المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 847 - بتاريخ: 26 - 09 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٤٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 847

- بتاريخ: 26 - 09 - 1949

ص: -1

‌مشكلة واحدة وعلاج واحد!

يقولون إن مشكلاتنا الاجتماعية ثلاث: هي الفقر والجهل والمرض. . . وأقول إنها مشكلة واحدة: هي الفقر وحده دون سواه! ولا أريد بهذا القول أن ألغي وجود المشكلتين الأخريين، ولكنني أردهما إلى المشكلة الأولى حين نلتمس موضع العلة الرئيسية، ونضع أيدينا على موطن الداء الأصيل، ونبحث عن الحل الموفق والعلاج الناجح. ونستطيع في حساب المنطق السليم أن تبرهن على صحة هذه القضية حين تقول إن الفقر يدفع بأصحابه إلى مهاوي المرض وظلمات الجهل، ولا يستقيم لك هذا المنطق إذا قلت إن الجهل وحده أو المرض وحده يقود أصحابه إلى حومة الفقر الذي لا حيلة لهم فيه!

على هذا الأساس يجب أن ننظر إلى المشكلة؛ المشكلة التي تخص السواد الأعظم من هذا الشعب ممثلا في طبقات الكادحين من العمال والفلاحين؛ فهنا الفاقة التي تحول بين الفرد وبين نور العلم، وتحول بينه وبين نعمة العافية. . . وماذا يفعل الفقير إذا أراد أن يتعلم وهو موزع الفكر بين مشكلتي الغذاء والكساء، وماذا يقدم للجسد المنهك تحت عوادي السقم وهو لا يملك ثمن الدواء؟! في هذه التربة الخصيمة ينثر دعاة الشيوعية بذور المبادئ الهدامة ويشيعون دعوة السوء، وفي ساحة الفقر وحدها يركزون هجماتهم في الظلام بغية تمهيد الطريق لحملة المشاعل. . . وفي غمرة الأماني الكاذبة والدعوة الباطلة يصور الفقر لأصحابه أن الدجالين قادة، وأن المستضعفين سادة، وأن الشياطين ملائكة، وأن المشاعل التي وعدوا بها ستحمل إليهم الإشراق كل الإشراق، وما دروا أن فيها الإحراق كل الإحراق!

من العجيب حقاً أن يفطن دعاة السوء إلى موطن الداء الأصيل في مصر، ولا يفطن إليه المسئولون ومن بيدهم الأمر جرياً وراء التعلق بالروافد غافلين عن النهر الكبير، نهر الفقر الذي يصب مياهه الملوثة بجراثيم الجهل والمرض في أودية النفوس والعقول. . . ويقولون تبعاً لذلك إن مشكلاتنا الاجتماعية ثلاث، ولا بأس أبداً من أن نبحث لكل مشكلة عما يلائمها من علاج. وتمضي الأيام والفقر هو الفقر، والجهل هو الجهل، والمرض هو المرض. . . لماذا؟ لأن الخطوة الواحدة قد أريد لها أن تكون خطوات، ولأن الجهد الواحد قد قدر له أن يصير إلى جهود. . . وهكذا تشتت القوي في شتى الميادين بدلاً من أن تركز في ميدان واحد، ولا ضير من أن تظفر ببعض النتائج في عدد من السنين قد يستحيل إلى

ص: 1

عدد من القرون! ومن العجيب أيضاً أننا لا نزال نأخذ بسياسة الارتجال في سبيل القضاء على المشكلة الخالدة؛ ومن هذا الارتجال أننا نحاول مكافحة الفقر والمرض والجهل عن طريق الاستجداء وبيع أوراق اليانصيب. . . فمن مشروع البر إلى مشروع الحفاء، إلى مبرة محمد علي ويوم المستشفيات، إلى آخر تلك الأشياء التي يسخر منها منظر الملايين من المعوزين والجهال والمرضى والحفاة!

لو نظرنا إلى الأمور بمنظار الواقع لعرفنا كيف نسلك الطريق. . . هناك مشكلة واحدة وعلاج واحد، أما المشكلة فهي الفقر وأما العلاج فهو النهضة الصناعية. وبهذه النهضة نقضي على المشكلة الخالدة وتخضع من تلقاء نفسها بقية المشكلات. أما السبيل إلى تحقيق هذا الأمل الكبير فهو أن نستغل الأموال المكدسة في المصارف كما يفعل الرجل العصامي أحمد عبود في سبيل تلك النهضة المنشودة، وعندئذ تنتعش الثروات التي يعيش لها أغنياؤنا وينتعش المجتمع الذي يعيشون فيه!

(أ. م)

ص: 2

‌الاستقلال في الأدب

للأستاذ راجي الراعي

الأدب قديم يعود إلى ذلك اليوم البعيد الذي بدأ الدماغ ينسج فيه خيوطه الأولى وله دولته ذات الهياكل والأبراج والعروش وهي أعظم الدول وأضخمها وأجملها وأبعدها مدى وأغناها.

الأدب عظيم له كلمته الفيحاء الفينانة الخلابة الشاملة أتناولها فيعرض أمامي الأدب القديم مواكبه ويأتي امراؤه الذين ضخمناهم وأطلنا قاماتهم خلال القرون ويتربعون في ساحتي قائلين:

نحن أرباب الأدب ودعائمه وأساطينه كتبنا الآيات الرائعات واحتللنا في قصور التاريخ أفخم القاعات وغردنا في جنان الأدب على كل غصن فيه فلم نبق غصناً لطائر وحمنا حومتنا في جميع آفاق الفن واستقطرنا النجوم نجمة نجمة فلم نترك لغيرنا أفقاً ونجمة في كأسها خمرة وحي وإلهام فما أنت كاتب بعدنا؟ ما هذا الجنون فيك تأتي بالدواة وقد استنفدنا مدادها وتكتب المقال وترسل الآية وتؤلف الكتاب ونحن أمامك لم نبق لك جديداً، أنسيت أن العالم قديم وأن الذين فكروا وأحسوا قبل أن ولدت جيوش لو عرضت كلها أمام عينيك لسحقتك أمجاد القلم وأعماك غبار العباقرة عما أنت فيه، لقد عصروا رأس الأدب وقلبه ولم يدعوا لك قطرة.

نحن هنا أيها الدعي المغرور ولم نمت بعد وهذه أصواتنا المدوية في الدهور فقل، فل أنك تردد أصداءها.

أجل، أجل. . . أن لكم ذهبكم الذي يبرق في الأدب القديم ولكن ليس كل ما أخرجتموه للناس ذهباً ففي جواره نحاس كثير، ولكم نفائسكم ولكن ليس ما عرضتموه في المتاحف كل ما يمكن أن يعرض فيها، وأنتم أغنياء في الأدب ولكنكم لم تحتكروا الثروة الأدبية فهناك دنانير لم تضرب في أيامكم وأسواق للأدب تعرض فيها بضاعة لم تعرفوا حريرها. . . أجل، لقد عصرتم رأس الأدب وقلبه وأسكرتم الناس ولكن خمرة الروح لم تفرغ دنانها فهي دنان الزمان الذي لا يفرغ كأسه. . . أنت يا (هيجو) نسر في الخيال عظيم ولكنك لم تحتل الآفاق كلها ولم تقو على إخضاع أثير الشعر لمشيئتك فلا يحمل غير روحك ولا يطرب

ص: 3

لغير صوتك. . . وأنت يا شكسبير لست الفن كله. . . وأنت يا (روسو) لست رب النثر. . . وأنت يا من نظر الأعمى إلى أدبك لست وحدك الذي ينظر إلى أدبه العميان. . . أنتم ورفاقكم القدماء موجات في بحر الأدب والفن والخيال الذي لا ساحل له، وفي وسعي أن آتيكم اليوم وغداً وبعد غد وأنا أصف هذه الشمس في شروقها وغروبها بصورة جديدة لم تخطر لكم وأن ألبس ما أراه وأسمعه ثوباً جديداً ليس فيه خيط واحد من خيوطكم.

أن الوجوه التي أراها والأصوات التي أسمعها هي غير وجوهكم وأصواتكم، والأدب ليس وقفاً على جيل من الناس وإنما هو مرعى للأنسانية لكل أديب مفكر موهوب قطيعه فيه. . . أنتم في الأدب بشر ونحن الذين الهناكم وأقمنا لكم الهياكل وجعلنا الكلمة لا صدى لها إلا إذا خرجت من أفواهكم.

نحن الذين خلقنا لكم وجوهاً لم يعرفها لكم معاصروكم، لقد أقصاكم عنا تعاقب الأجيال في لجة القدم نقام الخيال ينسج نسيجه ويلبسكم الأثواب الفضفاضة التي خاطتها الأساطير والأوهام. . . أنتم أسياد في الأدب ولكننا لا نعترف بكم طغاة مستبدين.

أن للأدب تاجاً يطمح كل أديب موهوب إلى درة فيه، وهذا النير، نير الأدب العتيق يجب أن نتحرر منه فليس في الأدب أنيار وإنما فيه أنهار تتدفق من ينابيع الألهام الذي ينزله الله على من يشاء في أي وقت شاء.

تلك هي اللغة التي يجب أن يخاطب بها أديب اليوم أديب الأمس، إن ما نطلبه من أديب اليوم هو الجرأة في التفكير والثقة بالقدرة على الإبداع والطموح بالعاطفة والخيال إلى آخر نجمة في أقصى الآفاق وغمس القلم في مداد حر ورفع البناء بحجارة جديدة فكم هو جميل أن تبنى بناءك وتقول: هذا حجوي، وما الفائدة من القلم وأين جماله وجلاله إذا غمس في دواة قديمة.

لقد اجتازت بنا قوة التفكير والإحساس مراحل لا تعد واتسعت عيوننا وجباهنا فتكشفت لنا آفاق لا عهد للأمس بها ووعينا ما لم يكتب للأقدمين أن يقفوا عليه وغصنا إلى أعماق الوجدان وعرضنا مواكب السماء والأرض موكباً موكباً وجئنا بالكهرباء وما وراء الكهرباء. . . أبعد هذا كله نظل أتباعاً لشاعر قديم أو ناثر مفكر موهوب بيننا وبينه ألف جيل.

ص: 4

أن ما نطلبه من أديب اليوم هو الاستقلال في الأدب فلا وصاية ولا انتداب للأدب القديم على الأدب الحديث.

أن الاستقلال هرم له جوانبه الثلاثة فإلى جانب الاستقلال السياسي والاستقلال الاقتصادي يقوم الاستقلال الأدبي الذي لا رقابة فيه ولا قيود.

خلقت الفكرة طليقة شامخة وولد الفن عزيزاً حراً وجمال الفكر والشعور يطلع علينا في كل صباح ومساء بوجه جديد واللانهاية في الأفاق هي في الأدب أيضاً فشموسه وكواكبه وسياراته ونجومه تشع في الدهور وما وراءها.

أن هياكل الأدب أوفر عدداً من النجوم والرمال والأمواج

ولكل منا مذبحه الأدبي إذا كان في روحه دم يهرق فلنرفع الرأس في معابد الأدب والخيال أحراراً مستقلين ولننفض يدنا من الخانعين المستبدين

راجي الراعي

ص: 5

‌منادمة الماضي:

على طريق الحملات المصرية في لبنان أيام دولة سلاطين

المماليك البحرية

للأستاذ أحمد رمزي بك

إن الطريق الموصل بين بعلبك ومدينة طرابلس يعد أعلى طريق معبد في الشرق الأدنى، ويخترق مناطق من أجمل المناطق في جبال لبنان ويمر قريباً من شجر الأرز الذي عاصر القرون الطويلة. وكلما اتجهت لزيارة هذه الجهة الخالدة واجتزت بلدتي بشرى وأهدن تواردت الخواطر تترى عليّ، ومرّت أمامي ذكريات حوادث التاريخ، ففي سنة 882 هجرية قام الأشرف قايتباي برحلته المشهورة إلى أقاصي الحدود المصرية في الشمال حيث القلاع الإسلامية في داخل الأراضي التركية الحالية.

كان وصوله إلى بعلبك في يوم السبت 19 جمادي الآخرة وغادرنا الأحد وقت الظهر متخذاً طريق طرابلس مخترقاً الجبال العالية فأمضى الليل في عقبه (ليمونة) على أرتفاع 1960 متراً على سطح البحر. ويقول كاتب رحلة السلطان إن الطريق إليها كان وعراً وهي وسط الجبال تحيط بها أشجار الكمثرى.

ولما اجتاز العقبة اتخذ طريقه إلى الحدث (حدث الجبة) حيث صلى الصبح ومن هذه إلى كفر فاحل ويسميها صاحب الرحلة قاهر. والطريق إليها يمر بحوالي 360 لفتة، ثم انحدر السلطان إلى طرابلس فوصلها في مساء الاثنين وأقام بها إلى الخميس 24 جمادي الآخرة سنة 882.

وهذه الرحلة تعيد إلى مخيلتي الحملات التي وجهها جند مصر إلى هذه النواحي فأنا لا أذكر للقارئ ما كتبه البطريك اسطفانوس الدويهي عن تاريخ سنة 1283 نقلا عن بعض كتب للصلاة عن فتح (جبة بشرى) وحصار (أهدن) كما لا أعرض لما كتبه صالح ابن يحيى في كتابه عن تاريخ أمراء الغرب وما جاء فيه نقلا عن النويري والصلاح الكتبي في فتوح المصريين للسكسروان لأن العبارات الواردة في كتابه صفحة 29 هي بعينها التي أوردها ابن الفرات في كتابه جزء 8 صفحة 142 مما يدل على أنهم جميعاً ينقلون عن

ص: 6

مصدر واحد حينما يتحدثون عن توجه الأمير بدر الدين (بيدار) قائد السلطنة بمصر ومعه العساكر المصرية وصحبته أمراء الجند يقصد جبال كسروان في شهر شعبان سنة 691 (1202) ميلادية. وإنما اكتفى بالنوبات التي جاءت بعد ذلك وأولها الحملة التي قام بها جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام في عهد الملك ناصر محمد. آقوش هذا ترجم له صاحب الدرر الكامنة فقال عنه (آقش الأفرم الجركسي كان من مماليك المنصور (قلاوون) ذكر عنه أنه التمس من أستاذه ولاية الشام فأجابه السلطان (ما هو في أيامي) وذكر صاحب الدرر نقلاً عن ابن فضل الله العمري: إن الأفرم كان يتردد على فقير مغربي بالقرافة في مصر فقال له الفقير: (ماذا تعطيني إذا صرت يوماً نائب السلطنة بالشام، فقال الأفرم (ومن أنا حتى تسند إلى نيابة الشام) قال الفقير: لابد في ذلك وإذا حصل هذا تصدق بألفي درهم عند السيدة نفيسة وبألف عند الإمام الشافعي.

وذكر الأفرم أنه نسى كل هذا وفي يوم من الأيام وقد عاد هارباً من حروب غازان ملك التتار بعد نوبته الأولى وفتحه دمشق وصل القاهرة، وبينما هو يتجول بالقرافة تذكر قول المغربي فأحضر الدراهم وفرقها في الموضعين. ويقول صاحب الدرر (كان الأفرم فارساً بطلاً عاقلا جواداً يحب الصيد وكان خليقاً للملك لما فيه من المهابة والحماية، وكان خيراً عديم الشر والأذى يكره الظلم ولم يحفظ أنه سفك دم أحد ولا لوجه شرعي، وكان يعاشر أهل العلم كابن الوكيل وكان لأهل دمشق فيه محبة مفرطة ومدحه جماعة من الشعراء). أما هو فبلغ تلهفه على دمشق وأهلها مبلغاً جعله يقول (لولا القصر الأبيض (الأبلق) والميدان الأخضر ما خليت بيبرس وسلار ينفردان بمملكة مصر). وهما مكانان بدمشق

ولذا أقام بدمشق إحدى عشر عاماً وأنشأ بها جامعه المشهور سنة 706 الذي تولى الخطابة فيه قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عطاء العو الاوزعي الحنفي.

ويعجبني في الأفرم هذا الود لمدينة دمشق وهذه المنزلة التي أوجدها لنفسه هناك حينما تولى نيابة السلطنة عن مصر في ربوع الشام وما تم على أيديه من عظائم الأمور.

