الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 85
- بتاريخ: 18 - 02 - 1935
الملك علي.
. . .
تلقيت نعي الملك النبيل علي بن الحسين كما أتلقى نعي قريب؛ فقد كان رضوان اله عليه مثال الفطرة العربية النقية: يقبل على زائره بأنسه، ويمكن لجليسه من نفسه، ويزيل الفوارق بين محدثه وبين شهصه، حتى يصدر عنه الوارد عليه وفي ذهنه صورة من جلاله لا تحول، وفي قلبه عاطفة من حبه لا تزول، وفي نفسه أثر عن ذاته لا يعفو. لا يُلقى في روعك حين تلقاه طوح الزعيم، ولا جفاء القائد، ولا دهاء السياسي، ولا سورة المَلِك، وإنما تجد في خلائقه فوحة المجد، وتقرأ في ملامحه عنوان الطيبة، وتعرف في حديثه لهجة السيادة، وتذكر في نبرات صوته ولحظات عينه ولفتات ذهنه ذلك الروح القوي الذي انبث في موات الوجود من بني هاشم!
نعي الناعي فيصلاً فقال الناس بطلٌ من أبطال العالم قضى، ونعى الناعي علياً فقال العرب سيد من سادات العروبة خلا؛ لأن فيصلاً حكم في شروق مُلك عائد، فكان عزمه لا تسعها قدرة، وفكرة لا يحصرها أفق، وطموحاً لا يحده غاية؛ ولأن علياً حكم في غروب مُلك بائد، فكان أمراً لا يمضيه سلاح، وأملا لا ينهضه جناح، وصلاحاً لا تؤاتيه فرصة؛ ثم كان مصير الرجلين مصير خلقين مختلفين: خلق اتسع لخُدَع السياسة، وشُبه الحكم، وأهواء النفوس، وخلق انحصر بين حدود الشرف الموروث، وسنن الدين المتبع، وتقاليد العرب المحتومة
كان الملك علي وهو أمير المدينة أو ولي العهد أو خليفة الحسين، مثل السيد الكريم والأمير السمح والملك المؤمل، ولكن موجة (الاخوان) كانت قد دفعت بحطام الحين إلى شواطئ جدة، فلم يستطع الملك الجديد أن يستمسك به في مهب الرياح الهوج ومضطرب الموج الثائر، فانتزع من تاجه المقدس مفاتيح الحرمين ثم وضعهما في يد الفاتح ونجا علي (الرقمتين) في ضباب من اليأس لا يشع في جنباته أمل
نزل الملك الغريب سواد العراق نزول الكريم على الكريم فتلقاه بوده، وصفق له من ورده، وبوأه من زعامته المكان الأول بعد فيصل. فكان في السياسة العراقية برهان الله في يقظة الشهوة، وصوت العدل في طغيان الهوى، وهدى المشورة في ضلال الرأي، ورسول الخير في أزمة الحاجة. وكان قصره القائم بالكرادة على الشاطئ الأيمن من دجلة بلاطاً للجلالة الحائرة بين الحجاز والعراق وسورية، تُقضى بين أبهائه الأمور الجسام، وترف على بفنائه
الآمال الباسمة. ولكن حياة بغداد الدافقة بالنعيم الغارقة في اللذة، لم تستطع أن تُنسى الملك الحزين عرشه الصخري في الوادي الجديب؛ فكان لا يفتأ يحن إلى مُلكه المغضوب حنيناً شعرياً صامتاً يذيب الكلي ويستوقد الجوان، إلا أن أثره لا يبين تحت سمة الملك إلا لمن دخل في أمره ووقف على سره
كنت كثيراً ما أقضي أصيل اليوم في حضرته، وكان (مفتي بغداد) لا ينقطع عن مجلسه في هذه الساعة؛ وكان للملك رحمه الله عطف على منشؤه فيما أظن للأدب، وميله إلى مصر، وأنسه بالغريب. فهو يجب أن يناقلني الحديث، ولكن (المفتي) سامحه الله رجل يرى من حق العالم أن يقول في كل شيء وأن يجيب عن كل شيء، وهو لا ينطق إلا ببيت من الشعر أو أثر من الحديث أو آية من القرآ،؛ أما ارتباط ما يقول بما يسمع فذلك ما كنا نعجز دائماً عن فهمه. كان الملك يبدأ الكلام فلا يكاد يمضي فيه حتى يقطعه عليه بحكاية عرضية أو مسألة فقهية! فأرفع طرفي اليه لعل عزة الملك تشع في عينه أو تثور في وجهه، فلا أجده إلا باسماً للمتكلم، مصغياً كالمتعلم، هادئاً كالشعاع الشاحب في شفق الخريف! على أنه كان يصحح للشيخ ما يَقْمشُ من الشعر وينتف من الأمثال، ويتخذ ذلك مادة للحديث وموضوعاً للمشاركة، فيسفر قوله عن ذوق صاف وبصيرة نافذة.
ولا أنسى ما حييت استشهاده في بعض الكلام على قلب الميم باء في قول بعض العرب بكة في مكة، بالمثل المعروف:(تمخض الجبل فولد فأراً) مرجحاً أن الجبل هو الجمل في لحن هذه القبيلة
لذلك كان إذا شاء الحديث صفواً من المقاطعة واللغو أمرني فمثلت بين يديه في ساعة بعينها، فيقضي إلي بطرَف من ماضي حياته، أو يملي على بعضاً من مذكراته. وقد لا يكون من المناسب اليوم - وأنا في موقف الرثاء والعزاء والأسى - أن أثبت في هذا المقام شيئاً من ذلك
ولكنه كان يلهج دائماً بمصر، ويرصد كوكب آماله في مصر. . . وحاول أن يقنع المصريين الذين خاصموه في سبيل الترك أن ثورتهم على الخلافة كانت بالحق وللحق، وأن أباه لم يال الترك نصحاً ألا يطأطئوا إشراف العرب، وألا يغمزوا نحوه العرب، وان يعدلوا عن سياسة الجهل، ويكفوا عن جرائم القتل، فاستغشوا الناصح وذهبوا بأنفسهم
مُمعنين في الضلالة وللفقيد العظيم آراء حصيفة في رجال الثورة وساسة العراق ووحدة العرب، أرجو أن تتاح لتسجيلها المناسبة إنصافاً لهذا الرجل الذي أخرج من دياره عنوة، وكابد أكلاف المُلك من غير ثروة، حتى عاد كالطائر المهيض أو الملك الهابط، يختنق في مجثمه وبصره في الفضاء، ويلتصق بالأرض وروحه في السماء!
أحمد حسن الزيات
زوجة إمام
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
جلس جماعةُ أصحاب الحديث في مسجد الكوفة، ينتظرون قُدومَ شيخهم الأمام (أبي محمد سليمان الأعمش) ليسمعوا منه الحديث، فأبطأ عليهم؛ فقال منهم قائل: هلموا نتحدثْ عن الشيخ فنكون معه وليس معنا. فقال أبو معاوية الضرير: إلى أن يكونَ معنا ولسنا معه! فخطرت ابتسامةٌ ضعيفةٌ تهتزُ على افواه الجماعة لم تبلغ الضحك، ومرت لم تُسمع وكأنها لم تُرَ، وانطلقتْ من المباح المعْفُو عنه. ولكن أكْبرَها أبو عَتاب منصور بن المُعْتَمِر فقال: ويلك يا أبا معاوية! أتتندرُ بالشيخ وهو منذ الستين سنة لم تَفُتْه التكبيرةُ الاولى في هذا المسجد، وعلى أنه مُحدث الكوفة وعالِمُها، وأقرأ الناسِ لكتاب الله، وأعلمهم بالفرائض، وما عَرَفت الكوفة أعبدَ منه ولا أفقه في العبادة؟
فقال محمد بن جُحَادة: أنت يا أبا عتاب، رجلٌ وحدك، تُواصِلُ الصومَ منذ أربعين سنة، فقد يَبسْتَ على الدهر وأصبح الدهر جائعاً منك، وما بَرحتَ تبكي من خشية الله، كأنما اطلعت على سواء الجحيم، ورأيت الناسَ يتواقعون فيها وهي لهبٌ أحمرُ يلتفُ على لَهب أحمر، تحت دخان أسود يتضربُ في دخان أسود، يَتَغامسُ الإنسان فيها وهي مِلءُ السموات، فما يكون إلا كالذبابة أو قدوا لها جبلاً ممتداً من النار، ينطاد بين الأرض والسماء، وقد ملأ ما بينهما جمراً وشُعلاً وحمماً ودخاناً، حتى لتهاربُ السحب في أعلى السماء من حره، وهو على هوْلِه وجسامته لِحرْق ذبابةٍ لا غيرها، بَيْدَ أنها ذبابةٌ تُحْرَقُ أبداً ولا تموت أبداً، فلا تزالُ ولا يزال الجبل!
فصاح أبو معاوية الضرير: ويحك يا محمد! دَعِ الرجل وشأنه؛ إن لله عباداً متاعهم مما لا نعرف، كأنهم يأكلون ويشربون في النوم، فحياتُهم من وراء حياتنا، وأبو عتاب في دنيانا هذه ليس هو الرجلَ الذي اسمهُ (منصور) ولكنه العملُ الذي يهمله (منصور). هل أتاكم خبر قارئ المدينة (أبي جعفر الزاهد)؟ قال الجماعة: ما خبره يا أبا معاوية؟ قال: لقد تُوفي من قريب، فرئي بعد موته على ظهر الكعبة؛ وسترون أبا عتاب - إذا مات - على منارة هذا المسجد! فصاح أبو عتاب: تخلل يا أبا معاوية؛ أنا حفظت خبر ابن مسعود: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم: (تخللْ) قال: مم اتخللُ؟ ما أكلتُ لحماً؟ قال: (إنك أكلتَ لحم
أخيك!)
فتقلقل الضرير في مجلسه، وتنحنح، وهَمهم أصواتاً بينه وبين نفسه، وأحس الجماعةُ شأنه وقد عرفوا أن له شراً مبصرا كالذي فيه من المزْح والدعابة، وشراً عمى هذه بوادرُه، فاستلب ابنُ جحادةَ الحديثَ مما بينهما وقال: يا أبا معاوية، أنت شيخنا وبركتنا وحافظنا، وأقرُبنا إلى الإمام وأمسنا به؛ فحدثنا حديثَ الشيخ كيف صنع في رده على هشام بن عبد الملك، وما كان بينك وبين الشيخ في ذلك؛ فان هذا مما انفردتَ أنت به دون الناس جميعاً، إذ لم يسمعه غير أذنيك، فلم يحفظه غيرك وغير الملائكة
فأسفر وجهُ أبي معاوية وسُري عنه واهتز عطفاه وأقبل عليهم بعفو القادر. . . وأنشأ يحدثهم قال:
إن هِشاماً - قاتله الله - بعث إلى الشيخ: أن أكتبْ لي مناقبَ عثمانَ ومساوئ علي. فلما قرأ كتابه كانت داجِنةٌ إلى جانبه، فأخذ القرطاس وألقمه الشاة فلا كته حتى ذهب في جوفها، ثم قال لرسول الخليفة: قل له: هذا جوابك! فخشي الرسول أن يرجع خائباً فيقتله هشام، فما زال يتحملُ بنا، فقلنا: يا أبا محمد، نجه من القتل. فلما ألححنا عليه كتب:(بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد يا أمير المؤمنين، فلو كانت لعثمان رضي الله عنه مناقبُ أهل الأرض ما نفعتك، ولو كانت لعلي رضي الله عنه مساوئ أهل الأرض ما ضرتك؛ فعليك بخويصة نفسك، والسلام.)
فلما فصل الرسول قال لي الشيخ: إنه في خُرَاَسانَ مُحدث أسمه (الضحاكُ بن مُزاحم الهلالي) وكان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي يتعلمون؛ فكان هذا الرجلُ إذا تعب ركب حماراً ودار به المكتب عليهم، فيكون إقبالُ الحمار على الصبي هماً وإدبارهُ عنه سروراً. وما أرى الشيطان إلا قد تعب في مكتبه وأعيا، فركب أميرَ المؤمنين. . . . . . ليدور علينا نحن يسألنا: ماذا حفظنا من مساوئ علي؟
قلت: فلماذا ألقمتَ كتابه الشاة؟ ولو غسلته أو أحرقته كان أفهم له وكان هذا أشبه بك. فقال: ويحك يا أبله! لقد شابت البلاهةُ في عارضَيك. أن هشاماً سيتقطع منها غيظاً، فما يُخفى عنه رسوله أني أطعمتُ كتابه الشاة، وما يُخفى عنه دهاؤه ان الشاة ستعتبره من بَعْد. . . . .!
قلت: افلا تخشى أمير المؤمنين؟
قال: ويحك! هذا الأحولُ عندك أمير المؤمنين؟ أَبما ولدته أمه من عبد الملك؟ فَهَبها ولدته من حائكٍ أو حجام! إن إمارةَ المؤمنين يا أبا معاوية، هي ارتفاعُ نفس من النفوس العظيمة إلى أثَرِ النبوة، كأن القرآن عَرَضَ المؤمنين جميعاً ثم رضي منهم رجلاً للزمن من الذي هو فيه، ومتى أصيب هذا الرجلُ القرآني فذاك وارثُ النبي في أمته وخليفتُه عليها، وهو يومئذ أمير المؤمنين، لا من إمارة الملك والترف، بل من إمارة الشرع والتدبير والعمل والسياسة
هذا الأحول الذي التف كدودة الحرير في الحرير، وأقبل على الخيل لا للجهاد والحرب، ولكن للهو والحلبة، حتى اجتمع له من جياد الخيل أربعة آلاف فرس لم يجتمع مُلها لأحد في جاهليةٍ ولا إسلام، وعَمِلَ الخز وقُطُفَ الخز، واستجاد الفرش والكسوة، وبالغَ في ذلك وأنفقَ فيه النفقات الواسعة، وأفسد الرجولة بالنعيم والترف حتى سلك الناسُ في ذلك سُنته فأقبلوا بأنفسهم على لهو أنفسهم، وصنعوا الخير صنعةً جديدة يصرفه إلى حظوظهم، وتركوا الشر على ما هو في الناس، فزادوا الشر وأفسدوا الخير، ولم يَعُد الفقراءُ والمساكينُ عندهم هم الفقراءَ والمساكين من الناس، بل بطونهم وشهواتهم. . . . .!
ولقد كان الرجلُ من أغنياء المسلمين يقتصدُ في حظ نفسه ليسعً ببره مائةً أو مائتين أو أكثر من اخوانه وذوي حاجته، فعاد هذا الغني يتسعٌ لنفيه ثم يتسع، حتى لا يكفيه أن يأكلَ رزقه مائة أو مائتين أو أكثر!
إن هذا الإسلام يجعل أحسن المسرات أحسنها في بذلها للمحتاجين، لا في أخذها والاستئثار بها، فهي لا تضيع على صاحبها إلا لتكون له عند الله، وكان الفقر والحاجة والمسكنةَ والانفاقَ في سبيل الله - كأن الفقر والحاجة والمسكنة والانفاقَ في سبيل الله - كأن هذه أرضونُ يُغرس فيها الذهبُ والفضة غرساً لا يُؤتي ثمره إلا في اليوم الذي ينقلب فيه أغنى الأغنياء على الأرض وإنه لأفقر الناس إلى درهمٍ من رحمة الله وإلى ما دون الدرهم؛ فيقال له حينئذ: خُذْ من ثمار عملك، وخُذْ ملءَ يديك!
والسلطانُ في الإسلام هو الشرع مَرْئياً يتابعهُ الناس، متكلماً يفهمه الناس، آمراً ناهياً يطيعه الناس. ولقد رأى المسلمون هذا الأحوال، وتابعوه وسمعوا له واطاعوا؛ فمنعوا ما في
أيديهم، فانقطع الرفد، وقل الخير، وشحت الأنفس، وأصبح خيرهم خيرهم لبطنه وشهواته، وصار الزمانُ أشبه بناسه، والناسُ أشبه بملكهم، وملكُهم في شهواته (فقيرُ المؤمنين) لا أميرُ المؤمنين!
إن هذه الامارةَ يا أبا معاوية، إنما تكون في قرب الشبه بين النبي ومن يختاره المؤمنون للبَيْعة. وللنبي جهتان: إحداهما إلى ربه، وهذه لا يطمع أحدٌ أن يبلغ مبلغه فيها؛ والأخرى إلى الناس، وهذه هي التي يُقاس عليها. وهي كلها رْفقُ ورحمةٌ وعملُ وتدبير وحياطة وقوة، إلى غيرها مما يقوم به أمرُ الناس؛ وهي حقوقٌ وتبعاتٌ ثقيلة تتصرف بصاحبها عن حظ نفسه، وبهذا الانصراف تجذب الناس إلى صاحبها.
فأمارة المؤمنين هي بقاء مادة النور النبوي في المصباح الذي يضيء للاسلام بامداده بالقدر بعد القدر من هذه النفوس المضيئة.
فان صَلُحَ الترابُ أو الماء مكان الزيت في الاستضاءة صَلُح هشامٌ وأمثاله لأمارة المؤمنين!
ويلُ للمسلمين حين ينظرون فيجدون السلطانَ عليهم بينه وبين النبي مثلُ ما بين دِينين مختلفين. ويلٌ يومئذ للمسلمين! ويلً يومئذ للمسلمين!
فلما أتم الضريرُ حديثه قال ابن جُحادة: إن شيخنا علي هذا الجِد ليمزح، وسأحدثكم غير حديث أبي معاوية فقد رأيتُ الدنيا كأنما عرفت الشيخ ووقفت على حقيقته السماوية فقالت له: اضحك مني ومن أهلي. ولكن وقاره ودينه ارتفعا به أن يضحك بفمه ضَحِكَ الجهلاء والفارغين، فضحك بالكلمة بعد الكلمة من نوادره
لقد كنت عنده في مَرْضَتَه، فعاده (أبو حنيفة) صاحبُ الرأي، وهو جبلُ عِلْم شامخ، فطولَ العقودَ مما يُحبه ويأنس به، إذ كانت الارواحُ لا تعرف مع أحبابها زمناً بطول أو بقصر. فلما أراد القيام قال له: ما كأني إلا ثَقُلْتُ عليك. فقال الشيخ: إنك لثقيلٌ علي وانتَ في بيتك. . . .! وضحك أبو حنيفة كأنه طفلُ يلاغِيه أبوه بكلمة ليس فيها معناها، أو أبٌ دَاعَبَه طفُله بكلمة فيها غيرُ معناها
وجاءه في الغَداة قومٌ يعودونه، فلما أطالوا الجلوسَ عنده أخذ الشيخ وسادته وقام متصرفاً، وفل لهم: قد شَفَى الله مريَضكم. . . .!
فقال الضرير: تلك رَوْحَةٌ من هواء دُنْبا وَنْد قان أبا الشيخ كان من تلك الجبال، وقدم إلى
الكوفة وأمه حاملٌ، فوُلِدَ هنا؛ فكأن في دمه النسيم تهبُ منه النفحة بعد النفحة في مثل هذه الكلمات المُتَنسمة؛ ثم هي روحه الظريفة الطيبة تُلْمَسُ بعضَ كلامه أحياناً، كما تلمسُ روحُ الشاعر بعض كلام الشاعر؛ وما رأيت أدق النوادر الساخرة وأبلغها وأعجبها يجيء إلا من ذوي الأرواح الشاعرة الكبيرة البعيدة الغور، كأنما تأتي النادرة من رؤية النفس حقيقتين في الشيء الواحد. والامامُ في ذلك لا يسخر من أحد، إلا إذا كانت الأرض حين تُخرج الثمرةَ الحلوة تسخر بها من الثمرة المرة
والعجيب أن النادرة البارعة التي لا تتفق إلا لأقوى الأرواح، ينفق مثلها لأضعف الأرواح؛ كأنها تسخر من الناس كما يسخرون بها. فهذا (أبو حَسَن) مُعلم الكُتاب، جاءه غلامان من صبيته قد تعلق أحدهما بالآخر؛ فقال: يا مُعلم، هذا عَض أذني. فقال الآخر: ما عضضتها، وإنما هو عض أذن نفيه. . .! فقال المعلم: وتمكُرُ بي أيضاً يا ابن الخبيثة، أهو جملٌ طويلُ العنق حتى ينالَ أذنَ نفسه فيعضها. . .!
وطلع الشيخ عليهم وكأنما قرأ نفس أبي معاوية في وجهه المتفتح. ومن عجائب الحكمة أن الذي يُلمحُ في عيني المبصر من خوالج نفسه يُلمحُ على وجه الضرير مُكبراً مجسماً. وكان الشيخ لا يأنس بأحد أنسه بأبي معاوية، لذكائه وحفظه وضبطه، ولمشاكلة الظرف الروحي بينهما؛ فقال له:
(فِيمَ كان أبو معاوية؟)
- (كان أبو معاوية في الذي كان فيه!)
- (وما الذي كان فيه؟)
- (هو ما تسأل عنه!)
- (فأجبني عما أسأل عنه)
- (قد أجبتُك!)
- (بماذا أجبتَ)
- (بما سمعت!)
فتقبض وجهُ الشيخ وقال: (أههنا وهناك معاً؟ لو أن هذا من امرأةٍ غضبي على زوجها لكان له معنى، بل لا معنى له ولا من امرأةٍ غضبي على زوجها. أحسبُ لولا أن في منزلي من
هو أبغضُ إلى منكم ما خرجت؟) فقال الضرير: (يا أبا محمد، أننا زوجاتُ العلم؛ فأتينا التي حظيت وبظيتْ. . .)
فغطى الجماعة أفواههم يضحكون، وتبسم الشيخ، ثم شرع يحدث فأفضى من خبر إلى خبر، وتسرح في الرواية حتى مر به هذا الحديث:
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن هلاكَ الرجال طاعتُهم لنسائهم.)
قال الشيخ: كان الحديث بهذا اللفظ، ولم يقل النبس صلى الله عليه وسلم:(هلاُك الرجل طاعته لامرأته)؛ فان هذا لا يستقيم؛ إذ يكون بعضُ النساء أحياناً أكمل من بعض الرجال، وأوفر عقلاً وأسد رأياً، وقد تكون المرأةُ هي الرجلَ في الحقيقة عزماً وتدبيراً وقوى نفس، ويتلينُ الرجل معها كأنه امرأة. وكثير من النساء يكُن نساءً بالحلية والشكل دون ما وراءهما، كأنما هيئنَ رجالاً في الأصل ثم خًلقن نساءً بعد، لأحداث ما يريد الله أن يحدث بهن، مما يكون في مثل هذه العجيبة عملاً ذا حقيقتين في الخير والشر
وإنما عم الحديث لًيدل على أن الاصل في هذه الدنيا أن تستقيم أمور التدبير بالرجال؛ فان البأس والعقل يكونان فيهم خلقةً وطبيعةً أكثر مما يكونان في النساء؛ كما أن الرقة والرحمة في خلقة النساء وطبيعتهن أكثرُ مما هما في الرجال، فاذا غلبتْ طاعةُ النساء في أمة من الأمم، فتلك حياة معناها هلاك الرجال، وليس المراد هلاكً أنفيهم بل هلاك ما هم رجالٌ به. والحديدُ حديدٌ بقوته وصلابته، والحجرُ حجر بشدته واجتماعه؛ فان ذاب الأولُ أو تفلل، وتناثر الآخر أو تفتت - فذا هلاكهما في الحقيقة، وهما بعدُ لا يزالان من الحجر والحديد
والمرأة ضعيفة بفطرتها وتركيبها، وهي على ذلك تأبى أن تكون ضعيفة أو تُقر بالضعف، إلا إذا وجدت رجلها الكامل ورُجلها الذي يكون معها بقوته وعلقه وفتنته لها وحبها إياه، كما يكون مثالٌُ مع مثال. ضَعْ مائة دينار بجانب عشرة دنانير، ثم اتر للعشرة أن تتكلم وتدعي وتستطيل؛ قد تقول: إنها أكثر إشراقاً، أو أظرفُ شكلاً، أو احسن وضعاً وتصفيفاً؛ ولكن الكلمة المحرمة هنا أن تزعم أنها أكبر قيمةً في السوق. . . . .!
