الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 850
- بتاريخ: 17 - 10 - 1949
أنطون الجميل باشا:
خطبة الاستقبال
في مجمع فؤاد الأول للغة العربية
سيدي معالي الرئيس، إخواني، سيداتي، سادتي:
اسمحوا لي أن أتقدم بأجزل الشكر وأخلصه إلى إخواني الذين تفضلوا فشرفوني بانتخابهم إياي زميلا لهم في هذا المجمع الموقر. وإني أسأل الله أن يعينني على استحقاق هذه الثقة الغالية، وأن يقدرني على تكاليف هذا الشرف العظيم. ثم أخص بأجمل الحمد وأطيبه صديقي الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك على استقباله الذي أشاع فيه من سراوة خلقه وسخي تقديره ما هز من عطفي وبسط من انقباضي. وإني لأذاكره في غبطة ولذة ما يحمل كلانا لأخيه من ذكريات عذاب نشأت منذ أكثر من ثلاثين عاما في ظلال الشباب وكنف الأخوة، ولا يزال لها في النفس إشراق وبالقلب نوطة. وأشهد لقد لابسته تلك السنين الطوال فزاملته في جهاد العيش، وآخيته في نسب القلم: في المدرسة الإعدادية، وفي لجنة التأليف، وفي تحرير (الرسالة)، فلم أره تخلف يوما عن مكانه بين أولئك الذين يعرفون كرامة النفس، ويحفظون غيب الصديق، ويقيمون قواعد العمل والمعاملة على أساس العلم والخلق.
ثم أرجو - أيها السادة - أن تشاركوني في دعاء الله رب جميع الناس أن يتغمد برضوانه وغفرانه فقيدنا الكريم أنطون الجميل باشا. وإني لأعترف أن خسارة المجمع فيه لن يعوض منها أن يكون خلفه مثلي. ولا أقول هذا مجاملة لسان ولا تواضع نفس؛ فإني صادقت الرجل خمس عشرة سنة بلوت فيها ما عنده. فأنا من أعرف الناس بفضله ومن أعلمهم بموضعه.
عرفت صديقي أنطون سنة 1934، وكان لقاؤنا الأول في دار صديقتنا المرحومة (مي)، وكانت هي التي دبرت هذا اللقاء ودعت إليه، فقد سمعته مرارا يذكرني بالخير ويؤثر (الرسالة) بالثناء، فجمعت بيننا في مساء أحد من آحاد فبراير من تلك السنة، وقالت بلهجتها الأنيقة وهي تعقد بيني وبينه المعرفة: إن كلا منكما يعرف أسم صاحبه في الأسماء، ولعله يعرف وجهه في الوجوه، ولكنه لا يعرف أن ذلك الاسم لهذا الوجه. ومن سعادتي أن تكمل
معرفتكما عندي.
فقال الجميل وهو يبتسم ابتسامته الرقيقة المعبرة: نعم، إني أعرفك وإن لم أرك. عرفتك مما قرأت لك وسمعت عنك فوجدت بيني وبينك مشابه في استعداد الفطرة وأسلوب العيش هي التي حببتك إلي وجذبتني إليك. فقد بدأت حياتي معلما للأدب كما بدأت. ثم حررت جريدة (البشير) في بيروت دينية يشوبها الأدب، وأصدرت (الزهور) في القاهرة أدبية يهذبها الدين، وهاتان النزعتان أجدهما مجتمعتين في (الرسالة). ثم كرهت التحيز لأي حزب، والتعصب لأي مذهب، والإضافة إلى أي شخص؛ فأنا أنشد الخير في كل عقيدة، وأؤيد الحق في كل هيئة، وأحب الجمال في كل إنسان. ولولا أن (الأهرام) أمانة في عنقي لقطعت ما بيني وبين السياسة. ويظهر لي أنك تنهج في حياتك هذا المنهج، وتسلك في عملك هذا المسلك. . .
ثم تشاجن الحديث وأخذ ثلاثتنا بأطرافه، فعلمت في هذا المجلس وفي المجالس التي أعقبته، أن الجميل - فضلا عن وجوه الشبه التي رآها بينه وبيني - أزهري مثلي، يعرف قواعد اللغة كما يعرفها الأزهر، ويفهم تاريخ الأدب كما تفهمه دار العلوم.
ولست أعني بأزهرية الجميل ذلك التأثير القوي الذي يؤثره الأزهر في كل كاتب وفي كل شاعر من طريق مباشر أو غير مباشر، إنما أعني بأزهريته ما أعنيه بأزهرية فقيدنا العزيز الآخر علي الجارم، وهو أن كلا الرجلين كان ربيب مدرسة اشتقت من مصدر الأزهر وتفرعت من أصله. والأمر في أزهرية الجارم أبين من أن يبين، ولكنه في أزهرية الجميل يحتاج إلى بسط قليل:
كان الأزهر في أوائل النصف الأخير من القرن الماضي لا يزال وحده يرسل أشعة الثقافة في العالم الإسلامي كله. ولكنه كان في أثناء الغفوة العامة يحفظ علوم الدين ولا يجتهد، ويدرس فنون اللغة ولا يطبق. وكانت معاهد العلم في المغرب والشام والعراق تتعلم في كتبه وتجري على منهاجه، حتى وقع في سورية ومصر أمران خطيران كان لهما الأثر البالغ في تطور المجتمع وتقدم التعليم ونهوض الأدب: حدوث الفتنة الدامية في لبنان سنة 1860، وولاية إسماعيل على مصر بعدها بثلاث سنين. كان من أثر تلك المذبحة الأليمة أن لجأ اللبنانيون من قراهم إلى بيروت فتجمعت فيها الحركة، وأن وضع للبنان نظامه
الخاص ففتح بابه للأجانب، فدخله المستعمرون والمبشرون من فرنسا وأمريكا، وأنشئوا في ظل الامتيازات الكلية الأمريكية سنة 1866، والكلية اليسوعية سنة 1874. وكان اللبنانيون في عهد بني عثمان كالموالي في عهد بني أمية، أبعدوا عن مناصب الدولة فاشتغلوا بالعلم، وحيل بينهم وبين موارد الثقافة في عاصمة الخلافة فاعتمدوا في التعليم على أنفسهم. وكانت (المدرسة الوطنية) التي أنشأها المعلم بطرس البستاني سنة 1863 أول مدرس تخرج فيها صفوة من الأدباء كانوا عدة الكليتين الأمريكية واليسوعية في تعليم اللغة العربية. وكانت كتب التعليم في هذه المدارس هي كتب الأزهر بعد أن بيض اللبنانيون أوراقها الصفر، وسهلوا أساليبها الوعرة، وقرنوا قواعدها الجافة بالأمثلة الشارحة والتطبيقات المدربة، واحتذوا في تنسيقها على مثال ما درسوه من كتب التعليم الفرنسية.
ثم كان من أثر جلوس إسماعيل على كرسي الخديوية أن بسط ظلال الأمن على ربوع مصر، ومهد لرجوع المدنية إلى ضفاف النيل، فوفد علينا الأجانب للتبشير والتعليم والعمل والتجارة، وفيهم جماعتنا الفرير والجزويت. ثم فتح ما انغلق من المدارس، ووصل ما انقطع من البعوث، وأسس نظارة المعارف، ووسع دائرة التعليم، فاقتضى ذلك كله أن ينشئ مدرسة يتخرج فيها المعلمون، فأنشأ دار العلوم في سنة 1871 ليتخصص طلابها في الآداب العربية، ويشاركوا في العلوم الدينية والعقلية، ويأخذوا بنصيب من الثقافة الأوربية. وكان أساتذتها يومئذ من نابغي شيوخ الأزهر، وتلاميذها من متقدمي طلابه، وكتبها من أمهات كتبه. ولكن اتصال أهلها بالحياة المدنية، وتأثرهم بالآداب الغربية، واقتباسهم لطرق التعليم الحديثة، جعلت لهم في التفكير والتعبير والسمت طابعا خاصا يميزهم من رجال الدين في الأزهر وتوابعه. فمدرسة دار العلوم كانت في القاهرة أثرا لسياسة إسماعيل العامة، كما كانت المدرسة الوطنية في بيروت أثرا لنظام لبنان الخاص. وكانت هاتان المدرستان - كما قلت - شعبتين من أرومة الأزهر، أمدها بالغذاء والري، ووصلهما بالروح والحرارة؛ ولكنهما لأسباب متجانسة، وعوامل متشابهة، تميزتا منه بالشكل واختلفتا عنه في الثمر. غير أن الاختلاف في المدرسة المصرية كان ضعيفا لقربها من الأزهر في البيئة والعقيدة والعقلية والتقاليد، فهي فرع طبيعي من أصله، ونوع ممتاز من جنسه؛ ولكنه كان في المدرسة اللبنانية شديدا لبعدها عن الأزهر في المكان والدين والتربية والسنن
الموروثة والصلات الأجنبية، فهي أشبه بالطعمة الغريبة أدخلت في جذعه فجاء ثمرها مغايرا للأصل في طعمه ولونه، ومختلفا عنه في قيمته وجداه.
سارت المدرستان على جانبي الركب الحثيث في طريق النهضة، مدرسة مصر يمينية تتأنى وتترزن، ومدرسة لبنان يسارية تتسرع وتخف. وكان الزمام أول الأمر عندنا وعندهم في أيدي المحافظين كحمزة وحفني والمهدي والإسكندري وشاويش ووالي هنا، وكالبستانيين بطرس وسليم وسليمان. واليازجيين خليل وناصيف وإبراهيم هناك، فكان التقليد غالبا، والتطور بطيئا، والفروق بين المدرستين قريبة. فلما أسرع الركب، واتصل القديم بالحديث، وامتزج الشرق بالغرب، انشقت من مدرسة دار العلوم المحافظة مدرسة أخرى تتميز بالإيجاز والطبعية والسهولة والحرية والمنطق، هي مدرسة لطفي السيد، ومن رجالها قاسم أمين، وفتحي زغلول، وعبد القادر حمزة، كما انشقت من المدرسة اليازجية المحافظة مدرسة أخرى تتميز بالشاعرية والطرافة والانطلاق والتمرد، هي مدرسة جبران، ومن أتباعها ميخائيل نعيمة، وأمين الريحاني، وماري زيادة.
وظلت المدرستان الشقيقتان المصرية واللبنانية تنتجان الأدب في ضروبه المختلفة بأسلوبين مستقلين، أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، على ما كان بينهما من تفاوت في الطاقة والمادة والصنعة والتقيد والتحرر، وبقيت المدرسة الأزهرية الأم عاكفة على النظر المجرد والجدل العقيم بين أروقة الأزهر والزيتونة والأموي والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي، حتى أن شيخا من كبار شيوخها كان ناظرا يحكم عمله على وقف خيري، فاضطر إلى أن يكتب رسالة إلى محافظة القاهرة في شأن من شؤونه، فلم يفهموا مما كتب شيئا. فلما أعادوا الرسالة إليه يستوضحونه المبهم، ضحك هزؤا بالجهل، ومصمص أسفا على العلم، ثم كتب على الرسالة حاشية على طريقة: قولي كذا معناه كذا، وقولي كذا به كذا، ثم ردها عليهم. ولو أنهم ردوها عليه مرة أخرى لكتب رحمه الله تقريرا على الحاشية.
كان الفرق بين مدرسة القاهرة ومدرسة بيروت كالفرق الذي كان بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة. كان البصريون يقدمون السماع فلا يرون القياس إلا في حال تضطرهم،
ويتشددون في الرواية فلا يأخذون إلا الفصحاء الخاص من صميم العرب، لكثرة هؤلاء بالبصرة وقربها من عامر البادية. أما الكوفيون فكانوا لخلاطهم أهل السواد والنبط يعتمدون في أكثر المسائل على القياس، ولا يتحرجون في الأخذ عن أعراب لا يؤمن البصريون بفصاحة لغتهم. فالمصريون لقربهم من الأزهر واعتمادهم على القرآن، وقلة اختلاطهم بالأجانب، كانوا أشبه بالبصريين في تقديمهم السماع، وتشددهم في القواعد، وخضوعهم للمعاجم، ونفورهم من الدخيل، وجريهم على أساليب القدامى، واعتقادهم أن العربية لغة العرب الأولين، فلا يملك المولدون أن ينقصوا منها ولا أن يزيدوا فيها. واللبنانيون كانوا لبعدهم عن بيئة القرآن، وتأثرهم بأسلوب الإنجيل، وكثرة اختلاطهم بالفرنسيين والأمريكيين، وشدة احتياجهم في الترجمة والصحافة إلى تطويع اللغة وتوسيعها لتعبر عن المعاني الحديثة، كانوا أشبه بالكوفيين في تقديمهم القياس، وقبولهم الكلمات المولدة والنصرانية والدخيلة، واقتباسهم بعض الأساليب الأوربية، وتساهلهم في بعض القواعد النحوية والتراكيب البلاغية؛ ولذلك رماهم الدرعميون بضعف الملكة، وسقم الأداء، وقصور الآلة، فلم يقيموا لإنتاجهم وزنا، ولم ينيطوا بمعاجمهم ثقة. ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. وقد تطوقت العربية منها أيادي مشكورة بما أمدتها به من مصطلحات الفنون المختلفة، وأسماء المخترعات الحديثة، عن طريق الترجمة والتأليف والتمثيل والصحافة والتجارة. ثم كان في جانبها الزمن وفي مؤازرتها الطبيعة، ففعلا فعلهما في تطوير المصرية حتى قل بينها وبين أختها الخلاف وكثر التشابه، وجاء مجمع فؤاد الأول فأخذ يحكم قانونه يوفق غير عامد بين المدرستين، فتسهل في القواعد، وتجوز في الوضع وتسمح في الدخيل، وسلم بالواقع، وأصغى إلى مذهب الإجماع اللغوي الذي يدعو إليه الدكتور السنهوري، والى مذهب القياس في اللغة الذي يقول به الأستاذ أحمد أمين.
والمتتبع لتطور المدرستين أيها السادة يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرر والاعتدال، ثم طور التمرد والانطلاق. ولتكن الانتقال من
طور إلى طور كان في مصر متثاقلا متداخلا، يرود قبل النجمة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعا لا يتأنى، مصمما لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا)، وناصيفا اليازجي في (مجمع البحرين) يقلد الحريري في المقامات، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص)، إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف؛ والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف. وليس بسبيلنا اليوم أن نحلل العوامل في كل تطور في كل بلد، ولا أن نعين الرجال في كل مدرسة في كل طور، ولا أن نورد الأمثلة من أدب كل رجل في كل فن. إنما سبيلنا أن نقول إن الجميل كان من خير من يمثلون اللبنانية في طور الاعتدال، وإن الجارم كان من خير من يمثلون المصرية في مثل تلك الحال.