ذكر صاحب البداية والنهاية أنه عقب انكسار التتار وأخلائهم لدمشق حدث: في يوم الجمعة 17 رجب 699 أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر. وفي يوم السبت 18 رجب 699 نودي بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية وفي يوم الأحد 19 رجب 699 فتح باب

ص: 7

الفرج مضافاً إلى باب النصر. وفي 10 شعبان دخل الجيش الشامي وعلى رأسه نائب دمشق الأمير جمال الدين آقوش الأفرم. وفي يوم الجمعة 29 شوال (ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية بسبب فساد نيتهم وعقائدهم).

(ولما وصلوا بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ فاستتابهم).

وفي يوم الأحد 13 ذي القعدة عاد الأفرم من طريق الجبال فتلقاه الناس بالشموع على طريق بعلبك وسط النهار.

وهذه هي النوبة الأولى فلننتقل إلى الثانية: -

وكان خطر التتار جاثماً على الصدور رغم انتصار المصريين في البر والبحر ورغم حروبهم ضد الأرمن في سيس ورغم أنهم فتحوا جزيرة أرواد سنة 702 وكان بقلعة دمشق علم الدين (أرجواش) وهو من أقدر قواد مصر فصمد بالقلعة فاقتدت به بقية القلاع الشامية، ومع كل هذا اشتد الجزع وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري بالمساجد حينما ظهرت طلائع التتار وأخيراً جاءت المعركة، أي وقعة شقحب المشهورة التي وقف فيها الناصر محمد مع خليفة الزمن، وانتصر فيها جند مصر والشام، وكان النساء والأطفال على أسطحة المنازل والمآذن يتتبعون مراحلهم وقد كشفوا رؤوسهم وارتفعت أصواتهم بالدعاء.

ومرت سنتان على تلك الحوادث فإذا بالأفرم يقوم من دمشق بقيادة حملة إلى الجبال بعد أن استراحت الجيوش الإسلامية واستعادت قوتها.

ذكر المقريزي في سلوك هذه النوبة على الترتيب الآتي:

سنة 704 توجه شيخ الإسلام تسقي الدين أحمد بن تيمية في ذي الحجة من دمشق ومعه الأمير بهاء الدين قراقوش المنصوري إلى أهل جبل كسروان يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا. فجمعت العساكر لقتالهم.

سنة 705 سار الأمير جمال الدين آق كوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل كسروان ونادى بالمدينة من تأخر من الرجال والأجناد شنق فاجتمع له نحو

ص: 8

الخمسين ألف راجل، وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم ومزقهم بعد ما قاتلهم أحد عشر يوماً، قتل فيها الملك الأوحد شادي بن الملك الزاهد داوود وأربعة من الجند، وملك الجبل عنوة ووضع السيف وأسر ستمائة رجل وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً وعاد إلى دمشق في أربع عشر صفر 75

وفي المقريزي: أن السلطان أقطع في جمادي الآخر جبال كسروان بعد فتحها للأمير علاء الدين ابن معبد البعلبكي وسيف الدين بكتمر عتيق بكتاش الفخري، وحسام الدين لاجين، وعز الدين خطاب العراقي، فركبوا بالشربوش وخرجوا إليها فزرعها لهم الجبلية ورفعت أيدي الرفضة عنها.

وسنعود بعد قليل إلى هذا الإقطاع بالذات لأهميته.

ويظهر جلياً أن أهل الجبال كانوا السبب المباشر لشن الغارة على أراضيهم فقد ذكر صالح بن يحيى: في تاريخ بيروت ما يأتي عن النوبة الثانية نقلا عن النويري:

(كان أهل كسروان قد كثروا وطغوا واشتدت شوكتهم وامتدوا في أذى العسكر عند انهزامه من التتر سنة 699 (1300 ميلادية) وتراخى الأمر عنهم وتمادى وحصل إغفال أمرهم فزاد طغيانهم وأظهروا الخروج عن الطاعة واعتزلوا بجبالهم المنيعة وجموعهم الكثيرة وأنه لا يمكن الوصول إليهم).

وهكذا يتضح أن الفوضى عمت جبال كسروان وأن الأعتداء حصل على الجيش عند تراجعه من حملة التتار الأولى قبل موقعة شقحب، وفي ذلك يقول أبو الفداء وهو معاصر أنه على أثر حملة الأمير أقوش الأفرم 705 طهرت تلك الجبال الشاهقة بين دمشق وطرابلس، وأمنت الطرق بعد ذلك، وهذا يفسر اجتياز هذه الطرق بالذات بواسطة السلطان قايتباي بعد قرنين تقريباً من الزمن حينما اشتدت الحوادث بين مصر من جهة ودولة حسن الأكبر (اوزون حسن) ثم مع بني عثمان من بعده وذلك للتأكد من أمن الطرق إذا قدر للجيوش المصرية أن تتراجع فلا تهاجم من الخلف.

ويستمر صالح بن يحيى يحدثنا فيقول:

في ذي الحجة 704 جهز إليهم (أي أهل كسروان) جمال الدين آقوش الأفرم نائب الشام زين الدين عدنان ثم توجه بعده تقي الدين (ابن تيمية) وقراقوش وتحدثنا معهم في الرجوع

ص: 9

إلى الطاعة فما أجابوا إلى ذلك فعند ذلك رسم بتجريد العساكر إليهم من كل جهة وكل مملكة من الممالك الشامية).

وهذه العبارة نقلها البطريك اسطفانوس الدويهي في كتابه وأخذها منه المطران الدبس في كتابه مشيراً إلى أن الأفرم أمر الجبليين أن يصلحوا شؤونهم مع التنوخيين (أي أمراء الغرب في لبنان حلفاء المصريين) وأن يدخلوا في طاعتهم فلم يحصل اتفاق فافتى العلماء حينئذ بنهب بلادهم لاستمرارهم على العصيان ولذلك جردت العساكر من جميع بلاد الشام ولم تزل الجموع تزداد من كل ناحية.

وفي كتاب صالح بن يحيى: أن أقوش الأفرم توجه من دمشق بسائر الجيوش في يوم الاثنين 2 المحرم سنة 705 (وهو ما جاء في ابن كثير ص35) وجمع جمعاً كثيراً من الرجال نحو 50 الفاً وتوجهوا إلى جبال الكسروانيين، وتوجه سيف الدين أسندمر نائب طرابلس، وشمس الدين سنقرجاه المنصوري نائب صفد، وطلع اسندمر المذكور من جهة طرابلس، وكان قد نسب إلى مباطنهم فجرد العزم واراد بجهاده في هذا الأمر أن ينفي عنه هذه الشناعة التي وقعت به، فطلع إلى جبل كسروان من أصعب مسالكه واجتمعت عليهم العساكر واحتوت على جبالهم ووطئت أرضا لم يكن أهلها يظنون أن أحداً يطأها، وقطعت كرومهم وأخربت بيوتهم وقتل منهم خلق كثير وتفرقوا في البلاد واستخدم أسندمر جماعة منهم في طرابلس بجامكيته وخزائنه من الأموال الديوانية فأقاموا على ذلك سنين. وأقطع بعضهم (أخبازاً) من حلقة طرابلس واختفى بعضهم في البلاد واضمحل أمرهم وخمل ذكرهم)

وينقل المطران يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت الماروني عن ابن الحريري وابن سباط (أنه في يوم الاثنين ثاني محرم سار آقوش الأفرم نائب دمشق بخمسين الفاً بين فارس وراجل إلى جبل الجرد وكسروان التي حيال بيروت. فجمع الدروز رجال الجرد وكانوا عشرة أمراء بعشرة آلاف مقاتل والتقت الجموع عند عين صوفر وجرى بينهم قتال شديد وكانت الدائرة على الأمراء فهربوا بحريمهم وأموالهم وأولادهم ونحو 300 نفس واحتموا في غار غربي كسروان يعرف بمغارة نيبية فوق أنطلياس بالقرب من مغارة البلانة فدافعوا عن أنفسهم ولم يقدر الجيش أن ينال منهم ثم بذلوا لهم الأمان فلم يخرجوا فأمر نائب الشام

ص: 10

أن يبنوا على الغار سداً من الحجر والكلس وهالوا عليه تلاً من التراب وجعلوا الأمير قطلو بك حارساً عليهم مدة أربعين يوماً حتى هلكوا داخل الغار.

وفي أسباب هذه النوبة يقول صاحب كتاب أخبار الأعيان في تاريخ جبل لبنان أن أهل كسروان والجبال قتلوا أميرين من التنوخيين حين تعرضوا العساكر الإسلامية في واقعة جبيل.

وأن نائب الشام آقوش الأفرم أراد حقن الدماء وبعث الشريف زين الدين بن عدنان للتوسط في الصلح بين الأمراء التنوخيين وخصومهم فلم يقبل هؤلاء).

هذه صفحة أولى لتلك الحملات وسنرى كيف أثرت في تاريخ لبنان وعلاقات أمرائه مع مصر الإسلامية التي خاضت أشد الحروب هولا وكتبت أعظم ملاحم التاريخ.

(يتبع)

أحمد رمزي

ص: 11

‌صور من الحياة:

ربة الشاطئ

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا ويح قلب ينبض بالحب والهوى ةيخفق بالصبا والغرام على حين قد جاوز سن الطيش وطوى أيام العبث! ولكن ماذا عسى أن يضير المرء إن هو نفض عن نفسه أغلالها ساعة من الزمان ليستمتع برواء الحياة ورونق العمر، هناك على سِيف البحر، حيث تضطرب الدنيا بالجمال والمرح وتموج الأرض بالشباب والحركة؟

لشد ما راع صاحبي أن أستمرئ الوحدة وأستعذب الخلوة فأقضي صدر يومي وحيداً في ناحية من الشاطئ، أستروح نسمات البحر في شغف ولذة، وأنشق عبير الحياة في هدوء بعيداً عن نزوات الشاطئ ومباذله، وأنطوي على نفسي أحدثها حديث عقلي حيناً وحديث قلبي حيناً آخر، ثم أوفق خواطري بين أضعاف كتاب اخترته رفيقاً لي. ولشد ما آذاه أن ألصق في مكاني لا أريم إلا حين تدعوني حاجات الدار أو رغبات الابن أو شهوة البطن.

وإنه لنزَّاع إلى اللذة وصاحبي فتى عذب تتدفق الحياة في قلبه مرحاً وسعادة، وتتألق الدنيا في ناظريه حبوراً ودعة، تجذبه الفكاهة ويستخفه الطرب، لا تشغله الزوجة ولا يرهقه الولد ولا تثقله الدار.

وعجب صاحبي أن أفزع من حر القاهرة لأتخذ خلوة على الشاطئ، فأراد أن يستشف ما وراء. . . وحاول - مرات ومرات - أن يكشف عن سر صاحبه - أنا - وإنه ليرى فيه شغل البال وقلق الضمير، فما كان ليظفر مني إلا بنظرة خاطفة أو كلمة عابرة ثم يضيق بي فينطلق من لدني ليتسكع على الشاطئ أو ليسبح في البحر أو ليملأ ناظريه من جمال الأجسام العارية الملقاة على الرمال.

ولكن صاحبي كان ضيق الصدر قليل الصبر فأصر على أن ينفذ إلى سر نفسي - كزعمه - في لباقة ومكر، فجلس إليَّ يحدثني قائلاً: هلا حدثتني عن بعض ما يفدحك؟ (قلت) يفدحني؟ يفدحني أنا؟ ماذا بك؟ (قال) لعلك جئت إلى هنا تريد أن تدفن همومك في رمال الشاطئ أو تطمع في أن تغرقها في لجة اليم! فقلت له مقاطعاً (على رسلك! يا صاحبي) ولكنه استمر في حديثه لا يعبأ: فلما أعجزك أن تفعل جلست في ناحية تبدأ فيها ثم تعيد

ص: 12

فعميت عن أن ترى هنا غير خواطرك السود وتفعم الشاطئ والبحر معاً وتسدل بينك وبين الحياة ستراً ثقيلاً (قلت) ها. . . ها! وَيْ كأنَّ حاجة في نفسك دفعتك إلى أن توهمني بأن أعباء تثقلني لتبلغ غاية في نفسك! (قال) فما بالي أراك ساكتاً في سهوم تنضم على خطرات قلبك وتنطوي على دفعات نفسك تغضي الطرف عن الدنيا في قناعة وتكبت القلب عن المتعة في زهد ومن حواليك بسمات الشاطئ تتكشف عن نشوة ولذة (قلت) وماذا عساي أن أفعل وأنا من ترى؟ ثم أشرت إلى شعرات بيض تلمع في فودي. فقال (أرى؟ أرى؟) ثم جذبني وهو يضحك في سخرية ويقول (أراك شاب القلب واليد واللسان!)

وألقيت السلم إلى صاحبي وفي رأيي أنني أهرب من سجني. . . من المظلة والكتاب، وخُيَّل إليَّ أن المظلة هي سجن جسمي وأن الكتاب هو سجن عقلي، فانطلقت إلى جانبه.

واندفع صاحبي ينشر أمامي تاريخ قلبه منذ أن فزعنا من لظى القاهرة إلى ربيع الإسكندرية، ومنذ أن انطلق هو على سنته تدفعه حرية الشباب والعزوبة، وجلست أنا تحت المظلة تقيدني أغلال الرجولة والأسرة. وقال فيما قال. . . ورأيت هنا ربة الشاطئ، وهي فتاة أشربت روح الخمر، في جسمها نشوة، وفي عطرها سكر، وفي نظراتها سحر، هي زهرة الشاطئ اليانعة وجماله الخلاب وروحه الرفافة، وهي. . . (فقلت مقاطعاً) كفى! لقد أصبحت شاعراً وعهدي بك بليد اللسان بليد العاطفة. ولا عجب، فالشاطئ الآن - في ناظريك - يلد ألف ربة (قال) لا تعجب فسأريكها.

وأقبلت ربة الشاطئ تتهادى في رقة وتخطر في دلال فتعلق بها بصري ما يطرف، ورأيت فتاة تشع جمالاً يعصف بالقلب ويعبث بالفؤاد، وهي تسير الهويني في تبَّان أنيق حاكته يد صناغ فبدت عليه سمات الذوق السليم والفن السامي، وإنه ليكشف عن فتنة يقظي ويواري فتنة عارمة، وإن نسمات البحر الهادئة تداعب شعرها الذهبي المرسل فيضطرب على كتفيها ويداري صفحة خدها الأسيل حيناً ويكشف عنها حيناً فتتراءى الروعة والبهاء من خلالها. ورأيت في نظراتها عزوفاً عن التطلع وفي مشيتها كبرياء الأنفة وفي حركتها امتهاناً للنظرات النهمة وفي أذنيها وقراً عن كلمات الإعجاب والملق، كأنها تعيش في عالمها هي. . . عالم الجمال والسحر والفتنة، عالم السمو الترفع والصلف. ومرَّت بي فأحسست بقلبي يعربد بين ضلوعي في شدَّة وعنف ويتشبث بها في إصرار وعناد فوهي

ص: 13

ما اشتدَّ من عزمي وتحطم ما تماسك من قوتي، وحاولت عبثاً أن أصرف عنها خواطري لأن قلبي كان قد علقها على حين غفلة مني. ورأيتني أندفع خلفها، بالرغم مني، وأنا أجرُّ صاحبي خشية يبتلعها الجمع الزاخر على سيف البحر.

وانتحت ربة الشاطئ مكاناً قصياً من منأى عن أمواج البشرية المتلاطمة على سيف البحر عسى أن تسكن ساعة إلى نفسها. وهناك، نزلت إلى البحر ثم اندفعت بين طيات الماء تصارع الموج في عزيمة لا تخشى نصباً ولا رهباً.

وفي صباح اليوم التالي شهد الشاطئ أمراً عجيباً، شهد هذا الرجل الذي ظلَّ أياماً طوالاً يعيش في ثنايا فلسفته، ينطوي على نفسه ويسكن إلى كتابه وحيداً تحت مظلة لا يمل الوحدة ولا يأنس إلى رفيق. . . شهده - لأول مرَّة - يذرع الشاطئ في تبَّانه وبرنسه ونظراته زائغة ما تستقر وعقله قلق ما يهدأ وفؤاده مضطرب ما يسكن.

