الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 846
- بتاريخ: 19 - 09 - 1949
أخي صاحب (الرسالة)
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
أخَّرتني الأسفار والأشغال عن الاطلاع على الكلمة الكريمة التي قفَّيتَ بها على الفصول الأربعة عشر التي كتبتُها لقراء الرسالة؛ فلعلك قابل عذري في تأخير الجواب والشكر.
فأما رأيك في الكاتب وفي فصوله فقد سرَّني وحفزني إلى أن أصدَق ظنك بي ورجاءك فيَّ. وناهيك بشهادة الزيَّات، وإعجابه بمقالات، وحسبك صاحب الرسالة كاتباً وشاهداً.
وقد عجبتَ وألِمتَ من الناس لا يُبالون (بكلام يُشرق فيه الحق، وعلاج يهدي إليه العقل)، وأَعجبُ من هذا أن كثيراً من كتابنا وممن يتصدرون للتفكير والتحرير، سيرون في أقوالهم وأفعالهم سيرةً أصدقُ أسمائها أنها (الاستسلام للتيار)؛ فهم يرضون بكل بدعة، ويسايرون كل ضلالة، جرياً مع التيار، وسيراً مع الحياة، وخضوعاً للشهرة (المُودة). وإنَّ من نكد الدنيا أن تتقلب العقول والآراء مع المودة كما تتقلب أثواب النساء في هذا العصر.
وشدَّ ما يُؤلم العاقلَ الناقدَ أن يتسمى هؤلاء المسايرُون المستسلمون أحراراً وأن يهزءوا بكل ما يدعو إلى رشد، أو ينذر قومه ألا يسيروا إلى الهاوية.
وأشد إيلاماً من هذا أن الناقدين المتثبتين الداعين إلى المحافظة على ما عندنا من خير، ورد ما يأتينا من شر، تأخذهم أحياناً رهبة هذا الموكب، موكب العصر في صخبه وضوضائه، ودعاويه وأهوائه، وفتنه وزخارفه، ويرهبون أحياناً هؤلاء المسايرين للموكب يصفقون له، ويهتفون به، ويسخرون بكل ما يعترض طريقه أو يتجنب المسير فيه.
إن الخارجين على سنننا وآدابنا ليسوا في حاجة إلى المطالبة بالحرية، فهم يظفرون بها في كل مكان؛ إنما يطلب الحرية فلا يظفر بها هؤلاء المستمسكون بتاريخهم وآدابهم. أضرب مثلاً المرأة التي تسبح في البحر وترود على شاطئه عارية أو كالعارية، لها الحرية أن تسبح وترود أينما شاءت ومتى شاءت؛ ولكن المسكينة التي تريد أن تستمتع بماء البحر وهوائه وشمسه وتأبى أن يراها الناس في لباس البحر، لا تجد حريتها ولا تمكَّن مما تريد، ولا يحميها القانون لييسر لها الاستمتاع بالبحر، ولا يخصص لها مكان أو زمان لتستمتع بحريتها وتستمسك بأخلاقها.
والأمثال في هذا كثيرة والقياس يسير والخطب جليل.
رأى بالأمس وزير معارفنا أن يصون بنات الأمة بما يصون به بناته، فصاح به دعاة الحرية من كل جانب، وأخذه هزئ النساء والرجال على أساليب شتى. وما تجد في بلدنا داعياً يملك عقله وقلبه فيدعو إلى ما يراه حقاً وخيراً إلا كان أحدوثة الساخرين والساخرات واتخذته الصحف تفكهة لقرائها وضُحْكة.
وقد كتب كاتب من كبار كتابنا يسمى هذا الوزير وزير التقاليد ويسخر به، ويتحدث عن الحياة وقضيتها، ويتكلم عن الأيام والساعات والدقائق والثواني، وهي ماضية سراعاً، ونحن ماضون معها لا نستطيع لها رداً. فلا نستطيع لأمر وقفاً ولا تغييراً
لست أدري فيم عِلمنا وفِكرنا إن حَملَنا تيار الساعات والدقائق راضين بكل واقع مستسلمين لكل حدث. إنما يذهب التيار بالأجسام الجامدة أو الميتة، فأما الحي فلا يستسلم للتيار وبه قوة، ولا يرضى الغرق وفيه رمق.
إن علينا أن نسيطر على الخليقة ونسخرها كما نشاء جهد طاقتنا، وإن علينا أن نسيِّر الحياة بعقولنا وعلومنا، وأن نقهرها لإرادتنا ما استطعنا. فما هذه الدعوة إلى الاستسلام بل المضيُّ إلى الموت؟ وما هذا الخضوع للعبودية باسم الحرية؟
إن الاستعباد قبيح في كل صوره؛ ولكنه أقبِح ما يكون حين يصيب النفوس، فتخضع للواقع، وتحتج بسير الزمان. إن الحر يفكر ويقول ويفعل كأن إرادته من قضاء الله، وجهادَه من قدرة الله، ساخراً بسلطان الزمان والمكان - ليخلق تاريخاً، ينشئ جيلاً، ويغير الزمان والمكان. وهل خلد في تاريخ البشر إلا من تصدى للباطل يدمغه بالحق، وللشر يغلبه بالخير، وللفساد يمحوه بالصلاح؟ وهل دعا نبي أو نادى مصلح إلا بصد التيار الجاري، ورد الأحداث السائرة، وتغيير السيرة الفاسدة.
إن الذي يربح نفسه وعقله من تكاليف الإصلاح ومشقة الجهاد يساير الزمان، ويحتج بالمكان، ويمضي مع الماء أو الريح؛ ولكنِ لله خلقاً يحملون كل عبء، ويعانون كل مشقة، ويستصغرون كل هول، ويسخرون من كل سخرية، ليثبتوا بالحق وفي الحق على مضى الأيام والساعات والدقائق والثواني كالطود في مجرى السيل، والحق في معترك الأباطيل.
يا أخي الزيات: إنها لفتنة، وإنها لمحنة. وسيمضي الأحرار لا العبيد، يقولون ويفعلون ويجاهدون حتى يبلغوا غايتهم أو يقضوا نحبهم على السبيل قاصدين وعلى الله متوكلين.
وإني لأدعوك وأمثالك من الفئة القليلة الغاضبة للحق، الناصرة للخير، إلى الكتابة، والصدع بالدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الأمانة، على رغم الزمان، وعبيد الزمان.
(ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
(الإسكندرية)
عبد الوهاب عزام
صور من الحياة:
جنة الشيطان!
للأستاذ كامل محمود حبيب
(يا لحوم البحر. . . سلخك من ثيابك جزار!)
مصطفى صادق الرافعي
لشد ما شاقني أن أقضي ساعة من العمر إلى جوارك - أيها البحر - ساعة أفزع فيها من وقدة الغيظ إلى ربيعك الغض الرطيب، أسعد بالراحة من عناء العمل، وأسكن إلى الهدوء من صخب الحياة، وأتحلل من دواعي العيش، وأنفض وعثاء الطريق! فأنا - دائماً - أجد فيك هدوء البال، وراحة النفس، وصحة البدن. . . إنني ما زلت أذكر يوم اللقاء الأول - أيها البحر - يوم أن كنت فتى غضَّ الإهاب، ويّق العود، بسَّام الخواطر، لا تشغلني نوازع الحياة، ولا ترمضني صفعات الرزق، لا أرى الدنيا سوى متعة الروح ولذة القلب وفرحة النفس. . . ورأيتك - لأول مرة - فراعني موجك الثائر وهو يتلاطم في قسوة ويتهارش في عنف، وأزعجني هديرك الصاخب وهو يصّاعد في عنفوان لا يهمد، وأخذتني روعة المنظر الهائل حين كلَّ البصر عن أن يحيط بنواحيك، وحين عجز الخاطر عن أن يلم بأطرافك، وسحرتني الشمس وهي تكاد تتوارى خلف الأفق، فتندفع تبكي أفولها بعبرات من دم أحمر قان يتألق على صفحة اللجة التي توشك أن تتردَّى فيها. . . فوقفت أتأمل في صمت، وقد غلبتني الحيرة، وسيطر عليَّ الذهول. . . فما استطاعت الكلمات أن تتحدث عن بعض خلجات فؤادي، لأن عالمك أدهشني يوم اللقاء الأول، أيها البحر. . . وكنت حينذاك شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه في غير غناء وأبلغه في غير عنت. وللشباب أساليب شيطانية ماكرة تؤرثها عزيمة جياشة لا يعبث بها وهن ولا يقعدها ضعف، فانسربت في مسالك الطيش أنعم بأفانين اللذة وأرشف رضاب السعادة، هنا. . . هنا على شاطئك الجميل الجذاب، أيها البحر.
والآن - وقد انطوت سنوات وسنوات منذ يوم اللقاء الأول - وما زلت أحس بالذكرى الرفافة تتقد في خاطري، لأنني كنت شاباً عزباً أحتال للأمر فأنفذ إليه.
واليوم جئت إليك بقلب الرجل وعقل الفيلسوف، فماذا رأيت فيك، أيها البحر؟
وجلست بازائك أياماً استشف حكمك من خلال الموج وأقرأ خواطرك من ثنايا الزبد وأتسمع كلماتك من بين الصخب، وإن قلبي ليفتقد جمالك الأول لأنه شاب فلم يعد يحس سحرك القديم.
وأخذ القوم يغدون إليك أرجالا خلف أرجال وزمراً من وراء زمر، فغطى لغطهم على همساتك وتلاشت نبرات صوتك الرقيقة خلال الضجة العنيفة على الشاطئ. فغاظك أن تعجز - وأنت عظيم - عن أن تسكت هذا اللجب، ففار موَّارك واضطربن أمواجك، ووقف الجمع حيالك ينظرون في عجب ومن أمامهم (الراية السوداء) تنذرهم بالخطر العظيم. ثم استخفك الطرب حين رأيتك تظفر بهذا الجمع فتنفث في نفوسهم الفزع والرهبة، فغبرت أياماً تقهقه بضحكات ساخرة مخيفة، وطالت ثورتك فرحت أحدث نفسي: (غداً، حين ينفرط عقد الصيف، يعود إليك - أيها البحر - الهدوء وتشملك السكينة لأنك تكون - إذ ذاك - قد نفضت عن نفسك همَّ هذا المشهد.
وسمعتك - أيها البحر - تحدثني من خلال ثورتك قائلاً:
(هذا الشاطئ كان هاجعاً يغط في نومه فلما دبت في جنباته أول سمات النشاط والحركة هب الشيطان من سباته العميق ينشر زخرفه على أعين الناس وهو يترنم بالنشيد الأرضي الساحر فانطلق الحشد صوبه يتهافتون على بضاعته في غير وعي ولا عقل، وما زخرف الشيطان إلا اللذة والشهوة والفجور. . .
(هذا الشاطئ هو الجنة الشيطانية التي تضم ألف آدم وألف حواء، ولكنها لا تبسم عن نبتة واحدة ولا تزدهر بثمرة، إلا ورقة التوت. . . ورقة صاغها الشيطان بيده الصناع ليتوارى خلفها ثم يندفع من بين ثناياها يبذر فراس الإثم في القلوب الفاجرة فتؤتي أكلها - بعد حين - ندماً وحسرة. والشاطئ في الصيف ملعب الفجور ومسرح الفسق ومرتع اللهو
(لا عجب، فإن حرارة الشاطئ لا تصهر إلا الفضيلة والإباء، وإن مائي - ماء البحر الملح - لا يغسل إلا الشهامة والكبرياء، وأن نسماتي اللطيفة لا تزيح عن الأنفس سوى الأنفة والعفة!. . .
(هذه اللحوم البشرية العارية جاءت تطلب الصحة والعافية والجمام فارتدغت في حمأة
الرذيلة، وتلك النظرات الزائغة تطوِّف بأرجاء المكان وفيها نهم ما يشبع وبها قحة ما تترفع، وهي - دائماً - لا ترعوى من حياء ولا ترتدع من خجل. وهذه المباذل الإنسانية تنحط إلى حوانيتها حين تتعرى عن الدين والشرف
(إنني أتقزز من هذا الفتى الذي جاء يغسل قاذورات جسمه ليكشف عن أدران نفسه
(وأمقت هذه الفتاة الطائشة حين تنفلت - بين الحين والحين - من بين يدي الرقيب، وهو هين لين، لتسمر ساعة إلى فتى من فتيان الشاطئ؛ تعرفت إليه في نزوة من نزوات القلب، واطمأنت إليه في ثورة من ثورات الشباب، فاغترها بحديثه، وخلبها بشبابه. والتاث عليها الأمر فعميت عن أن تراه وهو يجرها إلى هاوية من العبث والخطيئة، والشيطان من بينهما يُزوق الحديث ويمهد السبيل). وقلت لي، أيها البحر:
(أما هذا الرجل، فهو قصة الشاطئ وروح الشر وبلاء الإنسانية. هو رجل جاوز سن الشباب، فلمعت في فوديه شعرات بيض علامة العقل في رأس أحمق، وعبثت أنامل الأيام بنضارته فسطرت خطوط الرزانة على جبين فارغ. هو أب وزوج، ولكن أنانية عاصفة دفعت به إلى هنا ليعيش وحده عمراً من عمره ينبغي الفراغ من أعباء الحياة وينشد الراحة من قيود الأسرة ويطلب النجاء من أغلال الدار. ومن ورائه زوجته وأولاده يتلهبون في لظى القاهرة، ويتحرقون في عذاب الوحدة، ويتقلبون في ألم الفراق
(وبهره منظر البحر وهو يموج في آذِّيه، وخلبته هبات النسيم وهي عليلة ندية، وسحرته الأجسام العارية وهي تتألق في ضياء الشمس، ووسوس له الشيطان فانطلق الرجل فيتبانة يذرع الشاطئ وإن في عينيه الظمأ والفجور
(يا لضعة الإنسان إن خلع إنسانيته ليصبح وحشاً كاسراً لا يؤمن إلا بشريعة الناب والظفر!
(واطمأن الرجل - بعد لأي - إلى فتاة من فتيات الشاطئ. . . فتاة في ريعان الشباب ةرونق الحياة وجمال الأنوثة، تقضي سحابة يومها بين طفلين تحت مظلة، فهو يرمقها بنظرات شرهة جامحة، وهي تختلس إليه نظرات متكسرة. وابتسم هو وابتسمت. ثم انطوت الأيام فإذا الفتاة قد أسهلت وانقادت، وإذا هي إلى جانب صاحبها يتحدثان في غير رقبة ولا حذر رغم أنها زوجة وأم؛ زوجة موظف صغير طارت عن بيته لتنعم هنا بالحرية بين طفليها. لقد نبذت زوجها هناك في القاهرة يذوق مرارة الوحدة والحرمان في
الدار؛ ويعاني عنت العمل في الديوان ويقاسي لظى الهاجرة في المدينة. نبذته هناك ليدخر للذاتها ثمرات جهده وكدَّ عقله وراتب شهره.
(ليت شعري، ماذا عسى أن تقول الخائنة لزوجها إن هي جلست إليه في خلوة تحدثه حديث البحر؟ وماذا عسى أن الزوج الوضيع لزوجته المسكينة؟
غداً تعود الزوجة إلى دارها وفي قلبها ذكرى، ويعود الزوج إلى أهله وفي فؤاده هوى).
ثم تلاشت همساتك - أيها البحر - بين صيحات الجمع الزاخر وهو ينادي: أن أنقذوا الغريق. فنظرت فرأيت كهلاً من كهول الشاطئ تصفعه الأمواج في غير رحمة ويجرفه البحر في غير شفقة، وقد خارت قوته ونفذ جهده، وأبناؤه على الشاطئ يصرخون في لوعة وأسى: أبي. . أبي! وزوجته تصك وجهها في جزع وحزن. وتدافع الشباب يشقون أمواج البحر في قوة وعزيمة، ثم حملوا الرجل إلى الشاطئ بعد جهد فإذا هو جثة هامدة
يا لقلبي! لقد جاء الناس يطلبون الصحة والعافية والجمام فإذا هم بين غريق في الشهوات وغريق في اليم. . .
كامل محمود حبيب
فن القراءة
للأستاذ إيليا حليم حنا
القراءة فن له أصوله وقواعده كأي فن آخر، وهي أداة تثقيف واستزادة في كل الفنون المنوعة الأخرى. وقد أصبح لها الآن عيادات ملحقة بالجامعات في أمريكا اسمها (عيادات المطالعة) غرضها إصلاح عيوب القراءة والإرشاد إلى أصولها وقواعدها. هذا بالإضافة إلى آلاف الكتب والمقالات التي عالجت هذا الفن وما زالت تمدنا بخبرة رجال التربية وعلم النفس وتجاريهم في ضبط أصول هذا الموضوع الحيوي الذي لم يكتب عنه في العربية إلا القليل من المقالات التي لا تتعدى أصابع اليدين.
إننا ما زلنا لا تولي درس المطالعة العناية الكافية في مدارسنا. والذين يقومون بتدريس هذه المادة المهمة يرون أنها فرع تافه من فروع اللغة العربية، ولذا تراهم كثيراً ما يشغلون وقتها بقواعد اللغة أو التطبيق، وذلك لأننا لا نعد مدرس اللغة الإعداد الكافي لتدريس هذه المادة المهمة، وإننا نجهل حتى الآن أن القراءة فن يجب أن يدرس على الأقل للذين نعدهم للتدريس فيعرف المعلمكيف يعلم الطفل القراءة في مراحل نموه العقلي ومتى يقوم بتعليم القراءة الجهرية والقراءة السرية والقراءة البطيئة والقراءة السريعة ويعرف أن الغرض من المطالعة تعويد الأطفال على حب القراءة وتربية ملكه الانتباه وسرعة الإدراك وإنماء قوة التفكير والقوة المتخيلة.
