المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 845 - بتاريخ: 12 - 09 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٤٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 845

- بتاريخ: 12 - 09 - 1949

ص: -1

‌رحم الله صديقي المازني!

لقد كان رَجُلْ وَحْدِه في طراز عيشه ونظام عمله ونمط تفكيره وأسلوب

كلامه. والتفرد في الحياة والعمل والفكر والعبارة معناه في دنيا الأدب

الشخصية الممتازة التي لا يغنى عن وجودها وجود، ولا يَجزى عن

جهدها جهود، ولا يسهل من فقدها عِوض. فإذاأُضيف إلى ذلك أن

المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون

أدبها عن فقه، ويعالجون بيانها عن طبع؛ وأن هؤلاء العشرة البررة

متى خلَت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا

الزمن الثائر الحائر العجلان من يحمل عنهم أمانة البيان ويبلغ بعدهم

رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفى

هذا الكاتب العظيم.

عرفت المرحوم المازني في خريف سنة 1914 يوم دخلنا المدرسة الإعدادية الثانوية معلمين، وكان يومئذ في مرح شبابه وميعه نشاطه يتوسط باحة الأدب ويطرق باب الشهرة ويحاول هو وصاحباه العقاد وشكري أن يشقوا طريقهم إلى المجد في أرض غليظة صلدة يقوم في بدايتها عقبتان: صاحب (الشوقيات) بشعره الرائع، وصاحب (النظرات) بنثره البليغ. ولكنهم كانوا أصحاب مِعول ومِسطرين: يهدمون بالنقد والثلب والتجريح، ويبنون بالتجويد والتجديد والدرس؛ فلم يفعلوا فِعل ضعفاء الملكة اليوم، يخفضون مستوى البلاغة ليصعد القميء، ويقربون غاية الفن ليلحق البطيء!!

وكان المازني على هذه الثورة وهذا الطموح خافض الجناح لأنه قوي النفس، راكد السطح لأنه عميق النور، فما كنت تراه يوماً ذاهباً بنفسه ولا متبجحاً بعلمه ولا مباهياً بعمله. ثم كان على ضآلة جسمه ووهن عظمه مهيب الجانب لذكاء قلبه ورجاحة عقله، فلا يعبث في درسه تلميذ ولا يجرؤ على كرامته معلم. ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة، فزاملته في التعليم، وصادقته في الأدب، وعاملته في الصحافة، فلم أجرب عليه شهد الله لؤماً في

ص: 1

زمالة، ولا غشّاً في صداقة، ولا سوءاً في معاملة.

كان أدب المازني أداة عيشه ووسيلة رزقه. لذلك كان يكره أن يعرضه لكيد الخصومة وعنت النقد. وكان سبيله إلى هذا أن يغضّ هو من قدر فنه، وأن يقلل من قيمة نتاجه، حتى يفوّت بذلك على خصمه لذة التجني عليه فلا يجد ما يقوله إذا أراد أن يتنقصه بنقده أو حقده. وتصغيرك لشأنك فيه معنى التواضع، ولكن تصغير غيرك لك فيه معنى الضَّعة. على أنه كان إذا أكرِه على الخصومة شديد العارضة حديد القلم يقرع صاحبه بالتهكم أكثر مما يقرعه بالحجة. ولو كان المازني مكفول الرزق من طريق غير طريق الأدب لما قَصر أكثر جهده على الصحافة. ومن مساوئ الصحافة أنها تفرض على الكاتب الموضوع وتحمله على السرعة. وموضوع المازني القَصص وفنه الوصف. فلو أنه خلص لهذين البابين لأتى فيهما أعجب العجب.

هذه بعض صفات الصديق الراحل ذكرتها مجملة في مقام الحزن على فقده والجزع لمصابه. أما سائر صفاته وتحليل ملكاته وترجمة حياته فلها في تاريخ الأدب فصل طويل سأكتبه بعد قليل.

(المنصورة)

احمد حسن الزيات

ص: 2

‌الظمآن.

.!

للأستاذ راجي الراعي

في ذلك المساء كنت عائداً إلى بيتي لأطرح على عتبته أعباء اليوم وأنا أمسح العرق الذي يتفصد به جبيني وألتقط حجارة البؤس وأرجم بها الدنيا، فشعرت بيد ناعمة تمتد إلى ونظرت فإذا بشبح في عينيه ألف شعاع انتصب أمامي وبادرني قائلاً: أنت من البائسين ولكن خفف عنك فالحياة التي ترجمها تدعوك الليلة إلى جلسة شراب تقيمها لك ولأمثالك في القصر القائم على تلك الرابية التي تراها فاذهب واشرب وتمتع، فسألته: ومن تكون أيها الشبح المشع؟ فأجاب: أنا الرحمة، وما هي إلا طرفة عين حتى حملة النسيم وتوارى عني فقلت لنفسي: هل لمثلي أن يتمتع بشيء في هذه الدنيا؟ هي ولا شك مهزلة جديدة فلأذهب إليها لأشهد فصولها وواصلت السير إلى حيث ألقيت بأحمالي على عتبة البيت، وخرجت والليل يشتملني، أهبط الوادي وأتسلق الجبل حتى بلغت القصر فإذا هو يعج بالخلائق يتدافعون بالمناكب ليستمعوا إلى الكلمات التي كانت تعيدها عليهم امرأة توسطت المكان، طويلة القامة بدينة، ورحت أشق الصفوف المتواصلة حتى دنوت من تلك المرأة فسمعتها تقول: أنا الحياة. . . أعرف أنكم البائسون من أبنائي الذين طالما عبست في وجوههم وقد رأيت أن أجمعكم منذ اليوم مرة في العام لأعرض لكم أثمن ما لدي من الكؤوس وأسكب لكم منها فتبتل شفاههم الجافة ببعض ما حرمتموه من دناني. . . أنا الحياة، ولي كؤوس وأفخرها وأجملها وأعزها ثلاث:

ورفعت بيدها الكأس الأولى وقالت: هذه هي الكأس الصفراء كأس الثروة من شربها اتسع أمامه مدى العيش وأقام القصور الناطحة السحاب واقتنى الأرض الفسيحة الرحاب ونال ما يشتهيه من الطيبات وتحدى الأقدار، ورفل بالدمقس والحرير وبسط الموائد المثقلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب. . . ورمت الحضور بقبضة من الدنانير فهجموا يلتقطونها وصبت خمرة الثروة فشربوا جميعهم. . . أما أنا فلم أشرب. . .

ثم رفعت الكأس الثانية وقالت: هذه كأس الكؤوس، كأس المرأة يحفها الحب والجمال، من شربها فرشت له الجنات تجري من تحتها الأنهار وتدفقت عليه قبل الحسان وحملته أجنحة القلب إلى آفاق الغبطة والنعيم وتنشق الرياحين وسجع له الحمام وانتقل بين الزهر والورد

ص: 3

وذاق الشهد. . . وأطلقت في تلك القاعات فتاة غضة بضة سمراء الوجه دعجاء العينين رشيقة القد يفوح منها عبير الحسن وتشع عيناها بالإغراء والفتنة فتخاطفت وجنتيها وتنافست في ثغرها القبلات. . . وصبت الحياة خمرة المرأة فشرب الجميع. . أما أنا فلم أشرب. . .

ورفعت الكأس الثالثة وقالت هذه هي الكأس الحمراء، كأس المجد، كأس الفاتحين الغزاة من شربها دقت له الطبول وخفقت في سمائه الرايات وسارت في ركابه الجيوش واكتسح البلدان وأخضع الشعوب وثمل بخمرة النصر ونصبت له التماثيل والعروش. . . ودارت في الناس بأكاليل من الغار فزينوا بها رؤوسهم، وصبت خمرة المجد فشرب الجميع. . . أما أنا فلم أشرب. . .

كنا عشرة آلاف من بائسي (هيجو) يغص بنا القصر، وكان الجميع من حولي يهللون للحياة ويترنحون بخصرها ويثنون على كرمها وحنانها إذ جادت عليهم وهم المحرومون بساعة من ساعات نعيمها. . وكانت الحياة تطرب لبنيها وهم يطربون ولكن ساءها أن لا أكون من دعاتها المهللين وسكاراها الطروبين وراحت تسأل عني وقد جرحت كبريائها وما لبثت أن أقبلت علي والعيون تحدق إلينا والفوم يتهامسون وسألتني: من أنت؟ فأجبتها: أنا الظمأ. . الظمأ القامح، الظمأ كله! فقالت: ولم لا تشرب من كؤوسي التي أدرتها على رفاقك؟ فقلت: أنت تجهلين نفسك أو تعرفينها ولكنك تخدعين فالكؤوس التي عرضتها وسكبت فيها أيتها الضالة المضللة كؤوس وهمية خداعة لا تجدي ولا تروى. . إنك لا تستطيعين أن تعطي أكثر مما عندك، وما عندك ليس بالشيء الكثير ولا هو بالترياق لعليل مثلي فلو أعطيتني كل ما لديك من الذهب ونفحتني بكل ما لديك من النساء وصور الحب والجمال وزينت رأسي بكل ما لديك من أكاليل الغار ووهبتني الدنيا بأسرها لما اكتفيت ولا هدأت نفسي. . ما الفائدة من الكأس إذا لم ترو شاربها؟ أنا هو الإنسان، أنا هو الظمأ المستديم وليس في كؤوسك ما يرويني، أنا لسان من اللهيب يندلع وليس في وسعك أن تقطعيه، أنا نار ليس في يدك رمادها. . إن بينك وبين نفسي منذ تعرف أحدنا إلى الآخر لفلوات شاسعات كتب لي أن أظل مكتوباً بضرامها حتى يفتح الله لي شرفة من دارك على الآخرة حيث آمل أن أرى وجه الله وأذوب فيه وأرتوي. . أنا الظمأ وأنت لا ترويني، أنا الإنسان الكبير وأنت

ص: 4

الحياة الصغيرة وما هو ذهبك، ما هي نساؤك وما هو مجدك إذا جاشت الجائشات في صدري وأطلقت خيالي. . . أنا ظمآن، ظمآن إلى الله وأنت كافرة ظمآن إلى الحق وأنت الباطل، ظمآن إلى الوفاء وأنت الخيانة، ظمآن إلى الخلود وفي كأسك ثمالة الموت! أنا ظمآن خلقت ظمآن من قوم ظامئين وأجتاز صحاريك ظامئاً وسأموت ولساني جاف وشفتاي المرتعشتان تتلمسان الغيب وتلتهبان شوقاً وحنيناً إلى الماء الذي هو الماء والخمرة التي هي الخمرة. . ومن أجل ذلك أنا واجم كئيب وبائس يائس فلا ترأفي بي أيتها الحياة، إن رأفتك لا تجديني ولا تفخري بكؤوسك بعد اليوم ولا تسكبيها فهي تؤلمني ولا تكفيني. . .

راجي الراعي

ص: 5

‌في الأدب المهجري

للأستاذ حبيب مسعود

ليس من شأني في هذا الحديث أن أعرض عليكم صورة عن الأدب العربي في كل أنحاء العالم الجديد. فذلك يقتضي وقتاً طويلاً ودراسة مستفيضة، وإنما أقتصر في حديثي على أدبنا في البرازيل؛ ومتى ذكرت هذا القطر الكبير بمساحته وشعبه فلا يسعني إلا أن أحيي فيه رمز الكرامة والسماحة، وموطن الحرية والضيافة؛ فقد فتح صدره لقومنا وغمرهم بعطفه ومتعهم بشرائعه الحرة فأصابوا فيه من نعمه ما أصابوا وكان لهم هذا المقام الذي يحتلونه.

لقد بلغكم ولا شك الشيء الكثير عن مآتي قومنا في البرازيل وسمعتم عن المكانة المادية والأدبية التي وصلوا إليها بعد جهاد سبعة عقود من الزمن وفروا له من العزيمة والجلاد ما تضؤل عنده بطولة الأساطير.

ولست معيداً فصول المآسي والبطولة في حياتهم المهجرية فهي أبعد من أن تستوعبها الكلمة العجلى فأحصر كلامي في الناحية الأدبية لعل فيها جلاء للذين يعتقدون أن المغتربين أصحاب بيع وشراء وحسب، أو أن الأدب العربي المهجري أدب مسيخ لا يمت إلى الفصحى بنسب.

الأندلس الجديدة لقب أطلقوه على البيئات العربية (وكلها من سوريا ولبنان وفلسطين) التي تكتلت في العالم الجديد وكونت عنصراً له قواه المادية والمعنوية، تشبهاً بالأندلس القديمة التي فتحها العرب وأنشئوا فيها تلك الدولة التي لم يجل ما قيل فيها حتى الآن حقيقة كيانها، فإن كل ما كتب في التاريخ الأندلسي من دوزي وكونده ودلريو إلى بروفنسال وكوديرا وريبيرا وبالاسيوس وغيرهم من الإفرنج والعرب لم يسبر غور تلك الحقبة الطويلة من الزمن وهي تناهز الثمانمائة من السنين. أما نحن فإننا نستقي تاريخ الأندلس من مناهل مؤرخي الغرب وعلمائه ونعتمدهم في دروسهم الاستقرائية ومباحثهم التعليلية فنستشهد بما قاله دوزي الهولاندي وريبيرا الأسباني.

إن بين الأندلس القديمة والأندلس الجديدة فرقاً من وجهة وشبهاً من وجهة أخرى. فالفرق هو أن العرب دخلوا الأندلس فاتحين ففرضوا سلطانهم ونشروا هيبتهم وحموا بسيوفهم

ص: 6

مؤسساتهم ومعاهدهم ولغتهم فدرج الأدب والعلم في ظلال أعلامهم وزها الشعر في خمائل مجدهم، في حين أن قومنا دخلوا أرض كولمبس مسترزقين طالبين عطفاً وسائلين عدلاً. أما وجه الشبه ففي هذه الدولة الأدبية التي بناها قومنا هناك شأن العرب في الأندلس.

إن لانتقال العربية إلى الوطن البرازيلي ونشرها بين عشيرتنا المغتربة بالصحف والكتب حكايات لا تقل غرابة عن حكايات ألف ليلة وليلة، فالصحافة العربية كانت في أول عهدها ضرباً من الاستشهاد، ومزاولة الأدب العربي في تلك البيئة الغربية كانت نوعاً من الانتحار. ذلك لأن مغتربينا الأوائل كانوا في معظمهم أميين أو شبه أميين، ولم يكن همهم الأوحد إلا انتقاص الرزق وادخار الكسب. فما يجري في عروقنا قد ورثناه عن أولئك الذين قذفوا بأول قارب إلى البحر وعرفوا العالم الجديد قبل كولمبوس وأمير كو بآلاف السنين، وعن أولئك الذين توغلوا في قلب آسيا وفتحوا بلاد القوط من مغامرة مغتربنا الأول الذي ركب البحر إلى ديار بعيدة يجهل حتى اسمها أُسست دولة ضخمة بصناعتها وتجارتها لا يدرك عظمتها إلا من خبرها، ومن مجازفة ذلك الأديب الذي أنشأ أول نشرة عربية قامت الدولة الأدبية التي دعيت الأندلس الجديدة.

فالأندلس الجديدة هي نشيئة الأديب المغترب الذي استشهد في سبيل قومه ومن أجل لغته. زهد في كل شيء ما خلا وطنه، وقنع بالبلغة لكي يحافظ على لسانه. وليس الفضل أن تصون لغتك وأنت قابع في ديارك وبين عشيرتك، وإنما الفضل كل الفضل أن تصونها وتحضنها وتشقى من أجلها وأنت في بلاد غريبة عنك لساناً وعادةً وعرقاً.

