الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 848
- بتاريخ: 03 - 10 - 1949
من المسؤول عن اللاجئين؟
للأستاذ نقولا الحداد
قضى مليون لاجئ عربي مشرَّدين عن منازلهم وأملاكهم إلى الآن نحو عام وهم يعانون زمهرير الشتاء وقيظ الصيف فضلا عن الأمراض والأوبئة ثم الموت بالجملة، فهل يقضون أيضاً عاماً آخر؟!
واللجان الموفدة من قِبل مجلس الأمن وهيئة الأمم العربية تدرس وتباحث وتناقش. . . وإلى الآن لم تصل إلى نتيجة حاسمة ولا نظنها تصل!!
واليهود يسرهم كل هذا. . . وهم في بيوت العرب آمنون مستريحون يستغلون أملاك العرب. . . وتستمر الحال على هذا المنوال إلى أن يملّ العرب، وثم لا يبقى أما اللاجئين إلا أمر واحد. . . هو الانتحار!!
فمن المسؤول عن هذه الكارثة؟!
المسؤول الأول هو إنكلترا، لأنها هي سبب هذه الكارثة أولا وأخرا. . . فهي الملزمة أن تفتح السبيل لعودة العرب الفلسطينيين إلى بيوتهم وأملاكهم وأرزاقهم، وأن تجعل هذا السبيل مأموناً من غدر هؤلاء اليهود الجوييم وهمجيتهم، وحمايتهم مدة إقامتهم في ديارهم. . . وهذا يستلزم أولا أن تجرد اليهود من أسلحتهم تجريداً مطلقاً ولا تعترض على تسلح العرب.
ثم على إنكلترا أن تعوِّض العرب من خسائرهم الجسيمة التي خسروها في مدة التشريد. . .
ومن يقرأ هذين القولين يقل لك إنّك تطلب المستحيل، لأن إنكلترا التي دللت اليهود منذ إعلان وعد بلفور، وسكتت على تعديات اليهود المتعددة على إنكلترا - كما هو معلوم - لا يمكن أن تتحمل هذه المسؤولية، وإن كانت حقاً صارخاً، لأنها، أي إنكلترا، خاضعة لعون اليهود في بلادها، وهناك خمسة في المائة من أعضاء البرلمان يهود، وخمسة وزراء يهود، وهؤلاء راكبون على خناف إنكلترا وكاتمو أنفاسها، لا نعلم بأي سحر تخضع لهم وهم يقهرونها!
هذا هو الواقع!
يبقى أننا إلى الآن لم نفهم كيف أن الدولة التي لا تغيب الشمس عن أملاكها (أو كانت هكذا) تخنع هذا الخنوع لزمرة من صعاليك الأمم!
وعلى أي حال يجب على بريطانيا العظمى أن تمسح هذا العار عن جبينها بأن تدبر أمر اللاجئين تدبيراً يوافق عليه العرب جميعاً، وإلا فتاريخ إنكلترا أسود بالقلم العريض حاضراً ومستقبلا. . .!
ولكن. . . هل يا ترى يكترث الإنكليز لسمعتهم وتاريخهم؟ هنا نقف ونسأل وننتظر. . . وإلى متى ننتظر؟!
يلي إنكلترا في المسؤولية أمريكا الانجلوسكسونية. فعليها أكثر من خمسين في المائة فيها، ولكن أمريكا لا تبجح بشرفها، ولا تحترم سمعتها، ولا تكترث لتاريخها، ما دامت تلعب بالدولار. ولعل اليهود هناك يعتقدون أنهم هم الذين سكُّوا الدولار المعدني وطبعوا الدولار الورقي. فهم يوسخون وعلى الشعب الأمريكي أن ينظف!
إنكلترا وأمريكا مسؤولتان في الدرجة الأولى، ويهود العالم كله مسؤولون في الدرجة الثانية، فهم مسؤولون لأن اليهود الصهيونية هم الذين نهبوا وأفظعوا وقتلوا وشرَّدوا العرب، ولأنهم كانوا يموِّنون هؤلاء المجرمين بملايين الدولارات. ولكن من يرغم هؤلاء اليهود على التعويض وعلى العرب وعلى قبولهم رغم أنوفهم في بلادهم؟
قالوا: إن مجلس الأمن المسؤول عن الأمن العالمي هو الذي يرغم اليهود على التعويض وعلى القبول - قبول العرب.
ولكن المصيبة الأخيرة جاءت عن يد مجلس الأمن، فإذا كانت إنكلترا - وهي المسلَّحة - تجثو أمام سحر اليهود، فمجلس الأمن - وهو بلا سلاح البتة - لا يستطيع أن يهز رمحاً في وجه الصهيونيين، فهو كالدجاجة، وهي بلا براثن ولا أنياب أمام السباع والذئاب. . . فإذاً، إنكلترا أولا، ثم أمريكا الانجلوسكسونية ثانياً - هؤلاء هم المسؤولون عن نكبة عرب فلسطين أمام الله، وأمام التاريخ، وأمام العالم. . . ولكن إذا كانوا لا يخافون الله، ولا يحترمون التاريخ، والعالم كله مثلهم لا يخاف الله ولا يبالي بالتاريخ. . . فلمن نشكو أمرنا؟!
لا نشكو أمرنا إلا للعرب أنفسهم، فإن كانت عندهم بقية من مروءة العرب التي طالما
تبجحنا بها فالنجدة يا قوم. . . وإلا فليقرأ كل عربي - من الوزير إلى الصغير - ما لقنه أحمد الشقيري بك مستشار الوفد السوري أمام لجنة التوفيق الدولية بعد عودته من لوزان لمندوب جريدة المصري في يوم 16 سبتمبر، لكي يعلم ما يبيته اليهود للعرب جميعاً من الشر. فلعلهم يتحمسون للدفاع عن أنفسهم قبل أن يحدث لهم ما حدث لعرب فلسطين، ويتشردوا في الصحارى والبحار فيموتون ظمأَ ثم غرقاً. . . وكل آت قريب. . .
نقولا الحداد
2 ش البورصة الجديدة بالقاهرة
منادمة الماضي:
على طريق الحملات المصرية في لبنان
أيام دولة سلاطين المماليك البحرية
للأستاذ أحمد رمزي بك
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
ثلاثة من سلاطين مصر العظام يبدو عملهم خالداً أمام الزمن في هذه البقعة من الأرض: الملك الظاهر بيبرس صاحب الفتوحات الكبرى، ثم المنصور قلاوون الذي حاصر مدينة طرابلس ستة وعشرين يوماً ثم فتحها بالسيف، وأخيراً الأشرف خليل بن قلاوون صاحب الفتح الأشرفي من الممالك الساحلية والجبلية وهو الذي بقي لمدة قُرون والناس يُؤرِّخون في لبنان الحوادث على ذكره وتأتي هذه الحملات في عهد الناصر محمد تكملة لتلك الفتوحات.
ولكن الباحث في تاريخها يسير دائماً في المراجع التي بين أيدينا وهو يتلمس الأسماء والمواقع وسط الصعاب التي يُقيمها المعاصرون والمؤرخون والنساخ. فهناك طائفة من أسماء البلاد والمقاطعات تغيرت مواضعها مع الزَّمن أو تعدًّلت حدودها، ومع اعتمادي على الخرائط التفصيلية التي وضعتها القيادة الفرنسية مدة عهد الانتداب، ومع أنني زُرت أغلب المناطق لعدة مرَّات أراني أحياناً وسط بحر واسع الأطراف في المسائل التي تحتاج إلى تحقيق، أراني أخوض فأوفق في بعض الشيء ولا أوفق في البعض الآخر فأتركه ليتمكن غيري من تحقيقه.
ويحصل الخطأ في النقل من النسخ التي بين أيدينا، أو في عدم اعتناء المؤرخين عند كلامهم على الحوادث فيطلقون أسماء عامة مثل جبال الجرد والكسروان من غير تحديد.
فقد جاء ذكر بعض الحملات في الجزء الشمالي الجبلي الواقع بين الممالك الساحلية والممالك البعلبكية: والمعروف أن كسروان هو الإقليم الجبلي الذي تقع فيه مدينة (بسكنتا) وهي التي كانت تسمى قديماً بأسم (العاصية) لصعوبة مسالكها والمرور إليها من وادي الجماجم. ومع أنها قسمان في التقسيم القديم داخلة وخارجة. فالداخلة حدها من نهر الكلب
إلى نهر إبراهيم، والخارجة حدها القديم من نهر الكلب إلى الحد الفاصل بينها وبين مقاطعة المتن: وتمتد الحدود من البحر إلى الجبال: ومع علمنا بهذا التحديد يطلق المؤرخون اسم كسروان تساهلاً منهم على بقاع تقع في الجزء الشمالي من هذه البقعة بالذات: ويتكرر هذا في معظم من كتب بعد حوادث الفتوحات التي تمت في عصر الملوك الثلاثة.
ولكن المدقق يجد أن الحوادث التي كانت مدينتا (أهدن)(وبشرى) مسرحاً لها تقع في مقاطعة كانت تسمى باسم (جبة بشرى) في هذا العهد ثم أصبحت (جبة الحدث) في عهد قايتباي: ومن هذه الناحية بالذات مقاطعة كانت تسمى الضنية وهي ترد في كتب المؤرخين باسم جبال الظنيين: ولقد اعتمدت في تحقيق هذا الاسم على مصدرين:
الأول: هو ما ورد في وثيقة الهدنة التي عقدها الملك المنصور قلاوون صاحب مصر مع جماعة الاسبتار وبيت طرابلس (681هـ 1280م).
الثاني: ما جاء في كتاب الشيخ طنوس بن يُوسف الشدياق
جاء في عقد الهدنة ذكر بلاد السلطان الملك المنصور: (ما هو مجاور لطرابلس ومحادد لها من المملكة البعلبكية جميعها وجبالها وقُراها الرحلية والجبلية وجبال الضنيين)
وجاء في المرجع الثاني: (لما قدمت الفرنج من إنطاكية سنة 1099، وفد إليهم أناس من المردة من جبل سير وصقع الضنية). فجبال الضنيين هي إقليم أو صقع الضنية الذي أشرنا إليه والواقع في الجزء الشمالي من إقليم جبة بشرى وهذا الإقليم ينحدر من أرز لبنان إلى سير ثم إلى طرابلس.
ومن هذا نعلم أن ذكر (أهدن) و (بشرى) في إحدى الحملات لا يجعل لكسروان شأناً وبينها وهذه البلاد مناطق: أو قطاعات كانت تسمى باسم بلاد واقعة على الساحل أو في الجبال كما يتضح ذلك من وثيقة الهدنة نفسها.
فقد جاء فيها عند الكلام على بلاد الفرنجة أي الأبرنس صاحب طرابلس ما يأتي:
طرابلس وما هو داخل بها ومحسوب عليها. أنفة وبلادها. جبيل وبلادها. صنم جبيل وبلادها (وأرجح أم جبيل). البترون وبلادها (وكلها على الساحل) وضع هذا النص عند قصد - ثم عرقاً وعدتها 51 ناحية.
وما هو للفارس روجار دي لالاولاي من قبلي طرابلس.
أقول إننا إذن في حاجة ماسة إلى جمع نصوص الوثائق المملوكية من عقود الهدنة والصلح الموزعة في الكتب وتحقيق كلماتها حتى تراجع مراجعة صحيحة لكي نستفيد من محتوياتها: هذا علاوة على المراسيم الخاصة بولاية العهد أو الصادرة بتوليه الأمراء أو بالإقطاعات: ومن بعض هذه الوثائق يتضح مدى اتساع الإمبراطورية الإسلامية لمصر في أزهى عصورها بلا استثناء وقد جاء في نهاية عقد هدنة المنصور قلاوون (وما سيفتحه الله على يده ويد ولده وعساكرهما وجنودهما من الممالك والحصون).
وقد تمت الفتوحات جميعاً حتى ذكر ابن الفرات (ولم يتأخر بالبلاد الشامية غير فلاحيها وهم داخلون في الذمة).
وأرجح أن الجزء الجنوبي من لبنان حيث كان يسكن أمراء الغرب من آل بحتر التنوخيين لم يتعرض لهذه الحملات ما عدا الجرد الشمالي، إذ المعروف أنهم كانوا حلفاء وأعواناً لملوك مصر ابتداء من الدولة التركية المعز ايبك، إذ جاء في كتاب صالح بن يحيى ذكر منشور المعز إيبك للأمير سعد الدين خضر، وجاء فيه أن الأمير زين الدين بن علي وفد على السلطان قطز واشترك محارباً في معركة عين جالوت لما قهر المصريون التتار، وجاء فيه ذكر عدة مراسيم أرسلها الظاهر بيبرس إلى الأمراء وقال عنهم (الأمراء المثاغرون على صيدا وبيروت) وكذلك ما صدر من ابنه الملك السعيد بركة خان، ولم تكن صيدا وبيروت بيد المصريين في ذلك الوقت. ويبدو مؤرخو الحروب الصليبية في حيرة من موقف بعض الأمراء.
فالأب لويس شيخو يستخلص من حادثة معينة أن بعض الأمراء كان حليفاًللصليبيين فيقول أن أحد أعداء الأمراء المسمى تقي الدين نجا بن أبي الجيش سعى بهم زوراً إلى ملك مصر الظاهر بيبرس مدعياً أنهم حالفوا الإفرنج وخانوا الدولة.
وأعتقد أن هذه الحادثة بالذات تحتاج إلى عناية المشتغلين بالتاريخ المصري لأن المكتبات التي صدرت من جهتهم لبلاط القاهرة وإجابة الملك الظاهر بإفرار أقطاعهم وبلادهم تكشف لنا عن ناحية فذة من عظمة الظاهر وسياسته.
ولا أعتقد بوجود سياسة للأمراء مرسومة للعمل على ناحيتين في تلك الحقبة بالذات خصوصاً وقد بدأت طلائع الظفر والمجد والقوة تبرز بروزاً في ناحية الجانب المصري
تحت عبقرية الظاهر ومن جاء بعده من الملوك العظام.
والظاهر أن العلاقات بين أمراء الغرب ومصر أقدم من ابتداء الدولة التركية بل كانت متأثرة دائماً بملك مصر بدليل أنه لما وقعت النفرة بين الملك محمود نور الدين زنكي ملك الشام والملك صلاح الدين يوسف الأيوبي ملك مصر كان هؤلاء الأمراء يوالون صلاح الدين وكانوا يعضدونه على محاربة الإفرنج وكان ملك مصر يجعلهم أمام عساكره.
وقد أبلى الأمراء كما رأينا في حروب قطز وبيبرس ثم في أيام قلاوون في معركة حمص حين اشترك من جنودهم تحت قيادة الأمير قرقماز ما مقداره أربعة آلاف مقاتل هذا خلاف ما قاموا به في صد هجمات التتار أيام الناصر محمد بن قلاوون ولعل هنالك فترة غامضة في تاريخ لبنان هي فترة الخمس سنوات التي أخلى فيها وادي التيم فلم تبق فيه غير حاصبياً مسكونة: ذلك حينما تقدم التتار في زحفهم أيام الملك الناصر فاضطر الأمراء إلى التراجع أمامهم: لهذا أرجح أن المشاكل التي جاءت بعد حملات الأشرف خليل تحت قيادة بيدار أي حملات الناصر محمد تحت قيادة جمال الدين أقوش الأفرم كانت نتيجة للتقلقل والفوضى التي سادت الجزء الجنوبي من لبنان في تلك الفترة من الزمن: أي بين 698 و 705 هجرية.
ويقول المطران الدبس في الجزء السادس من كتابه (أما من هم الذين سماهم صالح بن يحيى الجرديين وسماهم الدويهي الجبليين فلا شك أنهم غير الكسروانيين ونرى أنهم سكان العمل المسمى إلى الآن الجرد ومن قراه رشيما وشارون وبتاتر ويحمدون وإنهم كانوا دروزا)
ويؤكد خروجهم عن طاعة الأمراء التنوخيين وإنهم كانوا يسطون على بلادهم وإن نذير جمال الدين أقوش أمرهم أن يصلحوا شؤونهم مع الأمراء ومع قلة المصادر أو صمت المراجع فالدلائل المنطقية تجزم بأن هؤلاء هم الذين انتهزوا فرصة إخلاء أراضي التيم من أهلها فاعتدوا على بعض أملاك الأمراء وهم الذين انسحبوا بعد ذلك إلى مقاطعة كسروان ويظهر أن الجرديين كانوا دروزا والكسروانيين كانوا موازنة فتخلفا أمام زحف المصريين: وهرب الدروز بعد أن دارت عليهم الدائرة في معركة عين صوفر إلى غربي كسروان أي إلى نيبية وانطلياس التي كانت حينئذ من كسروان وكان نهر الجعماني الفاصل
للمقاطعة من الجنوب.