ويتكلم (الدكتور نيل رايت) رئيس قسم علم النفس بكلية (جور دانهل) عن أهمية درس المطالعة في حياة الطالب فيقول (تعليم الطفل القراءة مهمة ذات مسئولية خطيرة تتطلب درجة عالية من المهارة في فن التدريس والثقافة)
إننا لا نشترط في مدرس المطالعة إلا أن يكون ملماً بفنون اللغة فيرهق التلاميذ الصغار بضبط أواخر الكلمات والكبار بالإعراب فيرى كل منهما درس المطالعة عبئاً ثقيلاً لا لذة فيه، وهي الطريقة العتيقة المسئولة عن تنفيرنا من القراءة وكراهيتنا لها أثناء مرحلتنا الدراسية وبعدها.
القراءة الناطقة:
القراءة قد تكون ناطقة ولكنها غير مسموعة وإليك ما قالته الدكتورة (ستلاسنتر) رئيسة
عيادة المطالعة بجامعة نيويورك: (إذا أردت أن تعرف هل تقرأ بصوت أو لا فالمس شفتيك بخفة وأنت تقرأ، فإذا كانتا لا تتحركان فالمس عنقك عند أوتار الصوت، فإن وجدتها تختلع قليلا فأنت تقرأ بصوت).
ويلذ للطفل حتى سن الثامنة أو التاسعة أن يقرأ قراءة منطوقة جهرية لأنه يدرك أثناءها نبرات صوته ويتذوقها ولذا يجب أن نستغل حبة هذا للقراءة.
وفي هذه القراءة المنطوقة يستعمل الطفل عضلات النطق ويحرك شفتيه ويتوقف لفهم المنطوق وبوساطتها يكون معجمه اللغوي. وهذه القراءة لازمة لتعليم الطفل في مراحل نموه الأولى لإتقان النطق وإخراج الألفاظ من مخارجها وضبطها بالشكل وجودة الإلقاء، كما أنها تساعده في تلك المرحلة على محاولة فهم ما يقرأ لأن استعمال حاستين في القراءة أقوى من استعمال حاسة واحدة؛ ففي القراءة الناطقة تصل رسالتان إلى الدماغ في وقت واحد فتصبح العبارة أقرب للفهم وأثبت في الذهن، أي أنها تترك أثراً أعمق في طيات المخ. وهي تخلق الجرأة في الطفل وتعوده على الخطابة والتكلم في الجماعات. ولكن القراءة الصامتة تفضلها في هجاء الكلمات لأنه فيها يكون غير مقيد بمستلزمات المطالعة الجهرية من جودة النطق وتنويع الصوت حسب المناسبات. والتلميذ في المطالعة الجهرية قد يخشى النقد فيقرأ دون أن يعي ما يقرأه.
والقراءة الناطقة المسموعة فن لازم لبعض الناس؛ فهي وسيلة لإسماع الغير ما نقول بصوت عال واضح ونبرات تتمثل فيها احساساتنا وشعورنا. ويحتاج إليها الزعماء والخطباء والمحامون والمعلمون وأعضاء المجالس النيابية. ولكن هؤلاء لا يحتاجون إليها مطلقاً في قراءاتهم الخاصة. إننا إذا أردنا الاطلاع على التقدم العلمي والثقافات المختلفة لنجارى في التفكير العصر الذي نعيش فيه وننتفع بما تقرأ في حياتنا العملية فإننا نستعمل القراءة الصامتة، لأن القراءة الناطقة قراءة بطيئة لا تستعمل بعد التاسعة إلا فيما ترغب أن نسمعه لغيرنا. والسبب في هذا البطء أنها تتقيد بالسرعة التي تنتج بها عضلاتنا الصوتية الصوت. ومعدل القراءة بها 120 كلمة في الدقيقة للشخص العادي الكبير.
ولا يخفى أن القراءة الجهرية تجهد العضلات الصوتية ويشعر بها كل من يستمر نصف ساعة يقرأ بصوت مرتفع، ويعجز الشخص عن القراءة بصوت عال مدة تزيد على الساعة
مع أنه يستطيع مواصلة القراءة الصامتة ساعات متوالية.
القراءة الصامتة:
القراءة الصامتة قراءة بصرية دون نطق، تتعطل فيها وظيفة الأوتار الصوتية والشفاه، ومداها البصر والتركيز الذهني. وهي قراءة سريعة لأننا لا نتقيد فيها إلا بالسرعة التي يعي بها العقل معنى ما نقرأه. وقد دلت تجارب الدكتور استارك على أن سرعة القراءة الصامتة للطفل الذي في الثامنة من عمره كلمة أو كلمتان في الثانية، أو 126 كلمة في الدقيقة، أي أنه يكون أسرع من الشخص الكبير الذي يقرأ قراءة منطوقة. والطفل الذي في الثالثة عشرة من عمره يقرأ قراءة صامتة بمعدل أربع كلمات في الثانية أي 240 كلمة في الدقيقة.
والقراءة الصامتة أكبر معين على فهم العبارات التي تقرأ والإلمام السريع بما تنطوي عليه من الآراء، لأنه فيها ينطوي الإنسان على نفسه ويتجرد من عالمه الخارجي، ويكون مخه مصدر النشاط لا يشغله سماع اللفظ ورنين الصوت ومحاولة ضبط الكلمات بالشكل، بل ويشعر بحماسة ولذة لأن ما يقرأه يملأ عقله وشعوره وحسه.
والقارئ الصامت يقتنص المعاني من أطراف الألفاظ ويلتقطها من خلال السطور ويقفز ببصره قفزاً فوق حروف الجر والعطف. . . والأفكار السهلة المعروفة لديه من قبل. وهو لا يرى الكلمات مركبة من حروف بل يراها صوراً يعرفها من مظهرها العام. وهو أثناء القراءة لا يحمل الكلمات إلى مخه بل يمر عليها بنظره فيقفز معناها إلى عقله. وتتوقف سرعة استيعاب معاني الألفاظ على مبلغ تمكن الشخص من لغته ومن الموضوع الذي يقرأه. وهو عندما يقرأ الجمل تتحول بسرعة إلى صور في عقله. فمثلاً عندما يقرأ هذه الجملة (أسرع الأسد خلف الرجل فأدركه وألقى به على الأرض وأخذ يمزقه بأنيابه ومخالبه) يراها بعين عقله صوراً لا ألفاظاً؛ يرى ثلاث صور متلاحقة تمر مروراً خاطفاً في مخيلته؛ يرى صورة الأسد يعد مسرعاً وراء الرجل، ثم الأسد يلقي بالرجل على الأرض، ثم الأسد وقد جثم فوق الرجل يمزقه بأنيابه ومخالبه.
وعندما يجول القارئ الصامت بين بدائع الفن وآيات الأدب وحقائق العلم تنتقل نفسه لحظات إلى ما وراء عالم الحس وينكب على الفكرة إنكباب العالم في معلمه على أدواته
يرصد الحقائق العارضة وتستيقظ فيه خصائص المخيلة ووظائف التفكير ونراه في نوبة توقد يحس بمعاني الكاتب حساً ويشعر بالحياة والحرارة في أفكاره.
ويتعود الطفل القراءة الصامتة إليه إن وضعنا بين يديه الكتب التي تمده بغذاء عقلي لا يثقل عليه هضمه ويتمشى مع معجمه اللغوي في مرحلة النمو التي يمر بها ويثير ميوله ورغباته ويشبع غريزة حب الاستطلاع فيه كما يجب أن نعطيه الكتب الصغيرة التي لا تستغرق وقتاً طويلاً في القراءة حتى لا يسئمه طول الوقت وطول الموضوع فيلجأ إلى القراءة الجهرية ليتخلص من سأمه بسماع صوته الذي يساعده على التركيز الذهني الذي أوشك أن يفقده بطول مدة القراءة.
القراءة البطيئة:
(أ) تطور السرعة في القراءة:
يتدرج الطفل في القراءة من بطئ إلى سريع ومن سريع إلى أسرع تبعاً لربط الكلمات بمدلولاتها؛ وحينئذ يتمكن من أن يقرأ الكلمة بدون أن يقطعها إلى حروف ويفهم معناها بدون تفكير. وتزداد سرعته في القراءة بوفرة محصوله اللغوي والذهني.
ونحن الكبار تزداد سرعتنا أيضاً بنضوجنا الذهني وسعة اطلاعنا ووفرة معلوماتنا وتمكننا من اللغة ومفرداتها ومدى اطلاعنا في الموضوع الذي نقرأه؛ لذا نرى المبتدئين في بعض العلوم لا يسرعون في قراءتها لأن عدم الإلمام بها يلزمهم التوقف.
(ب) متى يلزم البطء في القراءة:
لا تدل القراءة البطيئة على شيء إلا على قلة المحصول اللغوي للفرد وعدم نضوجه الذهني. والقارئ البطيء غالباً ما يكون آلياً يحرك شفتيه عند القراءة أو سماعياً يقرأ بصوت مسموع لتنتقل الألفاظ من أوتار صوته إلى أذنيه.
والقراءة البطيئة من أكبر عيوب فن القراءة ولكنها تكون ضرورة لازمة في الحالات الآتية:
1 -
عند القراءة التي يقصد بها التحليل والنقد.
2 -
في الكتب العلمية الدقيقة ككتب الطبيعة والفلك وعلم النفس.
3 -
في الكتب التي تقرأ لإشباع لذة وجدانية كالشعر والنثر الفني والأدب الراقي وكل ما
يقرأ للتذوق.
والقارئ في هذه الحالات قد يقرأ بصوت مسموع بعض الفقرات والأبيات للاستمتاع بها، وقد يعيد قراءتها عدت مرات للتمعن فيها أو استيعابها ولكنه يقرأ كل ما يراه مفهوماً قراءة سريعة خاطفة ليوفر الوقت لكل ما هو معقد يحتاج إلى الروية في التفكير والاستيعاب.
(جـ) القارئ الضعيف (البطيء):
1 -
يقرأ كتاباً سهلا بسرعة تتراوح بين 100و150 كلمة في الدقيقة.
2 -
يقرأ كلمة ويقف عند كل لفظ تقريباً لأنه ضيق المعرفة كما أن محصوله اللغوي ضئيل.
3 -
يقرأ الكلمة أو الجملة مرات حتى يفهمها جيداً باستجماع كل مدلولاتها في ذهنه.
4 -
يقرأ بعينيه وشفتيه ولسانه وحنجرته وأوتاره الصوتية.
5 -
لا يركز تفكيره تركيزاً كاملاً بل ينشغل كثيراً بالعالم الخارجي من ضوضاء ومناظر وحوادث لأنه يتلكأ ويتبطأ في الوقوف عند كل كلمة.
6 -
غالباً ما يترك ما يقرأه دون أن يتم قراءته وأقصى ما يستطيع أن يقرأه في المرة الواحدة لا يزيد على اثنى عشرة صفحة
(د) القارئ العادي:
أما القارئ الوسط البالغ الذي يقرأ 225 كلمة في الدقيقة في الكتب فهو قارئ عادي في حاجة أن يدرب نفسه ليزيد سرعته
ومعدل سرعة القارئ العادي في المدارس الثانوية 300 كلمة في الدقيقة وفي المدارس العليا 350 كلمة في الدقيقة.
القراءة السريعة:
(أ) متى يمكننا القراءة بسرعة:
1 -
كلما زاد عدد المفردات التي يفهم الفرد معناها الحقيقي المقصود منها ازدادت قدرته على التفكير والفهم بسرعة.
2 -
عندما يزيد النضوج الذهني للشخص بوفرة المعلومات وسعة الاطلاع يكون أقدر على التفكير الهادئ السريع.
(ب) القارئ السريع:
1 -
يقرأ بسرعة لأنه يفكر بسرعة نتيجة لمحصوله اللغوي الوافي ومعلوماته الواسعة وقوة بصره.
2 -
يقرأ 600 كلمة أو أكثر في الدقيقة في المجلات أو القصص ومن 400 إلى 500 كلمة في الأبحاث العميقة الدقيقة.
3 -
يلتقط المعنى الكامل للجملة من نظرة واحدة ولا يقرأ كلمات منفردة، ويتخطى الكلمات التي لا أهمية لها مثل حروف الجر وأدوات التعريف وحروف العطف والضمائر. . . الخ.
4 -
يستطيع قراءة الكتاب في جلسة واحدة.
5 -
يتجه كل وعيه إلى ما يقرأ ولا يشغله عن ذلك مؤثر خارجي، بل يركز فهمه ويحصر ذهنه ويشعر بلذة وحماسة تجعلانه يلتهم ما يقرأه التهاماً.
6 -
يفهم ما يقرأ ويتمشى تفكيره مع المؤلف ويوافقه أو يخالفه بسرعة.
7 -
يستوعب السطر العادي المطبوع في حركتين أو ثلاث حركات للعين.
8 -
يمكنه أن يقرأ كتاباً أسبوعياً ما عدا ما يقرأ من الكتب التي تتعلق بمهنته والمجلات الأسبوعية والشهرية والدورية والصحف اليومية والنشرات.
(جـ) القراءة السريعة ضرورية لازمة:
إنها ضرورة ماسة لجميع رجال الفكر والأعمال لمجاراة العصر في تفكيره وخاصة وإن الإنتاج العقلي لا يحده حصر وأعمالنا وواجباتنا لا تتيح لنا وقتاً كافياً للقراءة. وهي أشد ما تكون لزوماً في الأحوال الآتية:
1 -
عندما يكون أمامك مراجع كثيرة للبحث عن نقطة معينة.
2 -
عند قراءة الصحف اليومية والمجلات لأنك في مثل هذه القراءات تريد الفكرة العامة بالإضافة إلى كون الأسلوب الصحافي في غاية السهولة يفهم بدون بطء.
3 -
عند قراءة الأجزاء المعروفة لديك في كتاب جديد أو مقال.
4 -
عندما تريد اكتساب نظرة طائرة عن الموضوع.
5 -
عندما تكون راسخاً في الفن الذي تقرأه أو ملماً به ولست مبتدئاً فيه.
(د) اختبر سرعتك:
اختر صفحة من كتاب لم تكن قد قرأتها من قبل بحيث لا تكون معقدة لغوياً ولا تحوي أفكاراً بعيدة عن مجرى تفكيرك اليومي ومحصولك الثقافي ثم أقرأها بسرعة كما تقرأ في المجلة للتسلية وليس للفحص والتدقيق، ثم وقت ما تفعل بدقة ثم اقسم عدد كلمات الصفحة على عدد الدقائق التي استغرقتها في قراءتها فتعرف سرعتك في الوقت الحاضر. لو وجدت أنك تقرأ 300 كلمة في الدقيقة فأنت في حاجة إلى أن تزيد سرعتك. تمرن لمدة شهر واختبر مقدار سرعتك يومياً في مذكرتك فتجد أنك في نهاية الشهر تقرأ من 400 إلى 600 كلمة في الدقيقة فإنه من الممكن أن تمرن نفسك على السرعة حتى تقرأ صامتاً ثلاثة أو أربعة أضعاف ما يقرأ الآن.
(هـ) كيف تحسن القراءة:
دلت التجارب على أن سرعة الفرد في القراءة تزداد بمقدار 35 % بالتمرين اليومي. فاحمل نفسك على أن تقرأ ربع ساعة يومياً بأسرع ما يمكنك حاصراً كل ذهنك وانتباهك فيما تقرأ، ثم سجل عدد الكلمات التي أمكنك قراءتها كل يوم. قد تجد أول الأمر أن السرعة تحول بينك وبين الفهم، ولكن لا تلبث بعد التدريب اليومي أن تجد أنك تستوعب من المعاني أكثر فأكثر.
زد عدد الكلمات التي تقرأها كل يوم عن سابقه بالتدريج بحيث تفهم ما تقرأ. لا تقرأ كلمة كلمة واعتد قراءة الجمل. وإذا كنت ترجع نظرك بين الفينة والفينة إلى كلمة أو كلمتين تريد استيعاب المعنى فاقض على عادة الرجوع هذه واستمر حتى تنتهي من الجملة على الأقل. ويمكنك تجنب إعادة القراءة بأن تجعل بالك إلى فكرة الكاتب.
تعلم أن تثب وثباً حكيماً لتقبض على الفكرة الرئيسية، ولكن لا تتجاوز الكلام بل اعبره بأن تمر عليه بلحظك مراً سريعاً والتقط الألفاظ الرئيسية.
بعد قراءتك التدريبية يومياً لخص الأفكار الرئيسية التي خرجت بها من قراءتك السريعة ثم عد وتمعن في قراءة نفس القطعة، ولخص في أثناء قراءتك هذه، المعاني الرئيسية والفكرات الأساسية واعمل نسبة مئوية لمقدار استيعابك ما قرأت بسرعة.
وفق بين سرعتك والمادة التي تقرأها، فمثلاً في قراءة الصحف والمجلات يمكنك أن تمر مراً خاطفاً على الأخبار مستوعباً معنى فقرة بأكملها في نظرة واحدة وبعد ذلك تتمكن من
أن تمر مراً خاطفاً بارعاً على الصفحة كلها مختاراً الفقرات والأفكار الدالة، وفي الإمكان أن تصل إلى سرعة من 800 إلى 1000 كلمة في الدقيقة في القراءة الخاطفة في الموضوعات البسيطة التي لا تحتاج إلى دراسة عميقة وإمعان كالقراءة في الصحف اليومية.