سيداتي وسادتي: ولد أنطون الجميل في بيروت سنة 1887، وبيروت حينئذ كانت ملاذ العلماء والأدباء من لبنان وسورية، ومنتجع المبشرين والمستشرقين من فرنسا وأمريكا، وكانت النهضة الأدبية في عاصمة الجبل قد أثمرت بواكيرها ودنا جناها، فنال الفتى أنطون ما تيسر له منه في الكلية اليسوعية. والمارونيون كانوا يفضلون التعليم الفرنسي لصلتهم الدينية القديمة باليسوعيين، وعلاقتهم السياسية الجديدة بفرنسا. وحذق أنطون على الأخص اللغتين العربية والفرنسية. والنبوغ فيهما كان فاشيا في شباب لبنان، لأن تعليمهما كان جاريا على الأسلوب اللاتيني في تأليف الكتاب وإعداد المعلم واختيار الطريقة؛ فالكتاب متعمق في القواعد متنوع في التطبيق، والمعلم متضلع من العلم متقص في التحقيق، والطريقة قائمة على الحفظ معتمدة على التمرين. ذلك إلى أن الغالب على التعليم الفرنسي الأدب، والغالب على التعليم الأمريكي العلم. واللبنانيون كانوا يومئذ يتهيئون للعمل الحر في خارج لبنان؛ لأن النصارى في سورية كانوا كالشيعة في العراق لم يكن لهم في حكومة الترك مكان. والعمل الحر كان في التعليم، أو في الصحافة، أو في الترجمة، أو في التمثيل، أو في التجارة، وكلها أعمال تقتضي التبريز في اللغات والتبسط في الآداب. لذلك لم يكد الجميل يتخرج في الكلية اليسوعية حتى عين معلما في مدرسة القديس يوسف،
ولكن ميله إلى الكتابة واستعداده للتحرير، ساعد على اختياره محررا لجريدة (البشير) سنة 1908، وقد كان يصدرها الآباء اليسوعيون في بيروت، ويجعلون إدارتها لأب من صالحي الآباء، وتحريرها لأديب من نوابغ الأدباء. ثم دعاه إلى الهجرة ما دعا أحرار لبنان من ضيق العيش وسعة الأمل وفساد الحكم، فهاجر إلى مصر سنة 1909 وحرر في صحيفة الأهرام الفرنسية. ثم أعلنت وزارة المالية المصرية سنة 1910 عن حاجتها إلى مترجم فتقدم إلى المسابقة في هذه الوظيفة ففاز بها. ولكنه لم يقطع صلته بالصحافة فأصدر في تلك السنة نفسها مجلة الزهور أدبية شهرية. واتصلت منذ يومئذ أسبابه بالحكومة ورجال الحكم. وكان الجميل على طبيعة قومه عمولا لا يدخر جهدا ولا يضيع فرصة ولا يستوطئ راحة، فبان شأوه على أقرانه، ودل فضله على كفايته، فترقى في المناصب حتى عين سكرتيرا للجنة المالية. ثم اعتزل العمل الحكومي ليتولى رياسة تحرير الأهرام، فسطع مجده، وضخم أمره، وانبسط نفوذه، واضطرب في مجال الحياة المصرية السياسية والاجتماعية والأدبية اضطرابا عجيبا، ينبه ويوجه ويوفق ويشارك. عمل في مجلس الشيوخ، وفي مجمع فؤاد، وفي جمعيات البر، وفي جماعات الأدب، وفي شعب الثقافة، وفي لجان الاقتصاد فلم تكن عضويته فيها جميعا مظهرا من مظاهر الفخر، ولا موردا من موارد المنفعة، وإنما كانت هما من هموم الجد يستفرغ الوسع فيه، ويتوخى النجاح له، ويدفع العوائق عنه. وكان الرجل على حظ عظيم من الخلق الكريم والطبع المهذب والحلم الراجح، فساعدته هذه المزايا على أن يكون له في المجتمع هذه المكانة وفي العمل هذا البروز. كان أديب النفس واللسان والقلم، فلم تكن لنفسه جلافة تنفر، ولا للسانه بادرة تخشى، ولا لقلمه سن يخز. وكان مرهف القلب والعقل والذوق، فكان يشعر بقوة، ويفهم بزكاته، ويذوق بلذة. وكان دقيق العمل والوقت والأسلوب، فلا يقدر بالقيس الجزاف، ولا يوقت بالزمن المبهم، ولا يعبر باللفظ المقارب؛ إنما كان يتبين الغرض ثم يرميه بالذهن النافذ واللفظ المحكم فلا يخطئه. ولعل كلماته السياسية في الأهرام كانت على وجازتها أدل كلامه على خلقه وأدبه. كان يعالج مشكلات السياسة والحكم بأسلوب فيه صراحة الجبليين وكياسة اليسوعيين ونعومة الفرنسيين، فيكشف عن المخبأ من غير فضيحة، ويدل على الفساد من غير اتهام، ويوجه إلى السداد من غير استطالة. وهذا الأسلوب وما كان يقويه
من صدق النظر وصحة الحكم جعله وهو في مكتب الأهرام وندوته عضو شرف في كل حزب، ووزير دولة في كل حكومة.
أما أسلوبه الأدبي في الكتابة والخطابة فكان شعريا في صوره وأخيلته وألفاظه. كان يغلب عليه سلامة التركيب ووضوح المعنى وحسن الترسل، ويكثر فيه تضمين الأبيات واقتباس الحكم وإيراد النوادر. وقد شغلته الجهود الصحفية والاجتماعية عن الفراغ للأدب المحض فما كان يكتبه إلا مدفوعا إليه بإلحاح الطلب وإكراه الحاجة، كأن يكتب مقدمة لديوان صديق، أو بحثا في أدب شاعر، أو محاضرة في دار نقابة، أو خطبة في مجلس الشيوخ. ولقد كان له وهو في عهد الاستشراف والطموح إنتاج أدبي متصل، وعته جريدة البشير الدينية ومجلة الزهور الأدبية. ومن آثاره في ذلك الحين روايتاه:(أبطال الحرية) وموضوعها الانقلاب العثماني، وبطلاها القائدان التركيان نيازي وأنور. و (السموأل أو وقاء العرب) وموضوعها وبطلها معروفان. وهاتان المسرحيتان لا تمتازان ببراعة الحوار ولا بقوة البناء، وإنما تمتازان بفصاحة اللفظ وبلاغة الأداء.
وإذا كان لي أن أضيف إلى ما قلت كلمة في وفائه لمصر وحبه للمصريين فحسبي أن أقول إني لم أر في الأدباء الذين توطنوا هذا البلد كاتبا قبل الجميل، ولا شاعرا قبل مطران، نالا الرضى المصري بكل معانيه ومن جميع نواحيه، بإخلاص العمل لهذا الوطن، وإصفاء المودة لأهله، واعتقاد العرفان لجميله.
هذه - أيها السادة - بعض مزايا الرجل الذي كتب علي أن أودعه بلسانكم في رحلته الأبدية عن هذا المجمع. وإني لأشعر وأنا أجلس في مكانه الخالي أن كرسيه ينكرني كما ينكر الفرس الجواد الراكب الغر. ولقد حدثتني نفسي - شهد الله - حين تأدي ألي خبر أنخابي لعضوية المجمع أن استعفيه من هذا التشريف، لا زهادة في الشرف، ولا رغبة عن العمل، ولا فرارا من الواجب، ولكن لعلة نفسية مزمنة كان من أخف أعراضها إني أحسن العمل منفردا أكثر مما أحسنه مجتمعا. وربما جعلتني - لعنها الله - أعلم الشيء ولا أقوله، وأسمع الخطأ ولا أصوبه، وأرى المنكر ولا أغيره. وتلك كانت حالي معها وظل الشباب وارف، وعود الأمل ريان، وقوة النفس عارمة؛ فكيف تكون حالي معها اليوم وقد بلغت المدى الذي بعده القصور، والأمل الذي بعده الذكرى، والساحل الذي بعده القفر؟
ولكنني استخرت الله وألقيت بجهدي الضعيف بين جهودكم القوية. والرماد يحمي إذا مسه من الجمر وهيج، والجبان يشجع إذا لم يكن من العراك بد.
أسأل الله أن يهدينا الطريق إلى خير العربية والعروبة، ويرزقنا التوفيق في خدمة الإسلام والشرق، في رعاية صاحب الجلالة الملك فاروق الأول أعز الله نصره، وجمل بالآداب والعلوم والفنون عصره.
أحمد حسن الزيات
صور من الحياة
زوج يضل!
للأستاذ كامل محمود حبيب
أتذكر - يا صاحبي - يوم أن نلت شهادة الدراسة الثانوية وأنت - إذ ذاك - فتى ريفي في العشرين من عمرك، سمهري القوام قوي التكوين صلب العود مشرق الوجه بهي الطلعة، تبسم للمستقبل في ثقة وتتنسم ريح الحياة في استبشار؛ يوم أن جئت تزف البشرى لأبيك الشيخ فتلقاك في سرور وربت على كتفك في فرحة، ثم رحت تدل على رفاقك بالفوز وهو عظيم وتزهو بالتفوق وهو مبين. وسألك أبوك عن هدفك الذي تصبو إليه فقلت له (أريد أن أدرس الطب) فأطرق في صمت وقد علت وجهه فترة، وإن الأفكار لتصطرع في ذهنه، وإن الخواطر لتضطرم في رأسه، فما له طاقة بما تتطلبه دراسة الطب من جهد ومال، وهو يحس لذع العوز والضيق، وأراد أن يصرفك عن بغيتك في لين فأصررت، وانطلق ينشر على عينيك بعض ما يعاني من فاقة ومتربة، فما وعى عقلك الغض مما قاله شيئا لأنك شاب لم تصقلك تجارب الحياة، ولا عركتك دوافع العيش، فأصررت. وراح هو يدير الرأي في رأسه عله يجد منفذا أو يهتدي إلى حيلة.
ومضت أيام والشيخ يضطرب في لجة من الهم، فهو لا يستطيع أن يلقي السلم إلى نزعاتك، فيدفع بنفسه إلى هوة من الدين والإملاق، وما هو بمستطيع أن يحول بينك وبين أمنيتك، فتستشعر الضعة والصغار بين أترابك.
وعلى حين فجأة انبسطت أسايره وانزاحت عنه غمه الأسى، فجلس يحدثك (أحقا يا بني أنك تطمع في أن تدرس الطب؟) قلت (نعم، يا أبي، ولا أبتغي به بديلا) قال (إذن تتزوج من ابنة خالك وهي فتاة يتيمة، تجمعكما وشائج القربى وصلات النسب وهي ذات مال يشد عضدك ويمهد لك السبيل إلى غايتك). وأزعجتك الفكرة، بادي الرأي. فما كان لك أن تفرغ للزوجة والولد وهما مشغلة، وأنت تهيئ نفسك لجهاد عنيف بعيد المدى مجهول العاقبة. ولكنك ما تلبثت أن أسلست لأنه ترءى لك أن الرفض حماقة تجذ حبل المستقبل، وهو طيش يطفئ شعلة الأمل الوضاء. أسلست أن تكون زوجا ورب أسرة وأنت ما تبرح طالبا في العشرين من عمرك.
وقال لك أبوك وقد تهيأتما معا - أنت وزوجك - للسفر (يا بني، هذه زوجتك تذر دارها لترعى شأنك وإن الدار لتشرق بالنعمة والخفض، وتنأى عن أهلها لتأنس إلى حماك وإن قلوب ذوي قرابتها لتفهق بالحنان والعطف، وتفزع إلى رجولتك وإن حواليها ألف رجل ورجل يفتدونها بالروح والمال، وتنزل لك عن عالها وهو غمر لتهدأ جائشتك وتسمو إلى طلبتك؛ فكن إلى جانبها رجلا. والرجل إن ضاق بالمرأة زوجة لم يضق بها رفيقة، وإن ضجر بها صاحبة لم يفزع عنها ربة دار وأما. وإن الشهامة في الرجل لتجعله - دائما - يحس في المرأة العجز والضعف، وتدفعه - أبدا - إلى أن يجد اللذة والسعادة في أن يحمي ضعفها ويناضل عن عجزها. وهذه الفتاة - زوجك - منك بالمكان الذي تعرف فكن لها عائلا وأخا وصاحبا؛ واستشعر - دائما - إلى جانبها الرجولة والشهامة والإنسانية)
ودوت كلمات أبيك الشيخ في مسمعيك فأنتفض لها قلبك لأنك لمحت فيها نور السماء يتألق على لسان ملك.
وجاءت الزوجة الريفية لتعيش هنا في - في القاهرة - سجينة في دارك لا تجد السبيل إلى متعة المدينة ولا إلى نور المدينة وأنت طالب لا تملك فراغا من الوقت ولا فضلة من المال. وراضت الزوجة نفسها على الصبر فهي تقضي صدر النهار في غمرة من حاجات الدار: تعد لك الطعام وتهيء اللباس وتوطئ الفراش، ثم هي تدعك - صدر الليل - تفرغ إلى درسك تنتظر أوبة قلبك وفراغ عقلك. وأني لها ما تريد وأنت تسعى إلى غاية وتهدف إلى غرض، والطريق وعر والمرتقى صعب.
وشملتها موجة عارمة من الفرح يوم أن تخرجت في كلية الطب فأقبلت إليك وإن إهابها ليكاد ينقد من شدة الطرب. . . أقبلت تهنئك بالفوز المبين. ودوت كلمات أبيك الشيخ في مسمعيك فانتفض قلبك وتيقظت مشاعرك فأقبلت أنت أيضاً تهنئها بنجاحك وبين يديك أولادك الصغار.
وانطوت السنون تدفعك إلى ذروة المجد وترفعك إلى قمة الثراء فما حدثتك نفسك مرة واحدة أن تطب لمرض زوجك، وهوعته ديني، وأنت من بذرت غراسه في نفسها حين أرهقتها الوحدة وأمضتها الخلوة؛ وأنت في شغل لا تعبأ بما يعتريها من ضيق وملل ولا تلقى بالا إلى ما يجتاحها من ثورات نفسية، فانطلقت - وأنت طبيب - تقضي سحابة
النهار في المستشفى، وتطوي هزيعا من الليل في العيادة يخلبك بهرج المال ويجذبك لألاء الغنى. والطبيب ساحر يعصر دماء المرضى فتتدفق في جيبه سيلا من الذهب.
ثم حالت حالك؛ فأنت لا تدخل الدار إلا ثائرا تضطرم، ولا تحدث أهلك إلا غاضبا تحتدم، تفزع عن زوجك في غير رحمة وتهر في أبنائك في غير شفقة. وتفتحت عيناك على أشياء كنت - من قبل - في عمى عنها؛ فأنت لا ترى في الدار إلا القاذورات تتناثر هنا وهنالك فتبعث فيك الاشمئزاز، وإلا رائحة النتن تفوح من نواحيها فتتقزز لها نفسك وإلا التشعث يملأ أرجاءها فينفذ فيك الثورة والاضطراب، ثم لا تسد أنت الثغرة في رفق ولا ترأب الصدع في دين.
ليت شعري، ماذا دهاك فطم على رجولتك فما عدت تسمع كلمات أبيك الشيخ تدوي في مسمعيك وإن فيها نور السماء يتألق على لسان ملك!
لقد عشت زمانا ترى في عيادتك القد الأهيف والكشح الهضيم والثوب الهفهاف، وتحس الابتسامة الرقراقة والخد الأسيل والشعر السبط، وتتنشق شذى العطر الجذاب؛ على حين لا ترى في دارك سوى زوجة بلهاء في ثوبها الأبيض الفضفاض تنتحي ناحية من حجرة وتنطوي على أورادها تتلوها في حركة رتيبة يملها القلب وتضيق بها النفس.
وراح عقلك الكبير يقارن بين الفتاة التي ترى في الشارع وفي العيادة وبين زوجك الريفية الجاهلة، فسيطر عليك الأسى واستولى النفور على قلبك، ونسيت يوم أن كنت فتى في العشرين من عمرك. . .، فما استطعت أن تكتم نوازع نفسك فجلست إلى صديق لك تبثه لواعج الفؤاد ولوعة النفس فقال لك (لا بأس عليك! إن في الأرض مراغما كثيرا وسعة) فقلت له (وماذا تعني؟) قال (أتزوج من ابنة فلان باشا، وهي فتاة في روعة الجمال وأبهة العظمة وسمو الجاه ومنتهى الثراء، تتوثب شبابا وظرفا وتتألق أناقة ورقة، فيها ثقافة الشرق وتربية الغرب، تتحدث في طلاقة وتأسر في لباقة) قلت في دهشة (وابنة خالي، ابنة خالي؟) قال الرجل (ابنة خالك؟ تذرها في بيتها بين بنيها وأورادها. . . إنها لم تجد فقدك فهي في شغل عنك وإن لك من ثرائك ما يكفل لها عيشة راضية وحياة طيبة) قلت (ولكنها هي. . . هي ربة نعمتي!) قال (هذا حديث لفته السنون في ملاءة النسيان!) قلت (وأنا؟. . . لقد قاربت الأربعين) قال (هذا وهم باطل فأنت ما تزال في ربيع العمر تفور نضارة
وشبابا).
لشد ما أفزعتك الخاطرة - بادئ ذي بدء - فقضيت ليلتك تتقلب في فراشك تدير الرأي علك تهتدي. والشيطان إلى جانبك يزين لك الأمر ويغترك عن زوجك وأولادك الأربعة. وقالت لك نفسك (هناك في كنف ابنة الباشا تجد السعادة والرفاهية والثراء والجاه جميعا).
وانطوت الأيام والشيطان يوسوس لك وصاحبك من وراءه يزخرف القول وينمق الحديث. وعلى حين غفلة ارتفعت صيحات الشيطان في قلبك فطمت على رجولتك فما عدت تسمع كلمات أبيك الشيخ تدوي في مسمعيك وإن فيها نور السماء يتألق على لسان الملك.
وفي ذات ليلة، انطلقت برفقة صاحبك إلى دار الباشا لتصبح زوج أثنتين، ولتطعن قلب المرأة التي ضحت في سبيلك بمالها وشبابها لتكون أنت طبيبا عظيما تستطيع أن تتزوج من ابنة الباشا، لتطعن قلبها طعنة قاسية تعصف بهدوئها وتهدم سعادتها.
آه يا صاحبي، لو رأيت عبرات بنيك وهي تنهمر مدرارا ليلة عرسك. لقد كانت تساقط على قلبي - قلبي أنا الإنسان - قطرات من نار تتلهب لظى وشواظا. أما أنت فقد فقدت - حينذاك - رجولتك وإنسانيتك في وقت معا
يا صاحبي، إن الزوجة تلقي بنفسها في رعاية الرجل لتتشبث منه بخيوط ثلاثة: الرجولة والشهامة والإنسانية.