ويعجبني صاحب البداية والنهاية حينما يتكلم عن شيخ الإسلام ابن تيمية فهو يعرفنا بأن الشيخ خرج ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الإسلام ورجع مؤيداً منصوراً ومنه نعرف أن وسيط أو نذير الأمير جمال الدين أقوش المسمى زين الدين بن عدنان كان يشغل وظيفة نقيب الإشراف بدمشق وحدثت هذه الوساطة في مستهل ذي الحجة سنة 704.
إذن سبقت الحملات بعثة سياسية دينية، وفقت في إقناع البعض ولم توفق في إقناع البعض الآخر وهؤلاء الآخرين هم الذين أفتى العلماء بقتالهم. لأنه في ثاني المحرم سنة 705 خرج نائب السلطنة الأفرم جمال الدين أقوش وجنوده إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة (أي وادي التيم) السالف الذكر ويقول ابن كثير (فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقاً كثيراً) ثم أردف (وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير وأبان الشيخ علماً وشجاعة وقد امتلأت قلوب أعدائه حسداً له وغماً).
وفعلاً بدأ أعداؤه حملة الافتراء والأكاذيب والدسائس عليه شأنه شأن كل الرجال النافعين القادرين على العمل بإخلاص وشجاعة في هذا الشرق.
وأعود إلى ما سموه جبال الجرد: فهذه نهايتها آخر حد ولايات الغرب شمالا وفيها بلدة المديرج الواقعة على طريق الشام.
وفيها نهر الصفا وبها كانت واقعة عين صوفر المشهورة: ويحدثنا صاحب كتاب أخبار الأعيان عن حملة الجرديين (سنة 702 هجرية - 1293 ميلادية) إنها بدأت بمنشور أرسله الملك محمد الناصر بن قلاوون إلى جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق وإلى أسندمر نائب طرابلس وإلى سنقر المنصوري وإلى الأمراء التنوخية يأمرهم بحشد الجيوش لمحاربة كسروان وأهل الجبال جاء فيه (من نهب امرأة كانت له جارية أو صبياً كان له غلاماً ومن أتى منهم برأس مقتول كان له دينار لأن المذكورين كانوا نجدة الإفرنج).
ويقول المطران الدبس نقلاً عن الأسقف جبرائيل أبي القلاعي أن المعركة دارت عند جبيل وأن المقدمين الذين نزلوا من الجبال كانوا ثلاثين مقدماً منهم خالد مقدم مشمش. سنان وسليمان مقدما إبليج. سعادة وسركيس مقدما لحفد. عنتر مقدم العاقورة. بنيامين مقدم
جردين. ويقول إنهم رتبوا ألفين مقاتلاً كمنوا على الفيدار وألفين على نهر المدفون.
ومن مراجعة وثيقة هدنة المنصور قلاوون يتبين لنا أن هذه البلاد واقعة خارج الجرد وكسروان بل هي داخل القطاع الواقع بين قطاع البترون وقطاع كسروان أو هي تكون ما أسميه قطاع جبيل الواقع بين موقع فيدار وبلدة البترون وتتوسطه مدينة جبيل، ويرتفع إلى بلدة العاقورة في الجبال وبلدة تنورين أمامها وكانت ضمن أملاك صاحب طرابلس وما زال حكم الصليبيين أصبح فتح هذه البلاد هيناً على المصريين ويقول صاحب تاريخ الأعيان بدون أن يذكر المصدر الذي استقى منه (حينئذ اندفقت سكان الجبال على جيوش الإسلام اندفاق الماء المنهمر)(واقتحم مقدم مشمش على قائد جيش الإسلام واحتز رأسه)(ووقعت الكرة على جيوش الإسلام وتمزقت منهم الكتايب والأعلام).
ويصف ملاحقة الجبليين أمراء الغرب إلى عقر ديارهم وكيف قتل الأمير محمد وأخوه الأمير أحمد من أبناء محمد بن كرامة التنوخي وكيف أن المنتصرين زحفوا حتى أحرقوا بلاد عين صوفر وشمليخ وعين زوينة وبحطوش من قرى أمراء الغرب التنوخيين في الجرد الشمالي.
تلك هي رواية المراجع المسيحية عن الحوادث التي تقدمت الحملة التي قادها الأمير جمال أقوش الأفرم سنة 705 وانتهت إلى بما جاء في هذه المراجع بالذات (ثم أحاطت العساكر بتلك الجبال المنيعة وترجلوا على خيولهم وصعدوا في تلك الجبال من كل الجهات فأخرجوا القرى وقطعوا الكروم وهدموا الكنائس وقتلوا وأسروا جميع من فيها من الدرزية والنصرانية وزلت قلوب أهلها.)(ثم أمر جمال الدين أقوش أن تستقر التركمان في ساحل كسروان) ونشأت بذلك أمارة آل عساف وسكن التركمان بلدة ذوق ميكابل وحفظوا الدروب والمسالك، ونظم الأمير جمال الدين الأفرم طريقة الاتصال بالنيران بين الساحل ودمشق: إذ كانت تقام شعلة نار في رأس بيروت ومنها إلى جبل بوارش ومنها إلى بيرس ومنها لجبل بالصالحية ثم إلى قلعة دمشق حتى تصل الأخبار في وقتها، وترتب الحمام الزاجل بمحطاته وخيل البريد إلى دمشق عن ثلاث طرق، وهكذا انقطع اتصال الإفرنج بأهل كسروان انقطاعاً تاماً ودخل أهل الجبال في طاعة ملوك مصر فلما قامت الفتنة بين الظاهر برقوش والأميرين الناصري ومنطاش انضم لعسكر الشام العربان والتركمان وأهل
كسروان والجرد من أهل لبنان، ولما عاد برقوق لملكه بعث بجند مصر إلى الساحل فأخضعت البلاد بأكملها وجاء في أخبار الأعيان أن الظاهر برقوق تةجه بنفسه إلى بلدة بشرى فأقام يعقوب ابن أيوب مقدماً وكتب له صحيفة نحاسية ثم نزل إلى (دير قنوبين) حيث مدافن بطاركة الموازنة فأنعم على الدير العتيق بإعفائه من الأموال الأميرية بموجب صحيفة نحاسية.
وأعود فأقول بأن القطاع الشمالي من لبنان حيث يقع أرز لبنان كان خارجاً عن نطاق الهدنة (بين قلاوون وصاحب طرابلس) كما قلنا ولذلك جاء في كتاب البطريرك اسطفانوس الدويهي إنه وجد في أرض الحدث بقرب دير القديس يوحنا كتاباً للصلاة مدونا فيه ما يأتي عن فتح أهدن وبشرى:
إنه في سنة 1283 أي بعد هدنة طرابلس التي تمت في أيام المنصور قلاوون بعامين (إن العساكر الإسلامية سارت إلى فتح جبة بشرى وصعدت إلى وادي حيرونا وحاصرت قرية أهدن وتم فتحها بعد أربعين يوماً وأخرجت القلعة والحصن الذي على رأس الجبل) ولم يكن بوسع الإفرنج في طرابلس ولا جماعة الاسبتار تقديم المساعدة لأهل أهدن لارتباطهم بنصوص عقد الهدنة ولذلك أتم المصريون فتحها قبل سقوط القطاع - الكسرواني وقطاع جبيل في أيديهم. وقد رأيت كيف تمكن الظاهر برقوق بلباقته بعد قرن من الزمن أن يجذب قلوب هؤلاء السكان الأشاوس وأن ينقلهم من معسكر أعدائه إلى معسكر الحلفاء الأوفياء: فلله دره.
أما الأمير جمال الدين أقرش الأفرم نائب السلطنة فبقي بنيابة الشام حتى دخلت سنة 711 لما نقله الملك الناصر محمد إلى نيابة طرابلس بإشارة الإمام ابن تيمية فبقى بها حتى انضم إلى قرانسنقر وذهبا سوياً إلى بلاد التتار بعد أن أديا لمصر أكبر الخدم.
أحمد رمزي
صور من الحياة:
وفاء. .!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قلت لصاحبي: ما لهذا الرجل يسير الهويني يتخلع في مشيته وإن إهابه يكاد ينقد من أثر الخيلاء، وينفض الشاطئ بالنظر الشزر وإنه ليتنزى ترفعاً وكبرياءً، ويزهي في تبَّانه وبرنسه وقد ورم أنفه من صلف كأنه رب هذا البحر لا يلوي على أحد ولا ينزل إلى دنيا الناس ولا تتطامن من عظمته ولا تهدأ غطرسته!
فقال صاحبي: آه إن في الناس رجالاً لو انشقَّ عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار. وإن لهذا الرجل حديثاً عجيباً لو اطلعت عليه لألفيته ذئباً لا يترفع عن أن يبلغ في دم الإنسان حتى يرتوي. وإنه ليتصنع ما ترى ليوهم الناس بأنه شيء وما هو بشيء.
قلت لصاحبي: إن له حديثاً؟ هاته! فإن في النفس شوقاً إلى حديثك فأنا أحس فيه طلاوة وراءً وعقلاً.
قال: هذا الرجل ضابط كبير في الجيش، والجيش دائماً رمز القوة والفتوة وعلامة الترفع والإباء، وهو مدرسة تعلم الرجل كيف يصبح قوي القلب في شجاعة، ثبت الحنان في حزم، رابط الجأش في عزم، شديد المراس في بأس. ليكون - حين يجد الجد - فتى الوطن الأول يذود عن حوضه ويحمي حوزته، لا يقعد عن أن يغشى غمرات الموت في غير رهبة، ولا يفزع عن أن يرد مضلاَّت الردى في غير خوف، فهو فخر الوطن عند الجلاد وذخره في ميدان الجهاد. ولكن هذا الرجل تاه في نزوات نفسه فما لمس في الجيش معنى واحداً من معانيه السامية.
كان هذا الرجل - منذ سنوات - ضابطاً صغيراً في مقتبل العمر وزهرة الحياة يتوثب قوة ونشاطاً ويتألق فتوة ورواءً، يبسم للأمل ويبسم هو له، ويسكن إلى أخيلة المستقبل وهي - في ناظريه - وضاءة مشرقة. ثم بدت له في ثنايا حياته فتاة كانت حلم قلبه ونور عينه وسحر فؤاده فما تلبث أن أنطلق إلى أبيها يخطبها: ورضى الأب الثرى بالضابط الفقير زوجاً لابنته الجميلة الفاتنة حين رأى فيه الرجولة والصلاح وحين بدا له أن المستقبل
يوشك أن ينفرج أمامه عن منصب في الجيش ذي شأن، ورضيت الفتاة به حين خلبها بشبابه وزيه وحين أسرها جماله وحديثه.
وعاشت الفتاة إلى جانب زوجها تسعد برفقته وتطمئن إلى رأيه، وترعى شأنه، وتصبر على شظف العيش وراتبه ضئيل تافه؛ وأبوها يرى ثم لا يقبض يده عنها. وعاش الزوج شقياً بجمالها تأكله الغيرة حين يراها تشع نوراً يخطف البصر، وتصفعه الأنانية حين يلمس فيها معاني الشباب تخطف القلب. لطالما حدثته نفسه بأن يضرب بينها وبين العالم بحجاب لا تستطيع أن تظهره. ولكن أنى له أن يفعل وهو لم يرى عليها من سوء ولم يحِّس فيها من عقوق. وتصرمت الأيام تبذر فيها معاني الإخلاص والمحبة، وتؤرث فيه هو معاني الأنانية والغيرة. والفتاة تسبح في حمق عميق لا ينفذ بصبرها - وهي في عمايتها - إلى بعض ما يتأجج في صدر زوجها.
ومضت سبع سنوات جنت الزوجة في خلالها ثمرتين من ثمار الحياة فيهما سعادة القلب وراحة البال وفيهما جمال الحياة وفرحة الدار. . ثمرتين هما الابن والابنة. واطمأنت الزوجة إلى حياتها والى ولديها، فهي تقضي يومها بين حاجات الزوج ورغبات الطفلين لا تحس الضيق ولا تجد الملل.
وطمع الزوج الأحمق أن تنحط الأيام على الزوجة المسكينة فتتوزعها بين شغل الدار وشغل الابن وهم الزوج جميعاً فتستلبها من جمالها أو تعبث بسحرها. ولكن الأيام لم تزد الفتاة إلا إغراء وفتنة، وغاظ الزوج ما رأى فاندفع يذيقها فنوناً من العنت والإرهاق لعل الأسى يمد يده الجاسية إلى مفاتنها فيمسح سمات الجاذبية والروعة ويمحو آثار الحسن والرواء. غير أن الفتاة العاقلة لم تلق بالاً إلى حماقات يرتكبها زوجها عن عمد ليثير في الدار لظى من خلاف يعصف بها وبولديها في وقت معاً.
وضاق الفتى بصبر زوجته فانطلق ينفِّس عن نوازع شيطانية تثور في نفسه ويكفكفها على كره منه. انطلق ينفس عن نفسه فتعرَّف على فتاة من بنات الهوى، وسوَّلت له نفسه الوضيعة أن يدس لزوجته من يخبرها خبر حبه الجديد. وقالت الزوجة الحصيفة للرسول (ويل لك! لا أخال زوجي يرضى بأن ينحط في مهاوي الرذيلة بعد أن جاوز سن العبث!) قال الرسول (لعلك ترمينني بالكذب! إنه يلقاها مساء كل يوم في مكان كذا من القاهرة)
فقالت الزوجة (وماذا يعنيني! سأدعه يستمتع بأي امرأة شاء ما دمت أرى بين يدي هاتين الزهرتين الجميلتين أجد فيهما اللذة والسلوة) وأحس الرسول بالخيبة والإخفاق فانفلت من لدنها لا يلوي على شيء. وأسرت الزوجة في نفسها أمراً. . .
وفي المساء انطلقت الفتاة تسترق الخطى. . . انطلقت لترى زوجها بين يدي فتاته التي أحب. وأحست بالدوار يكاد يغلبها على أمرها من عنف الصدمة وشعرت أن قلبها الطاهر يكاد ينشق عن صدع يتوثب من خلاله الضيق والكمد، وأن عقلها يتضرم ناراً حامية توشك أن تلتهمها هي، فأسرعت إلى الدار لتضع عنها أصرها في زفرات كاوية يتلظى الغيظ من جوانبها، ولترسل الأسى من عينيها عبرات متدفقة هتانة ما تستطيع أن تكفكفها إلا حين تسمع وقع أقدام زوجها وهو يرقى درج السلم، وإلا حين يهفو ولداها نحوها فتضمهما إلى صدرها في شوق وحنان.
يا لقلب الأنثى! إنك صلب عنيد لا تضرب إلا أن تحس الخيانة من قلب رجل حملت أنت له الإخلاص والوفاء!
يا لقلب الأنثى! إنك راسخ متين لا يعصف بك إلا أن تستشعر المهانة والاحتقار والإهمال من قلب رجل أحببته ساعة من الزمان!
أما أنت أيها الرجل، فلقد سفلت أسفل سافلين، حتى بعت زوجك وأولادك بالثمن البخس بفتاة من عرض الشارع تستلبك من رجولتك ومن شهامتك ومن إنسانيتك في وقت معاً!
وانضم قلب الفتاة على أسى فتَّاك تخر الجبال من هوله، فما استطاعت أن تكشف عن حسرتها أمام أبيها. ولا أن تحدث أمها بحديث كربتها، فراحت تتلمس السلوة في ولديها وفي كلب صغير كان هملا في الدار من قبل، فأخذت تدلله في رقة وتحدب عليه في عناية. وأحس الكلب بسليقته الحيوانية أن سيدته تحنو عليه، فذهب يتمسح بها ويخضع لها ويقع عند قدميها. ورضى الكلب بأن يكون عبد السيدة حين أحس فيها الشفقة والرحمة!
ومضت الأيام والشهور تبذر في دار غراس الشقاق والاضطراب، والزوجة تصبر على ضيق وتغضي على مضض، وهي تنظر إلى طفليها في عطف وتضمهما في حنان. . . ثلاث سنوات عجاف والمسكينة في الميدان تجاهل الرجل وهو غليظ الكبد واهي الرجولة لا يرعوي ولا يرتدع.
يا عجباً! أفيكون شيطان الكبر قد ركبه لأنه تدرَّج في مناصب الجيش العليا في سرعة فأخذت نفسه تهوى إلى أسفل كلما سما منصبه إلى أعلى؟
وضاق صدر الزوجة على رحابته، ونفذ صبرها على سعته. . . فجاء حكم من أهلها وحكم من أهله، فما استطاعا أن يصلحا ذات البين، واتفق الزوجان - بعد لأى - على الطلاق!
