!
هنالك، في سمح مهد البطولات،
…
والمجد، والوثبات الكُبَرْ!
هنالك، تحت الضباب المسفِ
…
والأرض غرقى بدفق المطر
كأن الرحاب العلى بعيون
…
السحائب تبكي شقاء البشر. . .
هنالك ضمَ (رُقيَة) كهفٌ
…
رغيب عميق كجرح القدر
تدور به لفحات الصقيع
…
فيوشك يصطك حتى الصخر
وتجمد حتى عروق الحياة
…
ويطفأ فيها الدم المستعر
(رقية)؛ يا قصة من مآسي
…
الحمى سطرتها أكفَ الغير
ويا صورة من رسوم التشرد،
…
والذل، والصدعات الأخر. . .
طغى القُرُ، فإنطرحت هيكلاً
…
شقيَ الظلال، شقيَ الصور!
تعلَق شيءٌ كفرخ مهيض
…
على صدرها الواهن المرتعدْ
وقد وسَدت رأسَه ساعداً
…
وشدَت بآخر حول الجسد
ولو قدرت أودعته حنايا الضلو
…
ع، وضمَت عليه الكبد!
عساها تقيه بدفء الحنان
…
ضراوةَ ذاك المساء الصَرِد
وعانقها وهو يصغي إلى
…
تلاحق أنفاسها المطَرِد
وكانت خلال الدجى مقلتاه
…
كنجمين ضاَءا بصدر الجلد
تشعَان في قلبها المدلهمُ
…
فيوشك في جنبها يتَقد
وغمغم: أُمَ، وراحت يداه
…
تعيثان ما بين نحرٍ وخد
فأهوت على الطفل تشتمُ فيه
…
روائح فردوسها المفتقد
وفي مثل تهويمة الحالمين
…
وغيبوبة الأنفس الصَافيه
أطلَت على أفق الذكريات
…
وفي عمقها لهفة ظاميه
تعانق بالروح طيف الديار
…
وتلثم تربتها الزاكيه
وتبصر في سبحات الخيال
…
ملاعبها الرحبة الحانيه
وأفياَءها الدافئات وتلك الدهاليز
…
في الروضة الحاليه
ومن ههنا ظّلة الياسمين
…
ومن ههنا ظّلة الداليه
وإلفُ الحياة يُشيع الحياة
…
بأجواء جنَها الهانيه
فيا دار ما فعلته الليالي
…
بأشيائك الحلوة الغاليه؟
وربُك. . . كيف تهاوت به
…
يدُ البغي والقوة الجانيه!
ومرَ على قلبها طيف يومٍ
…
دجيِّ الضحى، عاصف مربد
وقد نفرت في جموح الإباءِ
…
نسور الحمى للحمى تفتدي
دعاها نفير العلى والجهاد
…
فهبَت خفافاً إلى الموعد
تذود عن الشرف المستباح
…
وتدفع عنه يد المعتدي
وتقتحم الهول مستحكماً
…
وتسخر باللهب الموقد
فتنقضُ مثل القضاء المتاح
…
وتهبط كالأجل المرصد
وليست تبالي وجوه الردى
…
كوالح في الموقف الأربد
فياللحِمى! كم حميٍ أبيٍ
…
تجدَل فيه. . . وكم أصيد!
أباحوا له المهج الغاليات
…
وأسقوا ثراه دم الأكبد
وطالعها في رؤى الذكريات
…
فتاها، نجيُ العلى والطماح
إباء الرجولة في بردتيه
…
وزهو البطولة ملء الوشاح
يشدُ على الغاصب المستبد
…
ويضرب دون الحمى المستباح
ويلقى عراك المنايا وجاهاً
…
ويكتسح الهول أيَ اكتساح
وتعرف منه الوغى كاسراً
…
قويَ الجناح عنيد الجماح
يخط على صفحات الجهاد،
…
سطور الفدا بدماء الجراح
نبيل الكفاح إذا الخصم راغ
…
ومن شرف الحرب نبل الكفاح
فيا من رأى النسر تجتاحه
…
وتلوي به بغتات الرياح
تهاوى صريعاً وأرخى على
…
حطام أمانيه ريش الجناح!. . .
وفاضت لواعجها، لا أنيناً
…
جريحاً، ولا عبرة زافره
ولكن ذعافاً من الحقد والبغض والضغن والنقم الغامره!
متى يشتفي الثأر؟ يا للضحايا
…
أتهدر تلك الدماء الطاهره
ويا للحمى! من يجيب النداَء
…
نداَء جراحاته النافره
وقد أغمد السيف، لا رد حقاً
…
ولا أطفأ الغلة الساعره
تململ في حضنها فرخها
…
فضمته محمومةً ثائره. .
ومالت عليه وفي صدرها
…
مشاعر وحشيةٌ هادرة. .
لترضعه من لظى حقدها
…
ونار ضغائنها الفائره. .
وتسكب من سم خلجاتها
…
بأعماقه دفقةً زاخره!.
هنا (جبل النار) كان يطوَف
…
حُلمٌ بأجفانه الساهره
تغاديه فيه طيوف نسورٍ
…
تغلَ بأفق العلى طائره
مخالبها راعفات. . . وملء
…
جوانحها نشوة ظافره. .
وبرد التشفيَ بثاراتها
…
وراء مناسرها الكاسره
(نابلس - جبل النار)
فدوى عبد الفتاح طوقان
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
مقاومة الفكرة بالفكرة في المبادئ الهدامة:
من رأي معالي مصطفى مرعي بك وزير الدولة أن مقاومة الفكرة بالفكرة هي أنجع الوسائل في سبيل القضاء على المبادئ الهدامة. . . ذلك لأن التربة الصالحة لنمو الأفكار المنحرفة هي رؤوس الطبقة المتعلمة قبل الطبقة الجاهلة؛ فإذا حاربنا تلك الرؤوس بنفس السلاح الذي تلجأ إليه، كان ذلك أجدى على طلاب الحقيقة سواء أكانوا من الداعين إلى الانحراف والساعين إلى الخراب، أم كانوا من هواة التصديق الذي يعقبه التصفيق لكل رأي جديد يغرقهم في تيه من المظاهر الخداعة!
الحجة بالحجة والفكرة بالفكرة والدليل بالدليل، وتلك هي الأضواء الثلاثة التي يجب أن تسلط على الأوكار الفكرية التي يعيش أصحابها في الظلام. . . رأي يحمل كثيراً من الصواب ما في ذلك شك؛ لأننا لو جندنا بعض الأقلام لمثل تلك الغاية لأتينا بخير النتائج ولظفرنا بالكثير، ولأزهقنا باطل الدعاة حين يذيعون على الملأ أننا قد لجأنا إلى منطق الإرهاب في محاسبتهم حين عجزنا عن منطق الإقناع. . . وتلك نغمة خبيثة يرددها اليوم أعداء النظام كما كان يرددها بالأمس أعداء الإسلام، حين نادوا بأن الدين الجديد قد فرض على خصومه بقوة السيف لا بقوة الدليل والبرهان!!
نحن مع وزير الدولة في هذا الرأي الصائب الذي يدعو إليه. . . وإنه لمن أيسر الأمور أن ندلل على فساد بعض المبادئ وفساد العقول التي تؤمن بها عن غير رؤية ولا تفكير، وتتخذها في بعض الأحيان تجارة لتصل من ورائها إلى كثير من الأغراض! ولكن لابد لذلك من حملة تجند لها القوى الفكرية ولابد للحملة من هيئة تشرف عليها في شتى السبل والميادين، ولا بأس من أن تخصص وزارة من وزارات الدولة لهذا الهدف وحده دون سواه. . . هناك كتب تكشف عن مساوئ الشيوعية وتزيح عن وجهها الدميم كل نقاب، فلم لا يعهد إلى بعض الأقلام بترجمة هذه الكتب لتوزع على طبقات الشعب بالمجان؟ تلك هي إحدى الوسائل المثلى ليطلع الناس على تصوير الأفكار المنحرفة تصويراً صادقاً، يكون بالنسبة إليهم كالأمصال الواقية من جراثيم المبادئ الهدامة!. . .
قد يعترض معترض بأن هناك لوناً من الاستحالة المادية في طبع الملايين من الكتب لتوزع على الملايين من الأفراد، فضلاً عن التكاليف الباهظة التي ترهق الميزانية وفضلاً عن الوقت الطويل الذي ينفق في سبيل الترجمة والمراجعة والنشر. . . إذا تحقق شئ من هذا فلا بأس من التلخيص والتركيز لنقدم إلى الشعب فصلاً صغيرة تقوم مقام النشرات، وعندئذ ينتفي الاعتراض إذا ما تفادينا إضاعة الوقت والجهد والمال!
وهناك فضلاً عن ذلك ميادين الصحافة اليومية والأسبوعية ومحطة الإذاعة اللاسلكية؛ ففي تلك الميادين تستطيع وزارة الدولة أن تكرس الجهود عن طريق المقالات والمحاضرات، لتغلق كل نافذة يمكن أن تهب منها الرياح التي تزكم الأنوف المريضة، وتهز العقول الفارغة، وتعصف بنفوس السذج ممن يصدقون كل ما يقال!
وقد يعترض معترض آخر بأن هناك مشكلة ستظل رغم تلك الحلول وهي مشكلة المشكلات؛ وخلاصة المشكلة الكبرى هي أن هناك أناساً سيبقون على أمانيهم بالأفكار المنحرفة مهما جاهدنا في مكافحة الفكرة بالفكرة ومحاربة الدليل بالدليل، ذلك لأنهم تجار مبادئ وأصحاب أهواء وأغراض. . . وتلك فئة قد عاهدت الشيطان على أن تسد منافذ السمع دون صوت الحق ومنطق الضمير، فلا وسائل الإقناع بمجدية، ولا بنافعة طرائق التوجيه والإرشاد!. . .