ويدهشك أن توماس كارليل وثيودور روزفلت كان لهما قدرة عجيبة على قراءة صفحة بأكملها بنظرة واحدة. ويدهشك أكثر عندما تعرف أن السر في إنتاج البروفسور لاسكي الإنكليزي في عالم التأليف يرجع إلى قوته الغريبة وسرعته في القراءة التي لا تفوقها سرعة إذ يستطيع أن يتصفح مجلداً ضخماً ويستوعب كل ما يستحق الاستيعاب بسرعة 260 صفحة في الساعة.
(أسيوط)
إيليا حليم حنا
مدرس أول للغة الإنجليزية والآداب
مدرسة النهضة الوسطى الأبيض، سودان
الشاعر في الشارع
للأستاذ أنور لوقا
نشرت (الرسالة) في أعداد سابقة بعض أقاصيص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه. وألفونس دوديه كاتب ساحر، حلو الحديث، كبير القلب، ساذج عميق، أحبته النفوس على تنافر نزعاتها، واستعذبته الأذواق على اختلاف مواردها، والتف به الجمهور على تشعب مذاهبه وتناثر أهدافه. . . سحر النساء والشعراء، وسحر الكافرين بالشعور والضاربين في طين المادة، فتن أولئك المحلقين في الخيال، وفتن هؤلاء المحدقين في الواقع، راق المدنفين بالرقة، وراع الهاتفين للقوة، وأطرب الذين يجول الدمع في عيونهم، وأشجى الذين لا تفارق البسمات شفاههم، ومزج فيض الحنان بمرح الفكاهة دائماً. . .
كاتب ساحر نظر إلى الشيء الصغير نظرة كبيرة، وكشف في الشيء المبتذل ناحية طريفة، وقرن المعنى القديم بالظاهرة الجديدة، وصور الحقيقة الملموسة في وشى من الوهم الجميل. . .
وإذا حاولنا أن نقف على منبع هذا (السحر) في أدبه، رجعنا إلى شبابه ونشأته.
ليس من العبث أن يبدأ الأديب بالشعر، ولا الفتى الشاعر يضيع وقته لأنه ينفقه في الحلم والتأمل.
أو لا ينبغي للكاتب الناشئ أن يعيش في برج من العاج قبل أن يهبط إلى الأرض، ويخبط في زحمة الشارع؟
يقول الناقد (جول لميتر) في سياق حديث له عن ألفونس دوديه: إن خير ما تفعله، حتى نحسن تقدير ما تعج به الدنيا، هو أن نلم أول الأمر بأطراف من جمال السماء. . . وتلك ملاحظة خليقة بأن تسلط الضوء على وجه كاتبنا الساحر من زاوية ممتازة.
ومن هو الشاعر؟
يجب أن نتفق أولاً على أنه ليس الذي ينظم الأبيات، كما تظن العامة دائماً.
الشاعر قبل كل شيء - وما أصدق تسميته في اللغة العربية - كائن مرهف الشعور، يسره شيء صغير، ويبكيه شيء صغير، وتكاد تهتز أوتار حسه من لا شيء. . .
إنه يستأنس الأشياء جميعاً، ويندمج في وجودها، ويعيش فيها وتعيش فيه، فيخفق قلبه إذا
أسرعت، ويهدأ إذا أبطأت، وتلهث أنفاسه لضيقها وكربتها، أو ينشرح صدره لبردها وسلامها، وتصطبغ نفسه بلونها قاتماً كان أو زاهياً.
لكل شيء عنده قيمة شعورية، وطاقة عاطفية، ومعنى باطني، فهو يعنيه النبض والدبيب لا الحجم والمساحة، هو يعي ألباب الأشياء وقلوبها قبل أن يعي أشكالها ومظاهرها. لا يكاد ينظر إلى الصور، وإنما يستقبل ما تلقى هذه الصور في نفسه من أحاسيس. . . ذلك أن البصيرة عنده أنفذ من البصر، والوجدان عنده أقوى من العين، وبهذا يمتاز الشاعر من المصور: ذاك تطغى عليه ملكة الشعور، وهذا تطغى عليه ملكة الملاحظة.
وحين ينزل الشاعر من عليائه ويلتفت إلى دنيا الواقع، ثم يتجه نحو سوق المجتمع، ويريد هناك أن يخالط الناس، ويتفهم الخلائق، ويدرس الحياة، إذن فسيهمل الشيء المبتذل، والشيء الأجوف، والشيء الرخيص. سيهمل في الحياة كل ما هو حشو. سيصغي ويرى ويلمس، ولكن هيهات أن يعلق بذهنه إلا كل طريف عميق، ولن يسجل من كل ما يجد حوله إلا الجدير بالتسجيل، ولن يقدم لنا في آخر الأمر إلا مشاهد فنية غريبة رائعة استطاعت أن تستأثر بوعيه وتستغرقه استغراق خياله السابق.
وألفونس دوديه بدأ بالأحلام، وإنا لنقرأ في الصفحات الأولى من قصة حياته المؤثرة (الشيء الصغير) كيف كان طفلاً رقيق العاطفة في (نيم)، يقضي نهاره في حديقة الار وفناء مصنع النسيج الذي أنشأه أبوه، متخيلاً أنه (روبنسون كروزو) في جزيرته، ثم كيف أحزنه فراق تلك الربوع عندما أفلس أبوه وهاجرت العائلة من المدينة. قال: (شهراً كاملاً، بينما كان أهل البيت يحزمون الأمتعة، كنت أتمشى حزيناً وحيداً في مصنعي العزيز. لم يكن قلبي لينصرف إلى اللعب في تلك الأيام كما تقدرون، لا، بل رحت أجلس في كل ركن، أنظر إلى الأشياء من حولي وأخاطبها كأني أخاطب أشخاصاً. . . وكانت في أقصى الحديقة شجرة رمان كبيرة قد تفتحت أزهارها الحمراء الجميلة للشمس، سألتها واحدة من أزهارها فأعطتني، ووضعت الزهرة في صدري تذكاراً لها. . . لقد كنت بائساً شقياً. . . ثم خرجنا. . . وكلما ابتعدت قافلتنا من البيت كانت شجرة الرمان تشرئب ما استطاعت فوق جدران الحديقة لتنظر إلينا وتنظر إليها قبل أن تغيب. . . وكانت الأشجار الأخرى تلوح لنا بأوراقها وتقرئنا الوداع. . . وكنت شديد التأثر أرسل إليهم في خلسة قبلات حارة
على أطراف أناملي). . .
وفي ليون، يفتقد الصبي شمس (نيم) المشرقة وهوائها الطيب، فلا يجد إلا سماء قاتمة وضباباً كثيفاً، ويُلحق بكتاب (سان بيير)، حيث تستغرق الصلاة والترنيم معظم الوقت، والدرس أقله. . . وفي هذا الجو القابض، جو البيت المفلس، وجو المدينة القائمة الموحشة، سرعان ما يصبح ألفونس غلاماً عابثاً متمرداً شريراً، فإذا أدخل المدرسة الابتدائية لم يرعو عن عبثه، ولم يقتصد من لهوه، بل مضى يطلق لنفسه العنان في التخلف والتغيب والهرب، ليجدف في نهر السون حيناً، ويهيم في الريف حيناً، ويعرج على المقاهي والحافات بين ذلك. . . ولكنه يطلق لنفسه العنان أيضاً في القراءة والمطالعة، فيلتهم كتب القصص ودواوين الشعر، ويعيش في عالم مسحور بعيد عن إبداع خياله، يهرع إليه ويلوذ به كلما ضاق بالبيت والمدرسة والمدينة. . . وفي الخامسة عشرة من عمره بدأ يقرض الشعر، وأخذ ينشر الأبيات تلو الأبيات في صحيفة محلية من صحف ليون، وينضد في دفتر أنيق مادة ديوان أنيق. . .
ولكن الشعر لا يقوت أصحابه. . . لا بد من كسب العيش. . . ولابد لهذا الفتى بعينه من الاعتماد على نفسه منذ سن مبكرة، لأن مالية الأسرة ما زالت مضطربة. . . هناك يأتيه نبأ وظيفة خالية، وظيفة (مشرف) في مدرسة (إلياس) الثانوية، دفعته شجاعته إلى طلبها، وأتعسه حظه بنوالها - كما يقول هو - فقد جرعته سنة مرة من العذاب القاسي في جحيم تلاميذ خبثاء، لم يطق بعدها صبراً، بل انطلق إلى باريس يهلك في سبيلها فرنكاته المائة التي كان قد ادخرها طيلة العام لمشروع رحلة دبرها طموحه إلى مونبلييه، حيث أزمع أن يتقدم لامتحان البكالوريا. . .
ويحط في باريس فتى حالم العينين، صبوح الوجه، متهدج الصوت، حيياً كأنه عذراء. . . ولا يزال يستلهم الشعر والخيال في غرفة عالية على سطح منزل فقير، حتى يتصل - لنشر ديوانه - بصغار الأدباء والفنانين في مجالسهم وحاناتهم. . . إذ ذاك يرى ويلمس واقعاً من الحياة ساحراً نابضاً غريباً، حافلاً بروائع كالتي أنسها في أحلامه. . . وها هو ذا يقبل على تلك الحياة (البوهيمية) إقبال الظامئ على شراب عذب، يعب ولكنه يتذوق، ويرتوي ولكنه يستمتع ويتلذذ. . . يخرج يتسكع على أرصفة باريس، ويضرب في
أحيائها، ويغشى جميع أوساطها، وينغمر في عبابها المصطخب، وحواسه المتفتحة المرهفة دائماً تتصيد الأطياف الخفية، وتسجل الصور الظاهرة، وتلتقط من الدقائق ما يغيب عن أعين الباريسيين التي اعتادت النظر وأعين المحترفين التي كلت من التحديق.
هناك وجد الشاعر بين يديه ما يجذب بصره الذي كان شارداً إلى الأفق البعيد، وجد ما يسترعي حواسه كلها، أشياء جديرة بأن ينظر إليها ويتأملها ويطيل تأملها والنظر إليها، أشياء طريفة لاحظها وعلمته كيف يلاحظها، أو لعلها أشياء عادية مبتذلة يهملها سواد الناس ولكن ملكات الشاعر فيه قد تنبهت إلى روعتها وطرافتها وامتيازها. ومن هنا كادت صور باريس ومفاتنها ومآسيها أن تصبح مادة جميع قصصه فيما بعد، ومادة (أقاصيص يوم الاثنين) بوجه خاص.
ليس إذن أفضل للكاتب الذي يريد رسم طبيعة الحياة من أن يحظى، قبل أن يخوض غمارها، بخيال خصب وشعور خصب ونحن نحس اليوم أن نفس ألفونس دوديه التي حرمت هناء الطفولة وأفراح الصبا، فباتت تنشد السعادة والحنان أحلاماً عريضة يبسطها لها الأمل ويوشيها الخيال ويحدوها الشعر، ما زالت ترفرف على أقاصيصه، تضيف إلى دقة النظرة هزة التأثر، وتؤلف من جزيئات الواقع وتفاصيل الحياة المتناثرة هنا وهناك صوراً فريدة صادقة، لا يدخل في نظمها من صنعة إلا سحر الاختيار الساذج، ولكنها لا تحتاج إلى أكثر من ذلك لكي تثير فينا هذا الشعور الغزير المتدفق الخيال النزق من صميم الواقع والملموس. . .
ولقد كان دوديه يعي عن نفسه هذا كله، ويرى في الشعار الذي اتخذه جوته - (الحقيقة والشعر) - حكمة غنية تشمل الحياة الإنسانية بأسرها.
أنور لوفا
مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
سحابة صيف
للأستاذ ثروت أباظة
على شاطئ البحر أرسل ناظري فينطلق لا يعوقه إلا الأفق البعيد. . . تتهادى منه إلى الشاطئ موجات كل منها تتزين لملاقاة هذا الشاطئ بلون يختلف عما اتخذته صاحبتها، وإذا هي مرتمية عليه في إلحاح العاشق المشوق حاملة معها نسيماً يشتد حيناً ويلين أحياناً. . . يشتد فالشوق عارم، ويخفت فالشوق خفيف. . . والشاطئ رابض يستقبل كل ما برد، لا تلمح عليه من التغير غير بعض الماء يعلوه من أثر الخجل، ثم لا تلبث الرمال الظامئة أن تبتلع هذا الماء إلى غير رجعة وفي غير اكتفاء. . . والناس بين ذهاب وأوبة منهم من يولي الموجات نظره واهتمامه، ومنهم من شغلته حوريات أخرى، فهو غير حافل بشيء مما يدور حوله من غزل يرق ويحتدم. . . ومن الناس من اقتحم على الموجات غزلها فافسد من زينتها وعاق من شوقها. . . قاسياً عاتياً. . . وهل كان الإنسان إلا كذلك. . . فما الذي ساق صاحبي وأنا في هدأتي هذه يقطعها علي قائلاً في صوت أجش:
- سلام عليك!
- بسم الله الرحمن الرحيم. . . لا أنزل الله عليك السلام أبداً. . . من أين خرجت؟
- أعوذ بالله! أهذا لقاء؟
- فليكن وداعاً
- خيراً، ماذا بك!؟
- ليس بي غيرك، فاجلس صامتاً أو انصرف مشكوراً.
- آه. . . آسف، لقد قطعت عليك خيالك. . . آسف يا حضرة. . .
لا فائدة إذن، لقد آلمه لقائي فأراد أن يرده سخرية، وحسبي الله. . . لابد أن أقطع السخرية بمثلها واجعل الحديث كله مزاحاً. . . ليجلس. . . والبحر لن يغيض، والشاطئ لن يفر، والقسوة في الناس لن تزول: -
- لا. . . لا تأسف فهكذا أنت والله. . . با أنك عادة أكثر جموداً منك الساعة، فها أنت ذا تحس فتأسف وما كنت في يوم ذا إحساس، إجلس. . . وتكلم. . .
- أذنت لي. . . أي تنازل. . . كيف حالك وما حال الصيف معك؟
- أما حالي فالله محمود على كل شيء؛ وأما الصَّيف فلا أدري لماذا يمر بطيئاً. يخيل إلي أنه لن يزول. . . أنا لا التذ شيئاً هنا ولا يسرني غير وحدتي؛ وما كنت في يوم محباً للوحدة. . . ولكنني أجدها أقل سوءاً من غيرها.
- سحابة من ملل الصيف تزول إن شاء الله.
- وأنت. . .؟
- أنا ماذا؟
- متى تزول؟
- أعوذ بالله ماذا جرى لك؟ لقد أصبحت طويل اللسان إلى حد لا يطاق.
- أراك تطيقه
- فمتى أراك؟
- أمر عليك
- فأنت لا تريد أن تراني. . . ماذا بك. . . لن أنصرف أو أعرف.
- لقد أحسنت التهديد. . . مللت من قلة العمل والاسترخاء، وكسلت عن العمل في ذاته فاصبح حالي مزيجاً عجيباً من عمل أمامي أكسل عنه، وملل من هذا الكسل، وقعود عن إزالة هذا الملل
- كنودٌ ذلك الإنسان. . . لقد رأيتك والعمل يتكاثف عليك فتناشد الله العون وترجو منه أن يسوق إليك الصيف يرفع عنك حملك. . . وأجاب سبحانه الدعاء، وأزال عنك كدرك وساق إليك الصيف فإذا أنت تستقبله في هذا الفتور العابس وذلك الملل المصطنع.
- مرض. . .
- أنت طبيبه. . . إن نفسك هي أضرى أعدائك فحاربها. . . تضع أمامك المسالك المسدودة وهي قديرة أن تفتحها لك، وأنت قدير. . . مر نفسك تطعك، وامنعها أن تمل تمرح، وازجرها أن تعوج بك تستقم لك الحياة
- خطيب بارع. . .
- لا فائدة منك اليوم. أنا آت إليك غداً، وسوف أصحب معي رفقة ترتاح إليهم، ولأحارب أنا نفسك ما دمت تضعف عنها، سلام عليك.
- سلام؟
ومضى وسيأتي غداً. . كم كنت فظاً معه! ولكنه الحبيب الذي لا يكلفني اصطناعاً في إظهار عواطفي، فهو يقبلها كما أبديها، وأبديها كما أحسها. . . كم أحبه وكم تحمل!. على أية حال إنه غداً آت وما أظنه إلا متغلباً على نفسي. . . نعم إنها كما قال. . . سحابة صيف.
ثروت أباظة
أيها القمر
للشاعر الإيطالي (جاكو مولييو باردي)
ترجمة الأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
(صحب الشاعر في إحدى رحلاته أحد الرعاة فأوحت إليه هذه الصحبة روائع من الشعر. هذه القصيدة إحداها. ويعد شعره نموذجاً للإبداع والرقة والرشاقة الجذابة والعواطف المتأججة، ولم يكن شاعراً فحسب، بل كان عالماً فاضلاً متقناً لعدة لغات (العبرية واللاتينية والأسبانية وغيرها) وقد ولد في 1898 بمدينة (ريكانتي) ومات في نابولي 1939م).