وخيل للزوجة أنها تهرب من سجن أرغمت على البقاء فيه سنوات، فهبت تعد حاجاتها في نشاط، وتلم شعثها في جد، وإن قلبها ليضطرب اضطراباً شديداً كلما تراءى لها أن أبنيها سيعيشان في كنف هذا الشيطان الفظ، وإن كلبها ليتبعها في خضوع ويتمسح بها في ذلة. . . ثم انطلقت صوب الباب فاندفع الكلب على أثرها، ولكنها صفقت الباب من دونه لتحول بينها وبين كلب هذا الرجل. . . الرجل الجاثم في ركن تجذبه خواطره الأرضية إلى أسفل، فلا ينبض قلبه بعاطفة ولا تخفق أفكاره بنسمة روحانية.
وأحس الكلب بسليقته الحيوانية أن سيدته قد خرجت من هذه الدار ولن تعود أبداً، فانطلق إلى الطنف يريد أن يودعها الواع الأخير. يا لله! أفأصيب الكلب بمس من الجنون فراح يذرع الطنف في سرعة، ينظر إلى الشارع من هنا ومن هناك وهو ينبح نباحاً عالياً فيه الشجو والبكاء؟ ولذَّ للسيدة أن تستمتع بقلق الكلب وحيرته، فوقفت حيناً تشير إليه وتناديه وهي تبسم، ثم همت أن تركب سيارة أبيها وهي تنتظرها لدى الباب، فما راعها إلا الكلب وهو يقذف بنفسه بين يديها.
ووقع الكلب فانكسرت رجله، ولكنه - برغم ما يقاسي من ألم - اندفع صوب سيدته وهو ينبح نباحاً فيه الشجو والبكاء، اندفع ليدفن نفسه في حجرها.
وطفرت من عيني السيدة عبرة. . . عبرة واحدة. . لأن كلباً حفظ عهد الود ورعى حق الوفاء على حين لم يفعل الرجل.
آه، يا صاحبي، إن في الناس رجالاً لو انشق عنهم ثوب الإنسان لتراءت من ثناياه صورة خنزير أو حمار او. . .
كامل محمود حبيب
غروب
للأستاذ شكري فيصل
(منذ عام حطمت أقلامي التي كنت ألقى بها الناس، وعشت
بين أحزاني وأصدقائي. . . هذه تغزوني وأولئك يعزونني. .
. واليوم أفيق على نحيب الذكرى ولوعة المصاب. وتختلط
علي الصور والأشياء. . . فإلى الروح التي تسبح في أعلى
عليين. . . إلى روح خالي الذي علمني وأدبني. . . هذه
النفحات).
- 1 -
حين جزت ضفة النيل. . . من هذه الخضرة الخضراء والبساتين الممروعة إلى الضفة الأخرى التي تستريح على راعها الرمال الصفراء وتخفق على جنباتها الأمواج الزرق في (رأس البر) كنت في مثل ذهول المأخوذ وغيبوبة المنتشي. . . كانت الساعة قرابة السادسة، والشمس تميل عن سمائها التي عاشت فيها، وتنحدر في شيء من البطئ وفي كثير من الأسى نحو الأفق البعيد الذي يبسط لها جناحان من ضباب ونور.
ولم يكن في وسع الإنسان، إذ يتجرد من كل ما حوله من حركة الناس، أن يدرك أكانت تلك ساعة من ساعات الصباح الفتي أو لحظة من لحظات المساء المتداعي. . . فقد كانت هذه الأستار العريضة التي تلقيها السماء هنا وهناك علامة من علامات الظلمة، وكانت الشعاعات الرضية التي تند عن الشمس شارة من شارات النور. . . كان هناك هذا المزيج الذي يغشى بعضه بعضا من الليل والنهار، وهذا الخليط المتشابك من الأخلاط والضباب، وكان في ذلك كله تناسق أصيل محبب.
- 2 -
وألقيت أقدامي في الطريق إلى البحر. . . وأدرت ظهري إلى الشارع الذي يطفح بالناس
على ضفة النيل، ولم أحاول أن أستجيب إلى شيء مما حوله من جلبة الأشياء وحياة الأحياء، وخلفت من ورائي في نظرة عابرة كل هذه الحركة التي يتحرك بها هذا الشارع الأنيق وهذه الزينة التي يزدان بها. . . ولم يكن من بأس أن أخاف عن عادة الناس، هنا في رأس البر، حين يقسمون وقتهم قسمة مناصفة بين البحر والنهر. . . فإذا كان الضحى لجئوا إلى البحر، وأخلد بعضهم إلى رماله وانتهى بعضهم يصارع أمواجه. . . وإذا كان الأصيل لجئوا إلى النهر فانسابوا على شاطئه، عين إلى صفحته الهادئة، وعين إلى الصفحات الأسيلة التي لوحتها الشمسفي الصباح وخففتها الأصباغ في الأصيل.
وجزت طريقاً من هذه الطرق المتعارضة وحدي. . . كنت أشبه بالضال أو كذلك خيل إلى. . . فقد كانت الأنظار التي تمر بي كأنما تتحدث إلى، بعضها يتحدث مشفقاً علي وبعضها هازئاً مني. . . ولكني كنت أنا مشفقاً عليها دائماً رائياً لها أبداً. وإلا فكيف يخلي هؤلاء الناس بينهم وبين هذه اللحظات التي لا تنسى من عمر الشمس. . . كيف يبيحون أن يجلسوا إليها أكثر النهار يستمدون منها القوة ويستجدون العافية ويتقلبون في مهاد من أشعتها الحلوة، حتى إذا غلبها على أمرها الفلك الدوار وانحنت تودع هذا الشاطئ انصرفوا عنها. . . لم يكن في وداعها إلا ثلاثة: شاعر حالم، ومحب مستخف، وحارس كهل من حراس الشاطئ ينتظر موعد الصلاة؟!
ولكن ما ينفع العجب؟. . . وهل هذا إلا صورة من وفاء الناس للناس، يتجاوز الأحياء إلى الأشياء.
. . . وانتهيت إلى البحر من أقرب طرقه - وكل الطرق إليه قريب - فأنا مع هذا القرص المتوهج الذي يبقى من الشمس على ميعاد، في كل يوم، لا أخلفه إلا مكرها على إخلافه، ولا أنصرف عنه إلا أن يحول بيني وبينه ما لا قبل لي بدفعه، فإن فاتني أن أراه عشت معه أتخيله، حتى تطويه لغة الأفق في لحن سماوي من الألوان، حزين.
- 3 -
ورأيتني أشهد الشمس الهاوية في استغراق، وغشى عيني دمع ثر، كأنما استعار من الموج تدفقه. . . ولم أحس لهذه الصورة التي أراها كل يوم مثل الذي أحسسته لها اليوم. . . كنت أحس بعض هذا الاستغراق غير أني لم أكن أضل ذاتي. . . كان حاجز رقيق أو صفيق
يحول بيني وبين الفناء ويبقي علي شيئاً من كياني، ولكني في هذه اللحظات لم أعرف أين أنا ومن أنا فقد اشتملني جناح رفيق رقيق، وطار بي في هذا الأفق الموغل المترامي ليتركني بين وجيب الشمس المحتضرة وثنايا السحب المنتصرة:
كان من أمامي صراع. . . الليل الزاحف كالموت، والأفق الذي ينبسط في مهوى الشمس المنحدرة كالحد، والسحب الكثيفة التي تصرفها الريح فتغطي بها على النور كسكرات النزع. . . ثم وجدتني في صميم هذا الصراع جزءاً منه. . . كان يبدو لعيني من بعيد فآسى له، أما الآن فأنا في ظلماته الطاغية وأنواره الخافتة أبكي منه. . . كان حلماً مزعجاً يثيرني، ولكنه اليوم واقع يأسرني ويدميني. . . كان مشهداً أستمد منه ألوانه وأنغامه، أما الساعة فألوانه من دم قلبي وأنغامه من أناتي.
- 4 -
وفي صميم المعركة لا يملك المجروح أن يعي ما كان. . . يفنى فيما حوله وتفنيه الأشياء التي حوله. . يستغرق فيها وتغرقه. . . لا يدرك أكان هو الذي استوعبها أم هي التي استوعبته. . . ولكنه حين يفيق، يفيق على السكون الحزين الذي لا يفسده إلا نض الجرح بالدم ونبض الصدر بالأنين.
. . . وكأنما استيقظت، حين نظرت من حولي فلم أجد شيئاً ولم أحس حركة ولم أبصر إنساناً. . . لم يبق إلا سكون الموت وأنين الموج. . . أما هناك، في الأفق، حيث كان الصراع فقد انطوى البحر على الحطام الباقي من الشمس. . . لم تبق من الشعاعات الأخيرة إلا ظلالها. . ثم نحلت هذه الظلال فلم يبق إلا انطباعها على بعض السحب. . . ثم محت أنفاس الظلمة المنتصرة هذا الانطباع فلم يبق شيء.
- 5 -
لقد زايلتني كل هذه الصور التي كانت من حولي، وخفتت كل الأصوات التي كانت في أذني. . . هدأ الموج الذي كان يتكسر على الشاطئ، واختفت الغلالات التي توشي السماء، وركدت الريح التي كانت تطرز البحر. . . لقد طمس الموت الصور فأحالها ظلالا، وامتص الحركة فأحالها سكوناً وعمقاً. . . فلم يبق إلا الذكريات أعيش بها وأعيش عليها، ومن وراء هذه الذكريات أرى الألوان الزاهية والجوانب المتوردة والصفحات المشرقة،
ومن وراء هذه الذكريات أستمع إلى الأصوات النشيطة والحركة الحية. . . السكون والظلام والذكرى كل ما أنا فيه، وما أقسى ما أنا فيه.
- 6 -
وارتددت إلى البيت. . . كان في طريقي حين استقبلت البحر شعاعات وظلال وأغصان خضر لها براعم توشك إن تتفتح عنها. كان في طريقي، في هذه المرحلة، أنوار وآمال. . . أما الآن فأنا لن أرى، حين أستقبل البيت إلا الأشباح التي تتشح بالسواد ويلي من هذا السواد. . . لقد غام النور الذي كان هنا، ولكنه ترك هذه الدفقة المتدفقة التي تتوهج في أعماقنا.
. . . غروب ومعركة وموت. . . لقد غيب الليل كل شيء، وتركنا للذعة الوحدة وصهر الآلام. . . وما أطول الليل. . . أما الشمس التي غابت عن عيوننا فكل عزائنا أنها دائماً في قلوبنا.
(القاهرة)
شكري فيصل
من كتاب قصور العرب:
غُمْدَانُ
للأستاذ كاظم المظفر
يظنُّ الكثير أن العرب في الجاهلية كانوا بدوا لم تكن لهم حضارة ولم يُؤسسوا الدول والممالك، ولم يُقيموا الشرائع والأنظمة. ولكنا إذا درسنا تاريخ اليمن فقط، نجد الأمر بخلاف ذلك، لأن العرب في اليمن كانوا أصحاب دول منظمة، حكومتها بيد ملوك يتمتعون بالسلطة المطلقة. لهم جيوش للتعمير وليست للتخريب. يجمعون الرجال لبناء المدن والقصور، وإنشاء السدود، وحكومتهم وراثية لها نقود رسمية مزينة بالنقوش والصور كرأس الثور رمز الزراعة أو صور الهلال أو البقر، وعلى نقودهم كتابة عربية بالخط المسند.
واليمن من أقدم الأقطار التي نشأت فيها حضارة، فلو قام علماء العاديات بالحفر في أنحاء اليمن لأطلعوا العلم على آثار تلك الحضارة. وحضارة اليمن العربية القديمة بادية في بناء أسداد الري، وتشييد القصور، وتأسيس القصبات والمدن؛ ففي اليمن حضارة عربية قديمة، وخزانة الأقوام العربية المتدفقة.
وكان اليمانيون طبقات، منهم الجنود والفلاحون والصناع والتجار؛ غير أن التجارة غلبت على البلاد لوقوعها على الطرق. وقد اشتغلوا بالزراعة لخصب تربة البلاد؛ واشتهرت اليمن بمعادنها من الذهب والفضة والحجارة الكريمة. وهذا ما زاد في ثروة البلاد، فأصبح أهلها أغنياء. بنو القصور العالية، وشيدوا المدن الكبيرة، والقلاع العظيمة. . . وأشهر قُصورها قصر غُمدان في مدينة صنعاء. ذكر الهمداني وياقوت أن بانيه اليشرح يحصب؛ فإذا صحَّ قولهما كان بناؤه في القرن الأول للميلاد، وظل باقياً إلى أيام عثمان بن عفان في أوائل القرن الأول للهجرة فيكون قد عاش نحو (620) سنة.
وقد شاهد الهمداني بقاياه تلاً عظيماً كالجبل؛ وقال في وصفه أنه كان عشرين سقفاً غرفاً بعضها فوق بعض أي عشرين طبقة مثل أبنية العالم المتمدن وأعلاها. بين كل سقفين عشرة أذرع
وفي الإكليل أن محمد بن خالد رفع حديثاً إلى وهب، فقال: لما بني غُمدان صاحب غمدان،
وبلغ غرفته العليا أطبق سقفها برخامة واحدة شفافة، وكان يستلقي على فراشه في الغرفة فيمر به الطائر فيعرف الغراب من الحدأة وهو تحت الرخام. وكانت حروفه أربعة تماثيل أُسود من نحاس مجوفة، رجلا الأسد في الدار، ورأسه وصدره خارجان من القصر، وما بين فمه إلى مؤخره حركات مدبرة. فإذا هبت الريح دخلت أجوافها، فيسمع زئير كزئير الأسد. وكان يُصبح فيها بالقناديل، فترى من رأس عجيب. وذلك حين تُسرج المصابيح في بُيوت الرخام إلى الصبح؛ فكان القصر يلمع من ظاهره كلمع البرق. فإذا أشرف الإنسان ليلاً قال أرى بصنعاء برقاً شديداً كثيراً، وهو لا يعلم أن ذلك من ضوء السُرج. وكانت غرفة الرأس العليا مجلس الملك أثنى عشر ذراعاً. وكان للغرفة أربعة أبواب قبالة الصبا والدبور والشمال والجنوب؛ وعند كل باب منها تمثال من نحاس إذا هبت الريح زأر؛ وفيها مقيل من الساج والآبنوس وكان فيها ستور لها أجراس إذا ضربت الريح تلك الستور تسمع الأصوات عن بُعد.
وكان غمدان على يبعة سقوف بين كل سقفين أربعون ذراعاً، وهذا لا يمكن؛ لأن أربعين ذراعاً بين كل سقفين كثير، والثبت ما ذكرناه أنه عشرون سقفاً كل سقف على عشر أذرع، فذلك مائتا ذراع، ولن يتعذَّر لقدرتهم على كل معجز من البناء. وأن أبا شرح كان ملك غمدان، وقد بناه على سبعة أسقف كل سقف منها على أربعين ذراعاً. وكانت له أربعة أوجه في ترابيعه: وجهٌ مبني بحجارة بيض، ووجه بحجارة سود، ووجه بحجارة خضر، ووجه بحجارة حُمر. وكان في أعلاه غُرفة لها لجٌّ وهي الكوى. كل موَّة منها بناء رخام في مقيل من الساج والآبنوس، وسقف الغرفة رخامة واحدة صفيحة. وقال آخر: كانت الغرفة تحت بيضة رخام من ثماني قطع مؤلفة؛ وذلك أحرى لأنهم كانوا يثقبون فيها السرُج فترى من رأس عجيب، ولا ترى فيها حُمرة النار مع الرُّخامة المبسوطة، ويؤيد ذلك قول علقمة:
مصابيح السليط يلحن فيه
…
إذا يمسي كتوماض البروق
ويقال: إن غمدان أول قصر بني باليمن، ووجد فيه حجر في بعض زواياه فيه مكتوب بالخط المسند:(بناه غمدان). وإنه البناء الذي ذكره الله عز وجل بقوله: (لا يزَالُ بنيانهمُ الذي بنوْا رِيبَةً في قُلوبهمْ). فلما نزلت هذه الآية أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مُسبك ليهدمه، فلما أراد هدمه لم يقدر عليه، حتى أحرقه بالنار، ولم يهدم إلاّ بعد
وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عند وفاته. لأنه لم يهدم إلا بعد أن عمل فروة بن مُسبك وقيس بن هُبَيْرة المكشوح في قتل الأسود بن كعب العنسي الذي ادعى النبوة بعد وفاة النبي صلة الله عليه وسلم، وله خبر طويل؛ وكان في القصر فقتل في السنة التي توفي فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وقيل هدم في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقيل له: إن كهان اليمن يزعمون أن الذي يهدمه يُقتل؛ فأمر بإعادة بنائه، فقيل له: لو أنفقت عليه خرج الأرض ما أعدته كما كان فتركه. . وقيل أيضاً وجد على خشبة لما خُرِّب وهُدم مكتوب برصاص مصبوب: (أسلم غمدان، هادمُكَ مقتول) فهدمه عثمان رضي الله عنه فقتل. وهناك وجه آخر قال فيه ابن الكلبي: كان على كلِّ ركن من أركان غمدان مكتوب (أسم غمدان، معاديك مقتول بسيف العدوان).