وحين اندفعت ربة الشاطئ إلى البحر - كدأبها - اندفعت أنا من ورائها أغالب الموج وأنا أحس بفورة الشباب تتدفق في عروقي وتدفعني - في حرارة - إلى غاية. وشعرت الفتاة بي وأنا أتأثرها في خفة وصمت فنظرت فارتاعت - بادئ ذي بدء - ولكن حديثي بعث في نفسها الرضا والطمأنينة، فانطلقنا معاً جنباً إلى جنب لا أستشعر الكلال ولا أحس التعب

وعدنا إلى الشاطئ صديقين جمعتنا أمواج البحر على الصفاء ساعة فيها لذة القلب وسعادة العمر، عدنا لنتلاقى - بين الحين والحين - على ميعاد.

وأحسست بالسعادة تتسرب إلى قلبي وبالهدوء يتدفق في فؤادي وبالنشاط يتألق في عروقي وبالشباب يفعم روحي، وانطوت أيام. . .

لك الله يا صاحبي! لقد جذبتني من خلوتي لأكون صديق روحاتك ورفيق غدواتك، ففقدت في الصاحب والرفيق حين دفعتني إلى الفتاة التي سحرتك. . إلى ربة الشاطئ.

وعز علي صاحبي أن تستشعر الدار فقدي، وهو من ذوي قرابتي الأدنين، وأن يحس هو مني الإهمال وإنه لذو دالة علي، فجاء يشكوني إلى نفسي. وأنصت إلى حديثه بأذني وقلبي هناك. هناك عند الفترة التي صرفتني عن الزوجة والابن والدار جميعاً.

وبدا لعينيه أن الفتاة قد سيطرت على مشاعري فغدوت مسلوب العقل مختلب اللب لا أجد النور إلا من خلال نظراتها الساحرة ولا ألمس السعادة إلا في نبرات صوتها الموسيقي ولا

ص: 14

أحس بالدفء إلا إلى جانبها، فأراد أن يبلغ غايته من بين خفقات قلبي، فقال:(لقد شغلت - منذ حين - عني وأنا أطمع أن أظفر ببعض وقتك لأصحبك في نزهة جميلة) قلت في جفوة (أي نزهة تريد؟) قال (نقضي معاً سهرة الليلة في كازينو كذا) قلت (ولكنني أمقت السهر لأنه عناء ينفث العلة في الجسم ويبذر الضعف في الشباب وبلد الخبل في العقل) قال (إنك ولا ريب تحتال لتضنَّ عليّ ببعض فراغك، وأنا معك من تعلم) ثم نظر إلى نظرة فيها الرجاء والاستعطاف رق لها قلبي فما استطعت أن أرفض طلبته.

وهناك في الكازينو شملني جو المرح وسيطرت علي روح البهجة فرحت أنا وصاحبي نبعث في هدوء ونسخر في أدب ونضحك في رقة. وعلى حين فجأة قال لي صاحبي وهو يشير إلى المسرح (انظر، ما أجمل هذه الراقصة!) ونظرت. . . نظرت فإذا الراقصة هي فتاتي. . . هي ربة الشاطئ.

وأصابتني الدهشة والذهول لما رأيت. إنها راقصة من بنات الهوى تنفث السم في قلوب الناس لتسرق الرجل من رجولته وماله وتستلب الزوج من زوجته وأولاده. إنها عون الشيطان يريد أن يهدم الدار ويشتت شمل الأسرة.

وهدني الحزن لما رأيتها - بعد حين - تتنقل بين موائد الشباب والشيوخ على السواء كذبابة خمصانة بها نهم فهي تسقط فلا تسقط إلا على القذر والنتن. وأوشك الأسى أن يعصف بي لولا صبابة من رجولة ما تبرح تتأجج بين ضلوعي.

وانطلقت إليها وفي نفسي ثورة مكفوفة، ورحت أهزها في عنف وأحدثها في كمد ثم دفعتها عني وأنا أناديها وداعاً. . . وداعاً، يا ربة الشاطئ).

يا ربة الشاطئ! إن حب الابن في قلب الرجل فوق حبك، وإن هوى الزوجة فوق هواك، وإن راحة الدار فوق رغباتك! فوداعاً. . . وداعاً يا ربة الشاطئ.

كامل محمود حبيب

ص: 15

‌أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وأثر رحلته إلى

‌الديار المصرية

للأستاذ حسني كنعان

- 5 -

كان هبوط القباني مصر في عهد ساكني الجنان المغفور لهم: (الخديوي إسماعيل والخديوي (توفيق) والخديوي (عباس)) وكان هؤلاء يعطفون عليه عطف بعض ولاة الشام ويشجعونه حتى بلغ من شدة عطف الخديوي توفيق عليه أنه طيب الله ثراه ونفر ضريحه كان له في مسرحه حجرة خاصة يؤمها كلما لفست نفسه وتاقت لمشاهدة فن هذا النابغ السوري العظيم.

ومما حببه إليه أن مدة إقامته الطويلة في مصر صادفت هذا العهد التوفيقي الذي كتب له فيه النجاح والفلاح.

ولقد اشتهر نابغتنا في هذا العهد وفي هذه البلاد التي تعرف قيمة الفن وأربابه نال شهرة فائقة لا تقاس بها شهرته في وطنه حتى غدا مسرحه في برهة وجيزة كعبة القصاد وقبلة أنظار عشاقه. وكانت شهرته في سورية مقتصرة على هذا المحيط الضيق، أما هنا فلقد طارت شهرته في كافة أقطار العالم وأصبح بهذا مفناً عالمياً عرف له أهل الخبرة من الفنيين المتكسبين من هذه الصناعة والمتلذذين قدره ولزموا مجالسه - وأقبلوا على مسرحه إقبالاً رائعاً إن دل على شيء فإنما يدل على مقدار عظمة مصر وتقديرها للنابغين، فأخذ عنه الكثيرون منهم وتتلمذوا عليه - وناصروه وآزروه فانتعشت بذلك آماله وتجددت همته فأرى أبناء الوادي من عظيم فنه وخوارق مواهبه ما صيره موضع الإكرام والإجلال بينهم، فنسى بهذا أيامه السود التي مرت عليه في الشام مجفواً من السلطان ومنبوذاً من الأهل والخلان). وكان (عبده الحمولي) المغني المعروف والمطربة المبدعة (ألماظ) لا يتورعان عن حضور حفلاته ولا يبخلان على الجماهير بعرض بعض أدوارهما وقطعاتهما الموسيقية والغنائية في فترات فصول رواياته، ولهذا كان مسرحه يحوي العبرة والعظة في التمثيل والفن والطرب والإبداع في التغني والإنشاد. . .) وهنا أراني ملزماً بإثبات بعض

ص: 16

ما ورد عنه في كتاب الموسيقى الشرقي لأحد تلاميذه المرحوم (كامل الخلعي) من وصف عام شامل يدرك القارئ منه مقدار المكانة الفنية الرائعة التي كان يتمتع نابغتنا بها في مصر ومقدار تقدير المعاصرين له. قال بالحرف الواحد ما نصه.

فكان مسرحه مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته وجلها من منشآته لما جمعت بين جزالة الألفاظ وعذوبتها ورقة المعاني ودقتها - أرهفت نواحيها بالتهذيب، وطرزت حواشيها بكل غريب - شهد لحسنها الكثير من أهل البلاغة ومنقبي صناعة الصياغة كما شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين - وكان بعد انتهاء كل رواية يلقي من القطع الموسيقية شذوراً تنزو لها الأكباد، ويتحرك لحسن وقعها الفؤاد، حتى أحرزت مصرنا من إقامته فيها فنوناً جزيلة وفضائل جليلة يقدرها حتى قدرها أولو السجايا الحميدة والعقول الحصيفة - ولا ينكرها إلا ذوو الأغراض السافلة السخيفة اه). هذا وقد أفرد له تلميذ بحثاً خاصاً ذاكراً فيه مزاياه الفنية والأدبية والأخلاقية والعلمية يراه القارئ في تراجم عظماء الموهوبين من رجالات الفن على الصفحة (137) من هذا الكتاب التي أشرت إليه آنفاً ونقلت عنه هذه الفقرة من الترجمة مدللاً بها على صحة ما أوردته من تقدير هذا النابغ في مصر العزيزة وهي غيض من فيض ما كتب عنه في هذا الفصل يراه الباحث المنقب الذي يريد أن يعرف عظمة القباني يومئذ في ربوع النيل السعيد، وقد عرف عن الشيخ سلامة حجازي أنه كان يحضر رواياته وهو فتى حدث لم يبلغ الحلم بعد فلفت نظر القباني هذا الفتى المداوم على مشاهدة رواياته كل ليلة فسأل عنه فقيل إنه منشد حدث ينشد في الأزكار والموالد يدعى سلامة حجازي فدعاه لإسماعه فأسمعه إياه فسر به كل السرور وتنبأ له بمستقبل باهر وصيت بعيد. ولقد صدقت نبوءة القباني فيما بعد وأرتنا الأيام أن الشيخ سلامة أمس باقعة عصره في فنه وأن الزمان قل أن يجود بمثله في عصر ضن بالأصوات الكاملة التي تشبه صوته، ولابد أن يكون الشيخ سلامة بهذه المداومة على رواياته كل ليلة قد أخذ عنه الكثير من أصول التمثيل والفن وتتلمذ عليه لأن هذا الفن كان مجهولاً لدى المصريين كما أن أولاد عكاشة عبد الله وأخويه كانوا من تلاميذه المداومين، وعبد العزيز خليل وكامل الخلعي كانا من أنبغ تلاميذه المقربين إليه. وأول من ساعده في عمله من المصريين (أنطون فرح) اشتغل في جوقته بحديقة الأزبكية. ولما طبقت شهرته

ص: 17

الآفاق طلب للذهاب إلى معرض (واشنطون) ليعرض بعض رواياته، وقطعاته الفنية فيه، فأبحر مع أفراد فرقته إلى الدنيا الجديدة وكلهم أمل وغبطة لإطلاع زوار المعرض على الذكاء العربي ومقدار ما وصل إليه فنه - بيد أن الدّوارّ الذي اعتراه في طريقه جعله يعدل عن السفر فعاد أدراجه من إيطاليا إلى القاهرة وسافر أفراد فرقته وحدهم إلى (واشنطون) وعرضوا على زواره بعض فصول من قطعاته الموسيقية وبعض رواياته كانت موضع تقدير القوم وإعجابهم هناك.) رأى نابغتنا بعد عودته من إيطاليا أن ينقل مسرحه من الأزبكية إلى قرب دار (الأبرا) الملكية ففعل. وبعد مدة من الزمن احترق مسرحه وعاد الشؤم والنحس بصحبانه من جديد، وكان قد انتشر هذا الفن في ربوع النيل وكشفت غوامضه مما أهاب بصاحبنا أن يهجر القاهرة لتفرق أفراد جوقته وقلة ذات يده ويؤم الأرياف متكسباً مع بعض أفراد جوقته المتخلفين عن السفر إلى (واشنطن) فزاول العمل مدة في الأرياف ثم قل العمل وتاقت نفسه للعودة إلى بلاده التي دفن فيها أحلامه.)

وحببّ أوطان الرجال إليهم

مآرب قضّاها الشباب هنالكا

وفي نزوة من نزوات النفس الأمّارة وموجبةٍ من موجبات الشوق المبرح المضني عاد القباني إلى دمشق بعد أن نشر رسالة الفن في القطر الشقيق، وكانت الحال قد تبدلت في وطنه ومات من مات من عشاق فنه ورواد مجالسه، وهلك من هلك من حساده ومناوئيه. وكان المشيب يومئذ قد أشعل رأسه وكلل جبينه بهالة بيضاء من نور الشيخوخة والوقار فلم يجد في نفسه الهمة الفتيّة والكفاءة للقيام بأي عمل فني فأقام في دمشق مدة كان معتزلاً العمل خلالها زاهداً في بيته منقطعاً إلى صلاته ونسكه حتى أتاه رسول أحمد عزة باشا العابد) يدعوه باسمه للشخوص إلى الآستانة ليمهد له سبل المثول بين يدي الذات الشاهانية، فتجددت عزائمه بهذا الطلب وعاد الأمل يداعبه من جديد وقد نسي أن لكل زمان دولة ورجالاً، وقد هتف به هاتف من نفسه أن يعتذر عن هذه السفرة؛ بيد أن شبح (البروفسور) وآفاته التي تبتلع أشلاء الضحايا مثل أمامه ودفعه إلى إجابة الباشا إلى طلبه، وفور وصوله الآستانة استقبل من قبل الحاشية استقبالاً فخماً وحل ضيفاً على الوزير الغابه صاحب الدعوة، وكان يتقن اللغتين التركية والفارسية فبقى هناك ضيفاً يتمتع بعطف مضيفه مدة من الزمن حتى احتال الوزير الداهية على المماليك بوعد لمقابلة القباني، وكان من شروطها

ص: 18

الدخول على السلطان وهو محني الرأس ومطرقاً إجلالاً وإكباراً مقبلاً الأعتاب بين يديه، وهي مراسيم كانت تطبق على كل من يريد المثول أمام هذا الطاغية الجبار، ومن يخالفها لا يكتب له الحظوة بهذه المقابلة. وعندما عرضت على صاحبنا القباني رفضها بشمم وإباء قائلاً: أنا رجل نسيج وحدي لا أحني رأسي لغير خالقي الذي يميتني ويحييني ويطعمني ويسقسني وبيده ضري ونفعي؛ فإن شئت يا سيدي الباشا أن تكون مقابلتي لمولاي المعظم كمقابلتي لكل إنسان آخر من الناس فعلت، وإن أبيت إلا هذه الشروط فاعفني من هذه الزيارة التي فيها المذلة والمهانة).

فلم يكد الباشا يسمع من صاحبه هذه العبارات حتى كاد يجن لشدة ما عراه من الغضب والحنق، فغض الطرف عن هذه الزيارة ثم صدف القباني عنه قائلاً أرجوك رجاءً حاراً ألا تذكر ما دار بيني وبينك من حوار إلى أي مخلوق لئلا يصل ذلك إلى مسامع السلطان فتكون الطامة الكبرى علينا نحن الأثنين، كما أني آمرك أن ترحل من هذه الديار على الفور دون أن يشعر بك إنسان، وقد خصص له بعد سفره معاشاً من خزينة الدولة يكفيه هو وأفراد أسرته.

بقى القباني يتقاضى في دمشق هذا الراتب منحة من الوزير المشجع لكل موهبة حقبة من الزمن كان فيها معتزلاً الناس إلى أن اختاره ربه إلى جواره، فانطفأت بانقضائه تلك الشعلة الفنية التي أضاءت النور للشرق عامة ونفذ إشعاعها إلى ديار الغرب، وكانت السبب في انبعاث هذه النهضة الفنية التي قامت في ربوع الشام والنيل والتي لا يزال أثرها ماثلاً للعيان يذكرها أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة كابراً عن كابر). . .

وكانت وفاته في دمشق سنة 1320 هجرية ودفن في مقبرة الباب الصغير. قضى كما يقضى عظماء الرجال دون أن يترك لأسرته من بعده سبداً ولا لبداً ولم يبق لأسرته سوى بيت للسكن تقطنه الآن ابنتاه الكهلتان. ومما يجدر ذكره هنا في هذه الترجمة إقراراً بالجميل أن معاشه ظلت ابنتاه تتقاضيانه حتى موت الوزير العابد ولم ينقطع عنهما إلا في عهد زوال الدولة العثمانية وظهور الدولة الكمالية.