قال الشيخ: ومن من النساء تصيبُ رجلَها الكاملَ أو القريب من كماله عندها، أي كمالَ طبيعته بالقياس إلى طبيعتها، كمالَ جسم مُفصلٍ لجسم تفصيلَ الثوب الذي يلبسه ويختال فيه؟ أما إن هذا من عمل الله وحده؛ كما يبسط الرزقُ الرزقَ لمن يشاء من عباده ويقدر،
يبسط مثل ذلك للنساء في رجالهن ويقدر
فاذا لم تًصيب المرأة رجالها القوي - وهو الأهم الأغلب - لم تستطيع أن تكون معه في حقيقة ضعفها الجميل، وعملت على أن يكون الرجل هو الضعيف، لتكون معه في تزوير القوة عليه وعلى حياته. وبهذا تخرج من حيزها، وما أول خروج النساء إلى الطرقات إلا هذا المعنى؛ فان كًثُر خروجهن في الطريق وتسكعن ههنا وههنا فانما تلك صورة من فساد الطبيعة فيهن ومن إملاقها ايضاً. . .
قال الشيخ: وكأن في الحديث الشريف إيماء إلى أن من بعض الحق على النساء ينزلن عن بعض الحق الذي لهن إبقاءً على نظام الأمة، وتيسيراً للحياة في مجراها؛ كما ينزل الرجل عن حقه في حياته كلها إذا حارب في سبيل أمته، إبقاءً عليها وتيسيراً لحياتها في مجراها. فصبرُ المرأة على مثل هذه الحالة هو نفسه جهادها وحربها في سبيل الأمة، ولها عليه من ثواب الله مثلُ ما للرجل يُقتلُ أو يُخرج في جهاده
ألا وإن حياة بعض النساء مع بعض الرجال تكون أحياناً مثل القتل، او مثل الجرح، وقد تكون مثل الموت صبراً على العذاب! ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِمُروجةٍ يسألها عن حالها وطاعتها وصبرها مع رجلها:(فأين أنت منه؟)
قال ما آلوه ما عَجَزْتُ عنه! قال: (فكيف أنتِ له؟ فانه جنَّتُكِ ونارُك)
آه! آه! حتى زواجُ المرأة بالرجل هو في معناهُ مرورَ المرأة المسكينة في دنيا أخرى إلى موتٍ آخر، ستُحاسب عنده بالجنة والنار، فحسابها عند الله نوعان: ماذا صنعت بدنياكِ ونعيمها وبؤسها عليكِ؛ ثم ماذا صنعتِ بزوج ونعيمه وبؤسه فيك؟
وقد روينا أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني وافدةُ اليك؛ ثم ذكرتْ. ما للرجل في الجهاد من الأجر والغنيمة؛ ثم قالت: فما لنا من ذلك؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (أبِلغي من لقيتِ من النساء أن طاعة للزوج، واعترافاً بحقه - يعدلُ ذلك؛ وقليلٌ منكن من يفعله!)
قال الشيخ: تأملوا واعجبوا من حكمة النبوة ودقتها وبلاغتها؛ أيقالُ في المرأة المحبة لزوجها المفتنة به المعجبة بكماله: إنها أطاعته أو اعترفت بحقه، أو ليس ذلك طبيعةَ الحب إذا كان حباً؟ فلم يبق إذن إلا المعنى الآخر، حين لا تصيب المرأةُ رجُلها المفصل لها، بل
رجلاً يُسمى زوجاً، وهنا يظهر رمُ المرأة الكريمة، وها هنا جهادُ المرأة وصبرها، وها هنا بَذْلُها لا أخذُها؛ ومن كل ذلك ها هنا عملها لجنتها أو نارها
فاذا لم يكن الرجل كاملاً بما فيه للمرأة، فلتُبْقِه هي رجلاً بنزولها عن يعض حقها له، وتركها الحياة تجري في مجراها، وإيثارها الآخرةَ على الدنيا، وقيامها بفريضة كمالها ورحمتها، فيبقى الرجل رجلاً في عمله للدنيا، ولا يُمسخُ طبعه ولا ينتكس بها ولا يَذل، فان هي بذأت وتسلطت وغلبت وصرفت الرجل في يدها، فأثر ما يظهر حينئذٍ في أعمال الرجال من طاعتهم لنسائهم - إنما هو طيشُ ذلك العقل الصغير وجُرْأته، وأحياناً وقاحته؛ وفي كل ذلك هلاك الرجولة، وفي هلاك معاني الرجولة هلاكُ الأمة!
قال الشيح: والقلوبُ في الرجال ليست حقيقةً أبدا، بطبيعة أعمالهم في الحياة وأمكنتهم منها، ولكن القلب الحقيقي هو في المرأة، ولذا ينبغي أن يكون فيه السُمو فوق كل شيء إلا واجب الرحمة، ذلك الواجب الذي يتجه إلى القوى فيكون حباً ويتجه إلى الضعيف فيكون حناناً ورقة، ذلك الواجبُ هو اللطف، ذلك اللطفُ هو الذي يُثبت أنها امرأة
قال أبو معاوية: وانفض المجلس، ومنعني الشيخ أن أقوم مع الناس، وصرف قائدي، فلما خلا وجهه قال: يا أبا معاوية، قُم معي إلى الدار، قلتُ ما شأنٌ في الدار يا أبا محمد؟ قال: إن (تلك) غاضبة علي، وقد ضاقت الحال بيني وبينها، وأخشى أن تتباعد، فأريدُ أن تصلح بيننا صلحا
قلت: فمم غضبها؟ قال: لا تسأل المرأة م تغضب، فكثيراً ما يكون هذا الغضب حركة في طباعها، كما تكون جالسة وتريد أن تقوم فتقوم، وتريد أن تمشي فتمشي!
قلت: يا أبا محمد، هذا آخر أربع مرات تغضب عليك غضب الطلاق، فما يحبِسُك عليها والنساء غيرها كثير
قال: ويحك يا رجل! أبائعُ نساءٍ أنا، أما علمتَ أن الذي يطلق امرأة لغبر ضرورة ملْجئةٍ، هو الذب يبيعها لمن لا يدري كيف يكون معها وكيف تكون معه، إن عمْرَ الزوجة لو كان رقبةً وضربت بسيف قاطع لكان هذا السيف هو الطلاق!
وهل تعيشُ المطلقةُ إلا في أيام مينة، وهل قاتل ايامها إلا مطلقُها؟
قال أبو معاوية. وقمنا إلى الدار، واستأذنت ودخلت على (تلك). . . . . .
(لها بقية)
طنطا
مصطفى صادق الرافعي
حكايتي مع بوبي
للأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني
وقعت عيني عليها، فلم أعد أرى سواها. وكنتُ أركب (الامنيبوس) ففتحت الباب وإذا بها أمامي! وفي حجرها كلب أبيض صغير غزير الشعر، وإلى جانبها صاحب لي - جالس كالدمية! فغضضتُ الطرف - أعني أني حولتُ عيني عنها إلى التمثال، وكانت نظرتي واشية بالاعجاب والسرور، فانقلبت نظرة حسد وغيظ - ومقت أيضاً! ولكني كتمتُ ذلك، وأمسكت على ما بنفسي منه، ولم أسمح له أن يطل من عيني، لظني كان تمثالاً مبنياً أو منحوتاً من الحجر، لا إنساناً حياً من لحم ودم، فمضت عنه إلى آخر معقد، وقد زاد حقدي عليه وحسدي له. وجعلت أقول لنفسي - وأنا قاعد، وبيتي وبينهما صفان - إنها لا يمكن أن تكون زوجاً أو قرية، فما خلق مثلها ليشقى بزواج مثله أو يُبتلى بقرابته، وأنه لاحق له في زحامها على مقعدها، وأن من سوء الأدب ألا يفسح لها
ورثيتُ لها، وأشفقتُ عليها من برد هذا التمثال الجامد الذي لا ينبض فيه عرقٌ ولا يطرف له جفن، وهممتُ مرات أن أدعوه إلي، ولكني رددت نفسي عن ذلك، مخافة أن تكون معه، فان النساء - كل شيء - حظوظ وأرزاق، وقد سمعتُ وحفظتُ من أمثال عامتنا أن الله يشاء أحياناً أن يعطي الحلق لمن ليس له اذنٌ!
وبلغتُ (محطتي) فنزلت، ومنحتُ السيارة ظهري، فقد شق علي أن أراها تمضي بهذه الفتاة. فلما آذنني صوتها - أعني صوت السيارة - أنها بعدت عني، درت، فاذا بالفتاة إلى جانبي وأطراف أصابعها على فمها، وفي وجهها كل آيات الحيرة والاضطراب، ولم أر الكلب، فتلفتُ فبصرت به يعدو ويسابق ظله الصغير، ولم أبصر صاحبي في مكان قريب أو بعيد، فلم يبق محل للتردد، فخلعتُ معطفي ورميته بلا تفكير، وذهبت أعدو وراء الكلب، فأدركته بلا عناء، فقد كان صغيراً وخطوه متقارباً، ورفعته عن الأرض ووقفت أمسح له شعره الناعم - لأستريح!
وسمعت صوتاً رخيما يقول لي: (أشكرك! إن هذا منك غاية المروءة)
فدرت وقلت بسرعة: (العفو - استغفر الله!)
قالت الفتاة: (منتهى اللطف ولاشك!)
فلم أدر ماذا أقول، وكنت أنا أحمل الكلب، وهي تحمل معطفي - كما تبينتُ فيما بعد - ولكني لم أكن أرى أو أدرك شيئاً، سوى أن لساني قد انعقد، وأني فقدت القدرة على الكلام وعادت الفتاة تقول:(صحيح، أنا متشكرة جداً)
فكان كل ما فتح الله به علي: (إني أحب الكلاب)
ولم أكن صادقاً في ذلك، فما أحب الكلاب ولا أطيقها، وما رأيت قط كلباً - ولو كان ميتاً - إلا ذهبت أفكر بسرعة في أقرب مستشفى للكلب!
وسمعتها تقول: (لا شك أنك تحبها! وإلا لما جريت وراءه هكذا!)
فقلت: (نعم، إني أحب. . . . أحبها. . . هل تحبينها؟)
قالت: (نعم، حباً جماً)
قالت: (بعض الناس لا يحبونها)
قلت: (صحيح - أنا. . . مثلاً. . . أحبها. . . أحبها كثيراً)
ثم كأنما انحلت عقدة لساني، ونزلت عليه الفصاحة والبيان فقلت من غير أن أتلعثم أو أتأتيء أو أفأفيء:
(أحب الكلاب بأنواعها - القَلَطي والسلوقي والمالطي والأرمنتي والبول دوج والثعلبي، وأحب هريرها ونباحها وهوهوتها، وأحب لعبها وعبثها وعضها)
وخانني بياني فأمسكت. فقالت:
(يظهر أنك تحب الكلاب!)
فقلت: (نعم، أحب الكلاب. . . جداً)
قالت: (إن لها مزاياها)
قلت: (صحيح - إن للكلاب مزاياها -) وفتح الله علي فأضفت (وكذلك للقطط مزاياها)
فقالت: (صحيح - القطط أيضاً لها مزاياها)
قلت: (لاشك - ولكن القطط تختلف عن الكلاب)
قالت: (نعم تختلف - لقد لاحظتُ ذلك)
وكان ينبغي أن أجيب بشيء، فقد اتسع الموضوع ولم يعد مقصوراً على الكلاب، ولكنه لم يخطر لي كلام أقوله، فعضضت لساني من الغيظ، وسكت، وسكتت هي أيضاً، ووقفتُ
أمسح لكلب شعره، وبودي لو أخنقه، فقد كبر في ظني أنه هو الذي جر على هذه الحبسة التي أصابت لساني، ثم رفعت عيني إلى الفتاة فرأيتها تنقل معطفي من ذراع إلى ذراع، فأسرعت أقول:
(معذرة - لقد كنت ذاهلاً)
وتناولت المعطف، فحملت عني كلبها وهي تقول:
(هو الذي أذهلك - إنك تحبه، أليس كذلك؟)
فقلت: وأنا أتشهد - في سري - (أحبه؟ آه! نعم، أحبها - أعني الكلاب!)
قالت: (إنك. . . .؟؟)
قلت: (إني؟)
قالت: (نعم! إنك. . . اعني. . . إني لست أعرف لمن أنا مدينة بهذا الجميل؟)
قلت: (آه! صحيح! أعني. . . . كلا. . . لا فضل ولا جميل. . . لا لا لا. . . لاشيء!. . وسخطتً على نفسي جداً، فقد كان واضحاً أنها تسألني عن اسمي وما إلى ذلك. فجاء جوابي كأني لا أرتاح إلى تعريفها شيئاً منه، وأحر بهذا أن يصدمها ويفتر ما بيننا)
ثم قالت: (ألا تتفضل معي قليلاً؟)
وأشارت إلى بيت، فقلت:
(هذا مسكنك؟)
قالت: (نعم. تفضل، فان أمي يسره أن تشكر لك صنيعك، وأظنها تحب بوبي أكثر مما تحبني)
وضحكت، فقلت:(في وقت آخر. . . لا موجب للشكر. . . ما فعلت إلا ما يفعله أي إنسان)
وصافحتها وانصرفت مسرعاً، وبودي أن أجرد من نفسي شخصاً أظل ألعنه وألكمه حتى أشفى غيظي، فما أذكر أني كنت قط أسخف مني في ذلك اليوم، وإني لثرثار، وإني لثرثار في العادة، ولست أتهيب المرأة أو أجهل طبيعتها، فمن أين جاءني هذا البكم؟ وماذا عسى أن تقول عني هذه الفتاة؟ وكيف لم يخطر لي كلام إلا (إني أحب الكلاب؟؟)
وآليت - من فرط سخطي على نفسي وخجلي من عي وفهاهتي - أن أجنب السير في هذا
الطريق، وحرصت على ذلك أشد الحرص، ومضت أيام لا أذكر عددها، ونسيت الحكاية، وصرفتني عن الحياة مطالب الدنيا ومشاغل الحياة، ثم اتفق لي أن ركبت (الامنيبوس) مرة أخرى في هذا الطريق عينه، مع صديق لي، وكان قد دعاني إلى العشاء، فلما بلغت المكان هجمت علي الذكرى، فانتفضت قائماً، وقلت لصديقي:
(سألحق بك، فامض أنت)
قال: (الى أين؟)
قال: (زيارة وجيزة)
قال: (من؟)
قلت: (زيارة. . .! ما سؤالك هذا؟)
قال: (أفي الأمر سر؟)
قلت: (لا يا سيدي. لا سر ولا شبهه، سأزور كلباً)
قال: (كلب؟)
قلت: (نعم، كلب! وأي غرابة في ذلك؟)
قال: (ولكنك تكره الكلاب!؟)
قلت: (أكرهها؟ من قال إني أكرهها؟ إنما أكره ما يستحق الكراهة من كل شيء)
فصاح بي وأنا أنزل: (ولكنك لا تعرف البيت)
فقلت: (بل أعرفه. . . لا تخف علي!)
فصاح بي - من النافذة: (بل لا تعرفه. . . أنا واثق، فأصعد)
فقلت بحماقة. (يا أخي أعرفه. . . هي دلتني عليه!
فقال: (هي؟)
فعضضت لساني من الغيظ، ومضيت عنه!
ودققت الجرس، فخرجت لي خادمة وقالت:(نعم!)
فحرت ماذا أقول؟ وذكرت أني لا أعرف اسم الفتاة، ولا أسم أمها، ووقفت متردداً ثم قلت:
(اسمعي يا شاطرة! إن عندكم كلباً صغيراً جميلاً، أبيض الشعر، أليس كذلك؟)
فقالت بدهشة: (كلب؟ تسأل عن كلب؟)
قلت: (نعم. . . أسمه. . . اسمه. . . آه! تذكرت. . . اسمه بوبي. . . نعم بوبي)
قالت: (آه. . . بوبي. . . . ماله؟)
قلت: (أ. . . إ. . . كيف صحته؟ إن شاء الله يكون بخير؟)
فدارت اللعينة، وقات تخاطب من لا أرى:
(إنه رجل غريب يسأل عن صحة بوبي!)
فبرزت لي سيدة ضخمة - ضخمة جداً - أضخم شيء رأيته في حياتي، حتى لقد احتجت أن أدور بعيني في أنحاء جسمها المتباعدة، لأحيط بها علماً، وأقبلت على تسد الفضاء في وجهي وقالت:
(من هذا؟)
قالت الخادمة: (لا أعلم. . لم أره من قبل)
فسألت خادمتها، كأنها لا تراني - وهل أنا إلا ذرة أو هباءة؟ -:(ماذا يريد)
قالت الخادمة: (يريد أن يعرف كسف صحة بوبي؟)
فقالت: (ما شأنه به! هل يعرفه؟)
فتدخلت في الحوار وقلت: (نعم يا سيدتي، لقد تشرفت بمعرفته يوم فر من سيدته وكاد يضيع أو يختفي)
فقالت: (آه!) ولم تزد
قلت: (نعم، وقد خطر لي أن أسأل عنه كيف حاله؟)
قالت: (بخير. . أشكرك بالنيابة عنه)
قلت: (ألا يمكن أن أراه؟ وأطمئن عليه)
قالت: (لا. . . لا يمكن)
قلت: 0أهو لا قدر الله. . . . .؟)
قالت: (خرج. . .)
قلت: (خرج؟ يا سيدتي كيف تتركينه يخرج وحده؟)
قالت: (لا. . خرج مع إيلين. . . لا خوف عليه. . متشكرة. .)
فلم أدر (إيلين) هذه من تكون؟ الفتاة أم خادمة أخرى، ولكني قلت أجازف وأمري إلى الله،
وسألتها:
(وكيف حالها؟ بخير إن شاء الله!)
قالت: (حالها؟ من؟)
قلت: (المدموازيل إيلين؟)
قالت: (المدموازيل. . .؟)
قلت: (آه. . . بنتك. . . أليست بنتك؟)
فقالت: (بنتي؟ عن أي شيء تتكلم؟)
فتشجعت وسألت: (أليس هذا بيت المدموازيل إيلين؟ معذرة إذا كنت مخطئاً!)
قالت: (بيت المدموزيل ايلين؟ ماذا جرى لعقلك؟ من أنت؟ أنها خادمة هنا!)
فأحسست أنه لم تبق لي قدرة على المضي في هذا الحوار، فاعتذرت لها مرة اخرى، وفررت
وصرت في الطريق، فأخرجت المنديل، وأقبلت على وجهي أمسح العرق المتصبب عنه في الشتاء، وإذا بالفتاة تقول بأرخم من صوتها الأول:
(سعيدة. . . هذا بوبي)
ومدت لي يديها به، فلم أتناوله، وتركته على كفيها وسألتها:
(هل أنت إيلين؟ قولي بسرعة!)
فقالت وهي متعجبة: (إيلين؟ كلا. . . إني. . . .)
فقاطعتها: (لا تقولي شيئاً. . . . هذا حسبي. . يكفي. . . . انك لست إيلين.)
قالت: (ولكني لا أفهم. . . .)
قلت: (ستفهمين كل شيء. . . بعد أن أتنفس وأشكر الله)
ثم قصصت عليها الحكاية، فضحكت، ولما سكنت الضجة، واستطاعت أن تتكلم أخبرني أني غلطت، وأن هذا مسكن جيران، وأن كلبهم كان قد ضاع، فرده عليهم بعضهم، وأن هذه السيدة الضخمة لابد أن تكون قد استرابت بي، وشكت في أمري، لأنها تعرف الذي أعاد الكلب، ففهمتُ السبب فيما بدا مها من الجفوة، ولماذا تركتني واقفاً على عتبة الباب وأبت أن تدعوني إلى الدخول
فقلت: (إذن ناوليني بوبي. . . . .)
وحملته عنها وصدعت معها إلى أمها. . .
وضحكنا كثيراً في ذلك المساء، ولا أحتاج أن أقول إني نسيت صديقي وعشاءه. . .