إذا واجهتنا تلك المشكلة الخطيرة فلدينا العلاج الحقيقي للقضية كلها، أو قل أنه السلاح الرئيسي الذي يرد أسلحة الدعاة وهي مفلوله لا تقطع ولا تدفع. . . إنهم ينفثون سمومهم في كل بقعة يلوح لهم منها شبح الفقر وتبدو معالم الحرمان، وفي كل مجموعة من الأحياء تجأر بالشكوى منادية برفع غبن أو مطالبة برد حق مهضوم. وإذن لنعمل جاهدين على تحقيق العدالة الاجتماعية التي لا تفرق بين فرد وفرد ولا بين فريق وفريق. . . علينا أن نهيئ العلم للجاهل، والعمل للعاطل، والدواء للمريض، والحياة الكريمة التي توفر الاستقرار للموظف والعامل والفلاح، وعندئذ تذهب دعوة السوء صرخة فارغة في واد عميق وتكسد البضاعة الزائفة حين تغلق في وجه تجار المبادئ المنحرفة كل سوق من الأسواق!
لحظات مع توفيق الحكيم في (شهرزاد):
ورد الحوار التالي في مسرحية (شهرزاد) للأستاذ توفيق الحكيم. . . المنظر السابع ص
(172)
:
شهرزاد - لا أظن أنها تقارعك أو تتكلف لك. ما أنت إلا شعرة في رأس الطبيعة.
شهريار - كلما (ابيضت) نزعتها.
شهرزاد - إنها تكره الهرم.
شهريار - نعم.
شهرزاد - تنزعها كي تعود من جديد.
شهريار - (فتية قوية)!
والشعرة البيضاء إذا انتزعت لا تخرج محلها إلا شعرة بيضاء لا فتوة فيها ولا قوة، ضعيفة كأصلها واهية كأصلها. . . فهل ترى أن الأستاذ الحكيم قد وفق في تكوين هذه الصورة البيانية أم أنه قد أعجم علي الفهم؟ نرجو أن تبينوا لنا هذا في تعقيباتكم ودمتم ذخراً للأدب.
إسماعيل محمد السامرائي
بغداد - العراق
هذه اللمسة من الأديب العراقي الفاضل لمسة جد موفقة. وإنه ليستحق عليها خالص الإعجاب. . . ذلك لن الواقع المحس يؤيده كل التأييد فيما ذهب إليه! إن الصورة الفكرية هنا تبدو مهزوزة، أتدري لماذا؟ لأن توفيق الحكيم يعمد أحياناً إلى الفلسفة اللفظية؛ الفلسفة التي تعتمد على ظاهر اللفظ دون أن تنبع من أغوار النفس، وهذا هو المأخذ الذي نستطيع أن نعثر عليه في كثير من قصص الأستاذ الحكيم ومسرحياته!
صراع الأفكار لا صراع النفوس، هو السمة الغالبة على فن توفيق الحكيم، ومن هنا تهتز الصورة الفنية أحياناً وتهتز معها الصورة الفكرية. . . إن صراع النفوس حين ينقل عن واقع الشعور ينتفي معه كل تناقض لمنطق الحياة، وعلى العكس من ذلك تجد صراع الأفكار؛ لأنه صراع جدلي في أغلب حالاته يهمه مقارعة الحجة بالحجة، لتنتصر في معركة الألفاظ فكرة معينة نبتت في رأس الفنان فوضعها على لسان شخص من الشخوص، ولا بد لها أن تنتصر على سنان قلمه؛ لأنه يريد لها أن تنتصر، ولو كان ذلك على حساب الحقيقة النفسية التي تعبر عن الواقع فتصدق في التعبير!
إنك لو رجعت مثلا إلى (أوديب الملك) لوجدت أن إغراق توفيق الحكيم في الفلسفة اللفظية قد أفسد الجانب الواقعي من المسرحية في فصلها الأخير؛ ذلك الفصل الذي كان يجب أن يعالج علاجا نفسيا ليستقيم مع منطق الحياة والأحياء. . . ولكن منطق الفلسفة اللفظية قد ارتضى لأوديب أن ينظر إلى نهاية الكارثة نظرة لا تتفق وطبيعة البشر ولا تتفق وجلال المأساة؛ لأنها نظرة قوامها الرضا عن الحاضر بما فيه من قسوة ومرارة، ونسيان الماضي بما فيه من شرور وآثام، وهذا هو الطريق إلى السعادة: سعادة المستقبل الذي يكفر بهناءته عن حاضره وماضيه. . . ولا بأس من أن يقضي أوديب ما بقى من حياته إلى جانب جوكاست، على الرغم من أنه قد اكتشف أن تلك التي يريد أن يعيش معها من جديد هي أمه، أمه التي عاشرها معاشرة الأزواج وأنجب منها عدداً من الأخوة يقال عنهم أنهم أبناء؟!
إن هناك فارقاً كبيراً في القيم الفنية بين الصراع الفكري والصراع النفسي، وحسبك أن ترجع إلى مسرحية فرنسية عرضت لها بالنقد والتحليل في عدد ماضي من (الرسالة)، وأعني بها مسرحية (بنت بين أبوين). . . تلك التي نقلها الأستاذ أحمد الصاوي محمد إلى العربية في كتابه الجديد:(بنات)، حسبك أن ترجع إليها لترى كيف تعبر الألفاظ عن دخائل النفوس، وكيف تستحيل الكلمات إلى ظلال نفسية موحية، وكيف يصب الحوار في قالب من اللمعات الشعورية المشرقة، وكيف تضئ الصورة الفكرية تحت إشعاع الحياة!
لحظات أخرى مع طه حسين في (هامش السيرة):
ينقل لنا الدكتور طه حسين في كتابه (على هامش السيرة) الجزء الثالث، حديثا يدور بين ورقة بن نوفل وصديقه نسطاس حول رواية سمعها ورقة من السيدة خديجة بنت خويلد عن الرسول الكريم فراح يقصها عليه، وعندما فرغ الدكتور من سرد هذا الحديث عقب عليه بهذه العبارات في ص (51): (ثم سكت ورقة فلم يقل شيئاً، وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً. . . وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة، كأنما كانت نفساهما قد فارقتاهما وجعلتا تسموان إلى أفق بعيد ليس من هذا العالم الذي يحيط بهما شئ. ولو قد رآهما راء على هذه الحال لخيل إليه أن قد اشتمل عليهما النوم، وآية ذلك أن الحس عاد إليهما فجأة فذعرا من هذا الصمت كأنما هبا من نوم عميق. ونظر كل منهما إلى صاحبه نظرة طويلة
صامتة، ثم مد كل منهما يده إلى صاحبه فصافحه مصافحة طويلة. . . الخ)
ثم يعود الدكتور في الفصل نفسه فيقول في ص (53): (وكان ورقة يقص هذا الحديث هادئاً مشرق الوجه باسم الثغر وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان)!
كيف تتفق هذه الفقرة الأخيرة يا سيدي مع الفقرات السابقة ألا ترى أن هناك شيئاً من التناقض بين القولين، التناقض الذي يتمثل في أن نسطاس قد كف عن الكتابة هناك بعد أن سكت ورقة، وفي أنه قد عاد هنا لتجري يده على قرطاسه بتفسير ما يسمع؟ أرجو أن أسمع رأيك، وما جئت إليك أسألك إلا لأن رأيك هو الصواب، ودمتم عوناً لطلاب المعرفة.