هذا ما بدا لي أن أكتبه خدمة للتاريخ والحقيقة عن القباني الممثل راجياً أن تتاح لي فرصة أخرى وأكتب نبذة عن القباني الموسيقي الملحن الذي أضاف إلى رقصة السماح نوعاً آخر

ص: 19

في هذه الرقصة وهي الإيقاع بنقل الأرجل وتقديم الصدر وتأخيره في جولات الرقص. ولهذا النابغ موشحات وقدودٌ وأما دبح نبوية لا تزال متداولة بين المنشدين في مسجد بني أمية وما فتئت مستعملة حتى الآن يتبارى بها أرباب هذه الصناعة في حفلات الأذكار - وفي المساجد في ليالي رمضان وغيرها من الأيام المباركة كليلة النصف من شعبان وليلة القدر وغيرها وسنفرد لهذا البحث صفحة كاملة.

حسن كنعان

ص: 20

‌برلمان الأقلام

للأستاذ عمر عودة الخطيب

بعد أن امتحن العرب تلك المحنة القاسية بفلسطين، فكانت لهم - وا أسفاه - نكبة ومأساة، شطرت الأمة العربية اشطاراً متناحرة، ودولاً متنافرة، وقضت على شعب كريم بالتشريد والفناء، وألقت به منبوذاً بالعراء، يقاسي مرارة المهانة وألم الحرمان، وينتظر رحمة الضمير الأوربي في مؤتمر (لوزان)، بعد هذا كله انصرفت الأقلام عن الكتابة في موضوع فلسطين، وآثرت أن تجنح إلى الراحة، وتثاءبت على أوراق الكتاب، أو عاد بعضها سيرته الأولى، يكتب ما لا غناء فيه، ولا طائل تحته، ولا جدوى منه مما لا يمس أدواء الأمة الخطيرة، أو يصور مآسيها الدامية، ونكبتها الماحقة. . . وكأن فلسطين - إبان المعارك فيها - كانت لبعض الأقلام الفاترة، رفداً أنقذها من مسغبة، وأحياها من موات، ذلك لأن من خطل الرأي وفساد الذوق - ولا شك - أن تشغل (فلسطين) الدنيا كلها، والعالم العربي خاصة، ثم لا تشارك أقلامهم الناس فيما هم فيه، ولا تبض - على الأقل - ببعض كلمات، تنير السبيل، وتبصّر الضال، وتهدي الحائر. . . وكأني بهؤلاء كانوا يضيقون ذرعاً بهذا الموضوع الذي طال الكلام فيه، والجدل حوله، فكانوا - كما أحسب - يتلمسون منه خلاصاً، فلا يجدون منه مناصاً، حتى إذا ما انقطع زئير المدافع، ودوي النسور، وأذعن العرب لهذه (الهدنة) الممقوتة، هادنت أقلامهم هذه الموضوعات ورجعت إلى الشواطئ والحانات، تصف الأجساد العارية، والأقداح الدافقة، والرقص والابتذال، ومسابقات الجمال. . . ولولا أن (الرسالة) الغراء تنقل إلينا بين فترة وأخرى، بعض المقالات الرائعة في هذه الموضوعات الحية، من كتاب مجيدين، وأدباء يقظين، لأوشك القارئ العربي أن تعظم محنته، وتكبر بليته، فيرى اسم (فلسطين) يحتضر - الآن - على أسنة الأقلام، كما احتضر - من قبل - على ألسنة بعض الحكام.

ذكرت هذا حين قرأت ذلك المقال الرائع (البرلمان الشعوبي العربي والاستعداد للحرب مع اليهود) للأستاذ نقولا الحداد، عاد إلى مقالات مضت، وأبحاث غبرت، وكلمات قيمة نشرت، للأستاذ الفاضل، ولأستاذنا الجليل (الزيات) ولغيرهما من أعلام البيان، ورجال الفكر. . . وعلى الرغم قارنت بين الأمس واليوم فألفيت بالأمس شعوراً دافقاً، وحماساً

ص: 21

لاهباً، أحيا العزائم، وأيقظ المشاعر، وكان له - فيما أرى - أثر بالغ في توجيه الأنظار، وتنبيه الأفكار.

أما اليوم فأننا - نحن شعوب العرب - بحاجة إلى أن نضم إلى إعدادنا الحربي والسياسي، وإعدادنا فكرياً شعورياً آخر، يصور لنا - بصراحة تامة - عوامل تخاذلنا، وأسباب انهزامنا، كما يصف لنا عدونا كما هو بشره المستطير، وخطره الوبيل، ومكائده وأجابيله ومطامعه من الفرات إلى النيل، حتى يدرك كل عربي معركة الغد، فيأخذ لها أهبتها، ويعدلها عدتها، لئلا يقع في المستقبل، - كما وقع بالأمس - صريع الغفلة والجهالة، والضعف والاستسلام.

إذا أبى علينا - فيما معنى - طغيان أعدائنا من أوربيين وأمريكيين، واستسلام إخواننا وأبناء عمنا من السادة اليعربيين، أن نمضي في جهادنا، ونثابر على نضالنا، ونتيح للشباب الظامئ المتوئب، أن يروي ظمأه من دماء اليهود، وينقع غلته في الأرض المقدسة، فلن يصل طغيان أولئك واستسلام هؤلاء، إلى الأقلام الحرة، فعليها أن تجدد حملتها، وتعيد كرتها، فتوقظ النائمين، وتفضح الخائنين، وتحيي في نفوس الشباب تلك العزيمة التي أوهتها الصدمة، وتذكي بين جوانحهم تلك الجذوة التي أخمدتها النكبة، وذلك الحماس الذي أذهله مكر الماكرين وشعله بغي الباغين. نعم نريد من هذه الأقلام - وهذه إرادة الشباب - أن ترأب الصدع، وتجمع الشمل، وتلم الشعث، وتدفع في تيار من الحياة جديد، ذي قوة ومراس، ورجولة واحتراس، هذه القافلة التائهة وهذا الموكب الحائر. . . وليس أجدى علينا من أن تكون هذه الأقلام - الأقلام الكبيرة - بريد اليقظة الكاملة، والنهضة الشاملة، لهذه الأمة العاثرة.

وأن لنا في التاريخ، لأمثلة حية من جهاد الأقلام، في إنهاض الأمم، وإيقاظ الهمم، وهذه كتب (روسو ومونتسكيو وفولتير) وغيرهم بين أيدينا، تشهد على ما فعلته في فرنسا أيام غفلتها، وأبان رقدتها.

فإذا لم تسبق فكرة (البرلمان الشعوبي العربي) هذه الهزة الفكرية من (برلمان الأقلام) في مصر وغيرها، وقادة الرأي، وأعلام الفكر في الأمة العربية كلها، حتى تتناجى الأرواح، وتتلقى الأفكار، وتتحدث المشاعر، فلن نجد عند المعركة، الأذن التي تسمع، والقلب الذي

ص: 22

يعي، والعقل الذي يفكر، والإرادة التي تعمل، وإذا خسرنا هذه كلها، فلن تنفعنا - حين ذاك - هذه (المؤتمرات) ولا تلك (البرلمانات).

فلعل أدباءنا الأمجاد، يعرفون هذه الحقيقة، فيعطوها نصيباً من أقلامهم، وقليلا من وقتهم، ويسيراً من تفكيرهم، وهم - دون شك - يعلمون بأن دولة الأفكار في حصن مكين، لا تناولها قوة، ولا يصل إليها عدوان. . . ولنذكر أخيراً كلمة شكسبير الخالدة (تستطيع أن تسلبني مالي، وأن تسجنني، وأن تقبض روحي، ولكنك عاجز عن قتل فكرة واحدة من أفكاري. إن الأفكار تستمد وجودها من الله.)

(دمشق - المزه)

عمر عودة الخطيب

ص: 23

‌أوهام في الزيتون

للآنسة الفاضلة فدوى عبد الفتاح طوقان

(في السفح الغربي من جبل (جرزيم) حيث تملأ مغارس الزيتون القلوب والعيون، هناك، ألفت القعود في أصيل كل يوم عند زيتونة مباركة، تحنو على نفسي ظلالها، وتمسح على رأسي عذبات أغصانها؛ وطالما خيل إلي أنها تبادلني الألفة والمحبة، فتحسن بإحساني، وتشعر بشعوري.

وفي ظلال هذه الزيتونة الشاعرة كم حلمت أحلاماً ووهمت أوهاماً).

هنا، هنا، في ظل زيتزنتي

تحطم الروحُ قيودَ الثرى

وتخلد النفس إلى عزلة

يخنق فيها الصمتُ لغوَ الورى

هنا، هنا، في ظل زيتونتي

في عدوة الوادي، بسفح الجبل

أصغي إلى الكون ولما تزل

آياته تروي حديثَ الأزل

هنا يهيم القلب في عالم

تخلقه أحلاميَ المبهمة

لأفقه في ناظري روعة

وللرؤى في مسمعي هيمنة

عالم أشواق سماويى

تطلق روحي في الرحاب الفساح

خفيفةً، لا الأرض تثنى لها

خطواً، ولا الجسم يهيض الجناح

واهاً! هنا يهفو على مجلسي

من عالم الأشواق روح حبيب

لم تره عيناي، لكنه

في خاطري، يا للبعيد القريب

أكاد بالوهم أراه معي

يغمر قلبي بالحنان الدفيق

يمضي به نحو سماء الهوى

على جناح من شعاع طليق

زيتونتي، لله كم هاجس

أوحت به أشواقي الحائرة. . .

وكم خيالات وعى خاطري

تدري بها أغصانك الشاعره!

نجيتي أنت وقد عزَّني

نجيُّ روحي يا عروس الجبل

دعي فؤادي يشتكي بثَّه

لعل في النجوى شفاءً، لعل

يا ليت شعري إن مضت بي غداً

عنك يدُ الموت إلى حفرتي

تراك تنسين مقامي هنا

وأنت تحنين على مهجتي؟

ص: 24

ترك تنسين فؤاداً وَعتْ

أسراره أغصانك الراحمات

باركها الله، لكم ناغمت

وهدهدت أشواقه الصارخات!

زيتونتي، بالله إما هفت

نحوك بعدي النسمة الهائمة

فأذَّكري كم نفحتنا مهاً

عطورها الغامرة الفاغمة

وحين يستهويك طيرُ الربى

بنغمة ترعش منك الغصون

فأذَّكري، كم طائر شاعر

ألهمه شدوي شجيَّ اللحون!

تذكريني كلما شعشعت

أوراقك الخضراَء شمس الأصيل

فكم أصيل فيه شيعتها

بمهجة حرَّى، وطرف كليل

إن يزوِها المغربُ عن عرشها

فالمشرق الزاهي بها يرجع

لكنني، آهاً، غداً تنزوي

شمس حياتي ثم لا تطلع!

ويحي، أتطويني الليالي غداً

وتحتويني داجيات القبور؟

فأين تمضي حفقاتُ الهوى

وأين تمضي خلجات الشعور؟!

ونور قلبي، والرؤى، والمنى

وهذه النار بأعماقيه. . .

هل تتلاشى بدداً كلها

كأنها ما ألهبت ذاتيه!. . .

أما لهذا القلب من رجعة

للوجد، للشعر، لوحي الخيال؟

أيخمد المشبوب من ناره

واشقوة القلب بهذا المآل!.

يا رب إما حان حين الردى

وانعتقت روحي من هيكلي

وأعنقت نحوك مشتاقة

تهفو إلى ينبوعها الأول. . .

وبات هذا الجسم رهن الثرى

لقيَ على أيدي البلى الجائره

فلتبعث القدرة من تربتي

زيتونة ملهمة. . . شاعره. . .

جذورها تمتص من هيكلي

ولم يزل بعد طرياً رطيب

تعبُّ من قلبي أنواره

ومنه تستلهم سرَّ اللهيب!

حتى إذا يا خالقي أفعمت

عناصري أعصابها والجذور

انتفضت تهتز أوراقها

من وقدة الحسَّ ووهج الشعور

وأفرعت غيناَء فينانةً

مما تروَّت من رحيق الحياه

ص: 25

نشوى بهذا البعث، ما تأتي

تذكر حلماً قد نلاشت رؤاه

حلم حياة سربت وانطوت

طفاحة بالوهم. . . بالنشوةِ

لم تك إلا نغماً شاجياً

على رباب الشوق والصبوةِ!

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان

ص: 26

‌تعقيبات

للأستاذ أنور المعداوي

مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي:

مشكلة الأداء النفسي في الشعر مشكلة تهم الشعراء المحدثين، وتهم النقاد المحدثين، وتهم القراء المحدثين. تهمهم جميعاً لأن نظرة الشاعر إلى النفس والحياة قد تفاوتت بين الأمس واليوم، وكذلك نظرة الناقد ونظرة القارئ. . . ويلاحظ هنا أنني أقصر الحديث على الشعر العربي وحده دون سواه.

إن رأيي في الشعر العربي القديم هو رأيي في مشكلة الأداء اللفظي في هذا الشعر، وهي مشكلة شغلت الشعراء القدامى فأفرغوا فيها كل طاقاتهم الشعرية لا الشعورية، وشغلت النقاد القدامى فأقاموا موازينهم للألفاظ من حيث الدلالة المادية لا النفسية، وشغلت القراء القدامى لأن فهمهم للشعر قد استمد أسباب وجوده مما بين أيديهم من نتاج شعري يسير في ركابه النقد الموجه لهذا النتاج. . . إذا قلت لك إن الشعر العربي القديم كان في جملته شعر (السطوح الخارجية) للنفس والحياة، فلا تحمل هذا القول على التعصب للحديث والوقوف إلى جانبه. إن أمامك هذا الشعر، فراجع فيه نفسك، واستشر في حقيقته ذوقك وحسك، إنه شعر يشعرك بفراغ (الوجود الداخلي) عند قائليه، لأنهم كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية) في الكثير الغالب من الأحيان، فإذا عادوا إلى تلك الحدود فتغلبوا على مشكلة (الصدق الشعوري) قامت في وجوههم مشكلة أخرى هي مشكلة (الصدق الفني). . . وهنا مفرق الطريق بين المشكلتين الرئيسيتين: مشكلة (الأداء النفسي) ومشكلة (الأداء اللفظي)، في معرض الموازنة بين الشعر العربي الحديث والشعر العربي القديم!

وأحب هنا أن أوضح الفوارق بين هذه القضايا الفنية في حدود التعبيرات الاصلاحية والنقدية. . . فما هو الصدق الشعوري أولا، وما هو الصدق الفني ثانياً، حتى نستطيع أن نصل إلى الهدف الأخير حول مشكلتي الأداء في الشعر؟

الصدق الشعوري هو ذلك التجاوب بين الوجود الخارجي المثير للانفعال، وبين الوجود الداخلي الذي ينصهر فيه هذا الانفعال. أو هو تلك الشرارة العاطفية التي تندلع من التقاء تيارين: أحدهما نفسي متدفق من أعماق النفس، والآخر حسي منطلق من آفاق الحياة. أو

ص: 27

هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الجائشة في ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما الصدق الفني فميدانه التعبير؛ التعبير عن واقع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء!

هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن، لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأداء النفسي في الشعر، وهو الأداء الذي يعتمد على اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ ذو الدلالة النفسية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!

هذا هو مكان اللفظ من الأداء، أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي ينقلك بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الوجدانية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي).

ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء، وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملا بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلا في عنصري الألفاظ والأجواء لا غنى له بحال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من نقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!

ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . إن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو الموسيقي؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن تتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ، والموسيقى الحالمة مثلا في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فتتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة

ص: 28

مثلا في شعر الغزل والرثاء!

نترك هذا التحديد لكل تلك القضايا الفنية لنقول إن أصحاب الشعر العربي القديم لم يفطنوا إلى قيم الأداء النفسي في الشعر إلا في القليل النادر الذي لا يحسب له حساب. . . وإذا كانت هناك ومضات من هذا الأداء تطالعك في هذا الشعر، فهي ومضات متفرقة يصعب أن تجمع بينها لتخرج من هذا الجمع برصيد يمكن أن ينسب إلى شاعر واحد، لتخلق من شخصيته الشعرية قمة من قمم الأداء النفسي! مصدر الداء أنهم نظروا إلى مظهر اللفظ أكثر مما نظروا إلى مخبره، وأنهم شغلوا عن (الذاتية النفسية) بتلك (الذاتية البيانية)، وأنهم عبروا عن الشعور المصنوع أكثر مما عبروا عن الشعور المطبوع!