ابراهيم عبد القادر المازني
النزاع بين إيران والعراق
للأستاذ محمد عبد الله عنان
كان مما عرض على عصبة الأمم في دورتها الأخيرة الخلاف بين إيران والعراق على مسألة الحدود؛ ولكن مجلس العصبة لم يشأ كعادته أن يبادر إلى درس خلاف يخشى أن يحول تعقيده وخطورة العوامل والاتجاهات المتصلة به إلى فشل العصبة في بحثه باستقلال ونزاهة؛ ولهذا آثر بعد بحث المسائل الشكلية أن يرجئه إلى دورة أخرى عسى أن يوفق الفريقان المتنازعان إلى تسويته بمفاوضات مباشرة، فينجو المجلس بذلك من الحرج والتعرض إلى فشل يزيد في ضعف العصبة وانحلال هيبتها
ومما يبعث إلى أشد السف أن ينشب مثل هذا الخلاف بين دولتين شرقيتين كإيران والعراق تربطهما صلات تاريخية قديمة ترجع إلى عصور وآماد بعيدة، وتجمع بينهم مصالح مشتركة اقتصادية وسياسية وعسكرية، ويضاعف هذا الأسف ألا تستطيع الدولتان الشقيقتان حسم هذا الخلاف بالتفاهم المباشر، وأن تضطرا إلى عرضه على هيئة دولية دلت سوابقها وأعمالها في بحث المسائل الشرقية على أنها لا تملك بحثها دائماً بحرية ونزاهة، وأنها تتأثر غالباً بالنفوذ الأقوى. وفي هذا الخلاف، على رغم قيامه بين دولتين شرقيتين، ما يهم بعض الدول الغربية ذات لمصالح والنفوذ
والخلاف الايراني العراقي قديم يتناول علائق الدولتين منذ ظهور العراق في الوجود كوحدة سياسية خاصة، أعني منذ خاتمة الحرب الكبرى؛ وقد كان من نتائجه أن لبثت إيران مدة أعوام طويلة تصر على عدم الاعتراف بالعراق الجديدة، ولم تعترف بها إلا في سنة 1929 نزولاً على سعي لسياسة البريطانية. وإذا قلنا باضطراب العلائق بين إيران والعراق في تلك الفترة، فمعناه اضطراب العلائق بين إيران وبريطانيا العظمى التي كانت يومئذ تسيطر على أقدار العراق وتتولى توجيه علائقه الخارجية، وقد كان يرجع أحياناً إلى أسباب خارجة عن العراق ذاته، كالخلاف بين إيران وانكلترا على مسألة البحرين، وأحياناً إلى أسباب تتعلق بالعراق مباشرة كالخلاف على الحدود، واقتحامها بين حين وآخر من بعض رعايا هذا الفريق أو ذاك، أو على بعض المسائل التجارية وغيرها. ولما حصل العراق على استقلاله بعقد المعاهدة العراقية الانكليزية في صيف سنة 1930 سعي إلى
التفاهم مع جارته، وانتهت جهود الفريقين في ذلك السبيل إلى شيء من النجاح، وقام المغفور له الملك فيصل بزيادة رسمية إلى طهران، وكان من نتائجها أن زاد التقرب بين الدولتين وسويت بينهما مسائل كثيرة، ولكن الخلاف على الحدود بقي على حاله، والظاهر أن إيران كانت تنظر لاثارته فرصة ملائمة
ويقع الخلاف الحاضر بين الدولتين على الحدود الايرانية العراقية مما يلي شط العرب في الجهة الجنوبية الغربية بالنسبة لأيران، والجنوبية الشرقية بالنسبة للعراق. ومعروف أن شط العرب هو الاسم الذي يطلق على المجرى المشترك الذي يندمج فيه دجلة والفرات قبل صبهما في الخليج الفارسي بنحو مائة ميل، وعليه تقع مدينة البصرة. وتبدأ الحدود الايرانية العراقية من الخليج الفارسي شرق شط العرب (بالنسبة لإيران) متجهة نحو الشمال بحذاء شط العرب وعلى قيد بضعة أميال منه، ولا تتسع هذه الشقة الضيقة بين شط العرب والحدود الايرانية إلا عندما تحاذي البصرة تقريباً، وتستمر الحدود شمالاً محاذية لنهر دجلة وتتسع تدريجياً حتى يصير بينها وبين بغداد نحو سبعين ميلاً. وموضع الخلاف الحالي من الحدود هو الجزء الذي يحاذي شط العرب شرقاً ويفصل بين إيران وشط العرب، فان حكومة إيران تطالب به وتقول إن الحدود الطبيعية لايران يجب أن تكون هي شط العرب، ويجب أن تضع إيران يدها على الضفة الأخرى من النهر لتستطيع أن تعمل على تأمين حقوقها في حرية الملاحة فيه، ولكن العراق تعارض هذه الدعوى لأن الحدود الحالية بينها وبين إيران والتي تضع بمقتضاها يدها على شط العرب والشقة الواقعة بينه وبين الحدود الإيرانية، إنما قررت باتفاق جزءاً من تركيا، وقد تلقت العراق حدودها الحالية بمقتضى هذا الاتفاق، فهي لا تستطيع أن تتخلى عن شيء من أرضها والواقع أن هذه الشقة اتي تطالب بها إيران ذات اهمية عسكرية واقتصادية خطيرة، واستيلاء إيران عليها يجعلها إلى جان العراق سيدة الملاحة في شط العرب، ويهدد مركز البصرة ثغر العراق ومعقله الجنوبي؛ وللبصرة أهمية عسكرية خاصة بالنسبة للدفاع عن العراق
أما حجة إيران في المطالبة بهذه البقعة فهي أن الانفاق الذي عقدنه في شأن الحدود مع الدولة العثمانية سنة 1913 باطل لأنه لم يعقد في جو من الحرية، ولأنه لم يبرم لا في تركيا ولا في ايران، وأن دلالة بطلانه هو أن القيم الشمالي من الحدود الإيرانية التركية
القديمة، وهو الذي يفصل اليوم بين إيران والجمهورية التركية قد رسم وعدل باتفاق جديد بين الدولتين باعتبار أن التخطيط القديم باطل لا يعول عليه؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى فان مقتضيات عملية ودولية توجب أن يكون شط العرب هو الحد الفاصل بين الدولتين؛ وتلقي إيران تبعه الخلاف على العراق، وتقول إنها لم يسعها حين التجأ العراق إلى عصبة الأمم إلا أن تقابلها أمام مجلس العصبة راجية أن تتمكن العصبة من بحث المسألة بما يحسم الخلاف ويضع الأمور في نصابها؛ وهو ما يدل على أن إيران لم تكن راغبة في طرح الموضوع على عصبة الأمم
ويلوح لنا أن الأسباب التي تستند إليها وجهة النظر الايرانية مما يصعب قبوله، لأن القول ببطلان معاهدة قائمة عقدت على أساس اتفاقات سابقة وقد نفذت نصوصها بالفعل، لا يسوغ من الوجهة القانونية؛ ولو جاز أن تفسخ المعاهدات برأي فريق واحد من المتعاقدين على نحو ما تقدم إيران، لما بقي للمعاهدات الدولية أية قيمة؛ وأما كون الحدود الشمالية عدلت مع تركيا الجمهورية، فذلك يرجع إلى اتفاق الفريقين؛ وليس هنالك ما يمنع أن يعقد مثل هذا الاتفاق بين إيران والعراق إذا ارتضت كل منهما عقده. ومشاكل الحدود تقوم في الأغلب على اعتبارات قومية، كأن يكون سكان البقعة المطالب بضمها من نفس جنسية الأمة المطالبة، وأن يعربوا عن رغبتهم في الانضمام إليها بصورة عملية، فهل تستطيع إيران مثلاً. أن تقول إن سكان الشقة التي تطالب بها وأن أغلبهم ينتمون إلى الجنسية الإيرانية؟ وهل يطالب هؤلاء السكان بالانفصال عن العراق والانضمام إلى إيران؟ هذا ما لم تستطع أن تعرضه إيران، ولو استطاعت لكان لها سنداً قوياً معقولاً
وأما عن طرح النزاع على عصبة الأمم، فان العراق هي التي لجأت هذه الخطوة، وهو ما لم تكن ترغبه إيران؛ والفريقان المتنازعان من أعضاء الخطوة، وهو ما لم تكن ترغبه إيران؛ والفريقان المتنازعان من أعضاء العصبة، وإيران بنوع خاص من أقدم أعضائها؛ وليس في الواقع ما يؤخذ على العراق في مسلكها، لأنها تصرفت طبقاً لما ينص عليه ميثاق العصبة صراحة في مادتيه الثانية عشرة والثالثة عشرة؛ إذ تنص الأولى على (أنه إذا ثار بين أعضاء العصبة خلاف قد يجر إلى قطع العلائق، فانهم يطرحونه إلى إجراءات التحكيم أو أمام مجلس العصبة) وتنص الثانية على انه (إذا ثار بين أعضاء العصبة خلاف
يمكن تسويقه بالتحكيم؛ فانه إذا لم يمكن تسويقه بطريق المفاوضات السياسية، فانه يطرح برمته إلى التحكيم الاختلاف على تفسير معاهدة، أو على أي نقطة تتعلق بالقانون الدولي. . . . الخ)؛ ولكن الذي نعرفه من موقف إيران أمام العصبة هو أنها تأبى قبول التحكيم أو بعبارة أخرى الاختصام إلى محكمة العدل الدولية، بحجة أن دستورها الأساسي لا يسمح بذلك، وأنها تصر على بطلان المعاهدة المعقودة، فالمسألة بالنسبة إليها ليست خلافاً على تفسيرها، ولكنها لا تأبى المثول لدى مجلس العصبة، لي يبحث المجلس هذا الخلاف ويحاول أن يضع حداً له؛ ومتى أتمت العصبة بحث الخلاف، فان إيران تقوم عندئذ بمفاوضات مباشرة مع العراق لتسوية النزاع وحسمه بصورة عملية
ومع أنا نرجو أن توفق الدولتان إلى حسم هذا الخلاف الخطير سواء على يد مجلس العصبة، أو بطريق المفاوضات المباشرة، فانا لسنا نعلق كبير أمل على مجهود العصبة في هذا الشأن؛ بل يلوح لنا أن تدخل العصبة لم يكن مرغوباً فيه، لأن سوابق العصبة في نظرها وبحثها للمسائل لشرقية لا تشجع على حسن الظن بها خصوصاً إذا كان الامر ما يتصل بنفوذ إحدى الدول الكبرى، وقد أبدت عصبة الأمم أنها في بحث المسائل الشرقية تتأثر دائماً بما يحيط بها من مطامع ومصالح غريبة، وأقرب شاهد على ذلك، مسألة اعتداء إيطاليا على الحبشة وإغارتها على أراضيها بنية ظاهرة في الغزو والاستعمار؛ ومع ذلك فقد أبدت عصبة الأمم حين أرادت أن تلتجئ الحبشة إليها فتوراً ورغبة ظاهرة في التنحي عن بحث هذا النزاع، لأن إيطاليا لم ترغب في بحثه على يد عصبة الأمم. ولن يتغير اعتقادنا في العصبة بالنسبة لموقفها من النزاع الايراني العراقي، بغض النظر عن ظروفه الخاصة، فاعتقادنا دائماً أنها لا تستطيع معالجة هذه المسائل بروح من النزاهة والاستقلال
نرجو إذن أن يحسم الخلاف بين الدولتين الشقيقتين بالحسنى والاتفاق المباشر، خصوصاً وأن انكلترا من جهة أخرى تعلق أهمية خاصة على سلامة هذه البقعة من الأراضي العراقية. ذلك أن البصرة استثنيت من نصوص المعاهدة العراقية الانكليزية فيما يتعلق بالجلاء وبها قاعدة جوية عسكرية بريطانية هي إحدى قواعد الطريق الامبراطوري، وإيران من جانبها تتوجس من السياسة البريطانية في شبه جزيرة العرب، وتخشى أن يكون لها بما تنشئه من المطارات الحربية فيما وراء الفرات (تنفيذاً للمعاهدة العراقية
الانكليزية) غايات أخرى غير تأمين المواصلات الامبراطورية. والعلائق بين إيران وانكلترا ليست على ما يرام، وهنالك عدة مسائل معلقة بين البلدان. ومنذ سنة 1922 ترتبط إيران بلا ريب، فاذا استطاعت إيران بالضغط على العراق أن تدفع حدودها إلى شط العرب، فإنها تكسب بهذا التعديل مزايا عسكرية خطيرة. وعلى هذا فمن صالح إيران والعراق أن تعمل كل منهما لحسم الخلاف تواً حتى لا تدع سبيلاً إلى التدخل الأجنبي، وعسى أن يكون في استئناف المفاوضات أخيراً في رومة بين مندوبي العراق وإيران مما يؤذن بقرب التفاهم والوئام بين الجارتين الشقيقتين
محمد عبد الله عنان المحامي
قصة المكروب
كيف كشفه رجاله
ترجمة الدكتور أحمد زكي
وكيل كلية العلوم
هذه مقالات متفرقات شاعت في كثير من الأمم وقرأها الألوف الكثيرة من الناس، يربطها موضوع واحد، ويجري بها تسلس تاريخي واحد، كتبها العالم (بول دي كرويف) وقصد بها أن يكشف للجمهور بطريقة سهلة وفي لغة مؤاتية عن ذلك الصراع الذي بدأ منذ ثلاثة قرون بين الإنسان وبين المكروب، ويصف تلك الحرب الضروس التي قامت منذ حين قريب بيننا وبين هذه الاعداء الصغيرة التي عاشت من الأزل في رحابنا عيشة الاحلاف، وأقمت بين أظهرنا منذ كانت الحياة إقامة الأضياف، وفتكت بنا فتكا دونه فتك النار والحديد، تلك الجنود المجندة المروعة التي وجدنا أعظم خطرها في صغرها، وأشيد مراسها في دقتها، وأنكى دهائها في خفائها، سننشر قصتها تباعاً في الرسالة، وسيجدها القارئ المتتبع قصة على خطرها وعلى قرب مساسها بحياتنا، فيها ما في اقاصيص الادب من فرح ومن ألم، ومن فكاهة ومن مأساة، ومن غذاء للعاطفة الطبية لا يقصر عن غذاء يجسده في أقاصيص الحب وحكايات الغرام. فحكاية الصبر على المكاره ابتغاء تقع الإنسانية ومرضاة لوجه الله، حكايات لمن تخفق في تحريك القلوب الكريمة في الرجال الأكارم
المترجم
لوفن هو
أول غزاة المكروب
منذ قرنين ونصف نظر رجل خامل الذكر نكرة الاسم أول نظرة في عالم جديد غريب يسكنه ألوف الأجناس من أحياء صغيرة بالغة الصغر، يصفها وحشي ذو غداءٍ قتالٌ، وبعضها رفيق صديق نفاع، فكان هذا إيذاناً يفتح مبين أكبر خطر واجدى على الإنسان من قارة يكتشفها وجر يستعمرها
وكان أسم هذا الرجل (لوفن هوك اسم عفى عليه النسيان أو كاد، ورجل لم يشد بذكره أحد، يجهله الناس اليوم كما كانوا يجهلون حيواناته ونباتاته الضئيلة يوم أن رفع الغطاء عنها. هذه قصته، قصة أول كاشف للمكروب، تتلوها قصص من تبعوه من كشاف المكروب ومقاتلة الموت، وهي قصص ساذجة بسيطة لقوم جريئتين لحاجين متشوفين مثابرين، أطلوا على هذه الدنيا الجديدة العجيبة، دنيا المكروبات، وأطالوا النظر فيها وتابعوه في غير ملل أو كلل، وأرادوا فوق ذلك أن يشبروها ويمسحوها ويجعلوا لمجاهلها ومعاميها خرائط واضحة مبينة، فأخذوا يتحسسون في الظلام، ويمدون أكفهم متلمسين غير لامسين، فيستقيمون حيناً ويخطبون أحياناً، ويصيبون مرة ويخطئون مراراً، لحلوكة المكان ووعورة المسير.
ومهم جماعة غلوا في الجرأة فقتلتهم تلك الخلائق الصغيرة التي كانوا يدرسونها فلم يصيبوا جزاء ما عملوا إلا مجداً صغيراً مستوراً
في أيامنا هذه لا يؤخذ على المرء أن يكون رجل علم، ورجال العلم اليوم عنصر خطير من العناصر التي تتألف منها سكان البلاد المتحضرة؛ معاملهم في كل مدينة، وأعمالهم على الصفحات الأولى من الجرائد، تذاع في الكثير الغالب ولما يتم نضاجها، وكل متخرج شاب في جامعة يستطيع أن يبحث في العلوم جهاراً، وفي منته رويداً رويداً أن يصير أستاذاً يدرس بمرتي فيه غناء، وأن يستمتع بالسكن الهادئ في بيت صغير مريح. ولكن احمل نفسك إلى عصر (لوفن هوك)، إلى خمسين ومائتي سنة إلى الوراء، وتصور نفسك قد رجعت إلى داراك من آخر درس في آخر سنة من مدرستك الثانوية، وبدأت تفكر فيما تتعلم من بعد ذلك لتخلق لنفسك مستقبلاً، وتهيأت تطلب المزيد من العرفان العالي، من العلم الجر، من البحث الطليق. . . هيهات
او تصور ان التكلف، ما كنهه، ما سببه: تسال والدك ليقول لك: لعنة من روح خبيثة دخلتك. هذا جواب قد لا يقنعك، ولكن مع هذا تصدقه، أو على الأقل تتظاهر بتصديقه، ثم لا تعود تفكر في الكاف ولا في كنهه ولا في سببه، ثم تنساه نسياً ابدياً، لأنك لا تستطيع ان تجهر بمناقضة ابيك ولو قال نكراً، ولأنك إن فعلت اذاقك مس العصا او طرد البيت. فابوك ذو سيادة مطلقة لا تُنازع ولو جائرة
هكذا كانت الدنيا منذ ثلاثة قرون، يوم ولُد (لوفن هوك). كانت دينا مليئة بالخرافات، مغلولة بالأباطيل. دنيا أحرقت سؤفيتوس لانه تجرأ على تشريح جثة ميت ليختبرها ليعلم ما فيها. دنيا قضت على جاليليو بالسجن المؤبد لأنه تجاسر فحاول أن يثبت أن الأرض تدور حول الشمس. دنيا كانت على وشك أن تستيقظ لليقين ولكنها لم تكد، وأن تفك عن عنقها غل الجهل ولكنها لم تكن فعلت، وأن تحمر خجلاً من عار ما هي فيه فلم يبد في وجهها إلا مسحة تُخال من حُمرة. دنيا كان العلم فيها يدرج دَرَجان الطفل على ساقين ضعيفين مرتعدتين في بطء وخشية، وما كان العلم إلا استطاع الحق بالنظر الدقيق والتفكير الواضح البريء
ولد (لوفن هوك) عام 1632 بين طاحونات الهواء الزرقاء والطرقات الواطئة والقنوات العالية بمدينة (دلفت بهولاندة. وكانت أسرته ذات حُرمة كبيرة. أقول كبيرة لأنهم كانوا سلالين وكانوا خمارين، والخمارون قوم محترمون مشرفون في هولاندة. ومات أبوه فأرسلته أمه إلى المدرسة ليصير موظفاً في الحكومة، ولكنه ترك المدرسة في سن السادسة عشرة، وتتلمذ لقماش بمدينة أمستردام فكان حانوت هذا القماش جامعته. تصور رجلاً علمياً من عصرنا هذا يجري اختباراته وتجاربيه بين أثواب الشيت وقرع أجراس الصيارفة، وبين الحديث إلى ربات المنازل تتوالى عليه في دورة لا تنقطع وكلهن حريصات يساومن للقرش والمليم! تلك كانت جامعة (لوفن هوك) ستة أعوام
وفي سن الحادية والعشرين ترك لحانوت ورجع إلى (دلفت) وهناك تزوج وفتح حانوتاً لبيع المنسوجات واختص به. ولا ندري عنه في السنوات العشرين التي تلت ذلك إلا أنه تزوج مرة اخرى وكان له بضعة أطفال مات أكثرهم. ولكن ما لا شك فيه أنه تعين حاجباً في دار بلدية المدينة في هذه الاثناء، وأنه شُغف بنحت من الزجاج الرائق عدسات صغيرة فيتقن النحت ثم ينظر إلى الأشياء من خلالها يجدها أكبر كثيراً مما تراها العين
إن المعروف عنه بين سن العشرين وسن الأربعين قليل، ولكن لا ريب في أنه عاش بين الناس كبعض الجهال فلم يُعرف عنه علم ولم تظهر له بينهم قيمة، واللغة الوحيدة التي عرفها هي اللغة الهولاندية، وهي لغة خافية خاملة كان ينعتها أهل العصر بأنها لغة السماكين وأصحاب الدكاكاين والصعاليك من الفعلة. أما المثقفون في تلك الأيام فكانوا
يتكلمون اللاتينية. ولم يكن (لوفن هوك) يقرأها بَلْهَ الكلام بها. وكان كل ما يعرف من كتب الأدب الانجيل الهولاندي. ولكن مع هذا، وبالرغم من كل هذا، ستجد أم جهله أعانه كثيراً؛ فجهالته قطعت ما بينه وبين العلم الفارغ الزائف الذي كان شائعاً يومئذ، فاضطر إلى الرجوع إلى عينه، والاعتماد عل فكره، والاعتداد بحكم نفسه، وكان في خلقه حرونة البغال فساعده ركوب رأسه على اقتحام الطريق الذي سلك
لا مراء في أن رؤية الشيء من خلال عدسة، ووجدانه أكبر مما ترى العين، أمر فيه متعة وفيه سرور وفيه غبطة. ولكن من أين للوفن هذه العدسات! يشتريها؟ هيهات ولو قطعوا رأسه. وكان كثير الشك كثير الاتهام، فلم يجد بداً من صنعها بنفسه. وفي العشرين سنة التي لم نسمع فيها عنه ذهب إلى صناع النظارات وتعلم مباديء نحت الزجاج، وخالط الكيميائيين والصيادلة وتدخل في أعمالهم ونفذ إلى أسرارهم، فعلم كيف يستخرجون المعادن من خاماتها، وأخذ عنهم بُجهد النفس صياغة الذهب والفضة. وكان لا يعجبه العَجَب، فلم تُرضه العدسات ينحتها كأحسن ما ينحت نحاتو هولانده، فكان يعيد عليها الكرة بعد الكرة ساعات طويلة، ثم يركبها بعد ذلك في مستطيلات صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب مما استخرجه هو بنفسه من الخام على جمرات الفحم المتقدة بين الروائح الغريبة والابخرة الخانقة. إن الباحث اليوم يدفع الخمسة عشر جنيهاً أو نحوها فيقبض بديلاً منها مكرسكوباً جميلاً بارقاً يدير لوالبه وينظر فيه فيكشف ما يكشف وهو لا يعرف كيف صُنع مكرسكوبه ولا كيف تركب. أما (لوفن هوك) فلم يكن يأخذ بشيء أخذ تسليم
بالطبع كان جيرانه يظنون به بعض الخيل، ولكن (لوفن) لم يأبه لهم، ومضى في عمله تتنفط يده وتحترق اصابعه ويشتغل ساعات الليالي الطويلة الهادئة وحيداً منكباً على أعمال صعبة دقيقة، ناسياً أهله أصدقاءه. وكان جيرانه الاخيار الطيبون يتسارقون الضحك منه بينما كان يشق لنفسه طريقاً عسيراً إلى صناعة عدسات صغيرة جداً قطرها دون ثُمن البوصة، غايةٍ في التماثل، غايةٍ في الكمال، بلغ منها أن أرته دقائق الأشياء كبيرةً ضخمة في صفاء وروعة. نعم إنه لم يكن كبير الثقافة، ولكنه كان من بين رجال هولانده الرجلَ الفذ الذي استطاع أن يخلق هذه العدسات. وكان إذا ذكر جيرانه يقول: لقد حق علينا أن نغفر لهم فهم قوم لا يعلمون
ثم بدأ هذا القماش يصوب عدسته إلى كل شيء وجد، فنظر بها ألياف عضلات الحيتان، ونظر بها ما كشط من جلد نفيه. وذهب إلى القصاب يستجديه أو يشترمى منه عين ثور، وأخذها وامتحنها ونظر إلى عدستها البلورية الجميلة فراعه منها تركيبها البارع. وجاء بشعرات من صوف خروف فأخذ يحدق فيها ثم يحدق، وبأخرى من فرو كلاب الماء، وبثالثة من بعض الأوعال، وأخذ يحدق فيها ثم يحدق، فتراءت له هذه الخيوط الدقيقة الملساء تحت قطع زجاجه الصغيرة كفروع الشجر كبراً وخشونة. وشرح رأس ذبابة، فحاذر وحاسب حتى أخرج منه مخها، وجمله على إبرة رفيعة، ونظر إليه بمكرسكوبه فأعجب بتفصيلات هذا المخ الكبير. واختبر قطاعات خشبية ليضع من أشجار مختلفة، وامتحن بذور النباتات، ونظر النظرة الأولى إلى فم البرغوث وإلى أرجل القملة فوجدها جميعاً كبيرة غاية في الكبر، مفصلة غاية في التفصيل، كاملة غاية في الكمال، فاتهم عينه أو كاد. كان (لوفن هوك) كالجرو يتشمم كل ما حوله فلا يميز الطيب من الخبيث، ولا يعوقه عائق من عرف أو أدب
- 2 -
وكان (لوفن هوك) رجلاً شكاكاً ملحا في شكه، ينظر إلى زباني النحلة أو إلى رجل القملة، ثم ينظر، ثم يكرر النظر حيناً بعد حين. ثم يترك كل هذا عالقاً إلى طرف منظاره ليصنع منظارات اخرى ليرى أشياء أخرى. ثم يعود إلى أشيائه الأولى ليتحقق مما كان رأى أولاً. فتجمع بذلك لديه مئات المكرسكوبات. ولم يكن يكتب عما يرى حرفاً، أو يرسم له رسماً، حتى يؤكد بعد مئات النظرات أنه في الظروف الواحدة والملابسات الواحدة يبصر دائماً أموراً واحدة. وبعد كل هذا كانت لا تفوت الريبةُ قلبه: قال فيما قال عن هذا: (ينظر الناظر في المكروسكوب أول مرة فيقول رأى كذا، خداعٌ لا ينجو منه حتى النظار الحاذق. لقد انفقت على مشاهداتي زمناً طويلاً لا يتسع له تصديق الكثيرين، ولكني انفقه في سرور ولذة، ووضعت إصبعي في أذني كلما سمعت الناس يقولون: ولم كل هذا التعب؟ وما العائدة من هذا النصب؟ فان هؤلاء قوم لا يفقهون، وأنا إنما أكتب لطلاب الفلسفة ورواد الحكمة. .)
