المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 844 - بتاريخ: 05 - 09 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٤٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 844

- بتاريخ: 05 - 09 - 1949

ص: -1

‌أقوال بصراحة.

.!

أقول بصراحة: إن الجامعة العربية في محنة، وإنها تجتاز مرحلة ينظر إليها العقلاء بعين الرثاء حيناً وبعين الإشفاق حيناً آخر. . . مرحلة سبقها ماض لم يخل من الشوائب، ويصحبها حاضر لا يبرأ من التنابذ، وينتظرها مستقبل لا يبشر الخير. . . وهي خطوات يشيع فيها التعثر والانحراف على كل حال، والذنب - كما يقرره الواقع - ذنب الأفراد الذين يسمون أنفسهم ساسة وقادة، وليس ذنب الأفراد الذين يكوِّنون الشعوب والجماعات!

الشعوب العربية في ميزان التعاطف والسلام والوئام والحب، أيادٍ وليس متحدة وقلوب مؤتلفة. . ولو ترك لها الأمر لتعبر عن دخائل النفوس ومكامن الشعور لاقتربت الآمال المتفرقة، وتوطدت الأواصر المفككة، وتركزت الجهود المشتتة بفعل الفردية المتأصلة في بعض الضمائر والقلوب!

وماذا ينقص الساسة في غمرة الأزمات وزحمة المشكلات؟ ماذا ليقيموا بناء الجامعة العربية على دعائم جديدة تقيها الزلزلة في مهب الرياح والأعاصير؟!

ينقصهم الكثير في هذا المجال، ومن هذا الكثير شيء من الصراحة أولا، وشيء من خلوص النية ثانياً، ومن الثقة ثالثاً، وأخيراً أشياء من التضحية والإيثار وإنكار الذات، وأمانة التعبير عن أهداف الجماعة الكبرى ممثلة في شعب بأكمله، شعب يضم صوته إلى أصوات جيرانه لتنطلق الصيحة الواحدة من أعماق حنجرة واحدة. . . هي حنجرة الأمة العربية في كل بقعة من البقاع، وكل قطر من الأقطار!

تجتمع اللجنة السياسية من حين إلى حين، تجتمع ثم تنفض، ثم لا يعلم أحد أي قرار اتخذت، ولا أي طريق رسمت، ولا أي هدف من الأهداف سعت إليه في طوايا الظلام. . .

لو ملكنا الصراحة لكشفنا للشعوب عما دار من حديث بين أربعة جدران، ولو و ' هبنا خلوص النية لبدت الوجوه سافرة بغير قناع، ولو طبعنا على شيء من الثقة بالنفس والثقة بالغير لما احتلفنا على التافه وقنعنا باليسير، ولو فطرنا على التضحية وإنكار الذات لما تفرَّق الشمل وتصدَّع البنيان، ولو حرصنا على أن نعبر في صدق عن التيارات النفسية التي توجه الشعوب لما بعدت الشقة بين رأي ورأي في حديث الساسة وذهب كل في طريق!!

غموض وحيرة وقلق. . . وهذا هو العنوان الوحيد الذي يجب أن يعلو كل مقال يشير إلى

ص: 1

حاضر الجامعة العربية ومستقبلها. ولست أدري ما هي المعجزة التي يمكن أن تطمس تلك الكلمات لتحل محلها كلمات أخرى تبرز لنا عنواناً آخر يضفي على الحاضر المظلم من إشراقه ما يملأ جوانب النفوس بالنور، ويرسل إلى المستقبل المجهول من أقباس ضيائه ما يطمئن الحيارى على مواطئ أقدامهم في مقبل الأيام!

أليس من المخجل أن نتلقى الدروس في كل حين من تلك الدولة التي نحيط بها من كل ناحية إحاطة السوار بالمعصم؟

لقد كان الأمل أن نحيط بها لنزهق بأيدينا المتحدة أنفاس هذا الوليد اللقيط الذي اعترف العالم بشرعية مولده، ولكننا وا أسفاه قد أحطنا به لنتلقى عنه آخر الأمر كثيراً من الدروس. . . الدروس التي تنقصنا وتكتب للشعوب معاني الحياة والبقاء!!

(أ. م)

ص: 2

‌أنا. . . والقمر!

للأستاذ راجي الراعي

لقيت القمر أمس، وكان بدراً، وإليك ما دار بيننا:

- من أنت أيها القمر؟!

- أنا. . . أنا هو القمر!

- ولم هذه الغطرسة؟!

- ألا ترى أين أنا؟ إني أتوسط الأفق. . .!

- ولكنك مع علائك لست بالعصامي، فأنت تستعير نورك من الشمس. . .

- وهل ترى في ذلك ما يشير إلى الضعف. . . من هو الذي لا يحتاج ولا يستعير ولا يستجير. . . أتحسب أن في الأرض والسماء حراً مستقلا غير الله؟. . . الإنسان مدين لدمه، ودمه مدين للأرض التي غذته بثمارها، والأرض مدينة لعناصرها التي تصون كيانها، وقلب الأرض مدين لقلب الأفق الذي يسقيه ويحييه. . . الغمامة التي تراها عالقة بأهداب السماء، مدينة للبحر الذي قذف بها إلى سمائها. . . البحار مدينة للأنهار، والأنهار للينابيع، والينابيع للجبال، والجبال لذرتها التي تضامنت فكونتها. . . نعم، أنا مدين للشمس، والشمس مدينة لدائنها، ودائنها مدين لدائنه. . . الحياة مدينة للأرحام التي تقذف لها بالأجنة، والموت مدين للحياة التي تملأ لحوده. . . القرون مدين بعضها لبعض، وكلها مدينة للرجل الأول. . الموسيقى والغرام والتصوير والنقش والشعر فنون مدينة للخيال، والخيال مدين للمرأة، والمرأة مدينة للحب والجمال. . . الليل مدين لشمس التي غابت، فلولاها لم يضرب خيامه في الأرض، والفجر مدين لليل، فلولاه لم يطلع. . . أنا مدين للشمس أستعير نورها، ولكن الليالي مدينة لي، وأنت مدين لي ساعة تتسكع في الظلمة، وساعة أثير صدر حبيبتك النابض في ظلى فتضمك إليه، إن في كل قبلة من قبل حبك شيئاً مني. . . أنا هو القمر. . . أنا القمر. . أنا البدر وكفى. . .

- ما عهدتك يا صاحبي فصيحاً إلى هذا الحد وغزيراً. . . ولم أر قبلك من يدافع عن نفسه بمثل هذه البلاغة. . . حقاً إنك لنقيب المحامين، وإنك لجميل، وأجمل ما فيك وضوحك وجلاؤك! عبقريتك عبقرية الوضوح والجلاء. . . ليس فيك شئ من الإبهام والقلق

ص: 3

والاضطراب، وهي نعمة أحسدك عليها. . .

- لا، لا تحسبها نعمة ولا تحسدني. . . أرأيت تلك النجمة التي تقلق الناظرين إليها وتدفعهم إلى السؤال عن وجهها، إنها أجمل مني، لأنها تحجب بعض ما فيها عن الخلائق ولا ترفع الحجاب عن محياها فيبدو بكل ما فيه، ولا تقف مثلي على ملتقى الطرق لتهدي بوضوحها التائهين. . . إنها تتشبث بسرها، وتخفي عنك ضميرها، فهي ليست عارية مثلي، وعيبي الذي تحسبه جمالا هو أنني نزعت كل ثيابي وانبطحت أمامك فأريتك نفسي. . . أنا رجل ساذج أبله. . . وهل يتعرى أمام الناس إلا السذج البله. . أنا رجل صريح سرَّه في وجهه وقلبه على لسانه، ولكن صراحتي وسذاجتي ووضوحي صور لا يعرضها الجمال الحقيقي على لوحته، فهو يرتاح إلى ما تفتش عنه العيون، إلى الأسرار، إلى الإبهام الذي يهز أعماق النفوس ويثيرها. . انظر إلى الموسيقى كيف تؤجج النار في نفسك كلما زادت إبهاماً، وانظر إلى الليل كيف يقلّب صفحات قلبك وأنت تتلمس فيه طريقك، والى المستقبل كيف يجذبك إليه وأنت محجوب عنه، والى الشعر كيف يطربك وأنت لا تدري لذلك من سبب، والى الحب المفعم باللذات لأنك لا تعرف له بداية ولا نهاية. . . حبذا لو كان لي وشاح واحد من أوشحة هذا الليل الذي يكتنفني!

- ما الذي تراه فيك جميلا أيها القمر البدر؟

- رأفتي بالمتسكعين في الظلمة!

- ولمن أَنت؟

- أنا لامي الشمس

- من هو عدوك الأكبر؟

- الفجر

- من يقيم في دارك؟

- العاشق والفيلسوف والشاعر

- ومن أيضاً؟

- المرأة. . . المرأة. . . المرأة!

- كيف تحتج أيها القمر، وكيف تغضب إذا ما طفحت كأسك وضاق صدرك؟

ص: 4

- بخسوفي

- هل جاءك يوماً جارك النسر وهمس في أذنيك من كلماته؟

- أنا في رأفتي بالعباد أكره منقار الذي ينقض به على الفريسة. . .

- كيف أنت والنجوم؟

- القوي والضعيف لا يتحابان ولا يتصافيان. . .

- هل أنت راض عن الليل؟

- لي معه يومان: يوم ولاء، ويوم عداء!

- ألم تسأم من العلياء؟

- ومن يسأم منها؟

- ألم تحدثك نفسك يوماً بالتخلي عن عرشك؟

فضحك القمر البدر حتى ضحكت لضحكه، وما زلنا نضحك في أعالي الفضاء حتى أقبل علينا الفجر متململا من ثرثرتها وانقض على جنون البدر وجنوني، وأعادنا من سماء الخيال الرفيع إلى الحقيقة الكثيفة. . .

راجي الراعي

ص: 5

‌خواطر مسجوعة:

قد يقتل الألم الشعر!

(إن القوة التي تشد الأوتار هي التي تمزقها، والنار التي تشد

الدفوف هي التي تحرقها.

فإلى من تمزقت أوتارهم، واحترقت دفوفهم، أهدي رماد النار، وتراب القيثارة!!)

يقال إن الألم يوقظ الحواس، ويشد أوتار الإحساس، ولهذا القول من الصواب خلاق، لكن على غير الإطلاق. فإن القوة التي تشد الأوتار هي التي تمزقها، والنار التي تشد الدفوف هي التي تحرقها، والقسر الذي يضغط الشفاف حتى يلهبه، ليس أقتل منه للموهبة! فالشاعر كالطائر يعبر عن كل آلامه بالبكاء، إلا ألم القسر فقد يموت به من غير اشتكاء. والأملاق ضرب من القسر والإذلال، والإذلال غل من أبغض الأغلال! فإذا حصر الشاعر في عيشة محدودة، ودراهم معدودة، كبت القسر إحساسه، وكتم العسر أنفاسه!

وقد قيل إن البؤس أسدى إلى حافظ إحساناً، وأضفى على شعره إتقاناً، فلم يأت بالنفائس، إلا وهو بائس، وأنه لما لمس بعض السعادة، أخلد إلى البلادة، ولما ارتاح باله، قل في الشعر مقاله، فهل استراح هذا الشاعر إلا بعد أن هدت الأيام قواه، وأشرف من العمر على منتهاه؟ وحسبنا البيت الذي قاله، مصوراً حاله

سعيت إلى أن كدت أنتعل الدما

وعدت فما أعقبت إلا التندما

لقد كان فعل الآلام قوياً متماسكاً، عندما لاذ الشاعر بالغاية لاهثاً متفككا، فلم يصمت مؤثراً الصمت، وإنما كان يتأهب للموت، ومن قطع جل عمره في لأواء، ناء في منتهى الشوط بالداء العمياء!

وإذا كان البؤس هو الذي جعل حافظاً شاعراً كبيراً، فبماذا كان شوقي للشعر أميراً؟ وقد نشأ في أنعم دار، ولعب باللؤلؤ والنضار، وتربى في أحضان البلهنية، ولم تعز عليه أمنية؟ أعتقد أن البحبوحة، هي التي أطلقت روحه، فنبغ في ظلال السعة، والعيشة الممتعة.

حامد بدر

ص: 6

‌القاهرة الإسلامية:

جامع الأشرف جانبلاط

مدرسته وضريحه

للأستاذ أحمد رمزي بك

كتب الجبرتى في تاريخه عن حوادث شهر ذي الحجة الحرام سنة 1215 هجرية (وانقضت هذه السنة بحوادثها وما حصل فيها، فمنها توالي الهدم والخراب، وتغير المعالم وتنويع المظالم، وعم الخراب خط الحسينية، خارج باب الفتوح والخروبى، فهدموا تلك الأخطاط والجهات والحارات والدروب والحمامات والمساجد والمزارات والزوايا والتكايا وما بها من الدور والقصور المزخرفة وجامع الجنبلاطية بباب النصر، وما كان به من القباب العظام، المعقودة من الحجر المنحوت المربعة الأركان الشبيهة بالأهرام، والمنارة العظيمة ذات الهلالية، واتصل الهدم خارج باب النصر وباب الفتوح وباب القوص إلى باب الحديد، حتى بقى ذلك كله خراباً متصلاً وبقى سور المدينة الأصلي ظاهراً مكشوفاً).

لماذا أقدم الفرنسيون على هذا التدمير والتخريب وإزالة هذه العالم؟.

وما الذي جنته الآثار الإسلامية لكي تسوى بالأرض وتزال من الوجود؟.

واستمر الجبرتي يحدثنا عن المساجد والمدارس والدور والآثار التي هدمت، والنفس تفيض أسى وحسرة، ثم ختم بقول (قصدوا بذلك إنشاء عدة قلاع ومتاريس وتحصينات لحماية القاهرة).

كنت أسمع للمؤرخ المصري وكأنه ينتزع بكلامه عن كل أثر قطعة مني لأني قاهري مولداً ونشأة، وأرى في القاهرة مدينة حية خلال العصور الماضية إذا أصابها سوء فكأنه أصابني. وأعجب لقوم لا يشعرون بشعوري، ولا يقدرون عظمة القاهرة الإسلامية! وقمت مسرعاً في سيارة وقد حملت في يدي خريطة الحملة الفرنسية وأخرى مفصله لتلك الناحية، ونظرت إلى باب القصر وإلى باب الفتوح، وقلت من هنا مر صلاح الدين وبعده نابليون، وهذا جامع الحاكم: ترى لو كان مع غيرنا هل يتركونه على حالته؟ أم كانوا يعيدون إليه رونقه، ويجعلونه بيتاً للعبادة؟

ص: 7

وفتحت أطالس الفرنسيين وعثرت على جامع الأشرف ورسمه وشكله فإذا بي أكون فكرة عما كان عليه المسجد قبل هدمه، ومن نظرة واحدة تعرفت على ركن قائم منه في زاوية من سور القاهرة في الجهة الشرقية من باب النصر.

ونظرت إلى الباقي منه أنادمه منادمة من يصبو إلى بانيه وواضعه، ويرثى لسقطة هادميه ويقول ألم يجدوا لقلاعهم وخنادقهم غير حجارة هذا المسجد!

وما الذي كسبوه بإزالة معالمه؟ لقد أصبح مكانه قضاء كساحة خالية، فأخذت أسير فيها وقد تملكتني رهبة، ثم مر بخاطري المنظر الآتي:

كيف جاء صاحب المسجد بعد زيارته لقبر قايتباي فكشف عن عمارة هذه المدرسة، ثم دخل من باب النصر وشق المدينة فكان آخر عهده بها إلى أن أحضرت جثته من الإسكندرية في شوال سنة 906 في عهد الغوري فدفنت بتربة الأشرف قايتباى ثم تقدمت مماليكه (فقالوا لا ندفن أستاذناً إلا في تربته التي بباب النصر (فنقل إليها وهذه ثالث نقلة لجثمانه.

ومررت منذ مدة فإذا الركن الذي كان عالقاً بالسور عند باب النصر وبقى من هدم جيوش نابليون قد أزيل بدوره. وذهبت المدرسة وضاع الضريح. ويقول حارس الأضرحة إن جماعة يسكنون في جهة تحت الربع كانوا يدفنون موتاهم في أرض المدرسة ويقولون إنهم من سلالة الأشرف جانبلاط الرابع والأربعين من ملوك الترك، والثامن عشر من ملوك الجراكسة بالديار المصرية. قلت نعم وهو الذي تولى إمارة ركب المحمل المصري سنة 894 وكان قاصداً (سفيراً) لدى بني عثمان سنة 896 هجرية ثم نائب مصر بحلب ثم بالشام ثم أتابك العساكر المصرية بعد الأنابكي أزبك.