على أن هذا المناضل الذي ذكرت لم يسلم من افتراء بعضهم حتى أن أحدهم وهو من أدباء دمشق عرض بأدباء المهجر عامة وتنقص شعراءه. وقد يكون عذره الوحيد أنه ألقى كلامه جزافاً أو أنه وقع عرضاً على بضاعة تافهة، ومثل هذه البضاعة كثير هنا وهناك وفي كل مكان. ولو تروى ومحص وكشف الرغوة عن الصريح لأدرك أن في المهجر عناصر لها مكانتها الرفيعة في اللغة والأدب والشعر، وأن أمثالها قليل في أي قطر من الأقطار العربية. لست مفاخراً ولا مغرقاً فسأورد لكم بعد قليل أمثلة من نتاج أدبائنا المغموطين ولكم أن تتخذوا منها حجة لي أو علي

تقلب الأدب العربي في البرازيل بين مد وجزر، وتنازعته عوامل البقاء والفناء مراراً، ولد

ص: 7

فقيراً بين حفنة من البشر نزحت عن وطنها طلباً للرزق، ودرج هزيلاً لسوء غذائه المادي والأدبي، وشب نشيطاً يجري في عروقه دم استمده من قافلة أدبية جديدة لحقت بالقافلة الأولى، وتعطف عليه بيئة ارتفع مستواها العقلي وباتت تتذوق الأدب وتقبل على جيده. أما اليوم فقد دخل في طور كهولته فأينعت ثماره وطاب شرابه. عندنا اللغوي المدقق، والشاعر المنطلق في أجواء الإيداع، والمنشئ الناصع الديباجة، والكاتب الذي يجمع بين روعة الأسلوب وعمق التفكير

وعندنا المدارس التي تعلم العربية وقد طالما أخرجت الألوف من نشئنا وعلى ألسنتهم لغة قحطان، وفي قلوبهم صبوة لوطن آبائهم، وعندنا الأندية التي ما برحت سوقاً يتبارى فيها فرسان الشعر والأدب. ما انطوى علم من أعلام الأدب أو الوطنية إلا مجدت ذكراه بمهرجان أدبي. وفي تلك الأندية شهر فضل محمد عبدو، وفرح أنطون، وسليمان البستاني، ومصطفى المنفلوطي، والحسين، وفيصل، وعبد الله البستاني، وفوزي المعلوف، وجبران، ورشيد أيوب، والريحاني، ورشيد نخلة، وميشال المعلوف، ونعمة يافث، وشكري الخوري، وعقل الجر وغيرهم ممن تفوتني أسماؤهم. أما الحفلة الكبرى التي أقامتها العصبة الأندلسية لذكرى المتنبي الألفية فقد بزَّت بروعتها وبما قيل فيها من الشعر كل ما ألقى في الحفلات الأخرى، ولقد حلق شعراؤنا في سماء الإبداع حتى جاوروا شاعر العرب الأكبر.

أما الصحف العربية التي ظهرت في البرازيل منذ بدء الهجرة حتى يومنا فتجاوز الخمسين، وقد بلغ عددها قبيل الحرب العالمية نحواً من خمس وعشرين صحيفة بين مجلة وجريدة لم يبق منها إلا مجلتان وثلاث جرائد.

لم تكن الصحافة العربية في المهجر إلا مدارس نقالة تحمل إلى قومنا الثقافة والأدب، ورسولاً ينقل إليهم أخبار أوطانهم وذويهم، وبوقاً يذيع مآثرهم، وصديقاً يواسيهم في أتراحهم ويشاركهم في أفراحهم ومعلماً يلقنهم القراءة والكتابة.

بيد أن ظهور العصبة الأندلسية كان أكبر أثر أدبي في تاريخ الأدب العربي بالبرازيل. ففي عام 1933 وقد استفحلت فوضى الأقلام، شعر نفر من أدبائنا على رأسهم الطيب الذكر ميشال بك معلوف بافتقارهم إلى رابطة تجمع شملهم وتصون أدبهم فتنادوا وتعاقدوا وأجمعوا على إنشاء مؤسسة أدبية دعوها العصبة الأندلسية تيمناً بالعصر الأندلس الزاهر.

ص: 8

وفي عام 1935 قر رأيهم على إصدار مجلة تنقل نتاجهم الأدبي وعهدوا إلى هذا الحقير الواقف أمامكم في رئاسة تحريرها. وليس لي أن أقول شيئاً في هذه المجلة فالرأي والحكم لمن رافق حياتها وبينكم منهم كثيرون، وإنما لي كلمة أقولها وفاء لحرمة الأدب وهي أن (العصبة) كانت وما تبرح الصحيفة التي لم تعن لتأثير شخصي مهما كان حوله وطوله، ولم تعن بغير الأدب والثقافة، فمن الأدب الذي لا يؤمن إلا بالكفاءة والنزاهة والصراحة والتضحية نشأت، ولأجل هذا الأدب وحده تعيش.

تحمل (العصبة) شهرياً في المائة والعشرين من الصفحات نتاج الأدباء المنضمين تحت لوائها وغيرهم. ورسالة (العصبة) أن تنقل إلى الشرق العربي أدب المهجر، وإلى المهجر أدب الشرق، وهي رسالة وقفنا لها قلوبنا ودفعنا إليها هيامنا بهذه اللغة التي حضناها في جوانحنا. ورسالة (العصبة) أيضاً أن تطلع العالم العربي على بدائع الفكر الغربي ولا سيما البرازيلي. هاكم مثالاً، هذا المقطع عن الشاعر البرازيلي الكبير كاسترو الفس وقد نقله شعراً شفيق معلوف رئيس العصبة الأندلسية وعنوانه (العبقري):

هو لو طوف في الدنيا وجابا

مدن الأرض ذهاباً وإياباً

لقضى العمر يند الناس عنه

كفه فارغة، والأرض ملأى

ولئن قرَّب، والأحشاء ظمأى،

فمه للنهر، فر النهر منه

لم يصب مأوى على وسع الفيافي

لا ولا ظلا، وظل الغاب ضاف

لا ولا ضمة تحنان وعطف

ولئن لوح في عرض الطريق

بيديه ناشداً كف صديق

لم يفز إلا بتصفيق الأكف

سار في قفر بعيد الدرب وعز

ينقل الخطوات من نصر لنصر

حاملاً من مجده زاداً وقوتاً

قيل هذا عبقري لا يموت

فمضى يسأل: هل يوماً حييت

يا بني قومي لأخشى أن أموتا

ودونكم هذه القطعة للشاعر البرازيلي فيسنتي دي كارفاليو وقد ترجمها نثراً أخواناً في

ص: 9

العصبة الأندلسية يوسف البعيني وعنوانها (اختراع الشيطان):

(تقاسم الله والشيطان هذا العالم فكانت حصة الله الأفلاك، وحصة الشيطان العالم الموبوء بالمعاصي والشرور والذي لا ينبت إلا العوسج ولا يلد سوى الأفاعي والغيلان. وخرج الشيطان مرة من وكره الناغل بالعفاريت وصعد إلى السماء حيث يرتكز عرش الآلهة. وفيما هو يتهادى مخلوباً بمناظر النعيم شاهد حواء مستلقية بجسمها العاري في ضوء القمر فحسبها في أول الأمر قطعة من المرمر الشفاف. ولكنه دهش إذ علم أن صاحب هذا الهيكل البض امرأة تتمشى في أعضائها حرارة مبهمة - هي حرارة كل كائن حي.

وما كاد يفكر قليلاً حتى تجسدت في مخيلته صورة اختراعه الفذ فاقترب من حواء وسكب في فمها الوردي الجميل كأساً من السم. عند ذاك تبسم بخبث ودهاء ومضى مسروراً لأنه اخترع قبلة المرأة!. . .)

ولا أزيدكم، ففيما أوردت كفاية للدلالة على بدائع الأدب البرازيلي

وقعت أخيراً على بحث لأحدهم في أدب المهجر عزا فيه روح التجدد إلى أدباء الشمال يوم كان جبران يتزعمهم، واتهم إخوان العصبة الأندلسية بالمحافظة على الأساليب القديمة. أقول إذا كان جبران وبعض إخوان الرابطة القلمية قد فتحوا بتفكيرهم جواء جديدة فهذا لا يعني أن كل أديب في أميركا الشمالية بلغ شأوهم، أو أن أدباء العصبة محافظون لأنهم لم يسبحوا في تلك الجواء. أما إذا كان المراد من الأساليب القديمة الصيغة اللفظية والمحافظة على ضوابط اللغة فليس في ذلك موضع للغمز واللمز. ألم يخلق جواً حديداً فوزي المعلوف في بساط ريحه، وأخوه شفيق في عبقره، والشاعر القروي في حضن الأم؟ أما إذا كان التفكير الجديد يقتضي أسلوباً جديداً، والأسلوب الجديد يقتضي خروجاً على اللغة وبلبلة في التركيب ورطانة في التعبير، فلست مبرئاً إخواني من التهمة بل أعلن على رؤوس الأشهاد أنهم محافظون أكثر من تشرشل وأعوانه.

ثم لا أدري ماذا يقصد بعضهم بالتجدد وقصة التجدد طويلة عالجتها الأقلام وتناولتها مساجلات عنيفة بين مقدسي الأدب القديم، ومحقري تراث الغابرين. وكلا الرأيين في شرعي مغال، فليس في الأدب قديم ولا حديث، وإنما فيه جيد وسقط، والجيد يظل جيداً مهما قدم، والسقط لا قيمة له سواء كان قديماً أو حديثاً. بعد ألف عام ما ننفك نطأطأ الرأس

ص: 10

احتراماً لخرائد المتنبي، وبعد أحد عشر قرناً ما يزال ابن المقفع والجاحظ أميري القلم وسيدي البيان وإمامي المنشئين.

والتجدد ليس علماً يلقن أو قواعد تدرس، إنما هو نزعة خلاقة في الفكر، وصبوة في النفس إلى الإبداع، وملكة في الطبع تأبى الانقياد. والمجددون هم صنف من العباقرة أوتوا موهبة الفتح والقدرة على الخلق، وليس في طاقة كل أحد أن يكون مجدداً، وإنما في طاقته ألا يكون مقلداً.

وسألني بعضهم هل لأدب العصبة الأندلسية اتجاه خاص أو طابع معروف به، فكنت أجيب: لا أعرف للأدب اتجاهاً واحداً ولا طابعاً خاصاً، وإنما أعرف أن الأدب فن كسائر الفنون الجميلة يمكنك من التعبير عن مشاعرك وتصوير ما يرتسم بأفكارك وتدوين ما يجري في أيامك وتعريف ما يقع تحت نظرك من المشاهد وغير ذلك من الأغراض. وأعرف أيضاً أن لكل أديب اتجاهاً وطابعاً لميوله وثقافته وبيئته. أما هذه الأنماط التي يعرفونها تارة بالمدرسية وطوراً بالوجدانية ومرة بالرمزية فهي أشبه شيء بالأزياء التي يستحدثها هواة الطرافة يقبل عليها الناس زمناً ثم يهملونها. قالوا إن هوجو وجماعته ابتدعوا المذهب الرومانطيقي الذي يعتمد المشاعر والخيالات والصور الطبيعية، والواقع أن هذا المذهب قديم جداً تلقاه في التوراة وفي أدب الهند والأندلس وغيرها، فهو لا يخرج عن زي قديم؛ كما أن الرمزية التي يريد دعاتها اليوم أن يرفعوا علمها على أنقاض الرومانطيقية ليست سوى الصوفية يعينها.

أنا لا أستنكر المذاهب الكتابية مهما كان شأنها لأنها تحمل روح الابتكار ودلائل الحياة؛ فالركود آخرته العفن والجمود معناه الموت، لكني لا أعتبرها من الأدب أسسه وأركانه، فالمذاهب تتغير أما الأدب فباق. لقد كانت الموحشات في عصرها بدعة استهوت الألباب، ثم خمل شأنها مع الزمن حتى كادت تهمل في أيامنا على انتشار الغناء وهي في أصلها ابتدعت للغناء والطرب. أما أدب امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعه والمتنبي وابن المقفع والجاحظ وابن خلدون وإضرابهم فراسخ كالطود مهما تنوعت المذاهب وتجددت طرق التعبير.

وهذه بعض قطع لشعرائنا لم أخترها وإنما وقعت على أكثرها هنا في بضعة أجزاء من

ص: 11

(العصبة). ابتدئ بقصيدة (ساعي البريد) وقد نظمها شاعرنا شفيق معلوف في أثناء الحرب الأخيرة تخيل فيها أما في وطننا تترقب ساعي البريد لعله يحمل إليها خبراً من ابنها في المهجر:

ساعي البريد وما ينفك منطلقاً

وكل باب عليه غير موصود

يسعى بأكداس أوراق مغلغة

تفوح منهن أطياب المواعيد

خلف النوافذ أجفان مشوقة

إليه تخفق من وجد وتسهيد

بدا فهز عقود الغيد مقدمه

هز النسيم لحبات العناقيد

كم قبلة من فم العشاق يحملها

على يديه ويهديها إلى الغيد

يا ساعياً بابتسامات توزعها

على الشفاه بلا من وترديد

كم وجه أم عجوز إن بززت له

لم يبق من أثر فيه لتجعيد

تلقى إليها كتاباً إن يصب يدها

شدته باليد بين النحر والجيد

كأن كل غلاف منك ملتحف

بابن إلى صدر تلك الأم مردود

وهذه قطعة لشاعرنا رشيد سليم خوري المعروف بالشاعر القروي عنوانها (الغفران):

قمت قبل الطيور أشدو جبوراً

لا أرى باعثاً لفرط حبوراً

مؤنساً وحشة الفضاء كأني

نبأ طيب سرى في الأثير

أتهادى بين الغصون كغصن

وأناغي العصفور كالعصفور

وعلى وجنتي للورد ظل

عائم فوق موجة من نور

قلت ربي أزال عهد شقائي

أم أراني في عالم مسحور

وإذا زهرة كوجنة طفل

جنبها شوكة كناب هصور

فتذكرت ليلة الأمس رؤيا

باح لي وردها بسر سروري

إن كف الرحمن تحت سكون

الليل بالعفو غلغلت في سريري

فرمت نفحة من العطر في قلبي

وعادت بشوكة من ضميري

وهذه مقاطع من قصيدة (النغم الأخيرة) لشاعرنا شكر الله الجر:

وقفت. . . وقد نفث الدجى في وجنتيها نجمتين

وأذاب حبة قلبه في شعرها والحدقتين

ص: 12

وتفتقت في الأفق أكمام الغمام عن القمر

فبد لها كالوردة البيضاء فتحها السحر

والنهر كالديباجة الخضراء جعدها النسيم

ينساب مثل اللوعة الخرساء في صدر الكريم

والحور عند ضعافه مما ألم به أرتبك

ألقى شباك ظلاله فاصطاد أخيلة السمك

وأقتطف هذه الأبيات من قصيدة نظمها شاعرنا نصر سمعان في (المصدور):

نزيف دم أرقت به شبابك

أصاب الأرض منه ما أصابك

أقبل الموت تنثره وتشقى

به في كل آونة ترابك

ملأت مسامع الدنيا أنيناً

أذعت به على الدنيا مصابك

وما لك يا حليف اليأس إلا

حديث اليأس عن ألم أذابك

تحس الكف كف الموت فيها

إذا لمستك أو مست ثيابك

وهذه أبيات من قصيدة (مخازن الإظلال) لشاعرنا المدني قيصر سليم الخوري:

يا دهر كم لك منه عندي وكم

من منة للدهر رهن الزوال

نأوي البيوت إذا استهلت ديمة

ونفر منها ساعة الزلزال

متع الليالي لا تدوم وطالما

حذر المحاذر جره لوبال

ينجو المغفل وهو في حدق الردى

ويصاب في عينيه حين يبالي

وهذه أبيات لشاعرنا حسني غراب من قصيدة يدفع فيها ما اتهم به العرب أحد كتاب الأجانب:

قل للألي حملوا علينا حملة

شعواء شبت نارها الأهواء

ما نحن ما رسمت لكم أوهامكم

بل نحن مما تزعمون براء

نهتز عجباً واختيالاً كلما

عصفت بنا من ريحكم هوجاء

وتظل أعراض الكرام نقية

بيضاء مهما عابها السفهاء

وأخيراً هاكم هذه الأبيات من قصيدة لفقيد الأدب العربي عقل الجر بعنوان (أمي):

ذكرت ولكن كحلم عبر

أموراً تقضت زمان الصغر

ص: 13

غداة أدب دبيب النمال

وحولي تدب صروف القدر

أتغتغ لا مفصح كلمة

فتحسب أمي كلامي درر

وأعبث في البيت مستبسلاً

فأي إناء أصبت انكسر

وأبكي فيضجر بي والدي

وليس يلم بأمي الضجر

فتلهب خدي في لمسها

وتمسح من مدمعي ما انهمر

فيتك أماً تسام العذاب

النهار وفي الليل ضنك السهر

هذا مثال خطيف من أدب الأندلس الجديدة اقتصرت فيه على النظم دون النثر. هذا من شعر المهجر الذي أبى أحدهم أن يتعرف إليه لأنه ليس شعراً عربياً. وهذا أيضاً شيء من نتاج العصبة الأندلسية وقد قال فيه آخر إنه من طراز الجاهلية.

لا هذا ولا ذاك، بل هو شعر جمع إلى فخامة الديباجة دنيا من الألوان والصور والرقة والفتنة، فليس فيه ميعه الشعر الأندلسي ولا خشونة الشعر الجاهلي.

أقول مجاهراً في هذا المعهد العلمي الذي يحترم حرية الرأي: إن أديب المهجر مغموط حقه، وإن أديب الأندلس الجديدة مبخوس فضله. ولكن إن لم تقدر الأقوام العربية اليوم شأنه فسوف يقدرونه غداً بعد أن تفقد الأندلس الثانية ويقيمون له ضريحاً رمزياً يحمل هذه الكلمات:(هنا يرقد الأديب العربي المجهول).