كامل محمود حبيب
صحائف مطوية في السياسة العربية
هاشم الأتاسي
في سنة 1939 وفي عام 1943
للأستاذ أحمد رمزي بك
لقد رأيت في العدد الماضي وطنية هاشم الأتاسي تتجلى أمام الفرنسيين حينما أعتزل الحكم بإرادته، وقد أعجبت بهذا الموقف وقلت إنه يندر أن نجد الكثيرين من أمثاله في القرن العشرين وسط المشتغلين بالمسائل العامة في هذا الشرق، وسأقص عليك في هذه الكلمة شيئا من تردد السلطات الفرنسية، وماذا كان جزاء وطنيته وإخلاصه من بعض أولئك الذين فرض من المبدأ أن يكونوا من معاونيه وأنصاره، فإذا هم الذين عناهم أبو الطيب بقوله:
كدعواك كل يدعى صحة العقل
…
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل
ولقد أشرت في الكلمة السابقة إلى مذكرات رجال السياسة والحكم التي نشرت بمختلف اللغات، وكيف يحتاج إليها مثلي للوصول إلى ضبط الكثير من الحقائق، ومن قبيل هذه المذكرات أو أهمها مذكرات الجنرال كاترو، فقد أبلغني صديق كريم أن الجنرال بدأ ينشرها في جريدة الفيجارو الفرنسية، وكان بودي أن أطلع عليها قبل كتابة هذه الكلمة، فلم أستطع الحصول عليها كاملة بمصر، وعليه قدر على أن أنتظر حتى يتم طبعها كاملة كما قيل لي، فأبدي رأيي فيها كقارئ، أو كرجل لمس عن قرب شيئا من الحوادث التي تتناولها هذه المذكرات.
ولقد أشرت إلى تعدد مقابلاتي مع الجنرال طول شهر مارس 1943 وكان أغلبها في دمشق التي كان يفضل الإقامة فيها، بل وصرح مرارا أنه يعمل على نقل المفوضية العليا الفرنسية من بيروت إليها، واعتقد أنه لولا ما صادف كاترو من اعتراضات معينة من بعض الفرنسيين الذين يعملون معه، ولولا تأثير الوسط البيروتي لنجح في قصده هذا مدة وجوده بسوريا ولبنان على الأقل.
واذكر في إحدى هذه المرات التي قابلته فيها بمدينة دمشق وكان قد دعاني إلى قصر المفوضية بالمهاجرين، فتعمد أن يضع على المدخل مفرزة من حرس الفرقة الجركسية
لتحية ضيوفه، على مثل ما كان يعمل الجنرال فيجان، ولما قابلته أخذ يطوف بي في أنحاء الدار ويشرح لي محتوياتها ويشير بإعجاب إلى ما بذلته مدام كاترو في تهيئة حجراتها والحصول على الأثاث اللائق بها وكيف وفقت رغم ما يعترضها من صعاب في تنسيق الدار وجعلها صالحة لإقامة مندوب فرنسا الأعلى وقائد جيوشها.
والحقيقة أن الدار ظهر عليها في ردهاتها ومقاعدها وأركانها هذا الذوق الشامل الذي تفرغه يد السيدة إذا تولت بعنايتها تهيئة الدور الرسمية فتجعل منها بيوتا تصلح للاستقبال.
لقد كان الجنرال مرحا في كلامه مع المدعوين، ولما آن موعد انصرافهم أراد أن يتحدث حديثا خاصا معي فاستبقاني لديه على انفراد، والجنرال محدث لبق بدأ حديثه عن القاهرة وعن منزل في لبنان لشخص معين يسكن بيروت ويريد أن يؤجره للجنرال ومع ذلك يزج بأسماء معينة في مصر وضحك كثيرا من أساليب بعض الناس في حياتهم الخاصة والعامة، والحقيقة أن ابتداء الحديث السياسي عن صفقة فيها منزل للإيجار تحمل في ثناياها نكتة من إبداع النكت، وفي كلامه عن خلق هذا الوجيه الثري ما يجعل السامع يتجه اتجاها معينا نحو حكمه على كثير من الأمور، ولولا أن منافسة الجنرال من كبار القوم في بلادنا لما بدا أن لهذا الحديث موضعا، ولكن الجمع بين هذا ووضعه في الإطار الذي فتح الجنرال حديثه به يجعلني في حل أن أقول: أن الجنرال أعطى صورة واقعية لما كان يدور في تلك الأيام وأراد بظرف ولباقة أن يعرفني بالإشارة كما يقولون ما لم يرد أن يصرح به. ولكنه حينما تحدث عن هاشم بك الأتاسي: أشاد بوطنيته وإخلاصه لبلاده وقال: (أنه على رأيه دائما في أن قيام الدولة السورية وعلى رأسها هاشم بك أمر يرحب به ويكون من فخره إذا تم).
إننا معاشر الشرقيين تبدو لنا بعض الأمور وكأنها لا تستحق عنايتنا واهتمامنا: كما تبدو لنا أمور أخرى ذات أهمية خاصة مع أنها قد لا تترك أثرا لدى الغير، من قبيل هذا اعتزال هاشم بك للحكم فالأثر الذي يتركه في نفس الأوروبيين لا ينسى، وقد حدثني الجنرال فقال إنه دعي هاشم بك للغداء لديه وعلم إنه نزل في فندق أوريانت بالاس ولما انتشر خبر زيارته لدمشق تهافت الناس وذهبوا لرؤيته بالفندق وتحادثوا معه وأعربوا عن آمالهم في عودته. . . فهو رجل يتمتع بمنزلة خاصة لدى الشعب.
ذكر لي هذا عند كلامه عما يدور بخلده من ضرورة إبدال الوضع الذي قام مؤقتا في سوريا
عقب وفاة المغفور له الشيخ تاج الدين الحسني. ولكني لمست هذا الإنصاف لهاشم بك في صفوف الفرنسيين من أعداء الكتلة الوطنية نفسها. . .
وفي هذا الاجتماع الأخير لخص الجنرال ما قام به من جهود في الفترة الأولى لشهر مارس 1943 فقال إن دائرة أحاديثه اتسعت رويدا رويدا فشملت عددا من السياسيين الممثلين لمختلف الأحزاب والدوائر في سوريا وأبدى رأيه في كل شخص وفي اتجاهات الأحزاب وتعاونها وتنافسها، وقد أطلعت بعد أيام على ما نشرته المفوضية على الصحف وقد أشارت إلى أن الجنرال يوالي استشاراته ويستمع إلى رؤساء الوزارات ورؤساء المجالس النيابية في الأحداث والأوضاع والحلول المقبلة - وزادت على ما سمعنا رؤساء الهيئات الاقتصادية والمالية وهذا ما لم يرد له ذكر في أحاديثه.
ولم يقتصر اتصاله على دمشق بل سافر إلى حلب وحمص ودعا إليه رؤساء العشائر والمناطق البعيدة وكان طول مدة شهر مارس في عمل مستمر واتصال دائم وكلما تعجلت السياسة البريطانية أو الأمريكية الأمور كان الفرنسيين أننا ندرس ونبحث ونستشير ونحقق حتى يأتي عملنا مطابقا للمصلحة العامة ولكسب الحرب. كتبت في كتاب الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ص 17 (أن الجنرل كاترو يجمع في شخصه بين القائد والسياسي معا وقد برهن على أنه صاحب عزيمة ودهاء، وفكرة ومقدرة) ص77 وأزيد على هذا أنه محدث من الدرجة الأولى لا تغادر الابتسامة وجهه، وهو يشعرك من أول مقابلة أنك موضع ثقته وأنه يحدثك بصراحة تامة وهو لن يخفي عنك شيئا مما يجول بنفسه ولكنه في الحقيقة إذا تكلم لا يعطيك إلا ما يريد هو إعطاءه.
وإذا عرض لشخصيات معينة أعطاك عن كل واحدة منها صورة حية لا تكرهك في الشخص المعين، بل يرسم لك مزاياه فتخرج وتكاد تشعر بأن جميع الناس من أصدقائه وأنه معجب بالنواحي الطيبة التي لمسها في كل واحد منهم.
ولا أخفي على القارئ أن الجنرال كاترو ترك أثر عميقا في نفوس من اتصلوا به، فقد جاءني رجال لم يكونوا في يوم من الأيام من أصدقاء فرنسا، وأبدوا لي دهشتهم لهذا التطور الذي بدا من غير تهيئة في جانب الفرنسيين حتى صرح أحدهم يقول: أنه يكاد يصدق أن هذا الجنرال راغب كل الرغبة في أن يرى البلاد السورية متمتعة باستقلالها.
وقد ظهر لي جليا أن الجنرال كاترو كان من بين الفرنسيين القلائل الذين أدركوا قبل الأوان صعوبة مركز فرنسا في سوريا ولبنان مع وجود الجيوش البريطانية فيها، وكان هناك فريق منهم يعيش سنوات 1943 - 44 - 1945 على غرار18 - 20 - 1921 حينما وجدوا البريطانيين قبلهم في البلاد: وجاء كاترو فكان بين أمرين.
1 -
أما التظاهر بالتعاون مع الحليفة إلى نهاية الشوط.
2 -
وأما التصادم من المبدأ معها
وقد فضل أن يجاريها في سياستها وأساليبها مع احتفاظه بحقوق بلاده، ولكنه لم يجد إخلاصا ولا تعاونا ولا فهما من معاونيه، ولذلك لم يلازمه النجاح الذي كان من المرجح أن يلاقيه
كنا ننتظر الوصول إلى نتائج حاسمة في النصف الأول من نهر ما حينما جاء المولد النبوي الكريم فأضطر الجنرال الفرنسي إلى قطع استشاراته لحضور الاحتفال به في بيروت، حيث أقيمت احتفالات رأى فيها المسلمون فرصة للأعراب عن وجودهم، ورأت فيه فرنسا فرصة لإعلان احترامها للنبي العربي.
ثم حدث تصادم لطائرة فرنسية مات فيها الكولونيل باريل وجرح فيها الجنرال ماسيت، وقد أقيمت جنازة عسكرية شائقة للفقيد الفرنسي وسارت فيها وحدات الجيوش الفرنسية المختلفة وقد تسلمت الكثير من عتاد الحلفاء وملابسهم وأحذيتهم وألقى الجنرال كاترو قطعة رائعة في رثاء الكولونيل القتيل كانت خير ما يمكن أن يعبر عن حداد فرنسا المقاتلة. . . وآمالها.
لا أدري إذا كانت بعض المصادفات تؤثر في اتجاهات معينة وعلى كل فإنه بقدر تحمس الفرنسيين للوصول إلى هاشم بك في تلك الفترة بقدر ما قامت الصعاب أمامه من ناحيتين: الطريقة التي سيعود بها إلى الرياسة هل تكون بناء على دعوة الجنرال وكيف تصاغ ثم الناحية الثانية: وهي ازدياد شقة الخلاف بينه وبين أنصاره.
ومرت الأيام وكان الجنرال قد ترك دمشق وعاد إلى بيروت تاركا أمر المشاورات في سوريا لمعاونيه: ثم عاد في الفترة الأخيرة من مارس إليها.
وفي يوم 24 مارس سنة 1943 تلقيت منه كتابا مطولا يعرب فيه عن أسفه لأنه لم يوفق
إلى إقناع هاشم بك الأتاسي بالعودة إلى وزارة الجمهورية مرة أخرى ويبلغني فيه ما أستقر عليه الرأي في النظام الجديد الذي سيباشر التمهيد للانتخابات.
والحقيقة إننا جميعا دهشنا لهذا الموقف الأخير، وقد سافرت إلى دمشق أنصت إلى كل ما قيل في هذا الشأن وقيدت الكثير منه: ومع أن الكثيرين يلقون السبب على الفرنسيين فإن هؤلاء يشيرون إلى أعوان هاشم بك وأنصاره ورجال السياسة السوريين ويعدونهم المسئولين عن تردده أما أنا فاعتبرتها المفاجأة الثانية.
أحمد رمزي
الاتحاد الإسلامي
للدكتور سيد محمد يوسف الهندي
قد كنت ولا أزال من أشد المتحمسين لفكرة إنشاء اتحاد إسلامي عالمي يضم الشعوب المتجانسة والدول المتجاورة الممتدة من الباكستان شرقا إلى تركيا ومصر غربا، وربما يتسع نطاقه فيما بعد في الناحيتين الشرقية والغربية إلى إندونيسيا والمغرب الأقصى. وازهي بالقول بأن المسلم الهندي أفعم قلبه إيمانا وإخلاصا لهذه الفكرة التي ازداد طموحه إليها بعد أن نجح في خلق أداة قوية فعالة، ألا وهي دولة الباكستان للمساهمة في إبرازها إلى حيز الوجود.
ولكن نظرة المسلم الهندي إلى العالم الإسلامي إنما كانت إلى وقت غير بعيد نظرة عاطفية خيالية هي أبعد شيء عن الحقيقة والواقع فإنه كلما حول وجهه إلى تلك الرقعة الشاسعة التي يقطنها المسلمون من العرب والعجم والترك رأى دولا قيل إنها مستقلة، وتيجانا ربما ادعى أنها ترمز إلى مجد الإسلام الغابر، وشعوبا مسلمة تؤلف الأغلبية الساحقة في حدود بلادها - الصفة التي كانت تنقص المئة مليون من المسلمين في الهند الموحدة والتي كان انعدامها مصدر جميع آلامهم وإخطارهم في المستقبل. فلم يكن المسلم الهندي ليتصور أن يكون هناك أي مانع عند تلك الشعوب المتماسكة والدول المستقلة من الاتجاه إلى التضامن والاتحاد على أساس الدين الذي كان ولا يزال يعتقد - حسب فهمه هو - إنه ملك وسياسة قبل أن يكون صلاة ودعاء. ومما ساعده على هذا الظن - الخاطئ مع الأسف - تلك الألقاب الفخمة المشعرة بحماية الدين ونصرة الإسلام والمسلمين التي يتحلى بها بعض الأمراء والأعيان في الأقطار المختلفة (كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد) ومظاهر أخرى مثل صدور الفتاوى من مشيخة الأزهر (إلى العالم الإسلامي كله) تلك الفتاوى التي عرفت الآن أنها لا تصدر عن شعور داخلي حر بخير (العالم الإسلامي كله) ولا عن دراسة وافية للأحوال والظروف الخاصة بالمسلمين في الأقطار المختلفة. بل إنها ربما تستصدر لمصلحة عاجلة. ويا حبذا لو أن كبار العلماء تنازلوا عن سلطتهم المنتحلة هذه كما فعلت تركيا حينما ألغت الخلافة بعدما رأت عجزها عن إسداء أي عون مادي أو أدبي إلى ما يسمى بالعالم الإسلامي.
كان من الطبيعي أن تتغير نظرة المسلم الهندي هذه الأيام الأخيرة على أثر التقارب عن طريق التمثيل الدبلوماسي وتبادل الزيارات. ولعله قد عرف أن المانع الحقيقي من التقدم نحو الاتحاد ليس عاملا خارجيا أجنبيا بل هو داخل نفوس إخوانه المسلمين الذين أصبحوا غير مستعدين لقبول هذه الفكرة. وقد اقتنعت أنا شخصيا بصدق ما صرح به البانديت جواهر لال نهرو، رئيس وزراء الهند، عقب زيارته الأخيرة للقاهرة من أن أي اتجاه إلى التكتل على أساس الدين في الشرق الأوسط أمر مستحيل، فاستعنت باليأس على التغلب على ما غمرني من القلق وبدأت أغتبط بواقعية رجال الحكومة الباكستانية حينما لاحظت فتورا في تصريحاتهم إزاء أي حلف رسمي، وظننت أن الفكرة قد وضعت على الرف أو كما يقولون في المثلجة إلى أن تنبعث من داخل قلوب المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية على السواء حتى يجيء الاتحاد نتيجة لشعور عام صادق متدفق قوي.
ولكن ظهرت في الأسابيع الأخيرة بوادر تنذر بأن يتم على أيد أجنبية خفية ما لم يكن ليتحقق بالرغبة الذاتية فأثارت في نفسي خواطر رأيت أن أدمجها حتى يتبين كل منا حقيقة فكرة الاتحاد الإسلامي من أي صورة ممسوخة له ربما لتساور بعض الأذهان في الوقت الحاضر.
أن فكرة الاتحاد الإسلامي فكرة دينية بحت ترتكز من حيث المبدأ على الشعور بالأخوة وواجب المساهمة في الآلام نحو كل من يشارك الآمال وأهداف الحياة. ومن الواضح أن هذا الشعور داخلي شخصي اختياري محض ولا يحتاج وجوده إلى أية مبررات من المصالح السياسية أو الاقتصادية مع أن تلك الفوائد لابد وأن تنتج منه وترافقه إذا أحكم تدبير الوسائل الفنية الأزمة لها. فالاتحاد الإسلامي بطبيعته يأبى إلا أن يكون اتحادا بين الشعوب الإسلامية بعد أن تسترد هي الإيمان بالفكرة الدينية في تنظيم حياتها الداخلية وتدعيم علاقاتها الخارجية والدولية.
