الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 849
- بتاريخ: 10 - 10 - 1949
صور من الحياة:
حكمة القدر!
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا لحكمة القدر! أفتؤمن يا من تسخر من قوانين الحياة وأنت في عنفوان الصبا، وتهزأ بتقاليد الأسرة وأنت في فورة الشباب، وتعبث بقواعد الأخلاق السامية وأنت في ريعان العمر. . . أفتؤمن يا من تفعل كل ذلك غروراً منك وجهلاً بأن الحياة تمهلك حيناً لتنقْض عليك كالصاعقة الهوجاء فتستلبك من شبابك وقوتك وتذرك وحيداً في ركن من الدار تأكلك الحسرة على أن انطوت سنوات عمرك المشرق عجافاً لم تلدن السعادة في الدار ولا اللذة في الولد، ولا الراحة في الزوجة؟
لقد ضننت بقلبك ومالك يوم أن كنت في الشباب النضير، والقوة العارمة، فصفرت حياتك - وأنت تحبو نحو الشيخوخة الباردة - من قلب ينبض بحبك، أو فؤاد يخفق بالعطف عليك! نشأ الفتى في كنف أبيه وهو يدلّله، ونما وأشتد غرسه في رعاية أمه وهي تحنو عليه، وعاش بينهما سعيداً، رضىَّ البال، مطمئن الخاطر، يبذل جهد الطاقة في الدرس، ويستنفذ وسع النشاط في المدرسة، لا تشغله نوازع الحياة، ولا تفزعه مسارب الرزق، وأبوه رجل فيه العطف والحنان، وفيه الثراء والعقل. . .
وأحس الفتى بالعاطفة المشبوبة تتدفق من قلب أبويه فتفعم حياته بالنشوة والسعادة، فأحب أمه وعلق بأبيه على حين قد حمل لأخيه الأكبر لوماً وعتاباً لأنه طاوع شيطانيته الطائشة، فنبذ المدرسة ولمَّا ينل من العلم إلا قطرات لا تغنى من جهل ولا تدفع من سفه. . نبذ المدرسة ليكون موظفاً صغيراً ينعم بالوظيفة الوضيعة، ويستمتع بالراتب الضئيل، ثم دفعه شبابه - بعد أن خلص من المدرسة - إلى أن يحدث أبويه حديث قلبه، فما تلبث الأب، ولا تعوَّقت الأم، فإذا هو ينتظر الزوجة لتزف إليه. . . والزوجة فتاة من بنات الجيل الفائت، فيها أثر النعمة، وعليها سمة الجمال. . . ورأى الفتى الفتاة وهيتزف إلى أخيه الأكبر. . . فاختلج قلبه، وأخذته روعة المنظر، وخلبته أنوار لزواج، فتمنى أن تنطوي السنوات في سرعة ليصبح هو الآخر زوجاً ورب أسرة. وأحس الأب بما يختلج في نفس ابنه الأصغر، فجلس إليه يحدثه بقلب الأب:(متى. . . متى يا بنى أسعد بزواجك أنت؟) فقال الفتى: (إن
الزواج يا أبت يحول بين المرء وبين الدرس، فما يستطيع العقل أن يفرغ للدرس والقلب مشغول بالزوجة، وأنا أطمع أن أكون مهندساً كبيراً) قال الأب:(إن الأيام - يا بنى - تمر في غير تمهل، وغداً تنال الشهادة العالية. حينذاكأستطيعأن أحبوك بما لم أبذله في سبيل أخيك). . .
واطمأنت نفس الفتى، ودفعته عزيمته إلى أن ينكب على الدرس في غير هوادة ولا لين ليخلص من الدرس إلى الزوجة، وتأججت الفكرة في خاطره، فأنطلق على سننه ليبلغ الغاية. . . فبلغ. . . ولكنه لم يصل إلى نهاية الشوط. . . إلى دبلوم الهندسة الملكية. . . إلا ليرى أباه يلفظ النفس الأخير!
لم يلمس الفتى فرحة النجاح، ولا نشوة الوظيفة، وإن قلبه لينتفض من أثر الأسى والضيق لموت أبيه، وإن أمه إلى جانبه تحس فراغ القلب، وفراغ الدار، لأنها فقدت الزوج والعائل!
أما أخوه الأكبر، فجاء يطلب نصيبه من ميراث أبيه ولما تجف العبرات في محجري أمه. . . جاء يطلب نصيبه ويلح في الطلب ليستعين به - كزعمه - على حاجات العيش وطلبات الدار. . .!
وحاول الفتى أن يملأ فراغ الدار، فلصق بأمه يعينها على أمرها ويهيئ لها رغباتها عسى أن يزيح عن قلبها بعض همه. وعز عليه أن يصر أخوه الأكبر على أن ينزع بعض تركة أبيه من بين يدي أمه، فاحتقر الزواج احتقاراً انجابت له أخيلته القديمة، وهي كانت لذيذة جذابة. . . انجابت حين أحس أن الزواج وحده هو الذي قذفه بأخيه إلى أن ينكأ جراح قلب أمه كلما أوشكت أن تندمل!
وأرادت الأم - بعد سنة - أن ترى ابنها الأصغر زوجاً ورب أسرة، فتحس فيه فرحة قلب صفعة الخوف، ولكن الألم كان ما يبرح يضرب الفتى ضربات قاسية كلما تراءى له الأخ الأكبر وهو ينزع بعض ميراث أبيه من بين يدي أمه، ثم يهجرها لا يعبأ بنزعات قلبها، ولا يرحم ضعفها. وخشي أن ترغمه الزوجة - يوماً - على أن يفعل ما فعله أخوه فيذر أمه وحيدة تحبس فقد الزواج والابن في وقت معاً!
وعاش الفتى أبن أمه المطيع، وخادمها الأمين، والأيام تمر سراعاً، حتى عصف بها الحزن، وقصمتها السنون فماتت. . . ماتت وخلفت له - فيما خلفت - خادماً تقوم على
راحته، وترعى شأنه!
وأحس الفتى بفراغ داره، وفراغ قلبه، وفراغ حياته، وهو يدلف رويداً رويداً إلى الكهولة الفارغة، وإن الشعرات البيض لتأخذ طريقها إلى فوديه في غير ريث ولا مهل، وإن الضعف لينسرب إلى أوصاله في غير وناء ولا بطأ. . . فانطوى على نفسه وفيه الخجل والحياء، وسكن إلى عمله يجد فيه السلوى والهدوء، والخادم إلى جانبه تدرج إلى الشباب والنضوج، وهي فتاة من بنات الريف جاءت من القرية لتخدم سيدتها، ولتتعلم هنا - في القاهرة - أموراً لا يرقى إليها عقل ابنة قرية. . . أموراً فيها اللهو والعبث، وفيها الشرهة إلى المال، والكلب على الزينة، وفيها المكر والخداع!
وتيقظت الأنثى في قلب الفتاة، فانطلقت تتودد إلى سيدها في لطف، وتتقرب منه في رقة، والدار خواء إلاَّ منهما معاً. . .
واستشعر هو الدفء يشع من شبابها ومن أنوثتها، فهبت في نفسه دواعي الرجولة المكفوفة منذ زمان، فما ترفع عن أن يمد يده ولسانه على حين أنه يكبرها بسنوات وسنوات. . .
وابتسمت الفتاة لسيدها في لين، ولصقت به في تكسر، وعقلها يحدثها بأنها توشك أن تختله عن رجولته وماله، وأن تسيطر على الدار التي عاشت فيها - زماناً - خادماً لا تظفر إلا بالتافه، ولا تنال إلا الحقير. . وراحت الفتاة تمكر بسيدها وتخدعه عن نفسه حتى أسهل وأنقاد، وظلت إلى جانبه سنوات تسيطر على خواطره الحائرة وهو يستخذى، وتملك نوازعه الفاترة وهو يتصاغر، فتمادت في غوايتها تذيقه ألواناً من الحرمان، وفنوناً من الضيق لتدخر ماله لنفسها وتعتقده لحاجتها!
يا عجباً! لقد أصبح الرجل مهندساً كبيراً في وزارة الأشغال، له من منصبه الجاه والثراء، وله في عمله العزة والسلطان، ولكنه يحس الضياع ويستشعر الضيق لأنه يعيش في داره غريباً وهي خواء إلامن خادم لعوب تسيطر عليه فتسلبه المتعة في ماله وتحرمه السعادة في قلبه.
لقد طوت السنون كل آماله، فمات الحنان في قلب أبويه، وطار عنه العطف في قلب أخيه الأكبر، وذوت أمانيه جميعاً فغدا محروماً من أحبائه: الزوجة والولد ز والدار، لايجد السبيل إليهم وإن جهد.
وأرادت الأيام أن تسخر من المهندس الكبير مرة أخرى فسولت للخادم اللعوب أن تلصق به - ذات مرة - وتحدثه حديث أملها هي، وتوحي إليه بأمر، قالت. (وأنا أخشى أن تتناولك الألسن، فتصبح مضغة في الأفواه فتنهار كرامتك، وينحط قدرك، فدعني أبحث عن عمل آخر) وأحس المهندس الكبير بالصدمة تكاد تذهله فهو لا يطيق أن يعيش وحده بعد أن حطمته السنون، فقال (وأنا؟. . . افأعيش هنا وحيداً؟) قالت (فإن استشعرت الألم لفراقي فدعني أتزوج من فلان، وهو خادم في المنزل المجاور، فأكون له زوجة بالليل وأكون لك خادماً بالنهار!) وتهلل وجه الرجل للخاطر، واطمأن قلبه.
وهم الرجل يهيئ لزواج الخادمين وينفق من ماله عن سعة ويبذل في سخاء، ثم زفّت الزوجة - ذات ليلة - إلى زوجها. . .
وفي الصباح بكر المهندس إلى دار الزوجين، وبين يديه هدية ثمينة يطمع أن يخطف بها قلب الزوجة وأن يسترضى الزوج. ولكن لشد ما أصابه الذهول حين رأى الدار خاوية إلا من أشياء تافهة متناثرة هنا وهنالك. لقد طارت الزوجة بين ذراعي زوجها إلى حيث لا يعلم بعد أن سلبته ماله وقوته.
وارتد الرجل إلى داره يجرر أذيال الخيبة والحسرة. ارتد ليرى داره خالية إلا منه وهو يتهالك ضعفاً وفتوراً تأكله الوحدة وتلتهمه الوحشة.
فيا لحكمة القدر. . . يا لحكمة القدر!.
كامل محمود حبيب
صحائف مطوية في السياسة العربية:
هّاشم الأتاسي في سنة 1939 وفي عام1943
للأستاذ أحمد رمزي بك
إن لانقلاب الذي قام به المندوب السامي الفرنسي المسيو جبريل بيو عند تعيينه مندوباً سامياً لفرنسا في أوائل سنة 1939 كان يرمي إلى إيقاف العمل بالمعاهدتين اللتين عقدتهما بلاده والعودة إلى النظام السابق.
وترتب على هذا الحال إبطال الدستور في سوريا ولبنان والعودة إلى تأكيد الاستقلال الذاتي أو الإداري الذي كان يتمتع به كل من جبل الدروز وإقليم العلويين.
وبتت فرنسا الأسباب المبررة لاتّخاذ هذه الخطوة على تطرق الفساد إلى الأنظمة البرلمانية القائمة وتدهور الحكم الوطني في كل من البلدين وما سببه من انتشار الرشوة والتغاضي عن تنفيذ العدالة، والإسراف في إنفاق الأموال العامة وإضاعتها على الأقارب والمحاسيب، ثم فيما أصاب الأقليات من ظلم واضطهاد جعل رجالها يستصرخون بممثلي فرنسا ويطلبون إغاثتهم مما هم فيه. وكانت هذه الحملات المغرضة موجهة بالذات إلى سوريا وإن كان أصاب لبنان رذاذُ منها بحكم اشتراكه مع جارته في إمضاء معاهدة تشبه أو تقارب المعاهدة التي أمضتها فرنسا مع سوريا. ولقد قام الحكم الوطني في سوريا على أساس دستوري سليم وخُيل إلى القائمين بالأمر أنه يكفى إمضاء المعاهدة ثم التصديق عليها لكف اليد الفرنسية عن التدخل في أمرهم والسيطرة على الشئون الداخلية التي أصبحت من اختصاص الحكومة السورية وحدها ولا بشأن لفرنسا فيها بعد أن سلّمت السلطات إلى الرجال الذين جاءوا إلى الحكم بمقتضى قواعد الدستور الذي وضعته فرنسا أو وافقت عليه
ولم يتبادر إلى ذهن الوطنيين خطر الرجوع في هذه الاتفاقات بعد إمضائها إذا كانوا على يقين من أن أغلبية الشعب السوري تؤازرهم وإن البلاد تؤيد بإجماع الاستقلال التام وتأكيد الحياة الدستورية.
وكان جيش الدولة المنتدبة يحتل البلاد وتخضع قوات الأمن العام وغيرها من القوات المسلحة لضباط من الفرنسيين، وكان أعظم ما تظهر قوة العسكريين في الأماكن المتطرفة على الحدود أو في المقاطعات التي تتمتع بإدارة ذاتية، وكان ضباط الارتباط الفرنسيون
يمثلون قوة الدولة المنتدبة الحاكمة. ولما أغلبهم تأتي به فرنسا من المناطق الخاصة للحكم العرفي من مستعمراتها في شمال أفريقيا فقد جاءوا ومعهم عقلية وأساليب فرنسا في مستعمراتها، فتمادى بعضهم في الاستهانة بممثلي الحكم الوطني وظن أن من اختصاصه إقامة العدالة - كما يفهمها - وإيقاف تنفيذ الأحكام وإعفاء المحظوظين من دفع الضرائب.
وهكذا برهنت الحوادث على تعذر قيام السلطتين معاً وأن هذه الحالة لابد أن تؤول إلى تغلب السلطة الأجنبية المنتدبة التي يدعمها جيش الاحتلال. فهل تعجلت الحكومة الوطنية في تعيين ممثليها في أماكن بعيدة اعتادت تجاهل وجود كومة دمشق منذ قيام الانتداب؟ وهل أحسنتصنعاً في تسلم السلطات المباشرة في المقاطعات التي كانت تتمتع باستقلالها؟ هذه أسئلة من استقلالها باستقلالها؟ هذه أسئلة من الصعب الإجابة عنها، ولكن الذي ظهر من أثر هذه السياسة أن رجال الحكومة المركزية تعرضوا للإهانات في بعض الجهات خصوصاً بعد حادث اختطاف محافظ الجزيرة الوطني في داخل حدود المقاطعة التي جاء ليحكمها وصعب على الحكومة الوطنية حمايتهم
وهكذا ضج السوريون جميعاً من تدخل سلطات الانتداب ومن سكوتها على هذه الأعمال ومن تشجيع بعض ممثليها واشتراكهم في تدبيرها، وألقيت في البرلمان خطب حماسية شديدة اللهجة ولكن صداها لم يتعد الأماكن التي ألقيت فيها، وكتبت مقالات قوية الحجة ولكن أثرها لم يتعد أعمدة الجرائد التي نشرتها
في وسط هذه الظروف القائمة والهجمات المتتالية وجد رئيس الجمهورية هاشم بك الأتاسي بين قوتين لا قبل له بأن يوفق بينهما. ولما كانت آمال الشعب السوري وحرياته أمانة في عنقه وكان يعتقد أن التساهل مع الفرنسيين ولو مرة واحدة سيؤدي إلى سلسلة لانهاية لها من التفريط في حقوق الوطن، فضَّل الاحتفاظ بكرامة البلاد واستقلالها كاملين وبادر بتقديم استقالته إلى مجلس النواب الممثل للامة السورية. وسجل في هذه الاستقالة احتجاجه على فرنسا التي بعد أن قبلت التعاون مع سوريا عادت إلى أساليبها القديمة ورجعت تطبق تجارب جديدة تناقض الاتفاقات التي وقعها ممثلوها وتعهدوا بتنفيذها. وهكذا جاء عمله هذا دليلا على وطنيته وإخلاصه وشجاعته، ويندر أن نجد الكثير من أمثاله هاشم بك الأتاسي في تاريخ الأمم الشرقية في القرن العشرين.