وانتهى أمره وأمر مدرسته وعهده وضاعت معالم قبره وتذكرت أبا الطيب المتنبي وقوله:

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها

وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمة

(شارع الأهرام بالجيزة)

أحمد رمزي

ص: 8

‌على هامش (دراسات عن المقدمة):

تحامل ابن خلدون على العرب

للأستاذ محمد سليم الرشدان

- 2 -

(في الفصل السابق من هذا البحث برهنت على أن دفاع الأستاذ الحصري بك عن ابن خلدون في تحامله على العرب (بكتابه دراسات عن المقدمة) لم تكن تؤيده أقوال ابن خلدون نفسه، واستشهدت بنصوص (المقدمة) التي اعتمد عليها، مثبتاً أن الاستمرار بتلاوة تلك النصوص ينطق بعكس ما يريده الحصري، ويقوم حجة على أن ابن خلدون تعمد ذلك التحامل، وأراد به العرب في أمصارهم وبواديهم. . . وها هنا أكمل التعليق على هامش تلك (الدراسات)، مبيناً وجوه الرأي في ذلك التحامل وأسبابه المحتملة. فأقول:)

لعل سائلاً يسأل، ما سبب تحامل ابن خلدون على العرب بهذه الصورة التي لفتت أنظار الباحثين، حتى من غير العرب؟! فجعلت البعض يظنون في حقيقة نسبة شتى الظنون، وجعلت البعض الآخر يتهمونه في قوميته. كما جعلت هذين الكاتبين، وأعنى بهما (بارون دوسلان الفرنسي) و (جودت باشا التركي) يتلمسان له وجه العذر بهذا التأويل الذي أولا به كلمة (العرب) عنده كما مر آنفاً.

فهل كان حقيقة دعياً في (نسبه)، فهو يحمل في نفسه موجدة على العرب الذين هدموا مجد أسلافه - فيما إذا كانوا من غير العرب! - وسلبوا حريتهم. فهو من أجل ذلك موتور، وصاحب الترة كثيراً ما يجنج به الخطل، ويميل مع الهوى كل الميل دون روية أو تبصر.

أم كان حقيقة متهماً في (قوميته)، فهو من أجل هذا الالتواء والشذوذ، يتحامل على العرب شر تحامل، ويرميهم بهذه العيوب التي أحاطهم بها، وينسب إليهم أسوأ الصفات، وأية صفات أسوأ من هذا الذي وصف به العرب وبالغ في وصفه؟!

هذا ما نقف للإجابة عليه، وأنه لموقف عسر شائك، لا يخلو صاحبه من أن يتحكم به هواه، أو يضل طريق الصواب في اجتهاده. على أنني سأحاول - جهد الطاقة - أن أتقي ذلك (بالشمال وباليمين) وأن أقف عند حد الاعتدال فيما أعرض له. فأقول:

ص: 9

إن اتهام ابن خلدون في وجه من الوجوه التي ذكرت، والتي يمكن أن تفترض كذلك، ليس بالأمر البسيط الهين. وإن ابن خلدون لو لم يكن له من الفضل إلا أنه المبتكر الفذ الذي سبق الأولين والآخرين من سلفه، في استنباط فلسفة علم التاريخ وفلسفة علم الاجتماع لكفاه ذلك فخراً. وحسب هذا الذي تراوده نفسه أن يتهم ابن خلدون في أية ناحية (فكرية أو نفسية)، أن يضع بين يديه شيئاً من أقوال عظماء الأجيال فيه، في شتى العصور ومختلف الأمم. وحينذاك - بعد أن يعرف ابن خلدون حق المعرفة - يستطيع أن يتحدث عنه بالكيفية التي يطمئن إليها. وأن تلك الأقوال التي أثرت عن كبار الباحثين في (ابن خلدون) لوافرة جمة يضيق عنها الحصر. على أنني برغم ذلك استشهد منها تأييداً لما ذكرته عن ذلك المؤرخ العلم الفيلسوف.

يقول (البارون فون كرايمر) العرباني النمسوى، في رسالته (ابن خلدون وتاريخه لحضارة الدول الإسلامية) أن ابن خلدون يؤرخ الحضارة الإسلامية وهو:(من بين المؤرخين المسلمين أول من خصص فصولاً ضافية للتحدث عن النظم السياسية وأنواع الحكم. . .).

ويقول الأستاذ (ثميث) الإنجليزي، وهو أحدث من درس ابن خلدون ونقده ما يأتي:(إذا وجب - مع بعض التحفظ - أن نعتبر ابن خلدون مؤرخاً للحضارة الإسلامية، فيحسن أن نتدبر ما إذا لم يكن قصد ابن خلدون الحقيقي، هو أن يقدم لنا أمثلة إيضاحية، ومجموعة تبين لنا ما يعبره موضوع التاريخ وجوهره. . . ولقد كانت هذه الفكرة العظيمة المستنيرة في فهم التاريخ بأنه سجل لتطور الإنسان الاجتماعي مترتباً على العوامل الطبيعية، وناشئاً عن تأثير الوسط وتفاعل الفرد والجماعة، خليفة بأن تجعل كتابة مفتتج عهد جديد. . .)

ويعتبر الأستاذ الهولندي (دي بوير) ابن خلدون فيلسوفاً (ويضعه في ثبت الفلاسفة المسلمين إلى جانب ابن سينا والغزالي وابن رشد وابن الطفيل، وينوه بقيمة المنطق في صوغ نظرياته. ويصفه بأنه مفكر متزن. . .)

ويعبره آخرون كثيرون في مكانة لا تقل عن هذه المكانة التي وضعه فيها هؤلاء الباحثون. ويصرحون بذلك على مرأى ومسمع من أساطين العلم والفكر، دون أن يجدوا من يعارض قولهم، أو ينتقص قيمته من حيث الحقيقة، أو يتهمهم بالمبالغة في سرد هذه الحقيقة.

ونحن حين نعرف ابن خلدون عن هذا الطريق، نقف حيال آثاره موقفاً لا يزايلنا معه

ص: 10

أجلاله وأكباره، وتقدير اللائق بمكانته العلمية الرفيعة. . . على أنه من الجدير بنا في هذا المقام إلا نتمهن رأينا وتفكيرنا، فيصور لنا احترامنا لابن خلدون سقطاته التي وقع فيها حسنات كلها. وهيهات! فالحق أبلج والباطل لجج، وأن الحقيقة التي لا نرتاب في صحتها هي أن ابن خلدون قسا في حكمه على العرب قسوة بالغة، وحكم عليهم حكما كان من القمين به وبمكانته العلمية أن يتبصر كثيراً في إصداره والمجاهرة به.

وأما أنه أصدر هذا الحكم لأنه كان دعي النسب في العرب، فذلك أمر يحتاج البت فيه والجزم في صحته إلى كثير من التدقيق. ولا أدري هل كان ابن خلدون دعياً في نسبه حقاً؟! وأنى لنا معرفة ذلك لا تخالطها ريبة، ولا يمازجها شك!!

يقول الرجل (أعني ابن خلدون) عن نفسه أن يرجع في أصله إلى العرب اليمانية في حضر موت، (ونسبه إلى وائل بن حجر، ويعتمد في ذلك على رواية النسابة الأندلسي ابن حزم (توفي سنة 457هـ) غير أنه يشك في صحة هذه السلسلة، ويعتمد أن أسماء منها قد سقطت. لأنه إذا كان خلدون هو جده الداخل إلى الأندلس عند الفتح، فإن عشرة أجداد لا تكفي لقطع ستة قرون ونصف التي انقضت منذ الفتح حتى مولده. وفي رأيه أنه يجب لقطعها عشرون، باعتبار ثلاثة أجداد لكل قرن. وأما نسب جده خلدون الداخل إلى الأندلس، فهو كما روى ابن حزم أيضاً: خالد، المعروف بخلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كريب بن معد بن الحارث بن وائل بن حجر. فابن خلدون - طبقاً لهذه النسبة - سليل أصل من أعرق الأصول العربية اليمانية. . .).

هذا ما يقوله ابن خلدون من نفسه مستقى من تلخيص الأستاذ عبد الله عناني المحامي الذي يقول في تعليقه على هذا النسب ما يلي: (ولكن هنالك ما يجعل على الشك في صحة هذا النسب البعيد، الذي يدونه ابن حزم لأول مرة في القرن الخامس الهجري. ويقوي هذا الشك لدينا ما نعرفه من ظروف الخصومة والتنافس بين العرب والبربر في الأندلس. . . وكانت العروبة في الأندلس شرفاً يرغب في الانتساب إليه، لما كان لها من السيادة والنفوذ، ولكن الشك كان يحيق بأنساب كثيرة من أهل العصبية والرياسة. بل لقد تطرق هذا الشك إلى أنساب زعماء الفاتحين أنفسهم، فقيل عن طارق بن زياد أنه من البربر، وقيل أنه فارسي من موالي العرب. . .).

ص: 11

ويلتفت الأستاذ عنان بعد هذا التعليق إلى نسب ابن خلدون، التفاتة بارعة، مستقرئاً ذلك من الحقيقة الراهنة مع ابن خلدون. فيقول:(وهناك أيضاً ما يبعث على التأمل في تعلق ابن خلدون بهذه النسبة العربية، وهو أنه في مقدمته يضطرم نحو العرب بنزعة قوية من الخصومة والتحامل، بينما نواه في مكان آخر من تاريخه يمتدح البربر ويشيد بخلالهم وصفاتهم).

وهذا الذي يقوله الأستاذ عنان يكاد يقره الكثيرون، وذلك حين يؤكدون: أن مثل هذه الخصومة البادية في تحامل ابن خلدون على العرب، لا يمكن أن تصدر عن مؤرخ استهدف الحقيقة، وزاملته النزاهة، وصحبته الاستقامة. كما أنه من البعيد المستهجن أن لا تكون الأمة استطاعت أن تتغلب على دولتين من أقوى دول الأرض يومذاك، وأن تشيد على أعقاب ملكهما ملكاً تزدهر فيه الحضارة ويعم الرخاء، ويستبحر العمران، ويقوى على مقارعة الخطوب ومصاولة الأيام سنين طويلة وعصوراً مديدة.

أجل، إنه من المستهجن حقاً ألا يكون لهذه الأمة من المزايا ما يجعلها في نظر ابن خلدون في مصاف الفرس والرومان، أو في مصاف (البربر) على الأقل!! الذين امتدحهم كثيراً، وأطنب في مدحهم، وذكرهم في كثير من المواطن التي كان للعرب ما يفوقها، فضلاً عن أن يماثلها ويسير في تهجمها. وأن ذلك عجيب يستفز الريبة!!

إذن فلم يبق أمامنا إلا أحد وجهين: إما أن ابن خلدون كان اتهامه في نسبه حقيقة راهنة، حتى بدر على لسانه هذا الذي بدر الشك في ترتيب ذلك النسب، ثم هو يدعيه ويتظاهر به، حرصاً على مكانته لدى الملوك والأمراء، إذ كانت العروبة - كما يذكره الرواة - (شرفاً يرغب في الانتساب إليه). إلا أنه ينم عليه قلمه، ويكشفه تعصبه، فإذا هو عدو في ثياب صديق، وإذا هو يحمل ضغينيين:

أولاهما: هذا العداء الموروث الذي كانت تنطوي عليه تلك الأقوام المختلفة من دعاة الشعوبية في شتى الأقطار التي دخلها العرب غزاة فاتحين.

وأخرهما: هذا الحقد المرير الذي يضطرم في دخيلة نفسه، كلما الفاه محمولاً على أن يتظاهر بالانتساب إلى غير أهله، حرصاً على مكانه بين الناس!

ومن جراء هذه وتلك ينبري ملتمساً المثالب في كل باب، ومقتنصاً المعايب من كل سبيل،

ص: 12

ومنقباً عن أسباب الخيبة والفشل وانتقاض العمران، ليلبس ذلك كله للعرب ويسنده إليهم، ويلحقه بهم غير مستنكف ولا متورع.

وإما أن يكون ابن خلدون على النقيض من ذلك، أي أنه عربي محض، وأن تحامله على العرب كان وليد تأثره بأوضاع شخصية، وظروف خاصة أحاطت به في شتى أطوار حياته وتشتت بها شمله، وتغرب عن بلده، وقاسى من العناء والمشقة الدسائس وحسد الحاسدين، ما يجعله يسئ الظن بأقرب المقربين إليه فيعيد هذا الفساد الخلقي إلى نقص موروث، تناقله الأبناء عن الآباء.

أضعف إلى ذلك أنه كان يعيش في زمان كثرت فيه الدويلات، وانتقصت فيه ممالك الإسلام من أطرفها. فهذا (تيمور لنك) يكتسح الممالك الإسلامية من الشرق فتخر بين يديه دولة أثر دولة. . . وهؤلاء الأسبان في الأندلس، يدحرون المسلمين أمامهم، وينتزعون منهم بلداً أثر بلد. وهنالك الثورات والقلاقل التي كانت لا تخبو نارها، ولا يخمد أوارها. ثم هو لا يزال يشاهد من أهوالها ما يجعله ذاهلاً حائراً، لا يدري إلى أية فئة ينحاز، ولا إلى أي قبيل يلتجئ!!

وأذا ما التزم العافية عاش عالة على سواه، وبقى هملا لا قيمة له ولا أثر، وهيهات أن يرتضي ذلك ابن خلدون، وهو سليل السادات، وحفيد الأمجاد. إذن فلا بد من أن يخوض هذه المعممة، ويصيبه من شرورها شتى الألوان.

ومن ظن ممن يلاقي الحروب

بأن لا يصاب فقد ظن عجزا

فابن خلدون إذن حين يحمل على العرب هذه الحملات، إنما يتحدث عن عرب زمانه، ومن يدري، فلعلهم - شأن من يؤثرون الشقاق على الألفة، ويظهرون العدو للإيقاع بأخوانهم!! - جديرون بهذا الذي نعتهم به، بل خليقون بأكثر منه. . . وهو حين يتجاوزهم إلى من سبق من أسلافهم لم يزد على أن يأخذ البرئ بجريرة العاصي، وتلك سنة من جمع به هواه.

وعين الرضا عن كلُّ عيب كليلة

كما أن عين السخط تبدي المساويا

هذا ما عن لي أن أقوله في تعليقي على رأي ابن خلدون في العرب، وذلك (على هامش دراسات الأستاذ الحصري). ولعلي أميل في تعليل تحامله إلى الرأي الثاني وهو في يقيني

ص: 13

أقرب إلى الحقيقة والواقع.

وهنا أختم كلامي بتعبير كان يكرره ابن خلدون كثيراً - وذلك على سبيل التيمن والبركة - فأقول: والله تعالى أعلم!

(زحلة - نزل إلياس ثابت)

محمد سليم الرشدان

(ماجستير في الآداب واللغات السامية)

ص: 14

‌الفلسفة الصامتة

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

(تتمة)

الحياة أعظم الشرور:

تحدثنا الحكمة الهندية أن الأمير السعيد (ساكياموني) وهو من نعرف باسم (بوذا) خرج في عربته وهو شاب قد خفي عنه العلم بالمرض والشيخوخة والموت. فوقعت عيناه على رجل مسن مفزع، تحطمت أسنانه وسال لعابه من فمه. فدهش الأمير الذي خفي عنه حتى اليوم العلم بالشيخوخة، وسأل سائق عربته عما رأى، وكيف آل هذا الرجل إلى مثل هذه الحال الزرية المقززة. ولما علم أن ذلك هو المصير المألوف للناس جميعاً، وأن تلك الحال عينها تنتظره بغير مناص - وهو الأمير الشاب - لم يستطع أن يواصل السير، وأمر السائق أن يقفل راجعاً إلى البيت كي يتدبر الأمر. ثم حبس نفسه وأخذ يفكر. وربما وجد في نفسه ما يعزيه، لأنه خرج بعدئذ في العربة مرة أخرى وهو مرح سعيد. غير أنه رأى هذه المرة رجلاً مريضاً: رأى رجلاً هزيلاً شاحب اللون قاتم العينين يرتعش من شدة الهزال. فوقف الأمير الذي خفي عنه العلم بالمرض، وسأل عما رأى. ولما علم أن ذلك هو المرض الذي قد يتعرض له أي إنسان، وأنه هو نفسه - وهو الأمير الصحيح البدن الهانئ القلب - قد تصيبه العلة في غده، عاد إليه ذلك الاكتئاب الذي يحرمه المتعة بحياته وأمر سائقه أن يقفل راجعاً إلى البيت. وبحث عن العزاء مرة أخرى، وربما وجده، لأنه خرج في عروبته للمرة الثالثة قصد النزهة. ولكنه في هذه المرة الثالثة رأى مشهداً آخر جديداً: رأى جماعة تحمل شيئاً فسأل:

(ما هذا؟) فقيل له:

(هذا رجل ميت). قال:

(ما معنى كلمة ميت؟) فقيل له:

(إن المرء حين يموت يمسي كذلك الرجل).