على هذا الأساس سار الشعر القديم يبارك خطواته النقد القديم؛ ذلك لأن الأجيال قد دأبت على أن تخلق أبناءها في ميدان الفن من طينة واحدة، وأن تصوغ ملكاتهم من معدن واحد: يقف الشاعر عند (الهياكل العظمية) للألفاظ ويقف معه الناقد، وغاية الفن عند هذا وذاك أن يطلب الأول إلى صاحبيه أن يقفا لحظات ليبكيا معه، وأن يشير الثاني إلى أنه بلغ القمة لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى، أو لأنه مثلا قد وقف إلى تشبيه شيئين بشيئين في بيت واحد!

لا أريد أن أذهب في القول إلى أكثر مما ذهبت في هذا المجال، لأن مشكلة الأداء اللفظي لا تحتاج إلى أن نستخلص لها الشواهد من الشعر العربي القديم، ولأن تلك الشواهد قد مر بها القراء والأدباء في مطالعتهم لذلك الشعر، وهي بعد ذلك أوضح في حساب الكثرة من أن يشار إليها أو تجمع في حساب التسجيل والإحصاء!

حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم لأصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان ويستطيع النقد الحديث أن يقول إنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم (شوقي)، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم (إليا أبو ماضي)، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات

ص: 29

الأداء النفسي أكثر لمعاناً منها في شعر الآخرين!. . .

ولقد قدمت إلى القراء نقداً تحليلياً لمشكلة الأداء النفسي في الشعر، ويبقى أن أقدم إليهم نموذجاً كاملاً لهذا الأداء، حتى تتكشف لهم جوانب ذلك النقد على ضوء هذا المثال، وهو قصيدة للشاعر إليا أبو ماضي، وقعت عليها دون أن أعمد إلى شيء من الاختيار. . . عنوان القصيدة (وطني)، وبناؤها هذه الأبيات:

وطن النجوم. . . أنا هنا حدِّق. . . أتذكر من أنا؟

ألمحت في الماضي البعيد فتى غريراً أرعنا

جذلان يمرح في حقولك كالنسيم مدندنا

المقتنى المملوك ملعبه وغير المقتنى

يتسلق الأشجار لا ضجراً يحس ولا ونى

ويعود بالأغصان يبريها سيوفاً أو قنا

ويخوض في وحل الشتاء مهللا متيمنا

لا يتقي شر العيون ولا يخاف الألسنا

ولكم تشيطن كي يدور القول عنه: تشيطنا!

أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت هاهنا

أنا في مياهك قطرة فاضت جداول من منى

أنا من ترابك ذرة ماجت مواكب من منى

أنا من طيورك بلبل غنى بمجدك فاغتنى

حمل الطلاقة والبشاشة من ربوعك للدنى

كم عانقت روحي رباك وصفقت في المنحنى

للبحر ينشره بنوك حضارة وتمدنا

لليل فيك مصلياً. . . للصبح فيك مؤذنا

للشمس تبطئ في وداع ذراك كيلا تحزنا

للبدر في نيسان يكحل بالضياء الأعينا

فيذوب في حدق المهى سحراً لطيفاً لينا

ص: 30

للحقل يرتجل الروائع زنبقاً أو سوسنا

للعشب أثقله الندى. . . للغصن أثقله الجنى

عاش الجمال مشرداً في الأرض ينشد مسكنا

حتى انكشفت له فألقى رحله وتوطنا

واستعرض الفن الجبال فكنت أنت الأحسنا

هذا هو الأداء النفسي الذي أبحث عنه وأدعو إليه، الأداء النفسي الذي يستمد صورته التعبيرية من الصدق الفني والصدق الشعوري، ويعتمد على العناصر الثلاثة التي حدثتك عن قيمها الفنية، وهي اللفظ والجو الموسيقي: اللفظ الخاص، والجو الخاص، والموسيقى الخاصة. . . وتعال نستعرض مواكب الألفاظ أولا في شعر أبي ماضي:

قف عند البيت الأول لتتفيأ الظلال النفيسة في كلمة (حدِّق). وقف مرّة أخرى عند البيت الثاني لتنفذ إلى أعماق الواقعية في كلمة (أرعن). وقف مرة ثالثة عند البيت الثالث لتتذوق المعاني الحسية في كلمة (مدندن). وطبق هذه اللمحات واللفتات على الأبيات التالية حين تقف عند كلمة (يتسلق) و (يخوض) و (تشيطن) من ناحية الحركة المتدفقة في ثنايا التعبير. وعندما تبلغ البيت العاشر قف طويلا لتطرق الأبواب الشعورية الضخمة في كلمة (ولد). . . لو قال أبو ماضي مثلا (أنا ذلك الطفل) بدلا من (أنا ذلك الولد) لغدت اللفظة عادية لا تثير في النفس شيئاً من المشاعر والأحاسيس. ولو قال مثلا (أنظر) بدلا من (حدق) لبدت اللفظة مغرقة في المادية فلا إشعاع ولا إيحاء!

إن الألفاظ هنا قد اختيرت لتوضع في مواطنها الأصيلة لتؤدي دورها الأصيل في إرسال الموجات الصوتية المعبرة عن واقع الهزات المنبعثة من الوجود الداخلي. . . وانظر إلى كلمتي (فاضت) و (ماجت) في البيتين الحادي عشر والثاني عشر، وإلى كلمتي (عانقت) و (صفقت) في البيت الخامس عشر لترى مبلغ الإثارة الوجدانية في الصورة الوصفية. وقل مثل ذلك عن البيت الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين عندما تضع في بوتقة الشعور كلمة (تبطئ) و (يكحل) و (يذوب). . . وأقم الميزان كل الميزان لهذا الحقل الذي (يرتجل) الروائع من الزنبق والسوسن، ولهذا الجمال الذي (شرد) في شعاب الأرض يلتمس المأوى حتى إذا ظفر به (ألقى رحله) واستراح. ولا تنس ذلك الفن الذي (استعرض) الجبال ليختار

ص: 31

أحسن الأوطان!

وتعال بعد ذلك أحدثك عن عنصري (الجو والموسيقى) في هذا الأداء؛ الجو الذي قلت لك عنه إنه الأفق الشعوري الذي ينقلنا إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لنا المشاركة الوجدانية بيننا وبين الشاعر، ويحدث لنا نفس الهزات الداخلية التي يتلقاها وهو في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود الخارجي. . . إن الشاعر هنا يصور ملاعب الطفولة البريئة في رحاب الوطن الأول، وهو بعد ذلك يستعيد ذكرى عهود، عهود مرت بنا ونسيناها، فإذا هي تعود إلينا من وراء الوعي حية نابضة، وما هذا النبض وتلك الحياة إلا من أثر القدرة على البعث والإثارة!

إنك لتحس من هذا (الجو) الذي ترسمه ريشة الشاعر على لوحة الشعور أنك قد نقلت نقلا على جناح الخيال إلى هناك، إلى ذلك الأفق البعيد الموغل في طوايا الزمن. . . وإذا أنت في كل بيت من أبيات أبي ماضي تكاد تلمح طفلا يتوثب مرحاً ونشاطاً وحيوية، طفلا يخيل إليك أن كل نقلة من نقلات الإيقاع الموسيقي هي وقع الخطى من قدميه الصغيرتين!

ولعلك تلحظ أن الإيقاع هنا هو إيقاع الموسيقى الحالمة، ذلك لأن الجو الشعري هو جو الأحلام الخالصة، جو الذكريات التي يهمس بها الماضي الحبيب في مسارب النفس الخفية، فيرتد الصدى العميق من تلك الأغوار إلى ثنايا الكلمات، ممثلا في تلك الوقدات الملتهبة من جيشان العاطفة. . .

وهذا هو دور الموسيقى التصويرية التي قلت لك عنها إنها تصاحب المشهد التعبيري في الأداء النفسي، وتعمل على تلوين الانفعالات المختلفة تلويناً خاصاً يتناسب وطبيعة الألفاظ في مجال القيم الفنية والنفسية.

أنور المعداوي

ص: 32

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

تأبين المجمع اللغوي للمازني:

أقام مجمع فؤاد الأول للغة العربية حفل تأبين للمغفور له الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني يوم الأثنين الماضي بدار الجمعية الجغرافية الملكية. وقد اقتصر الحفل على كلمة الأستاذ عباس محمود العقاد التي رؤى الاكتفاء بها تجنباً للتكرار والإملال، وقد جاءت فعلا وافية بالغرض، فقد ألم فيها بحياة الفقيد إلماماً إجمالياً حلل في ثناياه أدبه وبَعض صفاته الشخصية التي أثرت في هذا الأدب. فأغنت عن كثير من خطب وقصائد مما يلقى في هذه المناسبة.

استهّل الأستاذ العقاد حديثه عن صديقه فقيد الأدب الأستاذ المازني بأنه كان (منذوراً) للأدب بكل ما نفهمه اليوم من معنى هذه الكلمة، وقد كان الأقدمون إذا قيل لهم عن أحد من الناس إنه منذور لهذا المعبد أو لهذا الحرم، فهموا من ذلك أنه قائم في خدمة معبده طول حياته، وأنه لا يملك أن ينحرف عن خدمته باختياره. وقد خيل للمازني أن يعطي مطالب المعيشة حقها، فلم يلبث حتى تبين له أنه للأدب وحده، وأن الأدب يلاحقه أينما ذهب، فلا يتركه حتى يعيده إلى جواره.

وبعد أن تحدث عن المرحلة التي لحق فيها المازني بمدرسة المعلمين العليا وتخرج فيها، قال: لقيت المازني في هذه الفترة، ولقيت الأستاذ عبد الرحمن شكري بعد ذلك، فمن عجيب التوفيق أن يكون شكري في الإسكندرية، وأن يكون المازني في القاهرة، وأن أكون أنا في أسوان، ثم نلتقي على قدر وعلى اتفاق فيما قرأناه وفيما نحب أن نقرأه، مع اختلاف في حواشي الموضوعات من غير اختلاف على جوهرها، وكان المازني أكثرنا ولعاً بالقصة والمقالة الوصفية، وكنا نلتقي في ناحية واحدة من نواحي القصة على الخصوص، وهي القصة الروسية، وأحسب أن القصة الروسية من أقوى المؤثرات في نزعته التي جنح إليها بقوته كلها بعد ذلك فيما نسميه بفلسفة الحياة.

وتحدث العقاد عن نزعة الاستخفاف عند المازني فقال إنها ترجع إلى جملة أسباب بعضها ما كمن في طبعه وأتى بعضها من عراك الحوادث ووحي المطالعة والتفكير. درج صديقنا

ص: 33

رحمه الله على حب الدعابة منذ طفولته، يسري عن النفس، ولا يضير أحداً ممن يمسه بتلك الدعابة. . . كنا يوماً نركب الترام لأول مرة إلى ظاهر المدينة، فلما وقف في إحدى محطاته التفت المازني إلى رجل واقف يغري منظره بالمعاكسة - والحق يقال - فحياه وألح في تحيته والترام يتحرك ويبتعد، والرجل واقف حائر حتى استخار الله على شكه ورد التحية، فما فعلها حتى أومأ إليه صديقنا بلسانه إيماءة ساخرة ولكنها غير جارحة، وجعل يقول: والله إنه لرجل ظريف، والله إنه (لجنتلمان)

أما جانب التجربة في نزعة المازني إلى الاستخفاف، فمنه النفساني الذي خامره من إرساله الشعر خاصة بغير صدى يتلقاه ممن يعنيهم بشعره، ومنه آلام الصدمات والشدائد التي كان يخفف ثقلها بما استكن في طبيعته من نوازع الاستخفاف.

أما الجانب الذي أوحت به المطالعة فأحسبه راجعاً على الأرجح إلى كتابين من القصص الروسي أحدهما قصة (سانين) لمؤلفها (أرتزيباشف) والآخر قصة الآباء والأبناء لثورجنيف، وكلتاهما تخلق الاستخفاف على الأقل حين قراءتها لمن لا عهد له بالاستخفاف. ونحب أن نصف هنا هذا الاستخفاف بأصدق صفاته، لأن المستخف قد يبدي قلة الاكتراث لسببين نقيضين: قد يبديها لقلة إحساسه، وقد يبديها لفرط إحساسه. وقد كان فرط الإحساس هو الينبوع الذي يصدر عنه استخفاف المازني.

ثم قال الأستاذ العقاد: ولقد كانت ملكات المازني أول ما تناوله باستخفافه، وكان الشعر أول ما تناوله من تلك الملكات، ولكن استخفافه بشعره من قبيل استخفافه بكل شيء: فرط إحساس لا قلة إحساس. وإنه لمن الحظ السيئ للشرق العربي أنه لم يأخذ من المازني كل ما كان قادراً على أن يعطيه من صفوة ملكاته، وليست كلها مقصورة على الشعر ونقده، فقد امتاز بملكة أخرى هي ملكة الترجمة المطبوعة، أو ما يصح أن نسميه بعبقرية الترجمة، فقد كان يترجم الكلام في سليقته شعوراً قبل أن يترجمه لفظاً ومعنى. وختم الأستاذ العقاد كلمته الحافلة بتوجيه الخطاب إلى الفقيد الراحل قائلاً: ما أنت ممن يحسن إليه الناس بذكره، وإنما يحسنون إلى أنفسهم كلما ذكروك.

بين الفتى وأستاذه الشيخ:

قال الفتى لأستاذه الشيخ: سمعت أخيراً من الإذاعة المصرية حديثاً لأستاذ من أساتذة

ص: 34

الجامعة عن شاعر عباس في سلسلة أعلام الأدب العربي، ولأن الشاعر معروف ومدروس في المناهج المدرسية وغيرها توقعت أن حديث الأستاذ عنه لابد أن يتضمن جديداً في شأنه، ولكنني وجدت الأمر على خلاف ما توقعت، فإن الأستاذ تحدث عن الشاعر حديثاً مكرراً مقتضباً وشغل أكثر الوقت بأمثلة من شعره.

قال الأستاذ الشيخ: إنني يا بني قد بلوت هذه الأحاديث فلم أر فيها غناء، والإذاعة تختار أولئك الأساتذة لمناصبهم، وهم يستندون إلى هذه المناصب فلا يشعرون بالحاجة إلى كد أذهانهم المترفة، لإحداث طريف أو إضافة جديد، وقد لا يأتون بشيء إن كدوا.

قال الفتى: وماذا ترى لعلاج هذا الأمر؟

قال الأستاذ الشيخ: العلاج يا بني يسير جدا، وهو أن يختار الأشخاص لا المناصب، ويجب قبل ذلك أن يُختار من يَختار.

كل بيت له راجل:

هذا هو اسم الفلم الذي عرض لأول مرة في هذا الأسبوع بسينما أوبرا. وتعالج قصة الفلم مشكلة عاطفية عرضت هكذا:

أمينة هانم لا تزال في شبابها تعيش في قصر زوجها المتوفي ومعها ابنتها (فاتن) وهي فتاة في السابعة عشرة من عمرها، وتبدو الأم في المنظر الأول حزينة على زوجها الراحل، فلا تكاد تسمع لحناً معيناً تعزفه ابنتها على البيان حتى تتأثر وتنهاها عنه، لأنه اللحن الذي كان يعجب به زوجها حين تعزفه ابنته. ولكن رجل يدخل المنزل فيغير مجرى الحياة فيه وتتحول إليه مشاعر الأم والبنت، وهو محمود بك رامي الذي ندبته دارالآثار ليفحص مكتبة الزوج المتوفي كي تشتريها الدار أو تشتري بعض محتوياتها. ولم نعرف بناء على أي شيء حضر المندوب لهذه المهمة ويبدو من حديث الأم مع ابنتها عند حضوره أنهما لم تطلبا ذلك من دار الآثار. ولا أدري لماذا لم يكن محمود بك موفداً من دار الكتب بدلا من دار الآثار!