وظل هكذا بعمل من غير راءٍ ولا سامع، من غير مادح مصفق أو مهلل مكبر، مدة بلغت
العشرين عاماً
ولكن في هذا الوقت، في منتصف القرن السابع عشر، اخذت الاعوام تتمخض في العالم عن احداث عظيمة، ففي انجلترا وفرنسا وإيطاليا، وفي كل ركن وبين كل ملأ، أخذ رجال ينظرون من جديد في كل شيء يقال له علم، وفي كل أمر تُنتحل له لفظة الحقيقة، قالوا: لن يغنينا بعد الآن ما تحدث به أرسطو ولا ما أرتاه البابا. لن يغنينا بعد الآن إلا ما تراه أعيننا باطالة النظر وإدامة الملاحظة، وإلا ما تجده موازيننا وتكشف عنه تجاريبنا)
وكان في انجلترا من بين هؤلاء الثائرين نفر قليلون ألفوا فيما بينهم جماعة أسموها (المدرسة المتسترة). وكان لابد لهم من التستر خشية على رقابهم من حبال المشانق (فكرومويل) كان رب هذا العصر والحاكم بأمره فيه، فلو أنه علم بهم، وعلم بالأقضية الغريبة التي يبحثون، لقضي على أهل البدعة المؤتمرين بالموت. . . . وكان من بين هذا النفر المتستر (ربوبرت بوبيل) واسحق نيوتن وارتقى شارل الثاني عريش ملكه فخرجت تلك الجماعة من الظلام إلى النور، ومن غيهب الجب الستار الذي كانت تعمل فيه إلى نهار وضاح مذياع ينشر اسمها الجديد إلى الرياح الأربع. وتسمت بالجمعية الملكية الانجليزية وكانت هذه الجمعية الوقور الجليلة أول مستمع إلى (لوفن هوك)، وذلك أنه كان في مدينة (دلفت) رجل يسمى (رجنيير دي جراف) كان قد كشف في مبيض الأنثى من البشر عن أمور ذات قيمة وخطر، فكتب بها إلى الجمعية الملكية فكافأته فاختارته عضواً مراسلاً. وكان (دي جراف) الرجل الوحيد من بين رجال (دلفت) الذي لم يضحك من (لوفن هوك)، وكان (لوفن) قد تجهم للناس وتنكر لهم مما هزءوا منه وأساءوا اليه، ومع ذلك أذن لـ (دي جراف) أن ينظر بعيون بابل التي صنعها: أن ينظر بتلك العدسات الصغيرة التي لم يكن يوجد مثلها في أوربا ولا في انجلترا بل ولا في العالم كله. نظر (دي جراف) في تلك العدسات فأكبر ارأى، وتصاغر في عينه مجد كسبه، وأسرع فكتب إلى رجال الجمعية الملكية يقول اكتبوا إلى لوفن هوك واسألوه أن يكتب اليكم بالذي اكتشف
وأجاب (لوفن) رجاء الجمعية فكتب إليها بلغة الواثق الجاهل قدر الفلاسفة العظام الذين يكتب اليهم. وكان كتاباً طويلاً ثرثاراً مضحكاً لا أثر للصناعة فيه، تناول من الموضوعات كل ما دارت عليه الشمس. وان مكتوباً بلغة التخاطب الهولاندية وهي اللغة الوحيدة التي
عرفها. وعنون كتابه: عينة من ملاحظات مكرسكوبية ابتدعها المستر لوفن هوك تتعلق بالفطر على الجلد وفي اللحم وهلم جرا، وكذلك تعلق بُحمَة النحلة ونحوها.
وجاء الكتاب الجمعية فأدهشها ما فيه، وقرأه السفسطائيون فيهم والعلماء فتبسموا منه وتفاكهوا عليه، ولكن على الجملة راعهم ما قال (لوفن) إنه رآه بعدساته الجديدة، وكتب اليه كاتب الجمعية يشكره ويرجوه أن يُتبع كتابه كتباً أخرى، وقد كان، فقد اتبعه (لوفن) بمئات من الكتب طيلة خمسين عاماً. وكانت كتباً ثرثارة مليئة بقوارص الكلم عن جيرانه الجهال، فضح فيها أدعياء، وكشف فيها عن خرافات وأضاليل كشف خبير قدير، وتحدث فيها عن نفسه وعن صحته، وأتي فيها بأشتات من كل ما هب ودبَ، ولكنها أحاديث برغم تبسطها، وبرغم شتاتها، كانت تتحشى هنا وهناك، وفي كل كتاب تقريباً، بأوصاف دقيقة مجيدة خالدة لما كشفته عين هذا التاجر. وطالعها لوردات الجمعية وسادتها فكانت لهم متعة وفخراُ
(يتبع)
أحمد زكي
أصول التحقيق الجنائي في التشريعين الأوربي
والاسلامي
للأستاذ بشير الشريقي
إن موضوع (أصول التحقيق الجنائي) أعني الأساليب المتبعة لأثبات الأفعال الجُرمية هو من أهم موضوعات (العلم الجنائي)، هذا العلم الذي ينظم إيقاع العقاب على من يخالف أمر القانون أو نهيه
إن أهمية هذا العلم وخطره يظهران واضحين في نتيجته الضرورية، وهي الحكم بالعقوبة على من ثبتت جريمته، عقوبة تحرم المتهم المقرر تجريمه أقدس حقوقه، من ماله وحريته بل من حياته أيضاً
لقد تعاقب على أصول التحقيق الجنائي في أوربا أسلوبان أصليان يعرف أولهما بالأسلوب (الادعائي) وثانيهما بالأسلوب (التحقيقي). ظل الأسلوب الادعائي سائداً في أوربا حتى القرن الخامس عشر، ومن مقتضاه أن يرجع القاضي عند عدم اقناعه بالشهادات المسرودة أمامه واصرار المتهم على إنكار الجرم إلى ما يسمونه (حكم الله) ليفصل بين المتداعيين. أما حكم الله فقد كان يتجلى للقاضي بالمصارعة، والماء الغلي، والكي بالنار!
ثم أحلوا الأسلوب (التحقيقي) محل الأسلوب الادعائي حوالي القرن الخامس عشر للميلاد، فكان التحقيق يجري فيه بين جدران خرساء وفي خلوات متتابعة، بين حاكم مجرب يميل بحكم العادة المسلكية إلى أن يرى في الظنين مجرماً، وظنين عاجز عن الدفاع مضطهد في السجن ومستعد للإدلاء بإفادات ضارة فاضحة، وكان قضاة هذا الأسلوب، حينما لا يظفرون - بعد صفحات التحقيق المختلفة - بأدلة كافية لأخذ المتهم، وبكلمة أصح، حينما لا يظفرون بشيء ضده؛ يأمرون بسوق المسكين إلى حجرة التعذيب للحصول على اعترافه، وعلى ما في هذا الاسلوب الاستنطاقي من قسوة ووحشية، فقد كان يظهر للاوربيين طبعياً جداً وضرورياً، حتى انهم كانوا يطلقون عليه اسم (المسألة القضائية)!. ويذكر الاستاذ (جارو) هذه الأصول في موجزه (الأصول الجنائية) جزء 1 فقرة 23) فيقول: (. . . مع أن استعمال التعذيب كان عاماً، فان طرق استعماله كانت مختلفة، باختلاف البلاد والبرلانات، وبينمت كان التعذيب بالماء والآلات المخصصة لتعذيب المتهم في أعضائه
السفلى، جارياً ومقبولاً في اجتهاد منطقة برلمان (باريز) فقد كانوا في منطقة (بريطانيا) يستعملون التعذيب بالنار!. .)
ويصور الكاتب الفرنسي الكبير (ميشيل زيفاكو) كيف كان يجري التحقيق الجنائي في عهد فرانسوا الأول (1494 - 1547) فيقول (. . . فاذا عرض إبهام وغموض في إحدى القضايا، أمر القاضيان بأن يساق المتهم إلى حجرة التعذيب، وإذ ذاك لا تنقضي عشر دقائق حتى يقول احد القاضيين: لقد برح الخفاء وظهر المستور، فيقول رفيقه: آمين!! وذلك أن المتهم المسكين إذا ألقي إلى معاناة التعذيب والتنكيل يقر بكل ما يريدون الاقرار به، وقد يعترف بعضهم بذنوب لا يصورها إلا الخيال أو هي فوق الامكان كاقرار المتهمين بأنهم يراسلون الشياطين أو يحمون مردة الجن، أو يطيرون في الهواء!)
ظل هذا التشريع في أصول التحقيق يظلم الأوربيين ويعذبهم أعواماً وقروناً طويلة لم يفكروا خلالها في تغييره أو مقاومته، وكيف يفكرون في ذلك وهم يعتبرون ان قسوته واجحافه من الشدة الضرورية؟!. إلى أن جاءت الثورة الفرنسية 1789 واعلنت حقوق الإنسان، عندها فقط عمد رجال العقل والفكر في الجمعية التأسيسية إلى إصلاح مفاسد الحقوق المرعية بوجه عام، والحقوق الجنائية بوجه خاص، فنجحوا في ذلك نجاحاً عظيماً
تلك هي أصول التحقيق الجنائي في أوربا بقيت حتى الثورة الفرنسية وفيها ما فيها من بشاعة وظلم يوقع في انواع من الفوضى والفساد، واساليب فظة غليظة لا تلائم سياسة الامم بالعدل ولا توافق حال العمران، وانما تكشف عن مبلغ ما كان يسود اوربا حتى سنة 1789 من جهل وغباوة وظلم وفساد
وبعد فلنر كيف كان قضاة العرب المسلمين منذ ثلاثة عشر قرناً يحكمون بين الناس، واي الاساليب كانوا يتبعون لا ثبات الافعال الجرمية!: جاء في كتاب (الخراج) للأمام ابي يوسف المتوفي سنة 182هـ ص107 ما يأتي:
(. . . ومن ظن أو توهم عليه سرقة أو غير ذلك فلا ينبغي أن يعزر بالضرب والتوعد والتخويف فان من أقر بسرعة أو بحد أو بقتل، قد فعل ذلك به، فليس إقراره بشيء ولا يحل قطعه ولا أخذه بما أقر به)
انه لقضاء عادل ونظر قويم ورأي سديد، يتفق واحدث قواعد العلم الجنائي، ويبرهن أعظم
برهان على أن العرب المسلمين كانوا من أعرف الناس بحق المجتمع وحق العدل، ومن أكثرهم فطنة وعراقة في أصول القضاء العادل
يقول الأستاذ (جارو) في موجزه (الأصول الجنائية جزء 2 فقرة 408): (إن التجديد الأعظم في أصول التحقيق كان في قانون 1897 الذي يوجب على المستنطق أن ينذر الظنين ويخبره بأنه يقدر ألا يدلي بشيء من البيانات والإفادات)
ونقول أيضاً إن هذا (التجديد الأعظم) هو عين ما كان يفعله قضاة العرب عند مثول المتهم أمامهم، فقد جاء في كتاب الخراج الذي نبحث عنه ص107 ما يأتي:(وقد كان يبلغ من توفي أصحاب رسول الله (ص) الحدود في غير مواضعها، وما كانوا يرون من الفضل في درئها بالشبهات أن يقولوا لمن أتى به سارقاً:(أسرقت؟ قل لا)
إن هذا لعمر الحق منتهى الدقة والعلم، منتهى الاحتياط في حفظ الحقوق
وإليك ما جاء في كتاب (الطرق الحكيمة) ص4 لمحمد ابن قيم الجوزية المتوفي سنة 751 هجرية في موضوع (الأقرار) وهو مما يتصل ببحث التحقيق (. . . إن الاقرار إذا كان لعلة اطلع عليها الحاكم لم يلتفت اليه أبداً)(لبينة والاقرار خبران يتطرق اليهما الصدق والكذب) و (الحكام إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات ودلائل الحال ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية كجزيئات وكليات الأحكام أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم بطلانه، ولا يشكونه فيه اعتماداً منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وسائر أحواله)
هذا ما يقوله ابن القيم في موضوع (الإقرار) ومنه يستدل على ان قضاة العرب لم يكونوا في قضائهم يقفون عند مجرد ظواهر البينات، وإنما يحكمون بقناعتهم ووجدانهم وفراستهم أيضاً، وإن في ذلك لفطنة وذكاء وصدقاً، خصوصاً ومسألة (القناعة الوجدانية) مسألة كبيرة تعتبر من أمهات المسائل في العلم الجنائي الحديث، يلاحظ في إهمالها إضاعة حق كبير وإقامة باطل كثير؛ وقد ذكر الاستاذ (جارو) ذلك في موجزه (الأصول الجنائية) جزء 2 فقرة 377 فقال:(لا ينبغي الحكم بمجرد وجود الاقرار إذ أن موضوع المحاكمة ليس الفصل في منافع خاصة، وإنما هو إظهار الحقيقة وكشفها، ولذاك يجب التدقيق عما إذا كانت ظروف القضية الاقرار صحيحاً)
واستمع أيضاً إلى ابن القيم يشرح في طرقه الحكيمة ص174 - 180 اوفى واوضح شرح؛ موضوع علم القاضي الشخصي: (ما علمه القاضي في زمن ولا يته ومكانها وما علمه في غيرها) هذا الموضوع الدقيق جداً في علم الحقوق. قال رحمه الله:
(ومن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (. . . فأقضي له على نحو ما أسمع) واما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم فصح عن ابي بكر الصديق انه قال: (لو رأيت رجلاً على حد من حدود الله تعالى لم آخذه حتى يكون معي غيري). وعن عمر بن الخطاب انه قال لعبد الرحمن بن عوف: (أرأيت لو رأيت رجلاً قتل أو شرب أو زنى، قال شهادتك شهادة رجل واحد. فقال له عمر صدقت) وعن طريق الضحاك ان عمر اختصم اليه فيمن يعرفه فقال للطالب: (إن شئت شهدت ولم أقض وان شئت قضيت ولم أشهد) وعن علي نحوه، وأما الآثار عن التابعين فصح عن الشعبي أنه قال:(لا أكون قاضياً وشاهداً)
وهم يدللون على صواب هذه المسألة بقولهم: (إن القاضي في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حكام، وشهادة الفرد لا تقبل، قالوا وأما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها لانه خصم فيها، لأنه حق الله تعالى وهو نائبه). . . وهل يسوغ للحاكم ان ياتي إلى رجل من الناس غير مشهور بفاحشة وليس عليه شاهد واحد فيرجمه ويقول رأيته يزنى، أو يقتله ويقول سمعته يسب، او يفرق بين الزوجين ويقول سمعته يطلق، وهل هذا غلا محض التهمة، ولو فتح هذا الباب ولاسيما لقضاة هذا الزمان لوجد كل قاض له عدو، السبيل إلى قتل عدوه ورجمه وتفسيقه والتفريق بينه وبين امرأته، لاسيما إذا كانت العداوة خفية لا يمكن لعدوه اثباتها)
وقد يحسن بنا بعد هذه المقارنة بين اصول التحقيق الجنائي في التشريعين الاسلامي والاوربي، ان نختم موضوعنا بكلمة جامعة للعلامة جلال الدين السيوطي تدل على سمو الغاية، وكمال المسمى الاسلامي في التشريع القائم على تحقيق العدل وضمان المصالح الإنسانية، وفي هذه الجملة تتجلى حيطة لقاضي النزيه، وخشيته ان يأخذ البريء بعقوبة المذنب. قال رحمه الله:(اعلم انك ان تخطيء في العفو في الف قضية، خير من ان تخطيء في العقوبة في قضية واحدة)
شرق الاردن
بشير الشريقي المحامي
جمال النكتة في الشعر
بقلم الأستاذ الحوماني
صاحب مجلة العروبة بيروت
النكتة في أصل اللغة هي النقطة البيضاء في الشيء الأسود، أو السوداء في الشيء الأبيض، اخذها البيانيون لكل معنى يترك في النفس لدى كشفه أثراً تظهر معه بمظهر الروعة والاعجاب. ولا يخفى الشبه بين الحقيقتين اللغوية والاصطلاحية، فكما أن النفس ترتاع لمنظر السواد في البياض كالحور في العين. ولمنظر البياض في السواد كالقمر في الليل، فكذاك تأخذها الروعة لسماع قطعة من النثر قد ضمنها الشاعر معنى أخرجه بين دقة نظر وإمعان فكر، فهي في عرض الحديث أو القصيدة بارزة الجمال بروزها في سواد الليل قمرا، وفي بياض العين حَوَرا
والنكتة البيانية كما تكون في العلم نتيجة إعمال الفكر، تكون في الفن وليدة إبداع الخيال، وتكون وليدة الطبع أو التطبع، وإذا جاءت هزليةً دعيت فكاهة، وما أثقل على السمع أن يهزل بها متكلف، وإذا كانت جدية كانت وليدة الحذق وحدة القلب، أما الهزلية فتكاد تكون قاصرة على الطبع
قد يرى البعض أن النكتة في الشعر محض فن لأرواح معه، والذي يوهمهم ذلك هو ظنهم أن الشاعر إنما ينظم النكتة وهو غير متأثر، فهم يحصرون التأثر النفسي في جانب العواطف الثائرة لحزن أو سرور، والنكتة عندهم مجرد التفات الفكر إلى غريب معنى يكتشفه وهو يتحقق أو يتخيل، بينما تكون العاطفة هادئة مطمئنة؛ ولو لفتهم العقل إلى ما تتأثر به نفوسهم لدى سماعهم هذه النكتة من روعة وجمال ثم التفتوا ثانياً إلى أن تأثر السامع إنما هو نتيجة تأثر القائل لاستراحوا من هذا التأويل، ولعلموا أن النظم إذا صدق عليه أنه شعر، كانت روح الشاعر متغلغلة فيه، ولكن هذه الروح تبدو جلية في حين وتخفي على الفهم البسيط في حين آخر، وليس تأثر النفس الشاعرة قاصراً على ما يبعث الحزن أو السرور فيها، وإنما يتعدى ذلك إلى كثير من أفعال الوجدان، كالدهشة، والغضب، والذعر ونحوها
يلتفتون إلى أن النكتة في الشعر إنما تنشأ عن تنبه الفكر إلى غريب معنى يكتشفه وهو
يتخيل أو يتبين الحقائق، ويغفلون عن روعة النفس وتأثرها بما تشعر من وراء هذا الاكتشاف، فاشمع نفح الطيب يروي لك جمال النكتة في الشعر عن شعراء الأندلس:
أعوذ بالله من أناس
…
تشيخوا قبل أن يشيخوا
احدودبوا وانحنوا رياء
…
فاحذرهم إنهم فخرخ
مناط تأثر الشاعر في هذين البيتين ما يشعر به من تدليس المرائين، ولعلهم المنافقون الذين يسرون الكفر ويظهرون الايمان، وجمال النكتة منهما في البيت الاخير، وهي فيهما قاصرة على الفن، وليست من الفن مجرد حمل الفخاخ على ظهورهم بجامع التقويس كما تشبه الناقة الهزيلة بالقوس، والهلال بالعرجون القديم، إذ ليس غرض الشاعر بيان أن ظهورهم محنية كالأقواس أو الفخاخ، ولكن غرضه أن يلفت العامة إلى أن وراء تقويس ظهورهم المكذوب ما وراء تقويس الفخوخ من رياء وتضليل وغشٍ وخداع، فلم يتقوسوا لكبرٍ أو عجز، بل ليخدعوا الرأي فيطمئن إليهم في إصلاح نفسه، ويجعلهم محل الثقة من دينه ودنياه فيمدوا إذ ذاك أيديهم إلى ذات يده ويمعنون فيها بزاً واختلاساً
ولكن ما يجب أن ينتبه له هنا هو أن القنص علة للغش والخدعة، وهما علة للتقويس، وأما في الفخاخ فالقنص له معلولان لا يترتب أحدهما على الآخر: هما التقويس والخدعة. فالتقويس يلحق الآلة التي تقبض على الطريدة، والخداع يكون بواسطة طعم يناط بالآلة الموارد خلفه
فالخداع في المشبه على التقويس، والقنص يترتب على الخداع، فالرجل المرائي يتقوس ليخدع، ويخدع ليقنص، وأما الفخ فيتقوس ليقبض وبناط به الطعم ليخدع، هكذا يتبين الفرق جلياً بين المشبه والمشبه به
وجميل في النكتة قول الآخر من شعراء نفح الطيب أيضاً:
يا بدر يا شمس يا نهار
…
أنت لها جنة ونار
تجنبُ الثم فيك اثمُ
…
وخشية العار فيك عار
النكتة تتحقق هنا في ادعاء الشاعر لمحبوبه جمالاً يبلغ بالهائم فيه حداً يرى معه الحسن في المجتمع قبيحاً والقبيح حسناً، وادعائه أن من رأى حبيبه حمله جماله على أن لم يعذره في اقتراف الاثم معه فحسب، بل جعل تجنبه للاثم فيه من الاثم، وخشية العار فيه من العار؛
ولا يخفى ما يعضد جمال المعنى من تلاعب في اللفظ، وكثيراً ما يكون التلاعب من الجمال
ومن جمال النكتة قول سبط بن التعاويذي:
قل لمن أصلي هواها
…
كبدي ناراً تلظى
يا قضيب البان قدا
…
وغزال الرمل لحظا
أنت أحلى من لذيذ
…
النوم في عيني وأحظى
قد بذلت الوصل في الطيف فلم أعرضت يقظي؟
لا أرى لي، والمودات
…
حظوظ، منك حظاً
آه من رقة خدٍ
…
صيرت قلب فظاً
جمال الشعر من هذه الأبيات يتجلى في الأربعة الأخيرة، أما النكتة ففي الأخير، ولعل الفتنة فيما قبله، ولعل مبعثها اعتراض الجملة الوسطى، والاعتراض في الشعر جمال يأخذ اللب بسحره، ولعلنا نأتي على طرف منه في آخر هذه الكلمة
كني برقة الخد عن جمال الوجه، وإنما حض الرقة باطلاق الخاص على العام، وهي أحد جزيئات الجمال، ليقابل بها الفظاظة في الروي، فهو من جمال الفن
لما أثبت له الجمال كان من لوازمه الاعجاب والزهو في الجميل وهما مبعث الدلال والتجني، وهذان يحملان على القسوة وعدم الرأفة بالهائم في ذيهما لكثرة العشاق حوله، فكان اذن من لوازم الجمال قسوة القلب، وليست النكتة فيما تسمع، ولكنها في ايهام جعل الرقة علة للفظاظة وهما نقيضان، بتصرف تظهر النفس معه بمظهر الروعة والدهشة
فالشاعر في الحقيقة لم يجعل الرقة علة للقسوة، وانما جعل الفظاظة مسببة عن تجني الحبيب مزهواً بجماله، ثم كنى عن الجمال بالرقة التي هي إحدى جزئياته، فصح له إذ ذاك تعليل الشيء بجزئي سببه
يقول شمس الدين العاملي يمدح كامل بك الأسعد نجل خليل بك الأسعد وهما من زعماء بلاد (عاملة):
وإكسير علم ركبته قريحتي
…
غنيت به عن قصد كل بخيل
إذا شئت أن أثرى صنعت سبيكة
…
وأهديتها للكامل بن خليل
ويوق أيضاً في معرض اللوم على ابن عمه الشاعر على شمس الدين وقد تعرض لخلاف وقع زعيمين اقطاعيين:
إذا ما التقى الليثان في حومة الوغى
…
وكل على كلٍ جريء مشيع
فمن سفهٍ ان ينبح الكلب ضيغما
…
وينطح ذا روق لدى الروع أقرع
فانك تستطيع أن تهتدي إلى النكتة في آخر الشعر حتى تعلم الخبر الذي تقدم البيتين ثم لا ترتاع نفسك للشعر تماماً حتى نعلم أن عم الشاعر أقرع. وهكذا كثيراً ما تكون النكتة، لتسمى نكتة، متوقفة على بيان ما هي في سياقه
وقد تبنى النكتة على مثل خاص أو حديث خاص واصطلاح قوم خاص، فتكون نكتة خاصة لا يرتاع لها إلا من شرك قوماً نظمت لهم في الجهة التي بنيت عليها،، فالشاعر حيث يقول:
عزلوك لما قلت: ما
…
اعطي، وولوا من بذل
أو ما علمت بأن (ما)
…
حرف يكف عن العمل؟؟
فانما بني النكتة في شعره على القاعدة اللغوية القائلة: إن (ما) في قولك: (إنما زيد قائم ونحوه) كافة عن العمل، فلم تكن لتهتدي إلى النكتة وأنت غير نحوي، ثم لم تكن لتتفهم التمهيد لها في البيت الأول حتى تعلم أن الشاعر قال ذلك في زمن لا يولي امرؤ عملاً حتى يرشي أولى الامر كالزمن الذي نحن فيه ومثله قوله الهلالي:
وغزالٍ قلت ما الاس
…
مُ حبيبي؟؟ قال مالك
قلت: صف لي وجهك الز
…
اهي وصف حسم اعتدالك
قال: كالبدر وكالغض
…
ن وما أشبه ذلك
فالنكتة في العجز الاخير، وإنما بنيت على كثرة استعمال النحويين لهذه الجملة حتى أصبح ذكرها في غير المسائل النحوية يعد اقتباساً
ومن جمال النكتة في الشعر الهزلي قول أحد المعاصرين يداعب صديقاً له:
يا صابغ اللحية ما تستحي
…
تشارك الرحمن في صنعه
أقبح شيء شاع بين الورى
…
أن امرأ يكذب في لحيته
وليس لجمال النكتة في الشعر حد يوقف عنده، فتلمسه في شعر الظرفاء تجد منه الكثير
الحوماني
من تراثنا العلمي
تَعْبير الرُّؤيا لأبنِ قُتَيْبَة
وصف وتلخيص لنسخة ثمينة من كتاب مفقود
للأستاذ علي الطنطاوي
تتمة
والعرب تضع النفس موضع الروح، والروح موضع النفس، فيقولون: خرجت نفسه وفاضت، وخرجت روحه منه، إما لأنهما شيء واحد، أو لأنهما شيئان متصلان لا يقوم أحدهما إلا بالآخر، وكذلك يسمون الجسد نفساً، لأنه محل النفس، قال ذو الرمة حين احتُضر:
يا قابض الروح من نفسي إذا احتُضِرت
…
وغافر الذنب زحزحني عن النار
ويسمون الدم جسداً لأن الجسد محله. قال النابغة الذبياني:
فلا لَعَمْرُ الذي قد زُرته حَججاً
…
وما أريق على الأنْصاب من جسدِ
والمهجة عندهم الدم. قال الأصمعي: سمعت أعرابية الخ. . .