فما حال الشعوب الإسلامية في الآونة الحاضرة؟ ليس الكلام عن تركيا يصعب؛ فإنها جريئة صريحة تحدث ما تحدث عن علم. أما الممالك العربية فتكاد تجد لها ممثلين ومراقبين في جميع المؤتمرات مهما اختلفت أنواعها وتضاربت أهدافها، وقلما تلاقي خطة واضحة مرسومة بعيدة المدى في تصريحاتها أو تصرفاتها. وقد خيل ألي فيما يتعلق
بالموضوع الذي نحن فيه أنها حريصة على الاحتفاظ بالشرف الذي كان لها بحق من حمل لواء الإسلام في الماضي ولكنها في الوقت نفسه تتوق وتجتهد وتتكلف ما يسمونه (مسايرة الغرب) باحتضان كل ما جد من النظريات والاتجاهات السياسية كما أن النساء المتجملات يلهجن بكل ما تبتكره باريس من الأزياء - حتى الذيول الطويلة!! - كل صيف وشتاء؛ أو لا ترى أنها ثارت مطالبة بالاستقلال والوحدة فكان من حظها الاستعمار والفرقة. ولا ضير في ذلك فإن الأمم كالأفراد كثيرا ما تخطئ حسابها وتفشل في خطتها ولكنها سرعان ما رضيت بالفرقة وبدأت تعتز وتباهي بالفوارق الوطنية فيما بينها كالأصل الفينيقي والحضارة البابلية والمدنية الفرعونية وما إلى ذلك مما نبشه الباحثون المستشرقون لتلهيتها (عن كل مكرمة) واستمر الحال كذلك طيلة الفترة ما بين الحربين إلى أن تغيرت الأوضاع الدولية وتدهورت الأحوال رأسا على عقب، فهتف هاتف من الغرب بضرورة الاتحاد فارتجلوا اجتماعا بين الملوك وإجماعا بين الحكومات على ميثاق الجامعة العربية. ومنذ ذلك اليوم و (العروبة) يخفق لها قلب كل عربي. وكلمة العروبة أو القومية العربية لم تكن واضحة المعالم أبدا وهذه هي نقطة الضعف لا شك فيه، فإن زعماء الثورة الأولين لم يعنوا حينما نطقوا بها شيئا يعارض الوحدة الإسلامية. وليس أدل على ذلك من أن طوائف معينة معروفة باعتمادها الاستعمار الأجنبي اعترضت سبيلها ولم تزل تقاومها حتى أرغمت الأكثرية العظمى على تلطيف، بل تغيير مدلولها تغييرا جوهريا بحيث أصبحت تعبر عن أهواء الذين يعادون الفكرة الدينية الإسلامية لا لشيء إلا لولائهم لدينهم؛ كفى بذلك شاهدا ما جاء في كتاب نبيه أمين فارس المسمى ب (العرب الأحياء) والمنشورات الأخرى الحديثة عن مقومات العروبة التي لا بأس أن يدخل فيها كل شئ من عصور ما قبل التاريخ إلى العهد الحاضر ما عدا الدين الذي يراد إبعاده عن حياة الغالبية العظمى من العرب. وأخيرا تصادف أن فقدت هؤلاء الطوائف ربيبة الاستعمار عمادها أو القط الذي كانت هي بمثابة المخلب له وذلك في وقت نجحت فيه فكرة فصل الدين عن السياسة بين المسلمين نتيجة لضعفهم وخيبة آمالهم، فليس للحال الجديدة لباسها - لباس الوطنية الصادقة (ولكن مع ضمان وضع خاص فليتأمل!) - حتى جاء الاعتراف باستقلال لبنان الذي لم يرض به كثير من الوطنيين المخلصين إلى آخر لحظة، رمزا للتبرؤ من العون الأجنبي من جهة
والفكرة الدينية من جهة أخرى. وبعد بضع سنوات أصبح هذا الوضع، بفضل الجامعة العربية، من المبادئ الأزلية الذي ربما ينطوي الإسهاب في الكلام عنها على مجازفة خطرة.
قامت الجامعة العربية فابتهج بها المسلم الهندي كما أنه ابتهج بميثاق سعد آباد أو أي مظهر آخر للتقارب بين المسلمين حتى زواج الأميرة فوزية من جلالة شاه إيران، وربما عبر عن ابتهاجه بما ينبئ عن اعتقاده بأن الكتلة العربية أشد ارتباطا بالمسلمين في الأقطار الأخرى من شقيقتها و (بترونها) الكتلة اللاتينية فتحفزت الجامعة مرات عديدة لإنقاذ سمعتها كهيئة إقليمية محضة ونفت اهتمامها بالدين وأهل الدين حتى لا تفسد عليه صفقة الأصوات. وهكذا مضت الجامعة في تنسيق السياسة الخارجية للدول العربية تتوخى كسب الأصوات وتبادل (المواقف) - الذي يستلزم في بعض الأحيان التهاون في الحق - تحاول تهدئة فرنسا في دورة للأمم المتحدة ومساومة أسبانيا في دورة أخرى حتى أثبتت حوادث فلسطين أنها لم تكن خلقت لغير هذا العمل؛ وعلى كل حال فإن الجامعة العربية، مع أنها لم تكن تصلح من حيث تراكيبها لمقاومة الاستعمار إلا إذا كان من نوع معين، أيقظت شعورا قويا بين الشعوب العربية نحو التآلف والتآزر حتى أن هذا الشعور المتدفق ربما سبب متاعب للحكومات المصطنعة الغير الممثلة المتلكئة في الأمور، ولكن يجب التصريح بأن هذا الشعور إنما كان مبنيا على أساس العروبة وتناسي الدين أعني الإسلام.
(البقية في العدد القادم)
السيد محمد يوسف
ركن المعتزلة
علم الله في مذهب المعتزلة
للدكتور البير نصري نادر
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
إن الكلام في علم الله يختلف كل الاختلاف عن الكلام في المعرفة عند الإنسان؛ لأن علمنا يتكون تدريجيا ونحن نصل إلى المعرفة بفضل مجهود فكري مستمر نبذله في فهم الحقائق والوقائع؛ ونمر هكذا بمراحل أدناها مرحلة الجهل وأسماها مرحلة المعرفة؛ ولكن كم تصادفنا من مراحل نشك فيها ونتردد وننعم التفكير ونجلي الأمور ونتخذ القرارات ثم نغيرها أحيانا ونتمسك بها أحيانا. وهذا التدرج في تكوين المعرفة برهان قاطع على عجز العقل البشري وعدم كماله.
وإذا ما تكلمنا عن علم الله فلا يجوز أن نقارنه بعلمنا ولا أن نحاول فهمه بتشبيهه بعلمنا لأنه لا توجد أدنى مشابهة بين المتناهي واللامتناهي ولا بين الكامل والناقص.
لذلك كان الجبائي لا يسمي الله فهيما ولا فقيها ولا موقنا ولا مستبصرا ولا مستبينا لأن الفهم والفقه هو استدراك العلم بالشيء بعد أن لم يكن الإنسان به عالما واليقين هو العلم بالشيء بعد الشك، وكل هذا يدل على والتبدل والتغير في مراتب العلم ولكن لا يوجد أي تغير في الله وهو في حالة ثبات كامل لأن علم الله هو هو أعني هو ذاته وذاته أزلية كاملة لا تغير فيها ولا تبدل.
ولما كان الله لم يزل عالما بكل الأمور فعلمه منذ الأزل كامل شامل كل شئ حصل وسيحصل. ولكن هناك مسألة بحثها المعتزلة على النظر وجاء البحث مؤيدا لقولهم بثبات علم الله منذ الأزل، وهذه المسألة هي:
هل يجوز كون ما علم الله أن لا يكون؟
ترد المعتزلة على هذا السؤال بالنفي طبعا. ولكن ذلك لا يمنعهم من تحليل السؤال تحليلا دقيقا ليبينوا استحالته. فنجد مثلا علي الأسواري يشطر السؤال شطرين هما أولا: يجوز كون شئ أعني أن الله يقدر على الشيء أن يفعله، وثانيا: الله عالم أن هذا الشيء لا يكون
إنه أخبر أنه لا يكون. ويقول الأسواري إذا أفرد أحد القولين عن الآخر ما كان الكلام صحيحا؛ أما إذا افترق القولان كان ذلك مستحيلا. وذلك على عكس ما هو عند الإنسان؛ لأنه ليس من المستحيل أن نلاحظ عند الإنسان فرقا بين معرفته لعمل واجب أداؤه والامتناع عن أداء هذا العمل؛ لأن الإنسان قادر على الضدين في حين أن الله لا يوجد فيه تغير، وعلمه وإرادته وقدرته تعالى هي ذاته وذاته لا تتغير.
وهناك رد آخر على هذا السؤال. فتقول المعتزلة: إذا علم الله أن حدثا أو عملا أو شيئا لن يحدث لعجز أو استحالة في الحدث أو العمل أو الشيء نفسه (مثل تربيع الدائرة أو إرسال المؤمنين إلى النار) أو لعجز من قبل الله على حدوث هذا العمل أو الشيء إذ أن حدوثه ينافي النظام والقوانين المسنونة للعالم منه تعالى، فإن هذا الحدث أو العمل أو الشيء لم يحدث أبدا ما دام وجد العجز أو الاستحالة.
في هذا الرد نجد اعتقادين راسخين عند المعتزلة وهما أن العالم خاضع لنظام كامل تام مطابق لعلم الله؛ وبما أن علم الله لم يزل ثابتا فنظام العالم ثابت أيضاً لأنه لو تصادف وأصبح هذا النظام غير مطابق لعلمه تعالى فعلمه لم يعد كاملا. وبما أن علمه هو ذاته فتصبح الذات والحالة هذه هي غير كاملة أيضاً وهذا تناقض.
وتزيد أكثر المعتزلة على ذلك قائلين: ما علم الله أنه لا يكون لاستحالة أو لعجز عنه يجوز أن يكون على شرطين: أن يرتفع العجز عنه وإن تحدث القوة عليه. ولكن في هذه الحالة كان الله لم يزل يعلم برفع العجز عن هذا الشيء وبحدوث القوة عليه. وهذا لا يناقض كماله تعالى.
فنلاحظ أنه مهما اختلف وضع المسألة فالحل واحد وهو أن المعتزلة تردد دائما أن الله لم يزل عالما بالأشياء كلها ولا يجوز حدوث شئ إلا وهو لم يزل يعلمه.
لما كان الله لم يزل يعلم كل شئ فكيف يمكن أن نتكلم عن حرية الاختبار عند الإنسان لأعماله؟ أهو حر فعلا أم مجبر؟ إنها لمسألة في غاية الدقة والأهمية وهاك رأى المعتزلة فيها.
علم الله ومصير الإنسان في الآخرة:
يحدثنا ابن حزم عن رأي لهشام القوطي المعتزلي تشاركه فيه جميع المعتزلة لأنه يعبر عن
أصل من أصولها في علم الله. يقول هشام: إن من هو الآن مؤمن عابد ولكن في علم الله إنه يموت كافرا فإنه الآن عند الله كافر. وإن من كان الآن كافرا مجوسيا أو نصرانيا أو دهريا أو زنديقا ولكن في علم الله يموت مؤمنا فإنه الآن عند الله مؤمن. فلا غرابة في هذا القول إذ أن علم الله لا يتغير؛ فإذا علم الله منذ الأزل أن فلانا سيموت كافرا ولو آمن وقتا من الزمن فإنه عند الله كافر؛ لأنه تعالى لم يزل يعلم أن بعد إيمان هذا الشخص كفرا. ولا يجوز أن يزيد كفر المؤمن شيئا في علم الله - هل يعني ذلك أن لا قدرة للإنسان على أعماله لأن الله لم يزل يعلمها؟ نحن نعرف أن المعتزلة (أهل عدل) أيضاً أعني أنهم يقولون إن الإنسان قادر على أعماله محاسب عليها - فكيف يكون التوفيق بين القولين إن الله لم يزل يعلم كل شيء، وإن الإنسان قادر على أعماله؟
هناك حل دقيق أتى به الجبائي ليوفق بين هذين القولين. فيقول: لنفحص الحالات الثلاث الآتية:
أولا: يقول الجبائي إذا وصل مقدور بمقدور كانت النتيجة إيجابية صحيحة؛ مثلا لو قلنا إذا آمن الكافر (شرط أول) وكان الإيمان خيرا له (شرط ثان) لأدخله الله الجنة (النتيجة الصحيحة لهذين الشرطين) والمقدوران هما: العودة إلى الإيمان بعد الكفر - الإنسان في إمكانه أن يعود إلى الإيمان - وإذا لم نخير الله عما يناقض ذلك فتكون هذه الحالة الأولى صحيحة.
عند تحليل هذه الحالة نجد المعتزلة تعترف بمقدرة الإنسان على الكفر وعلى الإيمان وذلك بمجرد اختياره؛ ثم أن الله لم يزل يعلم هذا الاختيار. إننا هنا بدون شك بصدد نقطة صعبة وهي شعورنا بمقدورنا على اختيار شئ أو حال دون الآخر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى علم الله منذ الأزل بما نختاره.
وإذا تمسكت المعتزلة بالقول بقدرة الإنسان على أعماله كان تمسكها هذا صونا لعدالة الله وإلقاء المسئولية على الإنسان وحده عندما يعاقب أو يثاب. ففي هذه الحالة الأولى التي يعرضها الجبائي برهان كاف على حرية الاختيار عند الإنسان على شرط أن يأتي اختياره على شئ ممكن جائز مقدور.
الحالة الثانية: إذا كان هناك شيئان متناقضان فلا يمكن التكلم عن حرية الاختيار عند
الإنسان واستحالت النتيجة - مثل قولنا أن يكون المرء مؤمنا وكافرا أو متحركا وساكنا أو حيا أو ميتا في آن واحد. إن الإنسان لا يقدر على ذلك وحريته مقيدة أمام التناقض. فالحرية لا تعني إذن القدرة على عمل أي شئ أو ضده - وبما أن الله لم يزل يعلم مجرى الأمور حسب قوانينها فهو يعلم عجز الإنسان أمام التناقض كما أنه تعالى لم يزل يعلم قوانين العالم فكل ما يحدث فيه كان هو لم يزل عالما به.
وفي الحالة الثالثة: يقول الجبائي إذا وصل شيئان أحدهما جائز والآخر مستحيا فتكون النتيجة مستحيلة؛ مثلا إذا قلنا إن الكافر يؤمن في حين أن الله يعلم ويخبر أنه لن يؤمن فمن المستحيل أن يؤمن هذا الكافر فتكون إذن حرية المرء مقيدة بعلم الله وإخباره. ولكنها حالات شاذة تلك التي يخبرنا الله فيها عن علمه.
أثر منطق أريسطو:
إن تحليل الجبائي لمسألة علم الله ومصير الإنسان هو تحليل منطقي لا شك أن لمنطق أرسطو أثرا كبيرا فيه. فمقابلته القضايا الإيجابية أولا والقضايا السالية ثانيا واستنتاجه النتائج الإيجابية أو السالبة كل ذلك يدل على أن الجبائي كان ملما بهذا المنطق وحاول أن يستخدمه في مسألة من أدق المسائل وأعقدها. إنها لمحاولة جريئة وهي ليست الوحيدة من نوعها في فلسفة المعتزلة.
من هذا نستخلص أن جل هم المعتزلة هو رد الصفات ومن ضمنها صفة العلم إلى ذات الله تعالى. وبما أن هذه الذات قديمة لا متناهية ثابتة فيكون العلم أيضاً قديما لا متناهيا ثابتا. ثم أن الله لم يزل يعلم كل الأمور وإذا كان العالم قديما بالنسبة إلى علمه تعالى فإنه يتحقق في الزمان تبعا لهذا العلم - أما فيما يختص بمسألة قدرة الإنسان على أعماله فالمعتزلة تحلها بقولها إننا نشعر بحرية الاختيار وإننا نجهل علم الله وإن عدل الله يضطرنا إلى القول بهذه الحرية - وكل المسألة الأخلاقية متوقفة عليها.
ألبير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة
مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر
للأستاذ كمال السيد درويش
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
- 3 -
هل تقع مسئولية الاحتلال البريطاني على الإنجليز وجشعهم الاستعماري؟
ولم لا؟
ألم يتعللوا للبقاء في مصر بشتى المعاذير حتى وانتهم الظروف فكشفوا عن نيتهم الصريحة في الاحتلال بإعلان الحماية على مصر سنة 1914م
ألا يدل على ذلك قصة تلك الوعود الرسمية التي قطعها باسم إنجلترا ممثلوها الرسميون (إن رغبة حكومة جلالة الملكة هي أن تترك المصريين وشأنهم بعد أن تخلص مصر من الطغيان العسكري) قيل هذا سنة 1882م. وهذا تصريح آخر: (إن الشك الذي يخامر الرأي العام سببه رغبة بعضهم في احتلال مصر احتلالا مؤبدا وإدماجها في هذه الإمبراطورية. وتلك غاية نحن مصممون على مدافعتها وعلى ألا نسعى إليها بحال من الأحوال) بل لقد ذهبت إنجلترا إلى أبعد من ذلك فحددت تاريخا معينا للجلاء. وأي والله حدث هذا (إن حكومة جلالة الملكة تريد أن يكون سحب الجنود في أول عام 1888م)
لقد أورد المستر بلنت في مقدمة كتاب (تاريخ المسألة المصرية) قصة هذه الوعود الرسمية ثم علق عليها بقوله (حقا إنه ليس في تاريخ جميع إجراءات إنجلترا الاستعمارية عهود كهذه بذلت ثم نقضت).