ثم قامت الحرب العالمية الثانية وجاء الجنرال فيجان وغيره من قواد فرنسا، وسادت البلاد فترة هدوء وتعرضت سوري ولبنان كما تعرض غيرها لما مرَّ ببقية بلدان الشرق الأوسط من متاعب حتى عقدت الهدنة فازدادت هذه المتاعب الاقتصادية والتموينية، ثم اشتبكت قوات الحلفاء مع قوات فيشي وانتهي الأمر بدخول الحلفاء وخروج فرنسا المهزومة ودخولممثل فرنسا الحرة أو المقاتلة.
وقد قضى هاشم الأتاسي هذه المدة بأكملها معتكفاً بمدينة حمص لا يقوم بأي نشاط سياسي ولا يزوره أحد. وأذكر أنني مررتُ مراراً بهذه المدينة ولم أنس أن أترك له بطاقتي في كل مرة، إذا لم يكن في هذا العمل ما يمكن المؤاخذة عليه؛ ولكن موظفي إدارة الأمن من العام الفرنسية ومن بينهم بالذات من أصبح موضع ثقة الحكم الوطني بعد ذلك، لم يتركوا هذه الفرصة تفلت من أيديهم دون أن يبنوا عليها من خيالهم الكثير من الظنون التي ضمنوها تقاريرهم السرية، وهي التي طالما ضّللت السلطات وأفقدتها الكثير من هيبتها في كثير من بلاد الشرق الوسط.
لابد أن القارئ يعرف ما حدث بعد دخول الحلفاء سوريا ولبنان وكيف أعلن استقلال البلاد السورية، وكيف نودي بالشيخ تاج الدين الحسنى رئيساً للجمهورية، ثم اعتراف مصر بهذا الاستقلال، ثم ما أعقب ذلك الاعتراف من اتصالات ومفاوضات كانت ترمى إلى دعم هذا الاستقلال وجعله متمشياً مع الأغراض العالمية الكبرى التي رسمها ميثاق الأطلنطي ونادى بها كل من روزفلت وتشرشل لكسب الحرب. ولو أن الكثير من مذكرات رجال السياسة والحكم قد نشر بمختلف اللغات وأصبح متداولا. بين أيدي الجمهور وفيه إشارات معينة إلى ما تم في هذه الحقبة الدقيقة من الأمم العربية والشرقية، إلا أن موقف مصر الحاسموأثرها الفعال وما قامت به من أعمال وما كان لوجهة نظرها وسياستها من احترام في المحافل الدولية، لا تزال حلقة مجهولة غير معروفة للناس ولا للمصريين خاصة. وليس في نيتي أن أسردها في هذه العجالة، وإنما اكتفى بأن أقول إنني وجدت نفسي مجنداً في هذه الناحية وعرضة لأحاديث ومفاوضات مع أصحاب الشأن من السوريين واللبنانيين ومع ممثلي فرنسا وبريطانيا وأمريكا ثم مع السلطات القائمة حينئذ في سوريا وفى مقدمتهم المغفور له الشيخ تاج الدين الحسنى وغيره من الوزراء وأهل الرأي.
في تلك الأثناء دارت مقابلات بمصر حضرها الجنرال كاترو وزعماء من السوريين واللبنانيين وعند نهايتها عدت إلى بيروت وكان من المفروض أن تبقى المباحثات تحت طي الكتمان؛ ولكنى فوجئت في يوم من الأيام بزيارة نجل هاشم بك الأتاسي الذي نقل إلى رغبة والده في مقابلتي أن يتم ذلك في فندق معين بمدينة بعلبك. وقد قمت بهذه الزيارة فعلاً في اليوم الذي حدّده الرئيس هاشم بك الأتاسي فجاءت كأنها مقابلة عرضية في أحد صالونات الفندق المذكور. وفى أثنائها تحادثنا عما تم في القاهرة من اتفاق على النقاط الأساسية التي تعهد الفرنسيون الأحرار بإتمامها والتي ستكلَّل بعودة هاشم بك الأتاسي رئيساً للجمهورية السورية ليتولى إجراء الانتخابات الجديدة. وقد أبدى هاشم بك الأتاسي لي ارتياحه لهذه الفكرة ولم يعترض عليها وقتئذ.
وبعد يومين تلقيت دعوة من وزير العراق المفوض تحسين بك قدري للغداء بفندق صوفر، وهنالك وجدت دولة رياض بك الصلح الذي كان مدعواً معي فأخذ دولته أثناء الطعام يتحدث بلباقته المعروفة وذكائه الفائق عن اهتمام الرأي العام الوطني بالمفاوضات التي تولتها مصر وما يُرجى لها من خير وعند نهاية تناول الطعام أبلغني أن الكتلة الوطنية بالشام ترتب الآن شئونها وتجمع شملها كحزب منظم، وأنها قررت ألا ترتبط بشيء لا يأتي عن طريق رئيسها فخامة هاشم الأتاسي وطلب إلى وإلى وزير العراق المفوض أن يبلغ كل منا حكومته هذا الإجراء الذي يتفق مع مصلحة البلاد القومية والاستقلالية.
ولا أدري لماذا مرَّ بخاطري في تلك اللحظة الكثير من الحوادث التي قرأت عنها طويلاً، إذا عدت بمخيلتيإلى أعوام 1910 حينما كانت البلاد العربية جزءاً من الإمبراطورية العثمانية في الأعوام التي قام خديو مصر برحلته إلى الأقطار الحجازية وما أحيطت به رحلته في مختلف البلاد الأوربية من تأويلات ثم مجيء كتشنر إلى القاهرة ووضعه حداً لسياسة الوفاق التي رسمها غورست وما تبع ذلك من مقابلات تمت في دار العميد البريطاني مع بعض زعماء العرب سنة 1913، ثم برز أمامي النزاع القائم بين وزارة الخارجية البريطانية وحكومة الهند البريطانية في قيادة السياسة العربية وما تمخضت عنه سنة 1916 من قيام الملك حسين بن على وحروب لورنس المعروفة والمناداة بفيصل الأول ملكاً في دمشق؛ ثم تمثلت اتفاقات سيكس - بيكو والتفاهم الذي تم على حصص
البترول العراقي ومجيء وعد بلفور وإنشاء الوطن القومي الصهيوني ومفاوضات الوسطاء بين فيصل الأول والدكتور وايزمان العميد االصهيوني، واستجمعت ذكرى الليالي الطويلة التي أمضيتها في فندق الملك داود بمدينة القدس استمع فيها إلى أحاديث رجال من البريطانيين واليهود وأنصت إلى أنصار الهاشميين وأنصار الحاج أمين الحسيني. لقد أمضيت سنتين بفلسطين تمر أمام ناظري الحوادث والمقابلات بين مختلف الرجال الذين يضعون الخطط ويجتمعون ثم ينفضون إذا كانت توضع أسس دولة إسرائيل. . . على احتمالات الأخطاء التي سوف يرتكبها رجال السياسة من العرب - لقد مر كل هذا أمامي عند تناولي الطعام - ولقد نزلت من صوفر إلى بيروت وأنا غير مرتاح لمقابلتي هذه إذ كنت أشعر بأننا على أبواب مفاجئات جديدة. . . وفعلا تحقق هذا الشعور الذي قلما أخطئ فيه؛ إذ أطل علينا شهر مارس سنة 1943 وهو الشهر المملوء بالحوادث التي جاءت متتابعة متلاحقة، فبدأ الجنرال كاترو يجد في تنفيذ ما اتفق عليه بالقاهرة فكثرت تنقلاته بين بيروت وحلب وحمص، وكان يؤكد في أحاديثه أنه ينفذ قرارات حكومة فرنسا المقاتلة الممثلة في اللجنة الفرنسية بالجزائر، وأن التعليمات التي لديه من شرائطها قيام معاهدة بين فرنسا ودولتي سوري ولبنان. وكان يبدو لي من حديثي من أغلب الزعماء الذين قابلتهم أنهم يرحبون بعودة معاهدة سنة 1936 بل قال بعضهم إن هذه المعاهدة أوسع نطاقاً من المعاهدتين اللتين عقدتهما بريطانيا مع مصر والعراق، وأنه لو كانت بريطانيا في مكان فرنسا لاستفادت سوريا كثيراً من تطبيق هذه المعاهدة. كنت أقابل هذه التصريحات بالصمت المؤذن بأن صاحبه لا يهتم بهذه الناحية. . . ولا يود الخوض في موضوعها بالذات.
ومادامت مفاوضات القاهرة لم تتعرض لموضوع المعاهدة لم يكن من المصلحة إثارة شئ عن ذلك، ما يبقى اسم مصر بعيدا عن هذه الدعاية القائمة. والحقيقة أن الفرنسيين أثاروا الموضوع حينما وجدوا شبه إجماع على العودة إلى إحياء المعاهدة السورية الفرنسية، ولم يبدأ الزعماء في التحرر من أقوالهم إلا عند ما ظهرت في الأفق اتجاهات سياسة معينة؛ ولكن الذي أعلمه تماماً أن هاشم بك الأتاسي كان أول من هاجم المعاهدة أمام الجنرال كاترو. وقد أبلغني الجنرال أن هاشم بك لم يستطيع شرح وجهة نظره وتقديم أدلة كافية
على اقتناعه شخصياً بهذه الفكرة. . . ونظر إلى مبتسماً.
وقد كنت على حق في أن موضوع المعاهدة سوف يتخذ دعاية ضد مصر؛ مع أن المراجع المصرية لم تتعرض بتاتاً لمسالة عقد معاهدة جديدة بين سوريا وفرنسا أو إعادة المعاهدة السابقة. ولذلك دهشت حين سمعت شكري بك القوتلي يصرح في منزله (أن مفاوضات القاهرة لم تعد أساساً يصلح للسير عليه) فهل كان يقصد بذلك عودة هاشم الأتاسي للرئاسةأم موضوع المعاهدة؟ لم يترك لي الحاضرون الوقت الكافي لقراءة ما يجول بخاطره، فقد تدخل بسرعة سعد الله الجابري، فاعتذر شكري بك بأنه لم يطلع الإطلاع الكافي على تفاصيل هذه المفاوضات وأسرارها.
ولما توجهت بنظري نحو جميل مردم بك قال أنه سيتولى تفاصيلها وشرحها لشكري بك. أما أنا فانتهزت الفرصة وأكدت أمام الحاضرين أن موضوع المعاهدة لم يكن محل بحث في القاهرة. ولست مكلفاً بالدخول في أى شأن يخص العلاقات بين سوريا وفرنسا من هذه الناحية وقد استشهدت بجميل بك فأقرني على ذلك
ولما عدت إلى بيروت علمت من المصادر المختصة أن الإنجليز المحليين لا يوافقهم إبرام أي معاهدة بين الفرنسيين وسوريا ولبنان، وأن رأيهم فيما يخص معاهدة 1936 هو أنها تؤكد سيطرة فرنسا في البلدين، أما السفير الأمريكي فاكتفى بأن قرأ على مجموعة من برقيات واشنجتون وكلما نشرح وجهة النظر الأمريكية التي تتمسك بنصوص نظام ميثاق الأطلنطي وأنه يجبُّ كل ماعداه. ولا لزوم لعقد مثل هذه المعاهدات: ومن هنا فهمت سر التطور الجديد ضد فرنسا.
كثرت مقابلاتي في شهر مارس سنة 1943 مع الجنرال كاترو وتناولت أحاديثي معه عدة مسائل كان بعضها خاصاً بمركز القوات الفرنسية ومعسكراتها في مصر. وفي إحدى هذه المقابلات أشار إلى المتاعب التي يلقاها لجمع شمل رجال السياسة السوريين وقال أنه دائم الاتصال بهم ويحاول جهده التغلب على المصاعب التي تبرر كل يوم أمامه. وكان مما ذكره أن عودة الدستور والحياة النيابية إلى سوريا ولبنان أمر مفروغ منه، وهذا لما تم الاتفاق عليه بالقاهرة، ذلك الاتفاق الذي اعتبره الجنرال خاصاً به، ولذا فقد بذل الجهود حتى أقنع الجنرال ديجول ولجنة الفرنسيين الأحرار، حتى وافقوا على تنفيذه، وأن
المشروع الذي أوحت به مصر يعد في نظره الحل الوحيد المطابق لروح المبادئ الدستورية، ولذا فهو الذي يسعى أن ينفذه في كل من سوريا ولبنان على السواء. وعند اقتراب انصرافي أسر إلى بأن مركز فرنسا وديعة في يده ولذلك فإنه سيحتفظ بالمصالح المشتركة لحين التفاهم على معاهدة التحالف بين البلدين. ولم أعلق على هذا التصريح بشيء علماً منى بأن الظروف قد بدأت تسير اتجاه آخر مضاد لفكرته، وإن أساليب السياسة البريطانية قد بدأت تؤتى أكلها في كل من سوريا ولبنان وتوجه القيادة إلى وجهة نظرها.
وفى 13 مارس سنة 1943 علمت من عدة مصادر أن الجنرال كاترو لم يعد يتعرض بتاتاً لمعاهدة 1936 في أحاديثه مع الساسة السوريين، وظهر أن هذا كان نتيجة إبداء البريطانيين امتعاضهم. ولكنى علمت بأن شكري بك القوتلي مصرُّ على رئاسة الوزارة إذا عرضها عليه هاشم بك الأتاسي. ولما أشير إلى خالد بك العظم أجمع الساسة على أن صحته سوف لا تمكنه من مواجهة الحالة القادمة وما تتطلبه من كفاح ومجالدة أمام مجلس النواب. وهنا بدأت المفاجأة الثانية.
(يتبع)
أحمد رمزي
مسئولية
الاحتلال الإنجليزي لمصر
في مثل هذا الشهر من عام سنة1882 تم الاحتلال الإنجليزي لمصر. ذلك الاحتلال الذي لم تستغرق حوادثه - منذ ضرب الإسكندرية في الحادي عشر من شهر يوليه الى استسلام عرابيبالقاهرة في الرابع عشر من شهر سبتمبر - سوى شهرين اثنين. ولموقعة التل الكبير أهميتها الخاصة بعد تحصينات كفر الدوار في حوادث ذلك الاحتلال مع إنها لم تدم سوى عشرين دقيقة فر بعدها عرابي إلى القاهرة ليستسلم في اليوم التالي.
ولقد دعت السهولة التي تم بها الاحتلال الإنجليزي لمصر إلى الاختلاف حول تحديد المسؤولية في ذلك الاحتلال. أتقع المسؤولية على عاتق عرابي أم على عاتق الدولة العثمانية أم على الإنجليز وجشعهم الاستعماري؟
وهكذا تأرجحت آراء الكتاب حول هذا الموضوع بين هذا الرأي أو ذاك.
عرابي هو المسؤول الأول والأخير. لقد اعتنق بعض الكتاب هذا الرأي وأيدوه بحجج قوية.
ألم يدفع بسلوكه الخديوي إلى الارتماء في أحضان الإنجليز؟ ألم يهمل الدفاع عن حدود مصر الشرقية؟ أما كان من الحكمة أن يلجأ إلى سد القناة فيؤخر الزحف الإنجليزي على الأقل إن لم يعقه؟ يقول له دلسبس في تلغرافه: (إن الإنجليز يستحيل أن يدخلوا القناة، فينخدع بهذا التلغراف وبالتلغراف الذي يليه: (لا تعمل عملاً ما لسد قناتي، فأني هنا ولا تخش شيئاً من هذه الناحية، إذ لا ينزل جندي إنجليزي واحد إلا ويصحبه جندي فرنسي، وأنا المسئول عن كل ذلك).