. . . أيها القمر ما عملك في السماء؟ خبرني ماذا تعمل أيها الوحيد الصامت؟ إنك تظهر ليلاً وتسير مشاهداً البوادي ثم تختفي
ما حل بك التعب من مرورك دوماً في هذا الفضاء الخالد؟ ألم يعترك الضجر والملل؟ ألا زلت ترغب في مشاهدة هذه الوديان؟
ما أشبه حياة الرعاة بحياتك! إنهم يستيقظون في تباشير السحر يسوقون أغنامهم إلى الحقول، فيرون أمامهم قطعاناً ومروجاً واسعة وعيوناً نابعة. . . فإذا ما حل بهم التعب من الطواف طول النهار، ناموا في المساء ولا أمل لهم غير الراحة.
أيها البدر! خبرني ماذا ينفع العيش وماذا تجدي الحياة؟
ليت شعري ما الفائدة من عبورنا السريع لهذه الحياة، وما الغرض من مسيرك المتواصل دائماً؟
ها أنت ذا ترى الواحد من الرعاة شيخاً مسكيناً معُهاً يكاد ثوبه البالي لا يستر بعض جسمه، حافي القدمين، مشعث الشعر، يحمل على عاتقه عبئاً ثقيلاً لا يفارقه. . . فهو تارة يتسلق الجبال العالية وطوراً تسوخ قدماه في الرمال، يخترق الخمائل الملفتة ويسير في العواصف الهوجاء، يقاسي قر البرد وهجير الحر، يواصل جريه فلا يعوقه مستنقع يخوضه ولا صخرة يتسلقها. تراه يكبو ثم ينهض فيسرع في جريه دون توقف ليستريح ولو تمزق جسمه وانبثقت منه الدماء إلى أن يبلغ نهاية الطريق التي حددها له النصب والعناء، وهناك تتلقفه هاوية سحيقة يهوى فيها، فينسى كل ما لقيه من هم وبلاء. هذا مثل الحياة الفانية أيها البدر المنير
أيها المتفرد في عليائه؛ يولد الإنسان بالتعب والعناء، فيكون عرضة للعرض، ثم طعمة للموت. يحس أول حياته الألم والشقاء، فيبدأ أبواه يعزبانه عن ميلاده من يوم أن يوجد في المهد، فإذا نما وترعرع شرعا في مساعدته حتى يكبر، فيبذلان جهدهما في إعداده لما ينتظره من هموم الحياة، بالأقوال والأفعال، فإذا أصبح رجلاً تركاه ليحمل نصيبه من أعباء الحياة.
أخبرني لماذا نولد ونوهب الحياة ما دمنا سنسلَبُها؟ وما دام الوجود هما وشفاء فلماذا نعمل على تقوية دعائمه؟ هذه حالنا نحن الفانين. . .
أما أنت أيها القمر فلست عرضة للموت، لذلك لا تحفل بما أفضيت لك به.
أيها الساري في الليل! ربما تعلم سر الحياة وسر ما ينتابنا من آلام وما تذرف من دموع. ربما تعرف سر الموت، وشدة شحوب ألوان وجوهما عندما تودع الحياة، والحزن الذي يلم بنا عند مفارقة خلان أوفياء ومحبين أمناء.
إنك لتعلم علة الأشياء وتعرف فائدة الصباح والمساء ومسير الزمن الذي لا نهاية له.
أنت الذي تدرك سر تبسم الزهر في الربيع وذبوله في الخريف، وما فائدة الصيف المحرق والشتاء القارس. إنك تعرف آلافاً من الأسرار وتكشف فيها عن أشياء لا تخطر لنا على بال.
إنني حينما أراك صامتاً محلقاً فوق السهول المقفرة والجبال العالية، وكلما أراك تتبعني أينما سرت خطوة خطوة، وكلما نظرت الكواكب تتلألأ في السماء، أقول وأنا سابح في بحار من التفكير لم هذا الضوء الساطع والنور الكثير؟ وما معنى هذه الوحدة العظيمة! ومن أكون أنا؟
هذا ما يجول فيهفكري. . . أما المقام العظيم الذي لا تقاس مدته، والكائنات التي اختلفت أنواعها وتعددت فضائلها. . . والنشاط المستمر والحركات المتعددة التي تصدر عن الأجرام السماوية والأجسام الأرضية، تدور بغير توقف وتسير بلا انقطاع ثم إلى مصدرها الأول، فلا أستطيع أن أفهم أي غرض لها، ولا أية فائدة تقوم بها.
أما أنت أيها المختال بشبابه، المدل بجماله، فإنك لا تجهل منها شيئاً. وأما أنا فجل ما يصل إليه علمي، أن هذه الحركة المستمرة والدوران الدائم ووجدي الواهي، ربما كان فيهما خير
أو إرضاء شيء آخر، ولكن حياتي كلها شقاء وشر
ما أسعدك أيتها الشياه فأنت سعيدة مستريحة، لأنك لا تعرفين البؤس والشقاء، ولا تحسين لذع الهموم والأحزان وكثيراً ما نظرت إليك بعين الحسد، كلما نزلت بي الهموم والأحزان، لأنك لست عرضة لها.
إنك حينما تضطجعين تحت ظل الأشجار فوق العشب الأخضر النامي تكونين مطمئنة مسرورة، تقضين معظم أيام حياتك خلية البال مرتاحة الفكر.
إنني أنام كما تنامين تحت الأفياء وفوق الكلأ، ولكن لا يلبث الضيق أن يغمر نفسي، ويخيل إلي أن أشواكا تخزني وإبراً تغرز في جسمي، وأكون وأنا على هذه الحال بعيداً عن الراحة والدعة.
أما أنت فسعيدة في كل حال. وأنا قليل السرور وليس هذا كل ما أشكوه.
آه أيها الصامت إلى الأبد! لو أنك تستطيع النطق لسألتك: لم تسترح كل بهيمة كيفما تريد في حالة السكون، بينما أنا يكاد يقتلني الضيق والسأم كلما ركنت إلى الراحة والهدوء.
آه أيها القمر الزاهر! لو كان لي جناحان فاحلق بهما فوق السحاب وأعد النجوم واحدة واحدة والكواكب كوكباً كوكباً، وأطوف من ذروة لأخرى، لكنت أسعد حظاً وأهنأ بالا أيها الكوكب الفضي.
وربما كنت أنعم بالحياة وأسعد بالعيش مما أنا فيه.
إن عقلي يكاد يضل كلما حاولت النظر في حظوظ الكائنات.
إنه يخيل إلي أن يوم الميلاد يوم مشئوم لكل محلوق من المخلوقات مهما كانت فصيلته التي ينتسب إليها والحالة التي يكون عليها سواء أكانت في المهود أم في الزرائب.
فهل جانبني الصواب أيها الساحر على تعاقب الأجيال.
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ
من الأعماق.
. .
للآنسة الفاضلة (المطوقة)
سرت وحدي في غربة العمر، وفي التيه المعمي، تيه الحياة السحيق
لا أرى غاية لسيري ولا أبصر قصداً يوفى إليه طريقي
ملل في صميم روحي ينساب، وفيض من الظلام الدفوق
وأنا في توحشي، تنفض الحيرة حول أشباح رعب محيق
سرت وحدي في التيه، لا قلب يهتز صدى خفقه بقلبي الوحيد
سرت وحدي، لا وقع خطو سوى خطوي على المجهل المخوف البعيد
لا رفيق، لا صاحب، لا دليل
…
غير يأسي ووحدتي وشرودي
وجمود الحياة يضفي على عمري ظلَّ الفناء، ظلَّ الهمود. . .
والتقينا. . . لم أدر أي قوى ساقتكَ حتى عبرت درب حياتي!
كيف كان اللقاء؟ من ذا هدى خطوك؟ كيف انبعثت في طرقاتي؟
لست أدري، لكن رأيتك روحاً
…
يوقظ الشوق في مسارب ذاتي
ويذرّي الرمادَ عن روحي الخابي، ويذكى ناري، ويحيي مواتي. . .
حدقت مقلتاك فيَّ، وآلامي يغّشى ضبابها مقلتيَّه
لست أدري ما استجلتاه ولا ما رأتا خلف وحدتي الأبدية. . .
غير أني أبصرت روحك تهتز انعطافاً، في رقة علوية
وهنا خلتني شعرت بروح الله رفت من السماء عليَّه!
يا لعينك! أي نفضة بعث
…
أوجدتها عيناك في أعماقي
فإذا بالحياة عارمة النبض بفيض الحنين. . . بالأشواق. . .
وإذا بالجمال يعكس ألوان
…
رؤاه على مدى آفاقي
وإذا بي في ظل حب عظيم
…
معجز السحر، مبدعٍ، خلاق
نظرة فتحت لقلبي أبواب السماوات والجنان العليه!
وجلت لي أفقاً يموج به الوحي وتستعلن الرؤى القدسية. . .
فيه سحر الألوان، فيه صدى الألحان، فيه منابع الشاعريه!
نظرة خلف عمقها رحت أستشرف عمق الخلود والأبدية!
ومضت بي الأيام، لا أنا صرَّحتُ، ولا لهفتي الحييَّةُ تبدو
كم وكم راح يحتوينا مكان
…
وأنا صبوة توارت. . . ووجد. . .
كم حديث حدثتني، كم قصيد
…
هز روحي وأنت تروي وتشدو
وبقلبي السعيد شيء كعنف الموج، يطغى تياره ويمدّ!
ومضت بي الأيام، والزمن العجلان يجري كالهارب المجنون
وسكوني ما انفك يرخى سدولاً فوق رعشات قلبي المفتون
وتلفَّتُ بغتة، وبعمقي
…
نشوة السحر والهوى والفتون
وإذا قلبي المريح أشلاء على راحة الوداع الحزين!
وافترقنا، وملء نفسي - لو تدري - أحاسيس هائمات حيارى
وهواي المكبوت يجهش في صمت، وتهمي دموعه أشعارا
كم شجاني وداعك المرّ، كم ساءلت قلبي الممزق المستطارا
كيف كان الفراق؟ كيف انزوى وجهك عني في لحظة وتوارى؟
وافترقنا، وبين كفيَّ رسم
…
لم يزل كل زاد روحي المتيم
كم تلمستُ عمق عينيك فيه
…
وبعينيَّ أدمع تتضرم
يا لقلبي، كم راح بين يديه
…
يهتك الحجب عن هواه المكتم
أصغ، تسمع عبر الصحارى صداه
…
يترامى إليك شعراً مرنم. . .
(المطوقة)
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
إلى الأديب اللبناني الصديق سهيل إدريس:
سألتني أن أطالعك برأيي في قصتك اللبنانية الطويلة (سراب)، وتفضلت فبعثت إليَّ بعشرة أعداد من (بيروت المساء) في كل عدد منها فصل من فصول القصة، وهاأنذا أطالعك بهذا الرأي على صفحات (الرسالة) بعد أن فرغت من قراءة فصلك الأخير، ذلك الفصل الرائع الذي هزَّ في عينيَّ قطرات الدموع!
إذا قلت لك إنك قد بلغت غاية التوفيق فثق أنني لا أجاملك، وإذا قلت لك إنني أود أن أشد على يديك مهنئاً فثق مرة أخرى أنني لا أجاملك! وأظنك تعلم حق العلم أنني ما جاملتك قط، أنت بالذات، بل لعلي كنت أقسو عليك أحياناً حتى لا أترك في نفسي قارئ أثراً للشبهات ولا موضعاً للظنون!
ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغت من قراءة قصتك: ترى أي صدى خلفته هذه القصة بين جوانح القراء والأدباء في لبنان؟
أما القراء، فأنا أعلم أنهم يعجبون بك ويعطفون عليك، وأما الأدباء، فلهم معك شأن آخر؛ شأن أبرز سماته الحقد الذي يدفع إلى الظلم، وملء الطريق بالحجارة لتتعثر أقدام الناجحين!
هذا هو الشعور الذي كان يخالجني كلما خطوتَ إلى الأمام خطوة، شعور بعطف القراء وحقد الأدباء. . . هذا الحقد الذي كنت ألمسه كلما ظهرت لك مجموعة قصصية جديدة. لقد كان إخوانك في لبنان يحرصون دائماً على أن يقدموك إلى الناس في كفة تغلب فيها السيئات على الحسنات، بل لعلهم لم يشيروا إلى حسناتك إلا في القليل النادر، ومع ذلك يقال عنهم إنهم حملة الأقلام وأصحاب الميزان! وأشهد أنك كنت تلقى ظالميك دائماً وعلى شفتيك ابتسامة، وعلى قسمات وجهك آيات من الصبر الجميل. . . وتشهد رسائلي إليك أنني كنت ألومك أعنف اللوم على هذا المسلك الذي كان يثيرني منك، ذلك لأن أكثر الناس لا يفهمون ولا يدركون. . . لا يفهمون سر الابتسامة على أنه من أثر الثقة بالنفس، ولا يدركون أن الصبر الجميل مصدره الإيمان بالمستقبل! وكم قلت لك إن بين يديك قلماً
يستطيع أن يرد الطعنة طعنات، وأن يدرأ عن صاحبه تلك الحملات الظالمة التي لا تستند إلى شرعة من إنصاف ولا إلى مسكة من ضمير، فلم لا ترفع معول الهدم لتهوى به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!
وتزداد أنت صمتاً وأزداد أنا ثورة، لأنني أريد لك ولكل إنسان ناجح أن يتخذ شعاره من هذه الكلمات التي نطق بها نيتشه:(حطم كل مألوف يعترض طريقك)!
ومع ذلك، فقد مضيت في طريقك لا تكاد تصغي إلى هذا الصوت الثائر الذي يهيب بك أن تلقى العنف بالعنف، ولا إلى تلك الصيحات المنكرة التي كانت تتجاوب من حولك كلما قطعت مرحلة من مراحل الطريق. . . لقد كانت البسمة على شفتيك وليدة الثقة، وكان الصبر بين جنبيك ضريبة الإيمان! وبهذين السلاحين النادرين استطعت أن تبلغ الغاية التي كنت أرجوها لك. . . صدقني إن الدموع التي اضطربت في قلبي قبل أن تندفع إلى عينيَّ، كانت صدى صادقاً لهذا الفصل الرائع الذي ختمت به (سراب)، وكانت - فوق ذلك - انعكاساً مباشراً لتلك الأضواء التي غمرت جوانب نفسي وأنا أراك تجني ثمار الصبر والجهد والأيام المضنية!
لقد كنت آخذ عليك أحياناً ضعف النبض المنبثق من قلب الحياة خفاقاً على صفحات فنك، وكنت آخذ عليك أحياناً أخرى عدم العناية بوضع التصميم الفني الكامل قبل رص اللبنات الأولى في بناء القصة. . . وكأنك كنت تحشد تجاربك كلها وتشحذ أسلحتك كلها لهذه المعركة الفنية التي انتصرت فيها على وخزات النقد، وإذا (سراب) قصة تصور في جلاء مراحل هذه المعركة قبل أن تصور في صدق حياة الجبل في لبنان. . . قصة تروي لقرائها قصة أخرى، خير ما فيها أنك قد رسمت خط الاتجاه التفكيري في صبر وأناة، فبدوت ثابت القدم إلى حد بعيد. . . هذه واحدة، أما الثانية، فهي اكتمال التصميم الفني قبل الشروع في البناء، ومن هنا ظهرت كل طبقة من طبقات القصة وهي في مكانها الذي حددته المقاييس، وتبقى بعد ذلك هذه الإنسانية التي تترجم في صدق عن لغة الشعور، وتلك الواقعية التي تنقل في أمانة عن لغة الحياة!
ولقد كنت أود أن أقدم للقراء تلخيصاً كاملاً لقصتك ولكنني عدت أخيراً فأحجمت. . . أحجمت لأن التلخيص سيظلم (سراب) الطويلة كل الظلم، وأنا لا أحب أن أظلم هذه القصة
التي يجب أن تقرأ كاملة. هناك الأفق الذي رحب، وهناك القلب الذي وجب، وهناك رفات الجناح المحلق في سماء جديدة، وكل تلك القيم يجنى عليها التلخيص العابر والعرض السريع!
يا صديقي، حسبك هذه الكلمات رأياً فيك وفي قصتك. . . ويشهد الله أنها كلمات تمليها نزاهة النقد لا عاطفة الصداقة!!
مسرحية (الملك أوديب) بين الكتاب والمسرح:
. . . . . . . . .
قرأت تعقيبك حول الملاحظات التي توجهت بها إليك على صفحات (الرسالة) عن كتاب (الملك أوديب) لتوفيق الحكيم. وقد أعجبني منطقك حقاً، وأشهد أنه كان في منتهى الروعة والدقة، وإذا كان هناك أي خلاف بيني وبينك حول بعض النقاط، فأحسب أنه يقتصر على التفاصيل والجزيئات فحسب. وقبل أن توصد باب الحديث في هذا الموضوع وددت أن أحتكم إليك في مسألة جديدة هامة حول مسرحية أوديب. فقد لفت نظري في مسرحية (أوديب ملكا) لسوفوكليس أمر هام، إذ لاحظت أنه في الموضع الذي تخنق فيه الملكة جوكاستا نفسها ويطعن أوديب عينيه، لا يصور المؤلف المشهد مباشرة ولا ينقلنا إلى المكان الذي حدثت فيه الفاجعة، وإنما يسرد لنا خبرها وتفاصيلها على لسان خادم. وقد اتبع أندريه جيد النفس الطريقة في معالجة المشهد المذكور وكذلك فعل توفيق الحكيم. ومعنى هذا أنه لو مثلت هذه المسرحية على المسرح فإن المتفرج لن يرى الملكة جوكاستا معلقة من رقبتها بالحبل وان يرى أوديب يفقأ عينيه بالمشابك الذهبية، وإنما يرى أمامه شخصاً واحداً استبد به الجزع فوقف يسرد تفاصيل الفاجعة. وأحسب أن هذه الخطوة تخل بالمأساة إلى حد بعيد، وتغض من قيمتها بدرجة محسوسة، لأن ثمة فرقاً كبيراً بين عرض المشهد مباشرة على المتفرج وبين تصويره له عن طريق الرواية والسرد. وهذا الفرق يتعاظم دون شك إذا كان المشهد المقصود من أدق وأبرز مشاهد المسرحية كما هي الحال في مسرحية أوديب.