عمر عيسى السامرائي
العراق - معهد التربية البدنية
عندما اطلعت على رسالة الأديب الفاضل قلت لنفسي: تناقض لاشك فيه. . . وعندما رجعت إلى كتاب الدكتور طه حسين وجدت الأمر على غير ما صوره الأديب الفاضل في رسالته، لأنني وقفت عند صفحة بين الصفحتين اللتين نقل عنهما صاحب السؤال تلك الفقرات التي بدا له أن فيها رأيين متناقضين وقفت عند هذه الصفحة لخرج من سطورها بحقيقة ملموسة، وهي أن الأديب العراقي الفاضل قد مر بها معجلا فيما يظهر، فلم يتنبه لتلك القصة الأخرى التي قصها ورقة على نسطاس بعد فراغه من القصة الأولى. . . الواقع أنه لا تناقض على الإطلاق ففي ص (51) كان ورقة ينقل إلى نسطاس أول قصة سمعها من السيدة خديجة عن الرسول الكريم، وعندما انتهى ورقة من قصته تلك (سكت فلم يقل شيئاً وكف نسطاس فلم يكتب شيئاً وظل الرجلان في هذا الصمت والسكون ساعة. . . وعندما ذعرا من هذا الصمت وكأنما هبا من نوم عميق) بدأ ورقة في ص (52) يقص على نسطاس قصة أخرى عن الرسول الكريم، وعندما انتهى ورقة من قصته الثانية كان في ص (53)(هادئاً مشرق الوجه باسم الثغر، وكانت يد نسطاس تجري على قرطاسه بتفسير ما يسمع في لغة يونان. . .) ومن هنا يرى الأديب الفاضل أنه قد ظلم الدكتور طه حسين بلا ذنب ولا جريرة؟
نهضة أدبية موفقة في عدن:
من دواعي الغبطة أن هناك نهضة أدبية مباركة في عدن، يشرف عليها ويرعاها نخبة من الشباب المخلصين لرسالتهم في الحياة ومن دواعي الغبطة أيضاً أن اطلع على دعائم هذه النهضة فيما يرسل ألي من إنتاجهم، ممثلا في مجلة شهرية هي مجلة (المستقبل)، وفي بضعة آثار فنية أهمها الشعر. . . الله يشهد أنني سعيد بهذه النهضة؛ لأنها وثبة رائعة من وثبات الشباب العربي في جنوب الجزيرة، ومتفائل بها كل التفاؤل؛ لأنني أؤمن كل الإيمان بأن النهضات الأدبية ما هي إلا مقدمات طبيعية لنهضات أخرى، ولو قلبت صفحات التاريخ في كل أمة من الأمم لرأيت أن كل وثبة في ميدان السياسة والعلم والاجتماع قد مهد لها الطريق على أكتاف رجال الأدب والفن؛ لأنهم كانوا وما يزالون حملة المشاعل في الصفوف الأولى من ركب الإنسانية في سيرها الطويل
أنا مقدر للشبيبة العدنية تلك الجهود الموفقة راجياً لها من الأعماق كل مزيد من التوفيق.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
المازني:
فجعنا بوفاة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يوم الأربعاء الماضي (10 أغسطس الحالي)، وأقول (فجعنا) وأنا أشعر بألم الفجيعة في واحد من أساتذتنا الذين تعلمنا وما زلنا نتعلم مما يكتبون وليس من السهل أن نرى كاتباً كالمازني يسلم الروح بعد عشرة روحية طويلة، وقد كان رحمه الله يصدر في كتابته عن ذات نفسه يحدثك حديث الإنسان المجرد من الزهو والتصنع والرياء، كان يصور نفسه، وما ينعكس على صفحاتها من صور، وما يضطرب فيها من أحاسيس، تصويراً طبيعياً صادقاً، فيشعر القارئ أنه إزاء إنسان صديق ممتاز. وكان من أقرب الكتاب إلى النفوس، لأنه كان قريباً إلى نفسه، وإلى حياة الناس، يأخذ مادته من الواقع، ويصوغها في أسلوب يستمد حياته من الواقع أيضاً، أسلوب عربي متين، ومع ذلك يطابق به لغة الخطاب في روحها وسياقها، ويخيل إلي أنه حين كان يكتب يتمثل الحديث العادي في الحياة الواقعة، فيترجمه إلى أسلوب يجمع قوة البيان العربي وروح الطبيعة الصادقة، وكثيرا ما كان يتوخى الكلمات العربية السائرة في العامية أو المحرفة فيها التي نكتب ويمكن قراءتها على أصلها العربي، فيقول مثلاً:(ربنا يجازيك) مؤثراً هذا التعبير على (جزاك الله) لأن الأول يستعمله الناس في خطابهم مع سلامته في العربية بتصحيح نطقه. وأنا أميل إلى هذا المذهب في الكتابة، وأحب أن أتابع فقيدنا المازني فيه.
وكان الفقيد الكبير من النقاد الأوائل القلائل الذين بدءوا حياتهم الأدبية بالثورة على المناهج الدبية القديمة، فدعا فيمن دعا إلى تجنب التقليد وتزييف الشعور، وأن ينظر الأديب في حياته وإلى ما يحيط به، ليصدر فيما يكتب عن صدق وأصالة. وقد نشأوا جيل الأدباء الحاضر على تلك الأفكار التجديدية، ورددها تلاميذهم وطبقوها على إنتاجهم ونقدهم، حتى استقرت في الأذهان وأصبحت حقائق أدبية مسلمة.
وفي أدب المازني إنسانية تتجلى في تحليله للضعف البشري الذي يشعر به من نفسه ومن الناس، فتراه فيما يصور من أمر نفسه صريحا ظريفا ممتعا، وتراه عطوفا كريما في
عرض عيوب الناس ومقابحهم، يلتمس العذر لأهله، وينظر إلى المخطئ والمسيء نظرة الطبيب إلى المريض.
أراني استطردت إلى شئ من قبيل النظرة الدراسية التي لا يتسع لها المجال، وإنما أردت أن أبين أثر فقيدنا الراحل في هذا الجيل الأدبي وفي واقع حياة الناس. ولست بحاجة إلى بيان صفاته الإنسانية التي هي صفات الأديب المطبوع، المتسامي عن سفساف الناس، الساخر من غرورهم، الزاهد في زخرف الحياة، العازف عن أباطيلها.
تخرج المازني في مدرسة المعلمين العليا، واشتغل بالتدريس حيناً في مدارس الحكومة، ثم تمرد على تسلط المستعمرين وأذنابهم في ذلك الحين، فاستقال، واشتغل بالتدريس أيضاً في بعض المدارس الأهلية، ثم خلص للكتابة والصحافة فقضى فيهما أطول مرحلة من حياته العلمية، وكان يكتب في الأدب والاجتماع والسياسة، وقد تميزت كتابته في السياسة بالكياسة والنظرة القومية.
وقد لقي المازني عنتاً وشقاء في بعض أيامه الأولى، حتى اضطر إلى بيع الكتب التي تحويها مكتبته. وابتسمت له الأيام في العهد الأخير، ولكن هذا الابتسام كان افتراراً يسيراً مقتصداً فقد كان الرجل يحمل عبء العيال، وكان يضطر إلى كثرة الكتابة ليواجه تبعاته، حتى كان يكتب بعدة صحف ومجلات في وقت واحد. ولم يكن شيء من ذلك يبلغ حد التقدير الذي يستحقه هذا الرجل العظيم الذي عزف عن المناصب الحكومية التي ارتقى إليها من دونه، وظل يكافح ويستنبط رزقه بقلمه حتى أسلم الروح.
إن الفجيعة بفقد المازني، هي فجيعة الأدب في الأديب الحر الصادق، وفجيعة الحياة الإنسانية في هذا الإنسان الكريم، وفجيعة مصر وكافة أقطار العروبة في الكاتب العظيم.
أبو شادي العجيب:
كتب الأستاذ مصطفى أمين بك صاحب (أخبار اليوم) بعد رحلته في أمريكا - أن الدكتور أحمد زكي أبو شادي الطبيب والشاعر المصري الذي يقيم الآن في نيويورك، نشر سلسلة مقالات في جريدة (الهدى) التي تصدر في نيويورك هاجم مصر فيها هجوماً عجيباً! وأنه تقدم إلى الحكومة الأمريكية يطلب التجنس بالجنسية الأمريكية. .
وأبو شادي هذا سافر إلى أمريكا منذ سنوات، معلناً أنه لن يعود وأنه يبقى هناك حتى
توافيه أم قشعم.
وقد طهرت منه مصر منذ ذلك الحين، وتنفس الجو الأدبي الصعداء، وشرع بعض الشعراء اللذين أفسد سليقتهم الشعرية في إصلاحها، ولا يزال بعضهم على ذلك الفساد.
وقد مكث أبو شادي دهراً ينظم كلاما فارغا ويقذف به ديوانا وراء ديوان، وهو يحاول أن يقنع الناس بأنه شاعر، فأخفق، ولم يفلح إلا بإفساد المذهب التجديدي في الشعر العربي الذي دعا إليه العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري، وكان من رواده خليل مطران حتى لقد نفر أبو شادي بعض الشعراء المجيدين من لفظ التجديد وأصبح مثار التندر في مجالسهم فلا غرابة أن يأتي إلينا نبأ انحراف ذلك الرجل عن الكرامة الوطنية، ومصر لا تستحق هجومه عليها إلا لسبب واحد هو أنه من أبنائها. . وإن كانت قد كفرت عن ذنبها بلفظه وقذفه إلى ما وراء البحار. . .
حمير الإذاعة:
سمعت في هذا الأسبوع حديث ندوة (الحيوانات) ببرنامج الأطفال في الإذاعة المصرية. خارت البقرة وافتخرت بأن الشعراء يشبهون بعينيها العيون الجميلة. فما كان من الحمار إلا أن نهق وقال: حتى أنا يذكر الشعراء صوتي في أشعارهم فيقولون: إن أنكر الأصوات لصوت الحمير! ولا لوم عليه في اعتقاده أن هذا من كلام الشعراء فهو حمار. .
إنما السبيل على من أنطقه!
وقديماً قرأنا في نوادر الحمقى والمعتوهين بكتب الأدب، أن أحدهم قام يخطب قي الحث على الجهاد فقال: قال الله تعالى:
كتب القتل والقتال علينا
…
وعلى الغانيات جر الذيول
تعليم اللغة باللغة:
قرأت كلمة الأستاذ السيد حسن قرون المنشورة بالعدد الماضي من (الرسالة) تعليقاً على ما كتبته في عدد ماضي بعنوان: (تعليم اللغة بدراسة الأساليب)
وأقول للأستاذ أولاً: إن مؤتمر مفتشي اللغة العربية انعقد باعتباره هيئة فنية تنظر فيما يتعلق بأعمالها وتبدي الرأي في المسائل المتصلة بها، على أنه رأي فقط، يصح أن تأخذ به
السلطة الرئيسية في الوزارة أولاً. وأنا كتبت في موضوع تعليم اللغة العربية بمناسبة ما قرره المؤتمر فيه، لا لعرض ما انتهى إليه، والواقع أن المؤتمر لم ينته إلى أمر ذي خطر يغير واقعاً، فقد رأى أن تدرس اللغة العربية عن طريق نصوصها وأساليبها لتستخلص منها القواعد من غير إسراف في الاصطلاحات النحوية المطولة. وهذا متبع فعلاً، فالمدرس يعرض الأمثلة على التلاميذ ويستنتج منها القاعدة، والذي يمكن أن يعد جديداً في قرار المؤتمر هو عدم الإسراف في الاصطلاحات النحوية المطولة، وهذا هو ما يطلق عليه (تيسير النحو) على أن هذا أيضاً هو ما اتجهت إليه لجنة تيسير تدريس اللغة العربية بوزارة المعارف في منهج اللغة العربية الجديد الذي يوشك أن يأخذ طريقه إلى التطبيق والتنفيذ في المدارس.