أي قائد هذا الذي يصدق مثل هذا التصريح الأجوف فيركن أليه في تحصين بلاده؟ ألم يقل فيه صديقه جون نينيه (إن بساطة عرابي جعلته يرتكب أغلاطا كبيرة ظهرت عواقبها بعد، فمقدار ما بذل من الهمة في الدَّفاع عن الإسكندرية وتحصين خطوط الدفاع في كفر الدوار بحيث امتنعت على الإنجليز، قد أظهر منذ ابتداء القتال غفلة بالغة إذ استمع إلى النصائح الكاذبة التي خدعه بها المسيو فردبناند دلسيبس حين زعم أن الإنجليز لا يمكن أن يتعرضوا للعمل الفرنسي، فامتنع عرابي عن سد القناة في الوقت المناسب واستمسك برأيه
رغم ما كانت تحتمه الخطط الفنية الحربية، ورغم ما أرتاه زملاؤه وما ارتأيته أنا وكررته عشر مرات تارة بالقول القارس وطوراً بالكتابة في وجوب سد القناة؛ رغم كل ذلك أصرَّ عرابي على رأيه فمهد للجنرال ولسلى نصراً من أسهل ما عرف في تاريخ المعارك. ويحذره جون نينيه قائلا:(إن قناة السويس هي خط الدفاع الوحيد الذي لكم في هذه الناحية، وإذا لم تحتلوه فسيحتله العدو غداً ولن يجد صعوبة في احتلاله) ومع ذلك كله يأبى عرابي إلا أن يصمَّ أذنيه ويقف مكتوف اليدين حتى تساءل كاتب تاريخ الحركة القومية بقوله: (فليت شعري ما الذي جعله يعدل عن هذا الرأي الصواب ويمتنع عن سدَّها حتى احتلها الإنجليز؟) وموقعة التل الكبير!! كيف يخوض تلك الموقعة الفاصلة وهو بعد لم يستكمل وسائل الدفاع؟ لقد أقيمت خطوط الدفاع على عَجل، ولم تكن هيفي ذاتها محكمة الوضع. يقول المستر بلنت في التاريخ السري للاحتلال: إن جيش عرابي بالتل الكبير لم يزيد على عشرة آلاف أو اثني عشر ألف جندي، والباقون كانوا من المجندين الأحداث الذين لم يسبق لهم إطلاق بندقية واحدة. أضف إلى ذلك أن خيرة الجنود لم يكونوا بلتل الكبير بل كانوا في كفر الدوار أو في دمياط، وهؤلاء لم يشتركوا قط في المعركة، وكان من حسن التدبير أن يستدعى عرابي على الأقل الألاي المرابط في دمياط لأنه كان يحتوى على خيرة الجند المدربين، ولكنه لم يفعل. بل لقد عهد عرابي بالقيادة إلى علي باشا الروبي فحضر قبل الواقعة بيوم واحد وهو وقت لا يكفي لتعرف مواقع القتال ووضع الخطط الصالحة.
وكيف لا يشتم رائحة الخيانة في صفوف أعوانه؟! أترسم خطة الموقعة ليلا فلا تستقر في نفس الليلة إلا عند الأعداء؟! ويتحرك الجيش الإنجليزي إلى أن يصل إلى ميدان الموقعة مسافة تبلغ نحو خمسة عشر كيلو متراً دون أن تصادفه طلائع المصريين؟ أيوقع الإنجليز بالجند (على حين كان راقداً فدهشت العساكر وتولاها الانذهال حيث رأوا ضرب النار من خلفهم وأمامهم، فألقوا أسلحتهم وفروا طالبين النجاة) على حد عرابي نفسه في روايته عن تلك المعركة.
وأخيراً كيف يرتضى عرابي لنفسه أن يرخى لفرسه العنان ثم يستسلم بعد فراره هذا الاستسلام الذليل؟ لقد قال الرافعي بك في هذا الموقف الذي ختم به عرابي فصول الثورة: (ولكن عرابي آثر الحياة على الواجب المقدس ففقد روح البطولة والتضحية، ولم يكن هذا
عهده للأمة قبل نشوب الحرب، فقد كان يقول أنه لا يخشى تهديد إنجلترا ولا أوربا ولا تركيا وإنهُ مُصرُّ على أن يدافع عن مصر حتى آخر رمق من حياته. فليت شعري لمَ لم يف بعهده فيكون دفاعه على الأقل صفحة بطولة في تاريخه وفي تاريخ مصر، أما إذا كان معتزماً التسليم لمجرد الهزيمة فكان الأولى به أن لا يغامر بالبلاد في حرب أدَّت إلى الاحتلال والهوان، فهزيمة التل الكبير لم تكن هزيمة عرابي وحده أو هزيمة لجيشه بل هي هزيمة لمصر بأسرها إذا كانت نتيجتها الاحتلال البريطاني) بل لقد ذهب الكاتب إلى أبعد من ذلك في تفسير فرار عرابي فقال أنه لم يفر من الموقعة ليواصل الجهاد ولكن لكي ينجو بنفسه؛ ولو كان مجاهداً حقاً لظلَّ يجاهد حتى آخر نسمة من حياته.
أفلا يرى القارىء العزيز إلى أي حد يذهب بعض الكتاب في إلقاء مسئولية ذلك الاحتلال المشئوم على عرابي والعرابيين؟ إن الاتهام تلو الاتهام ينصب في غير رحمة أو هوادة على العرابيين وعلى رأس عرابي بالذات.
ولكن مهلاً أيها القارئ العزيز فسنستعرض بقية الآراء حتى نعثر على الحقيقة في ثنايا ذلك الاستعراض فتكون الحقيقة والحقيقة وحدها سبيلنا إلى تحديد المسئولية والمسئولين وحتى نستطيع استخلاص العبرة من تاريخ ذلك الاحتلال.
- 2 -
لا، ليس عرابي هو المسئول. ولكن المسئول الأول والأخير هو الدولة العثمانية. تلك الدولة التي دبَّ الضعف والانحلال في جميع أرجائها فاستحقت بذلك لقبها المشهور (الرجل المريض)
ألم تقف الدولة العثمانية عقبة كؤودا في سبيل نهوض مصر؟ ألم تعمل السياسة العثمانية على إبقاء مصر ضعيفة ظناً أن هذا الضعف هو الوسيلة الوحيدة لبقاء مصر داخل نطاقها؟! ثم هذا الموقف المضحك المزري الذي وقفته إزاء الثورة العربية! كيف ترتضى لنفسها الاشتراك في تمثيلية مؤتمر الآستانة؟! وبأي حق تسمح للدول الأوربية أن تقحم أنوفها فيما لا يعنيها؟!
وكيف تنخدع هي الأخرى بهذا المؤتمر وبسراب الخطب التي ألقيت فيه؟ يضع مندوبو الدول في هذا المؤتمر ما أسموه: (ميثاق النزاهة) وفيه تتعهد الحكومات التي يوقع
مندوبوها على هذا القرار بأنها في كل اتفاق يحصل بشأن المسألة المصرية لا تبحث عن احتلال أي جزء من أراضى مصر ولا الحصول على امتياز خاص ولا على نيل امتياز تجارى. . الخ)
أحقاً هذا؟! أحقاً ينخدع الباب العالي ويؤمن بنزاهة الميثاق وتنجح السياسة الإنجليزية في اتخاذه مخلب القط أثناء الاحتلال. خطب اللورد دفرين سفير إنجلترا وممثلها في المؤتمر فعرض لتفاصيل الحالة في مصر قائلاً: (إن وزارة راغب باشا هي أداة في أيدي الثائرين، وأن الخديوي لا حول له ولا قوَّة. ثم أهاب بالدول أن تأخذ الثورة المصرية - على حدَّ قوله - بالشدة حتى لا يستعمل نفوذها فلا يعود من السَّهل استئصال شأفتها. وقال إن الوسائل الفعالية التي يجب اتخاذها لإعادة حكومة منتظمة إلى مصر يجب أن تصدر عن الحضرة السلطانية.
وهكذا نجحت إنجلترا في إقرار مبدأ التدخل في شئون مصر الداخلية. بل إن جمود الدولة العثمانية كان سبباً في تمكين الإنجليز من التدخل بمفردهم بعد أن خلقوا (الحالة القهرية) التي استدعت في زعمهم ضرب الإسكندرية.
ألم تكن مهزلة المهازل أن يتم ضرب الإسكندرية واحتلالها ومؤتمر الآستانة مع ذلك موجود ولا يستحي المندوبون فيه من مواصلة عقد الجلسات بعد أن تمًّ ذلك العدوان؟ ألا تكون الدولة العثمانية مسئولة عن هذا الاحتلال وهي التي مكنت - سواء بضعفها أو غفلتها أو جمودها - من التدخل الإنجليزي باسمها وباسم الخديوي؟!
كيف ترضى الوقوف في جانب الإنجليز - وهي تعلم سياستهم ونياتهم فتؤيدهّم بنفوذها الروحي والسَّياسي ويُجارها في ذلك الخديوي فيطعن الحركة العرابية في الصميم بإيقاع الانقسام بين رجالها وبالتالي في القضاء عليها؟ كيف ترضى الدولة لنفسها هذا الموقف العجيب فتؤيد دهاقنة الإنجليز ضد عرابي. . . عرابي الذي كانت تعلم حق العلم حقيقة نواياه وأطماعه. أليس من العجيب أن يكون عرابي من الخطورة على الدولة العثمانية وعلى الخديوي بحيث يضطرها إلى الاستعانة بإنجلترا في القضاء عليه؟ أما كانت الدَّولة العثمانية بتصرفها هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار؟ والله يعلم أن حركة عرابي والعرابيين كانت على الدولة وعلى مصر أبعد شيء عن الرمضاء، وأن الإنجليز كانوا
على البلاد وعلى الدولة أشد خطراً من النار.
ألم يكن موقف الخديوي من الحركة العرابية معولاً قوياً من معاول هدمها؟ كتب الخديوي إلى الإمبراطور سيمور بعد ضرب الإسكندرية يقول على لسان رئيس وزرائه: (كونوا إذن على علم بأن الجناب الخديوي عزم على عزل عرابي من وظيفته، فهو لذلك وحده المسئول عما يحدث) ويرسل الخديوي تلغرافاً إلى عرابي بكفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية ويؤيد بذلك وجهة النظر الإنجليزية في ضرب الإسكندرية (اعلموا أن ما حصل من ضرب المدافع من الدوننمة الإنجليزية على طوابي الإسكندرية إنما كان السبب فيه استمرار الأعمال التي كانت جارية بالطوابي وتركيب المدافع التي كلما يصير الاستفهام عنها كان يصير إخفائها وإنكارها) ثم يعزله في النهاية (لقد عزلناكم من نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم بما ذكر ليكون معلوماً) ويكتب الخديوي بعد ذلك منشوراً إلى الأمة يحذرها فيه من الانضمام إلى عرابي وإلى مناصرة الجيش الإنجليزي والامتناع عن معاونة العرابيين.
وهكذا نجح الإنجليز في صبغ تدخلهم بالصبغة الشرعية تلك الصبغة التي أخذت تزداد كلما توالت المنشورات وهي لا تفتأ تردد عصيان عرابي وتتوعده هو ومن ينحز إليه بالعقاب. وحين فتح الإنجليز الجبهة الشرقية كان الخديوي في الوقت الذي يتوعد فيه عرابي يرسل كتب التهنئة إلى أركان حرب الجيش الإنجليزي بما يحرزون من انتصارات! وهكذا مكن موقف الدولة العثمانية وموقف الخديوي قائد الجيش الإنجليزي من أن يعلن المصريين بأن جيشهم إنما هو تجريدة عسكرية إلى القطر المصري ليست إلا لتأييد سلطة الحضرة الخديوية؛ وأن قائد الجيش يُسرُّ جداً من زيارة مشايخ البلاد وغيرهم من الذين يودون المساعدة لردع العصيان الذي هو ضد الحضرة الخديوية الحاكم والوالي الشرعي على القطر المصري المعين من لدن الذات الشاهانية.
وقد كان محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب نائباً عن الخديوي في مرافقة الجنرال ولسي في زحفه على العاصمة، بل لقد كان الخديوي قد أعطى للإنجليز ترخيصاً باحتلال القناة.
وجاءت الدولة العثمانية فأعلنت عصيان عرابي والحرب قائمة ونشر ذلك الإعلان في
جريدة (الجوائب) التي كانت تصدر باللغة العربية بالآستانة، وقام سلطان باشا بتوزيع نسخ تلك الجريدة بين الأهالي والأعيان بل وبين كبار الضباط.
حقاً لقد كانت الدولة العثمانية بتصرفاتها طابوراً خامساً طعن الحركة العرابية طعنة نجلاء ومهد لرسوخ قدم الاحتلال. ولكن مهلاً أيها القارىء العزيز حتى نستعرض الرأي الثالث والأخير.
(البقية في العدد القادم)
كمال السير درويس
نقص
القول بنفي الصفات إلى القول بأن الله تعالى محال أن يعلم نفسهلأن من شرط المعلوم عنده أن يكون غير العالم به، وهكذا يكون العالم متميزاً عن المعلوم. ولكن معمر رد هذا التمييز بينهما خوفا من أن يؤدى بنا إلى الاعتقاد بأن علم اللَّه مميز حقيقة عن ذاته فرفض القول بأن اللَّه يعلم نفسه وقال بأن العالم والمعلوم واحد أي أن علم اللَّه هو ذاته (أي ذات اللَّه) وعلى ذلك لا يكون العلم منفصلا في اللَّه ولكنه دائماً فيه قديم وغير مميز عن ذاته.
لذلك قال جمهور المعتزلة: إطلاق العلم لله غز وجل إنما هو مجاز لا حقيقة، وإنما معناه أنه تعالى لا يجهل فتكون المعادلة خالصة كاملة تامة بين ماهية الله وعلمه، كما أن هذه المعادلة كاملةأيضاً بين الماهية وأي صفة من الصفات الأخرى والتي هي في نظر المعتزلة اعتبارات ذهنية ليس إلا -
مصدر هذه الفكرة:
يقول أرسطو في مقالته الثانية عشرة من كتاب ما بعد الطبيعة أن الله علمُ كله؛ قدرةٌ كله؛ حياةٌ كله؛ سمعٌ كله؛ بصر كله. وقرأ أبوالهذيل والنظام في بغداد ترجمة مؤلفات أرسطو وأفلاطون فيكون أبوالهذيل قد أخذ هذا القول عن أريسطو على حسب ما جاء في مقالات الإسلاميين للاشعرى وحسَّن أبوالهذيل اللفظ من عند نفسه وقال: علمه هوهو، وقدرته هي هو - ويؤكد الشهرستانى ذلك بقوله إن أبا الهذيل اقتبس هذا الرأي من الفلاسفة اللذين اعتقدوا أن ذاته واحدة لا كثيرة فيها بوجه، وإنما الصفات ليست وراء الذات معاني قائمة
بذاته بل هي ذاته. والمعروف أن هذا هو قول أرسطو.
وهناك سبب آخر جعل أبا الهذيل أولا ثم المعتزلة ثانياً يردون الصفات إلى الذات. يقول أبو الهذيل: هناك فرق بين قول القائل إن الله عالم بذاته لا يعلم، وبين القائل إن الله عالم يعلم هو ذاته، وهو أن القول الأول نفى الصفة والثاني إثبات ذاته هو بعينه صفة أو إثبات صفة هي بعينها ذات؛ وإذا أثبت أبوالهذيل هذه الصفات (العلم والقدرة والحياة والعدل) وجوهاً للذات فهي بعينها أقانيم النصارى - لذلك نفى القول الثاني القائل بأن الله عالم يعلم هو ذاته حتى يرد الأقانيم عند النصارى.
قدم علم الله:
لما كان علم الّه هو الله، ولما كانت ذاته تعالى تتصف بالقدم، فإذاً علمه قديم أيضاً. وهذه نقطة في غاية الأهمية عند المعتزلة. ولا ينفك أبوالهذيل والنظام يرددان القول يقدم العلم. ويقول هشام الفوطي إن الله لم يزل عالماً لنفسه لا يعلم سواه قديم ولا يعلم محدث وإن الله لم يزل عالماً بأنه سيخلق الدنيا ثم يفنيها ثم يعيد أهلها (فريق في الجنة وفريق في السعير).
تضيف المعتزلة على قولها إن الله لم يزل عالماً بنفسه قولها بأنه تعالى عالم لذاته أزلا بما سيكون (والمستقبل لا يوجد إلا بالنسبة لنا وليس له وجود عند الله). وهناك فارق كبير بين علم الله وعلم الإنسان: فعلمنا بما سيكون هو علم بشيء جائر، على عكس علمنا بما يكون فإنه علم بشيء متحقق واقعي. ولكن علم الله هو علم بشيء حقيقي لا بشيء جائز، لأنالجائز يمكن أن لا يتحقق وعلم الله لا يتعلق به.
اعتراض على هذا القول: اعتراض هشام بن الحكم:
بما أن الله لم يزل عالماً بالأشياء حتى قبل وجودها ولم يزل قادراًً عليها فهل ما يعلمه الله وما يقدر عليه قديم أيضاً؟ هذا سؤال وجهه هشام بن الحكم (الرافضي) إلى المعتزلة قائلا لهم: إن كان الله عالماً بدقائق الأمور وجلائلها لنفسه فهو لم يزل يعلم أن الجسم متحرك لنفسه لأنهالآن عالم لذلك وما عَلمهالآنفهو لم يزل عالماً به. فإن كان هذا هكذا فلم يزل الجسم متحركا لأنه لا يجوز أن يكون الله يزل عالماً بأن الجسم متحرك إلا وفى الوجود جسم متحرك على ما وقع به العلم.