لهذا فقد شككت كثيراً في أن يكون جان كوكتو قد انتهج في معالجته لهذا المشهد في (الآلة الجهنمية) نفس المسلك الذي انتهجه أقرانه المشار إليهم فيما سلف من كلام. ومبعث الشك
هو كون جان كوكتو فناناً مسرحياً خبر المسرح عن قرب ودرس مطاليبه ومطاليب رواده وألم من قريب بكل ما من شأنه أن يهيئ للمسرحية النجاح أو يكتب لها الإخفاق. وبدافع هذا الشعور تحققت حاجتي إلى قراءة كتاب كوكتو عن أوديب، ولكن الظروف لم تهيئ لي ذلك، ولم تيسر لي الحصول على نسخة من الكتاب في لغته الأصلية. ولذا فقد جئت أسألك عن هذه النقطة آملاً أن تغنيني إجابتك عن قراءة النص. وأرجو ألا تحرمنا بعد ذلك من تعقيبك حول هذه الملاحظة، فيما إذا كنت تقرني على رأيي أو تخالفني فيه.
ولك جزيل شكري وخالص امتناني وفائق مودتي وتقيري.
(بغداد)
فؤاد الونداوي
ليسانسيه في الحقوق
مرة أخرى يؤسفني أن أختلف مع الصديق العراقي الفاضل في هذه الملاحظة التي أبداها وفي ذلك الرأي الذي نادى به. . . إن هؤلاء الكتاب المسرحيين الذين أشار إليهم قد نظروا إلى طبيعة المسرح وإمكانياته المادية، حين خطر لهم ألا يعرضوا على النظارة ذلك المشهد يرى الأستاذ الونداوي في إغفال عرضه إخلالاً بالمأساة وغضا من قيمتها التمثيلية! الواقع أنه لا إخلال هناك ولا إفساد، ما دام سير الحوادث في المسرحية قد هيأ أذهان النظارة لوقوع الفاجعة وتلقى خبرها على لسان شخص من الشخوص. . . ثم إن هناك لوناً من الاستحالة المادية في إظهار الملكة جوكاست على المسرح وهي معلقة من رقبتها بحبل وكذلك الملك أوديب وقد طعن عينيه بالمشابك الذهبية، ذلك لأننا إذا أقدمنا على إخراج هذا المشهد كما يريد له الأستاذ الونداوي أن يكون، لا تقلب الأمر من عالم التمثيل إلى عالم الواقع، ولتحول من دنيا الخيال إلى دنيا الحقيقة. . أي أننا لو فرضنا على إحدى الممثلات أن تقوم بدور الملكة جوكاست ووضعنا الحبل حول عنقها ثم تركناها تتأرجح على المسرح، فمعنى هذا أن الانتحار الذي نريده تمثيلاً يصبح آخر الأمر وهو حقيقة ماثلة!.
هذه الاستحالة المادية في إبراز مشهد الانتحار بالنسبة إلى الملكة جوكاست تتكرر مرة أخرى بالنسبة إلى الملك أوديب. . . إن أي مخرج مسرحي لا يستطيع أبداً أن يعرض
على النظارة منظراً رهيباً يتمثل في رجل يفقأ عينيه بالمشابك الذهبية حتى لتتدحرج حدقتاه على خديه وسط فيض من الدماء! استحالة مادية تقف في وجه المخرج والممثل وتضيق بها طبيعة المسرح قبل أن يضيق بها شعور النظارة على التحقيق. . . ولكن هذه الاستحالة يمكن التغلب عليها بسهولة إذا ما نقلنا القصة من خشبة المسرح إلى شاشة السينما، لأن هناك من الحيل السينمائية ما يستطاع التغلب به على شتى المواقف والعقبات!
أما الكاتب المسرحي الفرنسي جان كوكتو فقد سار على نفس النهج في (الآلة الجهنمية) مع العلم بأنه هو الذي يشرف على إخراج مسرحياته، وليس من شك في أن كوكتو مخرج مسرحي ممتاز يدرك طبيعة العمل المسرحي ومدى التفاوت بين حاضره وماضيه، من ناحية القيم الفنية والتمثيلية.
هذا وللأستاذ الونداوي خالص الشكر على صادق تقديره وكريم مودته.
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
هذه رسالة طريفة من الآنسة الفاضلة سعاد عبد الهادي بالقناطر الخيرية، تستشيرني فيها حول أمر يقلقها قليلاً كل مساء، أما هذا الأمر فهو أنها كثيراً ما تقف وهي عائدة إلى البيت أمام واجهة إحدى المكتبات، حيث يطالعها في كل مرة كتاب يجذبها إليه اسمه وينفرها منه اسمه أيضاً، وهو كتاب (صور من العشق). . . وتسألني الآنسة الفاضلة: هل تقدم على شراء هذا الكتاب؟ وهل مما يليق أن تقرأ فتاة كتاباً عن العشق؟ (إن كلمة العشق رغم لذتها وظرفها فإنها أيضاً تخيف وتخجل وتضايق)! إن ردي على الآنسة هو أنه لا بأس أبداً من قراءة هذا الكتاب لأنه كتاب يتحدث عن ألوان من الحب استخلصها المؤلف من زوايا التاريخ، ومهما يكن من شيء فإن الفتاة التي تجد الشجاعة على أن تصف الحب بأنه لذيذ وظريف، وهذه الفتاة يمكنها أيضاً أن تجد الشجاعة على أن تقرأ كتاباً من هذا الطراز!!. . . أما الرسالة الثانية فمن (بغداد - العراق) أشكر لمرسلها الأديب الفاضل عبد الله نيازي بمديرية التسوية العامة رقيق تهنئته، وأجيبه بأنه يؤسفني جد الأسف أن كتاب (نهاية حب) الذي تفضل بإرساله إلي قد وقع في يد غير يدي على التحقيق! وهذه رسالة ثالثة من (بغداد - العراق) أيضاً تحمل إلي كريم التقدير ما يستحق خالص امتناني لمرسلها الأديب الفاضل عبد الوهاب البياتي، أما المسألة التي أشار إليها فهي موضع عنايتي. ورسالة رابعة عن
الشاعر الفاضل جعفر عثمان موسى (كوستي - السودان) تحوي بضعة أسئلة حول فن القصة وفنون أخرى، كما تحوي عتاباً رقيقاً على سؤال قديم شغلت عن الإجابة عنه، الواقع أن كثرة شواغلي قد ألهتني عن هذا الصديق الذي سأكتب إليه رسالة خاصة تصله بعد أيام. ورسالة خامسة من (مدني - السودان) أيضاً يطلب إلي فيها مرسلها الفاضل ع. عبد الله أن أكتب مرة أخرى عن الشيوعية البغيضة التي (يحاول المتشبثون بأهدابها تسفيه النصوص والآراء الدينية نابذين في سبيل منطقهم المتهافت كل منطق قويم وكل برهان قاطع وكل حجة دامغة، وأي منطق متهافت هذا الذي يتحدى القرآن)؟!. . . إنني أشكر للأديب الفاضل هذا الشعور الصادق نحو المبادئ الهدامة، وأعده بالكتابة في هذا المجال كلمات حانت الفرصة. وتبقى بعد ذلك بضع رسائل سأشير إليها في العدد القادم إن شاء الله.
أنور المعداوي
الأدب والفنّ في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
شاعر يثور على الطبيعة:
لكثير من الكتاب والشعراء - في القديم وفي الحديث - ولع بمشاهد الطبيعة والسكون إليها والتغني بجمالها، حتى لقد صار ذلك تقليداً متبعاً يجري عليه الناشئون في الأدب والمتطلعون إلى قرض الشعر، تراهم يقصدون إليها ويسرحون الطرف في مغانيها، عسى أن تزف إلى قرائحهم بنات الأدب والفن.
وقد قرأنا كثيراً من القصائد والقطع الجيدة وصف مناظر الطبيعة والتفنن في التعبير عن جمالها، وقد أوحت بها إلى أصحابها تأملاتهم تلك المناظر وسبحات أفكارهم في جوها، ولعل هذا النوع من الأدب أقل أنواعه رواجاً في عصرنا هذا الذي يفضل الخوض في مسائل الحياة والتحدث عن الحقائق الإنسانية وتحليلها. فالأديب يذهب إلى الحدائق والشواطئ ليأخذ قسطه من الاستجمام والترويح عن النفس وصحة الجسم، كأي أنسان آخر، ثم هو مطلق الحرية في أن يأخذ موضوعه من أي مكان شاء، لا يتقيد إلا بما يثير عقله وإحساسه من صور الحياة وشؤون الناس.
أثارت تلك الخواطر بنفسي، قصيدة نشرت بالأهرام للأستاذ محمد مفيد الشوباشي، عنوانها (شاطئ بلطيم) ذهب بها في الحديث عن هذا الشاطئ مذهباً إنسانياً طريفاً يعاكس مذهب شعراء الطبيعة المفتونين بها، فهو لم يسكت عنها ويعدل إلى غيرها، بل إنه استنكر السكون والروعة والجلال وما إلى ذلك من الأوصاف التي تجذب أولئك الشعراء إلى أماكنهم المحببة إليهم، فلم يرقه شيء من ذلك بل شعر بالوحشة والملل فيها، قال:
على الشاطئ المهجور قضيت حقبة
…
من الدهر محزون الفؤاد وحيداً
يباب خلا من كل أنس وبهجة
…
يمر به الدهر الممل وئيدا
تمر به الأيام جرداء مثله
…
فلست ترى فيما تراه جديدا
ويمضي على هذا النحو في التبرم بتلك الأماكن المقفرة، حتى يقول:
حننت إلى الإنسان في خلواتها
…
وإن كان شيطان الخصال مريدا
ألا ليتني ألقى عدوي فأرتمي
…
على صدره سهل القياد سعيدا
فلم يعد الليل الرتيب يشوقني
…
ولا البدر وضاح الجبين فريدا
ولا الريح تشدو ولا الموج راقصا
…
ولا الشطر منداح الرمال مديدا
حننت إلى شط يموج بأهله
…
ترى فيه حفل الغانيات نضيدا
والذي استرعى انتباهي في هذا الشعر وأطربني منه، قيمة هذه المشاعر والصدق في التعبير عنها، فالشاعر يضيق بالليل والبدر والموج، ويحن إلى الإنسان مهما كان، ويشتاق إلى لقاء عدوه ليرتمي على صدره. . . لأنه إنسان!
هل يباح التعليم الجامعي لكل من يطلبه؟:
جاء في (كشكول الأسبوع) الماضي أن البحث في المؤتمر الثقافي العربي القادم سيدور على مسألتين، إحداهما: هل من الخير للدول العربية أن تبيح التعليم الجامعي لكل من يطلبه أو يقتصر على قبول المتفوقين. والموضوع حقيق بالنظر. نحن الآن نقبل في التعليم الجامعي كل من يطلبونه تقريباً، وهم كثيرون لا يرد منهم إلا القليل، حتى ازدحمت الجامعة، وتعذر إشراف الأساتذة والمدرسين على العدد الكبير من الطلبة، وتعذر قيام العلاقة المرجوة بين الطالب والأستاذ. ويتخرج في كليات الجامعة كل عام مئات المنتهين منها، قلَّ أن تجد فيهم من تكون تكوناً جامعياً حقيقياً. ومعنى ذلك أن الجامعة لا تغربل المتقدمين إليها، لتعرف ذوي الاستعداد للدراسة الجامعية من غيرهم، وكل ما تقيس به هو (التفوق) في الشهادة التوجيهية، وليس هذا المقياس دقيقاً لأن هذا التفوق كثيراً ما يكون في تحصيل المعلومات وحفظها، أما العقلية الدراسية فشيء آخر، وقد يختلف صاحبها في التحصيل والاستظهار. ومن ثم أشير بأن يعدل تعبير اللجنة الثقافية بإبدال ذوي الاستعداد للدراسة الجامعية بـ (المتفوقين).
وأذكر أن خطاب العرش لافتتاح الدورة البرلمانية في العام الماضي، تضمن أن الحكومة تهتم بإنشاء معاهد للتعليم الفني العالي تغلب عليها الصبغة العملية تقوم بجانب الكليات الجامعية، ليحلق بها طائفة كبيرة ممن أتموا التعليم الثانوي. ولا شك أن هذه المعاهد تحل أزمة الراغبين في إتمام التعليم العالي كما تحل أزمة الجامعة أو أزمة الدراسة الجامعية المنشودة إذ يتحول عنها إلى تلك المعاهد العدد الضخم من الشباب الراغب في الشهادات العالية دون استعداد حقيقي للحياة الجامعية.
الرد على الدكتور أبي شادي:
قرأت رسالة الدكتور أحمد زكي أبو شادي المنشورة في العدد الماضي من (الرسالة) التي كتبها رداً على ما كتبته عنه في العدد (842).
أما طلبه الجنسية الأمريكية الذي نفاه في (الأهرام) و (البلاغ) وخرَّجه في (الرسالة) على مدلول (الجنسية المزدوجة) فليكن كما خرج. فأساس الموضوع هو طعن الدكتور أبي شادي على مصر في حملات بجريدة (الهدى) وقد دافع عن نفسه بأن ما نشرته (أخبار اليوم) جحود للجهود التي يقول إنه بذلها في خدمة (وطنه الأول) في شتى البيئات بأمريكا وعلى منابر الصحافة الحرة ومن العجيب ألا نعلم شيئاً عن هذه الجهود كأن الصحافة المصرية قد أتفقت على إغفالها حتى جاءت أخبار اليوم فعكست الوضع واتهمته بالتحامل على مصر. . ولم يتعرض الدكتور لبيان ما كتبه في (الهدى) عن مصر، وهو موضع التهمة، ويؤسفني أن أتفقد صحيفة الهدى في القاهرة فلا أجدها.
ولا أستطيع إزاء ما نسبه الأستاذ مصطفى أمين بك - وجهوده الصحفية القيمة معروفة - إلى الدكتور أبي شادي من التحامل على مصر، وإزاء نفي الدكتور هذا التحامل أن أرجح أحد الأمرين على الآخر وإن كنت أستريح إلى مبادرة أبي شادي بالدفاع عن نفسه وتكذيب ما نسب إليه. وبودي لو أستدل بذلك على اتجاهه نحو الوفاء للوطن كما يرجى من كل مصري ينأى عن بلاده وإن هجر الإقامة فيها.
وكما صدر ما كتبته تعليقاً على اتهام أبي شادي بالخروج على مصر، عن شعور وطني كذلك، صدر ما وصفت به أدبه عن رأيي في هذا الأدب أو الإنتاج الذي يقل فيه الأدب. وقد لمحت دفاعاً عنه نشر أيضاً في العدد الماضي من (الرسالة) قال فيه كاتبه الأديب عبد الحفيظ نصار إنه يصحح لوجه الله والتاريخ ما قلته عن المذهب التجديدي، فذكر أن مطران سلك هذا المذهب قبل أن يدعو إليه العقاد والمازني وشكري. وأنا لم أرتب ترتيباً تاريخياً، وإنما ذكرت العقاد وزميله في الدعوة، وقلت إن مطران كان من رواد التجديد وأنا أعني حظه العملي في إنتاج الشعر. أما سائر ما تضمنه هذا الدفاع فلا أرى داعياً لمناقشته.
فرقة الكوميدي المصرية:
هي فرقة جديدة بدأت عملها في الأسبوع الماضي على مسرح كازينو أوبرا، وهي إحدى فرقتين محور كل منهما ممثل يقلد نجيب الريحاني، وممثل هذه الفرقة هو نعيم مصطفى، ويشترك معه بشارة واكيم وعباس فارس وكاميليا وآخرون. ويظهر أن اسم بشارة واكيم يستخدم للإعلان، فإنه لم يظهر بالرواية الأولى إلا في منظرين قصيرين تكلم فيها بضع كلمات وكان يمكن أن يقوم بدوره أي ممثل من الدرجة الثالثة.
أما الفرقة الثانية فتتكون من بعض الممثلين والممثلات الذين كانوا يعملون مع الريحاني، وممثلها الذي يقلده هو عادل خيري ابن بديع خيري زميل الريحاني في التأليف، وستبدأ عملها على مسرح الريحاني في الأسبوع القادم.