يتبين محمود بك رامي في أثناء فحص المكتبة بحضور أمينة هانم وبمساعدتها، أنها سيدة مثقفة، كما يتأثر بجمالها وشخصيتها، فيثني عليها ويبدي لها إعجابه ويدعوها إلى حضور محاضرة له بمكتبة الأميرة فريال، فتلبي، وتعود إلى ابنتها فاتن التي تسألها عنه باهتمام،

ص: 35

ويتحدثان عنه حديثاً يدل على إعجابهما به بل على حب كل منهما له، فقد شاهدته فاتن خلال حضوره إلى المنزل زعلقت نظراتها به. وتتطور علاقة محمود بك بأمينة هانم حتى يتكاشفا بحبهما، وتعده بزواجه بعد زواج فاتن. وتسافر فاتن مع صاحبتها ميمي ووجيه بك أخي ميمي الذي عاد من أمريكا بعد أن درس فن الزراعة وإصلاح الأراضي البور - تسافر معهما إلى القرية التي بها أملاك أبيهما، وفي أثناء ذلك يتودد وجيه بك إلى فاتن ولكنها تقابل تودده بتحفظ يدل على عدم حبها إياه. وتعود فاتن فتشاهد مظاهر الحب بين أمها وبين محمود بك، فتحزن لذلك. وتتولى حوادث تتخللها محاولات من جانب فاتن للظفر بحب محمود بك ولكنه يتخلص منها مع التلطف، ويقبل على أمها كل الإقبال، حتى يحدث أن تراه البنت يقبل أمها، فتتأثر من هذا المشهد غاية التأثر، وتلزم فراشها؛ وعند حضور أمها إليها تبدي لها استنكارها وتثور عليها ثم يقول لها صوت الضمير الذي ينطق مسموعاً: ما هذا يا فاتن؟ إن أمك لا تزال في شبابها ونضارتها ومن حقها أن تتمتع بالحياة، ومحمود بك رجل في سن والدك وهو يلائم أمك، فكيف تحبينه أنت وتحرمينه من أمك؟ وأنت يلائمك شاب صغير ينتظر إشارة منك. . . فتعود إلى عقلها وتستصفح أمها. ثم نرى المشهد الأخير وقد تزوج محمود بك بأمينة هانم وفاتن تقول له: لقد أخطأت في تكييف شعوري نحوك فأنا أحبك حقاً ولكنني أحبك كأبي ويظهر الجميع في منظر يقدم فيه وجيه بك إلى فاتن على أنه عريسها وفجأة ينشأ الحب بينهما ويلتقيان في ضمة وقبلة.

القصة سليمة في أَولها وتسلسل حوادثها، وقد عرضت عرضاً طبيعياً جميلا، وحددت سمات أبطالها وأشخاصها تحديداً دقيقاً، وصورت المشكلة فيها تصويراً واضحاً. ولكن ما كادت الوقائع تتقدم نحو الحل حتى ظهرت اللهوجة فهدمت البناء، وقصم الحل ظهر القصة.

كيف يمكن القضاء على عاطفة أو تحويلها، وإنشاء عاطفة أخرى مكانها، في لحظة واحدة دون تمهيد طويل أو قصير؟ هل يكفي صوت ينطق بتلك الجمل لكي تغمض الفتاة عينيها وتفتحها فترى الحبيب أباً والفتى الجامد محبوباً؟ لقد كان يمكن أن يكون وجيه بك شابا جذابا مغريا بالحب على أن يؤخر اتصاله بفاتن في الوقت الذي يمهد فيه لتحولها عن حب محمود بك. ولكن الفلم يعرض هذا الشاب في صورة جامدة كئيبة ثم يفرضه في النهاية

ص: 36

محبوباً لفتاة رائعة تحب أو كانت تحب غيره!

وكان لوحيد بك مشروع لإصلاح الأراضي البور في القرية، لم يأخذ حقه في الإبراز، فقد قالوا لنا في الآخر إنه نفذ ونجح ولم نر علامة لذلك غير بضعة أشجار يغني بينهما عبد العزيز محمود. والحق أنه أجاد في غنائه وموسيقاه. وفي الفلم ظاهرة تتكرر في معظم الأفلام المصرية وهي إظهار الفلاحين أذلاء خاضعين لسلطان السيد صاحب الضيعة، وهي ظاهرة موجودة في بعض الجهات ولكن تكررها في الأفلام يدل على أن ذلك هو طابع الحياة في القرى المصرية، وليس الأمر كذلك إلا في القليل.

وقد أخرج الفلم محمود كامل مرسي ووضع قصته مجدي فريد، وهو فلم نظيف، ومناظره متسقة، وحواره جيد، والقصة لا بأس بها بصرف النظر عن تلك المآخذ، والتمثيل ممتاز، فقد أجادت أمينة رزق (أمينة هانم) في دور المرأة المحترمة المحبة، وكذلك فاتن حمامة (الآنسة فاتن) وخاصة في أثناء مصاحبتها لوجيه بك فقد مثلت دور الفتاة (الاسبور) المترفعة المتحفظة أحسن تمثيل، وكانت ظريفة عندما كانت تناقش نفسها في خلوتها: أيهما، هي أو أمها، أحق بحب محمود بك. ومثل محمود المليجي دور (محمود بك رامي) وهو شخصية محبوبة في الرواية، وكان المشاهدون يتوقعون أن يكون شريراً لكثرة ما شاهدوا المليجي في تمثيل الأشرار. ولكنه استطاع رغم ذلك - ان يقنع الجمهور بأنه رجل طيب. . .

أما الوجه الجديد وجيه عزت الذي قام بدور (وجيه بك) فوضعه في الفلم اقتضاه أن يظهر في جد (زيادة على اللزوم) وهو يجيد في مثل هذا الدور، على ألا ينتهي بحب فتاة مثل فاتن حمامة.

عباس خضر

ص: 37

‌رسالة النقد

ديوان الوزير

محمد بن عبد الملك الزيات

نشره وحققه الدكتور جميل سعيد

بقلم الأستاذ بدوي أحمد طبانة

يخيل لكثير من الناس أن إخراج كتاب أو نشره عمل يسير، يستطيع أن ينهض به كل من يستطيع أن ينسخ، ثم يستطيع بعد ذلك أن يقدم ما نسخه إلى المطبعة. هكذا يخيل لأكثر الناس، وكذلك كان يخيل إلي أيضاً قبل أن أبتلي بهذا اللون من الجهد العلمي، حتى إذا كان ذلك تبين لي أن جهداً يبذل في نشر كتاب وتحقيقه دونه بكثير كل جهد يبذل في التأليف وإن كان عظيما؛ لأن المؤلف صاحب الموضوع الذي يؤلفه، اختمرت في رأسه فكرته، وأعد له ما يعينه من المراجع. أما الناشر فما اكثر ما يصادف من عقبات لا يستطيع اجتيازها إلا الكفء الجلد، وناهيك بعقبات التمزيق والعث وما يقع فيه النساخ من أخطاء التصحيف والتحريف.

وفي المكتبة العربية نفائس لا يحصيها إلا الله، ولكنها مطمورة في زوايا النسيان، لا تصل إليها الأيدي، ولا ينتفع الناس بما تحوي من علم وفن، حتى يتاح لهذه النفائس من ذوي الغيرة من يأخذ بيدها فينفض عنها غبار السنين، ويعم الانتفاع بها.

ونحن في نهضتنا الحاضرة محتاجون أشد الحاجة إلى بعث هذه الكنوز من مدافنها؛ فإن في هذا البعث خدمة قومية إلى ما يؤديه من خدمات علمية أو فنية، فإحياؤها فرض ليس لقادر عليه أن يكف عنه.

ولهذا لا يسعنا إلا أن نرحب بديوان الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وإلا أن نشيد بفضل ناشره العالم الأديب الدكتور جميل سعيد أحد أساتذة الأدب في دار المعلمين العالية في بغداد، الذي أضاف إلى الأدب ثروة فنية تعين الباحثين ومؤرخي الأدب بنشره هذا الديوان، فعامة العلماء والأدباء يعرفون ابن الزيات كاتباً أكثر مما يعرفونه شاعراً، وهم يعرفون كيف سما الأدب بإبن الزيات حتى كان الوزير والمصرِّف للأمور في عصر من

ص: 38

أزهى عصور الدولة العباسية، ولم يكن له من الحسب أو الجاه ما يرشحه لهذا المنصب الخطير، وهو زيات ابن زيات، سوى الموهبة الأدبية.

وقد قدَّم الدكتور جميل الديوان بترجمة موجزة لحياة الرجل ووضفت النسخة التي نقل عنها، ثم ذكر في مقدمته عدة آراء في ابن الزيات وشاعريته استخلصها من شعره، وأكثر هذه الآراء وفق فيه توفيقاً مظيما يشهد له بالأصالة والبراعة والحاسة الفنية المرهفة

وكان سر هذا التوفيق أن صاحبه كان صادقاً، وكان ميزاناً هدلاً لنفسه، ولصاحب الديوان الذي نشره، فلم يفرط في تقريظه والتنويه به؛ شأن كثير من الذين يعتدون بالموضوع الذي يدرسونه أو الشخصية التي يعالجون تحليلها. . .

ومن أمثلة الإنصاف قوله عن الشعر الذي عثر عليه في ديوان ابن الزيات: إنه (لا يمثل حياة ابن الزيات كاملة. وربما كان له شعر لم يجمعه جامعه).

ثم تراه يقول: (إن أشعاره التي في ديوانه هذا لا نراها تضعه في مصاف الشعراء المطبوعين، وقد لج الهجاء بينه وبين علي ابن جبلة، والقارئ حين يقرؤه يجد الفرق واضحاً بين ابن الزيات وبين الشاعر المطبوع علي بن جبلة).

ومثل هذه الآراء سديد موفق، ومبعث السداد والتوفيق - كما قدمنا - أن صاحبها كان صادقاً في قوله صدقه في إحساسه الفني.

ولكننا على الرغم من إعجابنا بهذه الآراء وتقديرنا للجهود الفنية التي بذلت في نشر الديوان، لا نتفق مع الأستاذ الناشر في فهم معنى ما أورده ابن رشيق في العمدة نقلا عن الجاحظ في قوله:(طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينتقي إلا ما اتصل بالأخيار وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب كالحسن بن وهب ومحمد بن عبد الملك الزيات).

فقد فهم الدكتور جميل من هذه العبارة أن الجاحظ يفضل هذين وأضرابهما على سائر الشعراء تفضيلا مطلقاً، وقد بنى على هذا الفهم مناقشة هذا الرأي في قوله: (وبعد، أفكان ابن الزيات من المكانة الشعرية بالمحل الذي ذكره به الجاحظ والصاحب وابن رشيق.

إننا لا نستطيع أن نفهم هذا الفهم الذي تبادر إلى ذهن الدكتور جميل من هذه العبارة، فإن

ص: 39

سياق الكلام يدل على أن البحث في فهم الشعر، وتذوقه، ونقده، ومعرفة ما يسمو به وما يتضع.

يريد الجاحظ أن يقول: إنه لا يفهم الأدب - ومنه الشعر - إلا الأدباء، وأما هؤلاء الأعلام الذين رددوا أسماءهم فهم علماء كل في ناحيته التي يجيدها: فالأصمعي يحذق معرفة الغريب من ألفاظه اللغوية، والأخفش رجل نحوي لا يعرف إلا الإعراب، وأبو عبيدة قد تخصص في معرفة السير وأيام العرب وأنسابهم. أما المتذوقون للشعر القادرون على نقده من الناحية الفنية فهم طائفة الأدباء الكتاب.

ودليل آخر يؤيد ما نذهب إليه في فهم هذه العبارة هو قول الجاحظ في أولها: (طلبت علم الشعر. . .) والجاحظ عالم أديب يعني ما يقول، ويستطيع أن يفرّق بين الشاعر وبين العالم بالشعر

ولو أراد الجاحظ الموازنة بين الشعراء لم يفته، وهو الخبير، أن يذكر أسماء فحول الشعراء لا أساطين العلماء.

ودليل ثالث: هو أن الباب الذي عقده ابن رشيق قد جعل له عنواناً (باب في التصرف ونقد الشعر) ونحن مضطرون لأن نورد من هذا الباب ما يؤيد قولنا.

حكى الصاحب بن عباد في صدر رسالة صنعها على أبي الطيب، قال: حدثني محمد بن يوسف الحمادي، قال: حضرت بمجلس عبد الله بن طاهر وقد حضره البحتري فقال: يا أبا عبادة أمسلم أشعر أم أبو نؤاس، فقال: بل أبو نؤاس لأنه يتصرَّف في كل طريق ويبرع في كل مذهب إن شاء جدَّ وإن شاء هزل، ومسلم يلزم طريقاً واحداً لا يتعداه، ويتعلق بمذهب لا يتخطاه. فقال له عبيد الله: إن أحمد بن يحيى ثعلباً لا يوافقك على هذا، فقال: أيها الأمير ليس هذا من علم ثعلب وأضرابه ممن يحفظ الشعر ولا يقوله، فإنما يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه، فقال: وريت بك زنادي يا أبا عبادة! إن حكمك في عميك أبي نؤاس ومسلم، وافق حكم أبي نؤاس في عميه: جرير والفرزدق؛ فإنه سئل عنهما، ففضل جريراً، فقيل: إن أبا عبيدة لا يوافقك على هذا، فقال ليس هذا من علم أبي عبيدة فإنما يعرفه من دفع إلى مضايق الشعر!

والخلاصة أن الجاحظ والصاحب وابن رشيق لم يفضلوا ابن الزيات وابن وهب وغيرهما

ص: 40

من الكتاب على الشعراء في إحكام صنعة الشعر، وإنما فضلوهم على العلماء في نقد الشعر.

وإن أردت المزيد فاقرأ قول ابن رشيق في باب آخر أسماه: (باب في أشعار الكتاب) قال: (وليس يلزم الكاتب أن يجاري الشاعر في إحكام صنعة الشعر لرغبة الكتاب في حلاوة الألفاظ وطيرانها، وقلة الكلفة، والإتيان بما يخفف على النفس منها. وأيضاً فإن أكثر أشعارهم إنما يأتي تظرفاً لا عن رغبة ولا رهبة فهم مطلقون مخلون في شهواتهم، مسامحون في مذهبهم إذ كانوا يصفون الشعر تخيراً واستظرافاً).

ولنا بعد هذه الملاحظة ملاحظة أخرى تلك هي مسألة القوافي وترتيبها في الديوان، فقد سلك في بعضها مسلكا غير المتفق عليه عند العروضيين وعلماء القافية، ووضع بعضها في غير موضعه، وقد يعتذر عنه بأنه نقل ألقاب القوافي وترتيبها كما وردت في الأصل الذي اعتمد عليه، ونقل عنه.

وهذا الخطأ في أول الديوان وفي أواخره. من ذلك أنه جعل الشعر الذي أوله:

من يكن رام حاجة بعدت عن

هـ وأعيت عليه كل العياء

والذي أوله:

جمع الله للخليفة ما كا

ن حواه لسائر الخلفاء

من قافية الألف، وهي ليست كذلك، وإنما القافية المهمزة والقصائد تنسب إلى الحرف الذي بنيت عليه، وهو الروى، فيقال قصيدة دالية أو رائية أو ميمية وهكذا إذا كان الحرف الذي بنيت عليه دالا أو راء ميما، أما الألف هنا فهي ردف والردف هو حرف مد قبل الرويِّ.