رد المعتزلة:
يبدوا هذا الاعتراض وجيهاً في أول وهله. ولكن المعتزلة وجدت فيه نقصاً وضعفاً كبيرين - يوجد أولا نقص منطقي في الاعتراض نفسه لأنالله في مذهب هشام بن الحكم جاهل بالأمور غير عالم بها وهو يعلمها عند وقوعها. وهذا تشبيه شنيع لله بخلقه يناقض كماله تعالى.
ثم هناك ضعف آخر في الاعتراض وهو إن كان الله لم يزل عالماً بالأشياء قادراً عليها فهذا لا يعني أن الأشياء المعلومة والمقدور عليها موجودة منذ القدم - لأن الفاعل لابد من أن يكون قبل عالماً يكيف يفعله وإلا لم يجز وقوع الفعل منه، كما أنه إذا لم يكن قادراً على فعله قبل أن يفعله لم يجز وقوع الفعل منه أبداً. ألا ترى أن من لم يحسن السباحة أو الكتابة لم يجز منه وقوعهما؛ فإذا تعلمهما وعلم كيف يكتب أو يسبح جاز وقوعّ الكتابة أو السباحة منه. وهذا حكم كل فاعل: لابد من أن يكون قبل فعله عالماً به وإلا لم يجز وقوعه منه - وبناءً على ذلك تقول المعتزلة إن الله كان ولا شئ معه، وأنه لم يزل بعلم أنه سيخلق الأجسام وأنها ستتحرك بعد خلقه أياما وتكن. وإنه لم يزل يعلم أنها متحركة إذا حلتها الحركة وأنها ساكنة إذا حلها السكون؛ وهو لنفسه لم يزل يعلم أن الجسم قبل حلول الحركة فيه يتحرك، وأنه في حال حلول الحركة فيه متحرك - فلا ماض ولا مستقبل في علمه تعالى لأن علمه هو ذاته وعلمه سابق للمعلومات. فتكون هكذا الأشياء أزلية في علم الله، محدثه في الزمان المعين والمحدد لها من الله. وحدوثها في الزمان لا يضيف ولا يبدل شيئاً في علم الله لأن هذا العلم سابق لها.
تبقى مسألة جواز وجود ما يعلمه الله أنه لم يوجد، ومسألة حرية الإنسان في فعل المعاصي مع معرفة الله الأزلية لما يفعله الإنسان، وهذه المسألة الأخيرة في غاية الدقة لأن المعتزلة تفخر بأنها ليست (أهل توحيد) فحسب بل أيضاً (أهل عدل) - وسنبحث إن شاء الله في مقالنا القادم هذه المسألة الخطيرة.
(البقية في العدد القادم)
ألبير نصرى نادر
دكتور في الآداب والفلسفة
من كتاب قصور العرب:
غُمْدانُ
للأستاذ كاظم المظفر
(بقية ما نشر في العدد الماضى)
وقد وصف الشعراء غُمداناً وصفاً يكاد القارئ أن يتوهم لأول وهلة أنه بعيد عن الحقيقة، أو هو من نسخ أخيلة الشعراء؛ ولكن عند التأمل والإمعان لا يرى فيه غرابة، ولاسيما وإن كثيراً من المؤرخين الباحثين (المستشرقين) الذين أخذوا على عاتقهم إحياء آثار العرب القديمة، شاهدوا بعض أنقاض تلكم القصور العظيمة، وتحدثوا عن عظمة الأسلاف، وما كانوا عليه من قديم العصور من رقي وتقدم في مضمار الحضارة.
وفي غمدان وملوك اليمن يقول دعبل بن علي الخزاعي:
منازل الحي من غمدان فالنضد
…
فمأرب فظفار الملك فالَجَند
أرى التبابع والأقيال من يَمن
…
أهل الجياد وأهل البيض والزَّرد
ما دخلوا قرية إلا وقد كتبوا
…
بها كتاباً فلم يُدرس ولم يبد
بالقيروان وباب الصين قد زبروا
…
وباب مرو وباب الهند والصُّغد
وقال أبو الصلَّت يمدح ذا يزَن:
أرسلتَ أسداً على بُقع الكلاب فقد
…
أضحى شريدهم فيالأرضفلاَّلا
فاشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً
…
في رأس غمدان داراً منك محلالا
قصر بناه أبوك القيل ذوشرح
…
فهل يُرى أحد نال الذي نالا
منطق بالرخام المستزاد له
…
ترى على كل ركن منه تمثالا
تلك المكارم لا قَعبان من لبن
…
شِيبا بماء فعادا بعدُ أبوالا
وأنشد لعصابة اَلجرْجرَاى:
الدار داران إيوان وغُمدان
…
والملك ملكان ساسان وقحطان
وقال علقمة بن ذى يزن:
أبعد غُمدان حين أسنى
…
يسفى به المور والرَّياح
ياعين سلحين فإندبيه
…
إذا هاض من أهله الجناح
وقال أيضاً:
لاتهلكن جزعاً في إثر من ماتا
…
فإنه لا يردُّ الدَّهر ما فاتا
أبعد غمدان لا عين ولا أثر
…
أم بعد بينون يبنى الناس أبياتا
وقال أيضاً:
فذاك غُمدان محزئلاً
…
كأنهُ جبلُ منيفُ
يسكنهُ ماجدُ أبىُّ
…
تُرغمُ قُدَّامهُ الأنوفُ
وقال أيضاً:
هذاك غُمدان مُحزئلاً
…
بناؤهُ العجبُ العجيب
أعلاهُ مبهمة رخام
…
عالٍِ وأسفله جروب
وقال أيضاً:
وتكوَّرت غُمدانُ من صرف الرّدى
…
من بعد مملكة وبعد تنكير
القيل من قحطان أبهم صخرها
…
وعمادها والقطر خير الأقطر
وقال أيضاً:
قد كان حسان في ذؤابة غمدان
…
قريراً يعيش من رغدا
وقال أيضاً:
ولم يخلد الحدثانبان
…
بني غمدان تتهمه التهوم
وقال ابن أبى عاصية السُّلي:
فهل ناظر من بطن غمدان مبصر
…
قفا أُحد رمُمت المدى المتراخيا
ولو أن داء اليأس بي فأعانني
…
طبيب بأرواح العقيق شفانيا
وقد ذكر الهمداني في بعض مخاطباته لأهل العراق، وقد كانوا وصفوا بغداد في مخاطبتهم له؛ حيث يقول:
أرض تخيرها سام وأوطانها
…
وأسَّ غمدان فيها بعدما احتفرا
وقال الهمداني أيضاً:
مازال سام يرودالأرض مطلباً
…
للطيب غير بقاع الأرض بينهما
حتى تبوَّأ غمدانا وشيدها
…
عشرين سقفاً يناغى النجم عاليها
فإن تكن جنة الفردوس عاليةً=فوق السماء فغمدان يحاذيها
وقال ذو جدن الهمداني:
وهذا المال ينفد كل يوم
…
لنزل الضيف أوصلة الحقوق
وغمدان الذي حدثت عنه
…
بناء مشيداً في رأس نيق
بمرمرة وأعلاهُ رخام
…
تحام لا يغيب بالشقوق
مصابيح السليط يلحن فيه
…
إذا يمسي كتوماض البروق
فأضحى بعد جدته رماداً
…
وغيَّر حُسنه لهب الحريق
وقد يقال عنى غمدان بمأرب وفيه يقول الهمداني:
من بعد غمدان المنيف وأهله
…
وهو الشفاء لقلب من يتفكر
يسمو إلى كبد السماء مصعَّداً
…
عشرين سقفاً سمكها لا يقصر
ومن السحاب معصب بعمامة
…
ومن الرُّخام منطق ومُؤزر
متلاصقاً بالقطر منه صخرة
…
والجزع بين صروحه والمرمر
وبكل ركن رأس نسر طائر
…
أو رأس ليث من نحاس يزأر
متضمناً في صدره قطارة
…
لحساب أجزاء النهار تقطر
والطير واقفة عليه وفودها
…
ومياهه قنواتها تتهدَّر
ينبوع عين لا يصردُ شربها
…
وبرأسه من فوق ذلك منظر
برخامة مبهومة فمتى ترد
…
أربابه مدخولة لم يعسر
وقال الأعشى:
وأهل غُمدانُ حيثُ كانوا
…
أجمع ما يجمع الخيار
فصيحتهم من الدواهي
…
نائحة عقبها الدّمار
وقال آخر من حمير:
وكان لنا غمدان أرضاً نحاها
…
وقاعاً وفيها ربن الخير مرثد
وقال ثعلبة بن عمر العبقسي بن سلمة وقيل بل هما لعبد القيس الأزدي:
ولو كنت في غمدان تحرس بابه
…
علىّ أراجيل كميّ وسانف
إذاً لأتتني حيث كنت منيتي
…
لعبء مخب لا يرى وهو قائف
وقال مالك بن عمرو بن قضاعة:
وفي الفرع من غمدان لوح عزنا
…
يمسي وفيه بالفلاح يصيح
وقال الربيع بن ضبع بن ذبيان:
أجار مجير النمل من عزَّملكه
…
وأنزلَ سيفَ البأس مِن رأس غُمدان
وقال النعمان بن الأسود بن عمرو بن يعفر الحميري يرثى بلقيس ابنة الهدهاد بن شرحبيل من قصيدة:
هدهد من طيور أرضبشام
…
فرمى في الهوا على العرش نور
باقتضاء الهدى على ملك بلقي
…
س بغمدان إذا أتاها النذير
وأنشد أسعد تبع بن ملكي كرب من قصيدة:
جدَّي المتوَّج عبد شمس ذو العلا
…
شيخ الملوك ومحتوى غُمدان
وقال أسعد تبَّع أيضاً:
وغمدان قصر لنا مشرق
…
مآجله حوله تُزهر
وكان معسكرنا دائماً
…
أزال وعسكره عسكر
وذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد في باب وفود قريش على سيف بن ذي يزن بعد طرده للحبشة قال: قال ابن عباس: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم أتته وفود العرب وأشرافها وشعرائها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه فأتاه وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزي وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال له غُمدان وقال النويري: ويقال أن آثار غُمدان باقية إلى عصرنا هذا، وإنه تلُّ عالٍ مطلُّ على صنعاء.
وقال الهمداني: وقد بقى من خدَّ غمدان القديم قطعة ذات خراب متلاحك عجيب، فهي قبالة الباب الأول والثاني من أبواب الجامع الشرقية، وباقي غمدان تلُّ عظيم كالجبل وكثير مما حوله من منازل الصفانيين.
وقال الواسعي اليماني عند ذكره لدخول الجيوش التركية لبلاد اليمن: (وقد استولى قسم من
الجيش على بقية المعاقل نحو قصر غمدان وأبواب صنعاء وهي عشرة)
وقال الأستاذ أمين الريحاني: قصر غمدان القديم دُرس والبناء قائم مكانه اليوم يدعى باسمه، ويختصرونه في صنعاء فيقولون: القصر، وفيه معمل الخرطوش، والسكة، والسجن.
وقالأيضاً عند ذكره للأمام يحيى ملك اليمن وما لديه من الأخصائيين الذين يستشيرهم في أعماله ويستعين بهم في تمشية أموره: (وهذا السيد محمد زيارة أمير القصر، قصر غمدان، ومدير السكة والسجن فيه.
ويستنتج من هذا القول الذي ذكره الأستاذ الريحاني أن معالم غمدان لم يبق لها أي مشهد معروف، وأن آثاره التي قال فيها الهمداني أنها قطعة خربة بينة الأثر، والتي قال فيها النويري أنها تلُّ عالٍ مطلُّ على صنعاء. لم تكن كتلك الحال الأول، وإنما جرى عليها الاضمحلال، وتغيرت رسومها، واستبدلت مكانها بناية أخرى تابعة لحكومة الإمام يحيى، إلا أنها لازالت تحتفظ بذلك الاسم القديم (غمدان) الذي فاخرت الأجيال بعظمة بنائه، وجمال صنعه.
الشيء الصغير
للأستاذ أنور لوقا
تحت هذا العنوان الساذج الغريب قص الأديب الفرنسي ألفونس دوديه تاريخ حياته في كتاب نشره سنة 1868، وقد أطلق هذا اللقب على بطل القصة، دانييل إيسيت، ذلك الغلام النكرة المهمَل الذي لا يعنى به أحد لأنه شئ صغير!
أَلا يعبر هذا اللقب عن معنى بعيد عميق في نفس الكاتب؟ أليست له قيمة رمزية أصيلة؟ ألا يلخص ويعنون ناحية ممتازة من شخصية دودية وفنه كما لخص وعنون شطراً من حياته؟. . .
الشيء الصغير هو ما تراه أمامك ولا تلحظه، ما قد تصطدم به ولا تلتفت إليه، هو ما يجاورك ويلازمك في أكثر الأحيان ولكنك لا تعيره اهتمامك ولا تأبه له لأنك اعتدته أو لأنه. . شئ صغير!
وهذا (الشيء الصغير) هو قوام قسط كبير من سحر دوديه. فإن كل صفحة من أدبه عامرة بالتفاصيل الدقيقة المنتقاة، والملامح الخفية الشاردة، والكلمات القصيرة العابرة التي تترجم خليقة من خلائق الناس، أو تبرز وضعاً من أوضاع الأشياء، وتطبع في ذاكرتك إلى الأبد هذا المشهد أو ذاك مما يصف الكاتب
وليس أدل على ذلك من أن لدوديه (طاحونة) أصبحت علماً من أعلام الأدب الفرنسي منذ أن رسم صورة حية لها لا تفارق مخيلة من قرأ ديوان أقاصيصه الريفية (رسائل من طاحونتي): فهناك قط ضاويّ على نافذتها، وبومة غبراء فوق سطحها المتهدم وشعاع من القمر الساجي يكسوها ليلاً، ونور غامر يتفجر في أركانها نهاراً، ونفخة من ريح الشمال تهب عليها، وغابة من شجر الصنوبر تتدرَّج أمامها سفح الجبل. . .
وقد نشرت (الرسالة) في 441949 ترجمة لتحفة جميلة من
أقاصيص ذلك الكتاب عنوانها (الشيخان)، لا يقرؤها القارئ
مرة إلا عاودته مشاهدها مراراً: أولاً مشهد الساعي القروي
العجوز الذي يفتتح القصة مزهواً فخوراً إذا يحمل في يده
رسالة واردة من باريس، ثم منظر ميدان إيجوير المقفر في
جير الظهيرة، ثم بيت صغير يبزغ على الأرضكأنما كان من
إشارة عصا سحرية، ثم صوت نحيل متقطع ينطق من هذا
البيت، صوت طفلة من تلميذات المدارس تقرأ كلمة كلمة
وحرفاً حرفاً في كتاب أكبر منها: (حينئذ. . صاح. . القديس.
. إيرنيه. . أنني. . قمح. . المولى. . ويجب. . أن. . أطحن.
. بأنياب. . هذه. . الوحوش. .) وإنها لعبارة خليقة بأن تبعث
إلى مخيلتك المكان والزمان والوجوه التي طالعتها بل ودرجة
الحرارة إذا ذاك، فهي تمثل لك الشيخين، والطفلين، وقفص
العصافير، والذباب العالق بالسقف، والساعة المعتمدة على
الحائط، وقد أخذتهم جميعاً سِنة من النوم. ما ناسب كلام
مقتضى الحال كهذه الجملة الوحشية من تاريخ الشهداء الأوائل
الذي يشبه الأساطير، تلقيها على مسمع شيخ سطا عليه الكري
في مقعده ساعة القيلولة صبية من بنات ملجأ الأيتام لا تكاد
تجيد الهجاء. وأكبر الظن أن دوديه لم يبتدع هذه العبارة
ابتداعاً، وإنما اقتنصها أو اقتنص مثيلة لها على شفتي طفل
يتعلم القراءة في بعض كتاتيب القرية أو بعض زوايا الريف.