وما ذكره الأستاذ من اضطراب منهج اللغة العربية في المدارس صحيح، وقد ذكر أمثلة له. وأنا أريد أن اعدي عن هذا فما هو بذي شأن فيما أريد أن أحصر الكلام فيه، وهو تعليم اللغة بالكلام الفصيح، وقد تسائل الأستاذ قرون عن المقصود باستخلاص اللغة من الأساليب، فإن كان يبغي ما عند المفتشين والوزارة فقد تقدم بيانه، وإن كان يريد ما رميت إليه بكتابتي السابقة في الموضوع فهو ما قلت (أن يترك الناشئ سنوات يسمع فيها اللغة ويقرؤها ويعالج التعبير بها، بحيث يشعر بالحاجة إلى ضوابط لها، وعند ذاك ننتهز فرصة تشوقه إلى الضوابط، فيعرف بها طرقة سهلة ميسرة)
وتفصيل ذلك أو تطبيقه أن تحذف القواعد من المدارس الابتدائية، لا أن تؤخر فقط من السنة الثانية إلى الثالثة، وليس معنى ذلك أن تظل الحال في المطالعة والمحفوظات والإنشاء على ما هي عليه الآن؛ ولا ندع التلميذ يفهمها على أن أي قصيدة تكفيه، والمطالعة فيها تسامح، والإنشاء أي كلام ينفع له ولو كان عامياً؛ ولا ندع حصص القواعد لصنع الصلصال وشؤون الفلاحة والبساتين.
وإنما يجب أن يعنى بالمطالعة على أنواعها منه جهرية وسرية ومدرسية ومنزلية، ويجب أن يكون أكثر ما يطالع قصصاً مناسباً لعقول التلاميذ من حيث الأسلوب السهل والفكرة المستساغة الواضحة والموضوع المشوق المأخوذ مما يدور في بيئاتهم وتقع عليه حواسهم، ويجب أن تشجع الوزارة على تأليف ذلك كما يجب أن تستعين بالأدباء المعروفين بالإنتاج
للأطفال والناشئين. وكذلك ينبغي الاهتمام باختيار ما يحفظ ووضعه وبالتعبير الذي يسمونه الإنشاء، من شفوي وتحريري، بحيث يتجه فيه إلى الاستفادة مما يقرأ ومما يحفظ.
وبذلك نهيئ للناشئ فرصة طويلة يستطيع فيها أن يتذوق اللغة من كلامها الفصيح، ويعيش في جوها، فتنطبع ملكته بأساليبها، دون أن نفسد عليه ذلك بربكه باستخلاص القواعد، لأننا عندما نقدم له القطعة أو القصة ولا نتركه يهنأ بجمالها ومتعتها فنطالبه على أثرها بالمبتدأ والخبر والفاعل في جملها، ونأخذ منها ما يكمله بمفعول أو ظرف - عندما نفعل ذلك يحار التلميذ في المراد من القطعة أو القصة، وقد يذهب به الفكر الغض إلى أن المقصود من هذه الحكاية بيان جملها الاسمية والفعلية. . .
وبعد ذلك، أي بعد أن يتصفح التلميذ أساليب اللغة ويكتسب ملكتها ويدركها إدراكا كلياً، نعمد به إلى التحليل والتعليل، ويكون قد جاوز المرحلة الابتدائية وبدأ التعليم الثانوي فنعلمه القواعد الميسرة مع الاكتفاء بالضروري منها. وهذا ينطبق على القاعدة التربوية المعروفة وهي الانتقال من الكلي إلى الجزئي. وسيشعر التلميذ بالحاجة إلى القواعد في أثناء تجاربه اللغوية الابتدائية ويتشوق إلى معرفتها للانتفاع بها، وهنا أيضاً يتحقق ما يراه علماء التربية من إثارة شوق التلميذ ودفعه إلى طلب المعلومات بنفسه.
ونجني من كل ذلك غاية أخرى جليلة الشأن، هي أن نعود الناشئ القراءة والإطلاع منذ الصغر، فإذا شب وكبر طلب من زاد الفكر ما يناسبه.
عباس خضر
رسالة النقد
ديوان أبي فراس الحمداني
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم يجمع أبو فراس أشعاره بنفسه، وإنما كان يدفعها إلى أحد أساتذته المعجبين به، أبي عبد الله الحسين بن خالويه، وهو من أشهر علماء البلاط الحمداني، ولعله بهذا، كان يريد أن يلقيه بين يدي أستاذ يذيعه في الناس، ويشرح لهم ما غمض عليهم منه، ويبين ما فيه من إشارات تاريخية يدركها، بحكم اتصاله بأفراد الأسرة؛ ولهذا أستبعد صحة الرواية التي تدعي على أبي فراس أنه حظر على أستاذه نشر شعره، فلو أنه كان يقصد حقاً حظر هذا النشر لكفى نفسه مئونة إلقائه إلى أستاذه، بل مئونة إنشائه وكيف ومن هذا الشعر ما أرسل به إلى أقربائه وأصدقائه، ومنه ما قصد به إلى تسجيل مفاخره ومفاخر أسرته، ولا معنى لهذا التسجيل إذا لم يشع بين الناس، ويجر على الألسنة، ويحفظ في الصدور، وتحل به الكتب، وكان أبو فراس يعد الشعر ديوان العرب، وعنوان الأدب، لا شيئاً يحط من قدره، ويرغب في إخفاءه، بل لقد كانت قدرته البيانية من أسباب فخره، وإذا كان قد نفى عن نفسه أنه شاعر حين قال:
طفت بمدحي، وامتدحت عشيرتي
…
وما أنا مداح، ولا أنا شاعر
فإنما كان يرمي إلى أنه ليس من هؤلاء الشعراء الذين ينسبون إلى ممدوحيهم ما ليس فيهم رغبة في الصلات والعطايا.
وإن في مقدمة ابن خالويه ما يدل على أنه كان يلقيه إليه، ثقة منه بحفظه إياه، إذ يقول: وما زال، رحمه الله، إيجابا لحق الأدب، ورعاية للصحبة، وعلماً بأهل المحافظة، يلقي إلى دون الناس شعره. . . فجمعت منه ما ألقاه إلي، وشرحته بما أرجو أن يقرنه الله، عز وجل بالصواب، والرشاد، بمنه وطوله، وقوته وحوله؛ ولا ينبغي أن يفهم من كلمة ابن خالويه أنه شرح الديوان ببيان معاني أبياته، وإنما ذكر أحيانا الظروف التي قيلت فيها القصائد فحسب، كما شرح الحوادث التاريخية، لقصيدة الفخر الرائية، من غير تعرض لشرح لغوي، أو تفسير غامض.
لست أدري الترتيب الذي اختاره ابن خالويه لديوان أبي فراس وربما كان يضم المحدث
الذي كان الشاعر يلقي به إليه، ويضيفه إلى القديم الذي عنده، فيكون بذلك أقرب إلى الترتيب التاريخي.
أما النسخ الباقية لنا من الديوان فغير متفقة في ترتيب قصائده، وقد شوه نساخها شعر أبي فراس، فحذف بعضهم بعضه، حتى لم تبق نسخة واحدة تجمع كل شعره، فضلا عن المسخ الذي أصيب به كثير من ألفاظه حتى صار من العسير فهم النص في كثير من الأحيان، والوصول إلى حقيقة معاني الشاعر، ولم تخل من هذه العيوب النسخ المطبوعة للديوان ببيروت سنة 1873 وسنة 1900 وسنة 1910 م.
ومن العجيب أن شارح ديوان أبي فراس، وهو عبد اللطيف البهائي، أحد فقهاء القرن الحادي عشر، وأحد قضاة بلغراد، كما حقق ذلك ناشر الديوان الحديث الدكتور سامي الدهان - عثر على إحدى هذه النسخ المشوهة فشرحها، وجره الخطأ إلى شرح خاطئ، وقد أشار ناشر الديوان إلى أمثلة كثيرة من هذا الخطأ، ومنه أن أبا فراس قال بيتين، لما مضى سيف الدولة يطالب قتلة عامله على قنسرين بدمه، ثم كف عنهم بتوسط أبي فراس، ولكنهم قصروا في شكره، وهما:
وما نعمة مكفورة قد صنعتها
…
إلى غير ذي شكر بمانعتي أخرى
سآتي جميلا ما حييت، فإنني
…
إذا لم أفد شكراً أفدت به أجرا
فوقع للشارح البيت الأول محرفا إلى:
وما نعمة مكفورة قد صنعتها
…
إلى غير ذي شكر بما تبتغي أخرى
فلم يحقق النص، بل شرح البيتين بقوله:(يقول مخاطباً لسيف الدولة: إن النعمة التي صنعتها بعفوك عن قاتلي الصباح الذي وليته قنسرين، لكونها مكفورة، لا تقتضي أن تعاد عليهم مرة أخرى، لكن عادتي أن أفعل الجميل مدة حياتي، فإن لم أستفد منه الشكر استفدت منه الأجر)؛ وهو بهذا الشرح لا يلحظ أن الشاعر يجعل الأمير حينئذ في منزلة أقل من منزلته، إذ يخبره بأن نعمته ما دامت مكفورة لا يجدر به أن يسدي للمنكرين يداً أخرى، بينما أبو فراس من عادته فعل الجميل دائماً شكر أم كفر.