واقترب الأمير من الجثة، ورفع عنها الغطاء، ونظر إليها، وسأل:

ص: 15

(ما الذي سيحدث له الآن؟) فقيل له:

إن الجثة ستوارى التراب.

(لماذا؟).

(لأنه بالتأكيد لن يعود إلى الحياة، ولن يصدر عنه غير النتن والدود).

(وهل هذا هو مصير الناس أجمعين؟ هل يحدث لي نفس هذا الشيء؟ هل يدفنوني؟ وهل تصدر عني الرائحة الكريهة ويأكلني الدود؟).

(نعم).

(إلى البيت! لن أركب عربتي للنزهة، ولن أفعل ذلك مرة أخرى).

ولم يجد ساكياموني في الحياة ما ينطوي على أية قيمة وانتهى إلى فلسفته التي تقرر أن الحياة أعظم الشرور، وأن الخير يقضي بالتحرر منها ودعوة الناس للتحرر منها بكل ما يملكون من طاقة روحية. وهذه القصة ترمز إلى فلسفة الهند الزاهرة في الحياة، المتعلقة بالروحانية. وهي عين الفلسفة التي يعبر عنها سليمان الحكيم في الكتاب المقدس إذ يقول:

(باطل الأباطيل - كل شيء باطل. ما فائدة الإنسان من أي عمل بتولاه تحت الشمس؟ جيل يتولى وجيل يقبل إلى الأبد. إن ما كان سوف يكون وما حدث سوف يحدث، وليس تحت الشمس جديد؟ هل هناك شيء نستطيع أن نقول عنه: انظر! هذا جديد؟ كلا. إنه من قديم الزمان الذي سلف. ليس لما سلف ذكرى، ولن تكون لما يُقبل ذكرى. أنا الذي أعظكم كنت ملكاً على بني إسرائيل في بيت المقدس، ولقد وهبت قلبي للتنقيب والبحث عن طريق الحكمة في كل ما حدث تحت السماء. . . وناجيت قلبي وقلت له: هيه، أنا مالك لضيعة كبرى وعندي من الحكمة أكثر من كل من سبقني ببيت المقدس - أجل، إن قلبي مفعم بكثير من تجارب الحكمة والمعرفة. ولقد وهبت قلبي لإدراك الحكمة ولمعرفة الجنون والحماقة، فرأيت أن ذلك يبعث على الحزن العميق. ومن يزدد علماً يزدد أسى.

قلت لنفسي: الآن انطلق، ولسوف أمتحنك بالمرح. وإذن فلتنعم بمختلف المتع. فكان ذلك باطلاً كذلك. . . شيدت لي بيوتاً وزرعت الكروم، وأنشأت الحدائق والبساتين، وغرست فيها الشجر من كل الثمار، وحفرت البرك أروى من مائها الغابة التي تنمو بها الأشجار، واستخدمت الخدم والإماء، وولدت الخدم في بيتي، وامتلكت من قطعان الغنم والماشية أكثر

ص: 16

من كل من سبقني في بيت المقدس. وجمعت كذلك الذهب والفضة ونوادر الكنوز من مختلف الملوك والأقاليم. وظفرت بالمغنين والمغنيات، وبكل ما يلهو به ابن آدم، كآلات الموسيقى وما إليها. وهكذا كنت عظيما، وتوفر لي ما لم يتوفر لكل من سبقني ببيت المقدس. وبقيت حكمتي معي كذلك، ولم أحرم عيني من كل ما اشتهتا، ولم أبعد قلبي عن أي لون من ألوان السرور. . . ثم نظرت إلى كل عمل عملته يداي، والى الجهد الذي بذلت. . . فرأيت أن الكل باطل يبعث على حنق النفوس، وليس من ورائه جدوى تحت الشمس. وهناك حدث واحد يقع للطيبين كما يقع للأشرار ولمحبي الخير ومحبي الشر، وللطاهر والدنس، ولمن يضحى ومن لا يضحى، والطيب كالخبيث، ومن يقسم بالباطل ومن يخشى القسم. إنه شر يتخلل كل ما يقع تحت الشمس، وكل شيء يتعرض لحدث واحد. نعم إن قلوب بني الإنسان كذلك مليئة بالشر، والجنة في قلوبهم ما داموا أحياء، وبعد ذلك يذهبون إلى الموتى).

شوبنهور وسقراط

لندع أسطورة بوذا وموعظة سليمان فهما من الحكمة الشعبية الصامتة، لنتأمل قليلا رأى كل من سقراط وشوبنهور الفيلسوفين بقول سقراط وهو يتأهب للموت:(إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة؛ إذ ما الذي نجاهد في سبيله نحن محبي الحقيقة؟ أننا نجاهد في تحرر أنفسنا من الجسد! ولما كان الأمر كذلك، فلماذا إذن لا نفرح حينما يأتي إلينا الموت؟ إن الرجل الحكيم يبحث عن الموت طوال حياته، ولذا فالموت لا يفزعه).

ويقول شوبنهور: (إذا ما أدركنا أن طبيعة العالم الخفية ليست سوى (الإدارة)، وأن كل مظاهر الطبيعة - من الحركة اللاشعورية لقوى الطبيعة الغامضة إلى عمل الإنسان الكامل الوعي - إن هي إلا مظاهر لهذه الإرادة، لم يعد لنا ما يبرر التخلص من هذه النتائج: وذلك أنا إن نبذنا الإرادة وتخلينا عنها طائعين، ألفينا كذلك كل تلك المظاهر - ذلك التيار الدافق والجهد الذي لا يكل ولا يهدا في كل مرحلة من مراحل المظاهر الطبيعية التي منها وعن طريقها يتألف العالم؛ وتلك الصور المتعددة التي تتلو إحداها الأخرى في تدرجها، وستختفي مع هذه الصور كل دلائل الإرادة، وستختفي كذلك في النهاية الصور العالمية لتلك الدلائل - الزمان والمكان، والصور النهائية الأساسية، أي أن كل ما ذاتي وكل ما هو موضوعي

ص: 17

سوف يتلاشى. إذا لم تكن هناك إرادة فلن يكون هناك مظهر لشيء، ولن يكون هناك عالم. إنه لا يبقى أمامنا بالتأكيد سوى العدم)

وقف تولستوي أمام هذه الأقوال الأربعة فوجدها جميعاً تجيب عن سؤال واحد عرض لكل منهم بصدد مشكلة الحياة، وتنتهي إلى نتيجة واحدة:

يقول سقراط: (إن حياة الجسد شر وأكذوبة. وإذن فتحطيم حياة الجسد نعمة، يجب أن نتمناها.)

ويقول شوبنهور: (الحياة هي ما لا ينبغي أن يكون - هي شر، والانتقال إلى العدم هو وحده ما في الحياة من خير.)

ويقول سليمان: (كل ما في الحياة - من حماقة وحكمة وثراء وفقر ومرح وحزن - باطل وعدم. يموت المرء ولا يبقى منه شيء وهذا سخف).

ويقول بوذا: (يستحيل على المرء أن يعيش وهو يدرك أن الألم والضعف والشيخوخة والموت أمور لا مفر منها - يجب أن تتحرر من الحياة الممكنة كلها).

ويعلق تولستوي على هذه الأقوال بما يؤيد دعوانا التي سبقت الإشارة إليها وأعني انتساب المذاهب الفلسفية إلى الحكمة الشعبية فيقول:

(وما ذكره أصحاب العقول الجبارة فكرت وأحسست به وعبرت عنه ملايين الملايين من أمثالهم من البشر. وقد فكرت فيه وأحسست به أنا كذلك).

كتاب الحياة:

لعل قارئي العزيز اقتنع بعد هذا العرض لنصوص الكتاب والحكماء أن حس هؤلاء الدقيق يكفل لهم في كثير من الأحيان النفاذ إلى كنه الحياة، وأن حكمهم السليم المبرأ عن الهوى وسيلة من وسائل المعرفة الفلسفية، وأن إنتاجهم لا يخلو من نظرات عامة في الكون لم تفسدها الصنعة ولم يعزوها الصدق في التصور ولعله قد تبين أن كتب الفلاسفة ليست وحدها المصدر الذي نستقي منه الفلسفة، فقد نسقيها من حكمة الشعب كما بينا في مقال سابق، وقد نستخلصها من الأدب الروائي أو الشعر والأساطير وقد نهتدي إليها في مسلك كثير من الناس، وبالجملة قد نتعلمها في مدرسة الحياة. وقد تنبه ديكارت إلى هذه الحقيقة فأنحى باللائمة على العلوم التي تدارسها في المدرسة، واتهم بالقصور والتفاهة المعارف

ص: 18

التي تلقاها على أساتذته. فألقى بالكتب عرض الحائط، وعول على أن يبدأ حياته الفكرية من جديد بقراءة (الكتاب الكبير) كتاب الحياة. فأقبل على الناس يضطرب وإياهم في مناكب الحياة، وأنفق بقية أيام شبابه في الارتحال ورؤية القصور، وتعلم صنعة الحرب على يد أشهر جندي في أوربا في ذلك الحين وهو هولندي (موريس دي ناسو). ثم رحل إلى ألمانيا، وهناك ساهم إلى جانب بارفايا في مقاتلة بوهيميا الثائرة في الحرب المعروفة بحرب الثلاثين، وخالط مختلف الأجناس والشخصيات. وهكذا طفق يستمد فلسفته من مصدرين: نفسه حيث (النور الفطري وحيث تكمن الحقيقة كون النار في الحجر الصوان) والعالم حيث الحقيقة حية بسيطة لم يفسدها التجريد والحفاف، فجاءت فلسفته مثلاً رائعاً للوضوح والإشراق والتكامل المذهبي، واستحق بجدارة لقب (أبو الفلسفة الحديثة).

الأبراج العاجية:

إن المتفلسفين الأكاديميين ليكشفون عن غرور أحمق - إذ يزدرون هذه المصادر الكبرى ويعتزلون في أبراج عاجية شاهقة بمعزل عن الحياة التي تلفهم جسداً وعقلاً، يقضون العمر فيها يجترون أفكاراً جامدة لا حياة فيها، فارغة خلوا من المعنى، متوهمين أنها الحق في حين أنه هنالك عند أقدامهم: في عقول المحنكين، ذوي الحس الدقيق والبصيرة النافذة من العامة والكتاب، ممن لم يفسد تفكيرهم التعمل. إلى هؤلاء أسوق سخرية عمر الخيام من الفلاسفة ليطامنوا من كبريائهم:

(طالما خضنا غمار الفلسفة

وسمعنا من صواب وسفه

وخبطنا في مضلِّ معسفه

ثم صرنا حيث كنا أولاً

لم نسر نحو الهدى قيد ذراع

كم بذرنا حكمة الفكر البصير

وسقيناها حيا العقل الغزير

ما جنينا غير بهتان وزور

ما علمنا غير أنا في الملا

شغل البرق خبت بعد التماع

ولا يفوتني أن أعيد إلى الأذهان سخرية باسكال من فلسفة أفلاطون في عبارته الشهيرة (أراد أفلاطون أن يعلو على الطبيعة فسقط إلى الحضيض.) إذا كان أفلاطون العبقري الفذ مهدداً بالسقوط إلى الحضيض فما رأى المتفلسفين الذين يقيمون بينهم وبين البصيرة

ص: 19

الشعبية سداً منيعاً؟ لقد كان لأفلاطون من تماسك مذهبه أسس مكينة تحميه من السقوط فبماذا يتشبث أصدقاؤنا هؤلاء وهم يحتمون بأبراج من خيوط العنكبوت؟!

خاتمة

بعد كل ما تقدم أخشى أن نسف في فهم الفلسفة ونظن كل نظرة عابرة فلسفة كبرى، وصاحبها فيلسوفاً كبيراً، فنخدع عن أنفسنا، ويركبنا الغرور. ولذلك أنبه القارئ إلى أن تلك النظرات ليست سوى محاولات للنظر الفلسفي يأتيها الحكيم الشعبي أو الروائي، ثم إنها محاولات تلونها الانفعالات والأمزجة الخاصة، ولا تكاد تنفصل عن السلوك العملي وشئون الأخلاق، وقلما تتعرض لمسائل ما بعد الطبيعة. فلسفة الشعب مزيج من القول والفعل والنقل. مصدرها تجاريب العيش وصروف الأيام، أفراح الحياة وأتراحها؛ ويقين الشعب بفلسفته أشبه باليقين الديني لا يحتاج إلى دليل أو برهان، وذلك ما يخلع عليها حرارة تعوز مذاهب الفلاسفة التي تتميز ببرود المنطق وجفاف الجدل. وأداة الفلسفة الشعبية ليست المنطق الصوري، ولكنها ملكة الحكم السليم التي يدعوها الفرنسيون ويسميها الإنجليز وأثرها في نفسية الشعب عميق غاية العمق: تثبت فؤاده، وتعزيه عما يصادف من محن، وتبرر كثيراً من تصرفاته. أما صورتها العامة فيعوزها التكامل لأنها نظرات مبعثرة وخواطر متفرقة يندر أن تأتلف كلا واحداً.

أما الفلسفة بالمعنى الخاص فبريئة من أمرين: النظرة السطحية، والنظرة الجزئية. فلسفة الخاصة (أي فلسفة الفلاسفة) تهدف إلى تفسير عام شامل للكون في مجموعه، ولذلك كنا نجد تفسيرات الفيلسوف لمختلف نواحي الكون تنتظم كلا واحداً متناسقاً هو (المذهب). نواة المذهب الفلسفي نظرية كبرى تتشعب منهما أو تدور في فلكها نظريات فرعية صغرى في المعرفة والوجود والأخلاق، بل والسياسة والجمال أحياناً. نواة مذهب أفلاطون مثلا (نظرية المثل)، وأرسطو (الهيولي أي المادة الأولى والصورة)، وأفلوطين (الفيض الإلهي)، وشوبنهور (إرادة الحياة) الخ. . .

وللمذاهب الفلسفية قيمة كبرى فهي الوسيلة التي ينمى بها العقل الإنساني أعمق نظراته وتفسيراته. إنها تعينه على تعمق كنه الحقيقة، وتعطي الأفكار المبعثرة حياة وحركة وقوة. مثل المذهب مثل البلورة تلم شتات الأشعة، وتركزها في نقطة ضوئية صغيرة، ولكنها

ص: 20

أكثر التماعاً والتهاباً من الأشعة المتفرقة. وبدون هذه الجهود التي يحتملها الفلاسفة من ذوي المذاهب المتكاملة، فإن الأفكار الإنسانية المتفرقة قد تومض في لحظات من التأمل المتكامل المتراخي وسرعان ما ينطفئ الوميض.

وأضيف أخيراً أن الفيلسوف أقدر من المفكر العادي على التحرر من شطحات الخيال، ونزوات الانفعال، أكثر منه فردية وابتعاداً عن تيار الحياة الجارف الرتيب. لا يوقن بأمر قبل أن يتناوله بالنقد، ولا يسلم برأي دون تمحيص؛ لا تراوده فكرة إلا قبلها على جميع الوجوه؛ تلقي إليه بالرأي فيطلب الدليل، وتنقل إليه الخبر فيلتمس البرهان، وتقدم إليه التفسير فيسعى إلى تفسير لذلك التفسير. منهجه الشك قبل اليقين. الشك من كل شيء حتى في عقله، وشعاره النقد قبل التسليم. الاستسلام للعاطفة عنده خطأ مبين، والرضا بالمزاعم الجارية إثم لا يغتفر. عقل مستديم القلق، وذهن لا نهائي التساؤل، وفكر لا ينى عن التحميص. النظرة العابرة لا ترضيه، واستكشاف الجزيئات لا يكفيه، فميدانه الكون في مجموعه، وهدفه الحقيقة كاملة غير منقوصة.

(الإسكندرية)

عبد العزيز المليجي

ص: 21

‌جيوفاني بوكاشيو

للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي

1313 -

1375

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

أن المقارنة بين الكتابين تدفعنا إلى المقارنة بين الفن الأدبي في اللغة اللاتينية وبينه في اللغة الإنجليزية. يقوم الفن في اللاتينية على التصميم في القصة وعلى رسم حوادثها وعدم الاهتمام بأشخاصها.