ثم بلى ذلك مشهد الاستجواب الطريف، والشيخ الذي
يوشك أن يهذي وهو يسأل الفتى الزائر عن لون ورق الغرفة
التي يسكنها حفيدة العزيز. . . ثم تلك المأساة الرهيبة التي
تجري فصولها أمام الصوان العالي إذا تركب الشيخ نزعة
الكرم فيحاول إنزال زجاجة الشراب المعتق من مكانها القصي
على حين تقف زوجه مرتاعة تثنيه عن عزمه وهي باسطة
ذراعيها المرتعشتين لتسنده إذا هوى. . . ثم مشهد خروج
الشيخ مع الفتى معتمداً بقوته ووقوف الشيخة على باب الدار
تشيعهما في مقة. . . هذا كله، لابد أن الكتاب قد رآه بعينه
ذات يوم ثم وشاه بخياله الممراح ولدينا خير دليل على هذا
الخيال المبدع في الحوار الذي أدراه الفتى بين مهدى الشيخين
في السَحر، وخير دليل على مزج الواقع بالخيال في ملاحظته
أن الشيخين متشابهان غاية التشابه لا يميزهما إلا اختلاف
الملابس، أو مطالعته في ابتسامتيهما الذابلتين صورة باهتة
نائية لوجه حفيدهما العزيز، صديقه موريس.
ولقد طار صيت ألفونس دوديه بأقصوصته (عنزة السيد
سيجان) (نشرت (الرسالة) ترجمة لها في العدد التاسع من
السنة الأولى 1551933، فما من طفل فرنسي لا يعرف هذه
القصة ولا يرويها لك؛ وإنك لتسمعها منه في شغف؛ ويروقك
أن تستعيدها من حين إلى حين. ومع ذلك فليس أيسر من
تلخيصها في سطر واحد: عنيزة كرهت الحظيرة والقيد
فانطلقت إلى الجبل حيث أكلها الذئب. ولكنها آية من (السهل
الممتنع) لا شك تعجز عن تدبيج مثلها الأقلام المرتفعة
الكبيرة. وإنها لتحقيق طيب لقولة راسين: (ما الفن إلا خلق
شئ من لا شئ).
وإذا ضاق المقام عن استعراض روائع التفاصيل في كثير من قصص دودية الممتازة، فلن نستطيع أن نهمل حديث دودية نفسه عن (الأشياء الصغيرة) وأسلوبه في النظر إليها - فهو يقول في سياق قصة شجية، خالية تمام الخلو من الأحداث، جعل عنوانها عبارة صاحبه (بثلاثمائة ألف فرنك وعدني بها جيراردان. . .):
(هناك آلام غريبة عنا، لا تربطنا بها وشيجة، ولا نلمحها إلا مصادفة، ونحن نعبر مكاناً ما، في دقيقة، أثناء سعينا الحثيث وخلال زحمة الشارع. . . تلك أجزاء من أحاديث متقطعة يتبادلها اثنان بين اهتزازات مركبة؛ هموم عمياء تتكلم وحدها، وبصوت مرتفع؛ كتفان مكدودتان؛ حركات مجنونة؛ عيون محمومة؛ وجوه شاحبة منتفخة من الدموع؛ أو أحزان حديثة العهد لم يحسن أصحابها كفكفتها في طيات ما يتدثرون به من سواد. . . ثم، أشياء صغيرة، تفاصيل خاطفة، ويالها من توافه! زيق رداء، أطالت الفرشاة حَتَّه، بالٍن يلتمس الظل. . صندوق من صناديق الطرب والموسيقى، تحت باب مسقوف، تديره يد متسول ولا يُخرج صوتاً. . شرط من المخمل في عنق حدباء، مشدود في قسوة، محكم العقدة مستقامها بين الكتفين الشائهتين. . . وتمر بك جميع هذه المناظر، مناظر البلايا
المغمورة مراً سريعاً، وتنساها وأنت سائر. . ولكنك في آخر النهار تشعر بدبيب كل ما في نفسك من التأثر والرثاء والمضض لأنك دون أن تدري، قد علقت، عند منعرج طريق أو أُسكُفّة باب بهذا الخيط غير المنظور الذي يربط تلك البلايا معاً، ويرجها جميعاً إذا اهتز هزة واحدة).
وكان ألفونس دوديه ممن يشكون قصر البصر. ولعل لهذه العاهة أثراً في عنايته بكل شئ صغير. فإن الرجل المرهف الحس الذي لا تستطيع عينه أن تلم من بعيد بجميع خطوط المنظورات، يحرص دائماً على أن يقترب من الأشياء، ويحدق في كل شئ من كل ناحية، وينتهي به الأمر إلى أن يسجل للمرئيات صوراً أدق وأصدق وأروع من الصور التي نلتقطها نحن بعيوننا السليمة. أضف إلى ذلك ما رأينا من اندماجه في زحمة الشارع واعتزاله في برج الشاعر (راجع عدد 846 من (الرسالة). ولقد كان أديبنا الساحر ينشد سيكون الريف أو الشاطئ أو الصحراء كلما دار رأسه في باريس، وكان يعي نعمة العزلة التي فيها تصفو ملكة الناظر وتصفو أحلام الشاعر وتصفوا عبارات الكاتب.
يقول برجسون، وهو خير من فطن إلى معنى الفن وغايته وعلاقته بالحياة: (لقد انسدل بين الطبيعة وبيننا، بل بيننا وبين إدراكنا، حجاب صفيق عند عامة الناس، رقيق ويكاد أن يكون شفافاً عند الفنان والشاعر. فالناس لابد أن يعيشوا، وأن يكسبوا قوتهم، والحياة تقتضينا أن نقدر الأشياء تقديرا مبنياً على مدى صلتها بحاجاتنا. فنحن لا نقبل من تأثير الأشياء علينا إلا التأثير النافع لنا، ثم نلبي هذا التأثير بأعمال هيرد فعل خاص، أما التأثيرات الأخرى للأشياء فإننا لانفعل، ولابد أنها تظلم وتعتم ولا تبلغنا إلا غامضة مبهمة مشوشة.
أنا أنظر وأظن أنني أرى، وأصغى وأظن أنني أسمع، وأختبر نفسي وأظن أنني أقرأ ما سطر في أعماق قلبى، على حين أن ماراه وما أسمعه من العالم الخارجي ليس إلا تستخلصه حواسي لإرشاد سلوكى، وعلى حين أن أعرفه عن نفسي ليس إلا ما يطفو على سطحها وما يشترك بنصب في حياتي العملية. . . لقد صنفت الأشياء تصنيفاً غايته مقدار الفائدة الذيأستطيع أن أصيبه منها. وهذا التصنيف هو الذي أراه أكثر مما أرى ألوان الأشياء وأشكالها. . إن شخصية الأشياء والكائنات تغيب عنا ما دام لا يعود علينا تمييزها
بنفع مادي. فإذا لاحظناها فلن تكشف عيننا شخصية الشيء أي هذا الاتساق الخاص من الإشكال والألوان، هذا الاتساق الأصيل كل الأصالة، وإنما تكشف واحدة أو اثنتين من الملامح التي تيسر لنا معرفة الشيء عمليا.
جملة القول أننا لا نرى الأشياء نفسها، وإنما تقتصر في أكثر الأحيانعلى قراءة بطاقات ملصقة عليها. وقد قوبت هذه النزعة، وهي وليدة الحاجة، تحت تأثير اللغة. . . فاللفظ الذي لا يسجل من الشيء إلا وظيفته العامة الشائعة ومظهره الغليظ المبتذل، يندس بين هذا الشيء وبيننا فيقنع شكله عن عيوننا، إن لم يكن ذلك الشكل قد احتجب من قبل وراء الحاجات التي خلقت اللفظ نفسه).
ويخلص برجسون من هذا إلى أن الفنان نفس منقطعة عن الحياة، لا هذا الانقطاع المقصود المدبر المعتمد، وإنما هو انقطاع طبيعي راجع إلى خليقة الحس، يغمر الفنان في حياة روحية خالصة كالأحلام والرؤى، وتظهر آثاره مباشرة في أسلوب البصر والسمع والتفكير بما يزيح الرموز والكنايات والعموميات ذات النفع المادي ويوقفنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة. . .
ولألفونس دوديه صفحات كثيرة تصل إلى هذه الطبقة، حسبنا هنا أن نقتبس فقرة قصيرة من حديث الراعي البروفنسى الذي بات يروى أساطير (النجوم) لابنة سادته. أنه يشعر شعوراً ساحراً فوق الجبل، فهو يعرف ما الذي يجرى فيها أحسن مما يعرفه أهل السهل). وهو مع ذلك لا يتكلم إلا كلاما ساذجا (لو أتيح لك تقضى الليل ساهراً؛ لعرفت أن في الساعة التي نرقد فيها، يستيقظ عالم سحري يعمر العزلة والسكون. هناك تغنى الينابيع غناء أصفى وأجهر، وتوقد الغدران جذوات صغاراً، وتذهب جميع الأرواح الهائمة في الجبل وتجيء حسرة طليقة؛ وإذا أنت تحس في الهواء خفيفاً وأصواتاً خفيضة لا تكاد تدركها الأذن، إن النهار دنيا الأحياء، أما الليل فحياة الأشياء).
وقد عاش دوديه مع الأشياء الصغيرة، بل عاش فيها وعاشت فيه، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمات. هو ذا يصف أياما قضاها على شاطئ كورسيكا فيقول: (كنت إذا لم تعصف المسترال أو ريح الشمال آتي فأستلقي بين صخرتين قائمتين في مستوى سطح الماء، وسط الحمائم والشحارير والسنونو، وأكاد أقيم النهار كله على هذه الحال من الشرود والاعتلال
اللذيذ الذي يغدقه تأمل البحر. ألا تعرف هذه النشوة العذبة التي تغمر النفس؟ هناك لا يفكر المرء، ولا يحلم، وإنما يشرد كل كيانه، ويطير، ويتشتت. فإذا، أنت هذا الطائر الذي يغطس في الماء، وإذا أنت رذاذ هذا الزبد الذي يطفو في نور الشمس بين موجتين، وإذا أنت ذلك الدخان الأبيض الذي يتصاعد من تلك السفينة التي تبتعد، وإذا أنت هذا الزورق الصغير الأحمر الشراع، وأنت هذه اللؤلؤة من الماء، وهذا الغشاء من الضباب، أنت كل شىء ما عدا نفسك. . .)
وقد يكون من العبث الطريف أن تحاول إحصاء كلمة (الصغير) في كتاب من كتب دوديه. إنها تتردد مراراً في الصفحة الواحدة، بل في الفترة الواحدة. . . ولكن الحياة المادية الحديثة التي أصبح المرء لا يبحث فيها إلا عن الكسب، والمتعة القريبة المباشرة، وقد أنهت بالحس الإنساني إلى التبلد والمجون، وصرفت النفوس عن الأشياء البعيدة والأشياء الصغيرة صرفاً يكاد يصل إلى إنكار وجود هذه الأشياء. . . على أننا نستطيع أن نستعير من منطلق المادية الغليظة دفاعا عن الشيء الصغير: فتلك البذرة الضئيلة التي لم تستوقف عينك لحظة هي التي أنبتت هذه الدوحة العظيمة التي تروعك بجذعها الضخم وأغصانها الملتفة، وزهرها الوضاح وثمرها الغزير؛ وبعض الغدد الصغيرة التي كان يجهل الطب القديم مكانها من جسم الإنسان أضحت اليوم في ضوء الطب الحديث أهم وظيفة وأخطر شأنا من الأعضاء الكبيرة الشهيرة؛ بل حسبنا أن نذكر أن عصرنا هو عصر (الذرة). . .
يرحم الله جوته فقد قال عن الشاعر إنه (من يستخلص المعنى الرفيع من الشىء الوضيع)؛ ويرحم الله ألفونس دوديه، فقد كان يقول لابنه ليون:(إن للاشياء معنى، مكانا نستطيع أن نمسكها منه).
أنور لوقا
مدرس منتدب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوى
قضية الأمانة العلمية بين أستاذين في الجامعة:
. . . . . . . . .
هذه القضية يعرضها علينا الدكتور جمال الدين الشيال مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة فاروق، أما موضوعها فيدور حول محور الأمانة العلمية كما يفهمها الجامعيون طلاباً وأساتذة، وكما يجب أن يفهمها الرأي العام الفني ممثلا في طبقات المثقفين ممن يقرئون (الرسالة)، وهذه هي المحكمة التي نود أن نعرض عليها أدوار القضية، القضية التي يريد الدكتور الشيال من جهته أن يتقدم بها إلى ساحة القضاء مطالباً بحفظ حقوقه الأدبية والمادية. . . ونترك الدكتور الشيال يروى فصول القصة، ونرجى، التعقيب حتى نهيئ بهذا الإرجاء فرصة الرد للدكتور محمد فؤاد شكري أستاذ التاريخ الحديث المساعد بجامعة فؤاد:
(في إبريل سنة 1945 تقدمت إلى جامعة فاروق الأول برسالة عنوانها (تاريخ الترجمة في مصر النصف الأول من القرن التاسع عشر) أرخت فيها - ولأول مرة - لحركة النقل عن الغرب في عهد الحملة الفرنسية وفي عصر محمد على، وقد نوقشت هذه الرسالة أمام لجنة مكونة من الأساتذة: عبد الحميد العبادي بك، ومحمد شفيق غربال بك، والدكتور محمد مصطفى صفوت الذين أجازوها لدرجة الماجستير مع مرتبة الشرف الأولى. . . ثم تقدمت بهذه الرسالة إلى مسابقة البحث الأدبي لسنة 1946 التي عقدها المجمع الملكي للغة العربية ففازت بالجائزة، وكانت اللجنة التي قرأت الرسالة وأقرت أحقيتها بالجائزة تتكون من الأساتذة: المرحوم أنطون الجميل باشا، ومحمد فريد أبوحديد بيك، ومحمد أحمد العوامري بك، والدكتور إبراهيم بيومي مدكور.
وفي صيف سنة 1947 زارني في منزلي بالإسكندرية الدكتور محمد فؤاد شكري أستاذ التاريخ الحديث المساعد بجامعة فؤاد، وطلب مني أن أعيره رسالتي ليطلع عليها فبينت لحضرته أنني لا أملك إلا نسختي الأولى المخطوطة بيدي وقدمتها إليه بكل ترحاب، فأخذها معه، وأبقاها عنده أكثر من عشرة أيام قرأها كلها في خلالها، ثم أعادها إلي فلم
يجدني بالمنزل فسلمها لمن به ومعها بطاقة باسمه - لازلت أحتفظ بها - قال فيها بالحرف الواحد:
(أهنئك على هذا المجهود العلمي الصادق، وأرجو أن تتاح لك الفرصة لنشر هذه البحوث القيمة حتى يفيد منها المشتغلون بتاريخ مصر الحديث، وأشكرك بإعطائي هذا البحث الرصين لقراءته والإفادة منه، وأرجو أن أتمكن من زيارتكم في فرصة قريبة أخرى لإسداء الشكر الخالص).
وفي صيف سنة 1948 ظهر كتاب جديد في 840 صفحة من تأليف الدكتور شكري وزميلين له من المدرسين في المدارس الثانوية، وعنوان الكتاب:(بناء دولة - مصر محمد على) وقرأت في الصحف أن الكتاب يتضمن ترجمة كاملة لكثير من تقارير الأوربيين عن حكومة محمد علي، أمثال بورنج وبوالكمت وكامبل. . ولحاجتي الدائمة لهذه التقارير أسرعت فاشتريت نسخة من الكتاب. وتصفحتها فإذا بها تتكون من قسمين: قسم مؤلف في نحو 200 صفحة، وقسم يحتوي الترجمات السابق ذكرها في 600 صفحة، وقلبت صفحات القسم المؤلف فإذا بي أجد فصلاً في عشرين صفحة كبيرة عن (الترجمة والطبع والنشر في عصر محمد علي)، وقرأت هذا الفصل فرأيت ويا لهول ما رأيت، رأيت الصديق والزميل الفاضل أستاذ التاريخ الحديث المساعد قد سطا على رسالتي سطواً تاماً فلخصها في هذا الفصل تلخيصاً كاملاً!!
حتى المنهج - منهجي في البحث - قد سطا عليه فقد ألتزمه عند التلخيص وتتبع أبوابه وفصوله باباً باباً وفصلاً فصلا، لم يحد عنه قيد أنملة: فهو قد بدأ بالكلام عن بواعث حركة الترجمة في عصر محمد علي، وانتقل إلى الحديث عن المترجمين فقسم إلى مترجمين من السوريين، ثم من خريجي المدارس والبعثات، ثم من خريجي مدرسة الألسن، ثم من الموظفين. . . تماماً كما فعلت.