إن قصة ضرب الإسكندرية لا تحمل في طواياها إلا حجة الذئب حين أراد التهام الحمل. لقد كانت نية الاعتداء المتعمد واضحة منذ البداية. وإلا فلماذا أتى الأسطول إلى ميناء الإسكندرية وبأي حق يقف في المياه المصرية؟ وكيف يجرؤ فيتدخل فيما ليس من حقه التدخل فيه حين يطالب بوقف أعمال الترميمات في الحصون والطوابي ويتخذ بذلك تلك الحجة الواهية لتبرير ذلك الاعتداء الوحشي.
لقد أجمع من كتب في حوادث ذلك الاحتلال من المعاصرين أو ممن جاءوا في أعقابه على
أن نية الاحتلال كانت مبيتة لدى إنجلترا قبل ضرب الإسكندرية بكثير. وقد شاهد المستر بلنت بنفسه الاستعدادات الحربية تجري في إنجلترا منذ شهر يونية سنة 1882م.
إن إلقاء التبعة على إنجلترا مما لا يختلف فيه اثنان وهو ما حققته الحوادث فيما بعد.
ولكن مهلا أيها القارئ العزيز فإن احتلال مصر جريمة أكبر من أن تقترفها يد واحدة كيد عرابي أو كيد الدولة العثمانية أو الخديوي أو حتى يد إنجلترا نفسها.
حقا لقد أخطأ عرابي؛ ولكن، من ذا الذي لا يخطئ؟ وهل يكون خطأ عرابي سببا في إلقاء تبعة الاحتلال بأسره عليه وفي تصويره بتلك الصورة التي لا تليق بهذا الزعيم الوطني المصري الصميم؟ لقد أحس الأستاذ محمود الخفيف أن عرابي مظلوم وأن أعداءه بالغوا في الكيد له والزراية عليه حتى قال:(والحق أنه قل أن نجد في رجالنا رجلا ضاعت حسناته في سيئاته كما ضاعت حسنات عرابي فيما افترى عليه من سيئات. كذلك قل أن نجد في رجالنا رجلا كرهه أكثر بني قومه مضللين، واستنكروا أعماله جاهلين بقدر ما كره هؤلاء عرابيا).
ونحن نميل إلى هذا الرأي الأخير لا بدافع التعصب أو الرغبة في إنصاف عرابي ولكن بدافع الرغبة في إنصاف الحقيقة والتاريخ وكلاهما كما تبين لي ينصفان عرابي. وسأسوق من الأدلة التاريخية ما يقف إلى جانب ما كتبه صاحب كتاب (أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه) عسى أن تتغير نظرة المصريين إلى زعيم المصريين.
ولكن، ما هي تلك الحقائق التاريخية؟
الواقع الذي كشف عنه البحث العلمي الحديث أن احتلال مصر كان شيئا مقررا ومرسوما قد اتفقت عليه الدول الأوربية من قبل. لقد تمت حوادث الاحتلال خلال صيف سنة 1882م ولكن. . ولكن الاتفاق على فكرة الاحتلال نفسها كان قد سبق ذلك بكثير.
لقد كانت الوحدة الألمانية وكان ظهور بسمرك عاهل ألمانيا العظيم وأكبر سياسي سيطرت شخصيته على مجرى الحوادث الأوربية في ذلك الحين. وكانت الحرب السبعينية (1870) م فانتصر فون ملكته ودخل الألمان باريس وخرت فرنسا جاثية على ركبتيها أمام جبروت بسمرك والألمان. ولكن بسمرك كان يجمع إلى القوة الحربية دهاء الساسة وحذقهم. فرأى بثاقب نظره أن حزب الانتقام يتكون في فرنسا وينادي بأخذ الثأر من ألمانيا فلم يكن منه إلا
أن فكر في شغل أذهان الفرنسيين عن المناداة بالانتقام فوجه أطماعهم خارج القارة الأوربية وأوحى إليهم بتوسيع إمبراطوريتهم الإفريقية. وهكذا أخذ بسمرك يلوح للفرنسيين بضرورة احتلالهم لتونس، ولكن احتلال فرنسا لتونس سيترتب عليه اختلال توازن القوى بينها وبين إنجلترا في البحر الأبيض. وأنتهز ساسة إنجلترا فرصة تساهل بسمرك فرحبوا بفكرة احتلالهم لمصر مقابل السماح لفرنسا باحتلال تونس.
(والواقع أن فكرة احتلال إنجلترا لمصر مقابل احتلال فرنسا لتونس إنما ترجع إلى أوائل عام 1876 حين رأى بعض الساسة الإنجليز أن على إنجلترا انتهاز الفرصة واستغلال الفرص الذي قدمه بسمرك باستيلاء إنجلترا إلى مصر في مقابل تمكين فرنسا من احتلال تونس)
وبدأت الفكرة؛ فكرة احتلال إنجلترا لمصر تتقدم منذ ذلك الحين على يد بسمرك لا لشيء إلا لأنه يريد أن يسكت إنجلترا حين تقوم فرنسا باحتلال تونس.
وفي إبريل سنة 1878 نجد (مونستر) السفير الألماني في لندن يؤيد فكرة احتلال إنجلترا لمصر ويدعو لها كما يتحمس لها في ذلك الحين أيضاً (سولسبري) من الجانب الإنجليزي.
وهكذا تنمو فكرة احتلال إنجلترا لمصر مع فكرة احتلال فرنسا لتونس وتسيران جنبا إلى جنب يؤيدهما ويباركهما بزمارك علل ألمانيا برضائه وبتأييده ونفوذه.
لقد كتب مراسل التيمس إلى جريدته في 20 أبريل سنة 1878م يقول: (لقد روى لي بسمرك بنفسه أنه قال لللورد بيكو نسفيلد حين شاهده لأول مرة أن من صالح إنجلترا أن تتفاهم مع روسيا على أن تدعها حرة في القسطنطينية مقابل إطلاق يد إنجلترا في مصر).
وهكذا أصبح مفهوما من ضمن أحاديث الساسة أن الاتفاق قد تم على هذا التقسيم. وحين أراد ساسة فرنسا السير جديا في مشروع احتلال تونس سعوا إلى الحصول على تأكيد كتابي من إنجلترا حتى لا تعود فتتنكر لما قطعه ساستها من عهود. وقد حصل الفرنسيون على هذا التأكيد الكتابي في 7 أغسطس سنة 1878م. ثم يسعى الإنجليز بعد ذلك بدورهم للحصول على تأكيد رسمي من فرنسا بموافقتها على احتلالهم لمصر فيثيرون المشاكل أمامها في تونس ويقفون عقبة دون القيام باحتلالها. ويتساءل الفرنسيون: (لماذا تلجأ إنجلترا إلى إقامة العقبات أمامنا في تونس؟ إن لها في البحر الأبيض وسوف يكون لها
مصالح كثيرة. وسوف نمد إليها يد المساعدة. ولكن هذا التلميح لا يكفي؛ فيضطر وزير الخارجية الفرنسي (سنت هيلير) إلى التصريح (بتفوق المصالح الإنجليزية في نهر النيل وقناة السويس على المصالح الفرنسية) ثم يؤكد في ديسمبر سنة 1880 (أنه على استعداد دائم للتصريح بأن المصالح البريطانية في مصر تفوق غيرها من مصالح أي دولة أوربية أخرى).
وهكذا تقاسمت الدول الأوربية الإمبراطورية العثمانية وهي لا تدري. وبدأ التضامن في التقسيم ينمو منذ عام 1876 م وقام بسمرك بدور القاضي يوزع بالعدل والقسطاس المستقيم؛ يرضى فرنسا حينا ويرضي إنجلترا حينا آخر، ولكن على حساب تلك الإمبراطورية التي كانت تسير بخطى سريعة إلى نهايتها المحتومة. ولقد لاحظنا كيف تبادل المندوبون التصريحات والتأكيدات حتى لا ينتطح فيها عنزان. بل كانت الملكة فيكتوريا نفسها - كما يتبين من خطاباتها - من أكبر مؤيدي مشروع احتلال إنجلترا لمصر وتثبيت أقدامها في وادي النيل.
وبينما كانت الصحافة الإنجليزية تمهد الرأي العام في الداخل لتقبل ذلك الجديد؛ كانت السياسة الإنجليزية - وقد نالت تأييد بسمرك وفرنسا - قد انفردت بالتدخل في شئون مصر لاسيما بعد أن تلقى ممثلو فرنسا في مصر من وزير خارجيتها تعليمات سرية تدعوهم إلى الموافقة على ذلك الوضع الجديد.
وهكذا نجد أن وثائق التاريخ الحديثة قد أثبتت أن فكرة احتلال إنجلترا وجدت منذ أواخر عهد إسماعيل. وأن إنجلترا بدأت تعمل جديا لتحقيقها منذ سنة 1876، وأن ما حدث من حوادث قبل الاحتلال لم يكن إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، فاشتراك الدول في مؤتمر الآستانة لا سيما فرنسا كان تمثيلية رائعة أريد بها التمويه على الدولة العثمانية؛ وقد نجحت تلك التمثيلية نجاحا باهرا، وقل مثل ذك في انسحاب الأسطول الفرنسي من ميناء الإسكندرية قبل ضربها وترك الأسطول الإنجليزي يصول ويجول وحده في الميدان. ولماذا؟ ألم يدع الإنجليز فرنسا قبل ذلك بعام واحد تصول وتجول هي الأخرى بمفردها في ميدان تونس؟!
لذلك لا نذهب بعيدا إذا قلنا أن الاحتلال الإنجليزي لمصر كان سيتم سواء وجد عرابي أم
لم يوجد، وسواء قام بحركته أم لم يقم؛ فما كان من الصعب على إنجلترا أن تخلق سببا مباشرا لتلك الجريمة التي اشترك في أعدادها ساسة ألمانيا وفرنسا وأخيرا ساسة إنجلترا.
لقد كان الاحتلال الإنجليزي لمصر وليد السياسة الأوربية ولم يكن نتيجة للحركة العرابية.
فكيف يكون عرابي مسئولا؟ وكيف نتحامل عليه؟ لقد بذل عرابي أقصى ما في طاقته؛ ولو لم يظهر عرابي لظهر مكانه عرابي آخر، ذلك أن عرابي كان يمثل الشعب المصري وما كانت الحركة التي قام بها حركته هو بل حركة الشعب المصري بحسناته ومساوئه في ذلك الحين.
حقا، لقد آن لنا أن ننصف تاريخ عرابي - الزعيم المفترى عليه بحق - وأن ننصف تاريخ الثورة العرابية لا بدافع التعصب لقوميتنا ولكن لوجه الحقيقة والحقيقة وحدها.
أن مسئولية الاحتلال البريطاني لمصر لا تقع إلا على عاتق الدول الأوربية وعلى رأسهم بسمرك.
لقد كانت الدولة العثمانية أشبه بالرجل المريض أو الكهل الهرم. كان الداء قد سرى في جميع أنحائها؛ وكان الضعف قد دب في جميع أوصالها. واتسع الخرق على الراقع فوقفت مكتوفة اليدين لا تنشد النجاة والخلاص إلا في بقاء النزاع والاختلاف بين أعدائها.
فعلى من تقع مسئولية الاحتلال؟!
ألست معي أيها القارئ العزيز في أنها تقع على عاتق بسمرك ذلك الرجل الذي وفق بين المتنازعين فقاموا يتقاسمون ببركة نفوذه وسيطرته تركة الرجل المريض ومكن إنجلترا من احتلال مصر فخرجت من عملية البر بأحسن نصيب؟!
(الإسكندرية)
كمال السيد درويش
ليسانسيه الآداب بامتياز ودبلوم معهد التربية العالي ومدرس
بالرمل الثانوية
وعضو الجمعية التاريخية لخريجي جامعة فاروق
اقهر الحياة.
. .
للشاعر الفرنسي أندريه ريفوار
ترجمة الأستاذ علي محمد سرطاوي
انطلق في الحياة امش على الشو
…
ك قويا كالمارد الجبار
شامخ الرأس والعزيمة تمضى
…
فوق نار الإخفاق كالإعصار
في رحاب الحياة عش شامخ الرو
…
ح أبياً يدوس وجهه النضار
احترق في الطموح والمثل الأعلى
…
وما في العذاب من إسعار
احترق في الكفاح وافن نضالا
…
في صميم الأهوال والأخطار
هكذا بغلب الحياة ويحيا
…
ذو جنان في العز والإكبار
يثبت الباسل المظفر فيها
…
وعلى ثغره ابتسام احتقار
إن تلاشت أحلام قلبك في يأ
…
س فعاود إرجاعها من جديد
أو إذا أوهنت عزيمتك الدنيا
…
فجدد عزيمة كالحديد
أو إذا ما طوى أمانيك إخفا
…
ق فلا تأس وابتهج في الوجود
خذ جناحاً وطر بما فيك من
…
خيبة سعى إلى طموح بعيد
احترق قوة وضعفاً وعزما
…
وعذاباً في النار ذات الوقود
احترق صحة وسقما وبؤسا
…
وتغلب على جميع القيود
احترق في العذاب فوق أمانيك
…
وعش في الحياة عيش الأسود
كن صبوراً على المصائب والهو
…
ل ولا تشك من قراع الخطوب
كن شجاعاً وحازماً وأحذر البغي
…
وفرج ظلامة المكروب
كن إلاهاً واذكر بأنك إنسا
…
ن وإن عشت في ضمير الغيوب
احترق في تجارب الدهر واصبح
…
فيلسوف الأوجاع والتعذيب
احترق في لظى الإرادة واحمل
…
ضربات الأسى بقلب طروب
ربما دودة وجدت على اللقمة
…
قد أفسدت مذاق الرغيف
وسموم في شربة الماء تبدو
…
في ثرى كاسها معاني الحتوف
وفتاة في قلبها يذبل الحب
…
ويذوى الوفاء في التزييف
انبذ الخبز واسكب الماء واهجر
…
كل قلب في الحب غير عفيف
احترق صامتاً إباء وصبراً
…
واحتمالاً على اللهيب المخيف
احترق عزة ولا تشك خطاً
…
وأغلب الدهر في الصراع العنيف
احترق ظامئا وعش تتلظى
…
جائعاً في الحياة غير ضعيف
لن تلافى الهوانإلا إذا عشت
…
بغير الأناة في الكائنات
واحتقار الحياة لن يتراءى
…
لأبى يعرف ما في الحياة
سترى الموت إن زحفت على الأرض
…
تُلاقى الحياةَ كالحشراتِ
فأدر وجهك الأبى ولا تنظر
…
لغير الخلاّق في الصلوات
وحبيب الفؤاد يصمت أحياناً
…
ولو سرت في طريق الممات
احترق وحدة على لهب الآمال
…
واصبر على عذاب الثبات
احترق في الصعاب صلباً وحلق
…
بجناح الآلام في النائبات
وإذا ما حنت إليك تناديك
…
حظوظ من الزمان السعيد
ملؤها العطف والمحبة والإكبار
…
للباسل الأبي الودود
ومشى في ركابك المجد والدنيا
…
تحييك في خشوع السجود
امش قُدْماً وافتح مغاليق أسرارك
…
واحرق ما نلت من تمجيد
احترق ناظراً إلى الهدف الأسمى
…
صبوراً على عذاب القيود
احترق ناظراً إلى مطلع الشمس
…
صلاة على لسان الوجود
احترق ساعياً لتبلغ في الدنيا
…
كمالا يقول: هل من مزيد
(المسيب - العراق)
علي محمد سرطاوي
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي:
ما كدت أنتهي من قراءة مقالك الرائع عن الأداء النفسي في الشعر العربي حتى وجدتني مدفوعا إلى الكتابة إليك، معبرا لك في حرارة وإخلاص عن إعجابي الشديد بهذا المقال الفريد الذي بلغت فيه الذروة من حيث عمق الفكرة، ورهافة الإحساس، ودقة الشعور، وبراعة الأداء. لقد أديت بمقالك هذا الرائع خدمة عظيمة لمن يريدون أن ينقدوا الشعر والأدب، فدللتهم على الوجهة المثلى التي يجب أيتجه إليها كل من شاء أن يتصدى للنقد الفني المفيد، وأديت به كذلك خدمة عظيمة لقراء الشعر والأدب، فعرفتهم كيف يقرئون الشعر قراءة تأمل واستيعاب وتجاوب، وأديت به فاق ذلك خدمة للشعراء المحدثين حين جعلتهم يدركون أن هناك ناقدا ممتازا يرصد الطريق، ليقيم العاثر، ويوجه المنحرف، وينبذ المعوق، ويشجع المستقيم. وإني لأحمد الله على أن ميدان النقد الأدبي - وهو ميدان خطير الشأن - لم يخل بعد أن أنصرف عنه أمثال طه والعقاد والمازني وهيكل، من أمثال المعداوي وقطب ومندور، مع ما امتاز به الأخيرون من التجاوب مع شعراء الشباب في التفكير والشعور والإحساس.