كما شرح قول أبي فراس:
وفارق عمرو بن الزبير خليله=وخلى أمير المؤمنين عقيل
فقال: (يعني هذا شأن الدنيا وشأن أهليها من الغدر وعدم البقاء على الصحبة، كما في قصة عمرو بن الخليل مع خليله وتخلية أمير المؤمنين سيف الدولة قبيلة عقيل الذين قادهم ندى بن جعفر كما ذكر سالفاً). وهذا شرح يدل على جهل بالتاريخ، أما أبو فراس فيشير إلى عداوة عمرو بن الزبير لأخيه عبد الله وقيامه ضده، وإلى عقيل بن أبي طالب الذي فارق علي بن أبي طالب أخاه في خلافته، ومضى إلى معاوية.
وعن شرح هذا الفقيه أخذ نخلة بن قلفاط في حل بعض أبيات الديوان عندما طبع ببيروت وكثيراً ما يوجز ويختصر.
لم يعثر البهائي على ديوان أبي فراس كاملا، بل ينقصه الكثير من قصائده، ولم يقف في شرحه عند الإشارات التاريخية التي في الديوان يوضح المراد بها، ولم ينقل ما أورده ابن خالويه في توضيحها بل كان التفسير اللغوي وجهته، فيذكر النص، ويشرح ما فيه من ألفاظ لغوية، ذاكراً بعض ما لكلمه من مشتقات وجموع، ومبيناً ما في الكلام من أنواع البيان والبديع، ومتبعاً ذلك بذكر المعنى الإجمالي للنص، وكل ذلك في إيجاز، دفعه إليه إسراعه في هذا الشرح الذي أتمه في عشرين يوماً، وكثيراً ما كان يعفي نفسه من عناء الشرح، فيقول عن البيت من الشعر:(ظاهر غني عن الشرح) وربما كان خفياً غامضا.
ظل ديوان أبي فراس على ما وصفنا من النقص والتشويه حتى هيئ له أحد العلماء الناشرين، وهو الدكتور سامي الدهان، فأخرجه متبعا أمثل طرق الإخراج، ووقف عليه حقبة من عمره، حتى استطاع أن يخرج أصح وأكمل ما استطاع أن يظهره لديوان أبي فراس، وإن من يعاني ما عاناه الناشر ليقدر ما بذله من جهد مضن في التنقيب والتحقيق والاختيار، ولا يسعنا إلا أن نشكر له هذا الجهد الموفق.
وبرغم التحقيق الدقيق الذي بذله الناشر الكريم لم يدع أنه وصل إلى المثل الأعلى الذي يبغيه، وطلب من النقاد أن يوافوه بآرائهم في عمله المثمر إذ قال:(غير أني لم أظفر بمن يقرؤه من الدفة إلى الدفة يسجل نقده وأسجل يده. . وأملي أن يحظى بالناقد الحكيم والقارئ الكريم فيرد إلى معايبه، ويبصرني بزلله)؛ وعلى هذا الأساس أبدى بعض ملحوظات عنت لي بعد قراءة الديوان كله قراءة دارسة ناقدة، من غير أن تقلل هذه الملحوظات اليسيرة من قيمة هذا الجهد المشكور، والعمل الصالح.
وأول ما ألحظه على الديوان ترتيبه فقد اتبع نهجا صناعيا لا فنيا في هذا الترتيب، إذ قسمه على نظام حروف القوافي، وإني أؤثر على ذلك النظام نظامين آخرين، هما الترتيب التاريخي، والترتيب الموضوعي؛ ذلك أن الترتيب على حسب القوافي ليس له قيمة فنية ما، وليس له من فائدة سوى سهولة العثور على القصيدة في الديوان، ويغني عن ذلك فهرس يوضع في آخر الكتاب لتسهيل المراجعة، أما الترتيب التاريخي فيساعد على تتبع التدرج الفني للشاعر، ويعين على معرفة أثر الزمن في نفس الشاعر ونظراته إلى الحياة، وربما كان الترتيب الذي سار عليه ابن خالويه أقرب إلى الترتيب التاريخي كما ذكرنا، فإذا عز علينا الترتيب التاريخي، فالأفضل أن نرتب الديوان على حسب موضوعاته، فنجمع قصائد كل باب متجاورة، فذلك خليق بأن يبرز لنا خصائص الشاعر في كل فن من فنونه في سهولة ويسر، فإذا جمعنا بين الترتيب الموضوعي والتاريخي معا فذلك هو المثل الأعلى للجمع والترتيب؛ أما وقد سار الناشر على هذا الترتيب الصناعي فإني كنت أرجو أن يؤرخ القصائد إذا استطاع الوصول إلى تاريخها.
وكنت أؤثر أن لو أضاف الناشر إلى جهده الضخم شرح غريب الديوان في ذيل الصفحات حتى يكون بذلك قد خلى بين القارئ والشعر لا يحول بينهما تحريف في عبارة، ولا غرابة في لفظ، ولم يكن أبو فراس مغرماً بالغريب أو مستكثراً منه، فكان من السهل على الناشر شرح هذا القليل حتى يصبح كتابه مستغنياً بنفسه عما سواه، كما حمدنا له جهده في شرح الإشارات الجغرافية الواردة في الديوان.
وقد تحرى الناشر أقرب الروايات إلى الصحة من بين الروايات المختلفة في النسخ، ولكني أرى أن قد اختار، في أحيان قليلة، رواية أراها مرجوحة، كما آثر أن يروي هذا البيت:
وهل لقضاء الله في الخلق غالب
…
وهل لقضاء الله في الخلق هارب
وإني أؤثر رواية الشطر الثاني بمن بدل اللام فيكون:
وهل من قضاء الله في الخلق هارب.
وآثر أن يروى هذا البيت، وهو في خطاب سيف الدولة:
دعوناك، والهجران دونك، دعوة
…
أتاك بها يقظانَ، فكرُك، لا البرد
وأؤثر رواية العاملي: البحران بدل الهجران الذي لا معنى له هنا، ولعله يقصد بالبحرين
نهرين يفصلان بينه وبينهم.
وروى البيت:
يا طلعة الشمس لما صادفت حللا
…
من السحاب على أرض من الزهر
وأؤثر خللا بالخاء، أي منفرجا بين السحب، لأن طلعة الشمس إذا لبست حلل السحب لا ترى، ولا تفرح بها أرض الزهر.
وروى البيت:
أخو الغمرات في جدٍ وهزلٍ
…
أخو النفقات من سعة وضيق
وأفضل رواية: في سعة وضيق، أو في جد وضيق، إذ أنه ينفق من سعة ولكن لا يقال ينفق من ضيق. وروى البيت:
ولكن دهراً دافعتني خطوبه
…
كما دفع الدين الغريم المماطل
وأفضل: كما دافع الدين الغريم المماطل، لأن الغريم المماطل يدافع الدين ولا يدفعه، وروى البيت:
خليليَ شدَا لي على ناقتيكما
…
إذا ما بدا شيب من العجز ناصل
ولا معنى للعجز هنا، وأختار رواية الفجر. وروى البيت:
وإنَ مقيما منهج العجز خائب
…
وإنَ مريغاً خائب الجهد نائل
وأفضل على ذلك رواية: وإن مقيما منجح العجز، خائب. فإن أبا فراس يوازن بين رجلين أحدهما مقيم لا يطلب، عاجز عن الجهاد، غير أنه قد نجح، وثانيهما طالب مجد ولكن جهده قد خاب، فأبو فراس لا يعد نجاح الأول نجاحاً، ولا فشل الثاني خيبة وإخفاقا، ورجح رواية البيت:
لقد ظننتك بين الجحفلين ترى
…
أن السلامة من وقع القنا تصم
والأفضل رواية: لقد رأيتك. لما فيها من اليقين الذي يناسبه التوكيد. وآثر رواية البيت:
ومن لقي الذي لاقيت هانت
…
عليه موارد الموت الزؤام
ثناء طيب لا خلف فيه
…
وآثار كآثار الغمام
وأنا أؤثر الرواية الأخرى وهي: ومن أبقى الذي أبقيت هانت لأنه فسر ما أبقاه في البيت الثاني، وبدون ذلك يبقى هذا البيت منقطعاً عن صاحبه. وروى البيت:
فيغلط قلبي ساعة ثم ينثني
…
وأقسو عليه تارة ويلين
والأفضل عندي رواية: وأقسو عليه تارة وألين؛ حتى يكون المتحدث عنه واحد في الشطر الثاني، كما هو واحد في الشطر الأول هذا، ويخيل إلي أن أبياتاً ثلاثة قد تسللت إلى القصيدة رقم 332 ص406 من غير أن تكون هذه الأبيات فيها، أو أن موضعها في القصيدة ليس هو الموضع الذي أختير، وذلك حيث يقول أبو فراس:
مالي جزعت من الخطوب بعدما
…
أخذ المهيمن بعض ما أعطاني
ولقد سررت كما غممت عشائري
…
زمناً، وهنأني الذي عزاني
وأسرت في مجرى خيولي غازياً
…
وحبست فيما أشعلت نيراني
فأنت تراه هنا يتحدث عن حاضره المؤلم، متسلياً بماضيه، ولكن ينتقل من ذلك إلى مدح سيف الدولة فيقول:
يرمي بنا شطر البلاد ومشيع
…
صدق الكريهة فائض الإحسان
بلد لعمرك لم أزل زواره
…
مع سيد قوم أغر هجان
إنا لنلقى الخطب فيك وغيره
…
بموفق عند الخطوب معان
ثم يعود مرة أخرى إلى الحديث عن حاله اليوم والأمس فيقول:
أصبحت ممتنع الحراك، وربما
…
أصبحت ممتنعاً على الأقران
مما أرجح معه أن هذه الأبيات قد دست بين الغرض الواحد دساً، فضلا عن حديثه عن بلد غير مذكور في القصيدة، وعن غموض المعنى وضعف الأسلوب في قوله: إنا لنلقي الخطب فيك وغيره.