وقد اضطربت آراء المؤرخين في بانيه، وتشعبت أقاويلهم في ذلك، وذهبوا مذاهب شتى، نذكر ما استطعنا أن نعثر عليه من أقاويلهم.
1 -
سليمان بن داود عليهما السلام، وذلك أنه أمر الشياطين أن يبنوا لزوجته بلقيس أربعةُ قصور: غُمدان، وصِرْواح، وبينين، وسَلحين. وكلها باليمن. ومال إلى هذا القول كثير من المفسرين، ولعلَّ سليمان أقدم من نسب إليه بناء غمدان.
2 -
جاء في الروض الأنف: غمدان حصن كان لهوذة بن علي ملك اليمامة.
3 -
وجاء فيه أيضاً: ذكر ابن هشام أن غمدان أنشأه يعرب بن قحطان، وأكمله بعده وائل بن سبأ بن يعرب، وكان ملكاً مُنوَّجاً كأبيه وجدَّه وله ذكر في حديث سيف ابن ذي يزن.
4 -
سام بن نوح.
5 -
بيو راسب وقد بناه على اسم الزُّهرة. وهذا القول ضعيف فلم يورده إلا النويري في نهاية الأرب جـ1 ص370
6 -
ليشرح ابن الحرث (أو الحارث) بن صيفي. وقد رجح هذا القول جماعة من المؤرخين واعتمده صاحب القاموس.
7 -
سيف بن ذي يزن. وقد انفرد بهذا القول الزمخشري. وقد أخطأ فيه لأنه سبق بناؤه قبل وجوده بقرون عديدة.
وقد ذكر الهمداني أن الذي أسس غمدان وابتدأ بناءه واحتفر بئره التي هي اليوم سقاية
المسجد الجامع بصنعاء (سام بن نوح) اجتوى بعده السكنى في أرض الشمال، وأقبل طالعاً في الجنوب يرتاد أطيب البلاد. حتى صار إلى الإقليم الأول؛ فوجد اليمن أطيب مسكناً، وارتاد اليمن فوجد حقل صنعاء أطيب ماء بعد المدة الطويلة، فوضع مقرانه؛ وهو الخيط الذي يقدر به البنَّاء ويبني عليه بناءَه إذا مدَّه بموضع الأساس في ناحية فج غمدان، في غربي حقل صنعاء، فبنى الظِّبر، وهو اليوم معروف بصنعاء، فلما ارتفع بعث الله طائراً، واختطف المقرانة، وطار بها، فتبعه سام لينظر أين وقع، فأقام بها إلى جنوب النعيم من سفح نقم، فوضعها بها، فلما رهقه طار بها فطرحها على حرجة غُمدان، فلما قرَّت على حرث غُمدان علم سام أن قد أُمِر بالبناء هناك؛ فأسس غمدان، وأحتفر بئره، وتسمى كرامة وهي: سفاء إلى اليوم ولكنها أجاج.
(يتبع)
كاظم المظفر
على ضريح خليل مطران
للأستاذ راجي الراعي
مسح الخلود جبينه إعظاماً
…
فأفاق من بين العظام وقاما
وأزاح عنه ترابه وطلامه
…
وعلا يسفق بالجناح وحاما
يا من تخيرك البيان لسحره
…
لم يرض غيرك سيداً وإماما
كيف استطاع الموت أن يلقي على
…
عينيك من ليل التراب ظلاما
ماذا دهاك فلم يحول وجهه
…
سحر البيان فنال منك مراما
ما كان يعمى السحر عما تبتغي
…
أتراه أغواه الردى فتعامى
ألقى الحمام وقد مررت بداره
…
ما في يديه وصادق الأرحاما
لما أحس بمجد من أودى به
…
أخلى القبور من النيام وناما
هذا هو الجبار في أحلامه
…
تخذ المجرة في السماء مقاما
يستنزل الآيات يرسلها على
…
مر الدهور أشعة ومهاما
بخياله ضم العلاء وما حوى
…
وبفنه أفنى الفناء فداما
أَنَّى التفت رأيت من أمجاده
…
علماً يتيه ومارداً يتسامى
وكتيبة في الجو إثر كتيبة
…
تعلو وتبسط باسمه الأعلاما
سل عنه رب الشعر من أعلى له
…
بيت الصلاة وحطم الأصناما
جاءوه بالحجر الكريم المنتقي
…
فبنى القباب وشيد الأهراما
وأتته جنات النعيم بحورها
…
تشدو وفي أحضانه تترامى
خاض العباب ولم يبلل ثوبه
…
وغزا الفضاء ولم يسل حساما
كم من رماد غاب فيه ضرامه
…
فاستل من قلب الرماد ضراما
ما كان يحمل غير سيف لهيبه
…
سيفاً يضيء محبة وسلاما
يمشي به في موكب من روحه
…
ويحيل حقد الحاقدين هياما
لا يستريح وفي المدينة بائس
…
يشكو وجرحى للردى ويتامى
يبكي الوفاء به أعز رفاقه
…
حفظ العهود وحقق الأقساما
لو كان يختار الوفاء رسومه
…
ما اختار غير (خليله) رساما
صبت له الدنيا الكؤوس فلم يجد
…
في ما سقته من الكؤوس مداما
لم يكشف السر الدفين وعاش في
…
أيامه يستنطق الأياما
ويجاذب الغيب العصى لثامه
…
والغيب يأبى أن يزيح لثاما
واليوم يسقى ما اشتهاه خياله
…
في الجنة الخضراء حيث أقاما
راجي الراعي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
تعقيب علي مقال في (الثقافة):
كتب الأستاذ أحمد أمين بك في العدد (560) من (الثقافة) مقالاً طريفاً تحت عنوان (نظرية طريفة). وخلاصة المقال، أو خلاصةُ النظرية: أن هناك كتاباً للكاتب الصيني (لن يوتانج) يرى في أحد فصوله: (إن لكل أمة مزاجاً، وهذا المزاج يتكون من عناصر أربعة: عنصر الواقع، أو بعبارة أخرى: النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعنصر الحلم أو الخيال أو المثالية، وعنصر المرح أو روح الفكاهة، وعنصر الحساسية أو قوة الشعور بالأحداث. . . واصطلح الكاتب الصيني على أن يجعل كل عنصر من هذه العناصر الأربعة إذا بلغ درجة (4) فشاذ، أعلى مما يلزم، وإذا بلغ (3) فمرتفع، وإذا بلغ (2) فمعتدل، وإذا بلغ (1) فمنخفض. . . وكل أمة لديها هذه العناصر الأربعة ولكن بأقدار مختلفة، وهي تسير في الحياة وتتصرف في الأحداث وفق امتزاج هذه العناصر ومقاديرها. وعلل بعض ما يبدو في الأمم من مظاهر بهذا المزاج؛ فالفرنسيون مثلا يميلون إلى النظريات المجردة وسعة الخيال، كما يتجلى ذلك في أدبهم وفنهم وكثرة حركاتهم السياسية، وذلك ناشئ عن علو درجتهم في المثالية، والصينيون أعرق الناس في الواقعية، والألمان أحوج الناس إلى روح الفكاهة، حتى لقد كدت أعطيهم صفراً. وهذا ما أتعبهم في السياسة في الماضي والحاضر، ولو منحوا قدراً كافياً منها لتغير تاريخهم وتغير وجه الحرب. . . ثم ذكر أن المثل الأعلى لأمة أن يكون قانونها: واقعية 3 مثالية 2 فكاهة 3 حساسية 2، وأقرب الأمم إلى هذا المثل الإنجليزي).
هذا هو رأي (لن يونانج) الذي نقله الأستاذ أحمد أمين بك دون تعقيب أو مناقشة. . . أما نحن فنقول عن تفسير الكاتب الصيني لإخفاق الألمان في ميدان الحرب والسياسة بأنه من أثر النقص في عنصر المرح والفكاهة، نقول عنه إنه تفسير مضطرب يقوم على أسس تفكيرية منحرفة؛ فلو اهتدى (لن يوتانج) بمنطق الحوادث ومنطق التاريخ لوضع النقص في عنصر الواقعية مكان النقص في عنصر الفكاهة. . . ذلك لأن الألمان قد دأبوا على ألا ينظروا إلى الوجود كما هو موجود، ولو أنهم كانوا واقعيين لما أثاروا حقد العالم في ميدان
السياسة بتلك النزعة العنصرية التي تنشد الغلبة والتفوق في مجال الفخر والمباهاة، ولو أنهم كانوا واقعيين لما تحدوا العالم كله في ميدان الحرب بتلك النزعة البروسية التي تتمثل أمجاد الماضي البعيد في مجال التطبيق على الحاضر المشهود!. . . ومن العجيب أن (لن يوتانج) قد منح الألمان ثلاث درجات لأنهم واقعيون، وهي نفس الدرجات التي وضعها في مواجهة الواقعية البريطانية!
بعد هذا ينتقل الأستاذ أحمد أمين بك إلى تطبيق هذه العناصر على المصريين منتهجاً نفس الخطة التي سار عليها (لن يوتانج) فيقول: (في نظري أن المصريين يغالون في الواقعية ويقصرون في المثالية، ومن أجل هذا يغلب عليهم احتذاء التقاليد والأوضاع القديمة، حتى التي كانت في عهد قدماء المصريين التزاماً للواقع).
يؤسفني أن أعقب على هذا الرأي فأقول: إن نظرة الأستاذ الفاضل إلى الواقعية تتنافى مع الأساس الذي تعارف عليه الناس ومع الأساس الذي وضعه (لن يوتانج) حين فسر الواقعية بأنها النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعلى ضوء هذا التفسير المقبول لا يستقيم التطبيق الذي أورده الأستاذ أحمد أمين بك فيما يختص بالمصريين، فلو مال المصريون إلى الأخذ بأسباب الواقعية لنبذوا تلك النزعة الخيالية التي تدفع بهم إلى التمسح بأنقاض ماض يفصل بينهم وبينه آلاف السنين! ترى هل يمكننا أن نفسر احتذاء المصريين للتقاليد والأوضاع القديمة بأنه التزام للواقع كما يقول الأستاذ أحمد أمين بك؟ أغلب الظن أننا لا نستطيع أن نفسره إلا بأنه التزام للخيال.
ولقد أعجبت بمنطق الأستاذ أحمد أمين بك حين تناول عنصر المثالية في حياة المصريين بقوله: (. . وحتى الأدب والفنون عندهم تنقصها الأحلام والخيالات، ولذلك ضعفت القصة في أدبهم وكثرت الحكم، لأن الحكم واقعية والقصة خيالية.
والأدب المصري يسير سيراً تقليدياً، إما تقليداً للأدب العربي القديم أو للغربي الحديث، وقل فيه الابتكار، لأن الابتكار خلق والخلق يحتاج إلى تصميم والتصميم يحتاج إلى خيال أو مثالية. ولعل هذا هو شأن الشرق بأجمعه لا المصريين وحدهم، فإن صح هذا وجب على المصلحين أن يؤسسوا إصلاحهم وبرامجهم على الإقلال مما يسبب الواقعية والإكثار مما ينمي المثالية). ويلاحظ هنا أن الأستاذ أحمد أمين بك يدعو إلى الإقلال من الواقعية
لأنه كما قلنا ينظر إليها نظرة خاصة تجعل منها أداة تأخر ورجعية، ولو استخدم الأستاذ منطق (لن يوتانج) لأدرك أن الواقعية هي سر هذا التوفيق الذي لازم الأمة البريطانية في تاريخها الطويل، ومن هنا استقام منطق الكاتب الصيني حين منح الإنجليز ثلاث درجات في هذا المجال
أما في مجال الفكاهة والحساسية، فقد بلغ الأستاذ أحمد أمين فيه التوفيق، وقد وقع في شيء من التناقض حين قال:(أما روح الفكاهة فهي نامية عند المصريين، وقد خففت عنهم كثيراً من متاعبهم، بل وقد تكون حفظت عليهم وجودهم، فما تحملوه من ضغط آلاف السنين كان يكفي للقضاء عليهم ولولا روح الفكاهة، فأنا أقدر روحهم الفكاهية بثلاث درجات على الأقل. . . ثم إن المصريين كالفرنسيين ينالون ثلاث درجات في الحساسية، فهم سريعو الغضب سريعو الانفعال في شدة، وقد يلاحظ عليهم أنهم ينفعلون لدواعي الحزن أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور)!. . . إن التوفيق هنا مرجعه إلى تقرير الواقع في كثير من الدقة بالنسبة إلى الفكاهة في حياة المصريين، ولكن التناقض يظهر عندما يقال إن المصريين ينفعلون لدواعي الحزن أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور. كيف نوفق بين قول يسجل الغلبة لعنصر الفكاهة والمرح وقول يسجل هذه الغلبة نفسها لروح الحزن والاكتئاب؟
ويمضي (لن يوتانج) في تطبيق نظريته على الكتاب والشعراء، ثم ينتهي آخر الأمر إلى تقدير بعض الشعراء بهذه المقاييس:
شكسبير: واقعية 4 مثالية 4 فكاهة 3 حساسية 4
هايني: واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 4 حساسية 3
شلي: واقعية 1 مثالية 4 فكاهة 1 حساسية 3
ويسلك الأستاذ أحمد أمين بك طريق الكاتب الصيني ليصل إلى حقيقة تلك العناصر عند المتنبي وابن الرومي فيمنحهما هذه الدرجات:
المتنبي: واقعية 3 مثالية 3 فكاهة 2 حساسية 3
ابن الرومي: واقعية 2 مثالية 3 فكاهة 3 حساسية 4
ونقف قليلا لنعترض على تقدير (لن يوتانج) لعنصر الحساسية عند شلي وهايني وشكسبير. . . إن الميزان قد اهتز في يد الكاتب الصيني اهتزازاً شوه معالم الذوق الأدبي
السليم وجنى على حقيقة القيم الفنية عند الشعراء الثلاثة؛ ذلك لأن رفاهة الحس أو قوة الشعور عند الشاعرين الإنجليزيين لا يمكن أن ترقى إلى مثيلتها عند الشاعر الألماني. . . إن استكناه دخائل النفس واستشفاف حقائق الحياة شيء وتلقي الموجات الشعورية من أعماق هذه وتلك وصبها في انعكاسات تعبيرية شيء آخر، وهذا هو الخلط الذي يبدو لي أن الكاتب الصيني قد وقع فيه حين نظر إلى عنصر الحساسية عند الشعراء الثلاثة، وهو نفس الشيء الذي وقع فيه الأستاذ أحمد أمين بك حين نظر إلى ملكة السخرية في شعر ابن الرومي على أنها عنصر الفكاهة الذي يقصد إليه (لن يوتانج) إن هناك فارقاً كبيراً بين الفكاهة والسخرية من ناحية الدلالة اللفظية، فقد يكون الكاتب أو الشاعر على نصيب وافر من روح المرح في إنتاجه الأدبي ثم لا يستطيع أن يبلغ هذا المدى في مجال السخرية؛ السخرية التي تهدف أول ما تهدف إلى تناول مظاهر الحياة والأحياء بالتهكم اللاذع والتعريض المقذع والتجريح المرير، وتستطيع أن تلمس هذا الفارق الكبير بين طابع الفكاهة وطابع السخرية في إنتاج كاتبين كبيرين هما مارك توين وبرناردشو، ذاك في المجال الأول وهذا في المجال الأخير.
ثم إننا لو منحنا ابن الرومي على عنصر الفكاهة ثلاث درجات لأضفناه إلى قائمة الظرفاء من أمثال أبي دلامة وأبي العيناء، وهذا هو الأمر الذي لا يستطيع التاريخ الأدبي أن يهضمه حين يضع في بوتقة النقد معادن الشعراء. . . وإذا وافقنا على أنه يستحق على عنصر الحساسية تلك الدرجات الأربع، فإننا لا نستطيع أن نوافق على أن المتنبي مثلا يستحق على هذا العنصر تلك الدرجات الثلاث.
حرية الرأي العلمي بين طلاب الجامعة:
بالأمس شكا إلي طالب في كلية الآداب ظلماً وقع عليه، ظلماً يتمثل في مظهر من المظاهر التي لا تتفق وطبيعة التعليم الجامعي كما يفهمه الجامعيون، لقد فقد هذا الطالب الممتاز درجة امتيازه التي حصل عليها بجهده وعلمه لأنه أراد أن يكون جامعياً، أي أن يكون حر الرأي مستقل النظرة في بحث المسائل العلمية التي تعرض عليه في صفحات كتاب وعلى لسان أستاذ. . . وتتلخص قضية الطالب المظلوم في أنه عارض آراء أساتذته في ورقة الامتحان لأنه يثق بعقله إلى الحد الذي يحول بينه وبين الإيمان بكل ما يقال، وذنبه أنه لا
يريد أن يكون ذلك (الإنسان الآلي) الذي يردد بعض الحروف والأرقام دون وعي أو إرادة، ومن هنا ضاق الأساتذة المصححون بتلك العقلية التي تنشد حرية الفكر واستقلال الرأي فحرم صاحبها درجة الامتياز!