وقد كنت أحب ألا تجعل كلامك مقصورا على نموذج واحد لشاعر واحد، فذلك من شأنه أن يغمط حقوق الآخرين. وكنت أحب كذلك أن تلتفت في ذلك المجال إلى الشعراء الشبان ممن تجد لديهم النماذج المنشودة للأداء النفسي. . كنت أحب أن تلتفت إلى هؤلاء الشعراء، ليكون هذا الالتفات تحية وتشجيعا لهم من جهة، وتوجيها وإرشاد من جهة أخرى، ولأنهم عدة المستقبل ومعقد الرجاء. أما بعد فقد كنت مشغولا عن القراءة والكتابة بظروف خاصة تتصل بكائنين عزيزين كل منهما أحب إلى من نفسي، ولكن مقالك هذا قد استطاع أن يستأثر بي بعض الوقت فقرأته، ثم استطاع أن يؤثر في نفسي تأثيرا عميقا فكتبت إليك أعذرني إذا لم أستطع أن أحدثك بكل ما لدي بسبب هذه الظروف الخاصة، وتقبل أخلص آيات المودة وأعظم دلائل التقدير من المخلص:
إبراهيم محمد النجا
هذه رسالة شاعر يشهد الله أنني أقدره قبل أن ألقاه هذا اللقاء الفكري الأول، ويشهد الله أن تقديري له قبل لقائه كان وليد تلك الومضات النفسية التي طالعتني من شعره فيما قرأت له على صفحات (الرسالة) و (الكاتب المصري). . واليوم يزداد تقديري له وإعجابي به لأن الشاعر الذي يجيد التعبير عن عالم النفس والحياة، ثم يجمع عن هذه الموهبة سلامة النظرة إلى عالم الأدب والنقد، هذا الشاعر جدير بالتقدير والإعجاب!
هذه كلمات لا أريد بها أن تقوم مقام الشعر على كريم تقديره، وإنما أريد بها تقرير واقع تمثل بالأمس تحية من القلب، حتى إذا دعت إليه المناسبة تمثل اليوم في تحية من القلم. . . لقد جاء ذكره مرة على لسان الدكتور طه حسين فأثنى عليه أمامي وأثنيت، وجاء ذكره مرة أخرى على لسان الأستاذ الزيات فأثنى عليه أمامي وأثنيت، وحسب الشاعر الفاضل مثل هذا الذكر الجميل!
بعد هذا أقول للأستاذ نجا إن مقالي عن مشكلة الأداء النفسي في الشعر قد قصدت به إلى غاية ورميت به إلى هدف، أما الغاية فهي عرض المشكلة من شتى نواحيها ومختلف زواياها مع الاستشهاد الذي يقرن بين النقد والمثال، وأما الهدف فهو رسم الطريق لقارئ الشعر وناظمه وناقده على هدى ميزان أقمته وأومن به، فمن شاء أن يأخذ به من هؤلاء جميعا فليأخذ، ومن شاء أن ينصرف عنه فلينصرف. . ولكنني أحمد الله مع الأستاذ الشاعر على أن ميدان الذوق الأدبي - وهو ميدان خطير الشأن - لم يخل من أمثال هؤلاء الذين يبعثون إلي برسائلهم الممتازة تعقيبا على ما أكتب، وحسبي أن يكون من بينهم صاحب هذا الذوق اللماح!.
هذا هو المجال الذي أردت أن أكتب فيه، وهو مجال يحدد جوانب المشكلة وما فيها من قيم، على أن يكون ذلك عن طريق العرض الفني لتلك الجوانب، لا عن طريق الاستعراض النقدي للشعراء ممن يمثلون هذه القيم. . . وإذا كنت قد استشهدت بأبيات لإيليا أبي ماضي فليس معنى ذلك أن إيليا يقف وحده في ميدان الأداء النفسي الذي أدعو إليه، وإنما جاءت أبياته كنموذج كامل لهذا الأداء حتى يستطيع القراء والنقاد أن ينظروا إلى كل إنتاج شعري على ضوء هذا النموذج بالنسبة إلى الشعر العربي قديمه وحديثه. ولعل الأستاذ نجا لاحظ أنني أشرت إلى مدرستين تمثلان هذا الاتجاه في الشعر المعاصر،
وذلك عندما قلت إن المدرسة الأولى قد نهض بها بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم شوقي، وإن المدرسة الأخرى قد نهض بها بعض شعراء الشباب وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي. . . ومعنى ذلك أن هناك شعراء يقفون إلى جانب الشاعر الأول، وأن هناك آخرين يقفون إلى جانب الشاعر الثاني، سواء في مصر أو في المهجر أو في غيرهما من الأقطار العربية.
أما قول الأستاذ نجا بأن الاكتفاء بنموذج واحد لشاعر واحد من شأنه أن يغمط حقوق الآخرين فلا أوافقه عليه. . . يأخي ثق أن الرأي العام الفني بخير، وأن أصحاب المواهب لا بد أن يشقوا طريقهم إلى النفوس والعقول والأذواق، ولا بد أن يصلوا إلى نهاية الطريق وتحت أقدامهم أشلاء الفارغين والمطموسين وكل من تحدثه نفسه باعتراض القافلة! ومع ذلك فقد كنت أود أن أحقق هذه الرغبة الكريمة التي عرض لها الشاعر الفاضل في رسالته، ولكن ضيق المجال قد حال بيني وبين هذه الأمنية من جهة، ولأني أشعر شعورا عميقا من جهة أخرى بأن مشكلة الأداء النفسي في الشعر أجدر بأن يفرد لها كتاب من أن تفرد لها كلمات في مقال، وهذه هي الومضة التي تشع في خاطري منذ أمد بعيد، وتدفعني إلى التفكير في إخراج هذا الكتاب الذي أرجو أن أتناول فيه بالبحث والتفكير مشكلة الأداء في الشعر العربي كله، منذ أقدم عصوره حتى هذا العصر الذي نعيش فيه. . . وعندئذ يمكن أن نتحدث عن الأستاذ نجا وأمثاله من الشعراء المطبوعين.
مجلة (الصياد) اللبنانية تعقب على موضوع السرقة الأدبية:
في العدد (844) من الرسالة كنت قد كتبت كلمة عن السرقة الأدبية التي وقعت بين جدران كلية المقاصد الإسلامية ببيروت، وموضوع السرقة أن هناك طالبا من طلاب تلك الكلية قد سطا على مقال للأستاذ الزيات، فتقدم به لنيل جائزة مالية في مسابقة سنوية تقام بين الطلاب في ميدان الكتابة والخطابة. أما الجائزة فيهبها للفائزين أحد رجال الصحافة المعروفين في لبنان، وهو الأستاذ محي الدين النصولي. . . ولقد حدث أن جازت السرقة على لجنة من المحكمين وظفر الطالب بجائزة، وخرج من المسابقة وهو يحمل وصمتين وينوء بوزرين، هما السطو على أدب الزيات ثم السطو على مال النصولي!
هذا هو موضوع السرقة الذي عقبت عليه من قبل جريدة (صدى الأحوال) اللبنانية، معربة
عن بالغ دهشتها من ألا يقطن المحكومون (الجهابذة) إلى أن المقال مكتوب بأسلوب الزيات ويحمل طابعه في التفكير وطريقته في التعبير، ناعتة هؤلاء المحكمين بالقصور وقلة الاطلاع!. . . هذه هي الزاوية التي نظرت منها (صدى الأحوال) إلى لجنة المحكمين، ولكن مجلة (الصياد) قد نظرت إلى اللجنة من زاوية أخرى أكثر عمقا وأوفر طرافة، حين عقبت على الموضوع مستجيبة في هذا التعقيب لما كتب في (الرسالة)، وإليك هذا التعقيب الرائع الذي جاء بالعدد الصادر في 22 سبتمبر الماضي تحت عنوان (محمد العبود أبلغ من الزيات!!):
(في منتهى العام الدراسي الماضي، أقامت كلية المقاصد الإسلامية في بيروت مباراة إنشائية خطابية بين طلاب قسم البكالوريا لنيل جائزة الأستاذ محي الدين النصولي السنوية. وقد جرت المباراة بسلام، ووزعت الجوائز على مستحقيها الثلاثة. وكان الأول السيد محمد العبود والثاني السيد ظافر تميم. ونذكر أن أحد أفراد أسرة (الصياد) كان بين الحضور فكاشف اللجنة التحكيمية بعدم توفيقها في إصدار الأحكام ولا سيما فيما يختص بتفضيل السيد العبود على السيد تميم! وكان الجواب أننا لم نشهد إلا شطرا من المباراة، وهو الشطر الخطابي وقد وضعت العلامات على المقدرة الخطابية وأضيفت إلى العلامات الموضوعة على القدرة على الإنشاء فكانت النتيجة التي رأينا. ولما سألنا أكانت الموضوعات الإنشائية غير تلك التي ألقاها الطلبة في الحفلة الخطابية، كان الجواب لا. وعندئذ أصررنا على استغرابنا واستنكارنا. . . وراحت الأيام تطوي الأيام، إلى أن قرأنا حديثا صباحيا للزميل (شيخ بيروت) يميط فيه اللثام عن جريمة أدبية. . . فقد ثبت أن السيد ظافر تميم زور في المباراة الإنشائية، وبدلا من أن يكلف نفسه عناء عصر الدماغ وتنميق العبارات والتعرض لأخطار النحو والإملاء، أغار على المنشئ المصري المعروف الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة فأختلس منه قطعة عنوانها (وإنما الأمم الأخلاق. . .)، طرز بها ورقة المسابقة وذيلها بإمضائه الكريم. وبوسعنا القول إن صاحبنا الفتى يحسن الاختيار حقا في مادة الأخلاق!!
وبعد أن أماط (شيخ بيروت) اللثام عن هذه السرقة الأدبية - غير المؤدبة طبعا - نصح للفائز الثاني بإعادة الجائزة المالية التي قبضها لتضاف إلى مبلغ الجائزة النصولية في العام
المقبل. ولئن انتهت المسألة عند هذا الحد في نظر (شيخ بيروت) فهي لم تنته عند أحد محرري الصياد؛ ذلك أن الفضيحة تتناول لجنة التحكيم أيضا، وكانت تتألف من الأساتذة حسن فروخ وموسى سليمان والدكتور جميل عانوتي. فإذا غفرنا للجنة تقصيرها في كشف السرقات حين كانت تحقق وتدقق في أوراق المسابقة الإنشائية، فكيف نغفر لها تفضيل إنشاء الطالب محمد العبود على إنشاء الأستاذ الزيات، وهو علم من أعلام البلاغة والبيان في العالم العربي)؟!
هذه (قفشة) بلغت الغاية في الطرافة ودقة الملاحظة، وإن كاتبها المحرر الفاضل ليستحق عليها كل تهنئة، ومهما يكن من شئ فلا عجب أن يكون محررو (الصياد) من هذا الطراز وأستاذهم صديقنا الصحفي النابغ سعيد فريحة!
دراسة الأديب علي ضوء حياته الخاصة:
هذه رسالة من (دمشق) يطلب إلي فيها مرسلها الأديب الفاضل عدنان المطيعي أن أكتب بضعة فصول نقدية عن بعض الشخصيات الأدبية في مصر، من أمثال الأساتذة العقاد والزيات وطه حسين والحكيم وتيمور وأحمد أمين والمازني وهيكل ثم يحدد هذه الرغبة بأن تكون الدراسة النقدية غير مقصورة على شخصياتهم الفنية التي تطالعنا من إنتاجهم الأدبي، وإنما تنفذ إلى أعماق شخصياتهم التي تطالعنا من واقع الحياة، حتى يستطيع القراء أن يربطوا بين شخصيتين في سبيل الكشف عب أثر الحياة الخاصة في توجيه المواهب الذاتية وتلوين الملكات الأدبية عند كل كاتب من هؤلاء الكتاب. . . إن ردي على رغبة الأديب الفاضل هو أن هناك عقبات تعترض طريق هذه الدراسة التي يود أن أقوم بها على صفحات (الرسالة)، منها أن حياة بعض الناس الخاصة لا تخلو من جوانب يفرض علينا الذوق ألا نتعرض لها ما داموا على قيد الحياة، قد تكون هذه الجوانب ذات أثر كبير في تلوين المادة الفكرية، ولكنني أرى - وقد يعترض بعض الناس - أن الكشف عن هذه الجوانب لا يحل لدارس الشخصيات وكاتب التراجم، إلا بعد أن تنقطع الصلة بين أصحابها وبين الحياة،. . . عندئذ تصبح كل حياتهم حقا مباحا للدارسين، وعندئذ يحل للتاريخ الأدبي أن يقول كلمته! ومن هذه العقبات أيضاً أنني أعرف بعض هؤلاء الأدباء معرفة كاملة وأعرف بعضهم الآخر معرفة عابرة، وفيهم من لا أعرفه على الإطلاق، فأنا مثلا أعرف
من الفريق الأول الزيات وطه حسين وتوفيق الحكيم وأحمد أمين وتيمور، وأعرف من الفريق الثاني العقاد والمازني حيث لقيت العقاد أول لقاء وآخر لقاء في جريدة (الأساس) وكذلك الأمر فيما يختص بالمازني رحمه الله في جريدة (أخبار اليوم) أما الكاتب الذي يمثل الفريق الثالث فهو الدكتور هيكل!. . . وإذا كنت أعرف بعض الجوانب الخاصة في حياة هؤلاء الذين لم تهيئ لي الظروف مصاحبتهم، فهي معرفة عن طريق الغير أي عن طريق النقل والاستماع، ولعل الأديب الفاضل يوافقني على أن الأمانة القلمية تفرض علينا ألا نطمئن كثيرا إلى هذا الفريق، إذا ما أردنا أن نؤرخ الأدب على الأساس الذي أشار إليه!
بعض الرسائل من حقيبة البريد:
أقول للجندي الفاضل محمد عبد العال (بالقاهرة) إن مأساتك التي قصصتها علي ليس مكانها (الرسالة) ولكن مكانها هناك في (الأهرام) حتى يمكن أن تظفر باهتمام المسئولين فأكتب إلى الصديق الأستاذ أحمد الصاوي محمد ولك مني أن أوصيه خيرا بشكواك. وأقول للأديب الفاضل محمود أمين (بأسيوط) إنني في انتظار مقالاتك. وأقول للأديب الفاضل عبد العظيم الحميلي (بالجيزة) إنني شاكر لك جميل عنايتك وصادق اهتمامك ومقدر لك هذه اللمحات الطيبة التي تبعث بها إلي من حين إلى حين. وأقول للأديب الفاضل حماد محمد أحمد (بفرشوط) إن الجنة التي سألتني عنها في رسالتك هي الجنة التي وعد بها المتقون!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
استقبال العضوين الجديدين في مجمع اللغة:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي، باستقبال حضرتي الأستاذين أحمد حسن الزيات وإبراهيم مصطفى، اللذين انتخبا وصدر المرسوم الملكي بتعيينهما عضوين عاملين بالمجمع، مكان المغفور لهما أنطون الجميل باشا وعلي الجارم بك.
بدأ الاحتفال بإلقاء الدكتور أحمد أمين بك كلمة استقبال الأستاذ إبراهيم مصطفى، وقد استهلها بالحديث عن بدأ الصلة بينهما حينما كانا طالبين بالأزهر يحفظان المتون ويدرسان الأدب الذي كان يدرس في الأزهر على هامش العلوم في ذلك الزمان. وقد اهتم الدكتور أحمد أمين في هذه الكلمة بالتحدث عن النحو وجموده، وبناء قواعد اللغة العربية على أساس (العامل) ورأى الأستاذ إبراهيم مصطفى في (هدم العامل) وعقب على هذا وذاك بأن عيب النحويين جميعا أنهم يريدون أن يخضعوا اللغة للمنطق، واللغة من وضع العاقل والأحمق والمتعلم الجاهل، ثم جاء العلماء واهتموا بها على أساس المنطق فأتعبوا أنفسهم دون طائل. وضعها الصغار وتعب فيها الكبار. . .
وبعد أن افاض الدكتور في ذلك، قال إن الأستاذ إبراهيم مصطفى ليس نحويا فحسب، وإنما هو قوي الأسلوب والخيال وله قدرة على وضع القصة الصغيرة، إلا أن السلك الذي يربط بين ذهنه ويده مصاب بعطب. . . ولم يبين ما يريد بهذا العطب.
وقد كان حظ النحو وما تبعه من الطرائف في كلمة الدكتور أحمد أمين أكثر من حظ الأستاذ إبراهيم مصطفى نفسه. فكل ما ذكره عنه حفظه المتون في الصغر ورأيه في نظرية العمل، ثم الوصف الإجمالي الأخير الذي ختمه بتلك الإشارة التي لا ندري أهي دعابة أم نقد، حتى النظرية النحوية هدمها!
ثم ألقى الأستاذ إبراهيم مصطفى كلمته، فشكر الدكتور أحمد أمين وأشار بلباقة واختصار إلى بعض ما ذكره، ثم تطرق إلى الحديث عن سلفه المرحوم علي الجارم بك، وقد وجه معظم الحديث عنه إلى جهوده في النحو من حيث تيسيره وتقريبه. وهكذا كان الأمر فيما بين الدكتور أحمد أمين والأستاذ إبراهيم مصطفى أكثره نحو. . . على ذلك النحو.