بدأت فرقة الكوميدي المصرية برواية (خطف مراتي) وهي تأليف نعيم مصطفى، ولابد أنه أراد أن يظهر كليفة للريحاني وأكثر. . فالريحاني كان يؤلف بالاشتراك مع بديع خيري، ولكن هذا ينفرد بالتأليف. بدأت الرواية بمنظر حمودة وزوجته، مع الزوج إبريق والزوجة (قلة) يفضل كل منهما ما معه على ما مع الآخر، فالابريق في نظر الزوج رمز الابن، و (القلة) عند الزوجة كناية عن البنت، وليس لهذا الحوار أي أثر في حوادث الرواية بعد ذلك ولا ارتباط له بها. ولهذين الزوجين بنت (سامية) متزوجة من الدكتور عادل، والجميع يشكون في سيرته ويتفقون مع (مدام كاميليا) الخياطة لاختباره و (مدام كاميليا) هذه فتاة جميلة صغيرة متزوجة من رجل كبير في السن، ولا تدري على أي أساس بني هذا الزواج، إن كان على غنى الزوج فلم إذن تعمل هي خياطة؟ والمسلي المشوق في الرَّواية هو ظُهور الشخصية التي يُمثلها نعيم مُصطفى، وهي (قراقيش) الصعلوك الذي يفرض صداقته على الدكتور عادل ويتقمص شخصيته في علاج الموضى بطرق مضحكة. ويطلع قراقيش على رسالة من الخياطة إلى الدكتور عادل تستدعيه فيها لمعالجتها - تنفيذاً للخطة التي وضعتها لاختبار أمانته الزوجية - فيذهب قراقيش إليها على أنه الدكتور عادل، وتحدُث مفارقات في منزل الخياطة، بسبب ادعاء قراقيش أنه دكتور، ويلتقي الجميع هناك في مناظر مضحكة، وتنتهي الرواية بأن يتزوَّج قراقيش بمدام كاميليا. . وكيف ذلك وهي متزوجة؟ لا تدري! إنه يخطفها (والسلام!).
والرواية محشوة بالمناظر المقصودة ذاتها لا لسياق الحوادث، وقد كثر هذا الحشو المقصود
حتى أخرجها عن الطبيعة إلى التكلف الافتعال. وعلى المناظر المتكلفة تعتمد الفكاهة في الرواية، وما كان هكذا فن الريحاني، فن الفكاهة الراقية والنكتة الرائقة.
ومجموعة الممثلين والممثلات لا بأس بها، ولكن الرواية مبتذلة مسفة كنت أفضل ألا يبدؤا بها إن كان لديهم خير منها، وأرجوا أن يكون حظهم في غيرها أحسن منها. وقد أجاد نعيم مصطفى في تمثيل شخصية الصعلوك وهو ممثل خفيف الظل، ولا أخشى عليه إلا أن يصر على التأليف فإنه يحتاج إلى تأليف قوي يظهر كفايته التمثيلية، وهو يشبه الريحاني فعلاً في صوته وطريقة كلامه وسخريته. ولا بأس أن يبدأ بهذا على سبيل الإعلان، ولكن لابد له أن يكون لنفسه شخصية مستقلة. وإني لأعجب من أولئك الذين يتحدثون عمن يخلف الريحاني، هل الريحاني منصب يبحثون عمن يشغله؟ وهل كان هو صورة لأحد قبله؟ إن الفنان الأصيل هو الذي يأتي على غير مثال سابق.
عباس خضر
من هنا وهناك
للأستاذ السيد أحمد مصطفى
توماس مان:
عندما وصل توماس مان الروائي الألماني الأشهر لندن في أواخر شهر مايو الماضي أخبره ناشرو كتبه بأن متوسط ما يباع من كتابه الأخير (الدكتور فاوستس) يبلغ الثلاثمائة نسخة في اليوم الواحد. هذا بالرغم من أنه ليس من الروايات التي يستطيع عامة القراء هضمها بسهولة، وأن النقاد لم تجتمع كلمتهم جميعاً في الإشادة به والثناء عليه.
وفي خلال إقامة الدكتور مان بإنكلترا سجلت له دار الإذاعة البريطانية أحاديت أدبية متنوعة، كما كلّف بإلقاء محاظرات عن (جوت) في جامعة أكسفورد (باللغة الألملنية) وفي جامعة لندن (باللغة الإنكليزية) وذلك قبل أن ينهي رحلته التي يقوم بها الآن إلى قارة أوربية.
ومع أن الروائي الألماني الكبير لم يكن يبغي زيارة ألمانيا في بادئ الأمر، إلا أن الدعوة التي وصلته من فرانكفورت، وجائزة جوت (أرفع جائزة يمكن أن ينالها مؤلف أديب) التي أنعم بها عليع، غيرتا رأيه في هذا الخصوص. فقرر السفر إلى ألمانيا، والاشتراك في حفلات ذكرى جودت التي أقيمت هناك في اليوم الثامن والعشرين من شهر أغسطس الماضي وذلك لمناسبة مرور مائتي عام على مولد هذا العبقري الألماني الفذ.
أريكا:
وترافق الدكتور مان في رحلته الأوربية هذه زوجته وكبرى بناته الثلاث؛ أريكا المرحة الخفيفة الروح ذات الشعر القاتم والتي تجتاز أواسط العقد الرابع من عمرها الآن، وتتكلم الإنكليزية بطلاقة عجيبة.
وأريكا هي التي تمكنت من إنقاذ النسخة الأصلية من رواية أبيها (يوسف وإخوته) وحالت دون وقوعها في أيدي النازيين على أثر استيلائهم المفاجئ على مقاليد الحكم في ألمانيا، حيث صادف أن كان أبواها آنذاك يقضيان عطلتهما السنوية في سويسرة.
وقد هرَّبت أريكا هذه الرواية التي لم تكن حينذاك سوى مسودات فحسب إلى سويسرة بعد
أن خبأتها في صندوق الأدوات في سيارة من طراز فورد.
أسرة أدبية:
وأريكا في الوقت نفسه أديبة موهوبة ومؤلفة طائفة من الكتب الرائجة. . . ومن آثارها الأدبية كتاب قامت بتأليفه بالاشتراك مع أخيها الأصغر منها سناً (كلاوص مان) صديق أندريه جيد المؤلف الفرنسي الذائع الصيت ومترجم حياته. . .
ويقيم أفراد هذه الأسرة الأدبية في سان ريمو بكاليفورنيا، وعلى بعد مسافة قليلة منهم، في بيفرلي هيلز، يقيم هنريخ مان الشقيق المؤلف لحائز جائزة نوبل.
القصة الطويلة:
أخذت القصة الطويلة تعود إلى الظهور مرة ثانية في لندن على أثر انتهاء الحرب وعودة الأمور إلى مجاريها وزوال العقبات التي كانت تعترض طريق المؤلفين والأدباء في الحصول على القدر الكافي من الورق لطبع مؤلفاتهم وإخراج كتبهم.
ويستطيع المتفرج والمتنقل بين مختلف مكتبات لندن ودور نشرها أن يشاهد بغير عناء أن الكتب التي تبلغ صفحاتها الخمسمائة فما فوق ليست بالقليل النادر هماك في هذه الأيام.
فثمة كتابان ظهرا في خلال هذا العام أربى عدد صفحات كل منهما على ال (700) صفحة؛ هما (الفيل والقصر) للكاتب الإنجليزي (هتجنسون) و (العالم غير كاف) و (زوى أولد بنركس) كما أن هناك كتباً أخرى مماثلة آخذة طريقها إلى الظهور الآن.
ومن الكتب التي امتازت بحجمها الكبير أيضاً قصة (الدكتور
فاوستس) لتوماس مان التي نقلت إلى الإنجليزية ونشرت في
لندن في الربيع الفائت، فقد بلغ عدد كلماتها (000300)
وصفحاتها (520) ولكن فاقتها في الطول قصة (العاري
والميت) للكاتب الأمريكي نورمان ميار التي أثارت عاصفة
من النقد في بريطانية عندما ظهرت طبعتها الإنجليزية هناك
منذ عهد قريب. أما أطول الكتب في هذه السلسلة فهو بلا
نزاع كتاب بقلم روز لوكريدج الذي سيظهر قريباً والذي
ستبلغ صفحاته أكثر من ألف صفحة كاملة.
كتب التراجم أيضاً:
ليست القصص وحدها التي أتيح لها أن تفوز بكل هذه الزيادة في عدد صفحاتها بل أن الأمر شمل كتب السير والتراجم أيضاً، فأخذت تنعم هي كذلك بما تنعم به أختها القصة من المجال الفسيح والمضطرب الواسع. . . فترجمة (روزتي) الجديدة بقلم أحد أساتذة جامعة مدينة الكاب بجنوبي أفريقية تقع في (700) صفحة، وترجمة (تولستوي) للأستاذ أرنست سيمون في (900) صفحة، وكتاب المؤلف الإنجليزي هالدي وعنوانه (شكسبير وناقدوه) في (500) صفحة.
كتب (حرب):
ذكرت مجلة (جون أولندن) الأدبية الإنجليزية أن الكتب التي تقوم حوادثها على أساس ما وقع في الحرب الأخيرة من أحداث لم تعد تثير اهتمام الناشرين الإنجليز وتجلب انتباههم في هذه الأيام مثلما كان عليه الحال في الماضي القريب، هذا بالرغم (من أن هناك حرب) ضربت رقماً قياسياً في الزواج والانتشار في خلال الأثني عشر شهراً الأخيرة، مثل: قصة (العاري والميت) لنورمان ميلر، التي لا تزال في طليعة الكتب الرائجة، وكتاب ، لمؤلفه (الآن باتون) الذي ظهر في الخريف الماضي وأعيد طبعه تسع مرات حتى الآن. . . وكتاب للكاتب الإنكليزي الكسندر بارون. هذا، وستظهر لهذا الأخير طبعة أمريكية في نيويورك في الخريف القادم.
أما في أمريكا فالإقبال على كتب الحرب لا يزال على أشده. وقد نالت قصة (الأشبال) التي صدرت أخيراً لمؤلفها أروين شو استحساناً عاماً من النقاد، كما أن الأديب الأمريكي المعروف (هيمنجوى) يعمل الآن بجد لوضع قصة جديدة تقوم على أساس اختباراته وتجاربه في حملة نورماندي حيث كان مراسلاً حربياً هناك في خلال الحرب العالمية
الثانية.
ضعف الإنتاج الأدبي في تركية:
قرأنا في أحد أعداد مجلة (شادروان) الأدبية التركية التي يقوم بإصدارها الشاعر التركي المعروف (بهجت كمال جاغلار) ملخصاً لخطاب مستفيض ألقاه الروائي الزكي الشاب موفق إحسان جاران في حفلة افتتاح معرض (المؤلفين الأتراك الحديثين) الذي أقيم أخيراً في استانبول، ندد فيه بحالة الأدب والأدباء البائسة في تركية، وعدم استطاعة المؤلفين الأتراك إنتاج آثار أدبية تضاهي ما ينتجه زملاؤهم أدباء الأمم الأخرى المعروفين، في القوة والجودة. وقد عزا المؤلف الناشئ عدم ظهور أديب تركي يأخذ موضعه بين الخالدين العالميين حتى الآن إلى العوامل التالية:
1 -
إن الذين يعرفون القراءة والكتابة في تركية قليلون. (ولا يمكن اعتبار القارئ مشجعاً حقيقياً للأدب العالي الرصين إلا إذا كان مثقفاً ثقافة حقيقية).
2 -
إن الذين يعتبرون أنفسهم من عشاق الأدب ومحبيه لم يتعودوا اقتناء الكتب الأدبية وجمعها وإنشاء مكتبات أدبية خاصة في بيوتهم.
3 -
إن اللغة التركية ليست منتشرة انتشاراً كباقي اللغات العالمية، وفي ذلك ما يثبط همم المؤلفين الأتراك من الناحيتين: المادية والمعنوية، ويعرقل سيرهم قُدماً إلى الأمام في طريق الخلق والإبداع.
4 -
إن المؤلف هو الشخص الوحيد الذي لم تتضاعف أرباحه في موجة الغلاء التي اجتاحت المملكة بسبب الحرب الأخيرة (فعندما تشتري كتاباً بـ (250) مليماً فإنك لا تدفع للمؤلف سوى ستة مليمات فقط، وقد صادف أن يبعث حقوق مؤلَّف يزيد على مائة صفحة بأقل من جنيه مصري واحد).
5 -
حالة التوزيع سيئة للغاية ولا يمكن الثقة بالباعة الذين هم في خارج المدن الكبيرة بأي حال من الأحوال، فهم لا يهتمون ببيع الكتب، وإن اهتموا فلا يسلمون أثمان الكتب التي يبيعونها إلى أصحابها.
6 -
الدولة غير سخية ولا متساهلة، مع المؤلفين الوطنيين فهي تغدق عميم خيرها على المؤلفات الأجنبية التي تنتقل إلى اللغة التركية بغير حساب وتغل يدها إلى عنقها عندما
يأتي دور المؤلفات التي يضعها الأدباء الأتراك.
7 -
ليس ثمة قانون يحمي حقوق المؤلف حسبما تقتضيه الظروف والأوضاع الجديدة (فالقطع التمثيلية التي تمثلها مختلف الفرق في طول البلاد وعرضها لا تأتي للمؤلف بمليم واحد، وقد يهمل أصحاب هذه الفرقة حتى سلوك مسلك الأدب واللياقة مع المؤلف، ومجاملته في الحصول على موافقته على تمثيل رواياته، بل وقد يجهل المؤلف نفسه جهلاً تاماً أن رواياته تمثل هنا وهناك من أنحاء البلاد).
8 -
لماذا يدفع الناشر أجراً للمؤلف ما دام هناك طريق ترجمة أرقى الآثار الأدبية العالمية - ولو ترجمة هزيلة - مفتوحاً أمامه بلا رقيب أو حسيب؟. . وما دام أن ليس ثمت أي تشريع يلزمه ولو يدفع مليم واحد لأصحابها الشرعيين. . .
وقد أكد الروائي الشاب بعد ذلك أنه ما لم يعثر على علاج شاف لهذه الأدواء الثمانية، فإن ظهور الأديب التركي العالمي المرتقب سيتأخر كثيراً إن لم يكن أمراً عسيراً التحقق، بعيداً عن التصور.
(العراق - أربيل)
السيد أحمد مصطفى
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 6 -
يجمل بي قبل أن أستأنف كتابة الحلقة السادسة من هذا البحث أن أعرض بالنقد لما نقدت به في بريد الرسالة.
أما النقد الأول، فقد كتبه الأستاذ عدنان وجعل عنوانه (لفظة في بيت). قال:(في مقال للأستاذ السيد أحمد صقر حول كتاب (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي بك). وفي هذه الجملة خطأ طريف، فإني لا أنقد كتاباً اسمه (نظرات في كتاب الأشربة) للأستاذ كرد علي بك، وإنما أنقد كتاب (الأشربة) لابن قتيبة التي نشره الأستاذ كرد علي، ولكي يستطيع القارئ متابعة النقاش في يسر وسهولة أنقل ما قلته أولاً، وما عقب به الأستاذ عدنان ثانياً.
قلت (ع 831ص963)(في ص37، 38 من الأشربة) وقد شهر المتعاشرون على الشراب بسوء العهد، وقلة الحفاظ، وأنهم صديقك ما استغنيت حتى تفتقر، وما عوفيت حتى تنكب، وما غلت دنانك حتى تنزف، وما رأوك بعيونهم حتى يفقدوك، قال الشاعر:
أرى كل قوم يحفظون حريمهم
…
وليس لأصحاب النبيذ حريم
إذا جئتهم حيوك ألفاً ورحبوا
…
وإن غبت عنهم ساعة فدميم
إخاؤهم ما دارت الكأس بينهم
…
وكلهم رث الوصال سؤوم
فهذا ثباتي لم أقل بجهالة
…
ولكنني بالفاسقين عليم
والصواب (فهذا ثنائي) كما في العقد الفريد 4321 وليس
للثبات هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام ويقوم عليه بناء
معناه)
وقال الأستاذ عدنان في تعقيبه (بل للثبات هنا معنى يستقيم به نظم الكلام وهو إلى
الصواب أقرب مما ورد بالعقد، وذلك لسببين: الأول أن الشاعر يقرر حالة هي إلى قدح القادح أقرب منها إلى (ثناء) المادح، وأي (ثناء) ذلك الذي يوجه إلى قوم لا يحفظون الحريم وينقلبون بين الجيئة والذهاب من حب إلى بغضاء ومن وفاء إلى عداء. والثاني أن الأستاذ الناقد فهم من (الثبات) أنه الدوام والاستقرار، ومن ثم كتب ما كتب معتمداً على رواية العقد وهي كما سبق رواية لا يزكيها واقع الحال. وإنما يقال في مقام التصحيح أن (الثبات) بمعنى الحجة والبرهان تقول: لا أحكم بكذا إلا يثبت أو بثبات أي بحجة وبرهان ودليل).
ليس في كلام الأستاذ عدنان ما يجعلني أعدل عن رأيي في أن الثبات ليس لها هنا أي معنى يستقيم به نظم الكلام ويقوم عليه بناء معناه، وأما تفسيره له بمعنى الحجة والبرهان فتكلف وتمحل وتعمل ينبو عنه الذوق الشعري. وهل يقول شاعر (فهذا ثباتي)؟
وليس في كتب اللغة التي بين أيدينا (ثبات) بمعنى الحجة والبينة، وقد جاء في اللسان:(الثبت بالتحريك الحجة، وتقول أيضاً: لا أحكم إلا يثبت أي بحجة) ولست أدري من أين جاء الأستاذ (بثبات).