وترك هذا الفصل إلى الفصل الذي يليه في رسالتي وموضوعه التحدث عن المحررين والمصححين، فإذا فرغ منه انتقل إلى الحديث عن القواميس والمعاجم كما انتقلت أنا، وترك هذا كله فتحدث كما تحدثت عن حركة الطباعة والنشر باعتبارها آخر مرحلة من مرحلة من مراحل حركة الترجمة. . . حتى الملاحق - ملاحق الرسالة - لم يتركها لي،
فقد ألحقت بالرسالة مجموعة كبيرة من الجداول أحصيت فيها بعد جهود شاقة الكتب التي ترجمت في عصر محمد علي، مع بيانات وافية عن مؤلفيها ومترجميها وأوصافها الخ، وقد قدمت لهذه الملاحق بالحديث عن المحاولات التي سبقتني في هذا الميدان، ورتبتها ترتيباً تاريخياً مع بيان نواحي القصور فيها لإيضاح قيمة الجديد في جداولي، وقد سطا الدكتور شكري على هذاأيضاً فأثبته تماماً كما أوردته في رسالتي!
ومن هنا ترى أن الدكتور شكري قد سطا على الرسالة منهجاً وموضوعاً، وإذا أنت قارنت بعد ذلك بينها وبين فصله لتبين في وضوح تام أنه لم يسلط على المنهج والأفكار فقط، وإنما قد سطا على العبارات والألفاظ كذلك، فنحو 80 % من عباراته هي عباراتي بألفاظها وحروفها. ومع هذا كله لم يشر حضرته بحرف واحد - لا في الهامش ولا في قوائم المراجع على كثرتها البالغة في نهاية الكتاب - إلىّ أو إلى رسالتي، لا بشكر ولا بما يفيد رجوعه إليها واعتماده عليها وحدها اعتماداً كاملاً تاماً عند كتابة هذا الفصل. . . وهكذا ترى كيف يقيم أساتذة الجامعة لواء الأمانة العلمية!!
سلسلة من الأخطاء: هذه رسالة علمية لم تطبع بعد، فالنقل عنها والرجوع إليها يستلزم أن يستأذن صاحبها أولا، والدكتور شكري لم يستأني في هذا، مع أن التقاليد الجامعية في العالم كله تلزم الناس بهذا، فكل بحث يقدم إلى أي جامعة تودع نسخة منه في مكتبتها، ولكن هذه النسخة تظل عشرة سنوات كاملة - مادامت لم تطبع - ولا يمكن أن تعار لإنسان كائناً من كان إلا بإذن صاحبها الخاص، وإذا اطلع عليها مطلع وأراد النقل عنها في مؤلف له سيطبعه فلابد أن يستأذن صاحب البحث في هذا، بل أنني أعرف كتباً استعمل أصحابها صوراً - صوراً شمسية لا أفكاراً - موجودة في كتب المؤلفين آخرين، فاستأذنوا أصحاب هذه الصور، ونصوا في كتبهم على هذا مع تقديم الشكر لأصحاب الصور!
أما الخطأ الثاني فأغرب، فالمعروف أن المؤلف إذا أفاد من جهوده غيره نقل عنها فكرة أو جملة، أما أن يسطو على مؤلف بحاله فيلخصه تلخيصاً كاملاً، وينقل معظم عباراته بحروفها فأمر لم أره إلا في كتاب الزميل الدكتور شكري!. . . أما الخطأ الثالث فأغرب وأغرب، فالمعتاد إذا استشهد المؤلف بأقوال غيره أن يضعها بين أقواس وأن يشير إلى المرجع في الهوامش، وأن يقدم الشكر لمن ينقل عنه وخاصة إذا كان مرجعه الوحيد في
الموضوع الذي يكتب عنه، والزميل الفاضل الدكتور شكري أهمل الإشارة إلى بحثي إهمالاً تاماً. . . قد يدعى حضرته بعد هذا أنه نسي أو تناسى، أما كان يمكن أن يذكر نسيانه بالإشارة السريعة في آخر صفحة من الكتاب أو في المقدمة، وهي آخر شىء، قدمه إلى المطبعة، حتى هذا لم يفعله، ولكنه قال في مقدمة كتابه:(وليس من سبيل إلى معالجة هذا الاضطراب إلا بمعاودة النظر في ذلك التاريخ (تاريخ محمد على) لكشف ما خفي من حقائقه، وتفصيل ما أجمل من دقائقه في حدود الأمانة العلمية). . . أجل، في حدود الأمانة العلمية كما يقول الدكتور شكري، وأقرأ معي واضحك، وشر البلية ما يضحك!!
وأخيراً لعل الشك يساورك فيما أقول، ولكنني أعلن إليك أنني أحتكم في هذا الموضوع إلى حضرات الأساتذة الإجلاء الذين ناقشوا الرسالة في الجامعة، والذين رشحوها لنيل الجائزة في المجمع، فهم جميعاً قرءوها قراءة فهم واستيعاب، وأمامهم كتاب الدكتور شكري يقرئونه ويقارنون. . وأني على استعداد لأنأقدم نماذج من المقارنات، بين نصوص رسالتي الأصلية ونصوص الدكتور شكري الملخصة لتتبين في وضوح صدق هذا الذي أقرره! وقد فكرت جدياً في رفع الأمر للقضاء محافظة على حقوقي الأدبية، ولكنني رفقت أخيراً بسمعة الدكتور شكري العلمية، وآثرت أن أكتب إلى عميد كلية الآداب والدكتور شكري أستاذ من أساتذة الكلية، وغاية ما أرجو أن يطلب إليه الأستاذ العميد:
1 -
أن ينشر تصريحاً موقعاً عليه منه في الأهرام ومجلة الرسالة ومجلة الكتاب بنص فيه صراحة أنه اعتمد - عند كتابة هذا الفصل من كتابه - على رسالتي اعتماداً كلياً، ويعتذر عن عدم الإشارة إلى ذلك في هوامش الكتاب ومراجعه.
2 -
أن يكتب لي كتاباً خاصاً يذكر فيه هذه الحقيقة ويعتذر عما فعل.
(دكتور جمال الدين الشيال)
هذه هي الحقيقة كما يعرض أدوارها علينا الدكتور الشيال، ومن حقه علينا أن نعرضها بدورنا على محكمة الرأي العام الغني، كما أن من حق الدكتور شكري عليناأيضاً ألا نتناوله بكلمة واحدة في مجال التعقيب على ما حدث، حتى نسمع دفاعه. . . وهذا هو الإنصاف الذي تفرضه علينا (الأمانة العلمية) بالنسبة إلى الأستاذين الفاضلين!
حول الموسيقار الإيطالي الصغير فيرونشكو بوركو:
طفل إيطالي لم يتخط الحادية عشرة من عمره، ومع ذلك فهو يفهم النوتة الموسيقية كما وضعها كبار الأساتذة، ويؤديها أنغاماً كأدق ما يكون الأداء، وتعي ذاكرته النادرة وذوقه الموهوب ألحان العباقرة من أمثال بتهوفن وموزار وشوبير وفردى وروسينى وتشايكوفسكى وبرامزوليست. . . وهو بعد ذلك يقود فرقة موسيقية مكونة من ستين عازفاً من أشهر عازفي الموسيقى في العالم. هذا الطفل النابغ هو فيروتشوبوركو الذي أذهل بنبوغه المبكر أقطاب الفن في كل من إيطاليا وسويسرا وفرنسا وأمريكا، والذي حل ضيفاً على مصر منذ أيام تصحبه فرقته الموسيقية الضخمة ليقيم فيها بضع حفلات موسيقية يترقبها الجمهور باهتمام بالغ!.
ينحدر هذا الموهوب الصغير من صلب أبوين وهبا حياتهما للفن ونذرا له الإبن؛ فأمه مغنية من مغنيات الأوبرا بذرت في نفس وليدها بذور الموهبة الفنية عندما كانت تصحبه معها إلى المسارح وعمره سنتان ونصف، وهناك أخذ الطفل بسحر الموسيقى التي استولت أنغامها على مشاعره وهزت كل ذرة في كيانه، ولمح المحيطون به بوادر النبوّغ في أذنه الموسيقية وإحساسه المرهف، فأشاروا على أمه المغنية وأبيه المثال أن يدفعا به إلى من يتعهده بالتوجيه والرعاية، وفي ظل أستاذه درس الطفل أصول الفن الموسيقى حتى أَصبح على مر الأيام أعجوبة بهرت الأنظار والأسماع هنا وهناك!
هذا هو الموسيقار الإيطالي الطفل فيروتشوبروكو الذي تنافس شهرتهالآن شهرة الموسيقار الإيطالي الشيخ توسكانينى. . . وإذا كان لنا من كلمة نعقب بها حول هذا الموسيقار الصغير فهيأنه يقتصر على عزف موسيقى غيره من عباقرة الفن الذين أشرنا إليهم في بداية هذه الكلمة أي أنه لم يمتلك القدرة بعد على التأليف الموسيقى الذي يتمثل في وضع نوتة من صنع موهبته الذاتية، ولكن ذلك لا يغض من قيمته لا يزال في بداية حياته الفنية التي تنتظرها الأيام ويرتقبها المستقبل، ثم إن توسكلنينى الشيخ ذا الشهرة المدوية والمكانة الرفيعة لا يفترق عنه في هذا المجال، مجال قيادة الأوركسترا وعزف ألحان الغير!. . . وإذا كان بعض النقاد يشيدون بهذه العبقرية المبكرة في حياة هذا الطفل الفنان، فماذا يقولون في سيد العباقرة موزار، ذلك الفنان الذي وهب القدرة على التأليف الموسيقى وهو في الرابعة من عمره، حتى أن بعض ألحانه الخاصة التي تنسب إليه وهو في تلك السن يعزفها
الآن كثير من قادة الفرق الموسيقية وفي جملتهم بور كووتوسكانينى؟! هنا يقام الميزان الحق للعبقرية المتفردة!!
بقية الرسائل في حقيبة البريد:
أقول لصاحب الرسالة الأولى الأديب الفاضل ص. م. ت (عطبرة - سودان) إن الموضوع الذي عرضته علىّ سأكتب عنه في فرصة مناسبة. وأقول لصاحب الرسالة الثانية الأديب الفاضل عمر عيسى السامرائي (بغداد - العراق) إن تعقيبك على ما رددت به عليك حول ما جاء بكتاب (على هامش السيرة) لا يغير شيئاً من الحقيقة التي أشرت إليها من قبل، حين نفيت لك ما رميت به صاحب الكتاب من التناقض في أقواله، وإذا كنت قد قلت إن ورقة قد قص على نسطاس قصة أخرى في ص (52) فإنما كنت أعنى أنه قد أفضي إليه بمصدر القصة الأولى الواردة في ص (51) أي أنه سرد له قصة أخرى هي قصة القصة! وأقول لصاحب الرسالة الثالثة الأديب الفاضل م. س (قنا) إن الأقدام على الأمر الذي حدثني عنه خير من الأحجام وأقول لصاحب الرسالة الرابعة بعد شكره على كريم تقديره وهو الأديب الفاضل إبراهيم جوهر (قنا) أنه يؤسفني ألا تكون (مذكرات إديسون) بين يدي حتى كان يمكنني أن أجيبه عن سؤاله. وأقول لصاحب الرسالة الخامسة الأديب الفاضل محمد العديسي (العديسات) إن مما يحول بيني وبين الكتابة عن الشاعر المصري الذي أشار إليه هو أنه ليس بين يدي شيء من شعره. وأقول لصاحب الرسالة السادسة بعد شكره على حسن ظنه وهو الشاعر الفاضل محمود البكري محمد (الكيمان) إن رسالته محل عنايتي. كما أقول ذلك أيضاً لصاحب الرسالة السابعة وهو الشاعر الفاضل محمد مفتاح الفيتورى (الإسكندرية). . . ولهؤلاء الأصدقاء جميعاً خالص التحية.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس
اليوم خمر:
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الحالي يوم السبت الماضي على مسرح الأوبرا الملكية، برواية (اليوم خمر) للأستاذ محمود تيمور بك، وقد أخرجها الأستاذ زكي طليمات المدير الفني للفرقة. وهي مسرحية (كوميدية) تصور حياة الشاعر امرئ القيس شابا لاهياً سادراً في لهوه وعبثه نزاعا إلى حياة الطلاقة والتحرر مما يعرض له من الأمور الجسام، حتى الحب الذي أثقله في النهاية بثلاث نساء، لم يستطع أن يواجهه ففر منه. . .
وتمازح عرض تلك الشخصية صور إنسانية وقيم أخلاقية واجتماعية وقضايا فكرية، تتخلل كل ذلك مفارقات وطرائف أضفت على جو المسرحي روحا فكها مرحا، جعلها ملهاة من الأدب الرفيع.
وقد قرأت هذه المسرحية عند ظهورها مطبوعة منذ شهور، ثم شاهدتها على المسرح، فلاحظت أن المخرج الأستاذ زكى طليمات تصرف فيها تصرفا غايته الاختصار لطولها، وتيسير بعض كلماتها توخيا للملاءمة بينها وبين الجمهور، فقد وضعها المؤلف لتكون أثراً أدبياً يقرأ قبل أي شيء، وقد جعل أسلوبها قريباً من عصرها ولم يبعد عن ذوق عصرنا، ومع هذا كان لابد من أن يصنع المخرج ما صنع، وهو مع ذلك لم يمس الأسلوب المتين والتركيب القوى. وقد بذل الأستاذ زكى طليمات من فن الإخراج في هذه المسرحية ما جعل الفن الرفيع يتعاون مع الأدب الرفيع، وما أظن هذا القول يتعارض مع ما سأتناوله بعد من الملاحظات والمآخذ.
تتكون المسرحية من خمسة مشاهد، نرى في الأول امرأ القيس وحاشيته من رفاق وخدم عند غدير دارة جلجل، يلهون ويقصفون ثم توافيهم هناك الجارية الجميلة (أقحوان) حيث تلتقي بامرئ القيس لأول مرة، وترقص أقحوان قربانا للصنم (هبل) الذي يتوسط المكان، ثم تأخذ هي وامرؤ القيس في مداعبة ومنازلة تنتهي بغضب أقحوان من امرئ القيس لانصرافه عن تقبيلها إلى إطراء عينيها ثم التوجه إلى مناجاة القمر في السماء، وتنصرف بعد أن تقول لرفاقه: إن صاحبكم ليتشدق بالطعن والضرب، آخذاً للحرب أهبتها في كل
وقت، فإن حانت ساعة العراك تبوأ مقعده يرقب السماء ويحصى نجوم الليل. وهكذا تظهره هراجا نفاجا ليس كمثله هراج ولا نفاج، كما تقول له.
ثم يقبل سرب من العذاري، قاصدات غدير دارة جلجل يبتردن، فيخلون لهن المكان، ثم يتسلل إليهن امرؤ القيس وحده وقد خلعن ثيابهن - يطفأ نور المسرح في هذه اللحظة - ويجرى بينه وبينهن حديث طريف ينتهي بإصراره على ألا يدفع إليهن ثيابهن - وقد استولى عليها - إلا بعد أن يخرجن إليه متجردات.
ثم يقبل الملك حجر وبصحبته فاطمة بنت أخيه، فيؤنب الوالد ولده على مسلكه وتحاول فاطمة أن تلطف من حدة الموقف ونتبين في أثناء ذلك أن فاطمة فتاة طموح تريد أن تحث امرأ القيس على الأخذ بأسباب المجد، وهما يتبادلان عبارات الحب والمودة.
وفي المشهد الثاني نرى امرئ القيس في ناحية من سفح جبل دمون باليمن، يلعب بالشطرنج مع أحد أصحابه، وبقية رفاقه على مقربة منه يشربون الخمر وأمامهم قينة ترقص. ثم يقبل عامر ابن معاوية عضد الملك حجر، متهجم الوجه، وينعى إلى امرئ القيس أباه الملك، فيستمر امرؤ القيس في اللعب غير عابئ بالنبأ، حتى يتم الدست. . . ثم يعلن أن اليوم خمر وغداً أمرّ، وينشد:
خليلي ما في اليوم مصحى لشارب
…
ولا في غد إذ ذاك بالكأس نشرب
وتدخل عليه فاطمة وتستحثه على الثأر من بنى أسد قتلة أبيه، فيبدى لها عزمه على المضي في أخذ الثأر. ثم يأخذ في تأمل عينيها وهو ثمل يترنح، فتصده عنها، فيبثها حبه، فتعده بمبادلته الحب بعد أخذ الثأر.