وقد أعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في خواصل طير خضر الخ. . . وأرواح أهل النار الخ. . .
(قال أبو محمد): ولما كانت الرؤيا على ما أعلمتك من اختلاف مذاهبها، وانصرافها عن أصولها، بالزيادة الداخلة، والكلمة المعترضة، وانتقالها عن سبيل الخير إلى سبيل الشر باختلاف الهيئات واختلاف الأزمان والأوقات، وأن تأويلها قد يكون مرة من لفظ الاسم ومرة من معناه، ومرة من ضده، ومرة من كتاب الله، ومرة من الحديث، ومرة من البيت السائر والمثل المشهور، احتجت إلى أن أذكر قبل ذكر الأصول أمثلة في التأويل، لأرشدك بها إلى السبيل
فأما التأويل بالأسماء فتحمله على ظاهر اللفظ الخ. قال: وأخبرنا محمد بن عبد العزيز عن. . . عن. . . . . عن. . . . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت الليلة فيما يرى النائم كأني في دار عقبة بن رافع وأتيت برطب من رطب ابن طاب (نوع من تمر
المدينة)، فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا، العاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب
أخبرنا أبو حاتم الخ. . . (قال أبو محمد): وربما اعتبر من الاسم إذا كثرت حروفه البعض الخ. قال الشاعر:
أهدت اليه سفر جلاً فتطيرا
…
منه وظل نهاره متفكراً
خاف الفراق لأن أول ذكره
…
سفر وحق له بأن يتطيرا
وكذلك السوسن الخ. قال الشاعر:
سوسنة أعطيتنيها فما
…
كنتِ باعطائها محسنة
أولها سوء فان جئت بالآ
…
خر منها فهو سوء سنه
وأما التأويل بالقرآن فكالبيض يعبر بالنساء لقول الله عز وجل (كأنهن بيض مكنون) الخ. . . وكالحبل يعبر بالعقد لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً) ولقوله تعالى: (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) أي بأمان وعهد. والعرب تسمى العهد حبلاً، قال الشاعر:
وإذا تجوزها حبال قبيلة
…
أخذت من الأخرى اليك خيالها
وكاللباس يعبر بالنساء لقوله جل وعز: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). قال النابغة الجعدي، وذكر امرأة الخ. . .
وأما التأويل بالحديث فالغراب هو الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماه فاسقاً، والفأرة الخ. . .
وأما التأويل بالمثل السائر واللفظ المبذول كقولهم في الصائغ: إنه رجل كذوب لما جرى على ألسنة الناس من قولهم: فلان يصوغ الأحاديث أكان يضعها الخ. . . وكقولهم في الماسح: إنه ذو أسفار، لقولهم لمن كثرت أسفاره هو يمسح الأرض. قال الشاعر في هذا المعنى:
قبح الله آل برمك إني
…
صرت من أجلهم أخا أسفار
إن يكن ذو القرين قد مسح الأر
…
ض فاني مول بالغبار
ويرى أهل النظر من أصحاب اللغة أن الدجال إنما سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض إذا خرج أي يسير فيها، ولا يستقر بمكان، وأن عيسى عليه السلام إنما سمي بذلك لأنه كان
سائحاً في البلاد لا يقيم بشيء منها ولا يوطنه، ومن ذهب إلى هذا جعله فعيلاً في معنى فاعل مثل قدير ورحيم؛ ويرى قوم أن الدجال سمي مسيحاً لأنه ممسوح إحدى العينن. وهذا وإن كان وجهاً فالاشتقاق الأول أعجب، لأن تسميتهم إياه الدجال تشهد له، والدجالة هي الرفقة في السفر والقافلة، قال خداش بن زهير:
فان يك ركب الحضرمي غرامة
…
فن كِلا ركبيكُم أنا غارم
سأغرم من قد نالت الحجر منهم
…
ودجالة الشام التي نال حاتم
يعني قافلة أصابها حاتم الخ. .
وكقولهم فيمن غسل يديه بأشنان، إنه اليأس من الشيء يطلبه، لقول الناس لمن يئسوا منه: قد غسلت يدي منك بأشنان، قال الشاعر:
فاغسل يديك باشنان وأنقهما=غسل الجنابة من معروف عثمان
وكقولهم في الكبش الخ. . .
وأما التأويل بالضد والمقلوب فكقولهم في البكاء إنه فرح ما لم يكن معه رنة ولا صوت، وفي الفرح والضحك إنه حزن الخ. . .
وأما تعبير الرؤيا بالزيادة والنقص فكقولهم الخ. . .
وقد تتغير الرؤيا عن أصلها باختلاف هيئات الناس وصناعاتهم واقدارهم وأديانهم، فتكون لواحد رحمة، وعلى الآخر عذاباً الخ. . حدثنا محمد الخ. . . قال: آخي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي بكر، فرأى سلمان لأبي بكر رؤيا فجانبه وأعرض عنه، فقال له أبو بكر: أي أخي! مالك قد أعرضت عني وجانبتني؟ قال: رأيت كأن يدي جمعتا إلى عنقك، فقال أبو بكر: الله أكبر! جمعت يداي عن الشر إلى يوم القيامة
حدثني محمد عن. . . عن. . . . عن عطاء، قال: كان محمد ابن سيرين يقول في الرجل يرى له أنه يخطب على منبر: إن كان ممن ينبغي له السلطان اصاب سلطاناً. وإلا فانه يصلب. شبه الجذع بالمنبر. وقال الرشيد ليزيد: ما أثر الخلفاء في ربيعة! قال: نعم، ولكن منابرهم الجذوع الخ. . .
ومن عجب الرؤيا أن الرجل يكون مفحماً لا يقدر على أن يقول بيت شعر، أو بكيا يتعذر عليه القليل منه إلا في المدة الطويلة، مع إعمال الفكر، وإنعام الروية، فينشد في المنام
الشعر الجيد لم يسمع به قط فيحفظه أو يحفظ منه البيت أو البيتين، ويكون عيباً أو أعجمياً، فيتكلم بالكلمة من الحكمة البليغة ويوعظ الحسنة، ويخاطب بالكلام البليغ الوجيز الذي لا يستطيع أن يتكلف مثله في اليقظة بعرق الجبين، وهذا من أدل الدلائل على اللطيف الخبير
روي الرازي الخ. . وروي واصل الخ. . وأما الشعر فان أبا اليقظان قال: تزوج رجل امرأة، فعاهد كل واحد منهما صاحبه ألا يتزوج الأخر بعده، ومات الرجل، فلما انقضت عدة المرأة اتاها النساء فلم يزلن بها حتى تزوجت، فلما كانت ليلة هدائها أغفت بعد ما هُيئت فاذا هي بالرجل آخذا بعضادتي الباب يقول: ما أسرع ما نسيت العهد يا رباب! ثم قال:
حييت ساكن هذا البيت كلهم
…
إلا الرباب فاني لا أحييها
أمست عروساً وأمسى منزلي جدثا
…
إن القبور تواري من ثوى فيها
فانتبهت فزعة، فقالت: والله لا يجمع رأسي ورأسه بيت ابدا، ثم تخالعا. وروي ابن الكلبي عن جبلة بن مالك الغساني قال: سمع رجل من الحي قائلاً يقول في المنام على سور دمشق
ألا يا لقومي للسفاهة والوهن
…
وللعاجز الموهون والرأي ذي الافن
ولابن سعيد بينما هو قائم
…
على قدميه خر للوجه والبطن
رأى الحصن منجاة من الموت فالتجأ
…
اليه فزارته المنية في الحصن
فأتي عبد الملك بن مروان فأخبره، فقال: ويحك، هل سمعها منك أحد؟ قال: لا. قال: فضعها تحت قدميك
ثم قال، عبد الملك عمرو بن سعيد، عن عقيل. . . عن. . أن رجلاً الخ. . .
ورأيت أيضاً في المنام وأنا حديث السن كتباً فيها حكم كثيرة بألفاظ غريبة - كنت أحفظ منها شيئاً ثم أنسيت ذلك إلا حرفا وهو: ولفت اليه صلة الهواء، وما كنت أعرف في ذلك الوقت ما الصلة، ثم عرفتها بعد، والصلة اليبس
ومن عجائب الرؤيا أن الرجل يرى الشيء لنفسه أو يُرى له فيكون ذلك لشقيقه أو ابنه أو شبيهه أو سمية الخ. . . .
(قال أبو محمد) وحكي أبو اليقظان الخ. . . (قال أبو محمد) وما أشبه هذا الحديث بحديث
رجل رأى في المنام - أيام الطاعون أن جنائز تخرج من داره على عدد من فيها، فطعن أهل الدار جميعاً غيره، فبقي ينتظر الموت ولا يشك في أنه لا حق بهم، فدخل الدار لص، فطعن فيها فمات في الدار، فأخرجت جنازته منها وسلم الرجل
(حدثنا أبو محمد) قال حدثني بعض الكتاب الخ. . .
وإن رأيت الرؤيا كلها مختلطة لا تلتئم على الأصول علمت أنها من الأضغاث فارجيتها، وإن اشتبه عليك الأمر، سألت الرجل عن ضميره في سفره إن كان رأى السفر، وفي صلاته إن كان رأى الصلاة، وفي صيده إن كان رأى الصيد، ثم قضيت بالضمير، وإن لم يكن هناك ضمير أخذت بالأسماء على ما بينت لك. وقد تختلف طبائع الناس في الرؤيا، ويجرون على عادة فيها، يعرفونها من أنفيهم، فيكون ذلك أقوى من الأصل، فتسأل عن طبع الرجل، وما جرت عليه عادته الخ. . . وإن كان الأصل طائراً الخ، وإن كان غراباً الخ. . وقيل لمن أبطأ عليك أو ذهب فلم يعد اليك: غراب نوح، وإن كان عقعقاً كان رجلاُ لا عهد له ولا حفاظ ولا دين قال الشاعر:
إلا إنما حلمتم الأمر عقعقا
وإن كان عقاباً الخ. . .
هذه فقر من المقدمة القيمة التي قدم بها الكتاب وهي تقع في أكثر من أربعين صفحة، وتأتي من بعدها أبواب الكتاب وهي ستة وأربعون باباً، فيها من نوادر الشعر وطرائف اللغة ودرر الأدب مثل ما في المقدمة، ولولا أن هذا الفصل قد طال، لاخترنا منها فقراً رويناها في (الرسالة)، والكتاب على الجملة من نقاش تراثنا العلمي، ومكانه من الخزانة العربية لا يزال خالياً لم يشغله كتاب. وإنا لنأمل له من رجال الأدب ومن الناشرين الاهتمام اللائق به
(دمشق)
علي الطنطاوي
13 - محاورات افلاطون
الحوار الثالث
فيدون أو خلود الروح
ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود
فقال سقراط - سأعمد الآن إلى أحد زوجي الأضداد اللذين ذكرتهما لك فأحلله، وأحلل كذلك فعليه الأوسطين، وعليك أن تحلل لي الآخر. فحالة النوم تضاد حالة اليقظة، ومن النوم تتولد اليقظة، ومن اليقظة يتولد النوم، وعملية التولد هي في إحدى الحالتين ادراك النعاس، وهي الاستيقاظ في الأخرى. أفأنت متفق معي على هذا؟
- إني جد متفق
إذن فهب أنك أخذن بهذه الطريقة نفسها تحلل لي الحياة والموت. أليس الموت يضاد الحياة؟
- نعم
- وهما متولدان: أحدهما من الآخر؟
- نعم
- ما الذي تولد من الحياة؟
- إنه الموت
- وما الذي تولد من الموت؟
- لا يسعني أن أقول في الجواب إلا أنها الحياة
- إذن يا سيبيس فالحي من الأشياء والأشخاص متولد من الميت؟
- ونتيجة ذلك إذن هي أن أرواحنا كائنة في العالم الأسفل؟
- هذا حق
- وأحد الفعلين أو التولدين ملحوظين بالعين - فلا شك أن عملية الموت ظاهرة؟
فقال - لا ريب
- أفلا يجوز أن يستنتج التولد الآخر، على أنه متمم للطبيعة التي لا يفترض بأنها تسير
على ساق واحدة فحسب؟ فان كان الأمر كذلك، فلابد أيضاً ان يضاف إلى الطبيعة عملية تولد من الموت مقابل التولد من الحياة
فأجاب - يقيناً
- وماذا تكون تلك العملية؟
- هي عودة الحياة
- وعودة الحياة، أن صح وجودها، هي ولادة الميت في عالم الأحياء؟
- هذا جد صحيح
- إذن فهاك سبيلاً جديدة تؤدي بنا إلى النتيجة بأن الحي يخرج من الميت كما يخرج الميت من الحي سواء بسواء، فان صح هذا فلابد أن تكون أرواح الموتى مستقرة في مكان ما، ستعود منه مرة أخرى، وقد أقمنا على ذلك فيما أظن دليلاً مقنعاً
قال - نعم يا سقراط، فيظهر أن هذا كله يتبع بالضرورة ما سلمنا به من قبل
فقال - ولم يكن ذلك الذي سلمنا به يا سيبيس معوجاً، وتستطيع أن تتبين ذلك، فيما أظن على هذا النحو: لو كان التولد يسير في خط مستقيم فقط، فلم تكن في الطبيعة دورة أو تعويض، فلا تبادل بين الأشياء أخذاً ورداً، لاتخذت الأشياء - كما تعلم - في نهاية الأمر صورة بعينها، ولتحولت إلى حالة بعينها، ولما تولد منها بعد ذلك شيء
فقال - ماذا تعني بهذا؟
فأجاب - اعني شيئاً بسيطاً جداً سأوضحه بحالة النوم. فأنت تعلم أنه لو لم يكن ثمت توازن بين النوم واليقظة لأضحت قصة أنديميون النائم بلا معنى؛ فقد كان النعاس سيدرك كذلك كل شيء آخر، فلا يعود أنديميون موضعاً لتفكير أحد؛ أو لو كانت المادة ينتابها تكوين بغير انقسام، إذن لعاد هيولي انكسجوراس مرة ثانية. وهكذا، أي عزيزي سيبيس، لو كان كل شيء تناوله الحياة صائراً إلى الموت، ثم لا يعود إلى الحياة ثانياً لانتهى تناوله الحياة صائراً إلى الموت، فلا يبقى ثمت شيء حي - وإلا فكيف يمكن ذلك أن يكون؟ إذا لو كانت الأحياءصادرة من شيء غير الأموات، وكان الأحياء يدركهم الموت، أليس حتما أن يبتلع الموت آخر الأمر كل شيء؟
فقال سيبيس - ليس عن ذلك منصرف يا سقراط، وإني لأحسب أن ما تقوله أنت حق
خالص
فقال - نعم يا سيبيس، إني كذلك أحسبه حقاً خالصاً، ولسنا بذلك سابحين في خيال فارغ، ولكني ثابت الايمان بحقيقة العودة إلى الحياة، وبأن الأحياء يخرجون من الموتى، وبأن أرواح الموتى ما برحت في الوجود، وبأن الأرواح الخيرة أوفى من الأرواح الشريرة جزاء.