ثم وقف الأستاذ محمد فريد أبو حديد بك فألقى كلمة استقبال الأستاذ الزيات، فقال إنه التقى به لأول مرة من نحو أكثر من ثلاثين سنة، زميلين في التدريس بمعهد أهلي، فوجد فيه شابا أنيقا في زيه الشرقي، حييا يفيض علما وأدبا، وأشار بفضله في تجديد تعليم اللغة العربية وآدابها، ومنهجه الجديد في تاريخ أدب اللغة بكتابه (تاريخ الأدب العربي) وأفاض الأستاذ أبو حديد في بيان أثر الأستاذ الزيات في أدب الجيل، ونوه بترجمته (آلام فرتر) و (رفائيل) قائلا بأنها الترجمة المنشودة للمشاركة الأدبية العالمية. ثم حلل ناحية في أسلوب الأستاذ الزيات وهي الخاصة بوضع الكلمة في موضعها سواء في الترجمة والإنشاء. واستطرد بعد ذلك إلى بحث مستفيض في استعمال الكلمات في المقامات المختلفة، وأتى بأمثلة من الشعر العربي وحللها مبينا ما فيها من ظلال التعبير النفسية. وهذا الموضوع: مناسبة التعبير للحال وما يضفيه من ظلال نفسية خاصة، موضوع قيم، ولكنه شيء آخر غير الإتيان بالكلمة في موضعها.
وعلى أثر ذلك نهض الأستاذ الزيات فألقى كلمته، ويراها القارئ في صدر هذا العدد من (الرسالة) ولست أقول فيها إلا أنها دلت عليه دلالة واضحة إذ قدم نفسه بها خير تقديم.
بقيت في النفس ملاحظات عامة، أردت أن أتغاضى عنها، ولكنها تلح علي، متذرعة بأن لها هدفا وأنها ذات موضوع، على حد التعبير الذي ذاع عن معالي رئيس المجمع، ذلك أن بعض الأعضاء الذين تكلموا في الحفل، لم يراعوا الصحة اللغوية في استعمال بعض كلمات وضبط أخرى، ومثل هذا إن أمكن التغاضي عنه في غير مجمع اللغة، فإنه لا يقبل من أعضاء المجمع وهم رجال اللغة. مثال ذلك ما ذكره الأستاذ إبراهيم مصطفى عن جهود الجارم في أعمال المجمع، ومنها (القاموس الوسيط) يقصد (المعجم الوسيط) والفرق بين المعجم والقاموس معروف.
أمينة:
هي امرأة فرنسية، تزوجها الشيخ إبراهيم، وسماها (أمينة) على اسم المرحومة أمه لحبه إياها.
والشيخ إبراهيم رجل من أغنياء إحدى القرية المصرية، يهتم بتربية الخيل، ويقوم عليها عنده ابن خالته الشاب الوسيم (محمد) الذي يفتتن بجمال أمينة وتفتتن هي أيضاً به، فهي
فتاة في ميعة الصبا وزوجها شيخ يكبرها بعشرات السنين.
وتعود ابنة الشيخ إبراهيم (عايدة) من القاهرة إلى القرية لقضاء العطلة المدرسية، فلا تستريح أمينة زوج أبيها لقدومها، ويضايقها انصراف زوجها إلى ابنته وعطفه عليها. وينشأ حب صامت بين عايدة وبين محمد، ولكن هذا يستمر في علاقته الآثمة بأمينة.
وتساور الشيخ إبراهيم الشكوك في محمد. وتعمل عايدة على أن تجنب أباها الوقوف على حقيقة الصلة بين أمينة ومحمد، منعا لحدوث ما يخل بسمعته وشرفه، ويؤدي ذلك إلى أن تظهر في موقف مريب مع محمد فيطردهما من المنزل، فيلجأن إلى منزل أخت الشيخ إبراهيم وزوجها الشيخ عبد المحسن، فيتزوجان ويعمل محمد عند طبيب بيطري بالقرية، ويعيش الزوجان في سعادة يظللهما الحب المتبادل ويسخط الشيخ إبراهيم على ابنته لمسلكها وزواجها من محمد السائس، ويقبل على زوجته أمينة ويمعن في تدليلها والإغداق عليها.
وتلتقي أمينة بمحمد فتعمل على إغرائه فيأبى أولا ثم لا يلبث أن يعود معها إلى ما كانا فيه. وفي خلال ذلك يجمح جواد من جياد الشيخ إبراهيم فيجري وراءه بالعربة التي تنقلب في الترعة في مكان بعيد عن القرية بحيث لم يدر أهله أين مكانه.
ويذهب محمد مرة إلى أمينة فيجدها جثة، ويقبض عليه ويتهم بقتلها، كما يتهم أيضاً الخادم (ضبش) الذي كان يحبها وهي تنفر منه. وأخيرا يظهر الشيخ إبراهيم راقدا في فراش عند أحد معارفه، ويفضي إلى المحقق الذي ذهب إليه بأنه اختفى على أثر الحادث الذي وقع له، وجعل يتجسس على زوجته حتى تحقق أنها تخونه فقتلها. وبعد هذا الاعتراف فاضت نفسه.
تلك هي قصة فلم (أمينة) الذي عرض أخيرا في سينما رويال بالقاهرة، والذي قالوا عنه إنه التقت فيه مواهب الشرق بمواهب الغرب. فقد أنتجه وأخرجه المخرج الإيطالي جوفريدو إليساندريني، ومثلت فيه الممثلة الإيطالية آسيا نوريس (أمينة) ويوسف وهبي (الشيخ إبراهيم) ورشدي أباظه (محمد) وسميحة توفيق (عايدة) وسراج منير (الشيخ عبد المحسن) وحسن البارودي (ضبش).
والحق أن المخرج نجح في تنظيم حوادث الفلم ومناظره، وتحريك الممثلين، وإبراز
مواهب بعضهم وخاصة سميحة توفيق، فقد ظهرت هذه الفتاة في بعض أفلام لم يحسن المخرجون فيها تخريجها، أما في هذا الفلم، فقد برزت ملكاتها الفنية بحيث استطاعت أن تقف إلى جانب آسيا نوريس، لا تقل عنها إن لم تكن فاقتها. وقد أحسن باقي الممثلين تأدية أدوارهم، وكان يوسف وهبي مندمجا في دوره، هادئا، لم يقتل في الفلم غير واحدة!
ثم ننظر في قيمة هذا الفلم الذي تضافرت عليه جهود عالمية. . . لقد تزوج رجل مصري قروي بفتاة أجنبية، فلم يستغل هذا الزواج لاتخاذ موضوع منه، فلم يصور باعتباره زواجا مخفقا لاختلاف العادات والطبائع والأمزجة بين الزوجين، بل جرى الأمر على أن الزوجة تعيش في كنف زوجها مرتاحة إلى ما يغدقه عليها، سادرة في تغفله والارتماء في أحضان الشاب الذي تبغي فيه عوضا عما تفقده في الزوج، وهذا لا يتوقف على أن تكون الزوجة أجنبية أو غير أجنبية. ويظهر أن المسألة لا تعدو تدبير دور لآسيا نوريس تظهر فيه مع يوسف وهبي. وكذلك لم أجد معنى لأن يحب الخادم (ضبش) الدميم المسن، أمينة الفتاة الرائعة الحسن، فالإنسان يدرك بغريزته وفطرته ما يلائمه وما لا يلائمه في مثل هذه الأمور. ولكن ذلك كان افتعالا غير طبيعي قصد به ترتيب الحوادث والتمهيد أن يقتل الزوج زوجته في النهاية.
والمخرج نجح حقا من الناحية الفنية، وأخرج الفلم نظيفا من التهريج والإسفاف، ولكنه أخفق في تصوير البيئة المصرية، فهذه القرية التي تجري فيها حوادث الفلم، أهلها أشبه بحي من الأحياء البلدية في القاهرة منهم بالفلاحين في كل شيء حتى لهجة الحديث، فلم أسمع أحدا يتكلم باللهجة الريفية غير أخت الشيخ إبراهيم. وقد اهتم المخرج بإبراز مناظر معينة مما يدل على الطابع المحلي، فجاء بعضها غير صادق مثل منظر الهرمين اللذين يظهران بجانب القرية، ولا نعلم قرية في مصر بجانبها هرمان على الهيئة التي ظهرت في الفلم وجاء بعض تلك المناظر في غير مناسبة مثل الخيل التي تعدو براكبيها في مفتتح الفلم واختتامه من غير ارتباط بحوادث البدء والنهاية، وكل ما في الأمر أن المخرج يريد إظهار فلاحين مصريين يجرون بالخيل. . . ولا ضرر من ذلك غير أنه حشو لا فائدة منه.
ومهما يكن من شيء فإن الفلم أصغر وأتفه من أن يكون ثمرة لالتقاء المواهب العالمية. . .
عباس خضر
البريد الأدبي
الأمانة العلمية في الجامعة:
قرأت ما أثاره الزميل الصديق الدكتور جمال الدين الشيال في عدد الرسالة الغراء الصادر في 10 أكتوبر سنة 1949 حول الأمانة العلمية في الجامعة، ولم أعجب لما جاء به الزميل، فقد عادت بي الذكريات إلى أيام تلمذتي بالجامعة، فتذكرت ذلك الأستاذ المعمم وقد جاءنا يرفل في جبته وقفطانه، حتى إذا عدنا من عطلة العيد وجدناه قد ارتدى زي المطربشين، وإن كانت ملامحه وسحنته تدل على أنه من الشيوخ المعممين. . . ذكرت ذلك الشيخ وهو يطلب منا أبحاثا علمية ليقرأها ويصححها ثم يعيدها إلينا، وكنا في ذلك الوقت حريصين أشد الحرص على أن نرضي الأساتذة بهذه الأبحاث العلمية، فكنا نسعى إلى المكتبات ونبحث في أمهات الكتب حتى نفوز برضى الأستاذ عن البحث الذي نقدمه له، ولكن ذلك الأستاذ - حفظه الله - بخل علينا بأبحاثنا ولم يشأ أن يردها إلينا، ولم نلبث أن رأينا هذه الأبحاث قد ضمت بعضها إلى بعض وقسمت إلى أبواب وفصول، وأصبحت كتابا يحمل اسم الأستاذ العزيز، وإن كنا نحمد للأستاذ أنه غير أسلوب هذه الأبحاث وجعلها بأسلوب واحد. أما الآراء، فقد بقيت كما هي آراؤنا والنصوص التي استندنا إليها في أبحاثنا بمراجعها لم يتغير شئ منها. . .
وذكرت أيضاً ذلك البحث الذي صدرت به مجلة إحدى الهيئات العلمية، وكيف قام أحد الطلاب يصيح في وجه أستاذه الذي نشر البحث باسمه قائلا: إني أعطيتك هذا البحث منذ شهر، فلم يسع الأستاذ إلا أن يعترف أمام الطلاب أنه استفاد من البحث الذي قدم له، ولكنه أصر الأمر في نفسه، وانتقم من الطالب في آخر العام فرسب الطالب المسكين!
وهذه زميلة تتقدم برسالة ماجستير وتعطي بحثها لأستاذها المشرف، ومكث البحث زهاء ستة أشهر عند الأستاذ، وأخيرا أخذته منه، فإذا به يفاجئنا بأن آراءها تتفق تمام الاتفاق مع آرائه، فلما سألته: أين نشرت آراؤه هذه؟ أجاب باسما: إن كتابي سيظهر هذا الأسبوع وفيه هذه الآراء! فأجابته ساخرة: الحمد لله أنك أطلعت على آرائي ولم أطلع على آرائك!
وذكرت ذلك الأستاذ الذي كان عضوا في لجنة امتحان إحدى رسائل الدكتوراه، فإنه بعد المناقشة احتفظ بنسخة الرسالة لنفسه، فإذا تقدم طالب آخر يعطف عليه أشد العطف، أعطاه
الرسالة الأولى التي لم تكن طبعت بعد، فإذا بالطالب يستعين بهذه الرسالة استعانة كلية دون أن يشير إلى ذلك، وأكبر دليل نلمسه أن الرسالة الأولى كان الاعتماد الأكبر فيها على مخطوطات لم يرها أحد في مصر لأنها في حوزته، ولم يطلع عليها أحد، ولا توجد هذه المخطوطات عند أحد سواه، فإذا بالرسالة الثانية قد امتلأت بنصوص أخذت من هذه المخطوطات. . . ونذكر كيف حضر صاحب الرسالة الأولى مناقشة الرسالة الثانية، فلما رأى هذا السطو تحدث مع أعضاء لجنة الامتحان في ذلك، فكانت النتيجة أن هدده الأستاذ قائلا: أتريد أن تعمل على فشل الامتحان؟!
ولعله من المؤلم أن تحدث هذه المهزلة أمام اثنين من كبار المستشرقين، ومن الطريف أن أحد أعضاء لجنة الامتحان أستفهم عن هذه المشادة، ومع ذلك لم يفعل شيئا!
واذكر أيضاً أن أستاذا سافر إلى أحد الأقطار فدعي لإلقاء عدة محاضرات في الإذاعة، فأرسل برقية إلى أحد المعيدين ليكتب له سلسلة هذه المحاضرات ويرسلها له بالبريد الجوي، وتقاضى الأستاذ مكافئته من الإذاعة في حين أن المعيد قد لقي بعد عودته جزاء سنمار!
واذكر هذا الأستاذ المشرف على بعض رسائل الماجستير يصرح في مجلس الكلية أنه لم يقرأ هذه الرسائل ولكنه يوافق عليها. . . واذكر ذلك الأستاذ الذي سطا على أحد أعداد سلسلة (اقرأ) وأخذ يملي منه محاضرات على الطلاب دون أن يشير إلى الكتاب زاعما أنها له، ولم يفطن إلى أن الطلبة كانوا اسبق منه إلى قراءة هذا العدد!
ولعل أهم هذه الأحداث التي تتعلق بالأمانة العلمية في الجامعة أن أحد المدرسين إذ ذاك ألقى محاضرة بدار الجمعية الجغرافية الملكية عن رأي جديد في النحو، فإذا بهذا الرأي يظهر في كتاب لزميل له دون الإشارة إلى صاحبه، وإذا بهذا الأستاذ النحوي يغضب ويخاصم زميله ويستشهد بالآية القرآنية:(إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة). . . يشير بذلك إلى كثرة كتب زميله. . .
ولا ينسى الزميل الصديق الدكتور الشيال قصة هذه الكتب التي يوضع عليها اسم أستاذ من الأساتذة ومعه اسم تلميذ من تلاميذه على أنهما اشتركا في تأليف هذا الكتاب أو ذاك، فنحن نعلم من الذي ألف الكتاب ومن الذي استفاد منه. . .
هذه كلها ذكريات يعرف بعضها الدكتور الشيال، ويعرف بعضها زملاء الدكتور الشيال، لعل فيها ما يخفف عنه ثورته للأمانة العلمية في الجامعة. . .
(أبو رشيق)
إلى الأستاذ أنور المعداوي:
نحن نتعقبك في تعقيباتك المتعة، ويعجبنا فيك عاطفة متأججة، وإيمان بما تكتب، وصدق فني في تعبيرك، ونكبر فيك صراحة واضحة، وقلما قويا تقذف به في صدر الزيف والبهرج والباطل، فنزداد تعلقا بك، وحبا لقلمك ونشعر بهزة عنيفة تنفذ إلى مسامع القلب، ومسارب الروح.
ومقاييس الشعر التي تحدثت عنها، هي مقاييس صحيحة، ومعايير صادقة، ودراسة قصيرة (إيليا أبو ماضي) على ضوئها كانت دراسة جميلة، وأسلوبا في النقد والتعليق يعد أسلوبا طريفا لأنه ينصب على القيم والمعاني والأحاسيس والتجارب والظلال، ولا يحفل بالشعوذة اللفظية، والبهرج الزائف؛ ولكني لا أوافقك بل أعتب عليك عتبا كثيرا حينما تصب حكمك القاسي على الشعر العربي القديم جملة واحدة، هذا التراث الذي نفخر به على الزمن هذا التراث الذي جعلته خواء من الروح والعاطفة. إنك بهذا الحكم تهدم حضارة، وتبعثر أمجاد أمة، وأنا أعيذك من هذه النظرة، وأرجو أن تراجع نفسك، وتستشير ذوقك وحسك مرة أخرى، وأنا موقن أنك لن ترضى لنفسك، أن تسم الشعر العربي بهذه السمات (شعر السطوح الخارجية) شعر يشعرك بوجود (الفراغ الداخلي) إن الشعراء كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية).