حبيب مسعود

رئيس تحرير مجلة العصبة الأندلسية

ص: 14

‌ركن المعتزلة:

فكرة الله عند المعتزلة

للدكتور ألبير نصري نادر

نزل القرآن الكريم يتحدث عن الله تعالى خالقاً للكون مدبراً له. والتوراة والإنجيل يتحدثان عن الله وعن صفاته. والكون بأثره وما فيه من نظام يدل على وجود كائن أول متعال، والمعتزلة لا تشك أبداً في وجوده تعالى ولكن جل همها كان البحث في ماهيته وعلاقته بهذا العالم المخلوق.

نفي صفات الله:

تفخر المعتزلة بأنهم أهل التوحيد. ولكن كل مؤمن موحد أيضاً - ولما كان التوحيد اعترافاً بوجود إله واحد نجد المعتزلة على حذر كبير في التحدث عن صفاته تعالى خوفاً من أن يؤدي الكلام في هذا الموضوع إلى شرك يقضي على كل توحيد. لذلك نفت الصفات عن الله.

والأصل الأول الذي كان يقول به واصل بن عطاء رأس المعتزلة (المتوفى سنة 131هـ) هو نفي صفات الباري تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة. لأن واصل أراد أن يرد فكرة الأقاليم عند النصارى، وكان يرى فيها ثلاثة آلهة، إذ أن الثلاثة قديمة. فخشي أن تؤدي فكرة الصفات حتى الأزلية إلى شرك عند المسلمين؛ لذلك جنح إلى التنزيه البحت وبه نفى أن يكون لله تعالى صفات غير ذاته.

كانت هذه المقالة في بدئها غير نضيجة. وكان واصل بن عطاء يشرع فيها على قول ظاهر وهو الإنفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين، لأنه من أثبت معنى وصفه قديمة فقد أثبت إلهين.

ثم شرع أصحاب واصل في هذه المقالة بعد مطالعة كتب الفلاسفة وانتهى نظرهم فيها إلى رد جميع الصفات إلى كونه عالماً قادراً ثم الحكم بأنها صفتان ذاتيتان هما اعتباران للذات القديمة

وللمعتزلة حجة قوية في نفي الصفات وردها إلى اعتبارات ذهنية للذات.

ص: 15

حجتهم:

يقول المعتزلة: لو قامت الحوادث بذات الباري لا تصف بها بعد أن لم يتصف؛ ولو اتصف لتغير، والتغير دليل الحدوث إذ لابد من مغير. فإذا ما تكلمنا عن علم الله مثلاً لا يجوز أن نعتبر العلم صفة قائمة بذاته تعالى؛ لأنه إما أن تكون هذه الصفة أزلية كالذات، وإما أن تكون حادثة. فإذا كانت أزلية فكيف يمكنها أن تحل في الذات؟ وإذا حلت فيها كان هناك أزليان. . . وإذا كانت حادثة وحلت في الذات فكانت الذات قد تغيرت من حال (حال عدم العلم) إلى حال (حال العلم) والتغير دليل حدوث؟ فتكون الذات حادثة في صفاتها. وهذا ما لا يتفق وكماله تعالى.

تعريف المعتزلة لله:

نجد في كتاب (مقالات الإسلاميين) للأشعري تعريفاً كاملاً شاملاً لله رأي المعتزلة. فيقول: (أجمعت المعتزلة على أن الله واحد)(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير).

وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض. وليس بذي إيعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن.

ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحات، ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار، ولا تدركه الحواس، ولا يقاس بالناس، ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له.

لم يزل أولاً سابقاً متقدماً للمحدثات، موجوداً قبل المخلوقات، ولم يزل عالماً قادراً حياً، ولا يزال كذلك، ولا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع.

شيء لا كالأشياء. عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء، وأنه القديم وحده ولا قديم

ص: 16

غيره ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. لم يخلق الخلق على مثال سبق، وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا بأصعب عليه منه. لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار ولا يناله السرور واللذات ولا يصل إليه الأذى والآلام. ليس بذي غاية يتناهى ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص. تقدس عن ملامسة النساء، وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء.

فها نحن بصدد تعريف جله نفي كل صفة عن الله؛ ونتيجة لهذا التعريف لا يمكننا أن نكوِّن عن الله فكرة حقيقية وواقعية أي موضوعية، ولا يمكننا أن ندرك فكرة اللا ألوهية حتى ولا بالمشابهة مع المخلوقات، لأن فكرة اللا ألوهية متعالية عن كل مخلوق مجردة عن كل صفة يتصف بها المخلوق - وهذا ما جعل المعتزلة تقول بأن الخلق لا يستمد ماهيته من الله، لأنه لو كان الأمر كذلك لوجد تشابه في الماهية بين الله والخلق؛ ولكن ماهية الخلق لا تشارك البتة ماهية الله التي نجهلها تمام الجهل - وتنتهي المعتزلة إلى القول بأن الله لا يمنح سوى الوجود للخلق، وكل ما عدا الوجود فلا يوجد أي تشابه بينه وبين الله.

أن هذه النقطة في غاية الأهمية لما يترتب عليها من أقوال ونظريات تتعلق بمسألة خلق العالم وماهيته.

تحليل هذا التعريف:

إذا نظرنا إلى هذا التعريف نظرة تحليلية وجدنا أنه رد على اعتقادات مختلفة إسلامية كانت أو مسيحية أو مجوسية؛ كما أنه رد أيضاً على نظريات لسفيه كانت منتشرة في عصر المعتزلة أي في القرنين الثاني والثالث للهجرة.

كانت الرافضة تقول وهي معتقدة أن ربها جسم ذو هيئة وصورة يتحرك ويسكن ويزول وينتقل؛ وأنه كان غير عالم ثم علم، وأنه يريد الشيء ثم يبدو له فيريد غيره.

ومن وجهة أخرى تقول المشبهة بأن الباري تعالى يشبه الخلق في شعوره وإحساسه وتفكيره وإرادته حتى أن بعضهم قال بأن له أعضاء كأعضائنا تماماً محتجين ببعض آيات مثل (يد الله فوق أيديهم). (وقالتِ اليهود يدُ الله مغلولة). (وَيبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام)(الرحمن على العرش استوى) والمشبهة تأخذ بهذه الآيات حرفياً بدون أي تأويل.

ص: 17

لذلك نفت المعتزلة الجسمية عن الله كما نفت كل ما يتعلق بالجسم من حركة وسكون وصورة ولون الخ. . . كما هو واضح في الجزء الأول من التعريف. وكذلك نفت عنه تعالى كل ما يتعلق بالنفس الإنسانية من شعور ومعرفة (بمعنى المرور من درجة إلى درجة أسمى في المعرفة) وإرادة (بمعنى الاختيار)، وقالت إنه تعالى (لا يقال بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه) ولا نعلم شيئاً عن ماهيته سوى أنه الواحد، فتكون المعتزلة لا أدرية.

وبينما يقول النصارى بثلاثة أقاليم في الله نجد المعتزلة يرفضون كل فكرة عن الأسرار ويعلنون بأن الله (لا والد ولا مولود ولا شريك له في ملكه).

ونجد أخيراً في هذا التعريف رداً على المثل الأفلاطونية التي كما يقول أفلاطون قد أنشأ الله الخلق على صورتها. ولكن المعتزلة ترى في هذه مثل الأزلية شرك لله وتقول أن لا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق. ولم يخلق الخلق على مثال سبق).

ما يترتب على هذا التعريف:

تقول المعتزلة بأن الله واحد ومتميز تمام التميز عن الخلق، هو الأصل الوحيد الذي بمقتضاه يفرقون بين ما هو حق وما هو باطل في التوحيد؛ ويعتبرون أنفسهم بأنهم هم فقط (أهل التوحيد). وعلى هذه الفكرة بنى المعتزلة مسألة الخلق وهي مسألة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمبدأ نفي كل مشابهة بين ماهية الله وماهية العالم المخلوق. وبما أن هاتين الماهيتين مختلفتان ومتباينتان تماماً في عرف المعتزلة قالوا إن الماهية المحدثة المخلوقة ليست حاصلة من الماهية القديمة؛ لذلك قالوا بالعدم واعتبروه شيئاً وذاتاً وعيناً وحقيقة يمنحه الله الوجود ليصير كائناً

مصدر هذه الفكرة:

إنا نجد في القرآن الكريم هذه الآية (ليس كمثله شيء) وكذلك (لا تدركه الأبصار) ولكن كم أيضاً من الآيات التي تتحدث عن أعضاء الله وعن الشبه بينه تعالى وبين الإنسان؟

هل تكفي آية أو آيتان حتى تبنى عليهما المعتزلة هذا التعريف المنفي لله ويصبح تعالى كائناً متميزاً تمام التمييز عن خلقه؟ لاشك في أن المعتزلة استرشدت أيضاً بمصادر أخرى.

ص: 18

كان واصل بن عطاء متصلاً بالنصارى. ولكنه رأى في سر الثالوث الأقدس (وهو سر إله واحد في ثلاثة أقاليم) شركا لله؛ فأحذ يرده بقوة حتى يصل إلى فكرة عن إله واحد في غاية البساطة ومميز تماماً عن خلقه. وابتداء من أبي الهذيل العلاف أخذت المعتزلة تطالع كتب الفلاسفة اليونانيين التي ترجمت إلى السريانية والعربية في ذلك العهد. فكانت محاورة تيماوس لأفلاطون قد ترجمت إلى العربية والله في عرف أفلاطون لا يكوِّن العالم على صورته بل على صورة المثل الأزلية. فساعدت هذه الفكرة المعتزلة على القول بأن العالم المخلوق لا يشبه الله الخالق أعني (في لغة المعتزلة) المانح الوجود لماهيات مختلفة ومميزة عنه؛ كما أنهم نفوا أن الله يخلق الخلق على مثال سبق.

ومن جهة أخرى يقول أرسطو إن الله ليس بالعلة الفاعلية للعالم وإنما العالم يجتهد بأن يحيى بقدر المستطاع حياة مماثلة لحياة الله، ولكنه لا يستطيع ذلك لسبب مادته، فيقلد الحياة الإلهية بحركة مستمرة وأزلية وهي الحركة الدائرية (أنظر أرسطو كتاب الطبيعة ص265 ب1) التي هي العلة الغائية للعالم - فإذا لا توجد أي مشابهة بين الله والعالم، والله على رأي أرسطو لم يبدع ماهية العالم ولا وجوده؛ إنما المعتزلة مع نفيها كل مشابهة بين الله والخلق تقول إن الله منح الوجود فقط للعدم حتى صار كائناً.

وعندما أغلقت مدارس أثينا الفلسفية لجأ سمبلقيوس الفيلسوف إلى كسرى ملك الفرس وصديق الفلاسفة. وترك سمبلقيوس عدة شروح لنظريات أرسطو وكان أغلب المعتزلة على صلة بالفرس حتى إن بعضهم كان من أصل فارسي مثل أبو علي الأسواري.

فهذه الترجمات العربية لكتب الفلاسفة اليونانيين التي قام بها السريانيون من جهة، والترجمات التي قام بها الفرس من جهة أخرى، ساعدت المعتزلة على مطالعة الفكر اليوناني وقدمت لهم ما يلزمهم من براهين للدفاع عن التوحيد كما فهموه.

لكن هذا لا يعني أن المعتزلة وجدت الأفكار التي تدافع عنها وقامت بها جاهزة كاملة - أن فضلهم لكبير، لأنهم اقتبسوا من الفكر اليوناني ما رأوه مناسباً للرد على المشبهة ودفع كل شرك مفاخرين بأنهم (حماة التوحيد).

نفي المعتزلة لصفات الله تعالى لا يمنعهم من البحث في بعض الصفات على زعم أنها اعتبارات ذهنية فقط وليست حقائق تتصف بها الذات الإلهية.

ص: 19

وهذا ما سنتطرق إليه في مقالنا القادم إن شاء الله.

ألبير نصري نادر

دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 20

‌من ظرفاء العصر العباسي:

أبو دلامة

توفي سنة 161 هـ

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

(تتمة)

لا ريب أن شذوذ هذا الرجل قد بلغ أشده، فعلى الرغم من كثرة ما كان يصل إلى يده من المال من الخلفاء والأمراء والأغنياء كنت لا ترى عليه إلا سيماء الفقر، إذ لا يعنى بملبسه، ولا يكترث بمظهره، بل ربما بدا أمام الناس بثياب لا تليق إلا بالمتسولين: وقد رأى عليه أبو عبد الله العقيلي مرة فروة في الصيف، فقال له: ألا تمل هذه الفروة! قال: بلى، ورب مملول لا يستطاع فراقه. فنزع العقيلي فاضل ثيابه في موضعه فدفعها إليه.

وما كان ليعجز عن فراق فروته في الصيف على رغم ملله منها وضجره مما تحمله من الحرارة لولا أنه كان يعيش عيشة المحتاجين، وإن أعطى عطاء المترفين. لكنك عرفت أنه كان ينفق أكثر ما يأتيه من المال في شرب الخمر وإتيان الحرمات، فلا غرابة إذا بدا أمام الناس بهذا المظهر الخشن البغيض!

ومع أن رداءة المظهر تصم صاحبها بالازدراء في أعين الناس - فإن لسان أبي دلامة كان من الطول والسلاطة بحيث يمنع الأذكياء من الاستخفاف بشأنه، بل يدعوهم إلى الحذر منه والخوف من طعنه في أعراضهم:

أدلى أبو دلامة بشهادة لجارة له عند أبي ليلى على أتان نازعها فيها رجل. فلما فرغ من الشهادة قال اسمع ما قلت فيك قبل أن آتيك ثم أفض ما شئت. قال: هات؛ فأنشده:

إذا الناسْ فطوبى تغطيت عنهم

وإن بحثوا عني ففيهم مباحث

وإن حفروا بثرى حفرت بئارهم

ليعلم يوماً كيف تلك النبائث

ثم أقبل ابن أبي ليلى على المرأة فقال: أتبيعينني الأتان؟ قالت: نعم. قال: بكم؟ قالت: بمائة درهم. قال: ادفعوا إليها ففعلوا. وأقبل على الرجل فقال: وهبتها لك. وقال لأبي دلامة: قد أمضيت شهادتك ولم أبحث عنك وابتعت ممن شهدت له، ووهبت ملكي لمن رأيت.

ص: 21

أرضيت؟ قال: نعم. وانصرف

وهكذا أمضى القاضي شهادته ولم يبحث عنه ولم يطلب تزكيته خوفاً من لسانه الفضاح الذي استبان بعض شره في بيتين من الشعر. وقد ترى - من هذا - أن أبا دلامة كان جريئاً لا يخاف أحداً. والحق أن هناك فرقاً عظيماً بين جرأة اللسان وثبات الجنان، فقد كان هذا الظريف جباناً من الطراز الأول يكاد يخاف من ظله ولو خاف جميع الناس لسانه.

أهدى للمهدي فيل، فرآه أبو دلامة فولى هارباً وقال:

يا قوم إني رأيت الفيل بعدكم

لا بارك الله لي في رؤية الفيل

أبصرت قصراً له عين بقلبها

فكدت أرمي بسحلي في سراويلي

ورجل يخاف من رؤية الفيل - وهو الحيوان الأليف الذي لا يجزع من ركوبه الأطفال - جبان ما في ذلك ريب. وهو - لجبنه - كان يفر من مبارزة الرجال فراره من الأسود!

كان أبو دلامة مع أبي مسلم في بعض حروب مع بني أمية. فدعا رجل إلى البراز، فقال له أبو مسلم: أبرز إليه. فأنشأ يقول:

ألا لا تلمني إن فررت فإنني

أخاف على فخارتي إن تحطما

فلو أنني في السوق أبتاع مثلها

وجدك ما باليت أن أتقدما

فضحك أبو مسلم وأعفاه.