ومن هذا أن في الديوان خلطاً عجيباً فيما سماه قافية الهاء فقد جعل منها كل شعر آخره هاء، وإن لم تكن الهاء روياً، ففي:

ما أعجب الحب في مذاهبه

ما ينقضي القول في عجائبه

القافية الباء لا الهاء، وقوله:

وعائب عابني بشيب

لم يفد لما ألمَّ وقته

قافيتها التاء لا الهاء وفي:

ظالم ما علمته

معتد لا عدمته

ص: 41

كتلك، وفي:

يا من يومي وغده

ويمن ما بعد غده

القافية الدال على الهاء. والقصيدة التي أولها:

يا ذا الذي لا أهجره

وعلى القلى لا أغدره

قافيتها الراء لا الهاء، والتي أولها:

أبكي الفتى بعد الخليط مربعه

وكاد وجد القلب منه يصرعه

قافيتها العين، ومثلها:

قولا لأنف وقزعه

أخطا كما وزن سبعه

والقصيدة التي كتبها إلى الحسين بن المرزبان النحاس:

فديتك إن انبساطي إلي

ك علمي بأخلاقك الطاهرة

والتي أولها:

ألا من غدير النفس ممن يلومها

على حبها جهلا ألا مَن غديرها

كلتاهما هائية القافية. ومن قافية الفاء قوله:

من العين طرفه

ومن الظبي ظرفه

وقوله:

قل لعيسى أنف أنفه

أنفه ضعف لأنفه

وقوله:

إن الخلافة أصبحت سراؤها

مجلوبة وشورها مصروفة

ومن قافية اللام:

أخنى عليَّ الدهر كلكله

وعدا (علي) عيشي فبدله

ومن قافية النون:

نزلت بالخائنين سنة

سنة للناس محتمة

وقوله:

ما للغواني من رأين برأسه

يققاً مللن وصاله وشثينه

ومن قافية الميم:

ص: 42

سقيا لنضر الوجه بسَّامه

مذهب الوالد قمقامه

ومن قافية الياء:

وللنفوس وإن كانت على وجل

من المنية آمال تقويها

وقوله:

ما باله وابنه لم

يزوجا عربيه

وقوله:

الآن قام على بغداد ناعيها

فليبكها لخراب الدهر باكيها

وقوله:

إنك مني بحيث يطرد النا

ظر من تحت ماء دمعتيه

والهاء في كل أولئك القصائد التي ذكرنا مطالعها إنما هي وصل سمعي بذلك لوصله بالروى، والوصل كما عرفه علماء القافية حرف لين ناشئ من إشباع حركة الروى أو هاء تليه.

وأعتقد أن مثل هذا الأمر لا يخفى على فطنة الأستاذ الصديق الأديب، وأعتقد أيضاً أن العجلة وحدها هي التي فوتت عليه الإشارة إلى الأخطاء التي وقع فيها جامع الديوان في الشروح والتعاليق التي ذبل بها على شعر ابن الزيات.

وبعد، فهذه هنات هينات، لا تغض بحال من قيمة العمل الأدبي الجليل الذي اضطلع به الأستاذ الأديب.

بدوي أحمد طبانة

ص: 43

‌البَريدُ الأدَبيَ

برلمان الأمم العربية:

يرى الأستاذ السيد علي الشوربجي في العدد الأخير من الرسالة أن فكرة برلمان الأمم العربية خيالية ومستحيلة. أما أنا فلم أخترع الفكرة بل اقتبست نظرية موجودة الآن بالفعل. وما من عملية إلا كانت في الأصل نظرية.

ففكرة الحكم الجمهوري نشأت من قديم الزمان في ذهن الإنسان وتصورها أفلاطون وجربها اليونانيون ففشلت وما زالت تجرب حتى تحققت، وصار الآن معظم أمم العالم جمهوريات، ولا ينقضي قرن حتى يعم الحكم الجمهوري العالم كله بلا استثناء، وأخيراً يصبح كله جمهورية واحدة لأمم متحدة.

الولايات (المتحدة) الأمريكية لم تكن متحدة تحت الحكم البريطاني ولكن لما تحررت من هذا الحكم اتحدت في 13 ولاية والآن صارت 51 ولاية. وقس عليها سويسرا وكندا.

وما قول الأستاذ في برلمان إحدى عشر دولة أوربية انعقد في الشهر الماضي؟ - فهل يرى الآن أن ما استحال في نظره صار ممكناً - وهل يتعذر عليه تصوره كما يتعذر عليه تصور برلمان دولي عربي؟

أنا لم أقترح أتحاداً تاماً كاتحاد الولايات الأمريكية، وإنما اقترحت اتحاداً عسكرياً حربياً فقط لا نجاة بدونه للدول العربية من غارات إسرائيل التي يهددنا بها إسرائيل من اليوم. وكل آت قريب. وإذا كنت قد اقترحت أن يتولى هذا البرلمان سياسة الدولة العربية الخارجية فلأني أخاف من تدخل الدول الأجنبية الذي كان ولا يزال سبب هزيمتنا الفاضحة في حرب فلسطين

فإذا كانت سياستنا الخارجية يتعذر عليها الخضوع لهذا البرلمان في بادئ الأمر فلا بأس في أن تبقى كل دولة مستقلة فيها تحت شرط أن لا تسمح للدول الأجنبية أن تمد أحابيلها إلى هذا البرلمان وتفرتكه.

ثن إن الأستاذ لا يمكنه أن يتصور الدول العربية تنزل من سلطتها الدفاعية لبرلمان الجامعة. وأنا أقول له إن الدول العربية لا تقوم لها قائمة لدى الخطر الصهيوني المثبل إلا إذا تنازعت عن سلطتها الدفاعية لبرلمان يمثلها جميعاً، كما أن الولايات الأمريكية تنازلت

ص: 44

عن سلطتها الدفاعية لوزارة الدفاع في واشنطون. لا تستطيع أن تتصور هذا التنازل لأنك مأخوذ بحكم الحاضر. ولكن حكم المستقبل يسهل لك هذا التصور. وإذا أمكنك أن تتصور الخطر الهائل الذي يهددنا به وزير إسرائيل بنغربون أمكنك أن تتصور ضرورة اتحاد الدول العربية في برلمان حربي دفاعي وإلا فاليهود ينفذون ما يقولون. ولا يردهم عن التنفيذ إلا قيام هذا البرلمان. وهم يقولون بصراحة إن ما يفعله العرب في عام نحن نفعله في يوم. فإذا لم نفعل نحن في يوم ما يفعله اليهود في عام تغدونا قبل أن نتعشاهم. فأرجو منك أن توسع دائرة تصورك حتى تشمل هذه الحقائق ولا تكن مثبطاً للعزائم.

ثم إن الأستاذ لا يمكنه أن يتخيل الدول العربية تستطيع أن تدفع من ميزانياتها ذلك المبلغ الضخم الذي لا يقل عن مائتي مليون جنيه (والمقتَرح هو مائة مليون أولا تزاد سنة بعد سنة حسب اللزوم). ولكن إذا لم تدفع الدول العربية هذا المبلغ فستدفعه رغم أنوفها وتدفع أضعافه يوم يستوي الأمر في دولة إسرائيل وتصبح سيدة العرب ومالكة رقابهم وبترولهم وووالخ

وإذا كانت مصر قد أنفقت في نصف سنة في حرب فلسطين أكثر من ستين أو سبعين مليون جنيه أفلا تستطيع الدول العربية كلها أن تجمع مائة مليون للدفاع عن استقلالها واتقاء عبوديتها لإسرائيل؟

تركيا تعد 14 مليوناً من النفوس وميزانية دفاعها تستغرق نصف ميزانيتها لأنها مجندة مليون جندي ولأنها رأت أنها إذا لم تفعل هكذا وقعت بين براثن روسيا وهي على مرمى حجر منها.

يا صاحبي لما وقعت الحرب الكبرى الأخيرة عبأت إنجلترا كل رجل وأمرأة للعمل للحرب ورصدت كل إيراد الشعب الإنجليزي للنفقة. ولولا هذا لوقعت تحت سنابك خيل الألمان. فهذا المبلغ المائة مليون أو المائتان الذي اقترحته ليس ضخماً يا عزيزي بل هي قطرة من بحر النفقات الحربية. فكانت إنجلترا تنفق في الحرب كل يوم 14 مليوناً من الجنيهات وأمريكا تنفق أكثر من ستين مليوناً منها.

إنها لمبالغ ضخمة حقاً كانت تذهب إلى دولة الشيطان. فلا تعجب يا عزيزي. ولعلك لم تر بعد عِبر هذا الدهر فلا تستطيع أن تتصور الآتي منها. وماذا تفعل والجنس البشري قد

ص: 45

بطر بل جُنْ، فهو من باذخ مدنيته يقذف بنفسه إلى وادي الهلاك - المدنية تنتحر -

إن ما تراه يا سيدي مستحيلاً يجب أن يكون واقعاً. وإذا بقينا نتخيل الواجبات إلى أمامنا مستحيلات واليهود يتصورونها ممكنات فلا ريب أننا فاقدون استقلالنا وديننا وأخيراً حياتنا.

وأَخيراً أقول لك إذا لم تعمل الأمم العربية كلها لهذه الغاية وتنشئ هذا البرلمان وتسلمه كل السلطة الحربية وتزيل من أمامه كل الصعوبات الداخلية والأجنبية فلا حياة لها. فلتؤبن نفسها منذ اليوم وتبكي حظها.

لو ذكرت لي من أسباب استحالة هذا المشروع الخيانات العربية التي شهدناها في هذه الأيام وما نكبت به الجامعة العربية من خيانات وأشباه خيانات لصدقتك وقلت هذا المشروع مستحيل. نعم بهذه الخيانات يستحيل هذا المشروع. ولكن هل فقد الوجدان العربي قوة التقدير لإمكانيات المستقبل؟ هذا ما يحيرني. . . والسلام عليك.

2ش البورصة الجديدة القاهرة

نقولا الحداد

ابنة الله وعين الله:

في البريد الأدبي للعدد 843 من (الرسالة) كلمة من الأستاذ دسوقي ابراهيم حنفي يسألني فيها جلاء ما غمض عليه في العبارتين الواردتين في مقال لي في مناجاة الشمس وهما. (يا ابنة الله) و (يا عين الله).

إن للنجوى لغتها التي تختلف عن لغة الناس، وشررها الذي يتطاير من الوجد، وضبابها الذي هو سر قوتها وجمالها، وليس من السهل أن نهبط بها من سمائها إلى حيث نخضعها للمقاييس والموازين التي نعرفها ونضعها على مائدة التشريح نقطع ونحلل ما شاء التقطيع والتحليل، فنفقدها الكثير من قوتها ومعناها. إن لها رعشة لها صورها التي قد لا تجد لها إطاراً توحي بها أطياف وأطياف لا نعرف من أمرها إلا أنها مرت بنا وأملت ما شاء لها خيالها أن تملي. . .

كنت مأخوذاً بالشمس وسلطانها يوم ناجيتها، وأصبت بدوار الإعجاب، وتهافتت عليَّ

ص: 46

الصور أشكالاً وألواناً، وبينها الصورتان اللتان حملهما إليَّ السائل مستوضحاً. . . فماذا أقول له؟ وكيف أوضح هذا الذي يراه غامضاً؟. . . كل ما لديَّ الآن للايضاح أن الكائنات - والشمس منها - تنبثق عن الخلق فهي مواليده. ولقد تخيل الله الخليقة قبل خلقها فكانت الشمس واحدة من بنات خياله. أما أن الشمس (عين الله)، فإن لله عيوناً والشموس منها ترعى الوجود. وهل الرعاية إلا الرفق والرحمة يتجليان في النور والشعاع. إن الله هو النور لا يرى غير النور، فكيف لا تكون الشمس عين الله؟!

راجي الراعي

اللغة في الإذاعة:

إن المذياع مفصاح فضاح يرسل على الأثير الصوت مبيناً نغماته ونبراته فكان لابد من الاتئاد قبل أن يئود اللسان الثقل، وتراوده الخطأة، فينزلق إلى المجهلة! ونحن لا نتجنى على أحد حينما نشير إلى عدم العناية بضبط الألفاظ، في إفرادها، وإغفال قواعد الإعراب، وبخاصة إذا تنكب الجادة فيها (الخاصة)! وما دامت مصر اللسان الناطق بالعربية الخالصة وجب أن تضرب المثل الأعلى في المحافظة على حفاظها!

وإنا ليعجبنا صنيع مذيعي الإذاعات العربية في الأقطار الشقيقة لشدة تمسكهم باللفظ الموغل في عربيته، من دون ارتضاخه بعجمة مدخولة؛ فقد سمعنا مذيعاً يقول: لقد تقدم الجيش في منطقة كذا بكسر الميم، بينما يصر المصري على فتح الميم وكسر الطاء بقدرة قادرة!. . .

ولا يغيب عنا قول أحدهم: نذيع (آذان) الظهر وخطبة الخطبة؛ فيبدل الأسماع مكان الإسماع! ويحيل الإعلام إلى المسامع!

أما لغة المحاظرات؛ فبينها وبين الإبانة السليمة عداء مستحكم، ما عدا الطبقة الممتازة من أدباء وعلماء العربية؛ فما مرد هذه الظاهرة الأليمة؟ لا نعتقد أن المحاضرين على غير علم بالضوابط اللفظية والإعرابية، فالمفروض فيهم الثقافة التي تخول لهم على أقل تقدير إجادة ما يقرأون، لكنا نرد هذا التقصير إلى عدم العناية، أو إغفال الذهن حين القراءة، أو إغفال أن هناك مستمعين إلى خطايا الأخطاء!

ومن المؤسى تفصح المذيع أو المحاضر إذا أراد التعبير بلغة ذات عجمة، فإنه يرق

ص: 47

الحروف، ويدقفها، ويخشى أن تفلت من لسانه فلتة تكون سبة، اعتقاداً منه أن التزامه مخارج الحروف يشير إلى سعة ثقافته!

إن اللغة الإذاعية يجب أن تنأى عن المؤاخذة، فالأداء الصحيح سبيل الإيضاح، وليس هناك ما يضير المذيع أو المحاضر في معاودة قراءة محاضرته أو إذاعته، وكل من في الإذاعة مثقف ثقافة عالية ترتفع به عن الغثاثة والركة والأغلوطة!. . .

وبعد؛ فليس لنا مطمع في الإذاعة حتى نذيع عنها التقصير، وإنما تعمل على التنويه في مقام التنبيه حتى تصل إلى مرتبة الكمال.

(بور سعيد)

أحمد عبد اللطيف بدر

إلى الدكتور م شهاب (باريس):

قرأت كتابك يا صديقي رغم مشاغلي المتعددة، ولكني أرجأت الكتابة عنه ريثما أعود من سفري ليتيسر لي الاستيثاق من بعض المراجع التي يتعذر عليها الحصول هنا.

ولي بعض ملاحظات أرجو أن أرسلها في خطاب خاص بعد أن توضح لي عنوانك بالكامل.

ولا يفوتني أن أشكر لكم هذه الأريحية الكريمة التي أبديتموها نحوي، وقد سرني أن يكون لمقالاتي في الرسالة خلال شهر مايو ويونيه من هذا العام عن (قضايا الشباب بين العلم والفلسفة)، ذلك الأثر الحميد في نفوس إخواننا الشرقيين. وما ذكرتَ من تغير عقيدة بعضهم وتبدل نظرتهم لتلك الفلسفة المنحرفة المتطرفة. . . مما أثار صديقك الفرنسي وزملاءه لدرجة القيام بترجمتها و (العمل على نشرها في فرنسا كمثال لما يمكن أن تستقبل به الفلسفات (الحديثة) في الشرق العربي عموماً والإسلام في الخصوص. . .) الخ

ولسنا نمانع في ذلك يا صديقي - بل إنا نرحب به - ما دمت تعرض علينا تلك الترجمات قبل نشرها أولا بأول.

أما سبب ذلك التركيز الذي رأيتم في مقالاتي تلك فهو ضيق المقام ثم الظروف التي كتبت فيها ذلك البحث؛ فقد لبيت به دعوة من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول وجهتها إلى

ص: 48

جماعات الأبحاث النفسية بها (لألقاء محاضرة عن الشك كإحدى المراحل النفسية) وعقب إلقاء المحاضرة في يوم 4 مايو الماضي - قام بعض أساتذة كلية الآداب من المتعصبين لسلرتر وأثار جدالاً رأينا معه نشر البحث - من غير ما زيادة أو نقصان - لتعم فائدته من جهة وليكون المجال أرحب للأخذ والرد فيه من جهة أخرى، ولم نر أحق بهذا وأجدر من حبيبتنا (الرسالة) منبر الشرق العالمي فآثرناها بتلك المقالات التي انتظمت محاضرتنا المذكورة.

وأظنك معي الآن في أن المجال لم يكن مجال شرح وتفصيل بقدر ما كان مجال إيجاز واستيعاب، فإن هذا الموضوع من السعة والخطورة بحيث تضيق به المجلدات فضلاً عن محاضرة أو بضع مقالات. إلا أني قد راعيت ذلك وتلافيته في كتابي (الاتجاهات الدينية في الفلسفة الحديثة) الذي هيء الجزء الأول منه للطبع في أقرب وقت مستطاع.