وفي الديوان عنوان خاطئ هو: وقال في ابنته زوجة أبي العشائر (ص375)، فأبو العشائر لم يتزوج ابنة أبي فراس ولكن أخته، والصواب أن هذه القطعة قالها أبو فراس في زوجته وهي ابنة أبي العشائر، والشعر نفسه يدل على ذلك يقول:
وأديبة اخترتها عربية
…
تعزى إلى الجد الكريم وتنتمي
محجوبة لم تبتذل، أمارة
…
لم تأتمر، مخدومة لم تخدم
لو لم يكن لي فيك إلا أنني
…
بك قد غنيت عن ارتكاب المحرم
فواضح أن التي أغنته عن ارتكاب المحرم زوجته لا ابنته.
وهناك - وإن كان ذلك نادراً - بعض جمل غير مفهومة مما يدل على أننا لم نصل إلى النص الصحيح. وذلك مثل قوله:
حملت على ورود الموت نفسي
…
وقلت لصحبتي: موتوا كراما
ولم أبذل لخوفهم مجناً
…
ولم ألبس حذار الموت لاما
فلا معنى لكلمة أبذل هنا.
وأشعر بقلق في كلمة صباح من هذا البيت:
يئول به الصياح إلى صباح
…
ويسلمه الظلام إلى ظلام
فالشاعر في الشطر الثاني يريد أن يقول: إن ظلام الليل يسلمه إلى ظلام في نظرته إلى الحياة، وإلى متاعب قلبية يظلم بها عيشه، ومن هنا لا أجد لكلمة صباح موضعاً.
وعنى الناشر بأن يستدرك ما أخطأت فيه المطبعة من الشكل، ولكن لم يزل هناك بعض لم يشر إليه، فمن ذلك زَمَّت أباعره، والصحيح زمت بضم الزاي (ص181) وينسُون (ص271) والصواب ينسَوْن، وُتعال (ص284) وصوابها تعال بفتح التاء. وولُّوا (ص285) والصحيح ولوْا. وتوْضع (ص379) وصحيحها توضِع. ولكن الكلامِ والصواب: ولكن الكلامَ (ص371).
هذا وكنت أؤثر للناشر أن ينقل إلى العربية آراء المستشرقين في الشاعر، كما نقل إلى الفرنسية، موجز ما كتبه العرب عنه، حتى يقف من لا علم عنده بالفرنسية، على آراء المستشرقين في الشاعر العربي.
وبعد فهذه ملحوظات لا تقلل شيئاً من قيمة جهد الناشر الكريم، الذي أحيا بجده ديوان أبي فراس، وقد ذكرناها أمانة للعلم، وسعياً للوصول إلى الكمال.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول
البريد الأدبي
ابن زنبل الرمال:
تحت يدي نسخة من كتاب له تحت اسم:
(كتاب تاريخ السلطان سليم خان بن السلطان بايزيد خان مع قانصوه الغوري سلطان مصر وأعمالها) تأليف الشيخ أحمد بن زنبل الرمال المحلي رضي الله تعالى عنه على التمام والكمال والحمد لله على كل حال وبه نستعين. وفيه نهايته.
(تم طبع هذا الكتاب في أوائل شهر ربيع الآخر سنة 1278)
ولم أعثر على ترجمة لابن زنبل في الكواكب السائرة ولا في شذرات الذهب، وإنما وجدت في كتاب تاريخ آداب اللغة العربية للمرحوم جرجي زيدان بك أنه توفى بعيد 960
وهو أحمد بن أبي الحسن بن أحمد نور الدين المحلي الشافعي بن زنبل الرمال كان ضمن موظفي نظارة الجيش إلى سنة 960.
(لا أعتقد بأن نظارة الجيش استمرت إلى هذا العهد) وكان يتعاطى ضرب الرمل والنجامة. ولم يذكر جرجي زيدان من أين استقى هذه المعلومات وعرض لمؤلفاته وهي:
1 -
فتح مصر: أو أخذها من الجراكسة على يد السلطان سليم من غلبة قانصوه الغوري 921إلى فتح مصر 922منه نسخ خطية في المكتبة الخديوية في 218صفحة وطبع في مصر على الحجر سنة 1287 (وصحتها1278 هـ) وعبارته ركيكة ومنه نسخ في فيينا ولندن وباريس. ومن هذا الكتاب نسخة مختصرة أسمها (واقعات السلطان سليم خان والجراكسة في فيينا). وعليه ذيل إلى وفاة السلطان سليم سنة1926. وذيل آخر ينتهي إلى فتح رودس ومالطة كلاهما في غوطا.
وسيرة السلطان سليم والجراكسة وما جرى بينه وبين قانصوه الغوري، يشبه في موضوعه وأسلوبه الكتاب المتقدم، نسخة منه في المكتبة الخديوية256 صفحة.
2 -
تحفة الملوك والرغائب في أكسفورد.
3 -
المقالات في حل المشكلات في السحر والرمل.
القانون في دنيا النجامة. منه قطعة في برلين)
انتهى كلام المرحوم جرجي زيدان بك.
وقد اشتهر في هذا العصر سنبل مقدم المماليك. وقد تتبعت تاريخه فإنتهيت به إلى ترحيله ضمن أعيان المصريين الذين سافروا إلى استانبول سنة 923، ثم انقطعت أخباره. ولا أجزم للآن بأن هذا كتب تاريخياً؛ ولكني أشير بطبع إحدى النسخ الخطية المطولة وأرى ألا تهمل الأشعار والملاحم فإنها تمثل حقيقة مشاعر الشعب المصري أيام الفتح العثماني. وقد يكون بعضها زاد عليه الرواة من عندهم.
أحمد رمزي
1 -
أعداد من الرسالة خاصة بالأقطار العربية:
في عام سنة 1361هـ أصدرت مجلة (الرسالة) الغراء أعداداً خاصة بالأقطار العربية الشقيقة ساهم في تحريرها نخبة من كبار الأدباء فيها، وكان لصدورها في ذلك الوقت الذي لم تولد فيه (الجامعة العربية) ولم يكن فيه للعرب التضامن الذي يكفل لهم الحرية والسيادة؛ صدى ذو نتائج طيبة في الأوساط الأدبية والسياسية. كما كان له أكبر الأثر في التعريف بالأدب العربي المعاصر على اختلاف أنواعه في شتى أقطاره.
ولكم وددت - والله - لو سارت (الرسالة) على هذا النهج مرة في كل عام؛ مسجلة بعملها هذا، التطور الذي يمر عليه الأدب العربي الحديث في كل قطر من أقطاره الشقيقة - غير الرسالة - مجلة تستطيع القيام بهذا العمل الجليل: ذلك لأن للرسالة كتابها اللذين - إذا ما ذكر كتاب العرب - كانوا في مقدمة من يذكرون. هذه كلمة أرجو أن يكون لها صدى طيب لدى أستاذنا عميد الرسالة.
2 -
نسبة بيت:
أورد الأستاذ الكبير راجي الراعي في مقاله عن (المتنبي) المنشور في العدد (837) من الرسالة الغراء: هذا البيت ونسبه لأبي الطيب:
لي النفوس وللطير اللحوم ولل
…
==وحش العظام وللخيالة السلب!
والبيت - كما أعرف لعنترة العبسي من قصيدته التي يتوعد بها النعمان بن المنذر ومطلعها:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
…
ولا ينال العلى من طبعه الغضب
وبهذه المناسبة أكرر للأستاذ الراعي شكري وتحياتي راجيا منه أن لا يضن على قراء الرسالة - المعجبين بأدبه - بما لديه من قصائد رائعة، وبحوث قيمة.
محمد عامر الرميح
المدينة المنورة - 3. ع. الرميح
1 -
مباع ومباعة:
جاء في (لغة الجرائد) بعد الكلام على الأفعال التي يزيدون الهمزة في أولها خطأ. . . ويقولون سلعة مباعة
وهذه التخطئة خطأ فقد جاء في المخصص ج14ص227 - 229في الكلام على باب (فعلت وأفعلت) بمعنى واحد ما نصه باع الرجل متاعه بيعاً وأباعه بمعنى، قال النحويون أباعه عرضه للبيع والمعنيان متقاربان وأنشد ابن السكيت.
فرضيت (آلاء) الكميت فمن يُبِعْ
…
فرساً فليس جوادنا بمباع
آلاؤه نعمه، وهذه رواية أبي إسحاق، وروى غيره (أفلاء) الكميت جمع فلوه.
وجاء في المصباح: باعه يبيعه بيعاً ومبيعاً فهو بائع وبيع وأباعه بالألف، لغة قاله ابن القطاع اهـ.
أي في كتاب الأفعال والمصريون يستخفون استعمال مباع ومباعاة، ولكن لا يستعملون الفعل الرباعي أباعه أصلاً.