فأضاف سيبيس - كذلك لو صح مذهبك العزيز يا سقراط، بأن المعرفة ليست إلا تذكراُ، لاقتضى ذلك بالضرورة زمناً سالفاً تعلمنا فيه ما نحن الآن ذاكره. وقد كان هذا التذكر يستحيل لو لم تكن أرواحنا قبل حلولها في الصورة البشرية، كائنة في مكان ما، وإذن فهذه حجة أخرى تؤيد خلود الروح
فاعترضه سمياس قائلاً: ولكن حدثني يا سيبيس، ما البراهين التي تساق لمذهب التذكر هذا؟ فلست جازم اليقين بأنها الآن تحضرني
قال سيبيس - منها برهان ساطع تقيمه الاسئلة، فاذا أنت ألقيت على شخص سؤالاً بطريقة صحيحة، أجابك من تلقاء نفسه جواباً صحيحاً. فكيف استطاع أن يفعل ذلك، ما لم تكن لديه من قبل معرفة ومنطق مصيب؟ وأكثر ما يكون ذلك وضوحاً، حينما يعرض عليه شكل هندسي، أو أي شيء من هذا القبيل
قال سقراط - إن كنت لا تزال شاكاُ يا سيمياس ساءلتك، افلا يجوز أن توافقني إذا ما نظرت إلى الموضوع على نحو آخر؟ أعني اذا كنت لا تزال متردداً في التسليم بأن المعرفة عبارة عن تذكر؟
فقال سمياس - لست شاكاً، ولكني أردت أن تعاد إلى ذاكرتي نظرية التذكر هذه، ولقد بدأت أذكرها وأقتنع بها مما قاله سيبيس، غير أنني مازلت أتمنى لو أدليتم بما لديكم فوق ما أعلم
فأجاب - هذا ما سوف ألي به، ولعلنا، إن لم أكن مخطئاً، متفقون على أن ما يتذكره الإنسان لابد أن يكون قد علمه في زمن سالف
- جد صحيح
- فما طبيعة هذا التذكر؟ إنما أريد بهذا السؤال أن أتساءل: ألا يحق لنا القول بأنه إذا لم يقتصر علم إنسان على ما قد رآه أو سمعه أو سلك إلى إدراكه أية سبيل أخرى، بل عرف
شيئاً آخر معرفة تباين تلك، أفليس هو بذلك إنما يتذكر شيئاً يختلج في عقله؟ ألسنا على ذك متفقين؟
- ماذا تعني؟
- أعني ما قد اوضحه بهذا المثال الآتي: لست معرفتك القيثارة كمعرفتك الإنسان سواء بسواء؟
- هذا صحيح
- ولكن ما شعور المحبين إذا ما رأوا قيثارة أو لباساً أو أي شيء آخر مما كان المحبوب يستخدمه عادة؟ أليسوا من رؤية القيثارة يكونون في عين العقل صورة للفتي صاحب القيثارة؟ وهذا تذكر، وكل من يرى سمياس قد يتذكر بنفس الطريقة سيبيس، وهناك من هذا الضرب أشياء لا يحدها الحصر
فاجاب سمياس - نعم إنها موجودة حقاً ولا حصر لعددها
فال - وهذا الشيء وما اليه هو التذكر، وهو في الأعم الأغلب عملية لكشف ما قد طواه النسيان بفعل الزمن والأهمال
فقال - هذا صحيح
- ثم ألا يجوز كذلك أن تتذكر أنساناً من رؤية قيثارة أو صورة لجواد؟ أو قد تبعثك صورة سمياس على تذكر سيبيس؟
- هذا حق
(يتبع)
زكي نجيب محمود
لحظات على متن الباخرة كوثر
للأستاذ عبد الحميد العبادي
تفضلت (شركة مصر للملاحة البحرية) فدعتني إلى شهود احتفالها بسفر الباخرة (كوثر) من مرفأ الإسكندرية إلى السواحل الحجازية مقلة حجاج بيت الله الحرام. فقبلت الدعوة مبتهجاً مسروراً، وأجمعت أن ألبيها شاكراً ممتناً، وقلت في نفسي إن فاتني أن أحج بيت الله على متن هذه الباخرة ففاتني بذلك ثواب تلك الفريضة الكبرى، فلا أقل من أن أحج السفينة نفسها فأفوز برؤية الحلقة الثالثة من سلسلة ستكتمل حلقاتها بأذن الله، ويون لهذا البلد منها أسطول مبارك الغدوات ميمون الروحات
وحانت الساعة الرابعة من عصر يوم الخميس الماضي، فأخذت طريقي إلى المرفأ فيمن أخذ، وصعدت تلك الباخرة الجاثمة فوق متن الماء كالطود العظيم فيمن صعد، وقد صعدها خلق كثير من علية القوم وأوساطهم يعدون بالمئين. وجعلت أطوف أنحاء السفينة مع المطوفين، صاعداً وهابطاً، متنقلاً من طابق إلى طابق، ومن مقصورة إلى مقصورة، ومن مرفق إلى مرفق، وأشهد لقد تملكتني الحيرة من روعة ما شهدت، وفخامة ما رأيت. وأشكل على الأمر هنيهة من الزمن، فكأنني في حلم من تلك الاحلام اللذيذة التي يخشى معها الحالم أن تنفتح عيناه على الحقيقة المرة المؤلمة! أهذه سفينة مصرية حقاً؟ وهذا العلم الخفاق فوق حيزومها، أهو العلم المصري؟ وهذا الاسم العربي المرقوم عند جؤجؤها، أمكتوب هو بالحرف العربي؟ وهؤلاء الشبان الرائحون الغادون في طرابيشهم القانية وملابسهم البحرية الجميلة، يطلعون الزوار على ما دق من مرافق السفينة وما جل، أهم مصريون حقاً؟ وزاد بي اللبس فجعلت أتقرى الأشياء بيدي أتثبتها على نحو ما صنع البحتري عندما قلم في إيوان كسرى، وعراه ما عراني من الدهش والالتباس!
يغتلى فيهم ارتيابي حتى
…
تتقراهم يداي بلمس
ولكن لم يطل أمد تلك الحال، فكل شيء حولي قد احتشد لنصرة اليقين على الشك في المعرة التي قامت بينهما في نفسي، وسرعان ما محا نور اليقين ظلمة الشك، وأطمأنت النفس إلى أني قائم في قطعة من مصر طافية على وجه الماء
الله أكبر! لقد أخذ الزمان يستدير، وشرعت مصر تسترد مكانة كانت لها في القديم ثم نحيت
عنها قوة واقتداراُ، أليست مصر صاحبة أول بعثة تجارية بحرية في التاريخ هي بعثة الملك (اسنفرو) إلى الشام؟ أليست مصر صاحبة أول بعثة استكشافية يعرفها التاريخ هي بعثة الملك (نخاو) حول أفريقية؟ ألم تكن مصر سيدة البحار على عهد البطالسة، ومنارتها بالاسكندرية من عجائب العالم القديم؟ أليس أسطول مصر الاسلامي هو الذي دحر الأسطول البيزنطي في واقعة (ذات الصواري) المشهورة وانتهت اليه زعامة شرقي بحر الروم زمناً طويلاً؟ ثم ماذا كانت واقعة (نوارين) التي تحامل فيها الغرب على الشرق فدمر فيها الأسطول المصري تدميراً، وكان ذلك آخر عهد مصر بالملاحة الصحيحة
إن تعجب فعجب أن تكون لمصر سواحل مترامية مطلة على بحرين من أهم بحار الأرض، وأن يكون لها هذا الماضي الجليل، ثم تظل طوال القرن التاسع عشر وصدر اقرن العشرين عالة على سفن غيرها في نقل عروضها ومتاجرها ومسافريها، ولكن هذا الذي قدر فكان. فليذكر ذلك الذاكرون في هذه الأيام السعيدة التي تأذن الله فيها بانبعاث البحرية المصرية على أيدي رجال (شركة مصر للملاحة البحرية)
لقد كنت أمضي في تأملاتي هذه، لولا أن يسرت أقدار لأقدار، فلمحت عن كثب زعيم مصر الاقتصادي، وحامل لواء نهضتها المالية الحرة، ومن عساه أن يكون سوى (محمد طلعت حرب باشا)؟ فأسرعت إليه أبثه إعجابي بما أرى، وأهنئه وأهنئ في شخصه رجال هذه الشركة المباركة على ما أوتوا من عناية الله وتوفيقه. وجلست اليه سويعة تحدثت إليه فيها فيما خص من الأمر وما عم، ثم قمت من حضرته وأنا أهدي ما كنت، وأفهم مما كنت، وخيراً مما كنت. وكذاك الشباب إذا ظفر بلقاء الرجل العظيم والتحدث اليه
وكانت الشمس قد أوت إلى الأفق الغربي مؤذنة بالمغيب، وجعلت ترسل أشعتها على أعالي البواخر والسفن فتصبغها بمثل الورس الأحرم، وتسكبها على ماء البحر فتحيله تبراً مذاباً. وشمل المنظر خشوع وجمال وجلال، زاد القلب طرباً ونشوة ووجداً. فانصرفت وأنا أدعو (لكوثر) وأخواتها ببحر ذلول، وريح رخاء، وأهتف من اعماق قلبي لأولئك الذين بعثوا العزة القومية بعد وأدها، وأحيوا في نفوس هذه الأمة دارس الأمل وميت الرجاء
عبد الحميد العبادي
11 - بين القاهرة وطوس
اصفهان
(نصف جهان)
للدكتور عبد الوهاب عزام
خرجنا من قم والساعة ثلاث بعد الظهر، سائرين إلى الجنوب تلقاء أصفهان، وبين قم وأصفهان 282 كيلا، فما زلنا نضرب في سهوب مترامية تعمرها قرى قليلة، حتى قطعنا 92 كيلا في ساعتين، فبلغنا قرية دليجان، وهي قرية كبيرة على الجادة يبدو عليها الفقر، وبيوتها كغيرها من قرى إيران، مسنمة السقوف، مطينة الجدر، فاذا رأيتها على بعد حسبتها قبوراً عالية. وقفنا في القرية على بناء كتب عليه بالانكليزية، أنه مطعم ومشرب شاي، وهو طبقتان في كل واحدة حجرتان، وللطبقة العالية سلم من اللِبن يهبط إلى الطريق
دخلنا فقدم لنا الشاي والبطيخ، واسترحنا قليلاً، ثم ركبنا سيارتنا وقد كادت الشمس تغرب. قلنا: كم بيننا وبين أصفهان؟ قيل أربع ساعات، وبين دليجان وأصفهان 190 كيلاً. وقال سائق لصاحب المطعم سنمر بك بعد غد، فهيء لنا دجاجة وحساء، قال نعم، ذلك وكل ما تشتهون
ضربنا في أرض بلقع يتخللها عمران قليل، حتى بلغنا بلدا اسمه شاه عباس، بينه وبين أصفهان خمس وعشر دقيقة، فتغير مرأى الأرض، وبدت لنا الأشجار والزروع والمياه، وما زلنا في أرض مخصبة مخضرة حتى دخلنا المدينة والساعة تسع وخمس دقائق من مساء السبت حادي عشر رجب (20 أكتوبر)
أصبهان: مدينة العراق العجمي، عي 431 كيلاً إلى الجنوب من طهران، وعرضها 32 درجة وطولها 49، وارتفاعها 1344. وهي في سهل واسع خصب، حسن الهواء كثير الماء والشجر؛ قال ياقوت: (وكانت مساحة أصبهان (أي الأقليم) ثمانين فرسخاً في مثلها، وهي ستة عشر رستاقاً كل رستاق ستون وثلاثمائة قرية قديمة سوى المحدثة). ولا ريب أن في رواية ياقوت غلواً تابع فيه القوال الشائعة. وقد قال هو عن اصبهان: (مدينة عظيمة مشهورة، من أعلام المدن وأعيانها. ويسرفون في وصفها حتى يتجاوزوا حد الاقتصاد)
وقد أدى إلى إغراق الناس في وصف أصفهان وأقليمها استجار العمران هناك، وكثرة القرى، والمياه والزروع. وقد حدثني مهندس ألماني في مدينة أصفهان أن من بقاع اصفهان بقعة يسير فيها السائر خمسة عشر كيلاً بين الأشجار. وبُنيت الأقاليم القطن والتبغ والبطيخ وكثيراً من الفاكهة
والمدينة على نهر زنده رود (النهر الحي)، ويسمى اليوم زايَنده رود (النهر الوَلود). حدثني رجل أنه سمي بهذا لانبجاس مياهه من الأرض في مواضع كثيرة. قال ياقوت:(زند روذ نهر مشهور عند أصبهان، علمه قرى ومزارع؛ وهو نهر عظيم أطيب مياه الأرض وأعذبها). وقال في موضع آخر: (وقد وصفه الشعراء فقال بعضهم:
لست آسي من اصبهان على شي
…
ء سوى مائها الرحيق الزلال
ونسيم الصبا ومنخرق الري
…
ح وجو صاف على كل حال
ولها الزعفران والعسل الما
…
ذي والصافنات تحت الجلال)
وكذلك قال الحجاج لبعض من ولاه اصبهان: قد وليتك بلدة حجرها الكحل، وذبابها النحل، وحشيشها الزعفران.
وقال آخر:
لست آسي من اصبهان على شي_ء أنا أبكي عليه عند رحيلي
غير ماء يكون بالمسجد الجا
…
مع صاف مزوق مبذول
ولعل قول كل من هذين الشاعرين (لست آسي) لما تحدث به القدماء من وصف أهل اصبهان بالبخل. وقد حكي عن الصاحب ابن عباد أنه كان إذا أراد الدخول إلى اصبهان قال: من له حاجة فليسألنيها قبل دخولي إلى اصبهان، فانني إذا دخلتها وجدت بها في نفسي شحاً لا اجده في غيرها. وقد روي ياقوت بيتين كتبا في بعض الخانات التي في طريق اصبهان:
قبح السالكون في طلب الرز_ق على أيذج إلى اصبهان
ليت من زارها فعاد اليها
…
قد رماه الآلة بالخذلان
وعلى نهر اصبهان اليوم ثلاث قناطر من عجائب الآثار، أكبرها قنطرة (الله ويردي خان) أحد قواد الشاه عباس، وتسمى اليوم (بلِ سي وسه جشمه)، أي القنطرة ذات الثلاث
والثلاثين عيناً. وهي مبنية بالحجارة الضخمة، تسير فوقها طريق واسعة لها جدران عاليان. والنصف الأسفل من عيونها يسد بالخشب إذا أريد حبس الماء، وعلى جانبي العون في قاع النهر سنادان من الحجر يسير عليهما الناس حين انخفاض الماء
ومدينة اصبهان قديمة ذكرها بطليموس. وكانت ذات مكانة عظيمة قبل الأسلام؛ ولم تزل في الإسلام معدودة من أمهات المدن الفارسية
وقد تقبلت بها غيرٌ كثيرة واهتمت بالسيطرة عليها ل الدول الإسلامية الشرقية، فتولى أمرها السامانيون والبويهيون والغزنويون والسلاجقة، وكان السلطان ملكشاه السلجوقي يحب المُقام بها. ولما سالت على المسلمين كوارث التتار، ساروا اليها سنة 625 فدفعهم عنها البطل العظيم جلال الدين خوارزمشاه، ولما كانت الدولة التيمورية ثار أهل أصفهان على الجبار تيمورلنك سنة 790 فقتلهم حتى قيل إنه جمع سبعين ألف رأس فبنى بها أهراماً
وامجد عهود أصبهان عهد الدولة الصفوية، ولا تزال آثارها ناطقة بما كان لما من جلال وجمال في ظل هذه الدولة
وقد بلغ سكانها في ذلك العهد ستمائة ألف، وكان بها ثمانية وثلاثون ألف دار، واثنان وستون ومائة جامع، وثمان وأربعون مدرسة، وثلاث وسبعون ومائتا حمام، وثمانمائة وألف خان، (كاروانسراي) وكان محيطها فيما يقال أربعة وعشرين ميلا
ولما أغار الأفغانيون على إيران وقضوا على الدولة الصفوية، ثم صارت طهران دار الملك تناقص عمران المدينة، ودالت دولتها، وسكانها اليوم ثمانون ألفاً، ومحيطها ميلان، ولكن لها شأناً عظيماً في التجارة والصناعة
دخلنا المدينة ليلاً، فأوينا إلى فندق اسمه (فندق الفردوس). وكان يسمى الفندق الأمريكي، وهو في شارع واسع مشجر قديم يقال إن أشجار من عهد الشاه عباس الكبير، وهو أعظم شوارع المدينة. وجاءنا بعد قليل رئيس البلدية فحيانا وقال إنه يود أن ننزل داراً خاصة في ضيافة الحكومة، فشكرنا له وللحكومة هذه الحفاوة، وآثرنا أن نبقى في الفندق، فأبلغنا دعوة الحاكم إيانا إلى العشاء في داره غداً
لم يمكنا الأعياء من التجول في المدينة تلك الليلة، ولكن نعمنا بمرأى أشجار الحور الباسقة
تنثر على الأرض ضوء القمر، كما تتناثر في خيالنا ذكرى الماضي المجيد من هذه البلدة الخالدة، التي نشأت من علماء الإسلام الأعلام أمثال أبي الفرج الأصفهاني وداود بن علي صاحب المذهب الظاهري، وأبي نعيم صاحب الحلية، وحمزة المؤرخ
وكنا نسمع في الحين بعد الحين جلجلة الأجراس في أعناق الابل أو الثيران السائرة في المدينة. وهذا صوت مطرب في جوف الليل، ولكنه يذهب بالنوم. وغدونا إلى دار الحكومة فقابلنا حاكم أصفهان وهو أحد الوزراء السابقين، ورجال الصحافة القدماء، وكان له جريدة تسمى صور أسرا فيل فغلب اسمها عليه فهو اليوم يسمى قاسم صور اسرافيل، ويتسمى هو بهذا الاسم ويكتبه على بطاقته، وكذلك جاء إلى دار الحكومة نفر من الألمان، منهم الدكتور شميت الصحافي الذي ينشر جريدة في أنقرة الآن، وكان مندوباً إلى مؤتمر الفردوسي ولكنه تأخر
خرجنا لرؤية آثار اصفهان الرائعة. وإني أشفق على القارئ أن أصف المساجد والقصور التي رأيناها وصفاً مفصلاً، فمن شاء أن يرى صور هذه الآثار فليذهب إلى الجمعية الجغرافية ليرى قاعة المحاضرات مزدانة بصور كثيرة من الآثار الفارسية، أعظمها وأجملها آثار اصفهان
في المدينة ميدان كبير قال لنا مهندس ألماني إنه أكبر من ميدان الكنوكورد في باريس ومن كل ميدان في مدينة
وان هذا الميدان للعب الكرة والصولجان على ظهور الخيل (الجوكان)، ولا تزال فيه العمد الخشبية التي تُعلم غاية الملعب. وفي وسطه حوض كبير تنبجس منه نافورات قوية؛ وهي من ثار الصفويين، وقد أصلحت أخيراً
ويحيط بالميدان آثار الصفويين: مسجد الشاه ومسجد الشاه لطف الله والباب العالي والسوق
مسجد الشاه من أجمل مساجد المسلمين، بل من أعظم آثار العالم قاطبة، بناء ضخم وهندسة محكمة، وصنعة الكاشاني والكتابة والنقش لم تدع مزيداً لصانع أو ناظر. ولا يرى مقدار شبر في جدر المسجد أو إيواناته أو قبابه خالياً من هذه الصنعة، فقد أفرغ الجمال على هذا المسجد كتابة ونقشاً وتلويناً
وفوق إيوان القبلة قبة شاهقة تعلوها قبة أخرى، وبينهما ستة عشر متراً، فاذا توقف
الإنسان في مركز القبة وصفق بيديه صفقه خفيفة، أو تكلم بصوت خافت، أو حك الارض برجله انبعث الصدى عالياً مدوياً مردداً في القبة أكثر من عشر مرات
ومسجد الشاه لطف الله أصغر من هذا، ولكن فيه من الفنون دقائق عجيبة، وفيه طبقة تحت الأرض للصلاة في الشتاء
(يتبع)
عبد الوهاب عزام
الله قد عَبَدُوا
للأستاذ فخري أبو السعود
وَيلي على أمم الإسلام خاضعة
…
للمستبدين لا يرني لها أحدُ
من قال لي: من يقر الضيم؟ قلت له:
…
ألمسلمون وعير الحي والوتدُ!
في مشرق الأرض قد دانوا ومغربها
…
ما كاد ينجو لهم من غاصب بلدُ
في ربقة الظلم هم جاءوا وهم ذهبوا
…
وفي المذلة قد ماتوا وقد ولدوا
صلوا وصاموا لباريهم تظللهم
…
أعلام من ظلموا أو سيف من عندوا
يا ليت شعري للديان ما قنتوا؟
…
أم للمغالب ما قالوا وما سجدوا؟
يا قوم من شرعة الإسلام دينكم
…
أن ليس يعبد إلا الواحد الصمد!
أترضون سوى الرحمن محتكما؟
…
ما إن لقومٍ إذا ما استعبد وارشد
الله ليس يحب الدين من أمم
…
لغيره طأطأوا أو غيره عبدوا
لعل أدنى إليه في مراتبه
…
عدوكم وهو ماضي العزم مجتهد
أختي عليكم بجند من عزائمه
…
ومن جهالتكم جند له حشد
لولا تفاقم هذا الجهل بينكم
…
لم يغنه عدد فيكم ولا عدد
لا يبالغ العز قومٌ عن جهالتهم
…
لا ينزعون وعن مسعاتهم قعدوا
إنا نؤومو الضحى ليست تزايلنا
…
أحلامنا وهو في جنح الدجى سهد
ما دام ذا الجهل يمشي بين أظهركم
…
ففي قضيتكم - لا ينقضي - فند
قد ذمكم بالذي فيكم فلا كذب
…
فإن غلا فله من جهلكم سندُ
كم تقنعون بدون العيش مرتبة
…
في العالمين؟ وكم ذا الذل مطرد؟
من لي بعهد به آباؤنا ملكوا
…
بكفهم كل ما حلوا وما عقدوا؟
لا يقبلون وصاة الأوصياء ولا
…
أحكام من اسرفوا في الحكم أو قصدوا
الله قد عبدوا دون الورى وله
…
بذاك في الصلوات الخمس قد شهدوا
فخري أبو سعود
إلى ممثلة نابغة
من أي وحي تنهلين رشاقة
…
لمحت ظلال الخلد منها الأنفس؟
وبأي سحر تمسحين موافقاً
…
يزهو بروعتها الجمال الأقدس؟
روح الطبيعة في اختلاف فنونها
…
وروائها لم محو ما في نغمتك
وشت مواهبك الكياسة فانثنت
…
آياتها مختالة في بسمتك
أدركت سر الفن وهو ممنع
…
فعنا لك الإبداع، إذا أدركته
ما الواقع الملموس يعجب باحث
…
فيه، سوى تمثيل ما مثلته
عاصمة الأرجنتين
الياس قنصل
ثورة الذكرى
بقلم فريد عين شوكه
ذكرياتٌ مشبوبة الثوران
…
وحبيب يلج في الهجران
وفؤادٌ طغى الحنين عليه
…
فوهى عزمه من الخفقان
حائر في الضلوع تفضحه العي
…
نُ بمرآة دمعها الحيران
شد ما روع الفؤاد من الذك
…
رى وما ذاق في الهوى من هوان!
ذكريات الغرام تغمر فكري
…
فتثير الغفى من أشجاني
كلما صورت لي الماضي الضا
…
حي وريف الظلال عذب المجاني
أردفته بحاضري مقفر الدو
…
حة مر الجنى حزين المغاني!
فتثور الهمومُ، يا رحمة الله
…
إذا لج في الهموم جناني
ثورة تلهب الفؤاد فيغدو
…
في ضلوعي كحمة البركان
يتنزى حتى تضيق به النف
…
سُ فتلقاه بالعتاب الحاني
فيم هذا الحنين يأيها القلْ
…
بُ إلى من غفا على نسياني
وإلام الوفاء والطاعة المث
…
لى لمن لا يثوب عن عصياني
فيم تلك الأشعار تضفي عليه
…
كل ما رق في الهوى من معان
يسكب الغير فوقها دمعة العط
…
ف ويرثى لما بها من تفان
وهو إن لاحها يمر عليها
…
دون ما رحمةٍ بها أو حنان
قد سئمت الهوى عذاباً أليما
…
وحياة كئيبة الألوان
وإذا القلبُ بينها واهن الخف
…
ق غريق في لجة الأحزان
يسأل النفس للحبيب المعاذي
…
ر ويأبى الجنوح للسلوان
يا لهذا الفؤاد ألوى به الحب م وما زال دائب التحنان
أيها القلبُ قد سباك حبيب
…
ليس يحنو على الأسير العاني
يتجنى على رغم فنأئي
…
فيه، يا للجحود والنكران!