هذه هي القضية، وهي ليست قضية هذا الطالب وحده فيما أظن ولكنها قضية الألوف من طلاب الجامعة، أولئك الذين يراد لهم أن يخرجوا إلى الحياة مزودين بأسلحة فكرية مفلولة لا تقرها النظم الجامعية في العالم. . . إن المفروض في التعليم الجامعي أنه مرحلة ينتقل فيها طالب المدارس الثانوية إلى آفاق علمية جديدة، جديدة في مناهج البحث وطرائق التفكير وحرية التناول العقلي لشتى المشكلات العلمية والأدبية والفنية. فإذا ألغينا كل هذه القيم ليكون الطلاب أبواقا للأساتذة فقد قضينا على المثل العليا الفكرية التي ينشدها كل نظام جامعي قويم!
نحن لا ننكر أن بين جدار الجامعة أساتذة ممتازين، ولا ننكر أيضاً أن بين تلك الجدران أساتذة يعلم الله اين يجب أن يكون مكانهم. . . ولقد قلنا من قبل إن العبرة ليست بما يحمل المرء في يده من شهادات ولكن بما يحمل في رأسه من ثقافات! وإذن فمن الظلم أن يحال بين الطالب المجتهد وبين حرية الرأي العلمي إذا أراد أن يجهر به، وبخاصة إذا كان يتلقى معلوماته من هذا الفريق الأخير. لقد كنا ننتظر أن يظفر مثل هذا الطالب المجتهد بتقدير أساتذته بدلاً من أن يبوء منهم بمثل هذا الخذلان، ولكن أساتذته غفر الله لهم قد نظروا إلى طبيعة عقليته الجامعية الأصيلة على أنها ضرب من الخروج على كرامة علمهم الغزير. . . وفي سبيل هذه الكرامة المزعومة تلغى الكرامة العقلية في حياة جيل جامعي ومن بعده أجيال.
لتكن الجامعة جامعة وإلا فلنعلن أننا ما زلنا نأخذ بنظام الكتاتيب. . . إن وجه الشبه بين طالب الجامعة اليوم وطالب الكتاب بالأمس أن طالب الكتاب كان يئن تحت عصا الأستاذ إذا نسي منطق الترديد أو انحرف لسانه عن طريقة الببغاوات، وأن طالب الجامعة يقف اليوم نفس الموقف وإن كان بلوغه مبلغ الرجال قد صرف عنه العصا وأحل محلها قلم الأستاذ في أوراق الامتحان.
بقية الرسائل في حقيبة البريد:
في العدد (846) من الرسالة كنت قد أشرت إلى أنني سأعرض بالتعقيب لبقية الرسائل التي تلقيتها من القراء في العدد الذي يليه، ولكن ضيق النطاق في العدد الماضي قد حال بيني وبين هذه الأمنية، وكذلك في هذا العدد. . . فإلى العدد القادم إن شاء الله حيث أعقب أيضاً على بعض الرسائل الجديدة.
أنور المعداوي
الأدب والفنّ في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تأبين الصحفيين للمازني:
هنا في هذه القاعة، قاعة فاروق الأول بنادي نقابة الصحفيين، كان المازني يؤبن الريحاني من نحو ثلاثة أشهر، وها قد أصبح هو اليوم يؤبن. . . هذا هو ما جال بخاطري وأنا آخذ مكان في القاعة قبيل ابتداء حفلة التأبين التي أقامتها نقابة الصحفيين اليوم الثلاثاء الماضي لتأبين المغفور له إبراهيم عبد القادر المازني. وقد كانت كلمته رحمه الله خير ما قيل في تأبين الريحاني، فقد أبرز فيها فن الريحاني ممثلاً في صوته، وحلل ذلك تحليلاً دقيقاً كما ذكرت ذلك في حينه، واليوم في هذا الحفل الذي يقام لتأبين المازني لم نظفر بكلمة دراسية وافية دقيقة لأدب المازني.
تحدث الأستاذ فكري أباظة بك نقيب الصحفيين والأستاذ محمد عبد القادر حمزة، عن الفقيد من حيث مكانته في الصحافة وزمالته في النقابة، وأثنيا على شمائله، ومما قاله الثاني أنه وقف إلى جانبه في تحرير (البلاغ) في وقت لم يكن من الميسور فيه أن تستوفي الجريدة حاجتها من المحررين والمترجمين والمخبرين، لأزمة وقعت فيها (البلاغ) إذ ذاك. فجعل الأستاذ المازني من نفسه محرراً ومترجماً ومخبراً بالجريدة، ودلل الأستاذ بذلك على تواضع المازني ومرونته قائلاً: إن ذلك لم يزده في نظرنا إلا رفعة قدر، وإنه على هذا التواضع كان من أحرص الناس على كرامته. وقد نبه في آخر كلمته على ما يجب على النقابة والحكومة نحو أسرة الفقيد التي ينبغي أن تشعر بنوع من عرفان الجميل.
وارتجل الدكتور محمد مندور كلمة عن مكانة الفقيد الأدبية ألمع فيها إلى مقال كتبه بجريدة البلاغ في (سخرية المازني) وقال إن هذه السخرية لم تكن حلوى تزجى إلى الجماهير إنما كانت عصارة نفسه، كانت سخرية مرة يسوقها في أسلوب النكتة، وكانت مرارتها مما لقيه في حياته، فالكاتب في الشرق يجنى من غرس القمح عشباً. وكان مع استهانته بكل شيء حتى نفسه، يحرص على القيم الأخلاقية والاجتماعية، وكان حين يكتب يعرف ما يقول وهو مالك زمام نفسه.
وألقى الأستاذ محمد الحناوي مرئية جيدة، ولم يكن في حاجة إلى شاعر ينيبه كما قال:
أيها الراثون، هل من
…
شاعر عني أنيبه
إنني مما دهاني
…
شارد اللب سليبه
ثم أجهش الشاعر وهو يقول:
دونكم دمعي فقد يغ
…
ني عن القول صبيبه
ليس غير الدمع ما يم
…
لك من مات حبيبه
وألقى الأستاذ صالح جودت قصيدة مؤثرة، تمتاز بمعانيها الرقيقة الهادئة وأدائها الطبيعي الصادق.
وفي ختام الحقل وقف الأستاذ أحمد المازني شقيق الفقيد، فألقى كلمة شكر فيها الحاضرين والنقابة، وقال إنه يزجي هذا الشكر على ما جرت به العادة وإن كان فقيدنا هو فقيدكم، وأنتم كما نحن أسرته.
ولعل من المفارقات أنه في الوقت الذي يشيد فيه الخطباء والشعراء بفضيلة التواضع في المازني، نرى أكثرهم يعمدون إلى شيء من إبراز الذات. فقد قال الأستاذ صالح جودت في قصيدته إنه كان يقصد المازني ويسمعه شعره فيثني عليه ويشيد بشاعريته، وقد يرخص للشاعر في الفجر، ولكن ما أظن ذلك لائقاً في الرثاء. وقال الدكتور مندور: إن أحد الوزراء أرسل إليه كتاباً أثنى فيه على مقاله عن المازني، أو لم يكفه أن نشر هذا الكتاب في البلاغ؟ وقال الأستاذ النقيب إنه عرض النقابة على المازني فأبى لتواضعه وقال إن غيره أولى منه. . . وقال الأستاذ محمد عبد القادر حمزة إن المازني كان زميلا له. فلماذا يكبر نفسه هكذا؟ إنما كان المازني زميلا للمغفور له عبد القادر حمزة باشا.
ولم يعجبني ما أشار إليه الأستاذ صالح جودت في قصيدته، والأستاذ محمد عبد القادر حمزة في كلمته، من أن المازني تقام له حفلة تأبين وتلقى في رثائه خطبة وتنشد قصيدته، ثم ينسى كما نسى غيره - لم يعجبني هذا وإن كانا يقصدان إلى ما جرت عليه هذه البلاد من إهمال ذكرى أعلامها الراحلين، فالمازني لا ينسى، لأنه إن كان قد انتقل جسمه إلى عالم الفناء، فقد انتقل اسمه إلى الخلود في تاريخ الأدب، ولن يستطيع هذا التاريخ أن ينسى واحداً من هؤلاء الأساتذة الذين نقلوا الأدب في مصر وفي سائر العالم العربي من حال إلى حال.
غزل البنات:
هو الفلم الجديد الذي عرض هذا الأسبوع بسينما أستوديو مصر، فرأى فيه الناس نجيب الريحاني حياً بعد موته، بعثه على الشاشة فنه الخالد، فعاد يضحك الناس ويمتعهم بعد أن خالوا البكاء عليه آخر العهد به.
إن الريحاني هو عصب هذا الفلم (غزل البنات) ولولاه ما كان شيئاً، فقد اشترك في التمثيل به ليلى مراد ويوسف وهبي، وأنور وجدي وسليمان نجيب وغني عبد الوهاب ولكن هؤلاء قامُوا بأدوار قصيرة، ما عدا ليلى مراد فهي بطلة الفلم أمام الريحاني. وقد أقحم أكثر أولئك الأعلام في الفلم لاستغلال أسمائهم، كما سنرى من عرض موضوع الرواية. ويخيل إلي أن انسجام الريحاني في هذا الفلم من أسبابه أنه وضع له الحوار، فضمنه فكاهاته الساخرة المعروفة، وبعث به الحياة في جسد القصة. ويقلل بعض النقاد من قيمة الحوار في الأفلام السينمائية، ذاهبين إلى أنها مناظر وصور أكثر منها كلاماً وحواراً، وأنا لا أوافقهم على ذلك، فإن الصور والحركة إذا كانت من أدوات التعبير فالحوار هو الأصل في ذلك، وهو ذو أهمية في السينما كما هو مهم في المسرح.
ليلى (ليلى مراد) بنت مراد باشا (سليمان نجيب) تلهو بالغناء والرقص ورُكوب الخيل، وترسب بالامتحان في اللغة العربية، فيحضرون لها معلماً بائساً طرده ناظر المدرسة الأهلية التي كان يدرس بها، وهو الأستاذ حمام (الريحاني) فيستقبله الباشا وابنته استقبالا مهيناً في أول الأمر لبعض الأسباب الناشئة عن الغلط وسوء التفاهم ثم يسترضيانه ويكرمانه، وما يكاد يبدأ في التدريس لليلى حتى تبدأ هي في مغازلته وإبداء حبها له وإحاطته بأسباب قوية من الإغراء، فيستجيب لها في تردد وتحفظ وإن كان قد أحبها فعلاً ويرى نفسه أخيراً قد وقع في حرج من هذه العلاقة، فيعتزم مبارحة الدار، وكان الباشا قد أمر بإقامته في القصر، فتفاجئه ليلى وهو يهم بالرحيل، وتمنعه وترغمه على مصاحبتها في السيارة وقد أوهمته أنهما يفرَّان معاً، وتقف السيارة أمام مرقص تلقى فيه ليلى شاباً تحبه (محمود المليجي) وهو يريد الاحتيال عليها، فيثور الأستاذ حمام محتجاً على هذا اللقاء، فيطرد من الرقص. ويرى ضابط طيران (أنور وجدي وهو واضع قصة الفلم ومخرجه) داخلاً، فيكلمه ويعرض عليه أن يدعي أنه ابن عم ليلى لينقذها من الشاب المحتال،
فيدخلان معاً، وتحدث معركة يتدخل فيها الضابط فيضرب الشاب ويستنقذ ليلى ويركبها السيارة إلى جانبه ويغازلها، فيحتج الأستاذ حمام الجالس خلفهما ويعمل على وقف السيارة وينزل بليلى هرباً من الضابط الذي أحب ليلى وأحبته. . . ويريد الأستاذ حمام أن يضلل الضابط، فيدعى أن المنزل المجاور هو منزل الباشا والد ليلى، ويطرق الباب ويتبين أنه منزل الأستاذ يوسف وهبي بك (يوسف وهبي) فيستقبلهما الممثل الكبير ولا يلح في معرفة السبب الذي من أجله طرقا بيته ليلاً، بل يغازل الفتاة غير عابئ باحتجاج الأستاذ حمام ويقول لهما إن المطرب الكبير محمد عبد الوهاب موجود في منزله وإنه سيغني أغنية من قصة يضعها (يوسف وهبي) موضوعها تضحية المحب بحبه لإسعاد حبيبه. ثم يقصدون إلى حيث يغني عبد الوهاب، فيسمعون غناءه الذي يجري في موضوع التضحية بالحب في سبيل إسعاد الحبيب، فيتأثر الأستاذ حمام إذ يجد نفسه ذلك المحب، فهو رجل كبير لا يُلائم ليلى التي أحبت ضابط الطيران الشاب، ثم يقبل هذا الضابط، فنراه يأخذ بيد ليلى وهي تهش له مقبلة عليه، والأستاذ حمام خلفهما راضياً بالموقف على سبيل التضحية، ومنظره الحزين هو النهاية.
بدأ الفلم بمناظر ممتعة وظريفة، تخللها نقد اجتماعي فكاهي، فهذا الأستاذ حمام يقف في (الفصل) بين تلميذاته يطالعن موضوعاً عن الأسد، فتسأله تلميذة: هل يتكلم الأسد؟ فيقول لها: وزارة المعارف تريده يتكلم! وهذا هو يدخل منزل الباشا ويحدث مربي كلب الباشا ومعلمه فيعلم أنه يتقاضى ثلاثين جنيهاً، فيقول: إنه لو كان يعلم الكلاب من زمان لأصبح من الأغنياء. ثم تجري الحوادث بعد ذلك في نطاق خاص بين الأستاذ حمام وبين تلميذته ليلى التي صارت حبيبته. وعلى أي أساس قام هذا الحب رغم الفوارق الكبيرة بينهما التي أظهرُها تفاوت السن؟ تقول له إنها استظرفته وهي في نفس الوقت تحادث الشاب الذي تحبه بالتليفون، فتنتقل من مغازلة هذا إلى ذاك، وهي فتاة لاهية عابثة، تذهب إلى المراقص وتجالس الشبان هناك وتشرب معهم وتراقصهم، فليس مثلها بالذي يحب الأستاذ حمام، ولو لم تكن كذلك لأمكن أن نفهم أنها فتاة عاقلة تلمس فيه صفات إنسانية وتقدر شخصيته.
وظاهر أن المؤلف يرمي إلى فكرة التضحية بالحب من أجل سعادة الحبيب، وهي التي قال
يوسف وهبي إنه يعالجها في القصص التي يؤلفها! والتي تضمنتها أغنية عبد الوهاب. ولكن هل تنطبق هذه الفكرة على موقف بطلي الفلم؟ إن فكرة التضحية يمكن استساغتها إذا كان الحب من طرف واحد، والطرف الآخر لا يجد هذا الحب، بل يحب شخصاً آخر. ولكنا هنا إزاء اثنين يتبادلان الحب، فانحراف أحدهما عن صاحبه بعد طول التهافت عليه، بعد خيانة لا يستحق من أجلها التضحية الممزوجة بالرضى والغبطة لسعادته. . .
والفلم، رغم فخامة مناظره وما حشد فية من ألوان المتعة، مملوء بالمآخذ، فقد ظهر الباشا أول ما ظهر على فرع شجرة. . . لأنه يهوى جمع الأزهار، وليس في الشجرة أزهار! ويظهر أنه قصد بهذا التمهيد لمقابلته الأستاذ حمام وهو يحمل سلتين، فلا يعرف أنه الباشا، فيحدث سوء التفاهم المضحك. . . وليلى فتاة كبيرة ولم يقولوا في أي مرحلة هي من مراحل التعليم، ولكن من الدروس التي تتلقاها نفهم أنها لا تزال في السنة الثالثة الابتدائية!
وحدث أن خرج الأستاذ حمام من غرفته إلى الحديقة ليستمع إلى غناء ليلى، فينبحه الكلب، فيتسلق الجدار إلى غرفتها هرباً من الكلب، ويضطر في الغرفة إلى تمثيل الكلب بالنباح مثله وهو مختف خلف قطعة من الأثاث ليدفع شك المربية في وجود أحد، فلم يكن تسلقه اضطرارياً لأنه كان يستطيع أن ينجو من الكلب الذي يعرفه لأنه مقيم بالقصر. وعندما تدخل ضابط الطيران في المرقص لإنقاذ ليلى بدعوى أنه ابن عمها وأنكرته هي، صفعها وجرها من يدها إلى الخارج، فركب بها السيارة، ولم تنزل حتى كانت قد أحبته، وكنا نسمع عن الحب من أول نظرة، فهل هذا الحب من أول صفعة. . .؟ ولا أدري كيف دخل الضابط منزل يوسف وهبي دون أن يعلم به أحد. والفتيات اللاتي يرافقن ليلى في ركوب الخيل، كن يركبن الأفراس بطريقة مضحكة، وكان يجب تدريسهن واختيارهن بحيث يتحقق المراد من المنظر وهو المظهر الجمالي.