ولقد حدث أبو دلامة عن نفسه - وفي حديثه إثبات لجبنه - قال: أتى بي المنصور أو المهدي وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك اليوم أثراً ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن ذلك إليك، ولآخذنك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلى، ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائذ بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال: هات، فأنشدته:

إني استجرتك أن أقدم في الوغى

لتطاعن وتنازل وضراب

فهب السيوف رأيتها مشهورة

فتركتها ومضيت في الهراب

ماذا تقول لما يجئ وما يرى

من واردات الموت في النشاب

ص: 22

فقال: دع عنك هذا وستعلم. وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة، فقال: أخرج إليه يا أبا دلامة. فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي. قال: والله لتخرجن. فقلت: أيها الأمير فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج. فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف. فلما رآني الشاري أقبل نحوي عليه فرو وقد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان، فأسرع إلي. فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت، فوقف. فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟ قال: لا. قلت: أتقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ قال: لا، فاذهب عني إلى لعنة الله: قلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كانت بيننا قط عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً؟ قال: لا والله. قلت: ولا أنا، والله لا أحفظ لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك وأريد السوء لمن أراده لك. قال: يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: إن معي زاداً أحب أن آكله معك وأحب مؤاكلتك لتتوكد المودة بيننا، ويرى أهل العسكر هو انهم علينا. قال: فافعل. فتقدمت إليه حتى اختلف أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني. ثم قلت له: إن هذا الجاهل أن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب؛ فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل. قال: قد فعلت. ثم انصرف وانصرفت. فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك، فأمسك. وخرج آخر يدعو إلى البراز، فقال لي: اخرج إليه، فقلت:

إني أعوذُ بروْح أنْ يُقدمني

إلى البراز فتخزى بي بنو أَسَدٍ

إن البراز إلى الأقران أعلمه

مما يفرِّق بين الروح والجسدِ

قد حالفتك المنايا إذ صمدت لها

وأصبحت لجميع الخلق بالرَّصَد

إن المهلب حبَّ الموت أورثكم

وما ورثت اختيار الموت عن أحد

لو أن لي مهجة أخرى لجدت بها

لكنها خُلقت فرداً فلم أجُدِ

فضحك وأعفاني

فأبو دلامة يعترف هنا بجبنه، بل يصفه فيبدع في وصفه! وكأني به لا يجد فيه غضاضة،

ص: 23

أو يريد بذكر قصته ما يريده أمثاله من الظرفاء من إضحاك الناس ولو اتهموا أنفسهم بما لا يرضاه مخلوق لنفسه. والجبن خلق قديم في طبع أبي دلامة، فهو حتى في أيام شبابه - والشباب زمن التهور والحماسة - كان لا يخجل من الفرار من الأقران. وإليك اعترافه بذلك في هذه القصة:

كنت في عسكر مروان أيام زحف إلى سِنانٍ الخارجي. فلما التقى الزحفان خرج منهم رجل فنادى: من يبارز! فلم يخرج إليه أحد إلا أعجله ولم يُنهنهْه فغاظ ذلك مروان وجعل يندب الناس على خمسمائة، فقُتِل أصحاب الخمسمائة، فزاد مروان وندبهم على ألف، ولم يزل يزيدهم حتى بلغ خمسة آلاف درهم. وكان تحتي فرس لا أخاف خونه؛ فلما سمعت بالخمسة آلاف ترقبته واقتحمت الصف. فلما نظرني الخارجي علم أني خرجت للطمع، فأقبل إلي متهيئاً وإذا عليه فرو قد أصابه المطر فابتل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وإذا عيناه تقدان كأنها من غورهما في وقبين. فلماذا مني أنشأ يقول:

وخارجٍ أخرجه حبُّ الطمهْ

فرَّ من الموتِ وفي الموت وقع

من كان ينوي أهله فلا رجَعْ

فلما وقرت في أذني انصرفت عنه هارباً. وجعل مروان يقول: من هذا الفاضح؟ ائتوني به، فدخلت في غمار الناس فنجوت.

فهذه القصة التي يرويها أبو دلامة عن نفسه كانت في أيام شبابه لأنه لم يجاوز عهد الشباب حتى أواخر الخلافة الأموية، ففيها دليل أقوى على جبنه وخوفه. وقد تشم فيها رائحة الوضع لأنَّ فيها صِيَغاً وأوصافاً تقارب ما في القصة السابقة مع روْح المهلبي، حين صور الخارجي المبارز بأن (عليه فرواً قد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فاقفعل، وعيناه تقدان. . .) الخ. ويمكننا القول بأن الحادثة قد تعددت على هذه الصورة مصادفة، أو أن أبا دلامة أعجبته هذه الأوصاف التي صوَّر بها مبارزه في المرة الأولى فأعادها في وصف مبارزه الثاني ليبرر موقفه في هربه أو فزعه من هذا المنظر الذي يملأ قلوب الجبناء رعباً.

ونحن - على كل حال - لا نريد أن نعفي كثيراً من أخبار أبي دلامة من ضعف الرواية، فقد لاحظنا بعض التضارب في قصصه، إذ رأينا مثلاً أن الخيزران هي التي وعدته جارية

ص: 24

فاستنجزها بشعر، مع أننا نجد في الأغاني (ص268 جـ10) أن ريطة هي التي وعدته، ورأينا أن أبا دلامة طلب من السفاح كلب صيد ثم تدرج في الطلب إلى أشياء كثيرة، مع أننا نجد الجاحظ يروي القصة على أنها في زمن المنصور لا السفاح، ورأينا أبا دلامة يداعب السفاح فيقطعه خمسمائة ألف جريب غامرة على حين أننا نجده في موضع آخر قد أقطع أمثالها مازحاً للمنصور - وانتحلنا هناك لمنع التضارب علة لعلها غير مقبولة - لكن هذا كله لا يمنعنا من قبول أخبار أبي دلامة - على ما فيها من ضعف في الرواية - لأننا نجزم بأن مثل هذا الظريف لا بد من الزيادة في نوادره، والمبالغة في دعاباته. ومن المعروف أن الرجل إذا اشتهر بالظرف نسب إليه الناس كثيراً مما يستظرفون عمداً أو عفواً؛ بل إن الظرفاء أنفسهم كثيراً ما يجدون رغبة في اختلاق الروايات المعجبة وابتكار الأخبار المدهشة التي تدل على خيال خصيب، وذكاء عجيب، وتدل في الوقت نفسه على ميل إلى إرضاء المسامحين والظفر بإعجابهم. . .

ومن هنا لن نعجب إذا وجدنا في ترجمة أبي دلامة في كتاب (شذرات الذهب): (إنه مطعون فيه، وليست له رواية) ولن نعجب إذا قال مثل ذلك الحافظ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد والحافظ ابن حجر التعسقلاني في (لسان الميزان).

وهكذا شابه أبو دلامة أبا العيناء الذي سبق أن كتبنا عنه في الرسالة في الطعن في روايته وعدم الثقة بأخباره. والفرق بين الظريفين من هذه الناحية أن أبا العيناء كان أحياناً ما يروي السنة فكان ضرورياً أن يطيل الحافظ في بيان ضعفه تحذيراً منه بينما اكتفى أَبو دلامة برواية أخباره ووصف نوادره التي تضحك الثكلى.

هذا هو الفرق بينهما من ناحية الرواية، وأما من حيث الشخصية فإننا نرى أن قد كان لأبي العيناء نوع من الفلسفة الخاصة في هذه الحياة، فقد كان معتزاً بنفسه إلى أبعد الحدود، يرى أن الله قد عوضه عن عماه لساناً سليطاً وشعراً متيناً وذكاءاً نادراً، بينما نرى أن أبا دلامة كان يعيش على هامش الحياة عيشة لاهية، فكثيراً ما كان يحقر نفسه ويذل كرامته ليضحك سواه رغباً في عرض أدنى يناله. ثم إن أبا العيناء كان ينتقد مجمعه ويتهكم بأهل زمنه تهكماً يدل على أن الألم كان يعصر قلبه على حين كان أبو دلامة لا ينتقد عيباً ولا يكاد يتألم من شيء، وإنما كان يعيش عيشة فردية همه فيها إرضاء شهواته، وبلوغ مآربه.

ص: 25

ولا شك أن رقة الدين ورداءة المذهب وارتكاب المحارم وتضييع الفروض والمجاهرة بالاثم - من الأوصاف التي توشك أن تجعل من الظريفين شخصاً واحداً لشدة التشابه بينهما فيها. ولا ينتظر الناس من ظريف يضحكهم أن يكون ملاكاً أو قديساً، فإذا كان بعض القدامى قد صرح بأن (أعذب الشعر أكذبه) فإن كثيراً من المحدثين لا يعجزهم أن يزيدوا على ذلك (وأعذب الدعابة أكثرها فضحاً من المستور، وكشفاً للمحجوب).

والطريف في أبي دلامة - وما رأيت فيه إلا طريفاً - أنه عاش حياته كلها ضاحك السن لا يتألم ولا يبكي، ثم مات سنة إحدى وستين ومائة وهو ما زال ضاحكاً لا يتألم ولا يبكي!

فهل كتب الظريف عهداً على نفسه ليضحكن مدى الحياة؟

لعله فعل. . . فما أكثر شذوذ الظرفاء!

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 26

‌أساليب التفكير:

فلسفة الشعب

للأستاذ عبد المنعم المليجي

- 2 -

يقول حكيم الشعب: (اعمل خيراً وارمه في البحر). فماذا يملي عليه هذا القول؟ إنه يرى فناء كل حي، وزوال كل نعمة، وضياع كل مجد؛ ويرى إلى ذلك أن ذكرى العمل الصالح تبقى حية في الأذهان والقلوب والضمائر، وأن لفعل الخير حلاوة تجعل منه غاية جديرة بأن تُطلب لذاتها وكفيلة وحدها أن تحقق السعادة في نظره ليست في جاه نبلغه، أو صيت نذيعه، أو مال نصيبه، إنما هو في راحة الضمير وهدوء النفس، ولا سبيل إلى ذلك بغير سلامة النية وصفاء الطوية وهما لا يتفقان مع طلب الخير لغير الخير. اعمل خيراً وألق به في البحر، وترقب السعادة بعد ذلك تأتك طوعاً من حيث لا تدري ولا تحتسب.

أيختلف هذا الاتجاه المثالي في شيء عن اتجاه الشاعر الفيلسوف (جوته) في قصة (فاوست)؟. لقد جاهد فاوست جهاداً طويلاً مريراً دون أن يظفر بشيء، ولكن حياته لم تضع هدراً إذ رفعه المؤلف إلى جنات ربه، وما ذلك إلا لأنه قد أحس بالحق والخير والجمال فجاهد في سبيلها وكان في جهاده هذا خلاصه. نعم إن معنى تلك الحياة والأثر الذي خلفته خطى فاوست على صفحات الزمن هو أنه علينا أن ندأب ما استطعنا في سبيل المثل العليا، وسيان بعد ذلك أأصبنا نجاحاً أم إخفاقاً، فالجهاد نبل في ذاته). ذلك هو الاتجاه الفلسفي الذي تنطوي عليه قصة فاوست وهو نفسه الاتجاه الذي تنطوي عليه عبارة حكيم الشعب (اعمل خيراً وألق به في البحر). أي هدوء تحس به النفوس الخيرة إذ تتمثل هذا الدرس فتغالب بقوته السحرية تيار الجشع والاستهتار. حقاً إن الفلسفة الشعبية الساذجة لتساهم مع الفن والدين في التخفيف من أعباء الحياة.

وبعد، أليس ما ذهب إليه الشعب في حكمته أو (جوته) في قصته، من اعتبار الخير غاية تُقصد لذاتها، هو في جوهره عين ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني العظيم (عمانوئيل كنط) في مذهبه الأخلاقي الذي يرى أن الخير الأسمى الذي يتعين علينا أن نخضع له هو

ص: 27

(الواجب) المجرد الذي يمليه علينا (أمر مطلق) يصدر من تلك القوة الذاتية الخفيفة التي ندعوها (الضمير)، تلك القوة التي تعتبر صورة الله في نفوسنا، فالله في الأبدية والضمير في أعماق النفس البشرية؟ إن السعادة في نظر كنط إنما هي في الخضوع للأمر المطلق الصادر من الضمير، والعمل للواجب لذاته وأمر يتفق تماماً مع ما ذهب إليه كل من جوته والحكيم الشعبي. . .

ويعرض أرسطو لنفس المسألة فيحصر الخيرات في ثلاثة: إما اللذة، وإما المجد، وإما الحكمة. ويُعمل عقله أيها يختار على اعتبار أنه الخير الأسمة؟ فيرى اللذة شعوراً نفسياً يصاحب فعلاً من الأفعال أو وظيفة من الوظائف، وعليه فلا يمكن أن تكون غاية في ذاتها؛ وإنما هي عرض يزول بانتهاء الفعل أو الوظيفة، ويرى المجد لمال نصيبه، أو شهوة تنالها، أو تكريم نحصل عليه، فليس المجد هو الغاية القصوى، إنما الغاية المال أو الشهرة أو التكريم. وهكذا تنتهي فلسفة أرسطو الأخلاقية إلى اعتبار الحكمة هي الخير الأسمى الذي ينبغي أن نطلبه ونعمل وفقاً له، وما الحكمة إلا تغلب قوى العقل على قوى الحس، وتفضيل السعادة الدائمة على اللذات المؤقتة، ونشدان الاتزان النفسي وراحة الضمير - وهل لأحدهما أو كليهما أن يتحقق ما لم (نفعل الخير ونلقه في البحر) كما يفعل الحكيم الشعبي، وما لم (ندأب ما استطعنا في سبيل المثل العليا) كما فعل (فاوست)، وما لم نصغ لصوت الضمير الكامن في أعماق نفوسنا شأن (عمانوئيل كنط)؟!

فن السعادة:

حلا للأستاذ الزيات أن يسأل قروية ساذجة: (كيف ترضى بالحياة وهي فقيرة، وتبسم للدنيا وهي منهوكة)؟ فأجابت: (الماء في الكوز والعيش مخبوز). ثم مضى أستاذنا يحاورها حتى ينتزع من فمها درساً غالياً في فن السعادة. قالت أم عامر:

(نشأتُ كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية؛ آكل العشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله. والذي أحلى المر في فمي، وجمَّل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي: صحي كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة، ولم تحتج يوماً إلى دواء؛ ومرانة على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء، ولا

ص: 28

بين صيف وشتاء؛ ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء. . .).

لقد استطاعت صاحبتنا بجهد ذاتي أن تنتصر على أقسى ظروف الحياة وتنعم بالرضا والهدوء، ذلك أنها (مرنت على عنف الطبيعة، وقنعت بميسور العيش، وخضعت لمكتوب القضاء.) هي إذن ببصيرة نافذة وبملكة الحكم السليم ترى السعادة أمراً شخصياً وليس رهناً بالظروف الخارجية، هي شأن من شئون الذات بمقدور كل إنسان أن يحققها على رغم قسوة الظروف الخارجية.

تلك فلسفة نستشفها من ثنايا العبارات الصادقة على سذاجتها يفوه بها نفر من البسطاء وهي لا تفترق في جوهرها عن فلسفة الرواقيين التي سادت الفكر اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد وسيطرت على العقلية الرومانية بعد ذلك، وكان لها أثر فعال في الفلسفة المسيحية، وتقترب هذه الفلسفة من الفلسفة البوذية. عرض لجميع هؤلاء سؤال واحد:(كيف السبيل إلى السعادة رغم قساوة الظروف الخارجية، وهل يمكن بلوغها مع ذلك؟) واتفق الجميع على إمكان الوصول إلى السعادة رغم قساوة الظروف ورسموا طريقاً واحدة، وجاء تعريفهم للسعادة واحداً في معناه رغم اختلاف الألفاظ. فقال أم عامر: هي (مرانة على عنف الطبيعة ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء.) وقال الرواقي: هي أن تمتلك نفسك امتلاكاً حراً، وتتحرر النفس من قيود الظروف الخارجية، وتخضع إرادتك الجزئية لإرادة الكون الكلية، تلك الإرادة الكلية الخيرة المنبثة في أرجاء الكون جميعاً.) وقال البوذي: (هي أن تعرف كل شيء، وتفهم كل شيء. تنطلق من عبء الحدث وعبء الوجود، لا تشعر بأية حاجة، تسافر منفرداً لا يعنيك اللوم ولا المديح، تقود الغير ولا يقودك أحد.

دعوة مخلصة:

قد يعجب البعض كيف أقارن بين الحكمة الشعبية وبين المذاهب الفلسفية الكبرى، وقد يرى بعض المهتمين بالدراسات الفلسفية من القحة والتهجم على قدسية الفلسفة أن أحاول التقريب في مجال الأخلاق بين الحكمة الشعبية وبين المذاهب الفلسفية الكبرى. فلهؤلاء أؤكد أن بذور التفكير الفلسفي مغروسة في جميع العقول تقضي عليها لدى البعض ظروف معينة، وتنميها لدى آخرين ظروف مواتية. ليست الفلسفة ركاماً من المعارف المختزنة،

ص: 29

إنما هي اتجاه فكري، إحساس بمشكلة تعترض الذهن وتأملها تأملاً حراً بغية الاهتداء إلى سرها عن طريق العقل والمنطق. وإذا فهمت الفلسفة على هذا النحو قرَّ في نفوسنا أن الواجب يقضي علينا أن نتعمق حياة العامة ونغوص على حكمهم السائرة، ونجيل البصر في كتب الشعراء والأدباء، لتبرز بدايات التفكير الفلسفي. ويقضي علينا أيضاً أن نكشف عن بساطة المذاهب الفلسفية وكيف أنها تنبغ على نحو طبيعي من نفس المنابع التي تنبع منها الحكم الشعبية مع فرق في درجة الإتقان والتوفيق. حينئذ يتحقق الوئام بين الحكمة الشعبية والفلسفة المذهبية برفعنا من مقام الأولى وردنا الحياة إلى الثانية، وتندمج عقول العامة وعقول العباقرة في وحدة فكرية نبيلة لا تنفصم عراها.