كم تمنيت عطفه فتأبى
…
وتشهيت وصله فجفاني
وكأني إذا مرضت وكانت
…
صحوتي في مزاره ما أتاني
وكاني لو مت في ميعة العم
…
ر وغيبت في الثرى ما بكاني
فاتئد في هواك يأيها القل
…
ب وخفف من سوؤه الهيمان
أو كما شئت يا عصي ولكن
…
سوف تصلي لواعج الكتمان
لن تراني أشكو إليه خفايا
…
ك ولو ذبت شكوة في لساني
لهف نفسي عليك يأيها الما
…
ضي ويا شوق خاطري الولهان
كم عهود كانت لديك غوال
…
وليال غز الجبين حسان
جمعتنا كما اشتهينا وحيدي
…
ن فكانت بليغة الإحسان
وحبتنا شراعها فامتطينا
…
هـ إل دوحة الهوى الفينان
فنعمنا بما به من بواكي
…
ر وما فيه من قطوف دوان
ورشفنا بورده الطاهر العذ
…
ب كئوساً من الرضى والحنان
وسمرنا في ربوة عطر الجو
…
م بأنفاس زهرها الوسنان
نتناجى والعين أمتع في النج
…
وى واوفى من عبقري البيان
ونغنى فيستفيق لنا الرو
…
ض كأنا في دوحة غردان
مصغياً للغناء حتى نؤدي
…
هـ فيهفو كالطائر النشوان
كم تغنيت للحبيب بما شا
…
ء ورتلت ما اشتهى من أغان
فاذا هاجه الحنين فغنى
…
في حياء ورقة وافتنان
وسرى الصوت بين أحشائي الظم
…
أى وأحناء صدري اللهفان
رف قلبي له رفيف الأقاحي
…
ناعمات بالمنهل الريان
ذاك ماضي الهوى فكيف تناسي
…
هـ وقد صار بضعة من كياني
جف روض الهوى من الثمر الحل
…
ووأضحى مهلهل لأفنان
وضحا ظله الظليل وفرت
…
عن أفانينه طيور الأماني
فقضيت الحياة ارويه دمعي
…
واعاني في ريه ما اعاني
وإذا الروض هامد ما أفادت
…
هـ شآبيب دمعي الهتان
أيها الروض إن ما بك أوهى
…
عزماتي وهد من بنياني
دواؤك الهجر والحبيب عصى
…
والليالي تغريه بالحرمان
فاذا ما جهدت في بعث ماضي
…
ك رماني الزمان بالخذلان
والزمان العنيد إن سدد الرم
…
ية ألوى بحيلة الإنسان
يا إله السماء إني تحطم
…
تُ وما زلتُ في ربيع زماني
وذوت مهجتي من النغم البا
…
كي فمن لي بأعذب الألحان؟
فريد عين شوكه
فصول ملخصة في الفلسفة الألمانية
7 -
تطور الحركة الفلسفية في ألماني
للأستاذ خليل هنداوي
أما الإنسان فهو عند هيجل الكائن الفرد الذي يتوسط بين الكائنات كيف يشاء، ويدرك نفسه بنفسه. الإنسان هو روح: روح ذاتية لا تحس إلا بحريتها الخاصة، ولا تعمل إلا على ما يضمن لها النصر على ما حولها. وروح اجتماعية تحترم حريات الناس وتراعى حقوقهم. وروح مطلقة تسمو على التقاليد المادية، يفني إزاءها كل شيء من كل شيء تواضع عليه الناس. روح تعود إلى نفسها لتجد في نفسها (المثال الإلهي) فلا تجده غرضاً تسمى اليه ولكن تجده حقيقة شاملة أدركتها فيما أدركت. . .
وقد وجد هيجل ثلاث شعب في العلوم: العلوم النفسية، والعلوم الأدبية، والعلوم الدينية. . . وقد شطر العلوم الدينية ثلاثة فروع: الفن، والدين، والفلسفة؛ أما الفن فهو أول تجربة قامر بها الروح ليتشبه بالوجود، فالفنان يذهل عن نفسه حين يتأمل في عمله. والفن - في الحقيقة - هو يقظة من يقظات الوحي ولمعة من لمعات العبقرية. والدين يفسر معاني الألوهية برموز وألغاز. وفي النهاية وجد الإنسان ربه في نفسه، وها هنا تسامى الدين إلى الفلسفة، وولد الآلةفي روح النسان، وتألف العلم المطلق، وبسط به الإنسان سلطته على الكون، وأدرك به غرضه. هذا هو الفيلسوف الذي يستطيع أن يغلق كتاب الوجود دام انتصار مدرسة (هيجل) خمسة عشر عاماً، لا تسمع فيها إلا صوت هذه المدرسة التي ملكت على القوم، وفرت من وجهها كل مدرسة؛ ثم أخذت تهوى عن عرشها لأن العقل المخدر آن أن يصحو، فبدا له ما هو في هذه الآراء - برغم اشتهار صاحبها بقوة عارضته وقوة منطقة - من تناقص واضطراب. ففي عالمه السياسي والإلهي قد ظهر الاختلاف على أشده، وجد (هيجل) في صاحب الديانة المسيحية شخصية سامية يمازجها روح الإله. ولكنه في فصل آخر يقر بأنه لا يجد في الدين إلا تعاليم آخذه طريقها إلى الفلسفة، حيث تفني في الفلسفة كل عناصر الايمان. وأما آراء (هيجل) في التاريخ فهي آراء عقلية، يتحدث بها عن عقل الفرد وعقلية الأمم، ويرى تاريخ الحرية هو تاريخ العالم. أما العصر الشرقي فهو عصر الحكم المطلق، والعصر اليوناني الروماني هو عصر الحرية الجزئية
وعصر الأحزاب والاسر والعبودية، والعصر الجرماني هو عصر النهضة والبعث والثورة، ويقبل هيجل على العصر الحديث ويذكر أن الدولة هي هيئة من هيئات الفكر، ولا بد لهذه الهيئة أن تتمثل في صاحب السلطة والسلطان. وهو لا ينصر مذهب توزيع السلطة خشية أن يثير ذلك الضغائن ويخلق الفتن ويوقع العراك في الأهواء. وهو يقدملنا - بعدها الحوار الطويل - حكومته البروسية بعد معاهدة (1815) مثلاً سامياً للدولة. وهكذا لا يمكن للفيلسوف أن يتجرد من نعرته القومية حتى المباحث التي ينبغي لصاحبها أن يكون مجرداً بعيداً عن الهوى
مذهب المثال الكمالي
وأخيراً ماذا ظل راسياً من مدرسة (هيجل) في الصرح الفلسفي؟ أم ماذا بقي من ذلك الاتجاه العنيف نحو فلسفة (الواحد المطلق) الذي جرى وراءه فيخت وشيلنج وهيجل؟
إن (كانت) في كتابه نقد العقل المجرد أجاب بأن معارفنا لا تضع لنا جواباً شافياً عن حقائق الأشياء، ولكنها تقرب لنا صورها بطريق الحواس، وهذا الوجود لا نراه على حقيقته التي هو عليها، وإنما نراه على الحقيقة التي تبدو لنا منه. وجاء فيخت بعده فجعل من (الذات) ملجأ للحقيقة كلها. والأشياء الخارجة عن كياننا لا يُكتب لها الظهور إلا في اللحظة التي تعالجها الذات وتمعن فيها تفكيراً. ، والإنسان بما أوتي من عزم وقوة لم يكن يوماً بكائن بسيط يدفع القوى المحدقة به، ولكنه يريد أن يُسيطر على العالم حتى يتمكن من شعوره بنفسه. ولكن ماذا آلت اليه الطبيعة - في مذهب فيخت - ومعانيها المتدفقة الحساسة؟ أنها قد صُرعت وتجردت من كل المعاني، فجاء شيلنج فعمل على مزج الفلسفة بالفن، وجرب أن يوحد بين العالم والكائن المفكر. الإنسان والطبيعة يجب أن يتحدا ويكون واسطة اتحادهما العقل المفكر والإحساس بالجمال. . . . وهكذا عاد مذهب سيينوزا القائل بأن الله إنما هو كل الكائنات، عاد هذا المذهب بصورة أوسع أفقاً من صورته الأولى، يتوسع في الحرية الإنسانية، وينطوي على فكرة فنية
بلى، إن مذهب المثال الكمالي الذي دان به الفكر الألماني مصدره المذهب القائل (بأن الآلة الواحد إنما هو كل الكائنات) وهذا (هيجل) هو الذي ثبت هذا المذهب بدستوره الذي جاء وليد جهود رفيعة تريد أن تشيد العلم الإنساني، ثم تبلغ بهذا العلم نفسه منزل الحقيقة
السامية. فتطور الحياة العُضوية في الطبيعة، وتعاقب الأصول البشرية، وتتابع المدنيات في التاريخ إن هي إلا وجوه متقلبة لأصل واحد. وهذه هي الدائرة التي يجوزها الفكر المطلق عاملاً على تحقيق قوته المبدعة، وراجياً في النهاية أن يتم تعارفه مع الروح الإنسانية. . . الآلة لم يكن. . ولكنه عاد. . . ووُلد في الإنسان. إن معنى الوجود هو أضعف معنى؛ وهل معناه إلا أن تبدو لحظة من الزمن على مسرح هذا العالم المتبدل ثم تعود إلى أصلك؟ كل شيء يزول يدل على أن فكرة بزواله تمت، أما حركة الحياة فانها تمهد في معنى مجرد لا تدركها الأنظار
إن فلسفة هيجل حين جعلت من الروح الإنسانية ملجأ كل معرفة ووعاء كل حقيقة، أصبح المتدين بها يعرف الروح الإنسانية، ولا يعرف مما حولها شيئاً؛ هو يزعم أنه يحلل الكون ويعلل حوادثه ويشيد دعائمه بفكره، ولكنه في الحقيقة لا يتخطى - في ذلك - حدود العالم الصغير الذي يضم الإنسان عليه جوانح صدره
لابد لمن أراد أن يلم بتطور الأدب الالماني في منتصف القرن التاسع عشر أن يقع على أسباب تلك السآمة التي تمشت في عروق ذلك الأدب، ففي غرة هذا القرن اقتحم (نابليون) ألمانيا، وعليها على أمرها؛ فأذعنت أو همدت قليلاً والنار تسطع خلل الرماد، وهي في الحقيقة لم تنفض عنها أملاً ولم تدفع مأملاً، والحركة الفكرية التي ولدها اولئك الفلاسفة تدل على ان مرناها لم تزغ عنه الابصار، وان آثارها لم يطمس عليها طامس؛ وبعد حبوط تلك الآمال النازعة إلى حرية الشعب الألماني ولم شعثه بعد التفريق، خيم على الجهة الألمانية شبه سكون لا يتمخض بحياة! ولكن الأدب لا يموت، ولكنه يثور ويتحرك في الأقطار المذللة حيث ترى أصحابها مدفوعين دفعاً إلى الحياة، والتاريخ وحده ظل دائباً ساعياً وراء الغاية دون أن يقف سيره شيء، أما صوت الشعر فقد خفت، والمخيلة نامت إلى حين
في هذا العصر وجدت فلسفة (هيجل) مزاحماً جديداً عنيفاً، هو تشاؤم (شوينهاور) ومما ساعد على انتشاره قوة بيان صاحبه، وهيجل كان أسلوبه غير بياني، فتهافت الناس بعقولهم وقلوبهم على المذهب الجديد
ما قامت فلسفة أذيع وأسير من فلسفة (هيجل)، فقد كانت تياراً قوياً تقذف بالنفوس إلى مسكن (المثل الأعلى) ولكن تأثيرها سرعان ما وهي، وكان لهجيل. أنصار كثيرون أخذوا
عنه وحملوا مبادئه إلى أقطار أخرى؛ حتى إذا وافاه أجله ذهب البعض إلى مقارنته بالاسكندر الذي غزا أقاليم مجهولة، وبعضهم ذهب إلى تمثيله بصاحب الرسالة المسيحية، وفكرة (هيجل) هي مذهب التحول المستمر، والعالم - عنده - هو كالنبتة تنجم دائماً من أصلها، وتحمل في بعض الأحيان براعيم وأزاهير وثمرات. . . . .
وبعد موت (هيجل) انشقت مدرسته وقام منها ثلاث فرق: فريق عكف على تحليل مذهبه وتطبيق فروعه على بعض فروع علمية وأدبية، وقد هذب هذا الفريق من أسلوب معلمهم حتى أخرجوا من حلقة الخاصة إلى متناول العامة؛ وفريق سابق، وأن يرد كل أصولها إلى الدين؛ والفريق الثالث نظر إلى (هيجل) نظرة مستقلة، ووجد أن الدين المسيحي قد انتهى به، كما انتهى العصر الوثني اليوناني بأرسطو، والكلمة التي رددها أحد تلاميذه:(لتكمل إرادة الرجل) تعتبر أول قاعدة في بناء شريعة المستقبل
يتبع
خليل هنداوي
القصص
من الادب التركي
باقة زهر
بقلم الآنسة (فتاة الفرات)
إن لبعض المناظر تأثيراً عميقاً خاصاً في نفس الإنسان لا يشاركه فيه غيره من المناظر، لو أنني شهدتها في زمان غير هذا الزمان، أو في مكان غير هذا المكان
لقد سحقتني المدينة بجلبتها وضوضائها، ففررت بفكري المجهود وعقلي المكدود إلى قرية قائمة في وسط صحراء هادئة نائمة لأداوي بسكوتها فكري الثائر. وكنت في كل يوم ألقي بنفسي في أطهر ضواحي القرية من أنفاس الناس، فأستنشق فيها رائحة الطبيعة الجميلة تحت أشعة شمس الربيع التي كانت تسيل بغزلرة من بين قطع السحاب، فتحرك النفوس الجامدة ونثير القلوب الخامدة
كان يمر بتلك القرية نهير براق ينصب فيه الماء من بين أحضان تلك الجبال الشماء، فاذا انحدر منها إلى السهول بصوت جذاب يشبه الصوت الذي ينبعث من مجلس مجالس السرور جرى متغلغلاً بين الأحراج والغابات، متوارياً عن أشعة الشمس التي ملأت الأرجاء وطغت على الأنحاء، فاتراً هادئاً حابساً أنفاسه في صدره، كأنه فتاة عاشقة تسير نحو غايتها في لطف حتى لا يسمح خشخشة ثوبها سامع، ثم يجتمع شيئاً فشيئاً ويزج بنفسه في مقبرة تظللها أشجار السرو العاتية، وتنبعث منها روائح الموت القاسية، فتبعث في النفس ذكرى الدار الآخرة، وتوقظ في القلب عظمة الموت ورهبته، فاذا تجاوز هذه المقبرة سار في جريان بطيء فاتر مدفوعاً بقوة لا يمكن مقاومتها ولا يستطاع دفعها، مبتعداً عن الجبال والأحراج والصحارى حتى يغرق بحرقة الخسران وألم الفقدان في بحر لجيٍ لا يسبر غوره ولا يدرك قراره
وكثيراً ما كنت أتبع في سياحتي مجرى ذلك النهير، فأسير على ضفته مأخوذ اللب، موزع الفكر في أمواجه الضحاكة التي تنيرها أشعة الشمس اللماعة، وضفاته الحزينة التي تظللها الأشجار الملتفة، فتنشر عليها بساطاً من الكدر والحزن، وكم حبست سمعي على زمزمة
مياهه اللطيفة تداعب الأحجار القائمة في طريقها بلطف، وتلامسها في غير عنف، وعلى نقيق ضفادعه تستقبل بواكير الربيع الضاحك، وكم غرقت في هذا وذاك غرقاً لا أخرج منه إلا بعد سفر طويل. هناك في ذلك المكان رأيتها، وكان ذلك في يوم ملول فاتر، والضباب المعطر النفحات الرطب الذرات يتطاير رويداً رويداً فوق ذري الجبال. ثم ينتشر في السهول والقيعان والآكام والوديان فرحاً بالربيع الغض النضير، باعث الحياة في الأموات
أما المناظر البديعة التي كانت تمتد بامتداد البصر، وتسترسل على قدر ما يبلغه النظر، فقد كانت تؤلف بصورها المتنوعة سلسلة من البدائع، تتجلى في طيف الخيال كأنها عالم من العوالم الشعرية المبهمة، وتظهر في صورة خيالية لو مرت بها نسمة من النسمات الفاترة لذهبت بها أباديد
إن في سكون الصحراء العميق نفساً عميقاً لا يكون إلا في سكون الصحراء، إنه سكون حي قوي الحياة، لو نظرت اليه بدقة وإمعان لخيل اليك بقوته أن الطبيعة تتنفس كما يتنفس كل ذي روح
لقد طفت كثيراً في النواحي أمتع النفس بالنظر إلى الضباب القائم يطير بين تلك الجبال كأنه الدخان، والى الزهرات الناضرة سقطت عليها حبات الندى فارتجفت تحتها ومالت أعناقها لثقلها، وأصغى إلى الأطيار على الأشجار تتغنى في هدوء بأصوات مملوءة بنشوة الطرب وسكرة النشاط، وبلغت من لك كله ما أريد
لقد أحيت في نفسي تلك الحال الجذابة، وتلك المناظر الخلابة، وتلك النزهة الواسعة الأطراف، المترامية الأكناف، روحاً جديداً، وأثارت رغبة كامنة، فكنت أقف أثناءها وقفات تسكن فيها الحواس، ويذهب الفكر إلى أبعد مداه، لقد كنت مأخوذاً أمام تلك الطبيعة التي تغرق الفكر، وتشتت اللب، حتى يكون التفكير ذهولاً، لقد كنت مأخوذاً بسبب ذلك الشعور الأخاذ الذي يفوق كل شعور حتى يجعل من الإنسان الحساس جماداً لا يتحرك ولا يحس
لست أدرى لماذا أبحث عن هذه الأشياء ولماذا أتكلم عنها؟ وليس لها من صلة بالحادثة التي أثارت أحزاني وحركن كوامن أشجاني وحرمتني حتى من نفسي أياماً طوالاً، أجل لا أدري، ولكني أريد أن أقول إني رأيت فصول تلك الرواية المحزنة وأنا أشد ما أكون تأثراً
بهذه المناظرة وخضوعاً لها، فزادت رؤيتها تأثري حتى وصلت آثارها إلأى أعمق نقطة في نفسي
سمعت ذات يوم من تل الأيام التي قضيتها في تلك القرية وقع أقدام يكاد يخفي على الأذن لضعفه، فالتفت فعلقت عيني بفتى وفتاة قلما علقت عين بمثلهما جمال خَلْقٍ ولطف خُلقٍ، لا يتجاوز أكبرهما وهو الفتى الثانية عشرة من عمره، ولا تقل الفتاة عنه إلا عاماً أو عامين، كانت الفتاة وهي تبكي بلا عبرات وتئن بلا حسرات، أما الفتى فكان على عكس حالها يطفح نشاطاً ويفيض سروراً، مع أن على وجهه سحابة. . . لا أردي ماذا أسميها؟
ولا أدري كيف أعبر عنها؟ هي كالتي ترى على بعض الوجوه التي رشقها الموت بسهم من سهامه في بعض من يعز عليها، فطبعها بطابع أغبر قاتم يدل على ما في الجنان من هموم وأحزان، فلما رأيتها على ما وصفت، شعرت بألم في أعماق نفسي ذهب بكل ما فيها من نشوة وطرب
كانا يمشيان رويداً رويداً؛ فالفتاة مستغرقة في أفكارها، مسترسلة إلى أحزانها، وأما الفتى فقد كان يبتسم ابتسامة عذبة كأنه ثمل من حمرة الربيع الجديدة
علقت عيني بهما حتى ما كنت استطع أن أحولها عنهما، كأن دافعاً خفياً يدفعني إلى ذلك ويفرضه على فرضاً. حاذباني، وتجاوزازني، ولعلهما لم يشعر بمكاني، أحدهما مشغول عني بافراحه، والآخر مأخوذ باتراحه
وبينا أنا في ذهولي العميق إذا بقاتل يقول:
- فيماذا تفكر؟
كان المتكلم طبيباً من أصدقائي يتبع الطفلين، لا أذكر ماذا أجبته على سؤاله، ولكني أدركت بعد أن مر الطفلان من أمامي أن ضحية ثمينة قد مرت بي
صادفت الطبيب في اليوم الثاني منفرداً فقلت له:
- من هذان الطفلان اللذان كنت تتبعهما أمس؟
فأجابني وهو يلوي شفته:
- هما شقيقان
قلت:
- ومريضان؟
فقال:
- (أحدهما فق والثاني لا حق بع عما قريب ولابد، لأن مرض الثاني لا يظهر إلا بعد أن يتلاشى المريض الأول، إن الفتى لن يحتمل هذا المرض أكثر من شهر آخر، وإذ ذاك فلا بد من معاينة الفتاة)
ثم استمر قائلاً:
- (لعلك قد لاحظت أن الفتاة تعلو وجهها سحابة حزن كثيفة وان طورها طور مكتئب شديد الكآبة، فهل عرفت منشأ ذلك؟ منشؤه الخوف، إن الفتة لا تفقه ذلك من أمر هذا المرض الذي نزل بأخيها شيئاً، وأني لها أن تفقه ذلك وهي لا تزال طفلة؟ ولكنها مع هذا تعلم يقيناً أن أخاها معرض لخطر شديد محدق له، أنها تسمع كل يوم من أفواه الناس هذه الكلمات فترسخ في قلبها الصغير وتترك فيه أثراً من الخوف:
كيف حاله اليوم؟ هل عاودته النوبة؟ كم درجة حرارته اليوم؟
وهي في كل يوم أيضاً تسمع من أمها هذه النصيحة مئات من المرات:
اجلسي يا فتاتي بجانب أخيك، لا طفيه، لا عيبه، لا تؤلميه، إن أخاك لا يحتمل ذلك
إن هذه الجمل والعبارات تطرق مسمعها كل يوم مرات عديدة فتترك في قلبها الحساس أثراً عميقاً كله خوف ووجل، ومع ذلك فكثيراً ما رأت والديها وهما يمسحان دموعهما خفية، وكثيراً ما رأتهما بعد أن يخرجا من غرفة أخيها المريض يحتضنانها ويقبلانها قبلات حارة، ثم تضمها امها اليها بحرارة كأنها تود المحافظة عليها من عدو يريد اختطافها بعد أن نفضت يدها من أخيها، فهي لذلك تشعر من سويداء قلبها الصغير بخوف ووجل لا تفقه منشؤهما ولا تعرف مأناهما، وهي لذلك حزينة كئيبة. وأما المريض الحقيقي فانه طروب فرح مملوء نشاطاً ومرحاً، لقد كان حتى الآن محبوساً في البيت، محروماً من التمتع بالطبيعة، فلما أطلق سراحه عاد دمه إلى الغليان بأشعة شمس الربيع المزدهر، وهذه دورة من دورات السل مخيفة، لأن المريض فيها يظن نفسه قد شفي من المرض، مع أن ذلك النشاط هو القوة الباهرة التي تعتري الذين يقفون على أبواب الموت، وهو آخر مظهر تظهره الحياة وتنفق فيه أقصى ما عندها من جهد، وإذ ذاك نقول لأهل المريض خذوه إلى
النزه. . . دعوه يلعب في الشمس ويرتع في الهواء الطلق. . . فهذه الكلمات تعلن للأهل بلطف أنه لم يبق من حاجة إلى الدواء بعد أن وقع اليأس من الشفاء، فهاهم الآن يرسلونه ليلعب في الهواء الطلق كل يوم، وليأخذ قسطه من مرح الطبيعة، ولينال حظه من حرارة الشمس الساطعة ليمتع نفسه بما قضي عليه أن يحرم منه قريباً)
جلست الوم كعادتي عند النهر أفكر، فكانت أفكاري كلها متجهة نحو هذين الطفلين! لقد كانا محور تخيلاتي وتأملاتي في هذا اليوم، فلا أرى سواهما، ولا يمر ببالي شيء غيرهما
أصبحت أرى الطفلين كل يوم، وكنت إذا وقع نظري عليهما علق بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً بهما حتى لا يكاد يتحول عنهما، وكأني كنت أشعر أن صوتاً داخلياً يهتف بس قائلاً:
- تأمل هذين الوجهين المحاطين بالشعر الأشقر إحاطة الهالة بالقمر، إنك سترى تلك الطفولة الغضة قد جمدت ويبست فيهما كما جفت الزهرة قبل أن تتفتح عنها أكمامها، وسترى على شفاههما الذابلة ذبول الزهرة لفحتها السائم، رعشة تشبه رعشة المحتضر
أما تلك العيون الحزينة فقد كانت في ذلك الربيع الضاحك مدفناً لجميع الآلام، أسفاً على ربيع حياة عصفت به يد الخريف وتودع كل آمالها في الحياة مع شدة حرصها عليها، تودعها بشعر حزين باكٍ تنظمه نظراتهما الحائرة، وترجمة أنفاسها الفاترة. المرض بعد، والفتى الذي برح به الداء، يمشيان جنباً إلى جنب، وقد أخذ كل منهما بيد الآخر، مشية الحزين الذاهل
رأيت الفتاة في أحد الأيام وهي مكبة باهتمام على أخيها تزرر معطفه خوفاً عليه من البرد، فقلت في نفسي ما أشقاكما أيها الطفلان. . .