أما في اللغة الإنجليزية فيعتمد على الأشخاص وجعل الفن متصلاً بهم وموسوماً بما في نفوسهم وطبائعهم من خير أو شر وتعاسة ونعيم. وعلى هذا الأساس يجد القارىء ما يبعث السأم في نفسه وهو يقرأ قصص كانتبارى، ولكن أشخاصها يبعثون في سأمه ما فيهم من حياة وحركة. أما في قصص دى كامرون، فإن القصص رائعة والأشخاص أموات لا يتحركون. فالأشخاص في دى كارمون غير مسؤولين مطلقاً عما يدور على ألسنتهم من حوار وقصص قد لا يتفق في كثير أو قليل مع احتشام الفتاة التي تقصها، حينما تتصل المعاني بالأدب الجنسي المكشوف الذي ضرب بوكاشيو بسهم وآفر. وليس في استطاعة وليس في استطاعة الناقد إلا أن يسقط هذه الشخصيات من اعتباراتها الشكلية التي وضعت مرغمة فيها وعلى وجهها أقنعة مستعارة لا تتصل بها ولا تمثلها. . . وناقل الكفر ليس بكافر، إذا أراد أن ينصفها ويدلل على مكانها من الحقيقة. . .

لكن هذه الشخصيات في بعض أحاديثها خارج القصص تصور لنا المناظر الجميلة حول فلورنسا، والقصور المترفة، والمروج التي تجري فيها الأنهار تصويراً رائعا. . .

لم تقع حوادث القصص المائة في مكان واحد، وإنما وقعت في ثلاثة أماكن: أولهما يبعد ميلين عن فلورنسا، وهو قصر باذخ تقوم على أطرافه حدائق غناء، وسواقي جارية، وحقول خضر، وتلال مغطاة بأشجار الفاكهة، وموقعه الآن على مقربة من قرية ستجنانو التي تصلها طريقة ضيقة تبعد ميلين عن ضاحية بورنالا كروز، وكان هذا القصر يقع في مزرعة تدعى بوجيوجراردو وهي حصة مارجريتا زوجة أبيه من إرثها من أسرتها.

ص: 22

في نهاية اليوم الثاني بعد أن تم اختيار نيفيل ملكة لليوم الثالث اقترحت عليهم أن يزوروا مكاناً جديداً بالغت في مدحه، وهو قصر فخم على سفوح تلال الفيزول ويسمى فيلا بالميرى. . .

وفي مساء اليوم السادس، وكان يوماً من أيام الربيع، وبعد الانتهاء من القصص، وكانت قصيرة، وبينما كان الرجال الثلاثة منهمكين في لعبة النرد، أشارت أليسا من طرف خفي إلى صواحبها الست، فتجمعن واقترحت عليهن الذهاب إلى مكان جميل جداً يدعى لافلا ويلدون. وبعد مسيرة ميل واحد وصلن إلى مجرى يسيل منه ماء عذب رقراق كالبور، وكان السهل الذي يجري فيه ذلك المجرى عبارة عن دائرة قطرها نصف ميل تحيط بها ستة تلال وينبع من بين تلين، ويكون في طرف السهل بركة لا يزيد عمقها عن بضعة أقدام وقد أغراهن صمت المكان والماء فنزعهن ملابسهن وابتدأن في الاستحمام، ولا تزال هذه البقعة تدعى بالاسم نفسه حتى الآن. . .

ونعود الآن إلى القصص نفسها فنرى أنها تعود في أصولها إلى المصرين القدامى والعرب والفرس والفرنسيين. ومن المحقق أن بوكاشيو لم يعرف مصادرها، وإنما سمعها في نابولي وأنحاء إيطاليا، ولعل ثلثها يعود في أصوله إلى المصادر الفرنسية وقسما إلى الهنود والفرس، والقليل إلى المصادر اللاتينية. إننا نستطيع توجيه التهمة نفسها إلى شكسبير وتشوسر ونتهمهما بالنقل وعدم الإبداع. ولكننا حين نوجه التهمة نفسها إلى بوكاشيو نقول واثقين إنه لم يعرف تلك الصادر، وإنما رأى فيها عملا إبداعياً أصيلاً. . .

إنه كتاب يتصل بالناس كما تتصل بهم الحياة، يتصل بهم في الجد واللهو، في الفضيلة والرذيلة، في الشر والخير، في التهكم والمجون، وهو إلى جانب ذلك مفعم بالمجازفات والمآسي والأفراح والنهايات التي يلعب الحظ فيها دوراً كبيراً، وهو في تفصيله مجموعات من الحقائق الصحيحة أضفت عليها عين الفنان اليقظة ثوباً قشيباً تراءت فيه أعمال الناس وعاداتهم وطبائعهم في ذلك العصر واضحة جلية. . . أنه البؤرة التي انعكست عليها الحياة بكل ما فيها من مظاهر. . . فهو كتاب قريب إلى الإنسانية أكثر من أي كتاب آخر لدانتى أو تبرارك، حتى قصص شوسر، فإن الإنسانية فيها غير كاملة حينما تتصل بالحب وما يدور وراء النفس الإنسانية من شعور مكبوت. . .

ص: 23

وتتسم هذه القصص بتنوع صور الحياة التي عبرت عنها، فهي تكشف لنا القناع عن عدد من المتهورين المجازفين، وعن الحياة الخاصة التي يحياها وراء الستار عدد آخر من الناس تعرفهم على حقيقتهم المعرفة الصحيحة، وهذا هو فن بوكاشيو، لأن هذه القصص لم تكن عملا إبداعياً ولا دراسة للأخلاق، وإنما هي قصص تختلف في طولها وقصرها باختلاف الموضوع الذي تتصل به عن مجازفات، أو حب غير مشروع، أو راهب، أو امرأة؛ إما للتسلية أو إثارة الضحك وإشاعة السرور، أو جواب مختصر لتوبيخ شخص، أو لدفع خطر جسيم. ومهما كان نوع هذه القصص، على روعتها وشهرتها فإنها ليست الدافع الوحيد الذي يدفع المولعين بديكامرون إلى قراءتها المرة بعد الأخرى في رغبة وسرور.

إن سر خلود هذا الكتاب هو الجماهير الحية التي تتحرك فيه. هنالك شخصيات أخرجتها فنه فيه حية وبقيت كذلك وستبقى إلى يوم يبعثون تثير في قرائها الدهشة الإعجاب إثارة لا تقل عما تفعله شخصيات شكسبير الخالدة فينا. . . لقد عاشت للأبد لأن الفن الخالد حملها إلى عالم الخلود. . .

أنه صورة مصغرة للدنيا، ومرآة انعكست عليها حياة الناس في ذلك الزمن، إلا أن المثالية والهدف السامي يرفع الأعين إلى النور، ة ويجعل للعمل الفني قيمته التي لا ينكرها أحد، لا توجدان فيه.

أما الأدب المكشوف والتعابير الجنسية الساخرة التي تفيض بها القصص فمرده إلى الأصول الفرنسية التي نقل عنها وهذبها كثيراً. . . ومن المحقق أن التعبير عن الأدب الجنسي المكشوف في ذلك الوقت، كما هو الآن غير مألوف ولا مستساغ. . . لكن بوكاشيو جعل منه فناً أبدع فيه أيما إبداع، وأخرجه من مكانه المستور من حياة الأفراد والجماعات ورجال الدين إلى الحياة اليومية وجعله ملموساً مألوفاً يتحدث عنه متهكما كأنه يتحدث عن شئ لا يتعارض مع قيم المجتمع الروحية والخلقية.

إن كل ما في الكتاب مبالغ فيه، وخصوماً الموضوع الجنسي الذي أسرف فيه إسرافاً عظيماً، فصور الشبان والشابات غارقين في الإثم والفجور والخلاعة إلى أبعد الحدود، وصور الزوجة تلهو ما شاء لها اللهو والزوج غير مكترث بما يدور حوله، وصور رجال الدين لا يعلمون شيئاً عدا الانقياد للشهوات والسير وراء مطالب الجسد. . . يصور كل

ص: 24

ذلك في تهكم لاذع وقسوة متناهية. . .!

والدافع الأساسي الخفي الذي دفعه إلى ذلك - كما اعتقد - هو طفولته الأولى، فعند ما فتح عينيه في الحياة ووجد أنه بن غير شرعي لأبيه. . . وحينما فهم ما يدور حوله من حقائق، وأدرك قيود الكنيسة والمجتمع، وإنه غير مسؤول عن خطأ أبيه، جرد القلم لينتقم لأمه جان، فجعل نساء عصره ساقطات، وتلفت إلى رجال الدين فتأثر منهم بما يضطرم في قلبه من ألم وحقد وحرمان.

وعلى هذا الأساس، لا يجمل بنا أن نحكم على نساء عصره بالحكم الجائر الذي أصدره عليهن في قصصه، ولا يصح كذلك أن نتصور رجال الدين من الرهبان والقاسية غارقين في الفجور كما أرادهم أن يكونوا، ومع ذلك فلا يعني أننا ننفي نفياً باتاً عن المجتمع في عصره بعض الصور المخجلة التي صور فيها الرهبان والنساء. . . لقد كان فناناً لا يشق له غبار في (الكوميديا)، وتربة صالحة من هذا النوع تنمو فيها بذور التهكم والمجون والعبث.

ويجدر بنا أن نشك كثيراً في صحة هذه القصص. إن الرذائل تثير عادة ضجة أكثر من الفضائل، ورجال الدين في القرن الرابع عشر في إيطاليا كانوا يمدون أنحاء الكرة الأرضية بالمبشرين الذين تلهبهم الحماسة والعقيدة لنشر دينهم بين الشعوب، وإيطالياً نفسها كانت المكان الوحيد الذي اشتهر بالقديسين، فلا يعقل - والحالة هذه - أن يسوء يلوك رجال الدين إلى هذا الحد دون أن يكون له رد فعل سيئ على الكنيسة في إيطاليا وخارجها. ولكن هذا لا يمنع من وجود طبقة غير نقية السمعة اختلطت برجال الدين فشوهت سمعتها لأنه لم يسبق لأحد أن يشك في أخلاق الناس في القرن الثالث عشر بسبب جحيم دانتي، وتماشياً مع ذلك، لا يجوز أن نحكم على أخلاق الناس في القرن الرابع عشر بسبب قصص ديكامرون.

إن هذا الكتاب والكوميديا الإلهية يعبران تعبيراً صادقاً بحكم ما فيهما من قوة وحيوية ونشاط عن العصر الذي ولدا فيه، وعلى ما كان عليه ذلك العصر من حركة ووعي.

إن انتشار دي كامرون وحماس الناس له، لم يحولا دون النقد الشديد الذي وجه إليه في ذلك الزمان، ونجد دليلا على ذلك في مقدمة اليوم الرابع وفي نهاية الكتاب. لقد قاومته الكنيسة

ص: 25

مقاومة عنيفة، لكن سلطانه غلب سلطانها، فكان ينتشر في أوربا وإنجلترا، كما تنتشر النار في الهشيم. ويعتبر في نظر النقد أعظم أثر نثري كتب في اللسان التسكاني، وأسلوبه غاية في الجمال وغاية في التعقيد. . . ولكن من يستطيع أن يهاجمه؟ لقد مكن لنفسه في عصور التاريخ في نفوس البشر، لأنه صرخة مدوية من أعماق الإنسانية على ممر العصور!

إن مخطوطات الكتاب الأصلية قد نفذت، وإن أقدم مخطوطاته تلك التي كتبها فرنسسكو مانيلي في سنة 1368. والنسخة الخطية المحفوظة في برلين باسم هملتن هي المعتمد عليها.

لقد أعيد طبع هذا الكتاب عشر مرات في القرن الخامس عشر وسبعة وسبعين طبعة في القرن في القرن السادس عشر، ولم ينشأ أديب في إيطاليا إلا وتتلمذ على هذا الكتاب في عصور أدب هذه اللغة. . .

أما نصيبه من الذيوع خارج إيطاليا فكان عظيماً جداً، فقد تتلمذ عليه موليير ولافونتين وهانس ساكس ولوب دي فيجا. أما في إنجلترا، فقد نقل عنه كثير من الأدباء والشعراء، وكان الموحى الذي استوحوا منه أدبهم الخالد، منهم تشوسر وسدني وشكسبير ودريدن وكيتس وتتسون، الأمر الذي يظهر مقدار ما تدين به إنجلترا لبوكاشيو!

إن أدب اللغة الإنكليزية لا يعرف كتاباً نثرياً أصيلا، ويرجع ذلك إلى أن التوراة قد أصبحت جزءاً من الأدب المنثور في هذه اللغة، ولكن (إشام) يقول:(إن كثيراً من قصص ديكامرون كانت تنتشر بين الناس أكثر من قصص التوراة نفسها).

لقد ظهرت كثير من قصص ديكامرون مترجمة إلى الإنجليزية في القرن السادس عشر. وفي عام 1620 ظهرت الترجمة الكاملة لهذا الكتاب منقولة عن اللغة الفرنسية ترجمة أنطيون لاماكون، لكنها لم تكن دقيقة كما يجب، وقد قام الناشر إسحاق جكارد بطبع هذه الترجمة في مجلدين، ولم تكن تحمل اسم المترجم، وأعيد طبع هذه الترجمة خمس مرات في القرن السابع عشر.

ولم تظهر الترجمة الدقيقة الوافية لهذا الكتاب إلا عام 1886، فقد نقلها المستر جون بن لجمعية فلون.

أما الترجمة التي تتداولها الأيدي وانتشرت في الأسواق، فقد قام بها المستر (ج. م. رج)،

ص: 26

وهي دقيقة، ولعلها أقرب الترجمات إلى روح هذا الكتاب القيم.

(بغداد)

ماهرة النقشبندي

ص: 27

‌من ظرفاء العصر العباسي:

أبو دلامة

توفي سنة 161هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

- 6 -

وأبو دلامة - مرحه وهزله - كان يلتزم مع المهدي الجد، فيسري عنه بغير الدعابة إذا وجد الموقف يستدعي الوقار: وما ذاك من هذا الظريف إلا دليل جديد على حسن تفهمه لنفسية الخليفة ومهارته في استخدام الأساليب المرضية له حسب الظروف والمناسبات:

كان المهدي رجل من بني مروان، فدخل إليه وسلم عليه. فأتى المهدي بعلج فأمر المروانيَّ بضرب عنقه، فأخذ السيف وقام فضربه فنبا السيف عنه، فرمى به المروانيَّ وقال: لو كان من سيوفنا ما نبا. فسمع المهدي الكلام فغاظه حتى تغير لونه وبان فيه. فقام بقطين فأخذ السيف وحسر عن ذراعيه ثم ضرب العلج فرمى برأسه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه سيوف الطاعة لا تعمل إلا في أيدي الأولياء، ولا تعمل في أيدي أهل المعصية. ثم قام أبو دلامة فقال: يا أمير المؤمنين، قد حضرني بيتان أفأقولهما؟ قال: قل. فأنشده.

أيهذا الإمام سيفك ماض

وبكف الولي غير كهام

فإذا ما نبا بكف علمنا

أنها كف مبغض للإمام

فسرى عن المهدي وقام من مجلسه، وأمر حجابه بقتل المرواني فقتل.

وهذه المواقف التي كان يقفها أبو دلامة جاداً على هزله، وقوراً على مرحه، حببت تصرفاته إلى المهدي فرضى عنه ود لله مثل أبيه أو أكثر: فإذا كان المنصور قد أعفاه من صلاة الجماعة بالقصر ومن لبس السواد والقلانس دون الناس وأخرجه من حبس الدجاج رغم سكره - فإن الخليفة المهدي عجل جائزة كان قد أمر له بها حين كتب إليه رقعته يشكو فيها أذى الحر والصوم، وهي:

أدعوك بالرحم التي هي جمعت

في القرب بين قريبنا والأبعد

ألا سمعت، وأنت أكرم من مشى

من منشد يرجو جزاء المنشد

ص: 28

جاء الصيام فصمته متعبداً

أرجو رجاء الصائم المتعبد

ولقيت من أمر الصيام وحره

أمرين قيسا بالعذاب المؤصد

وسجدت حتى جبهتي مشجوجة

مما يناطحني الحصا في المسجد

فامنن بتسريحي بمطلك بالذي

أسلفتنيه من البلاء المرصد

فلما قرأ المهدي رقعته غضب وقال: يا عاض كذا من أمه أي قرابة بيني وبينك؟ قال: رحم آدم حواء، أنسيتهما يا أمير المؤمنين؟ فضحك وقال: لا والله ما نسيتهما. وأمر بتعجيل ما أجازه به وزاد فيه.

فنفهم من القصة أنه لولا شديد عطف المهدي على أبي دلامة لما أحسن جزاءه رغم شكواه من الصوم، ونفهم منها أن أبا دلامة كان رقيق الدين، فهو يلقي من أمر الصيام وحره أمرين لا يعيشهما إلا بالعذاب المطبق، وهو يتضجر من كثرة ما سجد حتى ليدعي أن جبهته قد شجت مما يؤثر فيها من الحصى المنتثر في أرض المسجد: وما كان ليعترف بهذا مظهراً ضجره وملاله لولا رقة دينه، وضعف يقينه.