تلك رسالتي أدعو إليها بكل ما أوتيت من قوة، وأجهد في سبيلها حتى تتلاشى الحواجز الصناعية التي يقيمها نفر من المثقفين. وأؤكد لهؤلاء أن أعقد المذاهب الفلسفية لا يفهم بفهم الألفاظ التي تنقله إلينا، ولكن تفهم المذهب عندما تلمس المشكلة التي اعترضت ذهن صاحبه وتتمثل الكفاح الفكري الذي قام به حتى توصَّل إلى حل المشكلة وتفسيرها بمذهبه، أي عندما تعيش اللحظات الفكرية التي عاشها حينئذ تكتشف أن المشكلة ذاتها قد تعترض أي ذهن، حتى ليمكننا في أحوال كثيرة أن نوفق في رد بعض المذاهب الكبرى إلى أصول في الحكمة الشعبية. إن الفلسفة حركة فكرية طبيعية قبل أن تكون معرضاً لفظياً لمصطلحات مبتسرة، وهي بهذا المعنى بسيطة كما رآها ديكارت وغير واحد من فلاسفة الفرنسيين.

وفيما أنا مشغول بالتفكير في هذه المحاولة، أقرأ رسالة صغيرة أهداها إلينا أستاذنا الدكتور عثمان أمين يحلل فيها خصائص العقلية الفرنسية، إذا بي أجد ما يؤيد محاولتي. وكم كان سروري عظيماً عندما بلغت قوله:(ليست عبقرية الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين إلا كمال ذلك المعنى الذي نجده متحلياً عند فلاحي فرنسا ملموساً في أعمالهم اليومية.) وعندما ردد مع (برجسون)(ليس هنالك فكرة فلسفية مهما يكن حظها من العمق والدقة إلا ويستطاع - بل يحسن - التعبير عنها بلغة الناس المتداولة البسيطة.) ومع (بوالو):

(إن ما أجد تصوره استطعنا أن نعبر عنه تعبيراً واضحاً، وجاءتنا الألفاظ عنه طائعة مختارة.) وعندما علق على قولي برجسون وبوالو بعبارة ساخرة تحفزني إلى المضي في

ص: 30

طريقي وتعتبر خير سند لفكرة التقريب بين عقول الفلاسفة وعقول المستنيرين من البشر: (ليست كل المياه الملوثة بالطين مياهاً عميقة، ولا كل المياه الصافية مياهاً سطحية).

لست إذن أدعو إلى المستحيل، ولا أنا أطلب بدعاً، فالفلاسفة الفرنسيون أنفسهم مهدوا السبيل أمامنا فلم يشحنوا مؤلفاتهم بتلك المصطلحات الفنية التي تعتبر ستاراً صفيقاً يحول بين الكثيرين وبين فهمها، بل عرضوا أفكارهم في بساطة ووضوح، ولم يعمدوا إلى غموض هو كما قال برجسون:(في منزلة القناع يلقيه المؤلف على فكر لم يوفق بعد إلى أن يستبين ذاته تمام الاستبانة.) وتوجهوا بفلسفتهم إلى الجمهور كله بل إلى الإنسانية جمعاء؛ ذلك أن الفلسفة في رأيهم حق للبشر جميعاً، وليست امتيازاً لطبقة على أخرى. وعليَّ بيان ذلك في العدد القادم إن شاء الله.

(الإسكندرية)

عبد المنعم المليجي

ص: 31

‌دخان ولهب

للأستاذ إبراهيم الوائلي

لا تخلها - وهي تذكو شعلاً -

بنت كرم إنها كانت ضراما

كلما أفرغتها في كبدي

غادرتها بين أضلاعي حطاماً

قد عصرت الروح في الكأس ومن

قلبي المشبوب ذوبت الحبيب

وحسبت اللحن في صدري أسى

فإذا اللحن دخان ولهب

وتراميت على وقد الجوى

مثلما يلقى على النار الحطب

أتراني - ولقد ودعت أمسي

ودفنت اللحن في ظلمة يأسي -

أبعث الأنغام أو تعذب كأسي؟

لا وعينيك فما خمري سوى

قطرات لم تكن إلا ضراما

وفنائي لم يكن إلا صدى

لرنين صيَّر القلب حطاما

يا حبيبي إنَّ لحناً مرَّ في

شفتي بالأمس قد عاد خيالا

وربيعاً كان مفتان الرؤى

لا أرى منه على السفح ظلالا

وغديراً كم بثثناه الهوى

كفنته الريح شوكاً ورمالا

أتراني - ولقد بات نشيدي

همسة ترقد في الماضي البعيد

أحتسي الخمرَ على رنة عُودي

لا وعينيك فما لحني سِوى

قطع ينفثها الصَّدر ضراما

وشعاع الكأس ما كان سوى

لهب قد صيَّر القلبَ حطاما

إيه يا أيامي اللائي مضتْ

وتلاشتْ في زَوايا الأبد

هل يعود اللحن مونان الصدى

وتمسُّ القدح العذب يدي؟

كلما قلتُ: ستخبو جذوة

أيقظتها أختها في كبدي

آه ما كأسي، ما عُودي وفَنِّي

غير أحلام توارتْ خلف دجنْ

ص: 32

يا حبيبي لا تسَلْني أينَ لحني؟

إنَّ أنغامي في ليْلِ الأسى

لم تكنْ إلا دُخاناً وضراما

وبقايا الكأس ما كانت سوى

حرق صيَّرت القلبَ حطاما

إبراهيم الوائلي

ص: 33

‌غب النوى.

. .

للآنسة الفاضلة (المطوقة)

مضيتَ؟ إلى أين؟ هلاَّ تعود

إليَّ، إلى روحيَ اللائبِ

حنانك، ضقْتُ، وضاقت حياتي

بهذا الصدى المحرق اللاهب

بأشواق العاتيات تزلزل ص_دريَ في عنفها الصاخب

حنانك، قلبي يذوب وراءك _، أواه من قلبي الذائب

تلفَّتْ، وراعِ بقاياه تذوى

وتفنى مع الأمل الغارب

مضيتَ؟ وكيف؟ ألا رجعة

ترد إلي القلب دنيا رؤاه؟

لقد أقفر الكون في ناظريَّ

وغشى الظلام مجالي ضياه

وكيف أحس جمالَ الوجود

ووجهك عني توارى سناه

فما أقبح العيش يا موحشي

وياما أشد سواد الحياه

وأنت بعيد بعيد هناك. . .

وقلبي وحيد يعاني أساه

مضيتَ؟ فيا لحنيني إليك

وواهاً لأمسى القريب البعيدِ

زمان أمر بدرب الكروم

وللدرب نفح جنان الخلود

ويشرد طرفي زيطوي المدى

ولقياك غاية طرفي الشرود

وفي القلب نار جموح الوقود

ينادي بها الشوق: يا نار زيدي

وطرفي قرير بذاك الشرود

وقلبي سعيد بذاك الوقود

ويفجأني وقع خطو بعيد

ورائيَ، أصغي إليه طويلا

ويهتف قلبيَ: هذي خطاه

أرى في صداها عليه دليلا

خطى العنفوان، خطى الكبرياء

تنم عليه عظيماً نبيلا

وتختطف الروحَ غيبوبةٌ

وقد رحتَ تدنو قليلاً قليلا

وأغرق في حلم ساحرٍ

أحال حياتي فناً جميلا

وفي غمرات الذهول العميق

تطالعني القامة الفارعة

فأشخص، ثم أغمضْ حياءً

واكسر من لهفتي الجائعة

وأبدى جمودَ الخلِّي كأن لم

ترج دمي الطلعة الرائعة

ص: 34

وتحت جمودي اضطراب عصوف

أداريه مغضيةً وادعه

وتحت جمودي من العاطفات

أعاصير جارفة دافعة

وتنهب عيناك وجهي وقد

عرا مهجتي منهما ما عرا

فيمحى بعينيَّ كل الوجود

ويمحى بعينيَّ كلَّ الورى

وما لفتة النسر يا فتنتي

تطلع من عاليات الذُّرى

وسلّط لحظاً على إلفِهِ

عنيفَ التوقد، مستكبرا

بأروع منك وعيناك فيَّ

أوارٌ تلظى وسحر سري

وتمضي، وأمضي مع العابرين

وما بيننا غير نجوى النظر

وطيف ابتسام على شفتيك

ووهْجُ هيام بعمقي استعر

وقد هبط الليل حلوَ الغموض

خلوبَ الرؤى، عبقريَّ الصور

وماجت الريح خضر الكروم

مشعشعةً بضياء القمر

وفاض الوجود شعوراً وشعراً

وذاب من الوجد حتى الحجر!

سل الدرب كم جئت غبَّ النوى

أجرُّ الخطى في الغروب الحزينْ

وحولي من الذكريات الخوالي

طيوف تثير لهيب الحنين

أخاف تكرُّ عليها الليالي

وتدفن تحت ركام السنين

فيبسط قلبي جناحيْ هواه

عليها ويحنو حنوَّ الضنيين

وأنت بأعماق روحي صلاة

يسبح باسمك روحي الأمين

مضيت؟ إلى أين؟ هلاَّ تعود

لروحي اللهيف، لقلبي الغريب؟

توحدتُ بعدك يا موحشي

على الدرب، درب الكروم الجديب

أسير إلى غير ما غاية

وكفى على جرح قلبي الخضيب

وفي مقلتيَّ غيوم حزانى

وفوق جبيني وجوم كئيب

وسمتك في خاطري مائل

يهيج الحنين ويذكي اللهيب

إلى أين؟ رحماك يا ابن الصحاري=وبرد ظماء الفؤاد العميدْ

فما برمال عطاشى نَمتْكَ

كهذا الغليل الملح العنيد

إلى أين؟ يا لك طيفاً ألمَّ

وعانق روحي بحلم سعيد

ص: 35

ويا لك وهْمَ سراب تألق

في قفر عمري لقلبي الشريد

حنانك، عد، كيف أحيا الحياةَ

وأنت هناك بعيد، بعيد

(المطوقة)

ص: 36

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

(تحت المبضع) للأديب السوري محمد روحي فيصل:

كتاب في بضع وثمانين صفحة، ولكنه يقدم صاحبه خير تقديم؛ يقدمه في معرض النقد الأدبي حين يكون للذوق المرهف أثره الملحوظ في اللمحة الفنية التي تغنى عن لمحات، وفي اللمعة الفكرية التي تهدي إلى لمعات. . . أما الكتاب، فهو (تحت المبضع)، وأما الكاتب فهو الأستاذ محمد روحي فيصل رئيس قلم المطبوعات في (حمص).

هذه كلمات يجب أن تقال قبل أن أقدم للأستاذ روحي فيصل خالص الشكر على هديته، وقبل أن أضع مبضعه تحت المبضع، فأتفق معه حيناً، وأختلف معه حيناً آخر. . . ولا بأس أبداً من أن نلتقي هنا لنفترق هناك، وما دامت السطور الأولى من هذه الكلمة النقدية تحمل إلى القراء حكما صادقاً وأخيراً على شخصية الكاتب وما كتب!

في هذا الكتاب فصول أفردت لنقد الشعر والنثر ممثلين في مهرجان أبي العلاء. . . ومرة أخرى نعود إلى فيلسوف المعرة لننظر فيما قاله الأستاذ روحي فيصل عن هؤلاء الذين اشتركوا في إحياء ذكراه، وبخاصة تلك النخبة من الشعراء أمثال الأساتذة: عمر أبي ريشة، وبدوي الجبل، وشفيق جبري، ومحمد البزم، ومهدي الجواهري. . . شعراء خمسة تقدم كل منهم إلى المهرجان بأبيات من الشعر تفاوتت في سبحات الخيال ورفات الجناح، وكاتب يقف منهم جميعاً موقف العارض في أمانة، المحلل في أناة، الناقد في ثقة واحتشاد.

أول شيء أود أن أشير إليه هو تلك الكوى الفكرية التي أطلت منها رؤوس الشعراء والناثرين لتنفذ إلى أغوار الشخصية العلائية. . . بماذا خرجت تلك الرؤوس من ذلك الفكر المسجى على فراش الأجيال والعصور؟ أكاد أقول لا شيء!. . . لا شيء غير تلك القصة المكررة التي ترويها كتب القدامى والمحدثين، ولا شيء غير ذلك (الفلم) الذي تعرض مناظره على (شاشة) الشعر والنثر دون أن تتجدد الزوايا العديدة في الصور النفيسة، وكأن أبا العلاء على كثرة (المخرجين) و (المصورين) نسخة واحدة أبرز فصولها مخرج واحد، والتقط مشاهدها مصور واحد، وكأني كنت أمد عيني إلى مهرجان أبي العلاء، وأرهف سمعي إلى ما يقال عنه يوم أن فلت في عدد مضى من (الرسالة): (لو قال الباحثون عن

ص: 37

أبي العلاء إنه إنسان قلق لعبروا عن الواقع أدق التعبير، ولأحاطوا بكل جانب من جوانب شخصيته بهذه الكلمة الواحدة، ولكنهم ركزوا كل عنايتهم في جانب واحد انتهوا منه إلى حكم عام ما لبث أن استقر في الأذهان، واطمأنت إليه النفوس؛ هذا الحكم العام محوره (التشاؤم) في شخصية الرجل وفي فلسفته على حد سواء!. . . من الخطأ في رأيي أن ينسب الباحثون أبا العلاء إلى نزعة نفسية بعينها ليتفرد بها وليقف عندها لا يكاد يتعداها إلى غيرها من النزعات؛ ذلك لأن أبا العلاء قد مال إلى التفاؤل كما مال إلى التشاؤم، ونصح بالإقبال على الحياة كما نصح بالإعراض عن الحياة، وآمن بالبعث كما أنكر إيمانه بهذا البعث، وأوصى بالزهد في نعيم الدنيا كما أوصى بالإغراق في هذا النعيم، ونادى بفكرة الزواج والنسل، كما نادى بنبذ هذه الفكرة مقدماً من نفسه مثالاً لهذا الحرمان!. . . أبو العلاء إذن لم تكن له (لافتة) واحدة (يعلن) فيها عن رأي واحد تتميز به شخصيته الفلسفية والإنسانية، ولكنه كان أشبه بالتاجر الذي يعلن كل يوم عن (صنف) جديد من أصناف (بضاعته) عقب وروده بلحظات؛ وكل تلك السطور المتناقضة يمكنك أن تضعها تحت عنوان كبير مكون من كلمة واحدة هي: القلق!

ولقد فسرت هذا القلق على ضوء علم النفس الأدبي تفسيراً جديداً، حيث قلت بعد كلام طويل في هذا المجال: (الفراغ في حياة أبي العلاء، ولا شيء غير الفراغ، وعلى هديه نلتمس العلة الأصلية لتلك الذبذبة النفسية ممثلة في هذه الذبذبة الفكرية ولنا بعد ذلك أن نسأل: أي لون من ألوان الفراغ كان يشكو أبو العلاء؟ إنها ثلاثة ألوان: فراغ الشمس، وفراغ القلب، وفراغ الجسد. . . ولك أن تردهما جميعاً إلى الحرمان، فنفس أبي العلاء كانت تشكو الحرمان من العطف، وقلب أبي العلاء كان يشكو الحرمان من العاطفة، وجسد أبي العلاء كان يشكو الحرمان من المرأة. . . وقفْ طويلاً عند هذا الحرمان الأخير، فهو مصدر الحرمان كله، ومركز الفراغ كله، وعلة هذا القلق الذي وجه أبا العلاء ألف وجهة، وحيرة بين ألف رأي وعقيدة، وقذف بعقله إلى ألف درب من دروب الفكر، حيث يتجلى التناقض والتضارب والاختلاف! هذا الجدب العاطفي في القلب الإنساني، وهذا الكبت الطويل العنيف للغريزة الجنسية، هما في رأيي - ولا شيء غيرهما - مركبا النقص الخطيران في شخصية أبي العلاء، ولا حاجة بنا إلى الحديث عن مركب النقص وأثره في

ص: 38

توجيه العقول والأفكار)!!