أما يوسف وهبي فقد أقحم في الفلم إقحاماً أو وضعت له فيه قطعة يظهر فيها، ليقال إنه اشترك في التمثيل، وهو يظهر بأسمه الحقيقي، فيشبع ميله إلى العظمة الفنية التي تأبى إلا الظهور بمظهر المؤلف الذي يعالج الموضوعات في رواياته.
والأغنية التي غناها عبد الوهاب كانت فاترة وأحسن ما فيها عادي، وكذلك موسيقاها، على خلاف بقية ألحان الفلم وموسيقاه التي وضعها عبد الوهاب نفسه، فهذه جيدة. وقد أجادت
ليلى مراد في الغناء، كما أجادت في التمثيل، وإن كان أكثر الأغاني غير معبر عن مواقف الفلم، بل هو يصلح في أي موقف!
إن الجهد الأكبر المثمر في هذا الفلم، لنجيب الريحاني، فقد قام عبء التمثيل عليه من الأول إلى الآخر، ونهضت معه بهذا العبء ليلى مراد، ولعل الريحاني هنا في خير أدواره على الإطلاق.
عباس خضر
البَريدُ الأدَبيَ
سلف ولا خلف:
كتب الأستاذ الكبير الزيات في رثاء صديقه المازني يقول: (فإذا أضيف إلى ذلك أن المازني كان أحد الكتاب العشرة الذين يكتبون لغتهم عن علم، ويفهمون أدبها عن ثقة، ويعالجون يبانها عن طبع، وأن هؤلاء العشرة البررة متى خلت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، فلن يخلفهم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان من يحمل عنهم أمانة البيان، ويبلغ بعدهم رسالة الأدب، أدركنا فداحة الخطب الذي نزل بالأمة العربية يوم توفي هذا الكاتب العظيم).
وهذا كلام سداه ولحمته الحق والأنصاف، وأن كان يعبر عن خيبة الأمل في الجيل الناشئ، ويصور الواقع المؤلم في هذا الزمن الثائر الحائر العجلان.
مات شوقي، وتبعه حافظ، فقال الناس خسرت مصر شاعرين عظيمين، وليس فيها من يخلفهما، ولكن هذا القول عز على بعض الشعراء، وآلمهم. فراح المرحوم أحمد الكاشف يدفعه بقوة، ويصيح:
قالوا قضى اشعر بعد الشاعرين ولم
…
يعمر بمثلهما ميدانه الخالي
ولست وحدي له في مصر بعدهما
…
فمصر ملأى بأشباهي وأمثالي
ولكنها كانت صيحة مكابر في الواقع المر، ولم يجد هذا الشاعر في مصر كثيراً ولا قليلاً من أشباهه وأمثاله، فأين مكان الشاعرين في ميدان الشعر ظل خالياً، وازداد ميدان الشعر فراغاً يموت الجارم ومطران، ولم تجد مصر من يشغل هذا الفراغ الهائل من شعرائها، وكان أكثر هؤلاء الشعراء كالفقاقيع ساعة وجودهما هي ساعة عدمها كما يقول الرافعي رحمه الله.
ومات الرافعي فقال المعجبون بفنه وعلمه ونبوغه، قضى كاتب العربية، وخلا مكانه في دولة الأدب، وهيهات أن يكون منه عوض، ولكن بعض القائلين رأى في تلاميذه ما يبشر بخير، وما يقوي الأمل في أن يكون من الرافعي عوض، لكن الزمن أيقظهم من أحلامهم اللذيذة، وردهم إلى الحقيقة المرة، ولم تظفر دولة الأدب العربي بخلف للرافعي العظيم.
في الشباب شعراء كثيرون، وكتاب أكثر، ولكن أين النابغة العبقري الذي تقول أنه
سيخسف شوقي أو الرافعي؟!
نحن لا ننكر أن فيهم من يؤلف الكتب، ومن يكتب المقالة، ومن يقرض الشعر، ولكن بين هؤلاء وبين شيوخهم في الأدب مراحل بعيدة الأطراف، فليس فيهم من يكتب بأسلوب الزيات، ولا من يؤلف بعقلية أحمد أمين، ولا من يجود تجويد طه حسين.
على أن الداء الدوي في هؤلاء الشباب، الغرور، والادعاء، والتنفج، والتكذب، وهو - في رأيي - ما عاقهم، ويعوقهم، عن بلوغ الغاية، والوصول إلى الهدف، فإذا عاش المازني ومات، متواضعاً، فاخفض الجناح (وما كنت تراه يوماً ذاهباً بنفسه، ولا متبجحاً بعلمه، ولا مباهياً بعمله) كما يقول الزيات، فإن عندنا من الشباب من هو عند نفسه (شاعر الدنيا) ومن هو (نموذج وحده في الآداب العربية، وستطفر به الآداب إلى عليين) وحسبنا أن ننظر في ديوان هذا الشاعر الصغير الذي لم يسمع به إلا أصدقاؤه، فتراه يقول:
قد صغت شعراً لو بعثت بدره
…
للخلد لاستبقت إليه الحور
كم عز آبده على طلابه
…
وكم ابتغاه متوّج وأمير
لم تُنْشِ أحرفه اللغاتُ وإنما
…
صنع الجمال حروفه والنور
ولا نعدم في الكتاب كثيرين من أمثال هؤلاء، فهذا الكاتب الصغير الذي لم تعرف الصحف اسمه إلا منذ شهور (أرسى قواعد النقد على أسس سليمة) وذاك الخامل المجهول (لا يتطاول النقد إلى آثاره) وهكذا غرور وإدعاء، ووقاحة، وتخلف.
وفي الشبان طائفة لا يكتبون، وإنما هم أصداء لبعض كتاب الغرب، يفكرون بتفكيرهم ويكتبون بأساليبهم، وينهجون منهجهم في كل شيء، فلا ترى لهم شخصية فيما يطالعونك به وإنما هم عالة على أولئك الكتاب، ينقلون عنهم، فيصرحون حيناً، ويدلسون في أحيان كثيرة، ويخدع الناشئون بهم، ويظنونهم من كبار النقاد، ومن عباقرة الفن، وكل ما لهم من فضل - إن كان - أنهم يمحزقون على الشادين في الأدب ويوهمونهم أنهم أساتذة الجيل، وأن الكتاب جميعاً كبيرهم وصغيرهم يعترفون بفضلهم ويخطبون ودهم، وفي الحق أنهم يفقدون صفة الحياء، فهم يرفعون أصواتهم عالية بأنهم خلقوا للفن وخُلق الفن لهم، فإذا ساء حظك وجلست معهم رأيت ما شئت من باب جهل قد فتحوه - كما يقول الجرجاني -
وإن تعجب فعجب أمر هؤلاء الشبان الذين قصرت خطاهم وطالت ألسنتهم، فهم لا يزالون
يدعون أن الطريق مسدود، وأن هؤلاء الشيوخ هم الذين سدوه عليهم، وما علموا - أرشدهم الله إلى الصواب - أن الجواد الأصيل يتخطى العقبات الكئاد، ليصل إلى الغاية، فإذا غلبته العوائق، ووقف دون غايته رأى الناس في وجهه وفي أَعضائه وفي شياته ما يدل على أنه أصيل، أصيل!
على الشبان أن يجاهدوا، وأن يصبروا على لأواء الجهاد، وعليهم ألا يتعجلوا الشهرة، وألا تكون أكبر همهم. ثم عليهم أن يسهروا الليالي الطوال يطالعون ويدرسون ويفهمون، وعسى أن يكون فيهم بعد ذلك من يؤدي الأمانة، ولو أيسر أداء، أما إذا ظلوا على حالهم التي تراهم عليها، يحاربهم الزمن، ويعجل فأننا نترحم على دولة الأدب بعد هؤلاء العشرة، أطال الله في أعمار من بقي منهم، وهدى الشباب إلى الجادة.
علي العماري
مسابقات مجمع فؤاد الأول للغة العربية لتشجيع الإنتاج الأدبي
سنة 1950 - 1951:
قرر مجمع فؤاد الأول للغة العربية توزيع جوائز لتشجيع الإنتاج الأدبي على النحو الآتي:
أولاً - تخصص مائتا جنيه لكل فرع من الفروع الآتية على أن يكون المتسابق من أدباء وادي النيل وحدهم.
(أ) قصة اجتماعية أو تاريخية، جيدة الموضوع والأسلوب باللغة العربية الفصحى، بحيث لا يقل عدد صفحاتها عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة منه عن 180 كلمة.
(ب) إنتاج شعري باللغة العربية الفصحى لا يقل عن 1000 بيت من الشعر في موضوعات متنوعة: في الاجتماع أو وصف الطبيعة أو تحليل العواطف أو نحو ذلك.
(جـ) بحث مستوفي مبتكر في موضوع لغوي أو أدبي يسير على المنهج العلمي الحديث وتظهر فيه شخصية الباحث، ولا يقل عدد صفحاته عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تنقص كلمات الصفحة فيه عن 18 كلمة.
ثانياً: تخصص لأدباء وادي النيل وغيره جائزة قدرها مائتا جنيه لمن يترجم لابن سينا
ترجمة وافية دقيقة تصور حياته ونواحيه الفلسفية والعلمية والأدبية في أسلوب رائق بحيث لا ينقص عدد الصفحات عن مائتي صفحة من القطع المتوسط الذي لا تقل كلمات الصفحة منه عن 180 كلمة.
وعلى الراغبين في الحصول على هذه الجوائز أن يرسلوا إلى المجمع أربعة نسخ مطبوعة أو مكتوبة على الآلة الكاتبة كتابة واضحة من الموضوع المقدم للحصول على الجائزة قبل أول أكتوبر سنة 1950.
وللمتبارين أن يذكروا أسمائهم أو يختاروا أسماء مستعارة، وعليهم أن يكتبوا عنوانهم واضحة وأن يوقعوا على كل نسخة يقدمونها.
ولا يجوز أن يدخل مسابقات المجمع الأدبية من سبق أن أجازه المجمع على إنتاج له فرع المسابقة المتقدم إليه، ولا أن يعاد تقديم أي إنتاج أدبي سبق أن قدم للمجمع أو لأية مباراة عامة في غير المجمع، أو لمناقشة عامة للحصول على لقب أو درجة علمية.
ويشترط في الموضوع المقدم لكل هذه المسابقات ألا يكون قد طبع قبل سنة 145، وسيحتفظ المجمع بنسخة من كل ما يقدم إليه من الإنتاج الفائز وغيره. وترسل الموضوعات بعنوان لجنة الأدب بمجمع فؤاد الأول للغة العربية شارع قصر العيني 110 القاهرة.
أين مكتبة الأقصر؟
استفهام إنكاري يجول بخاطري كلما استعرضت شؤون هذه المدينة العظيمة وبسطت يدي صفحاتها المشرقة وتأملت تاريخها الحافل بالمجد وذكرياتها المليئة بالفخار وإني لأعجب كثيراً كيف تبقى هذه المدينة بلا مكتبة عامة يرتادها محبو العلم ويلجأ إليها الباحثون سواء أكانوا سائحين أم أبناء المدينة وسكانها؟ وإذا كانت الحكومة تأخذ بكل الوسائل الممكنة لتجميل الأقصر وتحسين مناظرها فلا مندوحة إذا عن إنشاء مكتبة عامة بها لأن ذلك من ألزم وسائل تجميلها وهو عنوان على مبلغ حضارتها الحديثة وآية على سلامة شعور أهلها ومبلغ حسهم بالجمال الروحي ومدى تذوقهم لهذه المعاني السامية ولست أدري والله لمن أتوجه بالرجاء لتحقيق هذه الرغبة، وحسبي الرسالة وأثرها في الرأي العام.
(الأقصر)
علي إبراهيم القنديلي
رسالة النقد
نظرات في كتاب الأشربة
للأستاذ السيد أحمد صقر
- 7 -
46 -
ص76: (ومن عجيب شأنهم أيضاً شربهم منه الغليظ الكاظ، القبيح منظراً الرديء مخبراً، الذي نشوته سُدُد، وعاقبته داء).
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (السُّدُد: بضمتين العيون المفتوحة لا تبصر بصراً قوياً. وهي عين سادة، أو التي ابيضت ولا تبصر بها ولم تنقي بعد كما في القاموس).
والصواب: (الذي نشوته سدَر) والسدر كما في اللسان: هو ما يُصيب شارب الخمر من الدُّوار وتحيُّر البصر.
47 -
ص77: (وقال أعرابي:
صلى فأزعجني وصام فرابني
…
نح القلوص عن المصلى الصائم
وقال آخر:
شمر ثيابك واستعد لقابل
…
واحكك جبينك للقضاء بثوم
وامشي الدبيب إذا مشيت لحاجة
…
حتى تصيب وديعة ليتيم
ورواية البيت الأول في العقد (صلى فأزعجني وصام فراعني)
وقد رواه الجاحظ في البيان والتبيين 3111 كما هنا ولكنه
ذكر سبب قوله هو: (نظر أعرابي في سفره إلى شيخ قد
صحبه فرآه يُصلي فسكن إليه، فلما قال: أنا صائم ارتاب به
وأنشأ يقول: صلى. . . الخ).
ولم يسم ابن قتيبة قائل شمر ثيابك، وهو مساور الوراق كما
ذكر الجاحظ في البيان والتبيين 3115، ورواية البيت الأول
عنه (واستعد لقائل) ورواية الشطر الأول من البيت الثاني
هكذا: (وعليك بالفتوى فاجلس عنده)، وكذلك رواها أبو الفرج
في ترجمة مساور 17168. قال أبو الفرج:
(مساور بن سوار بن عبد الحميد من آل قيس بن عيلان ابن مُضر، ويقال: إنه مولى خُويلد من عدنان، كوفي قليل الشعر من أصحاب الحديث ورواته، وقد روى عن صدر من التابعين وروى عنه وجوه أصحاب الحديث. . .
وقال لابنه يُوصيه:
شمِّر ثيلبك واستعد لقائل
…
واحكك جبينك للعهود بثوم
إن العهود صفت لكلِّ مشمر
…
دبر الجبين مُصفر موسوم
أحسن وصاحب كل قار ناسك
…
حسن التعهد للصلاة صؤوم
من حزب حماد هناك ومسعر
…
وسماك العتكى وابن حكيم
وعليكَ بالغنوى فاجلس عنده
…
حتى تصيب وديعةً لتميم
تغنيك عن طلب البيوع نسيئة
…
وتكف عنك لسان كل غريم
وإذا دخلت على الربيع مسلماً
…
فاخصص شبابة منكَ بالتسليم
48 -
ص83 (وكان أيوب يلبس قلنسوة أفراب وقال: لأن ألبسها لعيون خير أحب إليّ من أن أدعها لعيون الناس).
وعلق الأستاذ على ذلك بقوله: (هكذا بدون نقط في المخطوطتين المصرية والبغدادية).
ولو علم الأستاذ من هو أيوب لاستطاع أن يهتدي إلى وجه
الصواب في هذه الكلمة. وهو أيوب السختياني، راجع ترجمته
في حلية الأولياء 33 - 14، روى أبو نعيم عن حماد بن زيد
قال: قدم أيوب من مكة فخرج إلى الجمعة وعليه كمة أفواف
فقيل له فيها فقال: قدمت ولم يكن عندي غيرها فلم أر بها بأساً
وكرهت أن أدعها لأعين الناس) وفي النهاية: أفواف جمع
فوف، وهو القطن. وعلى ذلك فصواب العبارة (. . . قلنسوة
أفواف وقال: لأن ألبسها لعيون الناس أحب إليّ من أَن أَدعها
لعيون الناس) راجع المعارف للمؤلف ص207
49 -
ص84 (قال حفص بن عتاب: كنت عند الأعمش وبين يديه نبيذ، فاستأذن عليه قوم من طلبة الحديث فسترته، فقال لي: لم سترته؟ فكرهت أن أقول لئلا يراه من يدخل، فقلت كرهت أن يقع فيه ذباب، فقال لي: هيهات إنه أمنع (من ذلك) جانباً).
والصواب: (قال حفص بن غياث) قال ابن قتيبة في كتاب
المعارف ص222 (حفص بن غياث طلق. هو من النخع من
مذحج، ويكنى أبا عمر، وولاه هارون الرشيد القضاء ببغداد
بالشرقية، ثم ولاه الكوفة فمات بها سنة أربع وتسعين ومائة. .