وكيف لا يكون رقيق الدين ضعيف اليقين وهو مدمن على شرب الخمر لا يكاد يصل إلى شيء من المال حتى يسكر به. وكثيراً ما كان يعطي المال ليقوم بفريضة دينية يستغفر بها من ماضيه، ويصلح بها حاضره، فلا ينثره إلا في المعصية التي أحاطت به ورانت على قلبه واستحوزت على فؤاده!

عزم موسى بن داود علي الهاشمي على الحج. فقال لأبي دلامة: أحجج معي ولك عشرة آلاف درهم. فقال هاتها؛ فدفعت إليه، فأخذها وهرب إلى السواد فجعل ينفقها هناك ويشرب بها الخمر. فطلبه موسى فلم يقدر عليه، وخشى فوت الحج فخرج. فلما شارف القادسية إذا هو بأبي دلامة خارجاً من قرية أخرى وهو سكران، فأمر بأخذه وتقييده وطرحه في محمل بين يديه ففعل ذلك به. فلما سار غير بعيد أقبل على موسى وناداه:

يا أيها الناس قولوا أجمعون معاً

صلى الإله على موسى بن داود

كأن ديباجتي خديه من ذهب

إذا لك أثوابه السود

إني أعوذ بداود وأعظمه

من أن أكلف حجاً يا ابن داود

خبرت أن طريق الحج معطشة

من الشراب وما شربي بتصريد

ص: 29

والله ما في من أجر فتطلبه

ولا الثناء على ديني بمحمود

فقال موسى: ألقوه لعنه الله عن المحمل ودعوه ينصرف، فألقى وعاد إلى قصفه بالسواد، حتى نفذت العشرة آلاف درهم.

ولاريب أن أبا دلامة لم يكذب في وصف نفسه، فما فيه أجر فيطلبه أحد، وليس الثناء على دينه بمحمود، فعلام يكلف بالحج وسواه من الفروض؟

لذلك قال صاحب الأغاني في وصفه: (كان فاسد الدين، رديء المذهب، مرتكباً للمحارم، مضيعاً للفروض، مجاهراً بذلك. وكان يعلم هذا منه ويعرف به، فيتجافى عنه للطف محله).

وهو - لفساد دينه - لم يكن يكتفي بشرب الخمر والعربدة، وإنما كان يقضي أكثر أوقاته في أسواق النخاسين الذين يبيعون الرقيق، ليستمتع برؤية الجواري الحسان. وكان كثير الزيارة للجنيد النخاس، إذ كان يتعشق جارية له ويغضبه، فجاءه يوماً فقال: أخرج لي فلانة. فقال: إلى متى تخرج إليك ولست بمشتر؟! قال: فإن لم أكن مشترياً فإني أخ يمدح ويطري. قال: ما أنا بمخرجها إليك أو تقول فيها شعراً. قال: فاحلف بعتقها أن ترويها إيان وتأمرها بإنشاده من أتاك يعترضها ولا تحجبها. فحلف لا يحجبها. فقال أبو دلامة:

إني لأحسب أن سأمسي ميتاً

أو سوف أصبح ثم لا أمسي

من حب جارية الجنيد وبغضه

وكلاهما قاض على نفسي

فكلامهما يشفي به سقمي

فإذا تكلم عاد لي نكسي

فما قولك بهذا الشيخ الذي لم يمنعه العجز والكبر من خروج الجواري الحسان إليه ليملأ عينيه من جمالهن الجذاب، وسحرهن الخلاب؟

وإنك لترى صورة من أخلاق أبى دلامة في مسلكه مع الناس ومعاملته لهم - ولا سيما العاديين منهم - فهو يقسم كاذباً، وهو يلفق الأحلام، وهو يبالي بأية وسيلة يصل إلى مبتغاه: مر أبو دلامة بتمار (بالكوفة) فقال له:

رأيتك أطعمتني في المنام

قواصر من تمرك البارحة

فأم العيال وصييانها

إلى الباب أعينهم طامحه!

فأعطاه جلتي تمر وقال له: إن رأيت هذه الرؤيا ثانية لم يصح تفسيرها. فأخذهما

ص: 30

وانصرف.

وللتمار الحق في ألا يصدق منامه مرة ثانية، فإنه مستعد للتحلم وتلفيق الرؤى في كل يوم ما دام يأخذ جلات التمر وقواصره، ومستعد للكذب أمام كل مخلوق ما دام ينتظر من ورائه منفعة، لأنه كان نفعياً بكل ما في الكلمة من معنى، ولم يكن يخجل من التماس المنفعة والعمد إليها حتى مع الذين لا ينتظرون أن يخدعهم ولو خدع الناس جميعاً.

دخل أبو دلامة على إسحاق الأزرق يعوده، وكان إسحاق قد مرض مرضاً شديداً، ثم تعافى منه وأفاق، فكان من ذلك ضعيفاً، وعند إسحاق طبيب يصف له أدوية تقوى بدنه، فقال أبو دلامة للطبيب: يا ابن الكافرة! أتصف الأدوية لرجل أضعفه المرض! ما أردت والله إلا قتله. ثم التفت إلى إسحاق فقال: أسمع أيها الأمير مني. قال: هات ما عندك يا أبا دلامة. فأنشأ يقول:

تنح عنك الطبيب وأسمع لعنتي

إنني ناصح من النصاح

ذو تجاريب قد تقلبت في الصنعة دهراً وفي السقام المتاح

غاد هذا الكباب كل صباح

من متون الفتية السحاح

فإذا ما عطشت فأشرب ثلاثاً

من عتيق في الشم كالتفاح

ثم عند المساء فاعكف على ذا

وعلى ذا بأعظم الأقداح

فتقوى ذا الضعف منك وتلغى

عن ليال أصح هذي الصحاح

ذا شفاء ودع مقالة هذا

. . . . . . . . . . . . . . . . . .

ونسكت عن الشطر الثاني من البيت الأخير لأن فيه ألفاظاً ينبو عنها الذوق، وننزه عنها القلم. لكنها - على كل حال - أضحكت إسحاق وعواده فأمر لأبي دلامة بخمسمائة درهم. وكان الطبيب نصرانياً فقال: أعوذ بالله من شرك ياركل (يريد يا رجل) ثم قال الطبيب لإسحاق: إقبل مني أصلحك الله ولا تسألني عن شئ قدامه. فقال أبو دلامة: أما وقد أخذت أجرة صفقتي وقضيت الحق في نصح صديقي، فأنعت له الآن أنت ما أحببت.

فهل من النصيحة أن يدعو المريض إلى مجانبة الطبيب وأكل الكباب والعكوف على شرب الخمر وهو ما زال ضعيفاً يطلب أن يتقوى، أم رغبة أبي دلامة في إضحاك إسحاق وعواده هي التي حملته على هذا النعت العجيب، ليصل إلى شئ من النفع القريب؟

ص: 31

ولكن لا تنس أن الناصح ظريف، وبمثل هذا ينصح الظرفاء!

(النهاية في العدد القادم)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 32

‌لن يقعد الأحرار عن ثأرهم

للآنسة فدوي عبد الفتاح طوقان

يا وطني، مالك يُخني على

روحك معنى الموت، معنى العدم

أمضَّك الجرح الذي خانه

أساته في المأزق المحتدم!؟

جرحك، ما أعمق أغواره

كم يتنزَّى تحت ناب الألم

أين الألى استصرختهم ضارعاً

تحسبهم ذَراك والمعتصم

ما بالهم قد حال من دونهم

ودون مأساتك حسٌّ أصم

قلبت فيهم طرفَ مستنجد

فعزك المندفع المقتحم

وأخجلتا، حتام أهواؤهم

تغرقهم في لجها الملتطم!

همُ الأنانيون. . . قد أغلقوا

قلوبهم دون البلاء الملم

لا روح يستنهض من عزمهم

لا نخوة تحفزهم، لا همم

أحنوا رقاب الذل، يا ضعفهم

واستلموا للقادر المحتكم

يا هذه الأقدار لا ترحمي

فرائسَ الضعف، بقايا الرمم

بالمعول المحمول أهوى على

تلك الجذوع الناخرات الحطم

كوني أتيَّا عارماً واجرفي

كلَّ ضعيف الروح واهي القدم

كوني كما شئت، لظى يغتلي

أو عاصفاً يقذف حمر الحمم

واكتسحي أنقاض هذا الحمى

من كل ركن خائر، منهدم

اكتسحيها وانفضي أمتى

مما علاها من رماد القدم

ستنجلي الغمرة يا موطني

وبمسح الفجر غواشي الظلم

والأمل الظامئ مهما ذوى

لسوف يروي بلهيب ودم

فالجوهر الكامن في أمتي

ما يأتلى يحمل معنى الضرم

هو الشباب الحر ذخر الحمى

اليقظ المستوفز المنتقم

غلوا جناحيه وقالوا انطلق

وشارف الأفق وجز بالقمم

واستنهضوه لاقتحام اللظى. .

والقيد، يا للقيد! يدمي القدم

لكن للثأر غداً هبَّةً

جارفة الهول، عصوفاً عمم

ص: 33

فالضربة الصمَّاء قد ألهبت

في كل حر جذوة تضطرم

لن يقعد الأحرار عن ثأرهم

وفي دم الأحرار تغلي النقم!

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 34

‌رسالة العلم

الوقت

للأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب

يقابلك زيد من الناس في الطريق، ويسألك عن الوقت. فتنظر إلى ساعتك لتجيب قائلاً:(إنها الثالثة بعد الظهر). ولكنه يهز رأسه ويقول إنما يقصد بسؤاله تعريف الوقت. فتتولاك الحيرة ولا تجيب. ثم تسير وأنت تتساءل: ما هو الوقت؟ وتذهب وتبحث في الكتب والمعاجم فتخبرك بأن الوقت: هو الذي تتميز به الحوادث بالدلالة إلى (ما قبل) أو (ما بعد) أو (البداية) أو (النهاية) فلا يساعدك هذا التعريف في شئ. وتذهب إلى صديقك العالم لتسأله عن معنى الوقت، فيفكر ملياً قبل أن يقول لك (إنه الفترة التي بين حادث وآخر) فتزداد حيرتك. فيبتسم صديقك ويخبرك أنه لا يوجد حتى الآن تعريف صريح للوقت. ولكن أقرب تعريف إليه هو الذي أخبرك به.

والوقت في الواقع أحد الأشياء التي لا نستطيع تعريفها تعريفاً صريحاً كالحياة والموت والكهرباء وما إلى ذلك من تلك التي لا ندركها إلا عن طريق تأثيرها علينا.

وقد يقول قائل إنما الوقت هو حركة عقربي الساعة. ولكنه قول غير صحيح. فإن هذه الحركة هي أسهل طريق لمعرفة مسار الوقت؛ فالساعة لا تساعدنا على الدلالة على مقدار الوقت الذي مرّ منذ أن وقع حادث من أمد طويل. إنها لا تصنع الوقت، بل كل ما تعمله أن تسجل لنا الوقت في الحاضر.

والشمس أكبر حارس للوقت في العالم، ولو أنها لا تخلو من أخطاء طفيفة. فطوال النهار في منطقة خط الاستواء يعادل طول الليل خلال سنة، أما في القطبين فهناك ستة أشهر من النهار تعقبها ستة أشهر من الليل، بينما تختلف أوقات شروق الشمس وغروبها في المناطق الوسطى باختلاف الفصول.

والأرض تدور حول محورها في 24 ساعة. والفترة التي تمر بانتهاء دورة كاملة تسمى باليوم. ثم أن الأرض ترحل حول الشمس فيما يقرب من 365 يوماً، وهذا ما نسميه بالعام. هذا هو التقسيم الطبيعي للوقت. بيد أننا - للسهولة - نقسم كلا من اليوم والسنة إلى فترات صغيرة. فاليوم يقسم إلى ساعات ودقائق وثوان، والسنة إلى شهور وأسابيع.

ص: 35

والناس يقيسون الوقت عن طريق الشمس. فعندما نقول إنها الساعة السادسة مساء نعني أنه مرت ست ساعات منذ أن وصلت الشمس إلى أعلى نقطة في السماء، وتسمى نقطة السمت، أو الظهر. واليوم هو الفترة التي انقضت منذ ظهور الشمس في السمت وظهورها مرة أخرى.

وهناك دورتان للأرض: دورة بالنسبة إلى نجم معلوم، وتستغرق مدتها 23 ساعة و56 دقيقة؛ ودورة بالنسبة إلى الشمس وطولها حوالي 24 ساعة. والدورة الأولى تسمى اليوم النجمي، والدورة الثانية تسمى اليوم الشمسي. واليوم النجمي لا يهم سوى الفلكيين. أما اليوم الشمسي فنظراً لأنه يمثل حالة الأرض بالنسبة إلى الشمس فأنه أهم عندنا من اليوم النجمي. على أنه لا ينطبق تماماً على دورة الكرة الأرضية حول محورها. وبينما تدور الأرض حول محورها، تدور في الوقت نفسه من حول الشمس. والوقت الذي يمر لدورة كاملة يسمى بالسنة الشمسية، وهو الذي نشير إليه عندما نتحدث عن (سِنة). وهذا هو العام الذي نحاول أن ندونه في نتائجنا الزمنية. وطوله على وجه الدقة 2422 و365 يوماً، أو 365 يوماً و5 ساعات و28 دقيقة و51 و45 ثانية.

وكان الناس من قديم الأزل يستعملون القمر في قياس الوقت. والشعوب الإسلامية تدون نتائجها الزمنية بالشهور القمرية والسنة القمرية تتكون من 12 شهراً قمرياً، يحتوي كل شهر منها على 30 أو 29 يوماً على التتابع.

وكانت سنة قدماء المصريين تتكون من 12، كل شهر منها يحتوي على 30 يوماً. وكان يضاف إلى كل سنة خمسة أيام، فيفقدون بهذه الطريقة يوماً كاملاً كل أربع سنوات مما يسبب اختلاف في مواعيد الفصول بمرور الوقت.

وقد حاول الناس منذ آلاف السنين ضبط نتائجهم الزمنية حتى تنتظم مواعيد الفصول سنة بعد أخرى.

كان الرومان يقسمون السنة إلى عشرة أشهر. وكانت الشهور السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة تسمى على التعاقب سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر وديسمبر، ومنها اشتققنا حالياً أسماء الشهور الأربعة الأخيرة ولو أنها تعد في نتائجها الزمنية الشهور التاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة. ثم أضيف بعد ذلك شهران: يناير وفبراير.

ص: 36

ولما كان متوسط الشهري القمري 12 29 يوماً، فقد أدى ذلك

إلى أن تكون السنة 12 شهراً قمرياً أي 354 يوماً.

وتشاءم الناس من كون هذا العدد زوجياً، فأضافوا إليه يوماً منعا للتشاؤم وأصبحت السنة 355 يوماً. ومع ذلك كانت تنقص السنة عشرة أيام مما أدى إلى اختلاف في مواعيد الفصول، ولذلك أضاف الرومان شهرا إضافياً سموه مرمسيدرنياس. ولكنهم لم يقرروا عدد أيامه، بل تركوا ذلك للكهنة فاستعملوه للاستفادة بتحديد أيامه حسب أغراضهم، حتى يستطيع أصدقاؤهم المطالبة بديونهم في وقت أقل من ميعاد استحقاق دفع الديون، أو مد أجل الدين في حالة استدانتهم.

وفي عام 46 قبل الميلاد استنبط يوليوس قيصر نتيجة زمنية سميت النتيجة الجوليانية. وجعل الشهور الفردية 31 يوماً، والشهور الزوجية 30 يوماً، ما عدا شهر فبراير فقد جعله 29 يوماً فإذا مرت أربع سنوات صار 30 يوماً.

وهكذا جعل عدد أيام السنة 14 365 يوماً، أي أطول من

السنة الحقيقية بمقدار ما يقرب من 23 دقيقة.

ثم جاء أغسطس فأخذ يوماً من فبراير وأضافه إلى شهر أغسطس بعد أن سمي بأسمه (وكان يدعي قبل ذلك سكستليس - أي الشهر السادس، كما أن الشهر الخامس (كوينتيلس) سمي بأسم يوليو بالنسبة إلى يوليوس قيصر عم أغسطس). ولكي يتجنب أن تكون الثلاثة أشهر يوليو وأغسطس وسبتمبر ذات أيام عددها 31 يوماً - منعاً للتشاؤم - أخذ يوماً من شهر سبتمبر وأضافه إلى أكتوبر، ويوماً من شهر نوفمبر وأضافه إلى ديسمبر. وهذه هي النتيجة المتبعة حالياً، إلا أنه في السنوات البسيطة أي التي لا يقبل عددها القسمة على 4 يكون شهر فبراير 28 يوماً، وفي السنوات الكبيسة أي التي يقبل عددها القسمة على 4 يكون شهر فبراير 29 يوماً.