قلت هذا بعد أن تعرضت لآراء الباحثين ممن وقفوا عند الآفة الجسمية في حياة أبي العلاء مفسرين على ضوئها معالم الاضطراب في نظراته وآرائه. . . فليرجع القراء إلى ما قلت، لأن تلك السطور التي نقلتها هنا لا تغنيهم عن البحث كاملا مرتبط الفصول، متماسك الأجزاء، مسلسل النقلات، بين النتائج والمقدمات. . . قلته بالأمس، وأعود اليوم فأذكّر به، لأن الأستاذ روحي فيصل يتفق معي في خطباء المهرجان لم يأتوا بجديد حين يقول في مقدمة كتابه:(فأما إن أبا العلاء المعري نفسه قد استبان لنا على غير ما كنا نعرف من صورته، فذلك لا يقوله أديب له شيء من مشاركة في فهم الأدب على العموم، وفي فهم الأدب العربي على الخصوص. فما شع من هذا المهرجان الذي انقضى ضوء نظرية جديدة من شأنها أن تنير ناحية من أبي العلاء كانت مجهولة أو مظلمة، ولا انبثق عرض شامل بنظم هذا الرجل الكبير في شتى مجاليه)!

وأقف هنا وقفة قصيرة لأهمس في أذن الأستاذ فيصل قائلاً له: لقد كنت أرجو ألا يكون ناقداً فحسب، وإنما كنت أرجو أن يكون ناقداً وباحثاً في وقت معاً. . . أعني أنني كنت أود، وقد أشار إلى هذا الاجترار الممل فيما قيل عن أبي العلاء، أن يحاول هو من جانبه أن يضع شخصية الرجل تحت المبضع عسى أن يخرج من دراسته بنظرات جديدة. ولكن الأستاذ فيصل قد ترك أبا العلاء إلى هؤلاء الذين تحدثوا عنه من الكتاب والشعراء، مقتصراً على الإشارة العابرة إلى كلمات الفريق الأول، والنقد المفصل لقصائد الفريق الأخير!

وأنتقل بعد هذه اللفتة إلى الفصول النقدية الخمسة التي أفردها الأستاذ فيصل لشعرِ أبي ريشة والجبل وجبري والبزم والجواهري.

في تلك الفصول لمسات تنبئ في الكثير الغالب عن سلامة التقويم، ونزاهة التقدير، وعرض موقف للشخصية الأدبية على مدار الحقل الشعري واتساع مداه. . . هناك حيث تبحث عن معدن الملكة الناقدة فيشع في اللمحة الفنية التي تغنى - كما قلت لك - عن لمحات، وفي اللمعة الفكرية التي تهدى إلى لمعات. . . انظر مثلا إلى هذين البيتين من قصيدة بدوي الجبل حول مشكلة الآفة الجسمية في حياة أبي العلاء، وأحكم - بعد ذلك -

ص: 39

على الذوق الأدبي عند روحي فيصل:

من راح يحمل في جوانحه الضحى

هانت عليه أشعة المصباح

وجلا المصون من الضمائر فانتهى

همس النفوس لضجة وصياح

(فاقرأ هذين البيتين كما قرأتهما أنا، وأعد تلاوتهما على نفسك، وانفذ إلى مطاويهما، وتذوق حلاوتهما، فستجد أنك حيال لون من الشعر المجنح الجميل طالما رغبنا في مثله، وطالما حرصنا على أن يسحب الشعراء على ذيله. وسترى عمل البيان في الخروج بخوافي النفس إلى دنيا النور أو دنيا الضجة والصياح كما يقول البدوي؛ وإنما يعجبني البيت الأول لأن صورة (الضحى بين الجوانح) من أرق الصور وأدناها إلى الخيال وأعقلها بالجمال. . . ويعجبني البيت الثاني لأن كناية (الضجة والصياح) من أبرع الكنايات في الدلالة على الكشف والإعراب).

هنا ذوق رائع في فهم الشعر ورفع الغطاء عن أسرار مراميه، ولكنني أختلف مع صاحبه حين يزن هذا البيت بميزان الأداء اللفظي في الوقت الذي أنادي فيه بإقامة الميزان للأداء النفسي في الشعر العربي الحديث. . . يقول بدوي الجبل في مجال الحديث عن موقع المرأة من شعور أبي العلاء:

يا ظالم التفاح في وجناتها

لو ذقت بعض شمائل التفاح!

ويقول روحي فيصل في مجال التحليل والنقد: (فهنا عتاب ناعم يوجهه الشاعر لأبي العلاء فيما تجنى على المرأة من نقد، وهنا إغراء جميل على محاسن الأنوثة، وهنا فوق ذلك، ألفاظ خفاف، ومسرى حلو، ونغم لطيف، وشعور - على أنه سطحي وابتدائي وجماهيري - لا يخلو من شيء من الإحساس بفتنة المرأة وسحر الجمال).

معذرة إذا قلت للأستاذ فيصل: إن هذا الشعور الذي يصفه بأنه سطحي وابتدائي وجماهيري، هو وحده الذي أكسب بيت بدوي الجبل ذلك الأداء النفسي الذي أدعو الشعراء إلى أن يطرقوا أبوابه. . . إن كلمة (لو ذقت) هي التي أوحت إلى الأستاذ فيصل بهذا الوصف، ولكنه لو نظر إلى الظلال الفنية التي أسكنها الشاعر بناء التعبير ممثلة في تلك الكلمة، لتكشف له عمق الحركة النفسية في ذلك الصدق الشعوري المنبعث من بساطة الأداء.

ص: 40

ولقد كنت أود أن أطيل القول في مشكلة الأداء النفسي في الشعر، لولا أن هناك بحثاً يدور حول هذا الموضوع في انتظار العرض على صفحات (الرسالة) في الأيام المقبلة.

ويبدو لك من كتاب الأستاذ روحي فيصل أنه يفضل قصيدة عمر أبي ريشة على غيرها من الشعر الذي ألقى في المهرجان. . . وهنا أختلف معه مرة أخرى ما دام هو يضع الشعر أحياناً تحت مجهر الحركة اللفظية، وما دمت أنا أضعه أبداً تحت مجهر الحركة النفسية.

يقول أبو ريشة مثلاً:

أتريد الوجود منتهك الستر

يرينا أسراره عريانا

ويفض الفدام عن قلبه السمح

ويجريه للعطاش دنانا

لو بلغنا ما نشتهي لرأينا الله

في نشوة الشعور عيانا

هنا معرض ألفاظ يعج بصور فكرية عادية التلوين مألوفة الأضواء، كل ما يهزك منها هو هذا الإطار التعبيري الذي يحيط بالصورة، ويضفي عليها شيئاً من الجمال، الجمال الذي يطالع الأنظار والأسماع ولا يطالع المشاعر والنفوس! ولكن الذوق المرهف يعود إلى محرابه الأصيل عند روحي فيصل عندما يهتز طرباً، وأهتز معه لهذا التصوير النفسي الموفق في هذين البيتين لمهدي الجواهري حول قسوة القدر على حياة أبي العلاء:

على الحصير وكوز الماء يرفده

وذهنه، ورفوف تحمل الكتبا

أهوى على كوة في وجهه قدر

فسد بالظلمة الثقبين فاحتجبا

ولمحة أخرى للأستاذ فيصل تبلغ الغاية في الإشراق، لمحة أصافح عليها يقظة النقد عند هذا الناقد الذواق. . . بيت من الشعر في قصيدة عمر أبي ريشة مأخوذ من بيت آخر في شعر شوقي، ويشهد الله أنني وقفت عند هذا البيت ورددته إلى منبعه الأصيل وتحدثت عنه منذ عام إلى بعض إخواننا من الأدباء، وكان ذلك يوم أن تلقيت من لبنان ذلك الديوان الجديد الذي أخرجته دار مجلة (الأديب) للشاعر أبي ريشة، والذي حوى إلى جانب ما حوى من شعره قصيدته التي ألقاها في مهرجان أبي العلاء. . . يقول شوقي في (مجنون ليلى):

قد يهون العمر إلا ساعة

وتهون الأرض إلا موضعا

ص: 41

ويقول عمر أبو ريشة:

قد تجف الحياة إلا وريداً

ويضيق الوجود إلا مكانا

ويقول روحي فيصل: (. . . والتقى شاعرنا مع شوقي في بيت لا أدري كيف أخذه في رابعة النهار)! ثم يسكت عن الموازنة، تاركاً الحكم للقراء، حيث يقول:(أي البيتين أجمل وأروع؟ لا أريد أن أقطع أنا بالجواب الواضح، فالترجيح متروك لذوقك وفطنتك، ولفهمك فن البيان وفلسفة اللفظ، وحسبي الآن أني أثرت شوقك إلى البحث والموازنة، على ضوء مزاجك وثقافتك وصراحتك). . .

سكت الأستاذ فيصل عن الموازنة، ولكن هذا السكوت أفصح من كل الكلام. . . ولو كان في المجال متسع للإفاضة لقدمت أنا إلى القراء نقداً مفصلاً في مجال الموازنة بين البيتين، نقداً ينتهي فيه الحكم الأخير إلى هذه الكلمات:

لقد حاول أبو ريشة أن يقف من شوقي موقف سلم الخاسر من بشار فلم يبلغ شيئاً. . . إن الفارق بين بيت أبي ريشة وبيت شوقي، هو الفارق بين الجميز البلدي والتفاح الأمريكاني!!

وتبقى بعد هذا كله كلمة أخيرة أوجهها إلى الأستاذ روحي فيصل، وهي أن كثيراً من النقاد المتذوقين قد خلا منهم الميدان منذ أمد طويل، وحبذا لو تفرغ للنقد الأدبي ليضم جهده إلى جهود هذه القلة التي تعمل مخلصة على سد هذا الفراغ!

مصرع الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل:

أسفت كل الأسف وأنا أطالع في الصحف منذ أيام نبأ مصرع الكاتبة القصصية الأمريكية مرجريت ميتشل. . . ومرجريت ميتشل كما لا يخفى على القراء هي مؤلفة تلك القصة الرائعة التي قرأها الملايين وشاهدوها على الشاشة، وأعني بها قصة (ذهب مع الريح. إن مصدر أسفي على مصرع هذه الكاتبة العظيمة هو أنها استطاعت بقصتها تلك أن تخرج أثراً فنياً لا يمكن أن تقاس إليه آثار كاتبة أخرى مثل جورج صاند، وأن تقدم الدليل على أن الأدب الأمريكي الحديث على تفاهته لا يخلو من الروائع، وأن قدرة المرأة على استكناه حقائق الحياة واستكمال أدوات الفن تفوق قدرة الرجال في بعض الأحيان!

ومن دواعي الأسف أيضاً أن تختم حياة هذه الفنانة بمثل هذا الختام الذي يثير الأسى

ص: 42

والشجن. . . لقد كان من الممكن لو لم يقض القدر القاهر بانطفاء الشعلة المتوهجة في الخيال الخلاق، أن يفيض النبع أكثر مما فاض فيظفر عشاق القصة الطويلة بأثر فني آخر يضاف إلى ذلك الأثر الوحيد الفريد، وأعني به (ذهب مع الريح)! مهما يكن من شيء فحسب مارجريت متشل أن يدرج اسمها في سجل كتاب القصة الأفذاذ بهذه التحفة اليتيمة التي كانت في حساب الفن كل رصيدها المدخر، وإنه في ميزان النقد لرصيد عظيم. . . ومهما يكن من شيء أيضاً، فإن طريق الخلود لا يسلكه السالكون بكثرة ما قدموا إلى الناس من نتاج القرائح وعصارة الأذهان، وإنما يسلكونه بقيمة هذا النتاج ومدى تمثيله لصور الحياة وتصويره لحقائق النفوس على اختلاف الميول والأذواق وتفاوت الأجيال والعصور. الكيف لا الكم في ميزان الفن هو وحده أساس الخلود والبقاء؛ وإلا لما استطاع كاتب مثل بنجامان كونستان أن يأخذ مكانه في صفوف الخالدين بقصة واحدة هي أدولف تلك القصة التي قال عنها بول جورجيه:(إن أدولف لتعد مثلاً أعلى للقصة الذاتية، ولقد بقيت من كل تلك القصص التي ظهرت في القرن التاسع عشر وهي أحفلها بالحياة، وأكثرها إنسانية، وأشدها أسراً للشعور، ولا توجد قصة أخرى تهزني كما هزتني هذه القصة). . . كما قال عنها فردينال برنتيير: (إن أدولف قصة إنسانية لا يمكن أن ترقى إلى حقيقتها التحليلية قصة أخرى

ينظر بورجيه إلى الفن من ناحية القيم الإنسانية، وينظر إليه برنتيير من ناحية القيم التحليلية، وبهذين الجناحين معاً يحلق الفن في أرحب الآفاق، فإذا ما نال منه الجهد فهبط ليستريح فإن مكانه هناك. . . في أعالي القمم! أما الإنسانية في (ذهب مع الريح) فهي في تلك الدفقات العاطفية العميقة المنبعثة من قلب امرأة حائرة بين رجلين: رجل جدير بحبها ومع ذلك فهي لا تحبه ورجل غير جدير بهذا الحب ومع ذلك فهي تحبه، وهكذا كان حال (سكارليت) وهي موزعة الفكر والشعور بين (أشلي) و (بتلر)!. . . وأما التحليل فهو في تلك الصفحات الزاخرة بقصف المدافع ودوي القذائف وأنات الضحايا وزفرات الثكالى وعصف الحديد، هناك حيث تقدم مرجريت ميتشل للحرب الأهلية الأمريكية صورتين لا مثيل لهما في متاحف الفن ومتاحف التاريخ!. . .

بعض الرسائل من حقيبة البريد:

ص: 43

بين يدي وأنا أكتب هذه الكلمات كثير من رسائل القراء في مصر والأقطار العربية. . . أما الذين يبعثون إليَّ برسائلهم معبرين عن حسن الظن وكريم التقدير فلهم خالص الشكر وعاطر التحية، وأما أصحاب الأسئلة التي يوجهونها إليّ في محيط الأدب والفن فبودي أن أوجه إلى بعضهم رجاء خاصاً، هو أن يراعوا في أسئلتهم مدى الفائدة التي يمكن أن تعود على القارئ وهم في انتظار الجواب؛ وذلك بأن تكون الموضوعات التي تثار جديرة بخلق قضية من القضايا الأدبية بهم القراء وضعها على بساط البحث والمناقشة. وإلى الأعداد المقبلة حيث أتناول بالتعقيب بعض هذه الأسئلة، ولا بأس من تسجيل الشكر في مجال الرد على بعض التحيات. . .

أنور المعداوي

ص: 44

‌الأدب والفن في أسبوع

سلامة موسى يعارض التعليم الديني:

منذ أسابيع أصدر معالي وزير المعارف قراراً يجعل التعليم الديني مادة إجبارية في المدارس الابتدائية بعد أن كان مادة اختيارية لا يجب تحصيلها لاجتياز الامتحانات، فأصبح من المواد الأساسية التي لا بد من الامتحان فيها لبلوغ النجاح. وقد كان لهذا القرار موقع حسن في النفوس، اغتبط له كل من يقدرون أثر الدين في طبع الناشئة بطابعه، وتشُّرب نفوسهم روحه، وتبصيرهم بحقائقه، ليكونوا مواطنين متعاونين على الخير، متمسكين بالفضائل، متهجين نحو المثل العالية.

ولكن في مصر - مع الأسف - مفكراً حرا، أو هكذا يقولون، لم يغتبط لذلك، بل ابتأس له، واعتبره تخلفاً ورجعية. . . ذلك المفكر الحر المزعوم هو سلامة موسى، كتب مقالا في جريدة (النداء) بعنوان (الرجعية تتحدى الزمن) قال فيه:(ونحن نقرأ هذه الأيام عن حركات يراد منها تقييد التعليم في الجامعة، وبعث التعليم الديني في المدارس على الرغم مما سوف يحدثه من خلاف بل شجار بين المسلمين والأقباط) ولست أدري أين قرأ عن الحركات التي تقيد التعليم في الجامعة. وقال (. . . وعباس العقاد أيضاً يقول بأننا نكون شيوعيين حين نقول بفصل الدين عن الدولة، فهل فهم نهرو ذلك أيضاً؟ وهل كان شيوعياً عندما فصل دولة الهند عن ديانتها الهندوكية؟ إن لنهروا مذهباً في الوطنية وللرجعيين في مصر مذهباً آخر، فأيهما أصح؟) ثم قال (وأعود فأطلب المقارنة بين الساسة الهنود والساسة العرب في أقطار الشرق العربي كله، وأعود فأتساءل: هل نحن المصيبون وهم المخطئون أو العكس؟ لقد فصلت الهند الدين من الدولة في حين أننا شرعنا في تعليمه بالمدارس وجعلناه مادة أساسية).

وسلامة موسى، إذ يقول هذا الكلام ويفكر ذلك (التفكير الحر) إما أن يكون سيئ النية نحو الدين الإسلامي متعصباً ضده، وإما أنه يجهل حقائق هذا الدين فهو يكتب عن جهل ويدس أنفه فيما لا يعنيه، وقد يجتمع الأمران ولكني أوثر الإغضاء عن الأمر الأول، فحسبه جزاء عليه، إن كان، ما يجد من الغيظ في نفسه، وإذن لا أجد مناصاً من الأمر الثاني وهو جهل مفكرنا الحر حقائق الإسلام.