.) وترجمته في طبقات ابن سعد 6273 وتاريخ بغداد 8188
50 -
84 (وحضر ابن أبي الجواري بالشام، وكان معروفا
بالرقائق والزهد، مائدة صالح العباسي مع فقهاء البلد، فحدثني
من حضر المجلس وهو البحتري بن عبد الله أنه بعث إليه
بقدح من نبيذ فشربه ابن أبي الجواري. . .) وابن أبي
الجواري: هو أبو الحسين أحمد بن أبي الجواري من أهل
دمشق توفي سنة ثلاثين ومائتين كما في رسالة القشيري
ص17 وأما البحتري ابن عبد الله فلم أعرف من هو وقد
رجعت إلى العقد فألقيت فيه ص4343 (فحدثني البحتري عن
عبادة وكان ممن حضر المجلس) ويخيل إلى أن الاسم محرف
في الكتابين وأن صوابه (البحتري أبو عبادة) وقد كان
البحتري معاصراً لابن قتيبة، وكانت بينهما صلات ومراجعات
وقد جاء في عيون الأحبار 3161 (وقال بعض الشعراء
المحدثين، وقيل: إنه للبحتري، فبعثت إليه أسأل عنه، فأعلمني
أنه ليس له:
فلو كان للشكر شخص يبين
…
إذا ما تأمله الناظر
لبيَّنتهُ لك حتى تراه
…
فتعلم أني امرؤ شاكر
ولكنه ساكن في الضمير
…
يحركه الكلم السائر
وبمناسبة ذكر (الرقائق والزهد) و (العقد) هاهنا أذكر أنها قد
وردت في الطبعة الجديدة من العقد وشرحت بغير المراد
منها. قال ابن عبد ربه 5285 (ومن شعراء الفقهاء المبرزين
عبد الله بن المبارك صاحب الرقائق) وعلق عليها الناشرون
بقولهم (يريد الرقائق من نسيبه وانظر ما سيأتي من شعره)
فإذا نظرنا في ص290 وجدنا فيها ما يلي: (ومن قول عبد الله
بن المبارك، وكان فقيهاً ناسكاً شاعراً رقيق النسيب معجب
التشبيب حيث يقول:
زعموها سألت جارتها
…
وتعرَّت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
…
عمركن الله لمْ لا يقتصدْ
فتضاحكن وقد قلن لها
…
حسن في كل عين من تود
حسداً حملنه من شأنها
…
وقدكان في الحب الحسد)
ولم يعلق الناشرون على هذا بشيء وكان خليقاً بهم أن يفعلوا فإن هذه الأبيات ليست لابن المبارك وإنما هي لعمر بن أبي ربيعة من قصيدة مشهورة مطلعها:
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد
…
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرَّة واحدة
…
إنما العاجز من لا يستبد
ولقد قالت لجارات لها
…
وتعرَّت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
…
عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها
…
حسن في كل عين من تود
حسد حملنه من أجلها
…
وقديماً كان في الناس الحسد
وللقصيدة بقية تجدها في ديوانه ص146 وأما شرح الناشرين
للرقائق بأنها رقائق النسيب فإنه شرح بعيد عن الصواب،
والرقائق جمع رقيقة وأصلها الأحاديث التي ترقق القلب وقد
أفردها البخاري في صحيحه بكتاب سماه كتاب (الرقائق) قال
ابن حجر في فتح الباري 11180 (والرقائق: جمع رقيقة،
وسميت هذه الأحاديث بذلك لأن في كل منهما ما يحدث في
القلب رقة. . .) وقال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
10167 (ولابن المبارك كتاب اسمه الزهد والرقائق. قال نعيم
بن حماد كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقائق يصير كأنه
ثور منخور من البكاء) وقال أيضاً في ترجمة ابن أبي الدنيا
1089 (صاحب الزهد والرقائق) وقال في ترجمة ابن الخبازة
الشاعر 5425 (وله شعر كثير في الزهد والرقائق).
السيد أحمد صقر
الموالى في العصر الأموي
تأليف الشيخ محمد الطيب النجار
بقلم الأستاذ علي العماري
هذا كتاب ألفه الشيخ محمد الطيب النجار، وهو رسالة قدمها لينل درجة الأستاذية في التاريخ الإسلامي.
ونحن يسرنا أن ينشر هؤلاء المتخرجون في قسم الأستاذية بالأزهر الشريف، رسائلهم، ولكن نحب وننصح ألا ينشر منها إلا الصالح للنشر، وأنا أعرف أن في هذه الرسائل ما يعد في مقدمة المؤلفات العصرية، عمقاً في البحث، وسلامة في الاستنباط، ونصاعة في الأسلوب، ومع الأسف لم تظفر المكتبة العربية بشيء من هذه المؤلفات التي تشرف الأزهر والأزهريين، وإنما أتيح النشر لبعض رسائل ليست أقوى تلك الرسائل بل ولا من أقواها، وكنا نتمنى، ولكن كما يقول البارودي:
يرى بصري من لا أود لقاءه
…
وتسمع أذني ما تعاف من اللحن
وقد ترددت طويلا في نقد هذا الكتاب خوفاً من تقولات إخواننا وأساتذتنا من الأزهريين وسترا لما يبدو من بعض مؤلفينا من نقص في التفكير، وضعف في التأليف، ولكني - بعد التردد الطويل - رأيت من الواجب أن أنشر نقداً لهذا الكتاب، حتى يكون نبراساً لمن يريد أن ينشر مؤلفه، وحتى نبقى على سمعة الأزهر العلمية، وحتى لا يقدم من تحدثه نفسه، ويجد في جيبه المساعدة على النشر أن ينشر، بل يجب أن يتريث وأن يتريث طويلاً قبل أن يقدم، فإن الناس لهم عقول ناقدة، وعيون مبصرة.
وقد رأيت أن أبدأ بنقد شكلي أرفه به عن القراء، وإن كنت أعتقد أنه ضرورة، وأنه ربما كان فيه نفع كثير، وسأبدأ بنقد الكتاب من غلافه، فإذا انتهيت أخذت في نقد موضع الكتاب، وأرجو أن أهيئ ذهن القارئ بهذا النقد الهامشي إلى ما يأتي بعده من نقد جدي في صميم الموضوع، فلعل أعون شيء على الجد ما يصحبه من بعض الهزل.
في أعلى الغلاف كتب المؤلف هذه العبارة (صفحات من تاريخ الصراع بين العصبية والدين) ثم ذكر عنوان الكتاب، والذي أعرفه أن هذه الكتابات الجانبية إنما هي من (تقليعات) كتاب المقالة، ونظام الشعر من المحدثين، أما المؤلفون فإنهم يكتفون بذكر عنوان
الكتاب في وسط الغلاف، ويرون في هذا بلاغاً، على أن هذا التعبير لا ينطبق على حقيقة الكتاب، فليس موضوع المولى من موضوعات الصراع بين العصبية والدين، وإلا ففي أي نفوس كان هذا الصراع، أفي نفوس العرب؟ فما نعرف أن الذين قسوا على الموالى من الأمويين أو من غيرهم كانوا يجدون في أنفسهم صراعاً بين الدين والعصبية، وإنما كانوا يعتقدون أن العرب أفضل من الموالى ديناً ونسباً، وأن هؤلاء الموالى يحاولون القضاء على الإسلام، لو مد لهم الحبل، ووطئت لهم الأكناف، فمن الإسلام أن يضرب على أيديهم، وأن يحال بينهم وبين ما يبتغون، ونمد الشوط فنقول أن بعض العرب كانوا يقسون على الموالى صادرين عن عصبية عربية، وهؤلاء فيما نعتقد ونؤكد لم يكونوا يشعرون بسلطان الإسلام على نفوسهم حتى تكون هذه النفوس ميداناً للصراع بين العصبية والدين. أم كان هذا الصراع بين الموالى والعرب وهؤلاء متعصبون وأولئك متدينون؟ فقد أخطأ المؤلف التوفيق، فإن دفاع الموالى عن أنفسهم، وتحينهم الفرص، وتربصهم الدوائر بالعرب لم يصدر شيء من ذلك عن تدين في نفوسهم، بل كانوا يصرحون بأن أصولهم وأنسابهم وماضيهم لا تتضاءل أمام أصول العرب وأنسابهم وماضيهم، وإن كان للعرب ماضٍ يفخرون به، بل كانوا يرون أنهم أنقى جوهراً، وأعرق مجداً، والمؤلف نفسه يصرح بهذا المعنى في غير موضع من كتابه، فالصراع إذن إنما كان بين عصبية فارسية، وعصبية عربية، حتى الذين تذرعوا بالدين وحاربوا به الأمويين لم يكونوا يحاربون العصبية العربية، وإنما كانوا يحاربون الأمويين لأنهم اغتصبوا الخلافة من الهاشميين، وهم أحق بها، ومعروف أن المظهر الدين في محاربة الأمويين إنما كان يخفي وراءه عصبية فارسية قاسية، وحقداً أعجمياً عنيفاً. وعنوان الكتاب نفسه أضيق مدلولا، وأقصر ذيلا عن موضوع الكتاب، فالذي يرى العنوان يظن أن المؤلف قصر بحثه عن حال الموالى في عصر الدولة الأموية، ولكن الذي يجد في نفسه الرغبة، فيقرأ الكتاب يجد المؤلف تحدث عن الموالى منذ قيام الإسلام وأفاض في ذلك، فقد تحدث عنهم في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلى حديثاً مستفيضاً، بل تعدى ذلك إلى العصر الجاهلي، وإن كان اختصر في هذا البحث، وكان المؤلف - لو نُبِّه أو تنبه - أن يجعل عنوان الكتاب (الموالى في العصر الإسلامي الأول) أو ما أشبه هذا العنوان مما يكون شاملاً لكل موضوعات الكتاب، وإلا فأي مبرر لأن يقصر
العنوان على العصر الأموي في حين أن ما ذكره عن الموالى في عهد أبي بكر وعمر لا يقل استيعاباً عما ذكره عنهم في العصر الأموي؟.
ثم كتب المؤلف العنوان (بقلم محمد النجار الحائز لدرجة الأستاذية في التاريخ الإسلامي، وأستاذ التاريخ بالأزهر الشريف) ونحن نحب أن نقف معه قليلا عند (الحائز) وتسأله كيف عداها بآلام مع أن الفعل متعد بنفسه، فكان الأحسن أن يقول: الحائز درجة. . . الخ فإذا تسامحنا وقلنا إن اسم الفاعل فرع في العمل، وأنه لذلك ضعيف فلا بأس أن يأتي بآلام تقوى فعله وتشد أزره، فلا تتسامح مع المؤلف في تركه الأفصح في عنوان كتابه حتى لا يعطى للقارئ في بادئ الأمر فكرة غير جميلة عن إيثاره للضعيف أو غفلته عن قواعد اللغة. على أن يقيني أن المؤلف لم يدر بخلده أن ذلك جائز. وإنما انساق مع عوام المؤلفين.
(يتبع)
علي العماري
الكتب
العالم الذي نعيش فيه
تأليف جرترود هارتمان
تعريب الأستاذين عثمان نويه ومحمود حامد شوكت
بقلم الأستاذ ثروت أباظة
كتاب يعرض الجهود العبقرية التي بذلها أجدادنا الأولون حتى أهدوا إلينا هذا العالم الذي تمرح به جنباته اليوم، لا يقف في سبيلنا وعر أو موج أو ريح. ولا شك أن المترجمين قد أحسنا الاختيار حين وقفا إلى هذا الكتاب. وهما بعد ذلك قد ترجماه في لغة سهلة ميسورة عربية صريحة لا ضعف فيها ولا كلفة. وقد كانا بارعين في هاته الترجمة إلى درجة تحس معها أنهما إنما يؤلفان لا يترجمان. وإن في الكتاب مقياساً عادلاً لحبكة الترجمة فقد لاحظ الأستاذ عثمان نويه أحد المترجمين وكاتب المقدمة، لاحظ أن الكتاب الإنجليزي لم يلتفت إلى الحضارة الإسلامية وما طلعت به على العالم من تقدم. نعقد لها فصلاً لو لم يعترف الأستاذ عثمان في مقدمته أنه هو الذي أضافه، لاعتبره القارئ من أحسن فصول الكتاب جميعاً. فإن فيه إجمالاً تاريخياً كاملاً، وعرضا لما دعمته الحضارة الإسلامية من أسس في حضارة العالم. كل ذلك في صفحات قلائل، تطالعك فيها المعلومات في حشد هائل، يقفو بعضه بعضا وهي مع ذلك مبسوطة في يسر، تغريك بنفسها فتكاد لا تحس بما ينسرب إلى ذهنك من حقائق كانت جافة، جرى عليها قلم نويه، فكسب فيها الماء ينديها ويرسلها إلى ذهنك في لطف القصة الشائقة.
والكتاب كله يترقرق بهذه المائية في عرضه. فأنت مرتاح لما تقرأ دائماً، مقبل عليه لذة. وتمتاز مؤلفة الكتاب بخاصية عجيبة، تدرك بها أين يمل القارئ، فهي منتقلة به إلى الجديد، فتجدد عنده حب المتابعة. وهكذا تظل به واثبة من عصر إلى عصر، ومن تقدم إلى تقدم.
وإنك لتلمح في الكتاب ظلاً واسعاً لفنانة مخلصة، تتتبع نشأة الفن تتبعاً دقيقاً، فتراها تلقى ضوءاً باهراً على أثر الفن في حياة الأجداد، ثم الأبناء فالأحفاد. كما تبين المصادر الأولى
التي انبثق الفن من بينها. فكانت تركن حيناً إلى الحقائق التاريخية، فإن انتقدتها وفقدتها عمدت إلى خيالها، وتصورت الأسباب التي نشأ عنها كل فن من الفنون. ولكن يبدو أن الكاتبة ليس لها ولع كبير بالموسيقى، فقد اكتفت بأن ألمعت إليها في عجالة يسيرة. وقد صورت الكاتبة حياة الإنسان الأول، بل صورت الحياة الأولى كلها، وكيف كان العالم، ثم كيف تطولت فيه الجبال الشم، وكيف انفرجت الأرضون فيه عن البحار والمحيطات؛ ثم تنتقل بعد ذلك إلى الحيوانات وبدء خلقها، وكيف تشكلت كل منها لقوائم الحياة التي تعيش فيها، ثم كيف جاء الإنسان هذا وتسلح بعقله ليقابل الأسلحة التي سبقه بها الحيوان الذي تقدمه في الظهور، واستطاع أن يشكل نفسه بما يبقى عليه حياته. ولكن الكتابة تربك أن سلاح الإنسان كان أفتك وأشد قتلا، وأنه به استطاع أن يعيش، ويصل إلى ما هو عليه يتتبع الكتاب ما أحدثه هذا السلاح من تغير العالم، وتظل تتابعه في رشاقة وخفة، حتى تصل به إلى منتهاه، فترى الكاتبة وقد هالها ما فعل السلاح من أعمال مجيدة، ثم هي تقف إليه رانية إلى مستقبله في خشية؛ فتراها تحذره مغبة التقدم إذا كان إلى شرها وقاء. وترى الكاتبة تتساءل عما سيفعله الإنسان بعد أن هيأ لنفسه هذا الفراغ العريض، وبعد أن أرسل الآلات تأخذ مكانه في كل عمل يقوم به. تتساءل ترى أيرد الجيل الحاضر جميل الغابر. . . يرده بالخير والبركة على الأحفاد، أم تراه سيتقدم ليقذف كل عود يستوي إلى أتون من الظلم، فينصهر الشاب، وتنحطم الآمال، وتتواكب الظلمات من عقول آنسة لاهم لها إلا الخراب والتدمير. تخاف الكاتبة، فتناشد قومها - والعالم كله قومها - أن يمثلوا فراغهم بالفن، فهو سبيلهم إلى التحرر من الحيوانية، وهو سبيلهم إلى التحرر من الآلية، وقمة الرقي إذا ارتفاعها الإنسان فقد ارتقى.
هكذا تفكر كاتبة الغرب، فهل قرأ الغرب أفكار ابنته؟ وإذا كانوا، أتراهم بها سائرين؟ إلا فليتقوا الله في إخوانهم من بني الإنسان. وليتقوا الله في آبائهم العباقرة. وليتقوا الله في هذا العالم الذي نعيش فيه.
ثروت أباظة
القصص
متى يعود بابا؟!
للأستاذ شاكر خصباك
وأخيراً تحققت أُمنيتي بالسكنى في ضاحية (مصر الجديدة). كنت قد زرتها مرة وأُعجبت بأبنيتها المتشابهة الطراز والألوان، وسحرت بشوارعها النظيفة الهادئة. وتلك صفات لا تتوفر في (باب اللوق) الذي أقطن فيه. قصدت إلى (مكتب السماسرة) وعرضت على الموظف المختص شروطي. نقر الموظف على المنضدة متأملاً، ودس قلم الرصاص في شعره يبعث به مفطراً، ثم رفع رأسه وقال متسائلاً: غرفة هادئة في (شقة) تسكنها أرملة قبطية توفي زوجها منذ شهراً مخلفاً بنتاً في السابعة من عمرها، والإيجار خمسة جنيهات شهرياً. . . أتعجبك؟!