وانتشرت هذه النتيجة في أنحاء أوربا. ومع ذلك كان الخطأ البسيط بينها وبين السنة الحقيقية وهو لا يتعدى 0 ، 0078 من اليوم، يتراكم بمرور الزمن ويصير عدداً من الأيام.

وفي عام 1582 استنبط البابايوس الثالث عشر (جريجورى) نتيجة زمنية سميت النتيجة

ص: 37

الجريجورية. فصحح خطأ الأيام العشر بأن دعا اليوم الذي يلي اليوم الرابع من أكتوبر، اليوم الخامس عشر من نفس الشهر. وجعل سني القرون التي تقبل القسمة على 400 سنين كبيسة. فالسنوات 1600و2000و2400 تعد سنوات كبيسة، أما السنوات 1700و1800و1900و2100 تعد سنوات بسيطة. وبذلك جعل السنة الصحيحة تقريباً. وفي الواقع، تعد النتيجة الجريجورية من الدقة حتى أنه يجب أن تمر 4000 سنة قبل أن يتراكم الخطأ ويصير يوماً واحداً.

وطريقة يوليوس قيصر تدعى الطريقة القديمة، أما الطريقة الجريجورية فتدعى الطريقة الحديثة، وأحياناً ما يؤرخ المؤرخون حادثاً ما بالطريقتين معاً.

ويعد العلماء الصفر القياسي للوقت، اللحظة التي تعبر فيها السمت في مكان ما. وقد اختارت إنجلترا بلدة جرينتس مكاناً لقياس الصفر الزمني، واعترفت به جميع البلاد الأخرى؛ ثم استنبط الفلكيون صفر القياس الزمني، أي بدء اليوم، من منتصف الليل، ومع ذلك لم تعمل به إنجلترا بل ظلت تقيس الصفر الزمني من الظهر.

وتسبق أوقات أوربا الوسطى وقت جرينتش بساعة واحدة. ثم يزيد الفرق عن ذلك كلما بعدت البلدان عن جرينتش.

محمد فتحي عبد الوهاب

ص: 38

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

كلمات عن الإذاعة موجهة إلى الوزير المسئول:

نقلت الصحف أن معالي الدكتور محمد هاشم وزير الدولة سيخص محطة الإذاعة المصرية بجزء من وقته وجهده، عسى أن تفلح العناية والرعاية في تخفيف شيء من سخط الجمهور المستمع في كل مكان. . . هذا الخبر إذا تخطى مرحلة التصديق إلى التحقيق كان حرياً أن يبعث في النفوس اليائسة من إصلاح الأمور في الإذاعة، أملاً كبيراً مبعثه الإيمان الصادق بأن الشباب في أكثر خطواته. . . عمل وأمل!

أعرف وزير الدولة الشاب منذ تسع سنوات على التحديد؛ أعرفه معرفة هيأتها قاعة المحاضرات في كلية الآداب، يوم كنا نجلس متجاورين لنستمع إلى محاضرات الدكتور طه حسين بك عن الأدب المصري الحديث. . . ولو علم القراء مبلغ عشق الوزير الشاب للأدب ومدى تعلقه به لبدا لهم الأمر عادياً لا غرابة فيه، فيما لو قدر لهم أن يروا الدكتور هاشم المدرس بكلية الحقوق في ذلك الحين وهو يترك محاضراته ليأخذ مجلسه بين الطلبة في كلية الآداب! كنت أدخل إلى قاعة المحاضرات فأرى الدكتور هاشم وقد سبق الطلاب إلى التبكير بالحضور، حتى لقد كان في الكثير الغالب من الأحيان أول (طالب) يلقي على القاعة تحية الصباح. وآخذ مكاني إلى جانبه دون أن أعرف شيئاً عن هذا الذي أجاوره؛ فكثيراً ما كان يقع في الظن أنه زائر غريب أقبل من خارج الجامعة ليستمع إلى الدكتور طه حسين، شأن أولئك الزائرين الغرباء الذين كانوا يسعون إلى محاضراته ليروه رأي العين والفكر في وقت معاً!

ولكن هذا الزائر الغريب كان يثير اهتمامي بشخصية، تلك الشخصية التي كنت ألمح في سماتها مظهر العلماء. . . جلسة هادئة متزنة فيها الكثير من الوقار، ونظرة نفاذة ساهمة تزن حقيقة المحاضر على ضوء كلماته، وأذن مصيخة واعية تحتشد للحديث لتلتقط كل ما يقال، ووجهة مشرق القسمات يعبر عن إمتلاه النفس والعقل والشعور. . . هذا كله دفعني يوماً إلى أسأله عن أسمه شغفاً بمعرفته، ولشد ما راعني أن أعرف أنه الدكتور محمد هاشم المدرس بكلية الحقوق. ومنذ ذلك اليوم وأنا أحمل له في نفسي كثيراً من معاني الإكبار

ص: 39

والإعجاب!

واليوم، وبعد تسع سنوات من اللقاء الأول في قاعة المحاضرات بكلية الآداب يصبح الدكتور هاشم وزيراً للدولة. . أنا سعيد بأن يكون في كرسي الوزارة هذا الشاب العالم الأديب فليس من شك في أن كل عمل ينتسب إليه إنما ينتسب إلى همة الشباب، ويصطبغ بصبغة الخلق، ويطبع بطابع الآفاق الرحيبة التي تحلق فيها أجنحة ممتازة من الثقافة والعلم والأدب. . . ولهذا أود أن أخاطب فيه كل تلك الصفحات مجتمعة، حين أسوق إليه بعض الحقائق عن الإذاعة المصرية وهو أهبة النهوض بها من وضع كما يقال.

يعلم وزير الدولة أن الإذاعة في كل أمة من الأمم ما هي إلا وسيلة من وسائل الترفيه والتثقيف والإصلاح. . . الترفيه عن طريق تغذية النفوس بالتسلية الرفيعة التي تهدف إلى مثل عليا وغايات، والتثقيف عن طريق إمداد العقول بكل مفيد في ميدان الآداب والعلوم والفنون، والإصلاح عن طريق تنوير الأذهان بعرض كل مشكلة في نطاق صلة الفرد بالمجتمع الذي يعيش فيه ولن يتحقق هذا كله إلا إذا تحقق التوفيق في الاختيار. . . اختيار المشرفين على أقسام الإذاعة، واختيار المشتركين في برامج الإذاعة ثم أولئك الذين يوجهون دفة الأمور في كل شأن من الشئون.

المراقب العام للإذاعة يجب أن يكون من صفوة المثقفين، وكذلك المشرفون على الأقسام والمشتركون في البرامج؛ ولست أطالب هنا بأن يكون هؤلاء السادة من حملة الإجازات العلمية كالدكتوراه والماجستير، كلا فليست العبرة بما يحمل الإنسان في يده من شهادات ولكن بما يحمل في رأسه من ثقافات. هؤلاء جميعاً هم المسئولون عن سخط الجمهور وتذمره وضيقه بما يسمع في الصباح والمساء: محاضرات دينية يقف الجهد فيها عند سطحية السرد وسذاجة العرض، فهي أشبه بتلك القصص التي تلقى على الأطفال، ومحاضرات أدبية تخلو من عمق الفكرة وإشراق اللمحة فهي ترديد وتقليد، ومحاضرات سياسية وعلمية واجتماعية تنقل نقلا عن الصحف، فإذا قرأت هذه أمكنك أن تستغني عن سماع تلك! وتمثيليات تافه مسفة قصد بها إلى ملء الفراغ الذي تحسه البرامج لا الفراغ الذي تحسه الأذهان، وعناء مريض يدغدغ الغرائز ويرضى هواة الانحلال ممن يعانون مركب النقص في صفات الخلق والرجولة، ومقرئون يسيئون إلى روعة الترتيل بأصواتهم

ص: 40

المنفرة التي يقع عليها اختيار الآذان الصم والأذواق الفاسدة!

وأعجب العجب أن الأسماء التي تطالعك اليوم من وراء المذياع هي الأسماء التي طالعتك بالأمس القريب والأمس البعيد، وستطالعك في الغد القريب والغد البعيد، أتدري لماذا؟ لأنها أسماء فرضت فرضاً وكأنها ضريبة يدفعها الجمهور المستمع من وقته الضائع وأعصابه المرهقة! وإذا رجعت إلى بعض دعاة الإصلاح في الإذاعة قالوا لك: لقد حاولنا فضاع الجهد وتبدد الأمل وذهب التوجيه مع الريح. . . إذا رغبنا في هذا (الفلان) رغب غيرنا في ذاك، وإذا رأينا الرأي هنا صدر الأمر بإلغائه من هناك! أسماء مفروضة ولو شكت رءوس أصحابها من أزمة الخواء، وأسماء مرفوضة ولو ناءت رؤوس أصحابها بنعمة الامتلاء، وهذا هو مصدر الداء الذي يجب أن يعالج ليستقيم كل معوج من الأمور وكل منحرف من الأوضاع!

إذا أراد الدكتور هاشم أن ينهض بالإذاعة فليس أمامه إلا أن يعيد النظر في تلك الفئة من المشرفين على الإذاعة، فإذا خطر له أن يبقى كلا منهم في مكانه فلا بأس من تكوين لجنة من العقول الممتازة في ميدان الأدب والعلم والفن، تكون مهمتها الإشراف على هؤلاء المشرفين حتى لا يخطوا خطوة يمليها الهوى والغرض أو يميلها الجهل الأصيل بقواعد الذوق السليم. . . وعليه بعد ذلك أن يراجع تلك الجهات التي تصدر أمرها وتفرض رأيها على الإذاعة في مسألة تلك الأسماء المعروفة التي ملتها النفوس ومجتها الأسماع، فإذا حقق تلك الغاية فلا بأس مرة أخرى من تكوين بضع لجان تقوم بتنظيم البرامج في كل قسم من الأقسام، وانتهاج خطة دائمة يسير عليها العمل وتجنبه الركود والجمود، ولها أن تختار من يصلحون للإذاعة من الأدباء والعلماء والفنانين على ضوء الكفاية الشخصية لا الكفاية الحزبية!

هذا هو الطريق. . . ونحن في انتظار الخطوة التالية لوزير الدولة ووزير الشباب، وعهدنا بالشباب دائماً إذا اهتدى بنور العلم ونور الخلق أن يتخطى السدود ويحطم القيود!!

جائزة أدبية والمقال مسروق من (وحي الرسالة):

جريدة (بيروت المساء) اللبنانية جريدة عزيزة على نفسي حبيبة إلى قلبي. . . عزيزة وحبيبة لأنها من لبنان، ولأن محررها الفاضل الأستاذ عبد الله المشنوق صديق كريم، وما

ص: 41

أكثر أصدقاء القلب والروح في لبنان الشقيق.

ولست أدري ما هو رأي الصديق الكريم في هذه القضية التي يشترك فيها بنصيب. . . ولعله قد جهر بهذا الرأي على صفحات (بيروت المساء)، ثم لم يقدر لي أن أطلع عليه، لأن الجريدة العزيزة الحبيبة قد انقطعت عن الوصول إليَّ منذ أمد بعيد، انقطعت على الرغم من وعود الأستاذ سهيل إدريس بأن (بيروت المساء) و (الصياد) في طريقها إليَّ من أسبوع إلى أسبوع. . . وها هو شهر قد مضى وأعقبته شهور ولم أر وجه الصحيفتين الحبيبتين، ولا أدري. . . أأعتب على الصديق سهيل إدريس، أم أعتب على الصديقين عبد الله المشنوق وسعيد فريحه؟!

مهما يكن من شيء، فحسبنا أننا نستروح أنسام لبنان ونتسقط أخباره من مصادر أخرى تحمل إلينا مما نريد قليلاً من كثير. . . هذه جريدة (صدى الأحوال) اللبنانية تطالعنا في عددها الصادر يوم السبت 6 آب بمقال افتتاحي أشارت فيه إلى سرقة أدبية وقعت بين جدران كلية المقاصد الإسلامية ببيروت، أما تلك السرقة، فمن كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الكبير الزيات، وأما الذي أقدم عليها في رابعة النهار فهو طالب جرئ من طلاب كلية المقاصد لم يجد حرجاً في السطو على أدب الأستاذ الزيات من جهة، وعلى مال الأستاذ محي الدين النصولي من جهة أخرى!

هذه القصة الغربية أشارت إليها (صدى الأحوال) بهذه

الكلمات: (نشرت جريدة بيروت المساء بعددها الصادر في

3051949 مقالاً بعنوان (مقارنة خلقية بين بريطانيا وفرنسا)

مهد له قلم التحرير بهذه المقدمة: منذ أثنين وعشرين عاماً

والزميل الكبير الأستاذ محي الدين النصولي يقدم بانتظام

جائزة مالية سنوية توزع على الفائزين من طلاب كلية

المقاصد الإسلامية في مباراة خطابية إنشائية. وقد امتازت

ص: 42

مباراة هذا العام بالمستوى الرفيع الذي بلغه المتبارون في

ناحيتي الكتابة والخطابة، وكان المحكمون الأساتذة: حسن

فروخ، وموسى سليمان، والدكتور جميل عانوتي موفقين في

أحكامهم. ويبدو في الصورة المحكمون الثلاثة وخلفهم الطلاب

الفائزون الثلاثة، ونحن إذ نشكر الأستاذ النصولي على

الأريحية العتيقة (عمرها 22 سنة) يسرنا أن ننشر فيما يلي

الخطاب الذي كتبه وألقاه الشاب الأديب السيد ظافر تميم الفائز

بالجائزة الثانية وعنوانه (مقارنة خلقية بين بريطانيا وفرنسا).

. .).

بعد هذا يعقب الأستاذ يوسف أبو عبد الله محرر (صدى الأحوال) قائلا: (إن المقال الذي فاز بتلك الجائزة منقول نقلاً أميناً عن مقال لأحد مشاهير الكتاب وهو الأستاذ الزيات تحت عنوان (إنجلترا هي المثل) في الجزء الثاني من (وحي الرسالة)، منقول بنصه وفصه، فلا تحريف ولا تأويل ولا استيحاء ولا اقتباس!. . . ولقد عدت إلى نفسي متسائلا: كيف جازت هذه السرقة على لجنة من المحكمين الجهابذة! وكيف لم يفطن لها الأستاذ الكبير عبد الله المشنوق، بل كيف لم يتمكن أحد من كبار الأدباء ممن يساهمون في تحرير الزميلة (بيروت المساء) من معرفة ذلك؟!. . لقد ذهب قسم من الجائزة إلى من لا يستحقها، إلى مختلس جازت حليته على المحكمين! إنني أقترح على الأستاذ النصولي أن يبدي رأيه في الموضوع وفيما عساه أن يفعل بالجائزة التي تمكن منها من هو غير أهل لها، وفيما إذا كان مستعداً للتعويض على من يجيئ بعده من المتبارين، ومكافأة الفتى زهير لاوند مكتشف السرقة الأدبية. . . أما كلمتي للجنة (الموفقة)، فهي أنها دون شك لم تكن مطلعة على الاختلاس، ولم يخامرها ريب في أن الموضوع هو من وضع الطالب، وسوى ذلك لما

ص: 43

جازفت بنشره في الجريدة كأداة جرمية تدين المجرم والمتواطئين معه، فهي غير ملومة من هذا القبيل، ولها من حسن نيتها خير شفيع، إنما يمكن نعتها بالقصور وعدم الاطلاع الكافي لتكون أهلا لضبط مثل هذه المهمات البسيطة)!

هذه هي الكلمات التي عقب بها المحرر الفاضل على السرقة الجريئة، وإنك لتلمس فيها غيرة كريمة على القيم الأدبية والأوضاع الخلقية يستحق عليها كل ثناء وكل تقدير.