ص: 45

إن الإسلام ليس دين عزلة، وإنما هو نظام حياة وتشريع مجتمع، وتعليمه في المدارس يهدف إلى التهذيب والتثقيف وتطبيق شريعته على مسائل الحياة المختلفة. فهو يختلف عن الديانة الهندوكية، وأظن أن سلامة يعرف الهندوكية ويعرف ما يبرر فصلها عن الدولة في الهند، ولكن الذي لا يعرفه - على أحسن الفرضين السابقين - أن الإسلام ليس كالهندوكية في ذلك. فلا محل للمقارنة، التي بدأها وعاد إليها، بين ساسة الهنود وساسة العرب، وما كان أحراه أن يمسك بزمام (فكره الحر) فلا يدعه يخبط ذلك الخبط العجيب.

ومن جهل سلامة موسى أنه لا يعرف أن المجتمع الإسلامي عاش قروناً على الجمع بين الدين والدولة، وأن الأزمان التي أصابه فيها الضعف هي التي كان فيها الساسة يبعدون عن الدين، وأن المجتمع الإسلامي والدول الإسلامية كانت تحتضن علماء ومفكرين من غير المسلمين وتكرمهم وتحلهم المكان اللائق بهم، وأن هؤلاء وغيرهم من سائر المخالفين في الدين كانوا يعيشون مع المسلمين عيش المواطنين المتضامنين، فلم نسمع عن خلاف أو شجار حدث بسبب التعليم الديني بين المسلمين والمسيحيين، ولم نسمع أن أحداً من المسيحيين خرج على مقتضى الترابط الاجتماعي فآذى أحداً أو أطلق (أفكاراً حرة) كالتي يطلقها سلامة موسى في آخر الزمان. . .

وبعد فإن سلامة موسى يقول دائماً، ويردد مريدوه، إنه صاحب دعوة جديدة في الكتابة، تلغي العاطفة وتحكم العقل وتقوم على الاطلاع والبصر بالأمور، فهل ينطبق هذا على ما كتبه عن تعليم الدين الإسلامي بالمدارس ومقارنته بالهندوكية؟ لقد بينت أنه في ذلك إما صادراً عن التعصب أو الجهل أو كليهما، وفي التعصب (عاطفة) الكراهية، وفي الجهل جهل. . . فهل هذا من مقتضيات تلك الدعوة؟ أو هي (أفكار حرة والسلام!)؟

العصر الإذاعي:

تحدثت السيدة تماضر توفيق المذيعة، إلى محرر مجلة (الاستديو) بعد عودتهما من انجلترا حيث كانت تشترك في دراسات إذاعية بمحطة لندن، فجاء في حديثها عن الإذاعة البريطانية أنه لو حدث أن أذيع هناك حديث يخالف النهج المرسوم لأحاديث الإذاعة فإن المقالات تكتب في نقد هذا التصرف ولوم المشرفين على البرنامج الذين يهتمون بهذا النقد ويعملون على تحقيق ما يوجه إليه.

ص: 46

قرأت ذلك وقارنته بما يحدث عندنا فشعرت بالأسف. هناك الجمهور راض عن برنامج الإذاعة في جملته لأنه مرض فعلا، فإذا حاد منه شيء عن الجادة دفعه الحماس والغيرة إلى اللوم والنقد وهو يثق أن هناك من يصغي إليه. وهنا اعتاد الناس أن يسمعوا الإذاعة تخبط كما تشاء، لا منهج لها ولا غاية، وإنما هو الاعتساف والفوضى وسوء الاختيار، وما ينشأ عن كل ذلك من تقديم بضاعة ليس لأكثرها من فائدة إلا تزجية الوقت وسد الفراغ، فإذا كتب ناقداً أو صاح غيور وذهبت الكتابة والصيحة مع الريح، ولا نجد لها صدى إلا ما تنشره مجلة الإذاعة من أشباه البلاغات الرسمية التي تقول فيها إن ما تنشره الصحف والمجلان جميعاً عن الإذاعة غير صحيح. . .

وعلى ذكر مجلة الإذاعة أذكر أن محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية تصدر مجلة أول ما تقرأ فيها نقد برامج المحطة، وقد وزعت أبواب البرامج من أدبيات وتمثيليات وموسيقى على كتاب يتتبع كل منهم ما يذاع في بابه ويتناوله النقد. أما مجلة إذاعتنا فهي تشبه بعض صحف الأحزاب السياسية المتطرفة في الحزبية، لا هم لها إلا الدفاع عما هي لسان حاله ورمى المعارضين بكل الصفات الذميمة.

وقد أفضى كل ذلك إلى أن انصرفت قلوب الناس عن الإذاعة، وأيأسهم من صلاحها ضياع صيحاتهم مع الهباء، ولم يسمعهم إلا أن يسكتوا مسلمين أمرهم إلى الله، وقد وطنوا أنفسهم على احتمال الأذى وسماع جانبه صباح مساء. . . وأخذوا أنفسهم بالصبر على استبداد الإذاعة بهم وإسماعهم ما يكرهون وفرض برامجها عليهم ضريبة ثانية إلى جانب الضريبة المالية السنوية.

والعادة المتأصلة في المصريين أن ينفسوا عن أنفسهم وينتقموا من المستبد بهم بالفكاهة والتندر عليه، وما أكثر وأظرف ما نسمع من ذلك عن الإذاعة. ولباحث اجتماعي أو تاريخي أن يرجع هذه الظاهرة إلى أن الفترة التي تمر بها الإذاعة الآن تشبه عصور الاستبداد الماضية، فقد تسمى هذه الفترة بعد ذلك (العصر الإذاعي) نسأل الله الخلاص والسلامة. .

الموضوع في قنوتنا:

أقصد بهذه الفنون السينما والغناء والموسيقى، وأعني بالموضوع فيها فكرة التأليف، وهي

ص: 47

تكاد تكون معدومة في هذه الفترة من زماننا. والملاحظة أن تلك الفنون قد تقدمت وارتفعت فيما عدا الموضوع، وخاصة السينما، فالتمثبل فيها جيد على العموم وكذلك ما يسمونه (حرفية السينما) وعندنا بعض المخرجين الذين يجيدون فنهم، وإن كان بعضهم يفرض نفسه على التأليف فيأبى إلا أن يكون مخرجاً ومؤلفاً في آن فلا يكون شيئاً. . . أما القصة فهي بيت الداء في السينما المصرية، وتسعة وتسعون في المائة من قصص الأفلام المصرية لا موضوع لها، فهي حوادث يتخللها غناء ورقص وإضحاك، وأحسنها ما كانت هذه الأشياء فيه ممتعة بعيدة عن السخف، ومن اللوازم التي تتكرر في معظم الأفلام أن تنزل بالبطلة كارثة، أو تقع في أزمة، فتضطر إلى كسب رزقها، ولابد أن تكون مطربة، فتلتجئ إلى ملهي تغني وترقص فيه، وهنا تجئ الفرصة الذهبية لتقف حوادث القصة ريثما يستمع المشاهدون ببرنامج الملهى الطويل. . . وبعد ذلك وعلى مهل يعثر الأب على ابنته والأخ على أخته والمحب على حبيبته حيث تعمل في الملهى، بعد أن يشبع الناس من السماع والنظر والضحك. وهذا كله قد يكون لا بأس به ولكن على أن يغلف شيئاً، أما أن يكون فارغاً فإنه لا يدل إلا على الفراغ الهائل في ذهن المؤلف.

ومن المضحك أن بعضهم يحاول أن يجعل لقصّته موضوعاً (تلبية لرغبة الصحافة والنقاد) وقد قرأت هذه العبارة التي بين الأقواس على الشاشة في تقديم أحد الأفلام، يحاول المؤلف أو المخرج ذلك فيدس فيها شيئاً من قبيل الوعظ الخلقي أو بعض العبارات الوطنية الجوفاء، فلا تزيد الفلم إلا بروداً وسماجة، وذلك للتكلف وإيراد الشيء في غير موضعه. ومما يدعو إلى الضحك والأسف معا أن يقولوا في الدعاية عن الفلم إنه يعالج مشكلة اجتماعية، وليس فيه عن المشكلة إلا بعض مناظر عابرة أو كلمات متناثرة لا تبرز ناحية ذات شأن من المشكلة فضلاً عن معالجتها.

ويدعى هؤلاء المؤلفون أنهم ينزلون إلى مستوى الجمهور، وهذا ليس صحيحاً، لأنهم ليسوا في مستوى أعلى ينزلون منه. . . والنزول إلى مستوى الجماهير لا يكون مفيداً إلا إذا كان مع النازل شيء يقدمه إلى من ينزل إليهم بالاحتيال على إساغتهم إياه.

هذا وفي وزارة الشؤون الاجتماعية لجنة للنهوض بالسينما، لست أدري ماذا تعمل لهذا النهوض إن لم تكن في مقدمة ما تعمله العناية بهذا النقص في الأفلام. وهناك رقابة تمنع ما

ص: 48

يخالف الآداب العامة أو يمس الأمن العام، ولست أدري لماذا لا تكون هناك رقابة تمنع ما يفسد الذوق العام.

أما الغناء والموسيقى والأغاني الفكاهية (المنلوجات) فهي كذلك في مجموعها، ينقصها الفكرة والموضوع، وقد كانت الأغاني الفكاهية تدور حول موضوعات وطنية واجتماعية ولكنا الآن صرنا لا نكاد نسمع من الإذاعة غير (ورد عليك فل عليك) وأشباه ذلك. وأغاني الأفلام تصلح بصلاحها إن صح العزم على ترقيتها. أما الأغاني التي تقدمها الإذاعة فالله المستعان عليها وعلى الإذاعة.

عباس خضر

ص: 49

‌البَريدُ الأدَبيّ

بين الأدب والوطنية والأخلاق:

تفضلتم في عدد (الرسالة) المؤرَّخ 22 أبريل سنة 1946 بأُمنيَّاتكم الودِّية لي وأنا في طريقي إلى أمريكا، وكان تلطفكم هذا تعليقاً على رسالتي إليكم التي هي آخره ما كتبتُ إلى أصدقائي الصحفيين في مصر، فجعلتكم رمزَ مَن أُقدِّرهم من رجال المهنة التي لستُ غريباً عنها، ولذلك أحرص على ألا تشوب مودَّتنا أية شائبة، ولذلك يؤسفني - وأنتم تعلمون مبلغَ إعزازي الشخصي لأدبكم، ومهما يكن مبلغُ تقديركم لحرية النشر - أن تنشروا ما نشرتم ضدِّي في عدد الرسالة رقم 842 المؤرَّخ 22 أغسطس سنة 1949 دون أن تُقابلوا مودَّتي المحرَّبة لكم بكلمة استفهام خاصَّةٍ ترسلونها إليَّ قبل أن تسمحوا لمنبركم العالي بترديد مطاعن جارحة في أخلاقي وفي محبتي لمسقط رأسي، اعتماداً على كلمة يذيعها صاحب جريدة اشتهرت بتلفيق الأخبار كما اشتهرت بمجانبتها حرية الرأي، وقد بلوتُها من قبل تكراراً، ولا ينبئك مثل خبير

إن كاتبكم الفاضل على غير علم - على ما يبدو - بقانون الجنسية المصرية، كما أنه لا يعرف مدلول (الجنسية المزدوجة) التي يتمتع بها آلاف الأفاضل بل العظماء والمتفوقين من اللبنانيين في أمريكا حتى يتمكنوا من الانتفاع بحقوقهم المدنية بهذه البلاد أولئك الذين تمجدهم الحكومة اللبنانية ذاتها وتفتخر بهم بأعلى صوتها، وقد صفق لهم حافظ إبراهيم بك وهتف بمديحهم وبالدعوة إلى التشبه بهم، فهتف المتعلمون من المصريين، بل ومن جميع أقطار الضاد بعده وأمَّنوا على مديحه. ولستُ إلا أحد القلائل من المصريين الذينَ جاورهم، ولن أستفيد من هذا الحق إذا شئتُ إلا بعد استئذان حكومتي المصرية.

وأن ما نشرته (أخبار اليوم) ضدي ليس إلا مثالاً من الجحود الظاهر العنيف جزاء لخدماتي لوطني الأول في شتى البيئات ابتداء بهيئة الأمم المتحدة وانتهاء بجامعة نيويورك فضلا عن منابر الصحافة الحرة الراقية وفي مقدمتها (الهدى) و (السائح) و (النيويورك هرالدتربيون) بعد أن حال الرقيب دون نشر آرائي الحرة في مصر، ولحمتها وسداها الدفاع عن صوالحها العليا وعن معاملها وفلاحها وعن حرياتها العامة وعن عرش مصر.

أما ادعاء انحرافي عن الكرامة الوطنية والقول (بأن مصر لا تستحق جموحي عليها إلا

ص: 50

لسبب واحد هو أني من أبنائها، وإن كانت كفرت عن ذنبها بلفظي وقذفي إلى ما وراء البحار)، فجوابي على هذه الفلسفة الباطلة من أساسها أن مصر ذاتها أكرم من أن تصنع ذلك برجل خدمها طول حياته وبسليل أسرتين عريقتين لم تعرف عنها إلا محبة مصر والتضحية لها، وما تركت مسقط رأس إلا وأنا المحب له والباقي على محبتي. أجل، من الظلم توجيه هذه التهمة إلى مصر الخالدة التي اتسع صدرها وحلمها لآلاف المرتزقة والوصوليين وشذاذ الآفاق وقليلي الأدب.

بقيت الأوصاف الكريمة التي نعت بها أدبي وشعري، وهذه من حق ناقدكم التلفظ بها وتدوينها وسأعمل على اطلاع أدباء المهجر عليها حتى لا يقعوا في نفس الغلطة التي وقع فيها زملائهم بمصر وفي غير مصر من أقطار الضاد، فيتجنبوا المغالاة في تقديري وقد يرون حينئذ أني غير أهل لأي تقدير. . . كذلك سأعمل على اطلاعهم على الآراء النيرة الأخرى ليعرفوا مصادر عبقرية خليل مطران بك وعلى من تتلمذ في مصر!.

وإني إذ أرجو إليكم التفضل بنشر رسالتي هذه أهدي إليكم تحيتي واحترامي.

(نيويورك)

المخلص

أحمد زكي أبو شادي

(الرسالة) التعليق للأستاذ عباس خضر

حول (أبو شادي العجيب)!

قرأت بالرسالة الغراء عدد (842) كلمة للأستاذ عباس خضر عن (أبو شادي العجيب). وقد آلمني حقاً الأسلوب الذي تحدث به الكاتب الفاضل عن رجل كان له في الحياة الأدبية أثر لا ينكر. وإذ تركنا قيمة أبو شادي كشاعر جانباً لأنه يحتاج لنقد دقيق ودراسة كاملة تخرج منها إما للشاعر أو عليه، فلا يستطيع منصف أن يذهب معه إلى أن أبو شادي (حاول أن يقنع الناس بأنه شاعر فأخفق ولم يفلح إلا في إفساد المذهب التجديدي في الشعر العربي الذي دعا إليه العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري وكان من رواده خليل مطران

ص: 51

(فأولا من المعروف أن أبو شادي بذل مجهوداً صادقاً في خدمة الأدب الحديث وأقل ما ينسب إليه من فضل أنه جمع جمهور شعراء العربية وحفز همم الشباب منهم بنوع خاص. ومن ينكر نشاط جماعة أبولو التي كان رئيسها شوقي ووكيلها أحمد محرم وسكرتيرها أبو شادي؟ وأعتقد أنه قبل مجلة أبولو وهي مجلة خاصة بالشعر ودراساته مما لم يسبق له نظير في عالم الصحافة العربية كان القارئ العربي لا يعرف شيئاً عن هذا العدد الكبير من شعراء الشباب بنوع خاص نذكر في طليعتهم الشاعر أبو القاسم الشابي. . . فهل أفسد سليقته أبو شادي؟

وأعجب لقول الكاتب عنه (وقد طهرت منه مصر منذ ذلك الحين وتنفس الجو الأدبي الصعداء وشرع بعض الشعراء الذين أفسد سليقتهم الشعرية في إصلاحها).

ونقطة أخرى نحب أن نصححها لوجه الله والتاريخ. . . أظن أن من المعروف أن خليل مطران كان إمام المذاهب التجديدي للشعر العربي الحديث قبل أن يدعو إلى ذلك العقاد والمازني، وعبارة الكاتب تقول إن خليل مطران كان من رواد المذهب الذي دعوا إليه. . . فكيف يستقيم هذا مع التاريخ الأدبي الصحيح؟

أما الخبر الذي ساق الأستاذ عباس خضر لهذا التجني على أبو شادي وعلى التاريخ الأدبي فلم يحفل بالتحقق منه وما كان يصح أن يستقي مصادر (الأدب والفن في أسبوع) من غير مصادرها و (الهدى) جريدة عربية وإن صدرت في نيويورك ولا يعدم معرفة مهاجر هناك أو قارئ عربي لها هنا. . . إن لم تكن تهدى للرسالة.