2 -
أبحاث:
أنكر أحد الكتاب جمع بحث على أبحاث في مجلة الرسالة الغراء، وهذا ليس بصحيح فقد جاء في (معيار اللغة) ما نصه:
بحث عن الأمر بحثاً كنفع فتش وتفحص واستقصى. . ثم استعمل المصدر (البحث) اسماً (للبحوث) وجمع على أبحاث كبعض وأبعاض اهـ.
ولم يجمعه على بحوث مع أنه الجمع القياسي المشهور وبجعله اسماً ساغ جمعه لأن المصدر لا يجمع لأنه يصدق على القليل والكثير وللصرفيين في جمع (فعل) المفتوح الفاء على (أفعال) كلام شاذ، لا مستند له لنا فإنه المأثور عن العرب من منظوم ومنثور وإني
أستطيع أن اذكر للقراء مئات من الجموع كبحث وأبحاث وقد لاحظت أن كل اسم ثلاثي مفتوح الأول وثانيه واو يطرد جمعه على (أفعال) مثل ثوب وأثواب. أثوار. أحواض. أحوال. أدوار. أذواق. أزواج. أشواط. أشواق. أشواك. أطواد. أطوار. أطواق. أفواج. أقواس. أقوال. أقوام. أكوام. ألواح. ألوان. أمواج. أنواء. أنوار. أنواع. أنوال. أهوال وهكذا.
وجمع هذا شأنه يجب أن يكون قياساً، ومن المضحك المبكي أن ننتظر من العرب أن يوردوا لنا كل شئ وإنما:
نبني كما كانت أوائلنا
…
تبني ونفعل مثلما فعلوا
علي حسن هلالي
بالمجمع اللغوي
تصويب (أبحاث):
كتب الأستاذ رياض عباس كلمة في بريد الرسالة الأدبي عدد (837) تحت عنوان (من صميم العربية) جاء من عناصرها قوله: إن من الأخطاء الشائعة على ألسنة الكتاب جمع بحث على أبحاث ثم قال: وهو خطأ لا يجيزه القياس، وكتب اللغة لم تذكره. اللهم إلا (أقرب الموارد). ثم سأل الكاتب الفاضل عن مصدر صحة هذا الجمع الذي استقى منه صاحب أقرب الموارد.
وإجابة عن هذا السؤال أذكر له قاعدة النحاة الكوفيين العامة، ومنهجهم في القياس على المسموع من كلام العرب. وهي تتلخص في جواز القياس على ما ثبت ورود نوعه عن العرب ولو كان هذا الوارد قليلا. بينما يتزمت النحاة البصريون ويتشددون في أمر القياس، فلا يقيسون إلا على المسموع الكثير: سواء في ذلك التراكيب والمفردات.
وقد ثبت أن العرب جمعت وزن (فعل) المفتوح الفاء الساكن العين الصحيحها على (أفعال).
من ذلك حمل وأحمال، فرخ وأفراخ، وزند وأزناد. قال تعالى:(وأولات الأحمال). قال الحطيئة:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ
…
زغب الحواصل لا ماء ولا شجر؟
وقال الأعشى:
وُجدت إذا أصلحوا خيرَهم
…
وزندك أثقب أزنادها
يرى البصريون أن هذه الجموع ونحوها مما شذ عن القياس فهي من النادر الذي لا يجوز القياس عليه. فأبحاث ونحوه جمع خطأ؛ لأن العرب لم تنطق به بذاته.
ويرى الكوفيون احترام المسموع ولو كان قليلاً. فأبحاث ونحوه عندهم جمع صحيح لا غبار عليه؛ لأن العرب نطقوا بنوعه وإن كان قليلاً.
وبعد فلعل هذا الرأي هو المصدر الذي استقى منه أقرب الموارد ما أورده. وأكبر الظن أنه ليس له مصدر سوى هذا
أما ترجيح أحد الرأيين على الآخر فالذي أميل إليه في هذا النزاع بذاته رأي الكوفيين؛ إذ قد ورد في اللغة الفصحى مع ما ذكرت أولا: أفراد وآلاف وآراء. وفي هذا قلب مكاني وأنجاد وأنهار وأنحاء. وكثر هذا الجمع في واوي الفاء ومضعف اللام. مثل: أوقاف وأوقات وأوصاف وأوكار وأوعار وأوغاد؛ وبمثل: أجداد وأعمال وأبرار وأفذاذ. وربما كان في اللغة وغيرها. وهي طائفة صالحة للقياس عليها. وهذا يدل على أن العرب طردوا هذا الوزن (أفعال) في جميع أوزان الاسم الثلاثي المجرد العشرة بلا قيد ولا شرط. نعم إنهم لم يكثروا منه في جمع المفرد المفتوح الفاء الساكن العين الصحيحها. ولكن هذا لا يمنع من القياس على ما سمع منه كما ذهب إليه نحاة الكوفة. وبهذا ظهر أن قول الأستاذ رياض: (وهو خطأ لا يجيزه قياس) إن أراد قياس البصريين فمسلم، وإن أراد قياس الكوفيين فلا. كما عرفت، وأن مصدر (أقرب الموارد) اللغوي هو الاعتماد على هذا القياس، لأن كتب اللغة في الغالب لا تذكر الجموع القياسية اتكالا على معرفة القواعد. فهذا جواب السائل المفضال. (وفوق كل ذي علم عليم).
عبد الحميد عنتر
الأستاذ بكلية اللغة العربية
الاعتبار بالحرفة!
يرى الأستاذ محمد منصور خضر أن (الاعتبار بالحرقة) في كلام الجنيد خطأ وأن صحته (الاعتبار بالحرفة) بمعنى المهنة أو الصنعة لأن التصوف الحق هو العمل والعمل عندهم هو الحياة.
وأرى أن (الاعتبار بالحرقة) هو الصحيح هنا ومعناه الحب والتشوق الذي يشغل الإنسان عن ما سوى الله ويزداد حرقة وحرارة بازدياد القرب ومعنى قول الجنيد أنه ليس الاعتبار بالظاهر من اتخاذ الشارات ولبس الصوف وأكل الخشن وإنما الاعتبار بالباطن وما وقر في الصدور من الإخلاص والصدق والحب والمراقبة. . . والمواجيد الأخرى.
ومن ناحية سلبية يمكن القول أن التجرد عند الصوفية أسمى من التعلق بالأسباب ولكن الصوفي قد لا يتأتى له من الاجتهاد ورفع الهمة حتى يتحقق بالتجرد فيأخذ بالأسباب ويدعو السالكين في بدء دخولهم في الإرادة إلى ذلك. فرفع الهمة والأخذ بالأسباب معا في نفس الصوفي يجني تزايد هذا من تناقص ذا. ولكن غاية الصوفي التجرد ورفع الهمة حتى قال أحدهم (من تزوج أو تحدث أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا) وشاور أحد المريدين الخواص في أن يعتزل الناس ويعتكف في المسجد فقال (إن كنت على إيمان إبراهيم الخليل فاعتكف) وفي حكم ابن عطاء الله (إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في التجريد انحطاط عن الهمة العلية).
فالاعتبار بالحرفة أمر لا يتفق وروح الصوفي الذي ينزع إلى الخروج إلى الله والتجرد من الأسباب والتحرر من رق الآثار والأكوان.
أحمد الكاشف
ليسانس في التاريخ
الكتب
البلاغة العربية في دور نشأتها
تأليف الدكتور سيد نوفل
بقلم الأستاذ علي العماري
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
2 -
ولو أن هذه الروح جاهلية لوجدنا أثرها في عصر البعثة. يوم تحدى القرآن العرب وأفحمهم إفحاماً، فقد لجئوا إلى الطعن عليه طعناً عاماً؛ فقالوا سحر مفترى، وقالوا أساطير الأولين، ولو أن لديهم تلك الروح البيانية لكان من المنتظر أن ينقدوا القرآن على نحوها، وأن يفزعوا إليها في تلك الخصومة العنيفة التي ظلت نيفاً وعشرين سنة، هذا إلى أن تلك الروح للنقد لا أثر لها في العصر الإسلامي، لا عند الأدباء ولا عند متقدمي النحاة واللغويين.
3 -
على أن من نحاة القرن الرابع من لم يطمئن إلى ما سبق، أبو الفتح بن جني يحكى عن أبي الفارس أنه طعن في صحة هذه الحكاية. هذه الزيادات لا تثبت للروح العلمية، ولا للتاريخ. وبعيد كل البعد أن توجد ملكة الفكر في النقد الجاهلي، وأن توجد على هذا النحو الدقيق، الذي يحلل ويوازن ويفرق بين الصيغ تفريقاً علمياً.
4 -
وردت القصة في الجزء الثاني من نقائض جرير والفرزدق، وليس فيها إشارة إلى شئ من ذكر النابغة أو النقد الذي قيل في عكاظ.