والذي حمل الأستاذ على أن يتكلف في تصحيح (الثبات) هذا التكلف البعيد أنه لم يفهم معنى (الثناء)، وعجب من أن أقولإن الصواب (فهذا ثنائي) فقال (وأي ثناء ذلك الذي يوجه إلى قول لا يحفظون الحريم الخ). ولو قد عرف الأستاذ حقيقة الثناء لما قال ذلك بل لما كتب من نقده حرفاً واحداً. إن الثناء ليس مدحاً فقط بل هو ذم أيضاً، يستعمل في الخير والشر على السواء، وقد ورد في شعر زهير:
سيأتي آل حصن أين كانوا
…
من المثلات ما فيها ثناء
وفُسر بالوجهين: فمن قال إن (ما) نافية قال: إن الثناء بمعنى المدح، ومن قال إنها موصولة قال: إنه بمعنى الهجاء. جاء في لسان العرب (الثناء ما اتصف به الإنسان من مدح أو ذم وخص بعضهم به المدح. الثناء ممدوح: تعمدك لتثني على إنسان بحسن أو قبيح. أثنى يثني إثناء أو ثناء يستعمل في القبيح من الذكر في المخلوقين وضده).
وإذا كان الثناء يستعمل في الذم في أصل اللغة فليس هناك ما
يدفع قولي إن الصواب (فهذا ثنائي) على أني وجدت للبيت
رواية أخرى حبت إليها نفسي وهي كما في نهاية الأرب
4108
فهذا بياني لم أقل بجهالة
…
ولكنني بالفاسقين عليم
براع لا يراعوا:
أما النقد الثاني، فقد كتبه الأستاذ (عمر إسماعيل منصور) وجعل عنوانه (يراعوا لا يراع) وأنا أورد ما قلته وما قاله على نحو ما فعلت في سالفه.
قلت في العدد 833 وفي ص38 من الأشربة: وقال آخر:
بلوت النبيذ بين في كل بلدة
…
فليس لأصحاب النبيذ حفاظ
إذا أخذوها ثم أغنوك بالمنى
…
وإن فقدوها فالوجوه غلاظ
مواعيدهم ريح لمن يعدونه
…
بها قطعوا برد الشتاء وقاظوا
بطان إذا ما الليل ألقى رواقه
…
وقد أخذوها فالبطون كظاظ
يراغ إذا ما كان يوم كريهة
…
وأسد إذا أكل الشريد فظاظ
وعلق الأستاذ محمد كرد علي على هذه الكلمة بقوله في ع: يراعوا.
والصواب (يراع إذا ما كان يوم كريهة) جاء في لسان العرب (اليراع: القصب واحدته يراعة. واليراعة، واليراع: الجبان الذي لا عقل له ولا رأي، مشتق من القصب. أنشد ابن بري لكعب الأمثال:
ولا تك من أخذان كل يراعة
…
هواء كسقب البان جوف مكاسره.
هذا ما قلته ولكن الأستاذ (عمر) لم يرقه قولي واتهمني بعدم الفهم وقلة الإدراك بل بعدمه أَيضاً وإليك ما قال: (وأقول إن يراعوا هي الصواب، وهي من الروع بمعنى الفزع، قال قطري ابن الفجاءة:
أقول لها وقد طارت شعاعاً
…
من الأبطال ويحك لن تراعى
ولو قرأ الأستاذ الفاضل هذه الأبيات لأدرك أن الكلام عن جماعة لا عن فرد، وأن يراعا بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط. قال في الأساس (ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعة ويراع قال: فارس في اللقاء غير يراع)
ولست أدري كيف يكون (فاضلا) من ينقل أبياتاً لشاعر يقول فيها (بلوت النبيذيين ومواعيدهم ريح قطعوا بها برد الشتاء وقاظوا) ثم لا يدرك (أن الكلام عن جماعة لا عن فرد) كما يقول الناقد ونضرب صفحاً عن هذا اللغو ونأخذ في مناقشة كلامه فإن ذلك أخلق بنا وأحجى.
يزعم الناقد المدرك أن الصواب (يرعوا) من الروع بمعنى الفزع ولو كان يعرف أن يراعوا فعل مضارع، وأن كل مضارع اتصلت به واو الجماعة يرفع بثبوت النون وينصب ويجزم بحذفها لما قال إن الصواب (يراعوا) ولساءل نفسه: أين النون؟ ولم ذهبت؟ ويزعم الناقد صاحب المدارك الثاقبة (أن يراعا بمعنى جبان لا تصدق على الجماعة إذ تأتي للمفرد فقط!! وهذا زعم لا حقيقة له لم يقله أحد من علماء العربية، ولكن الناقد افتراه وأوهم القارئ أنه اعتمد في نفيه على الأساس حيث يقول: (قال في الأساس ومن المجاز قولهم للجبان الذي لا قلب له هو يراعة ويراع). وأنا أنقل للقارئ نص كلام الزمخشري في الأساس ليعلم كيف داس الناقد في نقله وكيف فهم منه ما افتراه. قال الزمخشري في ص561 (وقع الحريق في اليراع: في القصب، قال المسيب ابن عيسى:
ومهما يرف كأنه إن ذقته
…
عانيَّة شُجَّت بماء يراع
أراد قصب السكر. ونفح الراعي في اليراعة، وكتب الكاتب باليراعة، قال:
أحنّ إلى ليلى وقد شطت النوى
…
باليلى كما حن اليراع المثقَّبُ
أي المزامير. وغشى اليراع الوجوه. وهو شبه البعوض. ومن المجاز قولهم للجبان الخ).
وهذا النص صريح في أن اليراع: هو القصب، وأن اليراع المثقب المراد به المزامير، وأن واحدة هذا كله يراعة.
ولست أدري كيف قرأ الأستاذ هذا الكلام ولا كيف طواه لئلا يناقض دعواه، ولكن الذي أدريه أن الأستاذ لم يفهم كلامي ولم يفطن إلى معنى النص الذي نقلته عن اللسان، وكان فيه الغناء لو تدبره. لقد قلت إن الصواب (يراع) ونقلت ما في اللسان من أن اليراع: القصب واحدته يراعة، واليراعة واليراع الجبان الذي لا عقل له ولا رأى، مشتق من القصب).
ولكن الناقد المدرك لم يفطن إلى أن هذا النص صريح في أن
اليراع اسم جنس. واسم الجنس هو ما يفرق بينه وبين واحدة
بالتاء، جاء في المخصص 16100 (باب دخول التاء فرقاً بين
الجمع والواحد منه، وذلك نحو تمر وتمرة وبقر وبقرة وشعير
وشعيرة وجراد وجرادة فالتاء إذا ألحقت في هذا الباب دلت
على المفرد وإذا حذفت دلت على الجنس والكثرة، وإذا حذفت
التاء ذكر الأسم وأنث، وجاء التنزيل بالأمرين جميعاً. . .)
واليراع واليراعة كالزَّباب والزَّبابة جاء في اللسان: (الزَّباب: جنس الفأر لا شعر عليه. قال الحارث بن حلّزة:
وهمُ زَبَابٌ حائر
…
لا تسمع الآذان رعدا
أي لا تسمع آذانهم صوت الرعد لأنهم صم طرش، والعرب تضرب بها المثل فتقول أسرق من زبابة، ويشبه بها الجاهل، واحدته زبابة).
على أن جو الأبيات يتطلب كلمة (يراع) ولو جاز أن يقع الفعل موقعها؛ لأن الشاعر وصف النبيذيين قبل ذلك بأنهم (بطان) ووصفهم بعد ذلك بأنهم (أسد) وسبيل يراع في المجاز كسبيل (أسد) ومع ذلك فإننا إذا نحينا المجاز جانباً ولجأنا إلى الحقيقة وسمينا الجبان باسم (يراع ويراعة) كان الجمع فيهما (يراع ويرعات). ورحم الله الشافعي إذ يقول: (فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا، وقد تكلم في العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه منه لكان الإمساك أولى به، وأقرب إلى السلامة له).
ونرجع إلى ما كنا فيه من بيان الأوهام في كتاب (الأشربة) فنقول:
45 -
جاء في ص 24: (قال عثمان رحمة الله عليه: ما تغنيت ولا تفتيت، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام).
وشرح الأستاذ كرد علي على معنى (ولا تفتيت بقوله: ولا
تشبهت بالفتيان)! ومعاذ الرجولة أن يقول ذلك عثمان عن
نفسه، ومعاذ الأدب أن يظن به ظان أنه يمكن أن يقوله، وبمن
يتشبه عثمان إذا لم يتشبه بالفتيان؟ إن في العبارة خطأ لم
يفطن إليه الأستاذ، وصوابه:(ما تغنيت ولا تمنيت) أي ولا
كذبت جاء في النهاية 4119 (وفي حديث عثمان: ما تغنيت
ولا تمنيت، ولا شربت خمراً في جاهلية ولا إسلام وفي
رواية: ما تمنيت منذ أسلمت، أي ما كذبت. التمني: التكذب،
تفعَّل من منى يمني إذا قدَّر لأن الكاذب يقدر الحديث في نفسه
ثم بقوله. قال رجل لابن دأب وهو يحدث: أهذا شيء رويته أم
شيء تمنيته؟ أي اختلقته ولا أصل له).
وقد كان ابن دأب هذا - واسمه عيسى بن يزيد - من أحسن الناس حديثاً وبياناً، وكان شاعراً رواية وافر الأدب، صاحب رسائل وخطب غير أنه كان يضع الأشعار ويزيد في الأحاديث ما ليس منها. وناهيك برجل يسمه خلف الأحمر بالكذب ويصفه بأنه آفة، وفيه يقول ابن مناذر:
ومن يبغ الوصاة فإن عندي
…
وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون
…
ولا ترووا حديث ابن دأب
ترى الهلاك ينتجعون منها
…
ملاهي من أحاديث كذاب
إذا طلبت منافعها اضمحلت
…
كما يرفض رقراقي السحاب
وقد توفي ابن دأب في سنة إحدى وسبعين ومائة في أول
خلافة الرشيد. وترجمته في لسان الميزان 4408 وتاريخ بغداد
11148 والمعارف 234 ومعجم الأدباء 16152.
(يتبع)
السيد أحمد صفر
البَريدُ الأدَبيَ
مصحف من عهد عثمان بن عفان في روسيا:
هكذا نشرت الأهرام بعددها الصادر بتاريخ 30 من أغسطس سنة 1949.
وإذا كان المشتغلون بالحفريات، وبالتثقيب عن الآثار، يسرهم أعظم السرور وأطيبه، أن يجدوا قطعة حجر متآكلة، قد نقشت عليها بضع كلمات؛ رجاة أن يقدموا إلى العلم شيئاً؛ وإن يكن تصحيحاً لتاريخ وفاة أمير، أو ميلاد وزير، أو نسب وليد، فقدَّركم يكون سرور المعنيين بالمخطوطات، حين يجدون كتاباً ضخماً، يحوي بين دفتيه كثيراً من العلوم والمعارف، والآراء والنظريات؟! خصوصاً إذا كان موغلا في القدم، ويرجع تاريخه إلى ما يقرب من الثلاثة عشر قرناً.
وقدركم يكون سرور المشتغلين بالإسلاميات على وجه العموم وسرور المسلمين على وجه الخصوص، إذا كان هذا المخطوط، هو المصدر الأول لعقائد المسلمين وثقافتهم؟!
إنه لا يداخل المسلمين أدنى شك، في صحة كتابهم، ولا في شيء مما يحتويه من آيٍ هي غرر البيان ومعجزة الدهر؛ تتقدم العلوم، وتتسامى الفهوم، وتتكشف الحقائق، وتتجلى الغوامض؛ ولا يزيده ذلك إلا ثباتاً ورسوخاً، وانفهاماً ووضوحاً؛ حتى لقد كان أن يعد لدى الباحثين على اختلاف مشاربهم، وتباين ميولهم ونزعاتهم، معيار الحقيقة، يكون حظ الفكرة من القبول أو الرفض بمقدار ما تنال من القرب منه أو البعد.
ولكن هذا لا يمنع من أن يداخلهم سرور أي سرور، حين يجدون لهذه النسخ التي بين أيديهم أصلا يرجعون إليه، ويطابقونها عليه، ليكون النسب متصلا.
وإذا كان المسلمون الذين امتزج الإسلام بطبيعة وجودهم، وجرى منهم مجرى الدم في شرايينهم، لا يحسون أن هناك فراغاً كان ينتظر هذا المخطوط ليشغله، ولا أن هناك نقصاً جاء هذا المخطوط فكمله؛ فهم على حق في حكمهم؟ لأن العناية الإلهية قد تكفلت بحفظ الكتاب الكريم وصيانته من أن تمتد إليه يد بتحريف أو تبديل.
ولكنهم يكونون على حق أيضاً، حين لا يغفلون ما عسى أن تعتلج به نفوس غير المسلمين، أو حديثوا العهد بالإسلام من تساؤل حول نسب هذه النسخ التي بين أيدينا الآن.
وحين لا يغفلون ما تعتلج به نفوس العلماء والباحثين، من افتراضات واعتراضات، تتطلب
إجابات من نحو آخر، غير تلك الإجابات التي تقوم على أساس من التفويض إلى ما تكلفت به العناية الإلهية.
وإن أنس لا أنس ذلك الحرج الذي شعرت به حين وجه إلينا - أنا ونفر من هيأة التدريس بكلية أصول الدين - ذلك الشاب الأمريكي المسلم، الذي حضر إلى مصر بعامة، وإلى الأزهر بخاصة، منذ عامين تقريباً، ليتأكد من صحة إسلامه، بعرضه على الهيئة المختصة، وليؤكده بإزالة ما عسى يكون في نفسه من شبه وشكوك حول العقيدة، على يدي العلماء المختصين بهذه الشؤون. أقول: لست أنسى ما شعرت به من حرج حين وجه إلينا ذلك الشاب هذا السؤال الذي لم يكن لدينا جميعاً جواب عنه:
(هل يوجد لديكم أصل من مصحف عثمان؟ وكيف يطمئن الباحث الحر إلى أن ما بأيديكم الآن هو صورة طبق الأصل منه؟)
وقد شاءت إرادة الله أن تظفرنا بجواب هذا السؤال - وإن يكن بعد عامين - عن طريق هذا الأثر العلمي الجليل.
وإني لا أشك في أن فضيلة مولانا الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مأمون الشناوي شيخ الجامع الأزهر - بما عرف عنه من غيرة على الدين، وحرص على خدمته، وقصر الجهود على رفع شأنه - أن يدخر جهداً أو مالا في سبيل العمل للحصول على هذا الأثر العلمي الجليل، الذي تكمل به مكتبتنا وتقوى به حجتنا.
وإني - ليشهد الله - لجد مشفق على هذا الأثر النفيس، حين أنظر إلى صورته في الأهرام، وهو بين يدي علماء التركستان، يقلبون أوراقه، ثم يبدءون القراءة فيه ويعيدون، وأخشى أن لا يكونوا مقدرين لقيمته العلمية، وأنه أسمى من أن يستعمل للقراءة والاستذكار؛ فتسرع إليه يد العفاء، إذ حسبنا منه أن يكون أصلا نرجع إليه عند الضرورة.
فاللهم وفق للعمل على اجتلاب هذا الأثر وصيانته، وإحلاله من نفوس أولى الأمر وعنايتهم في المكان اللائق به.
سليمان دنيا
مدرس الفلسفة بكلية أصول الدين ومبعوث الأزهر بجامعة
لندن
إلى معالي وزير المعارف:
مرحى يا معالي وزير المعارف والعلم والأخلاق! مرحى أيها الرجل الغيور!
لقد أصبت إذ قررت أن ترتدي الطالبات والمدرسات ملابس طويلة تخفي معظم الجسد عملاً بالدين واحتراماً لمحاريب العلم والأخلاق. إنني إحدى المؤيدات من الطالبات آلمني الضجيج الذي علا أخيراً في الصحف بين (المتمدنيين) أنصار الإباحية وعجبت لمعارضتهم التي لا تستند إلى حجة اللهم إلا (التقدم والرجعية) الكلمتين اللتين بليتا من كثرة الاستعمال بالحق والباطل.
يا معالي الوزير: ناشدتك الله ألا تلتفت إلى هذر أدعياء المدنية فالعلم بدون أخلاق مدرجة للشر وسبيل للفساد.
الطالبة
(ف. أ. ع)
حول قصر الخورنق:
في عدد سالف من الرسالة. . . نشر الأستاذ كاظم المظفر. . . تبحث عن (الخورنق) القصر المشهور بالحيرة. . وكانت طريقته في تأليف تلك السطور طريفة. . غاية بالطرافة. . إذ دس بها أقوالاً حول آثار العراق التاريخية. . كانت قد نشرت بنصها في مجلة الاعتدال النجفية. . كما أشار هو إليها، وأقوالاً مثلها حول قصر الخورنق نشرت هي أيضاً في كتاب الحيرة للباحث القدير يوسف غنيمة. . . ولكنه لم يشر إلى هذا الكتاب إلا قليلاً. . . حيث شغله عنه ذكر بعض المصادر القديمة التي اعتمد عليها يوسف غنيمة من قبيل (المعلمة الإسلامية) و (الألفاظ الفارسية المعربة) و (حمزة الأصفهاني) و (البرهان القاطع). . .
والطريف هنا أن يوسف غنيمة كان يصوغ النصوص القديمة بتعبيره الحديث ويشير إلى أصولها في كتب القدماء. . . فجاء كاظم فنسب هذه النصوص بألفاظها الحديثة إلى القدماء
ليوهم أنه اطلع عليها رأساً. ولم يأخذها من كتاب الحيرة المطبوع. وإنا لو أردنا أن نبرز السطور التي أخذها من مصادرها ومن يوسف غنيمة خاصة لما ظل لكاظم المظفر من هذا المقال الطويل شيئاً. . . إذ هو جميعه مأخوذ من هنا ومن هنا. . وإن حاول أن يخفى ذلك بذكره لكثير من المراجع التي لم ير أغلبها.