وهل تأكد الأستاذ من أن ما كتبه أبو شادي كان في غير مشاكل مصر؟ وقليلون في مصر هم الذين يجسدون الحرية والشجاعة للكتابة عنها. .؟

وهل يعرف الأستاذ أن الدكتور أبو شادي آثر أن ينجوا بكرامته حتى لا تمتهن وإن فقد بذلك مصدر عيشه وإن ضاق به وطن عاش من أجله في خدمة الأدب والعلم. . . لا مهرجاً في الأسواق السياسية وكان من قبله أبوه أحد أعلام الحركة الوطنية.

عز على الرجل أن يهمل ويقدم عليه من هم دونه.

لقد هضم حق أبو شادي فلم يذكره أحد في محنته بكلمة حتى وهاجر فما ذكره أديب ممن كانت له عليهم أياد. . .

ص: 52

(دمنهور)

عبد الحفيظ نصار

1 -

بواسل ليست من لحن القول:

كتب الأستاذ (أنور المعداوي) في بعض تعقيباته يقول: (أنا شديد الإعجاب بأن يكون بين جنودنا البواسل من يقرأ الرسالة ويعشق الأدب) وقد حسب الأستاذ (عبد الجليل السيد حسن) أن جمع باسل على بواسل من لحن القول الذي شاع استعماله في هذه الأيام بين عامة الكتاب فكتب في البريد الأدبي كلمة يعلم بها (السادة الأفاضل الكتاب) صواب هذا اللحن قال فيها (وهذا الجمع غريب شاذ، فلا المعاجم تذكره، ولا القياس يبرره، ولا السماع يؤيده، فلم لا نقتله وتحيي لفظين رشيقين صحيحين يستعذبهما الذوق وهما بسل وبسلاء)

وهذا قول كما تعوده بعض المصححين من جرأة بالغة على اللغة وعلى ما لا يعلمون. إن (بواسل) كلمة عربية رشيقة فصيحة صحيحة، مسموعة عن العرب الخلص منذ الجاهلية الأولى، قال باعث بن صريم البشكري بذكر يوم الحاجر:

وخِمَار غانية عقدت برأسها

أُصُلاً وكان منشراً بشمالها

وعقيلة يسعى عليها قيم

متغطرس أَبدَيت عن خَلْخالها

وكتيبةُ سفع الوجوه (بواسل)

كالأسد حين تذبُّ عن أشبالها

قدْ قُدْتُ أول عنفوان رعيلها

فلففتها بكتيبة أمثالها

وتمر الأبيات من ديوان الحماسة 211 وقال المحاربي كما

روى ابن الشجري في حماسته ص73

أيا راكباً إما عرضت فبلغن

خداشا وعبد الله ما أنا قائل

فلا توعدونا بالحروب فإننا

لدى الحرب أسد خادرات (بواسل)

2 -

ذهب توا:

وكما جانب المعقب الصواب في إنكار (بواسل) فقد جانبه كذلك في إنكار (ذهب توا) حيث يقول (ومما يقلبه الكاتب عامتهم قلباً ويمسخونه مسخاً ويسلخونه سلخاً استعمالهم توا بمعنى

ص: 53

الساعة وحالاً فيقولون ذهب توا وذهب لتوه. وهذا المعنى تلفظه المعاجم وتنبذه اللغة، وما قالته هو: التو بمعنى الفرد فذهب توا أي فرداً أو لم يلوه شيء. والصواب توه) وهذا الذي قاله غير صحيح أيضاً، قال الزمخشري في الفائق:(ومنه قولهم سافر توا إذا لم يعرِّج في طريقه على ما كان) وفي القاموس: (التو الفرد والحبل، وبهاء الساعة، وجاء توا: إذا جاء قاصداً لا يعرجه شيء فإن أقام ببعض الطريق فليس بتو).

هذا وإني أنصح الأستاذ المعقب بنصيحة خالصة نصحني بها منذ أكثر من عشرة أعوام صديقي الرواية الأستاذ (محمود محمد شاكر) ونحن نقرأ حماسة ابن الشجري، قال لي عندما قرأت قول باعث البشكري: وكتيبة سفع الوجوه بواسل: (وهذه كلمة أغفلتها المعاجم فيما أغفلت من أوابد اللغة وشواردها، ومن ثم أنصح لك ألا تقطع برأي فيما لا تجده في المعاجم إلا بعد تثبت؛ فإن كثيراً من ألفاظ اللغة موجود في الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي ولم يقيده الرواة في معاجم اللغة، واقتصروا أيضاً في شرح بعض الكلمات على ما ورد في أبيات يعينها مما رووه، وفيما لم يرووه ولم يشرحوه كثير ما ينبغي أن يشرح مرة ثانية بدلالة هذا الشعر).

هذه نصيحة صديقي الأستاذ (محمود محمد شاكر) وهي نصيحة قيمة تعصم من اتبع هداها من التردي في مهاوي العثرات. وإني لأرجو من المعقبين اللغويين أن يلقوا إليها أسماعهم ليجنبوا القراء متاعب (الجعاجع) الفارغة التي يثيرونها كل حين باسم الحافظ على العربية، وما بالعربية إلا قلة يصرهم بها، وذهابهم توا إلى إنكار مالا يعلمون من ألفاظها، ونضر الله وجه الشافعي إذ يقول:

(ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه).

السيد أحمد صفر

حول (ترميم الجامعة العربية):

الأستاذ نقولا الحداد في هذا المقال قد سما به تفكيره الإصلاحي إلى غاية قصوى فوضع أمامنا سياسة رائعة للجامعة العربية وما ينبغي أن تكون عليه في الواقع، ورسم لنا صورة

ص: 54

خيالية أخاذة للجامعة المنتجة التي يراها جديرة بالحياة. . .

وفكرة الأستاذ جميلة من حيث هي مجرد فكرة ولكنها مستحيلة من حيث هي منهاج لتنفيذه في الواقع، فأنا لا يمكنني أن أتصور الدول العربية تنزل عن سلطتها الدفاعية لبرلمان الجامعة، كما أنه من العبث أن أتخيل الدول العربية تستطيع أن تدفع من ميزانيتها ذلك المبلغ الضخم الذي يقترحه الأستاذ والذي لا يقل مائتي مليون جنيه يجبيها هذا البرلمان من جميع الأمم العربية من غير اعتراض ولا تمنع أو نقاش، وأخيراً أرى خيالي قاصراً عن إدراك ذلك المطمح البعيد الذي يدرك الدول العربية وقد أسلمت سياستها الخارجية لذلك البرلمان يتولاها وينفذ رأيه بماله من السلطة المسلحة ويفرض أحكامه بقوة السلاح. . .

لو فكر الأستاذ الفاضل بعقلية الواقع لأدرك استحالة فكرته لأن ذلك البرلمان الذي يقترحه لا يمكن أن يحقق كل ما نصبو إليه من آمال وأهداف، فغاية الدول العربية ليست واحدة في جميع النواحي ومصالحها غير متفقة تماماً وظروفها الخارجية ليست موحدة تمام التوحيد، وعلى ذلك لا يمكن أن تسلم الدول العربية سياستها الخارجية لبرلمان من هذا النوع مكون من أفراد لا يدركون جميعهم مصلحة الدول الممثلة فيه كما أنهم قد يرون رأياً يخالف ما أجمع عليه شعب من الشعوب ويكون في تنفيذه. نكال بهذا الشعب، والعذر لهم في ذلك لأن الغريب عن بلد لا يمكنه أن ينظر إلى مصلحته بعين المواطن الذي يدرك مصلحته تمام الإدراك ويبذل من نفسه مخلصاً في سبيل تلك المصلحة، وعلى فرض أن الغايات توحدت - واعتبرت مصالح الجميع هدفاً واحداً للجميع - فإنه لا يمكن أن تتفق الأساليب في إدراك ذلك الهدف والعمل به. وهذه الحقيقة الواقعة تواجهنا في مجال الدولة الواحدة ممثلة في أحزابها، فكل حزب له أسلوب خاص يتبعه، ومن هنا نشأت الخلافات والمشاحنات وانقلبت الأحزاب إلى جبهات مختلفة متعادية تقف كل واحدة أمام الأخرى لتحاربها مخلفة وراءها الأهداف التي قامت من أجلها. . .

ولا شك أن ذلك سيحدث في مجال البرلمان الجامع المقترح إذ يقف ممثلو كل دولة للدفاع عن وجهة نظرهم التي تخالف وجهات النظر الأخرى فينقلب البرلمان إلى ساحة فوضوية تتكسر فيها المصالح على صخرة الخلاف، ولقد حدث ذلك الأمر تماماً في الجامعة العربية الحالية عندما كانت في أوج عظمتها في أول الحرب الفلسطينية، ذلك أنه رغم أن هدف

ص: 55

العرب جميعاً كان تحطيم الدولة اليهودية المزعومة وتطهير فلسطين من أرجاس الصهيونية إلا أنه حدث نفس الخلاف عندما أمر مجلس الأمن بوقف القتال وتنفيذ هدنة مؤقتة، وبذلك انقسم المجلس إلى جهتين إحداهما ترى رفض الهدنة والأخرى تحبذها، ثم كان أن تنازل الفريق الأول عن مبدئهم إشفاقاً منهم على وحدة العرب في ذلك الوقت الحرج وقبلت الهدنة التي كانت الغلطة الكبرى في حرب فلسطين والتي تسبب عنها هزيمة العرب في تلك المعركة.

هذا فضلاً عما ثراه من انصياع بعض الدول العربية إلى السياسة البريطانية انصياعاً تاماً، ولا يشك أحد في أن بريطانيا التي تعمل جاهدة على تحطيم وحدة العرب بشتى الوسائل والأساليب يمكنها أن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا الأمر بالنسبة للدول التي تسيرها على الأقل.

هذه الدول العربية المتخمة بالمشاكل والأدواء لا يمكن أن تجتمع في برلمان. هذا وإنه لا يمكنني أن أتخيل العراق أو شرق الأردن أو غيرها من الدول العربية تقبل أن تضحى بشبابها وجنودها لتخرج الإنجليز من مصر أو السودان، كما أنني لا أقدر على أن تصور جيشاً مصرياً يستطيع اجتياز الحدود ليذهب إلى تركيا فيحاربها في سبيل مصلحة سوريا التي تنازع تركيا إقليم الإسكندرونة. ومن العبث أخيراً أن نتوهم جيش الجامعة وقد أعلن الحرب على سوريا ولبنان وفيه جنود من أبناء سوريا ولبنان - ليكون بذلك سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب، أليس ذلك المشروع من مصلحة شرق الأردن والعراق والجامعة تعمل لمصلحة الجميع

أرى أن تتجه كل دولة إلى تقوية جيشها وإعداده لتحقيق أهدافها وإدراك استقلالها التام وحريتها الكاملة، ونوم تتحقق للدولة العربية آمالها وتصبح دولا قوته فتية مستقلة لها كيان محترم غير مزعزع. . . يومئذ يجوز أن تتجه أنظارنا إلى تنفيذ مشروع كهذا.

السيد علي الشوربجي

كلية الحقوق

ص: 56

‌الكتب

صور من الريف

تأليف الأستاذ محمد زكي عبد القادر

بقلم الأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر

لقد استحفزت همة الكاتبين بعد أن أهمني إغفال (الريف)، وما فطر عليه من وداعة تبدو على قسماته، والعمل الفني يجب أن يسحق إلى غاية عالية، بخلوده إلى الحياة الملابسة لوجوده.

وليست المهابة في استبهام البيان على الإفهام، وإنما الإبانة المستدنية التي تداخل العواطف، وتعاطف القلوب، وتناجي الآمال هي التي تكشف جوانب الجمال مع صدق التعبير.

واللفظ الشعري في مبناه ومعناه له إيقاع عجيب إذا اتسق مع سواه، لأن موسيقاه لها صدى يتردد في أعماق النفوس، والمصور المفتن في تصويره المقتدر على ندائي مشاهد الحقائق حتى تتجسد في مرأى الأبصار كأنها تحسها بين الألفاظ.

وخصوصية الكاتب تظهر في لمعة ذهنه، وبراعة إلماعه وروعة تفرده مع رصانة الأداء، وجاذبية العرض، وسلامة الوحدة التعبيرية! لهذا أردت تقديم (صور من الريف) في الرسالة الزهراء؛ فقد استبنت فيها ما استبانه الإحساس الإنساني على تفاوت درجاته، وإن عمل القاص عسير إذا أراد الإلمام بالفطر الإنسانية، والتنويه يتناقض الحياة على اختلاف تخالف الأحياء!

وإن تلك الصور الرائعة قد وضحت فيها ناحية جميلة تغيب عن تقدير متناولي الأسلوب القصصي لأنها تدور مع الحوادث ثم تعود إلى التلاقي مع (وصف الريف. . . في كل خطرة منها؛ فالقصص لا تورد لذاتها، وإنما يقصد منها تبيان السذاجة الريفية في عواطفها، ومشاعرها، وعقائدها وإيمانها، وقناعتها، واستسلامها، ورضاها بالمقدور.

يقول المؤلف المقتدر في (العيد): (هذا الريف صنعه الله، والله أيضاً هو الذي صنع هؤلاء الريفيين، والله طهارة ونور وقداسة).

ص: 57

ثم يسكت الكاتب الرائع تاركاً نتيجة هذا (القياس). . . المنطقي التعبيري تلمع في خاطر قارئه المأخوذ بروعة بيانه.

ويقول في موضع آخر: (العيد في الريف ذكرى، وخشوع، وإيمان مطلق لكنه في المدن قطعة من اللهو والعبث والاستهتار).

وليس المصور في هذا التعبير متجنياً على المدينة؛ فالواقع أن جنون المظاهر تلعب، فالانطلاق على غلواء الأهواء لا يعترف بزمام التؤدة والوقار! ويدعى المدينون أن ضيق نطاق القرية يدعو إلى التحفظ وتكلف التجمل لكن الواقع يناقض دعواهم:(فالعيد في الريف نور وجمال له قدسيته وجلاله الذي يستمده من الدين)، وقد أبدع الوصاف في تلك القولة الموجزة، لأنه صور بها قوة عاطفة الإيمان لدى القروي الذي يبصر في نهاره وليله دلائل القدرة تتجمع في الآفاق؛ فتوحي إليه بتقدير القدرة العالية! وفي قطعة (ورقة النصيب):(صورة ممتعة حقاً لأنها تجمع إلى قناعة الريف المتواضع الراضي طمع الحياة الإنسانية).

ويعتقد المؤلف بين خيبة المؤمل وحب الأمل فيقول: (لم يربح سعيد بالأمل، سعيد في خياله ورجائه، ولابد أن يواتيه الرجاء والخيال يوماً).

إن في (صور من الريف) نواحي متعددة تصور لك كما قلت حقائق الحياة في نطاق التجربة، وإنما عمدت إلى (وصف العيد) و (ورقة النصيب) لأنهما يصوران حقيقة النفوس، ويدلان على تعلقها بما يستحقها أو يدفعها إلى السكينة والدعة.

ولقد تهادت بين أعطاف هذه الصور، أطياف من الحب الريفي القائم على التكتم واعتصار الفؤاد، ومن دون الإفصاح عن الانفعال حيث تضغط المشاعر بمضغط القسر والإرغام، ويصور إحساس عذراء القرية حينما تفاتح في الزواج:(سألوني هل تتزوجين؟ فعقد الحياء لساني ولم أستطع أن أتكلم، وإنما أجبت بالدموع، ألحوا في السؤال فألححت في البكاء، ولو كانوا يفهمون أو يريدون أن يفهموا لأدركوا ماذا تعني دموع عذراء).

إن الأستاذ محمد زكي عبد القادر يحب الاستدلال على ما يصدر بمقول غيره توكيداً لمراده، ونلمح دائماً حبه الاستشهاد بأقوال الفرنجة، والأدباء ملهمون يصدرون المعاني الإنسانية المشتركة على تباين الأديان والأقطار، وقد نقل عبارة عن (واشنجطن أرفنج) في

ص: 58

قطعة (على قبور أعزائنا ترمز إلى أن زيارة القبور مدعاة إلى التوبة والندم، ومع اعترافي بحسن اختياره ورشاقة ترجمته أوثر الاستدلال بما ورد في لغتنا إيناساً لها، وتقريباً لموضوع الكتاب الداعي إلى تمجيد البيئة.

هذا، ولست في إيرادي مؤاخذاً، وإنما أقصد أن يكون هذا السفر الجليل خالياً من الكلف في وجه البدر.

(بورسعيد)

أحمد عبد اللطيف بدر

ص: 59