وهكذا يسوق صاحب تاريخ النقد عند العرب الأدلة التي لا تدع مجالاً للاطمئنان إلى صحة هذه القصة، ولكن المؤلف يكتفي بقوله أنها تلائم طبيعة الحياة الفنية، ويرى ذلك داعياً إلى الاطمئنان إليها، أما ما هي الحياة الفنية في ذلك العصر، وكيف تلائمها هذه القصة، فلا خبر، ولا أثر؟
2 -
ذكر مذهب الجاحظ في إعجاز القرآن، فقال أنه في نظم القرآن، ولكن الله صرف العرب في الوقت نفسه عن محاولة محاكاته خشية الفتنة. ومر سريعاً، واكتفى بنقل أثبته من كتاب الحيوان والمؤلف في نشأة البلاغة في حاجة شديدة إلى أن يتحدث عن مذهب
(الصرفة) وما كان له من الأثر في نشأة هذه العلوم، والمؤلف في بلاغة الجاحظ على الخصوص لا يقبل منه أن يلصق هذا المذهب بالجاحظ ثم يمر كأن الأمر من الهوان بحيث تكفي فيه الكلمات. بل كان الواجب أن ينقب في كتب الجاحظ عن هذا المذهب، ويحققه، ويبين مدى تأثر الجاحظ به، ومدى تأثيره في علماء عصره، وقد رجعت إلى النص الذي نقله من كتاب الحيوان، فبدي لي فيه أمر أنا ذاكره بعد أن أثبت هنا ما يقوله الرافعي رحمه الله في نسبة مذهب الصرفة إلى الجاحظ قال عن هذا المذهب أولا (وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب وكانوا هم اللذين افتتحوه وابتدعوه لكان ذلك من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنهم قد عرفوا) ثم قال ثانيا عن مذهب الجاحظ نفسه:(أما الجاحظ فإن رأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية، وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يعهد مثلها، وله في ذلك أقوال تشير إلى بعضها في موضعه، غير أن الرجل كثير الاضطراب، فإن هؤلاء المتكلمين كأنما كانوا من عصرهم في منخل. . . ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصرفة، وإن كان قد أخفاها، وأومأ إليها عن عرض، فقد سرد في موضع من كتاب الحيوان طائفة من أنواع العجز وردها في العلة إلى أن الله صرف أوهام الناس عنها، ورفع ذلك القصد من صدورهم ثم عد منها (ما رفع من أوهام العرب، وصرف نفوسهم عن المعارضة لقراءته بعد أن تحداهم بنظمه) وقد يكون استرسل بهذه العبارة لما في نفسه من أثر أستاذه، وهو شيء ينزل على حكم الملابسة، ويعتري أكثر الناس إلا من تنبه له، أو نبه عليه، أو هو يكون ناقلا ولا ندري).
قلت وفي كلام الجاحظ ما يؤيد الشطر الأول من هذا الكلام وهو أنه يرى في الإعجاز ما يراه أهل العربية، فقد قرأت في كتابه البيان والتبيين تصريحاً بأن العرب يعجزون عن أن يساموا الرسول في البلاغة، قال (فإذا رأت مكانه - يريد النبي صلى الله عليه وسلم الشعراء، وفهمته الخطباء، ومن تعبد للمعاني، وتعود نظمها، وتنضيدها وتأليفها وتنسيقها، واستخراجها من مدافنها وإثارتها من أماكنها علموا أنهم لا يبلغون بجميع ما معهم مما قد استفرغهم، واستغرق مجهودهم، وبكثير ما قد خولوه قليلا مما يكون معه على البداهة والفجاءة من غير تقدم في طلبه، واختلاف إلى أهله). فإذا كان هذا رأيه في بلاغة
الرسول، فلا يمكن أن يكون رأيه في بلاغة القرآن ما يفهمه العلماء من مذهب الصرفة، وهو أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، ولكن الله صرفهم عن أن يعارضوا على أنه في ذاك الموضع من كتاب الحيوان التصريح بعجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن قال:(وفي كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد. الخ).
هذا. والذي يظهر - والله أعلم - أن القائلين بالصرفة لم يكونوا يقصدون إلى أن العرب قادرون على الإتيان بمثل القرآن، وأن الله صرفهم عن هذا الإتيان، حتى يثبت أن القرآن في متناول البشر، كما فهمه طائفة من العلماء، وأطالوا الرد عليه، وبديهي أن هذا لا يشمل آراء أولئك اللذين صرحوا في مقالاتهم بأن القرآن غير معجز وأن الناس يقدرون على مثله، وعلى أحسن منه، ومن أمثال الجعد بن درهم - وإنما الذي افهمه من مذهبه أن الله منع العرب أن يأتوا بمعارضة للقرآن، مع أنهم غير قادرين عليها، وإنما صرفهم لئلا تكون فتنة، وهذا صريح في كلام صريح في كلام الجاحظ حيث يقول:(وصرف نفوسهم - يعني العرب - عن المعارضة للقرآن بعد أن تحداهم الرسول بنظمه، ولذلك لم نجد أحدا طمع فيه، ولو طمع فيه لتكلفه، ولو تكلف بعضهم ذلك فجاء بأمر فيه أدنى شبهة لعظمت القصة على الأعراب وأشباه الأعراب، والنساء وأشباه النساء ولألقى ذلك للمسلمين عملا، ولطلبوا المحاكمة والتراضي ببعض الأعراب، ولكثر القيل والقال) وهذا كلام واضح جداً وصريح في أن الجاحظ لا يجعل الصرف عن المعارضة هو السر في الإعجاز، وإنما يجعل الصرف أمرا ثانويا جاء بعد التحدي والعجز، وأنهم لو عارضوا لوجدوا من يستجيد كما يقول في موضع آخر (فلم يرم ذلك خطيب، ولا طمع فيه شاعر، ولو طمع فيه لتكلفه ولو تكلفه لظهر ذلك، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامي عليه، ويكابر فيه، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم واستجابة لغتهم، وسهولة ذلك عليهم، وكثرة شعرائهم وكثرة من هجاه منهم، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله وأفسد لأمره، وأبلغ في تكذيبه، وأسرع في تفريق أتباعه من بذل النفوس، والخروج من الأوطان، وإنفاق الأموال) ونحن يعنينا الشطر الأول من هذا الكلام، أما الشطر الثاني فسقناه لأنا نلمح فيه أن الجاحظ
يرى أن المعارضة كانت ميسورة للعرب، ولكن بعد التدقيق في كلامه يظهر أنه لم يجعل هذا العجز سراً من أسرار الإعجاز بل جعله دليلا على أن المعارضة لم تكن، ولم يكن لهم أن يأتوا بسورة ولو مفتراة، وليس أدل على عجزهم عن المعارضة أنهم تركوها وهي - لو أمكنت - كانت افسد لأمر الدعوة، وأسرع في تفريق أتباعها، ومما يؤيد ما ذهبت إليه، أن لكل من الجاحظ، وأستاذه النظام - وينسب إليه مذهب الصرفة - رأيا في الإعجاز غير الصرفة، فالنظام يرى أن الإعجاز كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية، والآتية، والجاحظ يرى الإعجاز في النظم، على أن ترديد العلماء في ماهية المذهب يقوي جانبنا (أنظر الطراز ج3ص392). ومهما يكن من شئ فأنا أستبعد أن يكون الجاحظ قائلاً بالصرفة على ما فهمها العلماء، وأرجح أن يكون ذكاها على المعنى الذي أشرت إليه، وفوق كل ذي علم عليم.
4 -
في حديثه عن السجع ذكر عبارتين تؤديان إلى حكمين متناقضين وهما يتعلقان بأمر ذي بال، قال:(وليس من شك في أن معارضة المتنبئين للقرآن، واصطناعهم السجع في هذه المعارضة كان له أثر كبير في كراهية النبي والخلفاء له، وخشيتهم الفتنة به) ومعنى هذا الكلام أنه كان للمتنبئين معارضات، ثم قال:(وقد روت كتب السيرة نماذج من سجع مسيلمة وطليحة وسجاح وغيرهم قصد رواتها - في أغلب الظن إلى تسخيف أولئك المتنبئين) ومعنى هذا أن هذه المعارضات من وضع الرواة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن مسيلمة تنبأ في آخر حياة الرسول، فهل بلغت معارضاته حداً جعل الرسول يكره السجع؟ أما طليحة، فإنه وإن كان تنبأ في حياة الرسول، إلا أن أمره لم يعظم إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الرافعي أنه لم يدع لنفسه قرآناً لأن قومه من الفصحاء ولم يتابعوه إلا عصبية، وإنما كانت له كلمات يزعم أنها أنزلت عليه، ولم نظفر منها بشيء، ففي أي كتب السيرة وجد المؤلف معارضة لطليحة؟ أما أنا فقد عثرت على كلمة له نشرت في مقال سبق من الرسالة ولكني لم أظفر بها في كتب السيرة، وأما سجاح فتنبأت بعد وفاة الرسول، ولم تدع قرآناً وإنما كانت تزعم أنه يوحي إليها، أفليس من حق العلم على المؤلف أن يحرر عباراته، ويحققها، ولا يلقي القول هكذا. .؟!
5 -
وقد سبق أن ذكرت أن في الكتاب مآخذ كثيرة جزئية، وأنا سأعرض منها، وسأفي،
ولكني لا أجد مندوحة من ذكر بعض أغلاط، ربما لبست على الناشئة من قراء كتابه: ذكر أن الخطبة التي لم تشتمل على شئ من القرآن تسمى (بتراء) وذكر مثلا لذلك خطبة عمران بن حطان، وليس الأمر كذلك فالخطبة البتراء هي التي لم يحمد الله فيها ابتداء، وذكر كذلك الجاحظ في أول الجزء الثاني من البيان، وذكرته معاجم اللغة ومثلت له بخطبة زياد بن أبيه، ولا محل للإطالة وأما خطبة عمران وأشباهها مما لم يشتمل على شئ من القرآن فتسمى (شوهاء).
وذكر قوله تعالى (إن اللذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً) وقال إن في الآية استعارة، والذي نعرفه أن في الآية مجازا مرسلا، والفرق بينهما معروف للمؤلف.
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نثني على المؤلف، ونرجو أن تتبع محاولاته هذه محاولات، وأن يكون - كما يقول - بداية تنتهي إلى غاية.
علي العماري