هذا وأرجو أن يعينني الله سبحانه على تحقيق رغبتكم وسائر الأصدقاء بمواصلة الكتابة في (الرسالة) عن هذا الموضوع عقب عودتي إلى مصر إن شاء الله وبقيت في العمر بقية.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

فلنسيه - إسبانيا

إبراهيم البطراوي

دراسة الأدب المعاصر:

هل هناك برنامج محدد الأهداف موفق الخطوات لدراسة الأدب المعاصر؟ سؤال خطير يستأهل النظر والأهتمام. وخطورته تنجم عن المشاكل التي ستثار في الكليات التي تعنى بدراسة الأدب العربي. فإن تلك الكليات لم تعن بدراسته في وقت من الأوقات، وقد مضى زمن كان حرياً بأن نرى الأدب المعاصر قد أخذ حيزه في مناهج تلك الكليات - ويرى كثير من الأساتذة أن هذه الدراسة لابد منها لأسباب: فأدباؤنا المعاصرون حريون بأن تدرس آثارهم الخالدة؛ ذلك لأن عصرنا هذا يعتبر من أزهى عصور الأدب العربي، وهم - بحق - دعامة النهضة الأدبية الحديثة. وأتقدم في هذا المقام باقتراح وهو أن تنشأ شعبة

ص: 49

خاصة لدراسة الأدب المعاصر في كل كلية من الكليات الثلاث التي تعنى بدراسة الأدب العربي - اللغة العربية - دار العلوم - الآداب - وأرى فوق ذلك أن تكون الدراسة موحدة في تلك الشعب. وجدير بعمداء تلك الكليات أن يدعوا الأساتذة الأعلام إلى إلقاء المحاضرات ليكون الطلبة على اتصال بالحركة الفكرية المعاصرة.

(دميرة)

علي منصور عبد الرزاق

ص: 50

‌القصص

يوم وليلة

تأليف الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل

بقلم الأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

ليس الطريف في هذا الكتاب عنوانه المشوق، وإنما الطريف فيه حقاً أسلوبه القصصي التاريخي الممتع الذي وصف به مؤلفه الفاضل الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل خلافة ابن المعتز التي ضرب بها المثل في القصر.

وأحسب أن لو كان مؤلف هذه القصة التاريخية كاتباً معروفاً أو أديباً مشهوراً لأسرع النقاد يمدحونه ويتملقونه لتقرن أسماؤهم باسمه، أو يلتمسون عثراته ويخالفونه ليشتهروا بذمه؛ ولكن كتاباً ككتاب (يوم وليلة) وقد وضعه أديب غير مشهور، لا يحظى من تحليل النقاد بحظ وفير!

على أن دار العلم للملايين في بيروت كانت أكثر تقديراً للكاتب الفاضل، إذ تكلفت بكتابه فطبعته آنق طباعة وألطفها، على أصقل ورق وأنعمه، كما نشرت له منذ عام بحثاً طريفاً جامعاً حول (النكتة المصرية) كان له صدى في الأوساط الأدبية اللبنانية. وأريد اليوم لأكون أحد المعترفين بفضل هذا الأستاذ فأظهر الناس على أدبه الرفيع، وأطلعهم على علمه الغزير، وإن كنت لم أجلس إليه في ناد، ولم أقابله في زيارة: فإن قلم الكاتب لسان عقله وتفكيره، ووحي قلبه وشعوره.

لا ريب عندي في أن هذا الكتاب الذي يمكنك أن تقرأه في جلسة واحدة وأنت مستمتع بجمال عرضه، وجزالة أسلوبه، ورصانة تعبيره، قد كلف الأستاذ عبد العزيز عناء طويلاً وجهداً ثقيلاً، فلقد حاولت من قبله أن أعلم شيئاً يغني عن خلافة ابن المعتز، ففتشت بطون الكتب كما فتش؛ واستقصيت في الطلب كما استقصى فلم أجد - كما قال الأستاذ في مقدمته - (كتاباً واحداً ولا كتابين ولا ثلاثة ولا عشرة تسعدني بما تمنيت) وأدركني الملالة فانصرفت عن هذا الموضوع إلى سواه. أما الأستاذ فلم يعرف الضجر، وإنما زاد في الاستطلاع وما انفك يزيد حتى أربى على الستين كتاباً، ثم تتبع الأخبار المبثوثة في طوايا

ص: 51

هذه الكتب فإذا هي متفرقة متمزقة كأنها الأشلاء المبعثرة بأطراف الصحراء!

وأني لواثق أنه ما كان لقصة ابن المعتز أن تستحكم حلقاتها لولا أن الأستاذ قد غامر فتنقل فعلاً (بين طوائف شتى من كتب التاريخ والطبقات والأدب والفقه والمُلَح والدواوين) فاستطاع بهذا التنقل الفكري المرهق أن يريح قارئ قصته، إذ أوضح له خفيات الأمور، وتطوع بنفض الغبار عن كثير من الحقائق، حتى ليظن أولئك الذين تعودوا أن يقرءوا غير محتكمين إلى العقل والمنطق أن ليس في الكتاب عناء البحث ولا وعورة المسلك، لاتخاذ الكاتب طريق القصص الذي يبدو سهلاً لمن يراه، ولا يعرف صعوبته إلا من عاناه.

ومن المعروف لدى المشتغلين بأدب القصة ونقدها أن الأسلوب القصصي حين يعتمد على الخيال الخالق وحده في تأليف الحوادث وربطها، أو حين يعتمد على التاريخ الصادق وحده في رواية الأخبار وجمعها، لا يعترضه من العقبات ما يعترض القصاصي الذي لا غنى له عن الجميع في آن واحد بين ما ارتضاه من خيال وما صدقه من تاريخ. وأكثر ما يكون ذلك في القصص التاريخية التي تدور حول فتنة حمراء لعب المؤرخين فيها دور الجبناء، خوفاً من سطوة القادر ونفوذ الحاكم وعنت الجبار.

وخلافة ابن المعتز التي تقرأ وصفها في كتاب (يوم وليلة) كانت فتنة اندلعت ألسنتها بسرعة وسكت غضبها بسرعة، لكنها - رغم استحالة جمرها إلى رماد - أخافت كثيرين من التصدي لأخطارها لئلا يحترقوا بنارها، ولتجدن أكثر الذين عاشوا في هذه الفتنة وبلوا أخبارها قد أفضوا بذات أنفسهم إلى معاصريهم لكنهم أبوا أن بدونهم لمن بعدهم شيئاً مذكوراً يكشفون به مسدل الأستار، ويذيعون به خفي الأسرار؛ ولولا كلمات مبثوثة هما وهماك على ألسنة الوزراء والندماء والقواد والقضاة والتجار والسوقة لاندثرت معالم هذه القصة ولما استطاع الخيال أن يرتكز في وصف حوادثها إلا على أسطر قليلة لا تغني من الحق شيئاً.

وهنا تظهر مقدرة الكاتب بوضوح، فلقد عرض القصة عرضاً فنياً، وسبح في جوها سبحاً طويلاً. وقد خاف أن يأخذ عليه النقاد ابتعاده بالقصة عن وجهها الحقيقي فقيد نفسه بقيود كثيرة، وألزم قلمه ألا بنطق إلا فيما تدعو إليه حلقات القصة لتكون قوية التماسك وثيقة الإحكام. . . وأشهد أن الأستاذ كان موفقاً في ما حبس به نفسه وفي ما أطلقها فيه؛ بل إن

ص: 52

في ما زاده من حوار بين الأشخاص أو تمهيدات بين يدي الأحداث لبراعةً نادرة تجعل القارئ يظن نفسه أمام قصة محبوكة الأطراف قد وثَّق الزمن ذاته عراها ولم يترك للخيال في نسجها يداً.

وإن كاتباً هذه مقدرته في خلق الحوادث خلقاً يوشك أن يكون طبيعياً حرى أن يخرج لنا كتباً كثيرة عن بعض أدبائنا الأقدمين وعلمائنا السالفين الذين لم يسعدنا طول البحث بالتعرف إلى آرائهم وتحليل نفسياتهم. وإن هذه لخدمة جلى يستطيع الكاتب وأمثاله ممن أوتوا موهبته أن يسدوها إلى عشاق العربية من أبناء هذا الجيل.

وما برحت موقناً بأن جمال العرض وقوة الأسلوب هما عامتا العمل الغني في حياتنا الأدبية؛ فبمقدار ما نُعنَى بهما تعلو قيمة إبحاثنا، وتستحق من الخلود.

وحين أذكر قوة الأسلوب ههنا لا يسعني إلى أن أهنئ الكاتب من صميم قلبي على تعبيره الرصين، وألفاظه الجزلة، وجمله المحكمة، وطول نفسه للاحتفاظ بوحدة الفكر. وتلك مزايا أدبية لا نكاد نجدها مجتمعة حتى في أساليب بعض المشهورين من كتابنا في مصر والشرق العربي؛ ومن خيل إليه أن في حكمي هذا شيئاً من المبالغة فليقرأ الكتاب بنفسه وليطالعني برأيه.

ولقد تأخذ على المؤلف بعض مآخذ فنية، فترى أنه أطال حواراً كان في مكنته اختصاره، أو أنه أوجز في فصل كان يستحسن فيه الأطناب، أو أنه أهتم بعض الشيء بأشخاص ليسوا من أملاذ الفتنة، أو بأحداث ليست في صميم القصة؛ لكن هذه المآخذ - لفتها وضآلتها - لا تغض من قيمة هذا الأثر الفني الرائع الذي ما أشك في أن صاحبه انفق عليه من الليالي الساهرة مثلماً كان ينفق الرسام الذي يبغي الخلود، أمام لوحة يريد أن يبهر بها الوجود.

وأنك لتستطيع أن تقرأ نظرة الكاتب إلى الحياة من خلال الأحاديث التي أنطلق بها أشخاص قصته، فلقد أشفق على أبن المعتز في ضعفه، ولقد شمت به في غروره، ثم عاد يترجم عليه بعد مماته. وحِكَم الكاتب التي زين بها كتابه بدت طبيعة في أحاديث الأشخاص إلا في مواضع قليلة ظهرت فيها مقمحة كأن صاحبها يتكلف الموعظة، ويصطنع أداء الحكمة.

ص: 53

ولكن. . . مهما يكن من شيء فهذا الكتاب الصغير الحجم عظيم الفائدة، حتى لا أظن متأدباً ولا أدبياً يستغني عن اقتنائه إذا كان يريد أن يعلم معظم ما يمكن أن يُعلَم عن خلافة ابن المعتز.

ولا بد لي - قبل أن أختم مقالي - من الإشارة إلى هفوة نحوية لم أقع على سواها في سائر الكتاب رغم إمعاني في قراءته: فقد قال الأستاذ في ص79 (وهرب بعضهم إلى دار ابن المعتز لعلو أمره، الأمونس الحاجب وخاصة رجاله وغريب خال المقتدر) وواضح أن هذا سهو أو سبق قلم، وإن الصواب أن يقال: ألا مؤنساً. . . وخاصةَ. . وغريباً. . لأن المستثنى بالا يجب نصبه إذا كان ما قبلها تاماً مثبتاً.

واغتنم هذه الفرصة لافتتح - صفحات الرسالة الزهراء - صداقة أدبية خالصة مع الأستاذ عبد العزيز سيد الأهل مؤلف هذه القصة التاريخية، مهنئاً وزارة المعارف المصرية بمبعوثها الفاضل، راجياً من حضرته أن يسرع بإتحاف المكتبة العربية بكتابه الجديد (ابن المعتز أدبه وعلمه) الذي وعد بإصداره قريباً وفي انتظار كتابه الموعود لي كبير الأمل في إقبال قراء الرسالة على (يوم وليلة) ليعرفوا الأشخاص بالأدب، لا الأدب بالأشخاص.

(طرابلس الشام)

صبحي إبراهيم الصالح

ص: 54

‌فن الخطابة

تأليف الأستاذ أحمد الحوفي

بقلم الأستاذ إبراهيم الجعفراوي

الأستاذ الحوفي ليس بمجهول لدى قراء الرسالة الغراء؛ فقد قدمه إليهم الأستاذ محمود الخفيف منذ بضع عشرة سنة - وكان يومئذ طالباً بدار العلوم - منوها بباكورة أبحاثه وحي التسبيب في شعر شوقي - ثم تخرج الأستاذ، وتوالت الأيام، وأخذت الرسالة تنشر له بعض الفصول عن شوقي.

وفن الخطابة الذي تقدمه اليوم، هو باكورة أيضاً لعمل الأستاذ الجديد في دار العلوم، والكتاب ثمرة جهد عظيم بذله الأستاذ رغم عمله المرهق، واشتغاله ببحث بعده للحصول على درجة جامعية.

وليس أدل على قيمة الكتاب مما سطره القلم البليغ - قلم الدكتور إبراهيم سلامة - في تقديم الكتاب: ويمكن أن أقول إن الكتاب أول في نوعه من بين المؤلفات الحديثة التي تعرضت للخطابة. . إلى أن يقول بعد أن تعرض لقارئ الاستفادة، وقارئ الاستزادة: وما ينتظره كل منهما من المؤلف.

على أن قارئ الاستفادة، وقارئ الاستزادة أمام كل مؤلف يحسب لقرانه وجودهم، كلاهما يريد أن يخرج بجديد، فالمستفيد من الفراء يعلم ما لا يعلم، ويضيف جديداً إلى ما يعلم، ويمحو خطأ مما علم؛ ليحل الصواب محله بعد القراءة. والمستزيد يعرف في سهولة ما سبق أن عرفه في جهد؛ لأن المؤلف عرض له ما يعرف عرضاً فنياً فيه - زيادة - على المعرفة - الإيحاء، باستزادة، والانتفاع باللذة العلمية، فلذة المستفيد المعروفة المحضة، ولذة المستزيد في أن يلمح إلى جانب المعرفة الحياة، وحركات الأفكار؛ لأن المؤلف فناً في العرض وفناً في الأسلوب، وفناً من دقة البحث، وفنوناً من الإثارة والإغراء تدفعه إلى أن يقرأ ما يعلم، ويستلذ ما سبق له أن عرفه.

هذا سر المؤلفين الناجحين، وهنا سر النجاح في التأليف لمن يكتبون في موضوع سبق البحث فيه. والأستاذ أحمد الحوفي قد كشف عن كثير من عناصر هذا السر.

وقارئ الكتاب يدهش لهذه المادة الغزيرة، والإحاطة بكل أطراف الموضوع، فهو مقدم

ص: 55

بكلمة عن تعريف الخطابة، يليها فضل عن الخطيب، تحدث فيه عن الاستعداد الطبيعي. والوقفة والإشارة، واللسن، والعلاقة بين الخطيب والشاعر والممثل، وأتبع ذلك بفصل ضاف عن نشأة الخطابة ورقيها، وآخر عن نفسية الجماعة وملك الخطيب نحوها، ثم تعرض لأنواع الخطب، وناقش التقاسيم المختلفة، وأسهب في الكلام عن الخطب السياسية والفضائية والحربية والحفلية، والدينية. يلي ذلك فصل عن الأسلوب الخطابي وخصائصه، استهله بالكلام على مذهبي الأسلوب والمعنى. والمقارنة بين أسلوب الخطبة، وأسلوب المقالة، ثم أعقب ذلك بفصل عن الارتجال والإعداد، ومزايا كل وعيوبه ومواضعه.

وختم المؤلف كتابه بفصل عن الخطابة في تصور الأمم: عند اليونان والرومان والعرب والمحدثين.

هذا عرض سريع لفصول الكتاب القيمة أردت منه أن يتعرف القارئ الكريم على مادة الكتاب، وكيف يسير المؤلف في بحثه متعمقاً مستقصياً مما يدل على أنه قد رجع إلى كثير من المراجع.

ولعلي أرجع قريباً إلى هذا الكتاب، فأتحدث عن بعض فصوله بالتفصيل والنقد.

إبراهيم الجعفراوي

دبلوم معهد التربية العالي

مدرس بمدرسة الجيزة الابتدائية للبنات

ص: 56