(بصرة - عشار - عراق)
قارئ
القصص
قلب محروم. .!
للأستاذ غائب طعمة فرمان
(إلى صاحب القلب الكبير الذي كتب (من وراء الأبد). . .
إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي أهدي هذه القصة).
عزيزي. . .
حين تصلك رسالتي أكون قد غادرت أرض الكنانة ميمماً شطر وطني. . . وبين جوانحي قلب مضطرب، ونفس مغممة بشتى الأحاسيس. . . قلب جريح تجرع كؤوس الأسى مترعة، ونفس عصفت بها رياح صارمة فخلفت أرض مصر زهوراً. ذابلة هي ذكريات ليال وأيام؛ ستظل رؤى مرة في فكري لا يطردها النور، وجذوة مستمرة في قلبي لا يخمدها تقاوم العهد، وتطاول الأيام.
كنت تسألني كثيراً والابتسامة على شفتيك عن سبب سكناي في مصر الجديدة، والشقة بعيدة بينها وبين جامعتي، فأقابل ابتسامتك بابتسامة، ويظل سؤالك من غير جواب.
وأراني الآن مدفوعاً بقوة صارمة صادرة من أعماقي إلى أن أقص عليك طرفاً من تاريخ قلبي، علك تشاركني آلامه، وأشجان دنياي.
لست أدري السر في أن الإنسان يستطيع أن يكتم كل شيء إلا الحب والبغض، حتى أصبح هذان الأمران محورين أساسيين للانسانية: الحب يبني، والبغض يهدم.
فلا جناح عليّ - إذن - في أن أقول لك: إنني أحببت. . . نعم أحببت حباً امتزج بدمي، وطوق روحي، وشغلني عن كل شيء، فظللت أهيم في زورقي، والأمل سد أقطار الحقيقة عني، ومنافذ النور عن بصيرتي، ورحت أدنو إلى الشاطئ الثاني، والضباب قائم من حولي، وفي أغواري الظلمة واليأس المرير.
إنني لأذكر أول لقاء لي بها في أحد تلك المقاهي المخضلة الأضواء وقد عرفني بها ضابط مصري عشت معه في دار واحدة زمناً طويلاً. . . وقد كانت شعلة من إغراء، وقد بدت لي صغيرة. . . صغيرة جداً حتى عبق في وجهي عطر الطفولة الآسر. . وكانت الابتسامة
بين شفتيها كأنها تشجع القلب المحروم على أن يحب. . .
. . . فتاة في العشرين من عمرها أجمل ما فيها عيناها السوداوان المتألقتان كنجمتين في سماء غسلتها دموع الملائكة.
وقد تحدثنا كثيراً، وكان حديثها عذباً، حلو النبرات، وشعرت بأن عينيها تحدثاني فأنصت إلى الإيقاع الروحي الصادر من الأعماق. . . وبان لي إنها متذمرة كأنها تعيش في سجن، خائفة كأنها تتوقع شيئاً مؤلماً، وكانت ثقافتها الفرنسية ذات اثر عظيم على نفسها، بذرت فيها بذور الانطلاق، ونسجت حول مخيلتها العوالم تخلقها قصص الحب. . . والعاطفة الملتهبة.
ولما رجعت إلى بيتي لم أكن وحيداً. . . فقد كان خيالها لا يبرح مخيلتي، وما زلت أشم عطرها الآسر، وألمح ابتسامتها الجميلة. . . وكانت معي أحلامي المجنحة. . . يا عجباً أبهذه السرعة تنبت. . . فأشعر بظلالها تعمر فكري؟
ورحت أنتظر صديقي والنوم هجر أجفاني، والرؤى ملأت عالمي. . . ولما سمعت وقع أقدامه قفزت من فراشي، وطفقت أتطلع إلى شفتيه المنفرجتين عن ابتسامة ماكرة.
قال:
- أتعرف ماذا تقول عنك. . . إنك في نظرها طفل غرير. بالمكر المرأة يا صديقي. . . هل أحست بنظراتي تضرعاً، وباختلاج شفتي ظمأ لرحمة؟!
ثم قال: ولكنها تريد مقابلتك مرة ثانية.
فقفزت فرحاً كأنني أبرهن على صحة نظرها. . . وقلت:
رحماك يا صاح حدثني عنها. . . أقصص على أخبارها. . . أي نوع من النساء هي؟ فصاح صاحبي.
- يالك من طفل. . . أتعلقت بها من أول لقاء؟
لا. . . لا. . . لم أتعلق بها. . . ولكني أحس بظمأ يحرف روحي إلى أن التقي بها وأنظر إليها. وأتحدث معها. . . وأتملى سحر وجهها. . . وأتحدث إلى عينيها الساحرتين. . . وأغمر قلبي في وجهها العاطر.!!
وفي اليوم الثاني ذهبت إليها.
وجلسنا في أحد مقاهي مصر الجديدة، والأنوار في ألوانها المختلفة تخلق لنا في آفاق مخيلتنا عوالم غريبة. . . والجو الساجي يرهق أعصابنا، والنسيم المنبعث من وراء الأشجار الخضر نديُّ كأنه يداعب أحلامنا، ويشرق في عالمنا بأطياف جميلة. . . ومن خلف عالمنا السحري تتألق النجوم من بعيد كأنها أشباح لدينا مسحورة مختفية في ضمير الأبد.
جلست إليها وهي أمامي ساحرة مشرقة القسمات، وجفناها مسبلان بدلال على عينيها السوداوين، وأنا أرتشف من كؤوس نشوتي. . . ولاحت لي الأيام الماضية طلولا ينعق فيها غراب الوحدة، وتصرخ في جنباتها ريح اليأس المرير. . . وحرقت ذكرياتي كلها في نار وجدي، وهمت في الأجواء البعيدة التي تخلقها حواء. . . أنا المحروم من. . . العائش في ضباب، المسحور بتهاويل الأحلام.
وطال صمتنا ونطقت حواء أخيراً:
- ما بالك يا صاحبي ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟
ولمعت عيناها، ووقفت أمام سؤالها حائراً. . . وأردت أن أصرخ في وجهها:
- أقسم لك إنها هذا حق. . . فأنا في رحاب المستحيل.
ولكنني آثرت الصمت، وانطلقت من شفتي ابتسامة هاربة كأنها جواب مبهم.
قالت: - إن الشباب دائماً يفكر في المستحيل. . . أتخالفني بعيدة عن عالمك الغامض؟
- ولكن أية قوة قادتك إلى تلك الأبراج الشاهقة؟!
- القوة التي تدفع الشباب إلى المستحيل. . . ولكن لست أدري لم يهيم الشباب بالمستحيل؟
- لأنه كثير الآمال. . . وكل أمل يخبو يزيد حياته ظلمة، وينقلب في سفر أيامه إلى ذكرى إخفاق. . . مؤلم.
الآن بدأت أعرف لم يلف عمري سحاب من الأحزان. . . إن أشياء كثيرة تحزنني هي جراح أحلامي. . . إن عمري يذبل من غير غاية. . . فأنا الآن في العشرين من عمري ولم يتحقق حلمي الجميل.
وأشفقت على حلمها الجميل الذي لم يتحقق وشعرت بيد من حديد تصهر قلبي وأردت أن أقول لها.
أيتها الهائمة في الصحراء تفتشين عن حلمط الجميل. . . أيتها الفراشة التي أصلتها نار الحرمان، قلبي المحروم يناديك. . . أتسمعين نداءه؟. . إنه يدعوك إلى أن تتنكبي عن الماضي ومآسيه، وتدخلي في الجنة التي خلقتها عيناك له. . . جنة أحلامه وأمانيه.
وافترقنا على ميعاد. . . وظللنا ندلف إلى عرائش أحلامنا مدة طويلة.
وجئت إليها مرة وفي قلبي همس. . . قلت
- اسمعي يا (نادية) في ضميري سر يعذبني قد تكون اختلاجاتي نمت عليه. . . إنني أحبك!. . من أعماق نفسي، وإنك قد دخلت دائرة حياتي، ولا يمكنني أن أخرجك منها. ولا يمكنني أن أنساك. . . إن آلامك آلامي، وآمالك آمالي، وقلبي يدعوك إلى أن نسير جنباً إلى جنب في طريق الحياة.
فضغطت يدي وابتسمت عيناها. . . ثم شفتاها. . . وقالت:
كأنك تقرأ أفكاري. . . فأنا أخاف من طريق حياتي هذا المقفر.
. . . وعندما رجعت إلى بيتي كنت إنساناً جديداً
أقسم لك يا عزيزي لقد تغيرت نظرتي إلى الحياة. . . فقد تخيلتها إلى جنبي ملكاً حلالاً لي. . . أنا وحدي. . . أنا الذي قطعت حياتي في صحراء الوحدة. . . أنا الذي أذبل قلبي الحرمان والظمأ القاتل إلى الحنان. . . إلى الصدر العامر بحبي والإخلاص لي. إلى القلب الذي يضمد جراحي. . . إلى الروح التي تنشلني من الأوحال. . . دنياي المظلمة القاتمة المضطربة التي لا تستقر على قرار.
وبنيت في مخيلتي بيتي المنتظر. . . بيتاً بسيطاً لاثنين. . وتخيلتها إلى جنبي زهرة تمدني بالعطر، وتملأ حياتي حبوراً، وروحي قوة وحيوية، وترد لي سعادتي الضائعة مع الأوهام.
كانت الدنيا في عيني جميلة بهيجة، حتى لقد أسفت على عمر قضيت شطراً منه في عمى وجداني من غير شعور ببهجة الدنيا وجمالها. . . وشعرت بأن الناس يشاركونني أفراحي فقد رنت في أذني ضحكاتهم، وابتسامتهم الحلوة، وانطلاق أساريرهم، وولائل السعادة في محياهم. . . ووددت أن تكون معي لتشاركني بما أشعر به من سعادة.
. . . ووصلت إلى البيت فرأيت بطاقة من صديقي الضابط يقول: إنه سافر إلى الأسكندرية لعمل هام يتطلب منه أن يغيب عشرة أيام. . . أو أكثر.
ولم أعر الخبر شيئاً من اهتمام لعلمي بما تقتضيه الحياة العسكرية من تنقل فجائي. . . وفي أصيل اليوم ذاته سمعت أن (نادية) سافرت إلى (رأس البر) لقضاء أسبوع مع أقاربها. وقد تركت لي رسالة تخبرني بذلك.
وظللت حائراً أمام هذه المصادفة العجيبة. . . ورأيتني فجأة وحيداً إلا من وساوسي وخيالاتي، وأشواقي المضطرمة.
أنت تعرف - يا عزيزي - أن الوحدة لدى الإنسان العادي جحيم لا يطاق. . . فكيف بوحدة الإنسان الممتلئ بالظنون، المتأرجح في الأجواء، تتلاقفه الأهواء، وتستبد به الخيالات، ويحس بشوق إلى أكتناه حجب المستقبل.
لقد تعذبت كثيراً وتحطمت أعصابي تحب أعباء الظنون القاسية، وهزت نفسي هزات من القنوط، وصرت صريع دياجير من أفكاري وتصوراتي.
وأخيراً رجع صاحبي. . . ومعه زوجته
لست أعرف السر في إخفاء خبر زواجه عني أنا الصديق المقرب له.
وبعد يومين رجعت نادية. . . وفي مساء اليوم ذاته ألتقيت بها. . . وكانت معي (دبلة) تختفي في حياء إحدى زوايا جيوبي.
ولكن رأيتها صورة ثانية. . . كأنني لم أرها قبل عشر سنوات
ولمحت على وجهها اكتئاباً عميقاً، وفي عينيها شروداً وغموضاً، وفي اختلاج صورتها رنة من العبرات المحبوسة.
تكلمت في مواضيع مختلفة، ولكنها لم تتطرق إلى موضوع زواجنا. . . أنسيته أم تناسته، أم ندمت على ما قالته؟. . . لست أدري فقد بلغ الغيظ مني مبلغاً عظيماً وأحسست بأن الأرض من تحتي تتحول إلى رمال هشة، وتحاول أن تبلعني.
قلت لها:
- أنسيت ما عاهدتني عليه؟
أي عهد؟
- أي عهد؟! أنسيت أحلامنا وأمانينا؟
سكتت وشردت بصرها أثر النجوم التي تطل على عالمنا ساخرة كأنها تضحك من مآسينا.
ورأيتها تمسك يدي وتقول: فلان. . . أنت عزيز علي. . . إنني أشفق على حياتك أن تتحطم، وعلى روحك أن يعصف بها إعصار. . . لهذا فأنا لا أوافق على الخطبة!!
. . . عزيزي الأستاذ لقد حدثتك عن الأحلام التي كانت تعمر فكري. . . وعجبت من سرعة إزدهارها. لقد ذبلت اليوم بسرعة أيضاً. . . وها أنا أحس بقسوتها وضراوتها في فكري
قالت:
- أنت الآن في نظري صديق عزيز أثق بقلبه، وأطمئن إلى إنسانيته. . . لهذا سأقص عليك سراً كتمته عن جميع أصدقائي وأوثق الناس بي صلة. . . الماثلة أمامك فتاة تجرعت صاب الخديعة، ولقيت جزاء سذاجتها وبراءتها، وطيبة قلبها. . . لقد كنت أتصور الدنيا خالية إلا من الحب والطيبة فأوغلت في دروبها منقادة بانطلاقي حتى تعرفت على رجل! صورته ليالي سهادي ملاكاً يمثل القدسية على وجه الأرض، وانجرفت مع تيار تصوراتي إلى شاطئه، فأحببته من صميم قلبي، حباً جارفاً مجنوناً عاصفاً حتى رحت أهرع إلى صدره حين يستبد بي الضجر، وتزرع الدنيا بذور الأحزان في قلبي. . . لقد كنت أقرأ كثيراً مما يكتبه الفرنسيون المصابون بهستريا الحب، فأنصاع إلى آرائهم وأدخل في جنائن مخيلاتهم، وأهيم في الأودية التي تخلقها أفكارهم. . . وأمتص رحيق الحب المحرق من شفتي محبوبي!!. كان صاحبي يعدني بالزواج، ويمنيني بالأماني العذاب، ويطفئ ظمئي بالتعلات. . . ولكنني والحمد لله ما زلت محتفظة بجوهرتي الغالية على رغم إغرائه وتوسله، وخوري أمام قوته الجارفة!!
ولكن الأيام والليالي تسير مسرعة غير متوانية. . . وصاحبي صامت إلا من إحراق أزهار أحلامي، حتى رأيت حبه لي يتحول إلى فتور، وشوقه ينقلب إلى نفور، وأراني وحيدة إلا من حب يائس لم تصبه الأيام المضنية بوهن. . . تلك الأيام التي قضيتها في ظلال هجرانه لي، وتتكية عني، ونفوره مني.
وذات يوم سمعت أنه سافر إلى الإسكندرية للزواج من فتاة من أسرة محترمة. . . وتوهج الحب في قلبي، وانقلب إلى شواظ من نار. . . وقام في نفسي ميل شديد إلى الانتقام ممن سلبني قلبي، وربطني معه، ثم ولى هارباً إلى الوجهة التي ليست وجهتي. فسافرت إلى
الإسكندرية، وعرفت البيت الذي سيظلل حبيبي، فذهبت إليه، ورأيت صاحبي مع عروسة يتألق ويفيض سعادة، وتشرق الابتسامة في فمه في الجهة المنيرة من الحياة كأنه نسي أن هناك قلباً يلهج بحبه، ويتعذب فيشقى في هوة سحيقة في الجهة المظلمة العابسة من الحياة. . . وأحسست بالعبرة تخنقني، وبكياني ينهار كأنه جدار خاو، وعدت أدراجي من البيت الذي سرق مصباح حياتي وتركني أهيم في الدجى وحدي. . . إنه نكث عهده، ولكنني ما زلت أحبه حباً عميقاً وأنا عارفة أنه سبب شقائي، ولكنني لن أتنكب عنه. . . أما أنت فلا أريدك تتعذب بسببي، ولا تتجرع كأس الأسى معي. . . وسأظل مخلصة لحبي اليائس حتى يضع الله حداً لحياتي التعسة.
وطفقت تبكي بدموع لم أتبين حقيقتها. . . ثم قالت: - أعرفته؟. . فأجبت: - لست غبياً إلى هذه الدرجة. . . وامتلأ صدري بالحقد على تلك العلائق التي تربط الإنسانية.
قلت: أتذكرين عندما التقينا ثاني مرة في هذا المقهى، وقلت: مالك ساهماً كأنك تفكر في المستحيل؟. . . لقد أردت أن أصرخ في وجهك: هذا حق. . . فأنا الآن في رحاب المستحيل. ذلك لأنني سمعت هاجساً يهجس بي أن حبك لي مستحيل. . . لأن القوة التي صاغت حياتي كانت قاسية كتبت عليّ أن أسير وحيداً في طريق عامر بالأشواك.
ومددت يدي في جيبي وأمسكت بالدبلة وحطمتها بين أصابعي بقوة. . . ثم رميت حطامها بعيداً. . . ومعها أحلام قلب محروم.
غائب طعمة فرمان