وقبل المشهد الثالث نرى على المسرح منظراً عجبا: سحبا متكاثفة تسير في جو البادية، ونسمع خلال سيرها صوت الأستاذ زكى طليمات يحدثنا حديثاً موجزاً عن حروب امرئ القيس مع بنى أسد وانتصاره عليهم وإيقاعه بهم، وعودته إلى الشرب واللهو
بعد ما نال منهم ماعده ثأراً، وتحريض ابنة عمه فاطمة له على الاستمرار في حروبهم.
والواقع أن هذا الحديث إجمال لما حدث في فصل حذف من أصل الرواية، وكان ذلك، مع منظر السحب الملائم للحوادث، تجديداً رائعاً في المسرح المصري.
ثم يأتي المشهد الثالث وهو في كهف بشمال اليمن حيث يجلس امرؤ القيس مهموماً، ينتظر
عامر بن معاوية الذي أرسله إلى رؤساء القبائل يستنجد بهم، بعد أن خذلته قبيلتا بكر وتغلب ولحقته الهزائم، وتقبل عليه فاطمة، فيغلظ لها في القول، ولكنها تحزن لمرآه وتتود إليه وتعبر عن ندمها على تحريضه حتى أوقعته في هذه الحال، وتنقلب إزاء تجهمه لها أنثى وديعةمحبة مستسلمة، وما تزال به حتى يلين لها ويعاهدها على الحب. ويقبل عامر وينهي إليه أن أحداً لم يستجب له، ثم يشير عليه أن يتوجه إلى الحارث الغساني بالشام ليستعين به، وهو عدو المنذر الذي أعان بنى أسد وأهدر دم امرئ القيس.
ولكن صديقا لامرئ القيس (صمصام) عاد من رحلته التجارية وأقبل عليه في هذا الموقف، فأشار بالتوجه إلى قيصر بالقسطنطينية، ويقول فيما يقول لامرئ القيس إنها عروس المدائن وتزخر بالحسان والخمر المعتقة. . . ويعلن الرحيل إلى القسطنطينية.
والمشهد الرابع في حانة ميخايلوس بالقسطنطينية حيث نرى أبا زبيبة وحنظلة خادمي امرئ القيس يشربان ويغازلان لاريسكا ابنة ميخايلوس ومينورقا الفتاة الخليعة بالخانة. ويظهر لنا من الحديث أن لاريسكا قد أحبت امرأ القيس، وأن المدينة تردد نبأ العلاقة الجديدة بين الفتى العربي (قيس) وبين ابنة القيصر التي أحبته. ويقبل امرؤ القيس إلى الحانة. وفيما هو ولاريسكا يتبادلان عبارات الحب يقدم عامر بن معاوية وفاطمة، فتنصرف لاريسكا وتتسمع حديثهم الذي يتضمن أن كسرى مستعد أن ينصر امرأ القيس الذي يتأبى أن يلجأ إلى عدو قيصر بعد وعده المعونة على أمره.
والمشهد الخامس في الحانة أيضاً، وبينماحنظلة يغازل مينورقا يقبل امرؤ القيس، ثم تقبل فاطمة وعامر وصمصام، وتقدم ابنة القيصر لتلوم امرأ القيس على غشيانه هذه الحانة الوضيعة. ويقف امرؤ القيس بين ثلاث محبات يتنازعه: فاطمة وابنة القيصر ولاريسكا. وفجأة يدخل صاحب شرطة قيصر يريد القبض على هؤلاء البدو بتهمة التجسس لكسرى. ويتضح أن لاريسكا هي التي أبلغت أمرهم، لتحول دون رحيل امرئ القيس ويتصدى امرؤ القيس للشرطة ويأبى أن يسلم فاطمة وعامر وصمصاماً، ويستل سيفه وتدور بينه وبين الشرطة معركة يقضى عليهم فيها، ويصيحأهله أن يقفزوا من على سور الحانة إلى البحر ويلحق بهم، يطلبون في البحر مهربا.
الصورة الواضحة لامرئ القيس في الرواية هيأنه فتى عابث ما جن نفاج لا يعرف الجد
ولا يتحمل التبعات، ولكن امرأ القيس (الشاعر) لا يكاد يوجد فيها. نعم إنه أنشد أقحوان بتين، وروى خادمة أبو زبيبة الأبيات التي مطلعها:
سموت إليها بعد ما نام أهلها
…
سمو حباب الماء حالاً على حال
وأنشد بضعة أبيات بالمشهد الثالث. ولكن كان ذلك ضئيلا لا يكون للشاعر صورة، وقد حذف جزء من الفصل الأول كان فيه ينشد أبياتاً ظريفة لعذارى الغدير. وكان هذا الجزء بسبيل إلى إبراز صفة الشاعرية. ومن تصرفات امرئ القيس القليلة الدالة على رقة الشاعر وإنسانيته، موقفه أمام الغزال الذي اصطاده وأسفه على أن صرعه وقوله في ذلك: ألا يستطيع المرء منا أن يأكل دون أن يقتل؟
ولم يكن تغزله بفاطمة ليلة نعى أبيه وهي مكتئبة حزينة باكية وإلحاحه في معابثتها ومجاذبتها على هذه الحال، مما يتفق والإحساس الدقيق النبيل الذي يتميز به الشاعر، بل كان هذا الموقف أدنى إلى الحيوانية، ولا يبرره السكر، فإن الإحساس الأصيل لا يتغلب عليه شيء. والطبع الفني الرقيق لا يخرجه العبث والمجون عن دائرة مشاعره الإنسانية العالية.
والفصل الثالث الذي اضطر المخرج إلى حذفه، كان يحتوى أمرين مهمين، أولهما بيان خلة امرئ القيس في حرصه على ألا يضيع حظه من اللهو والشراب طويلاً، فما إن من بنى أسد بعض النيل حتى هرع إلى اللهو وإباحة الشراب.
الأمر الثاني تصوير فاطمة وهي تجد في العمل على مواصلة القتال وتحريض امرئ القيس، وهذا التصوير ضروري لكي يدرك المشاهد روعة انقلابها عندما عرض عنها امرؤ القيس وأغلظ لها فإن هذا الانقلاب الشعوري لمعة في أثناء الحوادث يدل على حرص الأنثى على الناحية العاطفية مهما اشتدت وتطلعت إلى المجد. ولم يكن الحديث الموجز الذي نطق به الصوت المسموع كافياً لإبراز ذينك الأمرين.
وفي المشهد الثالث عندما يئس امرؤ القيس من مساعدة من استنجد بهم نراه يستغرق في تأملاته وتفكيره استغراق المجرب الذي عرك الحياة وعلمته الشدائد، فيتحدث عن تغير الأصدقاء، وعن قيمة الحياة وهل هي المتعة بإشباع البطن وقضاء الشهوة يستوي في ذلك الإنسان وغيره من الحيوان، أولها أهداف ومقاصد يسعى إليها كل ذي عقل ورشد،
ويتحدث عن القدر وموقف الإنسان منه حتى ينتهي إلى أن القدر لا يستطاع دفعه ولكن للإنسان تبعته ونصيبه، فللأقدار يد تدفع ولكن إرادة الإنسان تغالب. وقد كان هذا الموقف يثقل على المشاهدين لولا ما نخلله من مفاكهات الخادمين حنظلة وأبي زبيبة، فالأول يرى أن القدر هو كل شيء فقد رمى الوعل بأسهم عشرات فما أصابت منه مقتلاً، وشاء القدر أن يرتطم في حفرة فناله بلا كد ولا عناء. ويرى الثاني أن الإنسان إن لم تكن له إرادة لم يتيسر له مطلب، كيف استمتاعك بالمرأة إذا لم تسع جاهداً حتى يتبدل عسرها يسراً ويعود جماحها ميلاً وانعطافاً؟
وهكذا نرى تلك الأفكار تساق في مساق ظريف يندى جفافها على المشاهدين. ولكن في بعض الفترات خلا امرؤ القيس إلى نفسه وأطال في المناجاة حتى أمل. وحدث ذلك مرتين، أنهي الأولى دخول حنظلة، وأنقذ الجمهور في الثانية قدوم صمصام.
وقد كانت الخاتمة جيدة في أمر، ومضحكة في أمر آخر، فقد كان رائعاً ألا يتخلى امرؤ القيس عن أهله ويقف بالسيف دونهم على رغم إغراء البيئة التي أغرق فيها. أما القفز إلى البحر والهرب فيه مجاهره من قيصر وشرطته، فلا أستطيع أن أتصور عجز الحكومة القيصرية عن اللحاق بأربعة من البدو متهمين بالتجسس للعدو، يقلعون من شاطئ القسطنطينية أمام الأبصار.
وجهد الأستاذ زكى طليمات في إخراج الرواية بارز عظيم، وقد جسم الجو البدوى الملائم للحوادث على المسرح، ووفق في توزيع الأدوار على قدر الإمكان. . .
وقد مثل (امرأ القيس) أحمد علام، فنهض بالدور وإن لم يكن نجاحه فيه كاملا، وذلك أنه لم يعبر عن طبيعة امرئ القيس الماجنة، لا بالصوت ولا بالحركات، ولم يكن يظهر عليه المرح في وقته كما ينبغي أن يظهر، ولم يكن ثمة فارق كبير بين أحواله المختلفة في الإلقاء ونبرة الصوت، وأحمد علام أليق بالأدوار الجدية كدور مجنون ليلى منه بمثل هذا الدور العابث الماجن. وقد تبين كسله في حفظ دوره، وهذا الكسل وإن كان ملحوظاً لدى أكثر الممثلين والممثلات، إلى أنه كان ظاهراً في أحمد علام الذي يعتمد على الملقن حتى أنه كان ينطق بعض الجملة ويصغي إلى الملقن ليسعفه ببقيتها. ويبدو أن الممثلين والممثلات لم يمرنوا التمرين الكافي على سلامة النطق وتصحيح اللغة، فقد عم التكسير في
الكلمات وضبطها، ولم يكن ذلك منتظراً ولا لائقاً بأستاذ كأحمد علام.
ومثلت (فاطمة) فردوس حسن، فأجادت التمثيل وأدت دورها أداء باهراً، ولم ينقصها غير النطق العربي الصحيح، وهذا غير سلامة الضبط، إنما هو اللهجة وكيفية إخراج الكلمات، وأظهر ما في نطقها دغم الكلام وعدم الإبانة. ومن المفارقات أن اللائى مثلن لاريسكا (إحسان شريف) وميفورقا (زوزو حمدى الحكيم) وابنة القيصر (روحية خالد) كن ينطقن نطقاً عربياً - وهن يمثلن أعجميات - أحسن من نطق فردوس وهيتمثل فاطمة العربية.
أما فؤاد شفيق فأنا معجب به لظرفه وقدرته على أداء هذا الظرف باللغة الفصيحة، وهو روح نابض في الرواية، وقد مثل (حنظلة).
وقد وفق سائر الممثلين والممثلات في الاندماج في أدوارهم، وخاصة فاخر فاخر (صمصام) وكان حسن البارودي في دور (قبيصة بن نعيم) موفقاً في التعبير بصوته وإلقائه إلى جد بعيد، عندما تكلم عن وفد بنى أسد إلى امرئ القيس.
عباس خضر
البريد الأدبي
الوعي الأدبي في الرسالة!
1 -
يعجبني كتاب الرسالة وقراؤها الكرام، فهم بحق وبلا منازع تلك الفئة المستنيرة التي تتذوق الأدب وتتعشقه، وتتعرف فنونه وأساليبه، وتتفانى في خدمته، فلا عجب إذا رأينا ألا تفلت منهم صادرة أو واردة من القول، حتى يتعرفوا مصدرها ويسروا غورها، فهم تارة يظهرون عوار الكاتب إذا لحن أو زل قلمه فغزا قولا لنفسه ولم يرده إلى قائله، أو نقل فكرة أو قصة ونسبها إلى قلمه زوراً.
وهاهي أقلام كتابها تتبارى ولا تفتأ تذكر أن تلك الفكرة لفلان، أو أن هذه القصة من وضع فلان، أو أن هذا المقال قد نشر في مجلة كذا للمرة الثانية، حتى أصبحت الرسالة النيرة مضرب المثل في التثبت والتحقيق والتدقيق والأمانة الأدبية الممتازة، فهي لا تحابي صديقاً أو تغمط عدواً، لأن مركزها الأدبي يحتم عليها أن تقوم بالقسطاس، وهو الذي أهلها لتلك المنزلة الرفيعة بين زميلاتها. أكتب هذه الكلمة البريئة - والأسف يملأ النفس - إذ أنظر إلى مقال قد نشر مرتين في وقت واحد وفي قطر واحد تحت عنوانين مختلفين - وصلب المقال واحد لم يتغير - وذلك المقال قد نشر في مجلة الأزهر الرسمية في الجزء السادس ص555 من المجلد الثامن عشر تحت عنوان (على قيثارة الذكرى) ثم نشر في مجلة الأمانة في العدد السابع ص26 من المجلد الأول تحت عنوان (ليلة كاملية). وها قد مضى على نشر هذا المقال بصورتيه مدة طويلة وقراء الأزهر والأمانة في سبات لم يحرك أحدهم ساكناً، وفات الأستاذ الفاضل أن يشير إلى ذلك - حتى لا يعاتب أو يؤاخذ - على هامش أحد المقالين.
ولا أدري السبب الذي دعا فضيلة الأستاذ وهو عالم ومدرس بالأزهر إلى ذلك، بل ما سبب تغيير العنوان على هذه الصورة المريبة؟ نريد جواباً!
وبعد فنحن في عصر كثرت فيه الأقوال بلا ميزان، وقلت بل عزت الأفعال، وكثيراً ما تخطر الفكرة ويسطرها القلم ثم تحجم النفس عن إرسالها للنشر، حتى لا تكون حجة أمام الله سبحانه وتعالى.
على أن العبرة ليست بكثرة الكتابة والتحبير في الجرائد والمجلات على أية صورة، وإنما
تقاس قيمة الكاتب الناضج بمقدار ما ينتج مما يفيد قراءه في حياتهم العاجلة والآجلة، وإلا كانت الكتابة من الترهات التي هي وعدمها - في نظر العقلاء - سواء.
2 -
انقطعت الأخبار من مدة وزاد الحنين إلى الجار العزيز الأستاذ على الطنطاوي فهل نرى قلمه يصف (مأساة فلسطين) نرجو أن يفصح ويجيب مع قبول التحيات.
(شطانوف)
محمد منصور خضر
النم وليس البجعة:
يكثر فنانو الغرب من تسمية بعض أعمالهم الفنية باسم الطير المائي المعروف واعتبارهم إياه مصدر وحي لهم. ولعل السبب في ذلك هو أن لهذا الطير منظراً جذاباً، ومنه استوحى تشايكوفسكى رقصة ومنه استلهم تشيخوف تمثيليته ذات الفصل الواحد المعروفة ب (أغنية
ومما يثير الدهشة أن أدباء مصر وفنانيها قد أجمعوا على تعريب كلمة هذه ب (البجعة)، وهذا خطأ لغوى وفني كبيرلأنالبجعة هيغير
فالبجعة هي طائر مائيأيضاً لكنه عريض المنقار طويلة، له حويصلة عظيمة تحت منقاره، يخزن فيها كمية من الأسماك.
وأما الّتم فهو طائر مائي له عنق طويل معقوف على شكل حرف عادى المنقار، قصير اليدين وتقعان إلى القسم الخلفي من جسمه.
والتم طائر أبيض، أرستوقراطى الشكل، كان يعتبر في كثير من الممالك الأوربية طيراً ملكياً، ولا يحق لأحد غير الملك أن يقتنيه إلا بإذن ملكي خاص.
ومن التم طائر أبيض، أرستوقراطى الشكل، كان يعتبر في كثير من الممالك الأوربية طيراً ملكياً، ولا يحق لأحد غير الملك أن يقتنيه إلا بإذن ملكي خاص.