- اتفقنا.
ونقلت متاعي إلى المنزل الجديد. وعلى بابه وقفت امرأة وطفلة المرأة في مقتبل العقد الثالث متوسطة القامة على شيء من البدانة. عيناها السوداوان جميلتان، وكذلك أنفها الأقنى الصغير، لكن فمها يميل إلى الاتساع، والطفلة جميلة مرحة ذات وجه بشوش وهيئة ضاحكة.
- سعيدة.
- سعيدة! أهلاً وسهلاً.
واجتزت الباب يتبعني الحمال. تلفت ورائي فرأيت الطفلة ترسل إلى نظرات فرحة. ابتسمت لها فقفزت نحوي وتعلقت بأذيال سترتي. ثم رفعت إلى وجهها الضاحك وهتفت جذلة:
- أنت طويل مثل بابا.
- صحيح؟!
وامتدت يدي إلى رأسها تلاطف شعرها في حنان. وفجأة انطلقت كالقذيفة. انحنيت على حقائبي أُفرغ محتوياتها في الصِّوان والمكتب.
- يا أستاذ. . . يا أستاذ. . .
سمعت صوت الطفلة فتحولت بأنظاري إلى الباب أرقبها في شغف. تقدمت نحوي تتعثر في مشيتها وذراعاها تنوءان بحملهما. (عروسة) عاجية وحصان خشبي وسيارة صغيرة، وضعتها على الأرض في عناية وشرعت تناولني واحدة بعد أُخرى في زهو واعتزاز. قلت وأنا أقلّبها بين يدي في إعجاب:
من أهدى إليك هذه اللعب الجميلة؟!
فلمعت عيناها ببريق الغبطة وهتفت في حماس: بابا اشترى لي هذه اللعب كلها. . . بابا يحبني كثيراً.
فرنتّ على خدها في لطف وقلت: طيب. . . غداً سأشتري لك لعبة جميلة.
فتطلق وجهها وبان السرور في عينيها وهمست في مسودة: أنت تحبني كبابا.
ربما!. . . وبمضي الأيام اشتدت محبتي لها. ما سبب تلك المحبة؟! الله أعلم. قد يكون مبعثها رثاء لطفلة يتيمة الأب. قد يكون مصدرها إعجاب بروحها الأليفة، روح يفيض حيويته على البيت فيملؤه بهجة وحركة ونشاطاً.
وفي كل مساء كنت أخرج إلى شرفة الدار وأتمدد على مقعد الراحة، (المترو) يزفر في الشارع تحتي كأنه يضيق بحمله. وكمساري (الترام) ينفخ في زمارته بملل، ونفير السيارة يعوي بين حين وآخر، والناس يروحون ويجيئون، وفريدة تقبل على قفزاً بصحبة دُماها لتسألني مشاركتها في اللعب كعادتها كلما رأتني منفرداً في الشرفة.
- هالو! فيفي.
وكومت لعبها على الأرض وتربعت إزاءها. ثم شرعت تملأ السيارة الصغيرة. وفجأة توقفت يدها عن الحركة وبدت كأن أمراً يشغل بالها، ماذا يقلقها؟! رفعت عينيها إلى وسألتني في استعطاف.
- هل تشترك معي في اللعب عندما يعود بابا؟! سنلعب ثلاثتنا معاً.
سرت في جسدي رعدة خفيفة وأنا أحدق في وجهها البرئ وأصغي إلى سؤالها الساذج، ألا تعلم بموت أبيها؟! وسمعت لساني يهمس في تردد: حسناًـ سأفعل.
صفقت فرحاً وهرعت إلى الغرفة أُمها وتركت السيارة الصغيرة تدور حول نفسها، وترامى إلى مسامعي صوتها وهي تسأل الأم في لهفة: ماما. . . متى يعود بابا؟!
تأخر صوت الأم في الرد ثم تتاهى إلى يغمغم في بطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي.
وظهرت أمامي ثانية (تتنطط) كالعفريت!
- بابا سيعود قريباً من الإسكندرية وسنلعب ثلاثتنا معاً.
- إن شاء الله.
قضيت تلك الأمسية موزع النفس بين شتيت من العواطف والأحاسيس؛ ألم وسخط وضيق وحزن. ثم أوتفريدة إلى فراشها فانطلقت إلى الأم.
- ألا تعلم فريدة بموت أبيها المرحوم؟!
سألت الأم، فأجابتني بنغمة كئيبة تفيض بالحزن والألم: كلا. لقد بعثتها إلى بيت عمتها في (المنصورة) أثناء مرض أبيها، ولما توفي استدعيتها ثانية وزعمت لها أنه سافر إلى الإسكندرية لمهمة تتعلق بعمله.
وقرأت معاني التوسل العميق في عينيها وهي تضيف قائلة: أرجو أن تساعدني على إخفاء الحقيقة عنها، فهي تحب أباها حباً عظيماً، وأخشى أن تصيبها صدمة نفسية إن اكتشفت الحقيقة
في هذه المرة أدركت لماذا تضاعف حبي لها واشتد شغفي بها. وكالنهر حين تزدحم مياهه فتتدفق على جوانبه فاضت عواطفي على فريدة. فيفي، احتفظي بعلبة الشوكولاتة لك وحدك. . . فيفي، أعطيني قبلة في عينيك. . . فيفي، أتعجبك هذه العروسة الصغيرة؟! فيفي، هيا نلعب لعبة القط والفار. فيفي، سأصحبك غداً إلى مدينة الملاهي
وسارت الحياة، وانطوى الزمن، وبدأت الأم تتخلى عن تحفظها شيئاً فشيئاً وتتقرب إلى اشتراكنا أول الأمر في عاطفة واحدة؛ حب فريدة. ثم تطور الاشتراك في العواطف وتعددت جلساتنا وطال انفرادنا. في الأسبوع الأول راحت تنتهز فرص غيبة فريدة لتجلس إليّ وتحدثني عن موضوع يتعلق بزوجها مبتدئة بعبارة تقليدية: لقد كان مثال الزوج المخلص رحمه الله. الحمد لله الذي عوض فريدة بشاب مثلك يعوضها من حنان أبيها ومحبته
وفي الأسبوع الثاني تحررت من قيد البيت فتأبطت ذراعي وهمست في حياء: هيا بنا يا سي زكي نقضي الأمسية في أحد المقاهي.
وفي الأسبوع الثالث، في عصر ذلك اليوم دعتني إلى السينما قائلة: في سينما (كايروبالاس) فلم ممتاز لتيرون باور. . . فلنشهده هذه الليلة يا زكي.
وعدنا في الساعة العاشرة والدار يغمرها الظلام وفريدة والخادمة الصغيرة نائمتان أو المفروض أنهما نائمتان. خلعت بدلة السهرة واستبدلت بها لباس النوم. ودسست جسدي بين طيات الفراش فتناهى إلى صوت فريدة تسأل أمها في ضيق وقلق: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وجمجم صوت الأم في تردد وبطء: قريباً إن شاء الله يا فيفي. خيَّم الصمت لحظة ثم ارتفع صوت فريدة في لهجة المرتاب: ولكن متى يعود؟! في كل مرة تقولين قريباً، وأنتظر فلا يعود!
- سيعود قريباً يا فيفي وسيجلب لك هدايا كثيرة. والآن يجب أن تنامي وإلا فإنه لن يحبك إذا علم أنك ظللت ساهرة حتى هذا الوقت المتأخر.
حلَّ السكون ثانية فأغمضت عيني ومشاعر الألم والسخط والضيق والحزن تمور في صدري. إلى متى يستمر جهلها بمصير أبيها؟! إلى متى يدوم تضليلها؟! ما أحوجها إلى محبة تعوضها حنان أبيها وتلقى على ذكراه رداء النسيان.
في اليوم التالي ابتعت لها (عروسة) كبيرة ذات عينين تُفتحان وتُغلقان كلما تحرك جسدها.
- فيفي. . . تعالي هنا أتيتك بهدية ظريفة.
دقيقة ودقيقتان وثلاث. . . لماذا تأخرت؟! ثم ظهرت على عتبة الغرفة تخطو في تمهل وتردد.
- خذي هذه (العروسة) يا فيفي. . . أتعجبك؟
وحدقت فيها ملّاً والتردد يشيع في صفحة وجهها النقية، حركت الدمية يميناً وشمالاً فانفتحت عيناها وأغلقتا. وفي لمح البرق اختطفتها من يدي وعدت خارج الغرفة. . ماذا أصابها؟! خرجت وراءها مذهولاً فعالجني بكاؤها منبعثاً من غرفة الاستقبال، مددت رأسي من الباب فرأيتها منبطحة على الأريكة ورأسها مدفون بين الوسائد والدمية مضمومة إلى صدرها، فتهافت على الأريكة بجانبها ومررت بكفّب على شعرها في حنان وأنا أهمس في رقة:
- لا تبكي يا فيفي. . . ما الذي يضايقك؟!
فرفعت إلى عينين مخضلتين بالدموع ودمعت بصوت مخنوق وهي تشهق: ألا يعود بابا ليشتري (عروسة) كهذه؟
- بالطبع سيعود يا فيفي. . . سيعود بعد أيام قليلة.
ولم يعد الأب بعد أيام قليلة، وأصبحت في مقامه لدى الأم. اليوم نخرج إلى المنتزه وغداً إلى المقهى وبعد غد إلى السينما، وفي (كازينو سفير) نالت إعجابنا مائدة منزوية في الزاوية اليسرى المطلة على شارع عثمان بن عفان، واعتادت فريدة أن تمر على رصيف هذا الشارع بصحبة الخادمة الصغيرة في طريقها إلى المنزل عمتها فترانا منهمكين في الحديث أو الضحك وتتوقف قليلاً وترمقنا بنظرات جامدة وتواصل سيرها مكفهرة الوجه. ثم تلتفت نحونا مرة ومرتين وثلاثاً حتى تختفي عن أنظارنا!.
وأصبحت فريدة اليوم غيرها بالأمس! كل شيء تغير فيها. أضحى الصمت طابعها المميز والكآبة سمتها الدائمة! واختفى الضجيج والمرح من البيت، وخيم عليه جو من الكآبة الثقيلة. فيفي، لماذا لا تضحكين؟! فيفي، لماذا لا تجرين في ساحة الدار؟! سلبت البيت بهجته ونشاطه؟!
وتحمل فريدة لعبها وتتخير ركناً منعزلاً وتنفرد بها وتمضي الوقت معها في صمت، وأقبل عليها ضاحكاً وأهتف مرحاً: أتسمحين لي بمشاركتك في اللعب يا فيفي؟
وتجمع دماها في هدوء وتنسل إلى غرفتها في سكون. . . لماذا أضربت عن مشاركتي في اللعب؟ ما الذي يبعث في نفسها الكآبة والصمت؟!
وفكرت هنيهة. دمية جميلة تعيد علاقتنا إلى صفائها. واشتريت (عروسة) كبيرة من الجنس تضع على رأسها طرطوراً وتجلس في هيئة المتأمل؛ الرأس بين الكفين والمرفقان على الركبتين
- فيفي. . . اشتريت لك (عروسة) عظيمة. . . تفضلي.
- لا أريدها.
ولبثت ترنو إليها في جمود دون أن تمد إليها يداً.
- كوني عاقلة يا فيفي. خذيها.
- قلت لك لا أريدها.
وانفلتت ذاهبة، ثم عادت بعد حين. نظرت إليها مشدوهاً وهي تكوِّم أمامي اللعب التي أهديتها إليها ووجهها عابس وشفتاها ملتويتان. واستدارت لتعود أدراجها فتشبثت بذراعها.
- ماذا بك يا فيفي؟! لماذا خاصمتيني؟!
حاولت أن تتملص من قبضتي فخابت، وعندئذ انفجرت بالبكاء. وصرخت في غضب حزين:
- أنت كذاب. لا أنت لا تحبني. . . وأنا لا أحبك أيضاً. أنا أحب بابا. سيعود بابا وسيضربك أنت وماما.
وتركت قبضتها مذهولاً فمرقت من الباب كأنها تفر من سجن: وتحولت إلى كوم الدمى أرقبه في لوعة وأسف. ما الذي غير قلبها عليّ؟! وما شأني في الأمر إن كان غياب أبيها مصدر لوعتها؟! ولماذا باتت تحس نحوي بهذا النفور الشديد؟!
وأصبح مرآي يثير الاشمئزاز والكراهية في نفسها، ما تكاد عينها تنالني حتى تفيض بنظرة مقت. وتتقلص ملامح وجهها ويغمره فيض من عواطف البغض. وبدأت تعيش كالغريبة في الدار. ما تكاد تعود من مدرستها حتى تلجأ إلى غرفتها لتناجي لعبها في صمت. ولم تعد تسأل أمها عن أبيها، وأخذت تمضي معظم ساعات النهار في بيت عمتها، فأمسى المنزل كئيباً موحشاً. واقتنعت بتلك اللحظات القصيرة التي تتهيأ لي فيها رؤيتها حين تجلس إلى مائدة الفطور. وفي تلك الدقائق كانت تثبت عينيها المتألقتين ببريق الحقد على وجهي وتتأملني في وجوم. حاولت مرة أن أحدق في عينيها لأستشف من ورائهما ما يدور في فكرها. ولشد ما دهشت حين قفزت من مقعدها في صمت وحملت كوب الشاي وانسلت إلى غرفتها بهدوء. وجرت أمها خلفها لتعيدها إلى مقعدها فواجهتها بالصراخ والنحيب حتى أفلحت في الذهاب. وصار من المألوف أن تسبقني إلى الفطور، فإذا رأتني مقبلاً على المائدة تركت الفطور واختفت في غرفتها بسكون. . لماذا تكرهيني يا فيفي، لماذا؟!
ودب النحول في جسمها وغمر الشحوب وجهها وانطفأ بريق عينيها سوى بصيص من الحزن والمقت. والأم حزينة لحال ابنتها مسرورة بحبها الجديد. أنا مهموم محزون لا أدري ماذا أفعل وكيف أستعيد محبة الطفلة ثم حدث أن عدت من (السينما) ذات مساء في الساعة
الثانية عشرة والنصف بصحبة الأم. فتحت الأم الباب فراعنا أن تبصر فريدة منطرحة على أحد مقاعد الصالة في وضع مهمل، اتجهت إليها الأم وهزت جسدها في رفق فهبت من رقادها تصرخ في جنون. وحملتها الأم بين ذراعيها في اضطراب، لكنها انطلقت ترفس الهواء برجليها محاولة التملص منها
- ماذا بك يا فيفي؟. . . لماذا تبكين يا فيفي؟!
لا جواب سوى الصراخ. صراخ يصل عنان السماء. . ثم انحلت عقدة لسانها واندفعت صائحة:
أنت تكذبين عليَّ يا ماما. . . بابا لن يعود إلا حين يترك سي زكي دارنا. . . أنت بعثته إلى الإسكندرية لكي تحضري سي زكي هنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لا أريد أن يمكث معنا. . . لماذا يعيش في دارنا بدل بابا؟. أنا لا أحبه، لا أحبه. . . بابا أحسن منه. بابا أحسن منه يا ماما. . .
انسللت إلى غرفتي في صمت وأنا أشعر بقبضة قوية تعصر قلبي. وتهالكت على المقعد ووضعت رأسي بين كفي وأغمضت عينيَّ مُفكراً، وقبل أن ألجأ إلى الفراش كانت حقائبي معدة للرحيل
وقفت الأم في الصباح التالي في ركن من ساحة الدار ترقب الحمال في وجوم وهو يروح ويغدو حاملاً متاعي. واختفت فريدة وراءها تخلس إلى النظرات في ابتهاج. وتمَّ كل شيء فأقبلت عليهما مودعاً وابتسامة باهتة ترفرف على ثغري شددت على يد الأم في حرارة فاستبقت كفي بين كفَّيها وحدَّقت في وجهي بعينين تحيَّرت فيهما الدموع. ولم تفه بكلمة واحدة وقبل أن أستدير مولِّياً الأدبار رنوت إلى فريدة بنظرات تجمعت فيها عواطف الحب والحزن والألم، فابتسمت في سرور وتشفَّ، وهبت السلم متمهلاً ثم توقفت حين سمعت فريدة تسأل أمها في فرح: ماما. . . متى يعود بابا؟!
وواصلت هبوطي ثانية ولساني يجمجم في أمسىً: قريباً إن شاء الله يا فيفي!
(القاهرة)
شاكر خصباك