لا لا يا أخي. ألم تقرأ شعر المتنبي؟ اقرأه في السيفيات والكافوريات فتراه شعرا منبثقا من أعماق النفس، هو في ظاهره مديح، ولكن وراء هذا معان كلها أثر للإحساس النفسي والانفعالات الحزينة تارة، المريرة أخرى، الساخرة كثيرا. واقرأ شعر ابن الرومي في رثائه ومدحه وهجوه فهو صادر عن نفس حساسة شاعرة، وألفاظه شفافة موحية. واقرأ في كل عصر من عصور الأدب، فستجد شعر النفس، وصدق الفن في أكثر ما تقرأ. ولست الآن بسبيل الاستقصاء، وضرب الأمثال من شعر الشعراء، وكلام النقاد؛ فإنما هي كلمة
عابرة اكسر عليها قلمي حتى اسمع رأيك مفصلا واضحا.
هذا شئ، وهناك شئ آخر، لقد جعلت (شوقي) زعيم مدرسة في حسن الأداء النفسي، لأنه يملك الصدق في الشعور وفي الفن، وجعلته قرينا لشاعر آخر.
والمعروف أن المدرستين مختلفتان في الكثير من السمات والوجوه؛ فشوقي في رأي يحفل بالصدق الفني، ويتأنق في عرض الصورة البيانية، فطابع الصدق الفني أغلب في شعره من الصدق الشعوري، وعلى النقيض من ذلك الشاعر (إيليا أبو ماضي).
والذي يهمني بعد، أن توضح لي رأيك في مكان شوقي بين الشعراء، ومكانة شعره في نفسك.
ولصديق الروح تحية ملؤها الحب والإعجاب والتقدير. . .
(دمياط)
عبد المنعم سلمان مسلم
أليس هذا مصريا؟
كثيرا ما سمعت هذه الجملة تلوكها ألسنة الشبان وغيرهم عندما يعرض لهم شخصا تزل قدمه في الخطأ، وترى الواحد منهم يرسلها بكل بساطة كأنه يعتبر بذلك المصري علما على الأخطاء.
هذا الأمر ليس شيئا تافها، إنما هو خطب جلل يأسف له كل وطني يدرك ما ينطوي عليه من معنى في نفوس الكثيرين من أبناء هذا الوطن.
إن ذلك معناه الشعور بالنقص بل معناه الإيمان بهذا النقص، معناه فقدان الكرامة الشخصية والاعتزاز القومي وانحطاط النزعة القومية إلى حد تصل معه إلى هذه الدرجة من الضعة.
إننا لو افترضنا جدلا وجود بعض النقائص في المصري فليس لنا مطلقا أن نتخذها مبعثا للسخرية والتهكم؛ لأن ذلك يعني إيماننا بوجودها؛ وأن مجرد إيمان كهذا يعتبر أخطر وانكى من العيب نفسه أن لم يكن هو عين العيب. . . إن الوهم في ذاته من أخطر أسباب المرض، فالواهم يخلق لنفسه المرض وهو صحيح. وهو بذلك يضاعف من مرضه بالوهم إن كان مريضا، ولعل معظم الأمراض العقلية والعصبية ترجع إلى ذلك الوهم الذي لا
أساس له في الواقع، والمصري إذ يتوهم في نفسه النقص والضعة لا شك أنه بذلك سيخلق في نفسه النقص إن كان منزها عنه وسوف يضاعفه إن كان مشوبا بالرشاش منه.
إن الفلاسفة الألمان يوم أعلنوا أن (ألمانيا فوق الجميع) وإن الإنجليز يوم اعتبروا عنصرهم أسمى العناصر، وكمال أتاتورك يوم جعل شعبه يؤمن بأن التركي اطهر الأجناس، كل أولئك لم يكونوا داعين إلى عصبية قومية عمياء ولم يعتبروا قط أنهم أسمى البشر فعلا، إنما كانت غايتهم أن يبثوا في نفوس مواطنيهم الشعور بالكرامة والعزة ليصلوا من ذلك الشعور إلى مراتب الكرامة والعزة الحقيقتين.
وإن الله تعالى حين أعلن في القرآن الكريم مبدأ (كنتم خير أمة أخرجت للناس) لم يكن سبحانه وتعالى بالطبع يدعو إلى عصبية دينية لأن القرآن نفسه قد حوى أسمى مبدأ في المساواة تامة بين البشر جميعا، والقرآن في ذلك يبتغي أن يجعل المسلم يعتز بنفسه ودينه ويشعر بالكمال والقوة فوق سائر الناس فيدفعه ذلك الشعور إلى العمل الذي يتفق معه ويؤدي إلى جعله حقيقة واقعة.
وهكذا تخلق الأمة القوية من مجرد الشعور القوي بالقوة والأنفة بينما تنحط الأمم مهما كانت قيمتها يوم يستولي عليها الشعور بالنقص ويبتليها الله بانحطاط الروح المعنوية وضياع العزة القومية.
أخي المصري. . . إننا لم نصل بعد إلى هذه الدرجة المنحطة من الضعة والتفاهة حتى نوهم أنفسنا بذلك، ومن الجرم أن يعتقد المصري في نفسه ذلك النقص، فنحن بخير ويحق لنا أن نعتز بقوميتنا، فإننا مهما بالغنا في ذلك الاعتزاز فنحن أهل له. نحن شعب ناهض بلا شك، وإن كان الاحتلال لا زال يعوق نهضتنا فليكن لنا من ثقتنا في أنفسنا السلاح الذي نحطم به ذلك العائق حتى نحقق ما نراه في أنفسنا من عزة وكرامة وقوة سجلها لنا تاريخنا الغابر وهي في سبيل أن يسجلها لنا التاريخ الراهن، إذا كنت ناقصا في بعض الشيء يا أخي فلتعمل لتكمل في نفسك ذلك النقص، ولا تستشعر النقص في نفسك، فالشعور بالنقص هو النقص عينه، بل قل (مصرنا فوق الجميع) ولسوف تصبح كذلك إن آجلا أو عاجلا فليس سبيل السيادة بمقصور على أمة أو شعب إنما هو مشاع للعاملين.
السيد علي الشوربجي
كلية الحقوق
القصص
زائرة العرافة
عن الإنجليزية
ترجمة الأديب سيد أحمد قناوى
في غرفة قليلة الضوء تقع على جانب المعرض العام. . . أثاثها ينحصر في مائدة ومقعدين وبعض أشياء أخرى إن دلت على شيء فإنما تدل على ما يعانيه ساكنها من بؤس وفقر. . . وعلقت في واجهة الغرفة لافتة كتب عليها هذه العبارة (مدام لاسترا قارئة الكف. استفسارات عن مسائل الحب والزواج والمال على أحدث القواعد العلمية). . . في هذه الغرفة المتواضعة جلست السيدة (لاسترا) تنصت في ضجر وضيق إلى أصوات الضحك والمرح التي كانت تنبعث في أرجاء المعرض خارج غرفتها. . . فقد كانت تلك الليلة رأس السنة الجديدة، فأرسلت أفكارها بعيدا تستعيد ماضي لياليها وتستعرض أيام بهجتها وسرورها. . . حتى قادها تفكيرها في النهاية إلى ليلة تماثل هذه الليلة في البهجة والمتاع واللهو. . . كانت هي فيها تختال بين الرجال حتى انتابتها نزوة غرام عارضة أطلقت فيها للشيطان العنان. . . فكانت ليلة فاصلة بين حياة الزوجية السعيدة وحياة الشقاء التي تحياها الآن. فما جنت من وراء تلك النزوة العارضة - وا أسفاه - غير الحسرة والخيبة والمرارة.
لقد كانت السيدة (لاسترا) في أيام سعادتها على جانب كبير من الحسن والبهاء: كان لها شعر أسود وعينان عسليتان حالمتان قبل احتراف هذه المهنة البغيضة إلى نفسها كما كانت زوجة لأستاذ علم الآثار الشهير (جيمس كارستيرز) تعيش معه في بحبوحة ويسر، لا تعرف معه للضيق معنى، ولا تذوق من الفاقة ما تتجرع الآن غصته. . . وعند وقوع حادث الغرام الطائش حملت على طلب الطلاق من زوجها فكان لها ما أرادت، وإن هي الآن لا تقاس منه غير العسر ومرارة الذكريات. ولن تنسى ما عاشت قول (جيمس) لها وهو يجيب إلى طلب الطلاق:
(إن بحثت عن أبغض إلى قلبي، تجدينه الطلاق منك. . . ولكن إذا كان في الطلاق جلب
لسعادتك وهنائك فواجبي يحتم علي أن أضحي بحبي وقلبي بلا تردد).
وكم تنفجر عواطفها، وتهتز أعصابها حينما تذكر أنه تزوج بغيرها طلبا للخلف. . . فقد تزوج بعد طلاقه منها من فتاة تدعى (أليس دين) وهي فتاة آية في الجمال وقد وصفها الناس بأنها شقراء الشعر نحيفة القد أنيقة الهندام.
جلست مدام (لاسترا) فريسة لهذه الذكريات تنهش قلبها وتستبد بنفسها فما أنقذها منها سوى قدوم زائرة جاءت لاستطلاع حظها. . . وسرعان ما اعتدلت العرافة (لاسترا) في مجلسها، وسوت شالها فوق رأسها وشبكت يديها وأسندت مرفقيها إلى المائدة فقد لاحظت في السيدة الزائرة من الهيبة والوقار ما حملها على الاهتمام بأمرها، والتطلع إلى مكنون سرها. .
ومن عجب أن هذه (الزائرة) لم تدخل كغيرها في اضطراب وعجلة ورغبة ملحة في استطلاع مخبآت الغيب، بل هي على النقيض من ذلك، إذ أنها دخلت في تؤدة ووقار وهدوء، تظلل محياها الشاحب وشعرها الأشقر قبعة عريضة الأطراف، ولم تلبث أن نزعت قفازها دون أن تبس بكلمة، وكان الإطراق رائدها، ومسحة من الحزن تعلو جبهتها. . . فدل مظهرها على ما تحمله على أمر عظيم وهم دفين. وأخيرا قدمت يدها اليسرى فإذا هي تتحلى بخاتم من الفضة مرصع بحجر من الزبرجد. . . لم تكد السيدة (لاسترا) تبصر هذا الخاتم حتى خفق قلبها عنيفا حتى كاد أن ينخلع من صدرها وإن كتمت مع ذلك شعورها حتى لا تثير شك زائرتها. . فإن هذا الخاتم الزبرجدى هو قرين العقد الزبرجدى الذي تحمله هي حول عنقها، وكلا الخاتم والعقد من مقتنيات العالم الأثري (جيمس كاستيرز) جلبها من تنقيبه في الآثار المصرية القديمة، وليس لهما في عالم الحلي نظير؛ ولا ريب في أنه أهدى الخاتم إلى زوجته الثانية كما أهدى العقد إلى زوجته الأولى. . . بكل هذه الخواطر رفعت السيدة (لاسترا) عينيها إلى وجه الزائرة تلتمس من تقاطيعها ما يؤيد ظنونها ويحقق خواطرها. . . فإذا هي تتذكر أوصافها التي سمعت عنها:
شقراء الشعر دقيقة الملامح أنيقة الهندام؛ في نحو الثامنة والثلاثين من العمر، وبالإجمال لم يبق عندها من شك في أنها هي (أليس دين) المرأة التي انتزعت منها زوجها بعد طلاقها منه. . . وهكذا مضت الزائرة (أليس) في صمتها فبادرتها السيدة (لاسترا) بقولها:
- لقد كنت تعملين على المسرح. . . أما الآن فأنت قد اعتزلت التمثيل وأصبحت زوجة!!.
فأومأت الزائرة إيجابا. فاستطردت السيدة (لاسترا). .
- وقد تزوجت منذ تسع سنوات فأومأت الزائرة مرة أخرى دون أن تبدي أدنى دهشة لما تسمع من دقة التفاصيل وقالت بصوت مشوب بالنحيب:
- إنه تزوجني لكي ينسى امرأة أخرى، فلم يبق شك في نفس السيدة العرافة. . . فهي الآن تواجه خليفتها عند زوجها، فخارت قواها وتبددت أنفاسها. . . واستسلمت للتفكير العميق الذي أبرز الآن صورة (جيمس) في اطواء الماضي. . ولم تلبث حتى قالت لمنافستها:
- لا بد أن تكوني سعيدة مع زوجك.
- أني سعيدة حقا.
- إنه يحوطك برقة وحنو ندر أن يكون لهما مثيل في هذه الدنيا فيجدر أن تكوني لذلك أهلا، ولا تشكي في إخلاصه فهو مثال طيب للرجل الجدير بالحب والاحترام. فقالت الزائرة في صوت اقرب إلى الهمس:
- صدقت فيما تقولين!
- إن حياتك مشوبة ببعض المتاعب والقلاقل، وإن لزوجك مشاكله الخاصة فإن وجدت منه بعض الهفوات أو ساءك منه شيء، فاذكري أن نوابغ الرجال لا يستطيعون أن يوفقوا بين نبوغهم وبين توافه الأمور. . . إنهم. . . ولكن السيدة كفت عن الاسترسال في حديثها خشية الافتضاح بذكر هذه التفصيلات الدقيقة.
فردت (أليس) في حدة:
- لقد وجدت المتاعب التي تشيرين إليها، ولكنها انتهت ومضت. انحازت العرافة (لاسترا) إلى التفاؤل قياما بالواجب حيال زائرتها ثم أردفت:
- سيكون الخير. . وستسير الأمور على أحسن ما تكون. . ويومئذ لا تنسي أن تخبريني. وهنا وقفت الفتاة (أليس) بوجه متجهم وقالت:
- كل شيء بخير كما قلت لك. . وهذا هو سبب حضوري إليك. . . إنه يريدك إلى جانبه يا (أنا كارستيرز) أنه لم ينقطع لحظة عن التفكير فيك وعن محبته لك.
فهبت السيدة (لاسترا) عند سماعها هذه المفاجأة التي لم تكن في حسبانها. . ووثبت واقفة كالمصعوقة وهتفت:
- كيف عرفت مكاني؟. . وماذا جئت إلي - أيتها الماكرة - أنت من دون الناس جميعا؟.
- لأنه يجب أن تعودي إليه، فأنت ملاكه وأنت حياته. . ولا أستطيع أنا ولا أية فتاة أخرى أن تسد الفراغ الذي أحدثته في قلبه.
- لا يمكن. . لا يمكن هذا. . وأنت بلا شك تعرفين أن هذا ضرب من المحال!
- إنه الآن في مسيس الحاجة إليك أكثر من أي وقت مضى. فإن عدت له أديت ألي خدمة أذكرك بها على الأرض وفي السماء.
- لكن كيف أعود إليه وقد ربط بينك وبينه حبل الزوجية. محال أن أعود فأفرق بينكما، وربما أتجنى بذلك عليك، وأنا أحب أن أموت مضحية بحبي، ولا أفرق بين زوجين سعيدين فتراخت الزائرة (لاسترا) وسكبت دموعا غزيرة وأخذت تنتحب طويلا ثم رفعت رأسها وغمغمت وكأن صوتها صادر من مكان سحيق. . .
- إنه يحبك يجب أن تعودي إليه. . ولا أستطيع أن أقف بين قلبين متحابين.
- ولقد تحققت من أن (جيمس) سوف لا يكون سعيدا هانئا إلا في ظل رعايتك. . . فكوني له على حبه لك معينة، ولتجعلك الأيام عونا له من بعدي، فلم يبق لي الآن في دنيا الناس نصيب. . ثم صمت قليلا وحركت لسانها بكل تثاقل وهي تقول: وداعا يا (جيمس). . وداعا يا سيدتي. . ثم خرجت تجر قدميها في سكون وصمت.
شعرت (لاسترا) العرافة بجو الغرفة باردا، فأظلمت الدنيا أمام عينها وسقطت مغشية عليها. . . ولما استفاقت بعد ساعات طويلة أخذ جسمها يرتعد بشدة. . . وساورها خوف شديد. . . فقد كان صدى كلمات الزائرة (أليس) لا يزال يتجاوب في أنحاء الغرفة. وخاصة وهي تستحثها على العودة إلى (جيمس). . وقد كانت لا تزال هذه العودة أمنية قلبها ورجائها الوحيد في الحياة. . . ولكن كيف السبيل إلى هذه العودة وقد خالج قلبها هم جديد. . وهو أمر الزائرة (أليس) وفجأة سمعت طرقا شديدا على باب حجرتها. . . فظنته أحد الزوار فقامت متثاقلة وفتحت الباب. . . وما أشد دهشتها حينما بدا (جيمس) بمحياه الباسم وبادرها بقوله:
- أهذه أنت يا (لاسترا) ما أسعدني من رجل!.
وكان تفكير (لاسترا) ى يزال عالقا (بأليس) بالرغم من رؤية (جيمس) فسألته قلقة:
- هل رأيت زوجتك (أليس)؟
- حمقاء (أليس) فقد انتحرت منذ لحظة قصيرة ولست أعرف لذلك من سبب سوى نفور بدا عليها من أيام.
والآن فما أسعدني إذا قبلتني مرة أخرى لك زوجا أعيش بقية أيامي في سعادة وهناء. ثم قبلها قبلة طويلة كانت فاتحة لحياته الزوجية الجديدة.
(عطبرة - سودان)
سيد أحمد قناوى