حول الفن والحياة مرة أخرى:

يذكر القراء تلك الرسالة التي بعثت بها إليَّ شاعرة فاضلة في العدد (839) من (الرسالة) ويذكرون أنها سألتني عن صلة الفن بالحياة وعما إذا كانت الثقافة الناضجة يكفي فيها الكتاب وحده عن كل ما عداه. . . ولقد رددت عليها في ذلك الحين بهذه الكلمات: (إن جوابي عن هذا السؤال هو أن الكتب لا يمكن أن تكفي لسبب واحد هو أن ثقافة من هذا الطراز يشوبها النقص ويعتريها القصور؛ لأنها تفقد عنصراً خطيراً هو عنصر التطبيق على الحياة! كيف تستطيعين أن تتذوقي آثار الفن وأنت بعيدة عن منابعه؟ وكيف تستطيعين أن تحكمي على نتاج القرائح وليس بين يديك قاعدة ولا ميزان؟ إن الثقافة يا آنستي ليست قراءة فحسب، ولكنها فهم وهضم وتذوق واستيعاب. . . وحياة من وراء هذا كله تعين الذهن على الإحاطة، وتسعف الحواس على التوهج، وترفع من قيم المواهب والكلمات)!

قلت هذا فعقب الدكتور طه حسين في (الأهرام) على ما قلت، وكذلك فعل الأستاذ توفيق الحكيم في (أخبار اليوم)، وذهب الأول إلى أن الإنسان يستطيع أن يكون مثقفاً عن طريق القراءة والاستماع فلا حاجة إلى الحياة، وأكد الثاني أن الكاتب يستطيع أن يخرج فناً ولو حسبته في جب وأغلقت عليه بسبعة أختام وتركته الأعوام. . . إلى آخر هذا الكلام العجيب الذي يفتقر إلى سلامة المنطق وقوة الدليل كما أثبت ذلك في حينه!

واليوم أعود إلى الموضوع بمناسبة مقال ظهر في (الرسالة) منذ أسبوعين تحت عنوان (القراءة وأصول الثقافة) للأستاذ الفاضل إيليا حليم حنا. . . في ذلك المقال أورد الأستاذ إيليا كلمات قالها (جونسن)، وهي كلمات تؤيد الواقع الذي ناديت به، وتغنى عن كل تعقيب!

يقول جونسن: (من يتصور أن الأفكار لا توجد إلا في الكتب، وأن في الكتب كل الأفكار،

ص: 44

فما هو إلا واهم. . . الأفكار تجري مع الأنهار والمجاري، وتطفو على وجه البحر، وتتكسر على شواطئه، وتسكن التلال والجبال، وتسطع مع نور الشمس، وتنسدل على أجنحة الظلام. . . إن الأفكار موجودة في كل مكان وزمان)!

فإلى الكاتبين الكبيرين اللذين خالفاني فيما ناديت به. . . أهدي هذه الكلمات!!

أنور المعداوي

ص: 45

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

بعثات البنات والرقص التوقيعي:

نشب الجدل أخيراً في الصحف والمجلات حول ما رآه معالي وزير المعارف مرسي بدر بك وقرره، من منع بعثات البنات إلى الخارج، وإلغاء الرقص التوقيعي في مدارس البنات، وقد انقسم الكاتبون والمعقبون إلى معارضين ومؤيدين، واتخذت بعض المجلات هذا الموضوع مجالاً للفكاهة والتندر. وقد اشتملت حملة المعارضين لمنع البعثات على مغالطات واندفاعات وجانبت القصد وجاوزت الاتزان.

لقد أفضى معالي الوزير بوجهة نظره فقال: إني لا أوافق على إيفاد بعثات بنات إلى الخارج ما عدا لندن لوجود بيت خاص للطالبات بها وتقوم بالإشراف عليهن مربية فاضلة ترعى مصالحهن وتشرف على تصرفاتهن، أما إلى أي بلد آخر فلا أسمح بذلك مطلقا. وإذا كنت أنا وزير المعارف لا أسمح بأن أرسل ابنتي إلى سويسرا أو فرنسا بمفردها دون رقيب، فلهذا لا أسمح بإرسال فتيات للخارج أنا مسئول عن سلوكهن دون أن يوجد من يشرف عليهن.

هذا كلام (رجل) يمسك الزمام ويقدر المسئولية العامة كما يقدر المسئولية الخاصة. ولا شك أن الذين يعارضون - ولندع السيدات جانباً - إنما يسترسلون في حملتهم غير شاعرين بشعور الرجل الحر المسئول عن أخواته وبناته، وإلا فكيف يتفق هذا الشعور وأن يرسل الرجل ابنته إلى بلاد كفرنسا أو سويسرا لتعيش هناك كالغزال الشارد في مجتمع يستبيح كثيراً مما نحظر؟ وإذا كنا لا نسمح للفتاة التي تأتي إلى جامعة فؤاد من غير القاهرة، أن تعيش وحدها من غير رعاية أقارب ورقابتهم لها، فكيف نرسلها إلى باريس مثلا بمفردها دون رقيب أو موجه؟ أخشى - إن فعلنا - أن تعود إلينا فتتحدث عن مغامراتها هناك كما يتحدث الفتيان. . .

وأعجب العجب أن يذكر أولئك المعارضون في هذا الصدد، التقدم والرجعية والعلم والجهل، ويبدون خجلهم مما يقوله عنا الأجانب. . . إلى آخر هذا الكلام المعروف. وليست أدرى ما الذي جرى للعلم والتقدم بهذا الإجراء الذي لا يقصد منه إلا تنظيم الخطة والحفاظ

ص: 46

على الكرامة والأخلاق؟ هذه مدارس البنات وكليات الجامعة التي يتعلم فيها البنات، لا تزال قائمة تتيح للبنات من العلم والتثقيف ما تتيح للبنين، ومنع بعثاتهن إلى أوربا ليس عاماً ولا دائماً، فالبعثات إلى إنجلترا لم تقف، والمانع منها إلى سائر البلاد سيزول بتدبير مثل ما في إنجلترا من بيت ورعاية، فلا بأس على العلم، كما أنه لا بأس على التقدم إلى إن كان يراد به الإباحية والإفساد. وجدير بهؤلاء أن يخجلوا من ببغاويتهم ومن فراغ نفوسهم من الشعور بكرامة الأسرة، أكثر مما يخجلون من أي شئ آخر.

أما الرقص التوقعي فما أرى به بأساً، على أن يكون محصوراً في بيئة المدرسة بعيدا عن أنظار الرجال، فإن الناس يبعثون ببناتهم إلى المدارس ليكن في صيانتها، إنما البأس في إظهار الفتيات بالحفلات العامة ليبدين هذا الرقص التوقيعي، أو ليقيمن حتى بالألعاب الرياضية - وفيهن ناضجات الأنوثة - على نحو ما يقع في حفل الجزيرة. والبأس كل البأس في التمكين للمجلات المصورة من أخذ صور الفتيات بالمدارس في أثناء قيامهن بالألعاب الرياضية في أوضاع تظهر فيها العورات والسوءات. . .

أما الرقص التوقيعي من حيث هو رياضة موسيقية مرحة فلم يعلق به الغبار إلا من كلمة (الرقص) وهو لا يزيد على رياضة تفيد الجسم وتكسبه الجمال والرشاقة، وحركاته المتسقة مع الموسيقي تبعث السرور والسعادة في نفوس البنات فيقبلهن عليه أكثر مما يقبلن على الألعاب الرياضية الأخرى.

تسعير الأدب في الإذاعة:

وقعت إدارة الإذاعة أخيراً في مشكلة عمقها شبر. . . وإن كانت تبدو لها مغرقة. . . وذلك عندما أرادت أن تقدر أجر الأستاذ محمود أبو الوفا على ما ألقاه من شعره بالمذياع. فهي تحسب أجور الأدباء والشعراء وسائر المحدثين، الموظفين بالحكومة، على حسب درجات وظائفهم، وأبو الوفا موظف باليومية في دار الكتب المصرية، وهو مع ذلك شاعر معروف متمسك بكرامته اللائقة بمكانته الأدبية، فلن يرضى أن يوزن قدره بميزان الوظيفة.

وحدث كذلك عندما أرادت إدارة الإذاعة محاسبة الأستاذ محمود حسن إسماعيل على إذاعة شعره - أن كتب الموظف الذي طلب إليه تقدر أجره، مشيراً يعتبر الشاعر كمدرس (حرف ا) وهي رتبة جديدة اخترعها هذا الموظف. . ولولا الخوف على وزارة المعارف من

ص: 47

عدوى الإذاعة لاقترحت عليها أن تضم إليها هذا المخترع الفذ لاستخدام عبقرية في تقدير المدرسين. . . وذلك كله مع العلم بأن الأستاذ محمود موظف بالإذاعة نفسها!!

ولا أدري إلى الآن كيف حل عباقرة الإذاعة تينك المعضلتين، وإن كان ذلك يجرنا إلى النظر في هذا الموضوع العجيب، موضوع تقدير الأدباء في الإذاعة على حسب درجات الوظائف، لا على القيمة الأدبية، ويخيل إلى أنها تلجأ إلى ذلك لتخلص نفسها من ورطة الحكم على هذه القيمة، وعلى هذا يمكن أن نعتبر هذه الطريقة أسلم مما كان يحتمل أن يقع، فقد يحسبون حديثاً جيداً، أو يظنون آخر رديئاً، والأمر على خلاف ما يحسبون ويظنون. . فلا مناص إذن من القياس على درجات الوظائف، فمن كان يشغل إحدى الدرجات العلا فهو أستاذ كبير، ومن يشغل الدرجة السادسة أو الخامسة مثلا فيحال إلى ذلك الموظف العبقري ليختار له حرف ب أو ج. . .

ولست أدري هل هم ينظرون أيضاً في أحوال أولئك الأدباء الموظفين، من حيث من يكون منهم عزبا، أو متزوجاً ليس له أولاده، أو متزوجاً وله أولاد، وكم عدد الأولاد، وهل يعول أقارب آخرين، وهل هو من (المنسيين) أو ممن إدراكهم (التنسيق) وما إلى ذلك. . . ومن يدري؟ فقد تتألف جمعية من زوجات محدثي الإذاعة المغبونين كتلك الجمعية المؤلفة من زوجات الموظفين المنسيين. . .

من طرف المجالس:

في ندوة الأستاذ كامل كيلاني بدار مكتبة الأطفال، قال فؤاد شيرين باشا محافظ القاهرة إنه دخل مرة بابنته الصغيرة محلاً لبيع (الشكولاته) بإحدى مدن ألمانيا، وكانت التي تبيع فيه سيدة، وبعد أن اشتريا منها وخرجا قالت الابنة لأبيها: لماذا تبيع المرأة (الشكولاته) ولا تأكلها؟

قال الأستاذ كامل كيلاني: هذا بعينه هو معنى الخيام في رباعياته إذ يقول: هل يشترى الخمار بما يبيع به الخمر أثمن منها؟

وكان المجاهد الأمير عبد الكريم الخطابي حاضراً، فانتقل الحديث إلى الاستبسال في الحروب وأثر الإيمان فيه، وهنا انبرى أحمد حلمي باشا رئيس عموم حكومة فلسطين، فجعل يقص روائع شاهده من حسن البلاء في المواقع التي اشترك فيها، قال: سقط أحد

ص: 48

الجنود المسلمين في حرب الأتراك مع الإنجليز سنة 1914 - جريحاً ولم يستطع الكلام، فأخرج ورقة من جيبه وتناول عوداً من الأرض وجعل يغرزه في جرحه الغائر برقبته ويكتب في الورقة بالدم، فكتب أولاً: أين القبلة؟ فدلوه عليها، فاستقبلها، ثم كتب: فليأخذ جيشنا بثأري. وأخيراً كتب: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم فاضت نفسه وقال حلمي باشا: وهذه الورقة محفوظة بأحد المتاحف بتركيا.

قال الأستاذ كامل كيلاني: لم أر في هذا المجال أبدع مما قالت أم حكيم زوجة قطري بن الفجاءة وهي تتقدم في الحرب ولا أدل منه على الصدق في الجهاد، قالت:

أحمل رأساً قد مللت حمله.

وقد مللت دهنه وغسله.

ألا فتى عني ثقله؟

فأين جان دارك وغير جان دارك من هذه الروعة؟

قالت شيرين باشا: وهل تعرف جان دارك أن تقول مثل هذا؟

السنة المدرسية:

نشرت بعض الصحف أن وزارة المعارف تفكر في أن تجعل بدء الدراسة بالمدارس من أول سبتمبر وأن تجري الامتحانات في أبريل بدلا من مايو ويونيه، حتى لا يرهق الطلاب بالامتحان في أوقات اشتداد الحر. وهذا اتجاه حسن، وإن كانت الفكرة لم تنضج في الوزارة، على ما يظهر فلم يمكن تنفيذها في هذا العام. ولا شك أن الجو في شهر سبتمبر معتدل وملائم للعمل المدرسي وخاصة حين تبدأ الدراسة هينة خفيفة في أول السنة، فليس من الحكمة أن يضيع هذا الشهر ويترتب على ضياعه تراخي الدراسة إلى الصيف ثم إجراء الامتحانات في القيظ الذي يصب شره الطلبة والمدرسين جميعاً، وإن فترة الامتحانات التي تقع في أوائل الصيف كل عام لهي مأساة الشباب في مصر، تنهك فيها أبدانهم وترتهك أعصابهم وتكل أذهانهم وتضطرب أفكارهم.

والمدرسون لو رأيتهم وقد حشدوا في الحجرات للتصحيح وجلسوا على مقاعد التلاميذ حتى ضاقت بهم، يتصببون عرقاً يجففونه وتارة يمسكون بالأقلام الحمراء ويهوون بها على أوراق الإجابة - لو رأيتهم على هذه الحال لأشفقت عليهم وعلى الطلاب الذي وضعت

ص: 49

مصائرهم بين أيديهم في هذا الجو المنهك المرهق.

وأذكر بذلك أن وزارة المعارف في السودان تنظم زمن الدراسة في العام تنظيماً موافقاً للبلاد الحارة، فالسنة المدرسية تبدأ في أول يناير ويستمر العمل إلى آخر أبريل، ثم تكون بعد ذلك إجازة الصيف التي تقع في خلال السنة الدراسي، وتستأنف الدراسة بعدها في يولية (يبدأ فصل الخريف في السودان من يولية) وتستمر حتى أول ديسمبر، ثم يجري الامتحان النهائي في أوائل ديسمبر وبذلك تنتهي السنة المدرسية.

أما المدارس المصرية في السودان فتجري على مواعيد المدارس في مصر، ويلاقي الطلبة والمدرسون هناك في الامتحان عنتا أكبر مما يلاقيه زملاؤهم في مصر.

ويمكننا الانتفاع بنظام الحكومة السودانية مع شئ من التحوير الذي يناسب جو مصر. يمكن أن تبدأ السنة وتنتهي كما تبدأ وتنتهي هناك، على أن تكون إجازة الصيف شهري يونية ويولية فقط، ولا ضير من العمل في أوائل الصيف وأواخره، لأن الامتحان لا يقع فيها وإنما يكون في ديسمبر. والمزية الكبرى لهذا النظام هي إجراء الامتحان في الشتاء وقت النشاط والعمل.

أما المدارس المصرية في السودان فيجب أن ينظم أمرها بحيث تكون مواعيدها موافقة للنظام السوداني الملائم للبيئة الطبيعية هناك.

عباس خضر

ص: 50

‌البريد الأدبي

قطرة في قطرة:

تلقى صديق الأستاذ أنور المعداوي رسالة حملتها إليه (حقيبة البريد) من السيد حسني الشريف وفيها أن قطرة من قطرات نداي سببت له مشكلة يرجو لها حلاً، وخير القطرات عندي تلك التي تثير المشكلات. أما القطرة فهي إنني خفت على الذين يقضون السنوات في المطالعات ولا يكتبون أن يصابوا وقد غصت النفس بما فيها ولم تجد لها منفذاً، بالاستسقاء الذهني والاختناق ودعوتهم إلى الكتابة والتعبير عما يجيش في نفوسهم بين الحين والحين، ويقول المراسل إنه لا يستطيع أن يعبر بما يرضي الأديب الكبير فهل يكف عن المطالعة وهو يحبها؟

أنا حين أقول للسيد حسني الشريف وأمثاله الذين يطالعون ولا يكتبون: إكتبوا كلما قرأتم لكي لا تصابوا بالاختناق وبما سميته الاستسقاء الذهني لا أطلب إليهم أن يأتوا بما يأتي به هوميروس وشكسبير وهيجل وملتن فللتعبير ألف وجه ولون وأسلوب ويكفي أن يعبر المرء عما يجول في صدره بالطريقة التي تلائم مزاجه وذهنيته وقالبه الوراثي وما انتهى إليه عقله وقلبه بحيث يأتي التعبير صدى للصوت الخارج من أعماق النفس ولكل نفس طبقاتها وأعماقها ولونها وهيكلها وجذورها وهواتفها وأرحامها، ومتى عبر المرء بطريقته الخاصة نفس عن نفسه وظهر بوجهه الذي خلق له ولم يستعر وجه غيره وأقبح الوجوه الوجه المستعار وأمن شر ذلك الداء، داء الاستسقاء. . كل يعبر بلسانه وأسلوبه فللأسد زئيره وللعصفور تغريده وللحمام هديله وللاقواس حنينها وللورود شذاها وللرعد هزيمة وللبركان حتمه، وليست القرائح كلها براكين، ومن الخير أن لا تكون كلها براكين ليظل للعبقرية ندورتها وللموهبة مكانتها، وفي كل قريحة تنفجر شيء من البركان وإن كانت لا تطلق المعجزات والروائع.