ومن التم ما يسمى بالمصفَّر فهو يصفر صفيراً ملحناً، ويشدو بأنغام جميلة جداً، ويشتد غناؤه إذا ما جرح أو وقع في ضيق.
يروى أهل الغرب أسطورة عن هذا الطير بقولهم أنه يغنى اللحن الأخير قبل موته، ومن
هنا جاء قولهم (أغنية التم) أى آخر عمل يقوم به الفنان وهو مشرف على أبواب الأبدية، ومن هنا جعل شكسبير أميليا تقول في (عطيل)(سأمثل دور التم وأموت في الموسيقى). فالبجعة هيطير والتم هو طير فهل لنا أن نميز بينهما؟. . .
(ليماسول - قبرص)
نجاتي صدقي
القصص
انهيار جدار
مترجمة عن الإنجليزية
بقلم الآنسة سلوى الحومانى
كان ضحى يوم من أيام نوار الضاحكة وقد أشرقت الطبيعة بابتسامة الربيع، فرفلت الحقول بحلته الزمردية المزركشة، وعبق الجو بأنفاس الزهور العطرة. وانطلقت الطيور صادحة تبنى أعشاشها على أفنان الشجر وبين العشب النامي في مرتفعات الأرض التي بدت بانحداراتها كستائر من السحر أو كلوحات فنية هي أروع ما أبدعت يد عبقري.
وفي ذلك اليوم المشرق، وفي حقول قرية (هاثرتون)، كانت (جيزيا أنوين) القروية الحسناء تنحدر مسرعة إلى تلك القرية وقد حملت سلة بيض توصلها إلى السيدة (برسكلوف) العجوز كهدية من إنتاج طيورها التي تفننت في تربيتها في مزرعة أبيها الموسر.
كانت جيزيا تبدو آية من آيات الفن بثوبها الأزرق البديع التصق بقدها السمهري بزهو وخيلاء، وقبعتها الباريسية الأنيقة التي علت رأسها الجميل تحاكى زهور الأرض روعة وجمالاً. فكأنما كانت تلك القروية مرآة للربيع الغض الزاجر بالحياة، فصاغت من ثراء أبيها حلل الأناقة والفن بعينها على ذلك ذوقها السليم وجمالها الفتان.
كان جمالها حديث أهل القرية ومطمع عيون الشبان فيها ومعقد آمالهم، فتسابقوا عليها يطرحون بين يديها قلوبهم ومهجمهم. فلم يرض واحد منهم طموحها، فضاقت بهم ذرعاً وطغى بها غرورها فراحت تسخر منهم وتهزأ بعواطفهم المحمومة ثم بالغت في القسوة حتى لم تتورع عن صب وعاء من الماء البارد على راس هائم جاء يشكو إليها لواعج قلبه فلم ترقها لعثمته ولهجته الحمقاء. وبعد أن استرد روعه من تأثير الماء طردته بلطف وهيتربت على كتفه باسمه وتقول بهزء: ظننتك محموماً تهذي يا عزيزي فأسعفتك بالماء البارد.
وكذلك قصتها مع (ريف بارامور) زميلها في الدراسة ورفيق صباها الذي قطعت معه مرحلة الطفولة العابثة المرحة فلعبا الحلجة وفتشا أعشاش العصافير ركضاً معاً في حقول
القرية يمثلان لعبة (الاستخفاء) حتى إذا داعب الشباب قلبيهما بنسمات الحب، تطلعت الفتاة حولها حيرى، وسعى الشاب يطرح بين يديها قلبه وماله ومستقبله. فصدمت بمنظره المتخاذل الذليل، وكلماته المترددة المتلعثمة، ولهجته البلهاء المتهالكة، فطردته شر طردة هازئة ساخرة.
ولكن هذه المعاملة لم تزد الفتى إلا حباً وهياماً. بل أن هذا الحب ظل يضطرم ويشب مع الأيام كلما ازدادت الفتاة حياله بروداً ونفوراً.
ولنعد الآنإلى جيزيا وهي تقطع تلك الحقول مسرعة إلى قرية هاثرتون. ووقفت في منعطف يؤدي إلى الطريق العام تفكر في أي الطريقين أقصر إلى القرية. فرأت أنها إذا اتبعت الطريق العام فسيكون عليها أن تقطع مسافة ميلين لتصل إلى بيت السيدة برسكلوف في تلك القرية. ولكن إذا اختصرت فسلكت هذا الحقل الوعر الذي ستعترضها فيه انحدارات خطرة وكثير من النباتات المتشابكة وصفوف من الحيطان المترنحة الواهية البناء، بذلك تستطيع أن تصل إلى القرية في أقل من ربع ساعة. قالت: هذه حقول ريف بارامور، وأعتقد أنه ليس فيها اليوم فسأغامر وأقطعها لأني متضايقة من الحر فلا أستطيعالمشي طويلاً في الطريق العام.
ووضعت السلة من يدها وجعلت تزحف بين النباتات البرية النامية وخلال الأغصان المتشابكة حتى كانت بعد دقائق على ضفة جدول كبير تجتازها بحذر وتماسك لئلا تزل قدميها وتقع فيه. ووصلت إلى رأس منبعه حيث يتفجر من خلال كومة من حجارة رملية فتسلقتها بخفة وقفزت إلى حقل قمح منبسط انطلقت تمشى فيه براحة واطمئنان يغمرها النبات المتطاول، حتى رأت أمامها حائطاً عالياً يعترض طريقها.
كان هذا الحائط صعب التسلق لضعف بنائه وتداعى حجارته. ولكن هذا لم يثبط من عزمها ولم يضعف همتها وهي الفتية النشيطة، فلم تجفل أمامه ولم تحجم عن تسلقه. فوضعت سلة البيض على حجر ثابت فيه، وبدأت تصعد بخفة ونشاط. ولكن راعها أن رأت خطر الصعود أشد مما كانت تتصور. فكانت نتوء حجارة الكلس تتفتت تحت قدميها حتى كادت تهوى إلىالأرضلولا جهد المستميت.
وكادت أن تصل أعلى الحائط عندما هلع قلبها وهي تراه قد بدأ يميد بها ويهتز تحت ثقلها
فما أحست إلا وهي ترمى بنفسها إلىالأرضوقد انهار من ورائها.
ونهضت مذعورة فزعة، ولكن سرعان مازال خوفها وانبسطت أساريرها ولمعت عيناها بخبث وهي تنظر إلى الجدار المنهار ثم قالت بحقد وتشف: أنه سيكون شغلاً مناسباً لريف الأبله أن يعيد بناءه، ولسوف أهدمه ثانية وثالثة، أيضاً كلما بناه، فالتعب هو أنجح دواء للحمقى المائعين أمثاله.
ولدى آخر كلمة قالتها إذا بعينيها تتسع ذعراً عنها صيحة مكبوتة عندما حانت منها التفاته فرأت من ورائها تماماً ريف بارامور.
لقد كان ريف بعينه جالساً إلى جذع شجرة منهمكاً في صنع أوتاد خشبية. وكان ينظر إليها وعلى فمه ابتسامة الظفر.
فأسرعت جيزيا واختطفت سلة البيض وركضت هاربة. ولكن ريف قفز وراءها يتبعها بخطوات واسعة ويقول: لقد سمعت كل ما قلت يا جيزيا، ولا أظن أنك بهذا العمل على شيء من النبل أو اللطف، ولكن على أي حال فأنت تعرفين العادة في قريتنا التي تحتم على من يهدم جداراً أن يبنيه بنفسه، لذلك فأنت الآنيجب أن تبنيه كما هدمته.
فوقفت جيزيا تنظر إليه بازدراء وتتحداه قائلة: كلا لا أريد أن أبنيه
فقال ريف بتهكم: ولكنك ستبنيه لأنني سأجبرك على ذلك.
فغاض لونها وقالت: إن سخرية الأقدار أن تكون أنت أول رجل يجبرني على عمل لم يخطر لي على بال. تنح جانباً ودعني أذهب.
قال كلا لن أفعل، فأنت معتدية، والمعتدى يجب أن يدان، وأنا الذي سأدينك بإكراهك على بناء الحائط بنفسك.
فقالت بصوت مختنق: إذا فعلت هذا فسأملأ الدنيا صراخاً.
فقال بتهكم: اصرخي ما شئت فلن يسمع صراخك في هذا الحقل النائي أحد غيري.
فلم تجد جيزيا بداً عن كبريائها فقالت بلهجة المتوسل: ليس من النبل والرجولة في شيء أن تجبر فتاة مثلى على هذا العمل الشاق ياريف. فإنا لم أخلق لبناء الجدران. وكأن لهجتها الرقيقة هذه قد حركت أوتار قلب ريف، فتبدلت ملامح وجهه فجأة وجعل يتفرس فيها برهة ثم قال: إن بناءك للحائط سيكون لك درساً في إذلال كبريائك كما أذللت كبريائي من قبل
بطردي من بيتك، أتذكرين. .؟ والآن هيا اشرعي في البناء. فراعها لا تخفف توسلاتها من عناده شيئاً. ولأول مرة في هذه المناقشة رفعت رأسها إليه تتأمله بإمعان. فتصنع هو الصرامة والعبوس. وتقلصت عضلات وجهها اشمئزازا من خلقته. يا الله ما أغلظ هذا المخلوق الواقف أمامها بوجهه الكاحل المكفهر وقامته المتخاذلة وثيابه الشعثة التي تتصبب عرقاً! إن ظنها في أنه أبشع رجل في العالم، وأقسى رجل أيضاً. ما أقسى هذا الجنس وأظلمه، لقد اقتنعت الآنفقط أن الرجال أفظع المخلوقات وأنه لا يوجد واحد منهم جدير باسم رجل.
وأحست بأن أعصابها تكاد تنفجر غيضاً فأشاحت بوجهها عنه حانقة، ولمعت عيناها حقداً، وارتجفت شفتاها في ثورة مكبوتة. ودمدمت بحدة قائلة: إنني أمقتك يا هذا، أنت تريد أن تقضى على بهذا العمل، فإنا لست رجلاً حتىأستطيعبناء الحائط.
فأنفجر ريف ضاحكاً وقال: إنك تجورين علي بهذه التهمة يا جيزيا. فما أردت إجبارك على بناء الحائط إلا تلقينك درساً عملياً في احترام كبرياء الغير كما أخبرتك الآن. أما وأنت تصرين على الاعتقاد بأن هذا العمل سيقتلك حقاً، فأنا لا أريد أن أحمل ظهيري وزر قتلك. لذلك فأني سأساعدك في بنائه، سأجنبك المهمة الشاقة فيه فأجمع الحجارة الكبيرة الثقيلة وأنت عليك جمع الصغير منها.
فلم تجب جيزيا بكلمة، ولكنها جعلت تنزع قفازها الأنيق بألم وقنوط ثم بدأت تشتغل بتثاقل وصمت والدموع تترقرق في مقلتيها.
وابتسم ريف وهو يرى عملها البطيء وأحجارها التي لا يزيد أحدها عن حجم التفاحة. واستمرا يشتغلان دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة حتى تم بناء صفين من الحجارة وكان الوقت قد صار ظهراً فقال ريف: يظهر أن بناء الحائط سيستغرق معنا يوماً كاملاً، والآن قد حل وقت الغداء فهيا إلى ظل الشجرة لنتغدى معاً بما كنت أحضرته من خبز وجبن.
فقالت هامسة في استنكار: أتغذى معك تحت الشجرة.؟ ولكن ماذا يقول الناس عنى إذا عرفوا. .؟ بربك أعفني من هذا. فأجابها وقد عاد إلى تقطيبه: بل يجب أن نتغدى معاً فسوف لا أخبر أحداً بذلك.
ورأت جيزيا نفسها مجبرة على طاعته فانقادت له صاغرة. ولم تستطع ازدراد الطعام
لانفعالها، وأحست به يلتصق بحنجرتها فقالت متظاهرة بالشبع تبغي العودة لعملها. ولكن ريف استبقاها إلى جانبه قائلاً: أنا معتاد أن أدخن غليوناً بعد الوجبات. دعينا نستعيد ذكريات الطفولة في هذه الأثناء. أتذكرين عندما كنت أتسلق أعالي الأشجار لأجلب لك العصافير من أعشاشها. . .؟
فنفضته جيزيا بنظرة حانقة لهذا الأسلوب الكريه الذي يحاول أن يستعيلها به ثم مشت عائدة إلى عملها دون أن تنبس بكلمة.
ولاحظ عليها ريف أنها نشطت في عملها عما قبل، فراحت تسرع في جمع الحجارة قلقة وجلة كلما انحدرت الشمس نحو المغيب. فقابل هو إسراعها ووجلها بالبرود والبطيء في عمله دون رحمة أو شفقة. حتى إذا ما قارب النهار الزوال، ورأت الحائط لم يتم منه النصف، نظرت حولها جزعة، ثم ارتمت على الأرض تبكى بحرارة.
وفوجئ ريف ببكائها لم يكن يتوقعه منها وهي العنيدة الصلبة. فشعر بخطئه في تلك المعاملة القاسية لها فتألم واضطرب خوفاً من سوء العاقبة. وقال يخاطبها برقة: جيزيا ما بك.؟ أعتقد أنني أتعبك كثيراً. في وسعك أن تذهبيالآنوأنا سأكمل بناء الجدار وحدي.
ولشد ما كانت دهشته عندما رآها تهب واقفة قبل أن يتم كلامه وتمسح دموعها بسرعة وتعود إلى عملها نشيطة في جمع الأحجار أكثر مما كانت عليه. فردد في نفسه: يا لهذه الفتاة الصلبة! إن كبريائها لم تتحطم بعد، فهي تأبى مظاهر الضعف والذل في بكائها الذي استدر عطفي.
وأحس بالشفقة نحوها، فراح يساعدها بهمة لا تعرف الكلل حتى تم بناء الحائط بعد ساعتين.
عندئذ أسرعت جيزيا وقبل أن تلتقط أنفاسها، اختطفت سلتها بحركة عصبية وراحت مهرولة في طريقها إلى القرية. كانت صامتة واجمة شاحبة الوجه تعتسف طريقها الشائك مستجمعة قواها المحطمة.
وشعر ريف بالندم وهو يراها في هذه الحال المؤلمة، وأنبه ضميره بشدة وعصر قلبه الألم فأسرع وراءها يصيح معتذراً: جيزيا إنني أسألك المعذرة.
فوقفت جيزيا ووضعت سلتها على الأرضوبسطت أمامه يديها تقلبها لتريه أصابعها الدامية
وبشرتها التي شوهها العمل وملأها بالخدوش والجروح.
فاغرورقت عينا ريف بالدموع وقال: يا فتاتي المسكينة هلا صفحت عنى. .؟ وكأن لهجته الرقيقة المتوسلة قد لامست أوتار قلبها فمحت منه كل حقد واستياء فيه الإعياء الشديد. فنظرت إلى وجهه المكدود وجسمه المرهق من عناء العمل فشعرت بخطئها في هدم الحائط وخلق هذه المتاعب لهذا الرجل البريء. فنظرت إليه بعطف وقالت متلعثمة: وأنتأيضاً تعبت مثلي في بناء الحائط يا ريف، وأنا كنت السبب ولكن أعدك بأني لن أهدم لك حائطك بعد. فاقترب منها ريف وأمسك بذراعها قائلا برقة: ما كنت لأضطرك لبناء الحائط لولا حبي لك يا جيزيا. إنها فرصة خلقتها للتمتع بقربك يا حبيبتي بعد طول نفورك.
وحركت مشاعر جيزيا لهجة ريف العذبة، واستهوتها غايته تلك. استهواها هذا الحب المحموم وهذه العاطفة الجياشة حيالها. ورأت تلك الشخصية الضعيفة المتخاذلة وتلك اللهجة المترددة المائعة حين باح لها بحبه أول مرة فاستثار نقمتها حتى طردته، رأت الآن كل هذا يتوارى خلف هذه اللهجة العذبة ممتزجة بهذه الشخصية القوية الجبارة التي فرضت عليها طاعته وأرغمتها على الخضوع لرغبته. رأت كل هذا فأحست بأن هذه الشخصية القوية الرقيقة، الناعمة الخشنة، القاسية اللينة قد ملكت قلبها. فأغمضت عينيها نشوى ثم مالت عليه تدفن رأسها في صدره هامسة: لقد بدأت أحبك ياريف. فطبع ريف على فمها قبلة فاتحة عهد جديد.
سلوى الحوماني