كان الفتى في آخر مرة رأيته فيها مصبوغ الوجنتين بحمرة هي حمرة السقم لا حمرة العافية، وفي تل المرة سمعت أخته تقول له بصوت حزين:
- لقد أسرفت في الركض يا أخي فأخذك العرق وها هو السعال يعاودك ويأخذ بخناقك
ويجيبها الفتى وهو يبتسم لها ابتسامة عذبة ويحاول أن يحبس سعاله:
- نعم لقد أسرفت في الركض كثيراً، ولن أعود
خرجت إلى النزهة بعد أيام وأخذت أجمع ما راق عيني وأحبته نفسي من الأزهار الجميلة
التي أتحفتنا بها الطبيعة لتجلبنا اليها، فجمعت باقة جميلة فيها من كل لون حسن، ومن كل رائحة لطيفة، ثم رأيت زهرة زرقاء اللون، قد نبتت على حائط المقبرة بين الأحجار، فمددت يدي لأقطفها، فاذا بيد قد وضعت على كتفي، فالتفت فاذا صديقي الطبيب، فقلت له:
- أهذا أنت؟
- نعم فالى أين تريد؟
- لست أريد مكاناً معيناً، إنما أنا في نزهة أداوي بها نفسي ولا أدري متى يكون الشفاه؟
ثم ذكرت الطفل المريض، فقلت له:
- ما شأن مريضك اليوم؟
فأخذ الطبيب بيدي وسار أمامي حتى وقف على باب المقبرة وأشار بيده قائلاًك
- ها هو ذا. . .
نظرت بحيرة، فاذا الطبيب يريني قبراً جديداً ث أضاف قائلا:
- ما كنت مخطئاً في ظني. إن الفتى قد قضى بحبه منذ يومين، وقد دعت الآن لمعالجة الفتاة، وها أنا ذاهب اليها
ابتعد الطبيب عني، ووقفت في مكاني كالصم لا أتحركن إن هذا القبر الجديد تحت سماء الربيع الصافية المملوءة بالحياة والنشاط يدل على معنى مؤلم، فنظرت طويلاً واستعبرت كثيراً، فكأن صوتاً من داخل القبر يقول:
- انظروا متأملين إلى هذه الأنوار التي تفيض من السماء فيضاً! والى الحياة تسح من أجواف الربيع المزدهر سحاً، ولكني محروم من هذا وذاك. . . آه افتحوا قبري! افتحوه. . . لأشاهد أنوار السماء واضواءها، ولأبصر فوران الحياة وغليانها
بحركة لم أتعمدها، ولم أقصد اليها، ألقيت من يدي تلك الباقة من الزهر، على ذلك القبر، الذي كانت تشرق عليه شمس مايو الحارة، وفررت من ذلك المكان لا ألوي على شيء، وبقيت بعد ذلك الموقف سنين عدة مشتت الفكر، مشرد اللب، أنشد نفسي فلا أعثر عليها، ولا يرشدني مرشد اليها
حلب
فتاة الفرات
من روائع الشرق والغرب
محمد إقبال
من كتاب (رموز بيخودي)
ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام
ختم شاعر الإسلام الأكبر محمد إقبال كتابه (رموز بيخودي) بتفسير سورة الإخلاص، وجعل كل آية من السور عنوان فصل من الشعر، فنظم ثمانية عشر ومائة بيت تبين عما تمكن في نفسه من المعاني الإسلامية الجليلة
وفيا يلي ترجمة منثورة للأبيات التي كتبها تحت عنوان:
ولم يكن لـ كفواً أحد
ما المسلم الذي تحقر الدنيا عيناه؟ ما هذا القلب الذي وضع في الحقُ مناه؟ زهرة من الشقائق، في ذروة جبل شاهق، ضحكت للشمس والقمر، ولم ترجاني الزهر. ونفحت في حمرتها النار، أنفاسُ الأسحار. تظل أشعة الشمس الأولى، ويغسل غبار النوم من عينها الندى
اشدد (بلم يكن) عقداً، لتكون بين الأقوام فرداً. إن الواحد الذي تنزه على الشريك، يأبى عبده أن يكون ذا شريك. وإن المؤمن وهو في الذروة العُليا، تأبى غيرتٌه أن يسامى، (لا تحزنوا) وشاح على صدره، (وأنتم الأعلون) تارج على رأسه يحمل عبء العالمين لا يضجر، ويطوي صدرهُ البحر والبر، قد ألقى أذنه إلى قصف الرعود، فان يخر البرق تلقاه بمنكب مشدود، سيف على الباطل، وللحق مجن لا يكسر، وأمره ونهيه معيار الخير والشر، مائةُ شعلة مقمرة في عقدة من شرره، وتنال الحياة كمالها من جوهره. ليس في هذا العالم ذي الضوضاء نغمة إلا تكبيره في الأرجاء. عظيم العدل والعفو والجود والاحسان، كريم السجايا على نوب الزمان، هو في المجامع برد وسلام، وفي الهيجاء نار تذيب الحسام. وهو في البستان نجي العنادل، وفي الصحراء باز صاءل. لم يرض قلبه تحت السماء قراراً، فاتخذ على الأفلاك داراً. طائر ينقر نجوم السماء، ويحلق وراء القبة الزرقاء
إنك لم تمد جناحا للطيران، فلبثت دودة في الرغام، قد أذلك هجرك القرآن، فأغرقت في
شكوى الزمان، أيها الساقط كالندى على التراب، وفي يده من الحياة كتاب، حتام تتخذ في الثرى مجالك، هلم فألق على الثريا رحالك
عبد الوهاب عزام
وداع
للورد بيرون
ترجمة الأستاذ محمود الخفيف
شد ما يبهجني أنك سعيدة، ولذا أحس أنه ينبغي أن أكون سعيداً مثلك، فان قلبي ما يزال يرجو لك الهناءة في حماسة كما تعود من قبل
وهذا زوجك! متعه الله بما يحب، وحفظك قرة عين له، لشد ما يعتريني الحزن ويباغتني الهم حينما أفكر فيما وفق اليه من حظ عظيم. . . ولكن لأفرغ من هذا ولأنسه. آه كم كنت أمقته لو لم يكن يهبك مثل هذا الحب!
عندما لقيت أخيراً طفلك الحبيب. أحسست كان قلبي وقد ملأته الغيرة يريد أن يتحطم، ولكنني حينما ابتسم هذا الطفل الغرير، طبعت قبلة على جبينه، وفعلت ذلك من أجل أمه
قبلت طفلك وأنا أكتم تنهداتي وأحبس زفراتي، إذ رأيت في وجهه وجه أبيه، ولكنني لم ألبث أن لمحت في مقلتيه عيني أمه. . . وكانتا من قبل مأوى للحب وملكاً لي
وداعاً يا حبيبتي العزيزة! لابد لي من الرحيل، وما دمت أنت سعيدة فليس هناك ما يكربني، أما أن أبقي إلى جوارك فذلك ما لا أستطيعه، إذ سرعان ما يعود قلبي طوع يديك
لقد طالما ظننت أن الزمن في دورانه، وأن ما فطرت عليه نفسي من فخار وكبرياء، كفيل أن يخمد في قلبي تلك الشعلة الثائرة، شعلة الحب أو شعلة الطفولة، ولكنني لم أتبين حتى جلست إلى جانبك. . . أن قلبي لم يزل في كل شيء هو هو. . . إلا من جهة واحدة. . . . . هي الأمل!
غير أنني على الرغم من ذلك جليت هادئاً بين يديك، نعم إني لم أنس تلك اللحظات التي كان يثبت فيها قلبي بين ضلوعي عند لمحة من عينك! أما الآن فالرعدة جريمة، ولذلك التقينا فلم ينبض فينا عرق
لقد رأيتك تحدقين في وجهي، ولكنك لم تجدي فيه رأي اضطراب، نعم لم تتبيني في ملامحي سوى معنى واحد، هو ذلك السكون العنيد، سكون اليأس. . . إليك عني. . . إليك عني يا أحلام الطفولة. آه! من لي بجرعة من ذلك النهر الذي جاءت به الأساطير، من لي بجرعة من (الليثية)! وأنت أيها القلب الأحمق، إما أن تقر وتهدأ، وإلا فلتتصدع جزاء بما
جنيت
الخفيف
القمر في الخريف
للشاعر كولردج
أناجيك في علياء سمائك أيها القمر الوضيء، يا من يشع منك هذا الزهو الوديع فيملأ جوانب الليلة المدثرة بشتيت الرقيع. إيه يا من تلد الأطياف الساحرة التي تملأ القلب، ولا تفتأ توحي اليه في نشاط وقوة
إني لأرقب في غبطة سيرك الهادئ، خلال ذلك النور المترقرق كأنه الماء في لونه وأراك حينما تختلج عينك الفاترة وراء ذلك القناع الذي يشبه الفراء العظيم، وحينما يتوارى وجهك الشاب خلف ما تجمع من سواد في هذا الفضاء العلوي، وحينما تطل من السحب مزقتها الرياح، فينبعث ضوؤك الزاهر في السماء الصاحية
آه. مثلك أيها القمر يكون الأمل! نعم صنوك في جماله وفي اضطرابه. فتارة يلوح غامضاً مبهماً في تيار الفكر، وطوراً يختفي وراء ذلك الطيف المزعج ذي الأجنحة الشبيهة بأجنحة التنين، طيف اليأس البغيض، ثم لا يلبث أن يظهر في وهجه وقوته، فيبدد بنوره الساطع تلك السحب المركومة التي عقدها الهم، ويسبح كما يسبح الشهاب الثاقب، تزيده السرعة وهجاً واشتعالاً
محمود الخفيف
نزهات بين الصخور
لفيكتور هوجو
النزهة الأولى
فوارةٌ من الزبد وسط الخليج تميد
تكونها أقماعٌ خفيةٌ وعمقها بعيد
تتأرجحُ بوادعةٍ بين الأمواج الباسمة
كمركز ثلجىٍ لذائرةٍ قائمة. . .
إلهي ماذا تفعل بقارورة الثلج هذه؟
تدخل فيها الفجر فيخرج الليل بظلامه،
وعبثاً يخمدها البحر بموجه المحيط به،
والزوابع بزئيرها، والسحابُ بضبابه،
يمر الإعصارُ وهزيمة والأمواجُ وأكدارها
ولكن هل تُضعف الفوارة ثقة الصياد بها؟
كلا. فما تلبثُ أن تظهر وسط ذاك الجحيم
حيث يتغير كل شيءٍ بمكانها وثلجها القديم
يقولُ الصيادُ: هنا توجدُ موجةٌ مقدسة،
يأتي لها كل طفلٍ يموتُ ليلةً العيد
ينظفُ بثلجها جناحهُ من أهواء الحياة المدنسة
قبلَ الذهاب إلى السماء ملاكٌ في مكانه البعيد
وأقولُ: أدامَ اللهُ للسيف بياضه الناصع
برغم َ ما حوله من بحرٍ وصخرٍ قاتم
ليصور بصدر الطبيعة ثبات الحق القائم
وسط الدنس والخيانة بنقائه الرائعْ
محمد وصفي
البريد الأدبي
الأكاديمية الفرنسية لمناسبة عيدها الثلثمائة
في شهر يناير الماضي بلغت الأكاديمية الفرنسية ثلثمائة عام من عمرها، وهي تتأهب للاحتفاء بهذه الذكرى؛ وهي ذكرى نادرة في تاريخ الجمعيات العلمية، إذ قلما تبلغ الجمعيات العلمية مثل هذا العمر المديد، قوية مزدهرة، تغالب دائماً أعاصير السياسة والأهواء المختلفة، وقد بدأت الأكاديمية الفرنسية حياتها متواضعة جداً؛ ويمكن أن نرجع فكرة قيامها إلى سنة 1629 في عهد لويس الثالث عشر، ففي ذلك العام اتفق السيد فالنتان كونراد سكرتير الملك مع بضعة من أصدقائه الشعراء والأدباء على الاجتماع معاً في جلسات دورية منتظمة يتجاذبون فيها الأحاديث الأدبية، ويتحدثون عن الشئون والأخبار والكتب، وكانت هذه الاجتماعات سرية خاصة في المبدأ، واستمرت كذلك زهاء خمسة أعوام؛ وفي أوائل سنة 1634 وقف الكردينال ريشيليو وزير لويس الثالث عشر على خبر هذه الجماعة الأدبية من أحد أعضائها فجالت في الحال في ذهنه فكرة (الأكاديمية) الرسمية. ولم يكن أحد من الجماعة المتواضعة يفكر يومئذ في مثل هذا المشروع؛ وكانت فكرة ريشيليو أن ينظم الجماعة وأن يخضعها لأشراف السلطات الرسمية؛ فدعاها إلى أن تؤلف هيئة منظمة وأن تجتمع بانتظام تحت رعاية سلطة رسمية، وذلك مقابل تعهدها بالحماية وإعطائها سلطة محترمة. فترددت الجماعة في القبول باديء بدء خشية على استقلالها، واستمر هذا التردد طوال سنة 1634، ثم انتهت بالقبول؛ وفي 29 يناير سنة 1635 صدرت الأوامر الرسمية بتشكيل الأكاديمية الفرنسية، وبذلك تكون في 29 يناير الماضي قد قطعت ثلاثة قرون كالمة من حياتها الرسمية
وعلى أثر ذلك وضعت الأكاديمية لنفسها لائحة خاصة تتألف من خمسين مادة؛ وقبل الكردينال أن بعضها تحت رعايته، وصادق على هذه اللائحة في 22 فبراير؛ من نفس العام؛ ثم اتخذت بعد ذلك الاجراءات لمصادقة البرلمان على وجودها، وصدرت هذه المصادقة في يوليه سنة 1637، وتمت بذلك جميع الاجراءات الرسمية والدستورية التي تجعلها هيئة رسمية عامة؛ وعني البرلمان عناية خاصة بأن يحدد مهمة هذه الهيئة الوليدة خشية أن تنافسه في شيء من مهامه أو سلطانه في المستقبل، فعرف مهمتها بأنها تعمل
على: (تنميق اللغة وتحسينها وتوسيعها)، وأنها لا تشغل بأمور أخرى.
ومنذ ثلاثة قرون تضطلع الأكاديمية بأعظم دور في الحياة الأدبية الفرنسية، وينمو نفوذها وأهميتها، حتى غدا الظفر بعضويتها أسمى ما يتشرف به كاتب أو شاعر؛ وقد استمرت الأكاديمية تقاوم ل ما يضطرم حولها من أعاصير الثورات السياسية والاجتماعية؛ ولم تنلها الثورة الفرنسية الكبرى التي اجتاحت كل النظم والهيئات القديمة بأذى؛ وأعضاء الأكاديمية الفرنسية أربعون لا يزيدون، ويطلق عليهم اسم (الخالدين)؛ وإذا توفي أحدهم، رشح لكرسيه من أعلام الكتاب والمفكرين من يجدر ترشيحه؛ ويقع اختيار العضوية بالانتخاب. ونستطيع أن نذكر من بين أعضاء الأكاديمية الحاليين بول بورجيه، وهو أقدمهم جميعاً إذ دخل الأكاديمية منذ سنة 1896، والشاعر بول فاليري، ولوي مادلان، وإبيل ديرمان، وهنري رنييه، ومارسل بريفو، وجورج جوايو، ولوي برتران، وبيير بنوا وهو أصغر الأعضاء سناً، وموريس دوناي، والمؤرخ دي نولهاك، والمؤرخ لي نوتر، والدوق دي بروجلي وهو أحدث الأعضاء إذ دخل الأكاديمية في الشهر الماضي فقط
وتشتغل الأكاديمية منذ أعوام بوضع قاموس رسمي للغة الفرنسية، وذلك تحقيقاً لمهمتها التاريخية وهي العمل على تحسين اللغة الفرنسية وتجميلها، وسيكون هذا القاموس متى تم وضعه مرجعاً رسمياً لألفاظ اللغة ومعانيها؛ وسيكون له في تطور اللغة الفرنسية أعظم الآثار
حول رواية نهر الجنون
صديقي العزيز الأستاذ الزيات:
قرأت في العدد الأخير من جلة (الرسالة) الغراء كلمة لأديب فاضل عن فكرة (نهر الجنون) وتماثلها مع فكرة قطعة نثرية لجبران خليل جبران. وقد حار الأديب في علة هذا التشابه، وافترض بعض الفروض، وعقبت (الرسالة) كذلك بفرض قريب من الحقيقة. ورداً على كل ذلك أقول إني سمعت هذه القصة لأول مرة منذ نيف وعشرين سنة، وقد وجدتها شائعة على الألسنة كغيرها من الأساطير. ولا ريب عندي أن جبران خليل جبران لم يخترع هذه القصة اختراعاً، وإنما دونها كما سمعها من الناس. ومثل هذه الأساطير ما ابتدعها كاتب، وإنما نبتت من قديم الزمان بين الشعوب والأجناس كأكثر النوادر والحكم والأمثال. وإني لم
أكن أعلم قط قبل اطلاعي على عدد الرسالة الأخير أن أحداً من الكتاب أو الشعراء قد تناول من قبل هذه الأسطورة، ولم يصل إلى خبرها عن طريق شيء مكتوب، وإنما عن طريق أفواه الناس
وتقبل أطيب تحيات
المخلص
توفيق الحكيم
الترشيح لجائزة نوبل للسلام
تحدثت بعض الصحف الألمانية أخيراً عن الترشيح لجائزة نوبل عن السلام، ومعروف أن هذه الجائزة يمنحها معهد نويل في كل عام للرجل الذي قام بأعظم الخدمات في سبيل السلام العالمي سواء كان من رجال السياسة أو القلم؛ وقد أعطيت هذه الجائزة في العام الماضي لاثنين من الانكليز هما السير نورمان أنجل الكاتب والصحفي الذي اشتهر بكتبه ومقالاته ضد الحرب وفي سبيل السلام، ومستر ارثر هندرسون رئيس مؤتمر نزع السلاح. والآن تتساءل بعض الصحف الألمانية لماذا لا يرشح معهد نوبل الهير هتلر رئيس الدولة الألمانية لنيل جائزة السلام؟ وتقول إن أحداً من رجال الحرب أو السياسة أو القلم لم يخدم قضية السلام في العامين الأخيرين قدر ما خدمها هتلر، فهو يتجه بجميع جهوده الداخلية والخارجية إلى توطيد دعائم السلم، وحديث الصحف الألمانية في ذلك طريف في غرابته وتناقضه؛ فلم ينس إنسان بعد كيف قام النظام الهتلري في ألمانيا، ولا كيف يستند في بقائه إلى أشنع وسائل الضغط والنعنف، ولم ينس إنسان بعد تلك الدماء التي سالت في ألمانيا غزيرة في 30 يونية الماضي دون أي وازع أو محاكمة بحجة التآمر على هتلر، ولا يستطيع أخذ أن ينسى أن النظام الهتلري يقوم من أساسه على صيحة الحرب وعلى المبادئ العسكرية والأحفاد الجنسية المغرقة، ولكن الصحافة الألمانية التي أصبحت أداة مستعبدة في يد وزارة الدعوة لا تتحرج عن اتحدث عن السلام ودعائه على هذا النحو الغريب
كتاب طريف عن نابليون
صدر بالفرنسية كتاب جديد عن نابليون بورنابارت، ولكنه كتاب من نوع خاص وعنوانه:(بؤس نابليون) ومؤلفه لورنزي دي برادي؛ وهو كاتب ورسيكي الأصل، يهدي كتابه إلى جميع الكورسيكيين حتى لا ينسوا أن نابليون يمت اليهم بصلة الجنس، وطرافة هذا المؤلف ترجع إلى أنه يصور لنا أي بؤس كان يعانيه ذلك الإمبراطور العظيم منذ نشأته حتى وفاته؛ فهو قد بدأ الحياة ضابطاً بائساً يعاني أمر ضورب الفقر بعد أن طرد من وطنه الأصلي، ولما وصل إلى قمة المجد وبسط سيادته على أوربا، كان يبدو في ثوب من السعادة والهناء، ولكنه كان أبعد الناس عن التمتع بوفاة أصاحبه، وكان صحبه أشد الناس خيانة له وتوثباً إلى الغدر به. ويقول لنا دي برادي إنه أراد أن يصور كل ضروب الشقاء التي عاناه نابليون، وأن يوضحها بأقوال ذلك الذي عاناها؛ وأنه متى شرحت هذه الآلام استطاع القارئ أن يفهم الروح النابوليونية حق الفهم، وأن يتتبعها خلال تلك الحياة الشقية التي ارتضاها الإمبراطور في فلسفة واستكانة وتسليم
وفاة علامة نمسوي
من أنباء فينا أن العلامة الرياضي الشهير الأستاذ الدكتور جوستاف ايشريخ قد توفي في السادسة والثمانين من عمره، وقد بدأ الأستاذ ايشريخ حياته العامة مدرساً للرياضة في جامعة جراتز منذ سنة 1874؛ ولم يلبث أن ظهر ببراعته ومباحثه المبتكرة؛ وفي سنة 1884 عين أستاذاً للرياضيات بجامعة فينا، وهو الكرسي الذي شغله مدى خمسين عاماً حتى وفاته، وقد نشر عدة مؤلفات رياضية هامة أشهرها مباحثه عن (التبلور) وتوجت مباحثه غير مرة من أكاديمية العلوم؛ وبوفاته يخسر العلم النمسوي أحد أقطابه وأركانه من العهد القديم