وإني لأعجب لمن يسلخ الساعات الطوال من نهاره وليله في المطالعة كيف لا يثير فيه ما يقرؤه ويتمثله قوة التعبير ويوقظ ما رقد في نفسه وتلك الخواطر والرسوم التي يلقي بها المؤلفون في ساحات النفس وأعماق العقل والخيال والشعور بذور صالحة للنمو وكائنات حية لها أعصابها وطرقها وأيامها وحيويتها التي تأبى إلا أن تشق لها المنافذ إلى أهدافها. .

ص: 51

إن الذي يغنم كنوز المطالعات ما يغنم ولا يكتب بدوره سطوراً يقدمها للحياة وللناس يقف موقف من ينعم بمال الدائن ولا يفي الدين وليس ذلك بالموقف الكريم المستحب. . . إن من أخذ يجب أن يعطي، هكذا تقول لنا الطبيعة. . .

ولاشك أن تاجرنا المراسل الذي يهوى الأدب ويحب (الرسالة) يعرف من تجارته أنها استيراد وتصدير، وكذلك هو الأدب، وإني لأدعوه إلى الكتابة بالشكل الذي يراه وقد تكون فيه وراء شغفه بالمطالعة قوة كامنة لم يهتد إليها بعهد ولم يسمع صوتها. . إن فينا من القوى الخفية ما يفوق بكثير ما يطفو على بحورنا من القوى الظاهرة. وكم من أديب قضى الحياة والقلم من يده خائف متردد والينبوع كامن راقد في أعماقه ينتظر حريته ويومه. . .

راجي الراعي

ليس في كلام العرب:

نقرأ كثيراً في هذه الأيام تصحيحات لغوية لبعض الكاتبين في الصحف والمجلات وعلى كثرة هذه التصحيحات لم نجد إلا القليل منها سلم من التصحيح، مما يدلنا على أن الكاتبين لا يتعمقون في البحث والاستقراء. وليست اللغة ضيقة المادة، حتى يتمكن كل من تحدثه نفسه بأن يقول هذا خطأ. وهذا لم يرد عن العرب، بل الواقع أن لهجات العرب كثيرة متشعبة، ولذلك قالوا: عجبت لنحوي يخطئ، ومجال التوسع في الاستعمال فسيح، الاستعارة والمجاز، والاشتقاق، كل ذلك مما يجعل مهمة (المخطئ) شاقة وعسيرة.

وقديماً ألف الحريري كتابه (درة الغواص في أوهام الخواص) وأطال فيما أعتقد أنه من الأوهام ولكن الشهاب الخفاجي تتبعه في (شرح الدرة) ورد أكثر ما كتبه.

وبين أيدينا كتاب (ليس في كلام العرب) لابن خالويه، وهو كتاب مملوء بالفوائد العلمية، وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء مستطاباً، غير أنه جاء ناقص الاستقراء، والقارئ للجزء الموجود بين أيدينا من الكتاب يجد فيه مواضع كثيرة فيها نظر، وقد اعتمد بعض مؤلفينا الكبار على هذا الكتاب فتابعوه في الخطأ، وأريد أن أذكر أمثلة مما قصر فيه ابن خالويه حتى يطيل الناشئون التريث قبل أن يقدموا على الحكم في المواد اللغوية.

ص: 52

1 -

يقول: ليس في كلام العرب أسم جمع ست مرات غير الجمل، فقد جمع على جمال وأجمل وجماله وجمالات وجامل وأجمال لأنه أكثر ما يكون الجمع مرتين أو ثلاثاً وهذا ست مرات فهو نادر، يقولون نعم وأنعام وأناعيم وقوم وأقوام وأقاويم لا يجاوزون ذلك. وينقل الرافعي رحمه الله هذا القول بنصه في كتاب (تاريخ آداب العرب)، ويزيد أنه وجد صاحب القاموس عد للجمل جموعا ثمانية.

وهذا كله غير صحيح؛ فإن هناك أسماء جمعت أكثر من هذا الجمع، ولنذكر على سبيل المثال (الدار) فقد ذكر لها صاحب القاموس أحد عشر جمعا، وكذلك ذكر للفظة (الشيخ). وذكر لبعض الكلمات جموعا ستة، وعبارة الرافعي الأخيرة غير صحيحة لأن صاحب القاموس ذكر للجمل أثنى عشر جمعا، فإنه قال: وجماله وجمالات مثلثين، ومعنى ذلك أن هذين اللفظين مع الضبط ينتجان جموعاً ستة.

2 -

ويقول: ليس في كلام العرب أفعلت أنا وفعلته لأنه صند كلام العرب غير أكب وأقشع، ولكن في كتب اللغة من ذلك أفعال، وقد أوصلها بعضهم إلى ثلاثة عشر فعلا، ومنها أنقض وألام وأظأرت الناقة وأنزفت البئر وأمرت الناقة، وأسبق البعير وقلعه الله فأقلع، وحجمه فأحجم وأنسل ريش الطائر ونسلته.

3 -

ليس في كلام العرب اسم على فعال ليس بمصدر إلا كلمة واحدة وهي قولهم أدخل الفعال في خرق الحدثان فأس له رأس واحد، والفعال خشبة الفأس، فأما المصادر تطرد على الفعال في باب فاعل نحو ضارب مضاربة وضراباً وهو منقوص بنحو زمام الناقة وسوار المرآة وصوان الثوب وملاك الأمر ووجار الضبع. . . الخ.

علي العماري

أخطاء مطبعية:

تقع أحياناً رغم التصحيح والمراجعة بعض الأخطاء المطبعية التي لا تغيب عن فطنة القراء. . . ومن هذه الأخطاء ما جاء بمقال الأستاذ أنور المعداوي عن فقيد الأدب الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني في العدد (842) من الرسالة حيث ورد هذا التعبير: (ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء ويصبحون فلا يجدون المازني يملأ مكانة) وصحته:

ص: 53

(ومن دواعي الأسف حقاً أن يمسي الأحياء ويصبحوا الخ). كما ورد في مقال الأستاذ المعداوي أيضاً عن (مدام ريكامبيه) في العدد الماضي من الرسالة هذه الكلمات: (وتنادي شفتيها شفاههم الظامئة. . . وتصافحت روح بروح) وصحتها: (وتنادي شفتيها شفاههم. . . وتصافحت روح وروح).

وفي العدد (840) من الرسالة ورد هذا البيت في قصيدة الأستاذ محمد علي الحوماني:

جددي يا مصر فينا الخيلاء

نخف الأرض ونحتل السماء

وصحته:

جددي يا مصر فينا الخيلاء

نخسف الأرض ونحتل السماء

وفي العدد الماضي ورد هذا التعبير في مقال الأستاذ إبراهيم الوائلي على كتاب (موسيقى الشعر): (والذي جعله يمزج بين البحرين هو هذا الخلط العجيب الذي درج عليه بعض المحدثين فلم يفرقا بين الهزج ومجزوء الوافر) وصحته: (. . . فلم يفرقوا بين الهزج ومجزوء الوافر) كما ورد هذا البيت: لا وحق ما أنا فيه فلا أرتجيه وصحته: فلا أرجيه.

(الرسالة)

ص: 54

‌القصص

عاصفة في قلب

للأديب يوسف يعقوب حداد

الحب، والأمومة، اتفقنا على الصراع في قلب زوجة. . .

فلماذا تراها فاعلة؟!

كنت قرب النافذة أتلهى بشغل الأبرة، واستروح آخر نسمات الربيع، وألقى على الطريق نظرات متباعدة لعلى أرى طفلي وهما في طريقهما من المدرسة إلى البيت. وفي آخر نظرة لم تقع عيناي على وجهي طفلي، وإنما رأيت زوجي يجتاز آخر مرحلة من الطريق إلى البيت، فألقيت على الساعة نظرة وجلة، فإذا زوجي قد عاد اليوم مبكر بنصف ساعة على غير عادته! واستولى على القلق، فألقيت ما في يدي، وأسرعت إليه خافقة القلب، وسألته - ما بك يا عزيزي؟

فأجابني بصوته الهادئ النبرات - لا شئ.

ولكنه كان يخفي عني الحقيقة، فقد كان وجهه شديد التجهم والانقباض. وحين دلفنا إلى داخل المنزل، جلس (جان) على حافة المقعد، وقال:

- الحقيقة أنني استلمت رسالة اليوم، أثارت اهتمامي. هي من ابن عمتي (دك برنت) ولعلك تتذكرين مقابلتك له في الشمال، يوم كنا نقضي شهر العسل.

فأمنت على قوله - نعم. . . أتذكره جيداً، وقد استلطفته كثيرا. ثم قلت مازحة - كان يؤمئذ يجتاز أخطر أدوار الشباب وقد أولع بي فكان ولعه هذا مصدر سخريتنا منه. لعله اليوم في الرابعة والعشرين. . . أليس كذلك؟!

ولكنه لم يهتم بحديثي، ومضى يقول - استطاع الحصول على عمل في المطار لنا، وأنه يتساءل فيما إذا كنا نقبله عندنا ريثما يجد له مكاناً آخر.

وبدا عليه أنه يسألني رأيي، فقلت له - لم لا؟. لدينا غرف كثيرة، يستطيع أن يشغل إحداها. . . ثم أننا هنا نشكو الوحدة، فلا قريب ولا صديق يزورنا ونزوره فسيخفف عنا (دك) هذه الوحدة. . . والأطفال؟. . تصور وقع الخير عليهم.

ص: 55

وسرعان ما أولع الطفلان بدك، وسرعان ما انسجم دك معهما. . . وكثيراً ما كانوا يتحدثون عن الطيران، حتى أصبح كل من في المنزل خبيراً بأموره وما يتعلق به!. . ولكن ولع دك بالطفلين لم يكن أكثر من اهتمامه بي!

ومرت الأيام، فإذا زوجي يتغير. لم يعد يدير دفة الحديث كما كان يفعل من قبل، وبدأ ينفرد بنفسه كثيرا. . . وازداد اهتمامه بالصيد وكان الصيد هوايته المفضلة. وكنا ذات مساء نجلس حول مائدة العشاء، فبدأ الطفلان سلسلة أسئلتهم الساذجة.

قال جاك - كيف كان طيرانك اليوم يا دك؟

- لا بأس به يا عزيزي.

وقال (بل) محدثاً شقيقه - ألم تر مغامرته اليوم فوق بناية المطار؟

فتحدث جان زوجي من بعيد، وقال لبل وفي حديثه الشيء الكثير من العتب واللوم: إذن فقد ذهبت اليوم إلى المطار وقد وعدتني بالأمس ألا تذهب!. . أنسيت أننا اتفقنا على تنسيق طوابع البريد معا؟ فهتف الطفل في أسف قائلا - والله. . . لقد نسيت. . . معذرة يا أبي.

ثم عاد إلى دك يحدثه عن الطيران، فاستطعت أن أرى نظرات الحقد والغضب في عيني زوجي جان!

وصعد جان إلى غرفته لينام، وجلسنا أنا ودك والطفلان نصنع نموذجاً لطائرة دك من الكارتون، ومضى الوقت ونحن لاهون، وشعرت وقتئذ بسعادة الشباب تعود إلى تخدير حواسي مرة أخرى. . .

دك الشاب المرح. . . وهذا العمل الصبياني. . . أعاد إلى ذكريات الشباب.

وسمعت زوجي يقول وهو واقف على باب مخدعه في الطابق الثاني - لقد حان موعد الأطفال. . . الساعة الآن النصف بعد العاشرة!

ثم عاد إلى فراشه. وصعد الطفلان إلى فراشيهما، وبقينا أنا ودك الذي قال لي ضاحكا - ألم يحن موعد نومك أنت الأخرى؟

فضحكت، وأدرت عيني إلى النافذة، فإذا أنا أرى القمر الساطع يتوسط كبد السماء، فخيل إلى القمر يشاركني سعادتي!

قال دك - ألم تجربي الطيران في ليلة مقمرة؟

ص: 56

- إنها خسارة. . . أليس كذلك؟

- عندي طائرة جاهزة في أي وقت.

شكراً. . . إنني متعبة الآن.

لا شك أن دك كان يدعوني لنزهة ليلية. . . ولكنه أم يجسر على توضيح رغبته. . . ولكنني فهمتها. . . مسكين دك!

وصعدت درجات السلم متخاذلة، وفتحت باب مخدع زوجي فإذا هو غارق في نومه. فاقتربت منه أمشي على رؤوس أصابعي، وانحنيت عليه أقبله، ولست أدري لماذا جاءتني تلك الفكرة. فكرة المقارنة بين وجهه الذي دبت فيه معالم الكبر، ووجه دك الريان بالشباب!

وسرت إلى النافذة حزينة متألمة، فطالعني القمر بوجهه الضاحك. . . فإذا أعود أنا إلى دك. . . وما هي إلا لحظات، حتى كنا نشق طريقنا مسرعين إلى أرض المطار.

قلت لنفسي وأنا أسبح في الجو إلى جانب دك - يالها من سعادة! وتمنيت لو أن هذه النزهة الجوية لا تنتهي أبداً.

- أأعجبتك هذه النزهة؟

- بل أحببتها كل الحب.

- وأنا؟

في هذا السؤال كان بل جاداً كل الجد، وخيل إلى أن الحب يصرخ في عيني: دك - أوه دك!. . لا تكن.

ولكنه لم يمهلني، وعاجلني بذراعين قويتين، وشفاه ملتهبة.

- أحبك يا روث. . أتذكرين أول مرة قابلتك فيها. . . وكنت تقضين شهر العسل؟. . منذ ذاك اليوم أحببتك، ولكني لم أجد فرصة لأعرب لك عن حبي.

كان زوجي شديد الولع بطفليه. . . لم يكن بعاملهما كما يعامل الأب أولاده، وإنما كان يعاملها كما يعامل الصديق صديقه. لا يكاد يدخل البيت حتى يأخذ طفليه ليشغل كل وقته معها. وأعتاد الطفلان هذه الحياة، حتى أنهما كانا يدعوان والدهما باسمه المجرد، حتى خلا البيت من (بابا) أو (ماما) وكنت أنتقد هذه الطريقة في تربيته لولديه. ولكن رأيه لم يكن ليتأثر برأيي أنا.

ص: 57

وذات يوم أخذ زوجي يعد معدات السفر مع طفليه. . . مع طفليه فقط!. . وتوسلت إليه أن يأخذني معهما، ولكنه أبى على هذه الرغبة - جان. . . خذني معك. ستحتاج لمن يطبخ طعامكم، ويغسل ملابسكم. . . جان، ربما تمرض الطفلان، فماذا تفعل وحدك؟

ولكن السيارة ابتعدت بهم عن عيوني، فوقفت وراء النافذة أسكب دموعي في حرقة ولوعة.

وسمت دك يقول لي في تأثير شديد لماذا تحاربين حبنا يا ورث؟ إن الحب لأسمى من هذه القيود البغيضة التي تقيد عاطفتك بالأغلال

وأمطرني بسيل منهمر من قبلاته.

وكتبت لجان رسالة طويلة أطلب حريتي. . . وانتقلت مع دك إلى منزل صغير أحلناه إلى جنة صغيرة. ولكن حبي لدك لم يكن كل شئ بالنسبة لسعادتي. . . حب دك لم يستطع أن ينسيني طفلي، فأنا في منتصف الليل استيقظ من نومي، فإذا وسادتي مبللة بدموعي. . . كنت أحلم بهما.

وأقف أمام المرآة فأرى جمالي يعتريه الذبول. . . إنني أكبر من دك بعشرة أعوام، ومعنى هذا أنني أسبقه إلى الشيخوخة بعشرة أعوام. . . وفي هذه المدة من يدري ماذا سيكون. . . ربما انصرف دك عن حبي إلى حب امرأة أصغر مني وأجمل!. . وربما هذا لن يكون. وربما كبر طفلاي فيدركان معنى الأمومة، فيعودان إلي. . . من يدري ماذا يخبئ لي المستقبل. على كل حال، فإنني أتمنى لو أستطيع إعادة عقارب الساعة إلى تلك الأيام التي سبقت دخول دك منزلنا الهادئ لأول مرة.

(البصرة - العراق)

يوسف يعقوب حداد

ص: 58