الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 851
- بتاريخ: 24 - 10 - 1949
في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
خطبة الاستقبال
للأستاذ محمد فريد أبو حديد بك
سيدي الرئيس. سادتي.
عندما علمت بأنني سأقوم مقامي. هذا أستقبل حضرة الأستاذ أحمد حسن الزيات، شعرت في نفسي غبْطة وارتياحاً، لا لأني سأجد فرصة للتحدث عن زميل كريم وأديب كبير بمناسبة اختياره عضواً في المجمع فحسب، بل لأني ذهبت مع الذكرى إلى ماض بعيد أتأمل فيه صوراً عزيزة لاحت لي مع صورة إلى الصديق الذي عرفته ونحن بعد عند الأفق الشرقي من الحياة وما زلت أنعم بصداقته إلى اليوم.
عرفت الأستاذ الزيات منذ خمس وثلاثين سنة، وكنا عند ذلك زملاء في التدريس بمعهد أهلي ضم نخبة من صفوة الأصدقاء الفضلاء هم اليوم من أعز من تفخر البلاد بهم.
رأيت منه أول ما رأيت شاباً أنيقاً في ثيابه الشرقية الجميلة، وكان وديعاً كما هو اليوم، نبيلاً في حديثه، هادئ الصوت إذا تكلم، يغضي حياء وهو يفيض جداً وعلماً وأدباً.
ثم زادت معرفتي به فعلمت أن لحياته قصة - قصة شاب اتجه إلى العلم في الأزهر الشريف وتعلق بالأدب فتلقاه على أعذب موارده، ثم تعلم الفرنسية ودرسها على أكبر أساتذتها، وتلقى دراسة الحقوق في مدرسة الحقوق الفرنسية، فكان إعجابي به لا يعدله إلا عجبي منه، إذ كان مثالاً فذاً بين من عرفت من المعلمين. وجمعتنا الصداقة وقربت بين قلوبنا، فكنا نجد في عملنا معاً من المتعة ما جعل صورة ذلك المعهد الأهلي عالقة على مر الأيام بقلوبنا.
وأنا إذ أنظر اليوم إلى الوراء عبر هذه السنوات الطويلة كأنني مسافر وقف حبنا على ربوة يتأمل الفدافد التي قطعها وهي تبدو تحت بصره غامضة يغطيها ستار من الضباب يحجب شعابها الدقيقة ومساربها الصغيرة ولكنه يجمعها في لحظة واحدة في منظر رائق يحرك القلب بروائه.
وقد كان الأستاذ الزيات أحد أفراد قلائل خدموا البلاد أكبر خدمة في التعليم وفي التأليف، كما أنه واحد ممن أحدثوا في اللغة العربية مناهجها الجديدة في التفكير، وأبدعوا لها أساليبها
الطريفة في الكتابة والتعبير. ولن نستطيع أن نعرف مقدار ما أدى للبلاد واللغة من الخدمات هو وأمثاله من رواد الأدب والفكر إلا إذا عدنا بالذاكرة إلى أوائل هذا القرن العشرين.
كانت مصر في أول هذا القرن لا تزال خامدة راكدة من أثر ما أصابها من الصدمات في القرن الماضي. ثم دب النشاط فيها شيئاً فتحركت أول حركتها بطيئة ضعيفة وسرى فيها دم الحياة على هينة كما يسري أول نسيم الفجر بعد ليلة طويلة من ليالي القيظ. وكان من أول مظاهر هذا العهد الجديد إعادة الكرامة إلى اللغة العربية الشريفة: بعد أن قضت رَدَحاً من الزمن غريبة في ديارها قد غلبتها الأمية على أمرها ونحتها تفاهة الحياة عن عرشها.
وفي هذه الحقبة الخطيرة من حياة اللغة العربية كان الأستاذ الزيات وصحبه يجاهدون لنصرتها في تلك الدار المتواضعة المطلة على ميدان بيبرس.
وجد أن الأدب يلقن لتلاميذ المدارس على طريقة لا غناء فيها، إذ كانت الدروس لا تزيد على ذكر أسماء الشعراء والكتاب، يساق أحدها بعد الآخر سرداً، ويورد لكل منهم بيت أو بيتان مما قال، وسطر أو سطران مما أنشأ، ولعل هذا لا يكون من خير ما قال أو كتب، ثم يوصف بعبارة مدح عامة تكاد تتكرر بعد كل من تلك الأسماء، حتى لكأني بالطلاب يخرجون من دراستهم على أن الشعراء والكتاب صور تعيش في الوهم في عالم لا علاقة له بهذه الحياة، بل لقد حكم عليها بأن تنزوي في معاهد التعليم ذاتها، فكانت تدرس كمادة ضئيلة من مواد الدراسة، على حين كانت اللغة الأجنبية تحتل مكان الصدارة في سائر الدروس.
وبدأت الأنظار تتجه إلى اللغة الكريمة وارثة التراث العظيم نلتمس فيها ومنها غذاء الفكر وروى القلب، ولكنها كانت في حاجة إلى من يترجمونها.
كان لا بد للغة العربية عند ذلك من أن تجد من بنيها من يجعلونها تستقل بنفسها، وتضطلع بحملها، وتؤدي رسالتها. فكانت أحوج ما تكون اللغة إلى من يطوِّعونها لأغراضها، ويعيدون إليها مرونتها وقوتها. كانوا جميعاً أعظم الكتاب والشعراء شأناً وأعلاهم قدراً، يغوصون على المعاني فيخرجون منها بالدرر، ويبدعون في البلاغة إبداعاً يجب على الطلاب أن يؤمنوا به وإن لم يروا آية تدل عليه. فلم يكن فيما يدرس من آداب اللغة ما
يجعل لأحد منهم خصيصة تميزه في فكره أو في أسلوبه، ولا يجعل لأحد منهم مسلكا سلكه رائداً أو سار فيه مقلداً. بل لم يكن الطالب يعرف أي هذه الأسماء جاء أولا، وأيها جاء أخيراً، ولا أيها الذي ابتدع فكان له فضل السبق إلى الطريق وأيها الذي اتبع وتفنن فكان له فضل التهذيب والإبداع والتمام؟!
فكان للزيات فضل السبق إلى تأليف كتاب جديد في الأدب العربي سار فيه على نهج واضح، فبين معنى الأدب ومناهجه ومدارسه وتحدث فيه عن كل كاتب وكل شاعر حديثاً طريفاً يصوره فيه تصوير الأحياء الذين عاشوا على هذه الأرض وأصابوا من ضعف البشر وقوتهم ومن سموهم وإسفافهم.
ولست أنسى ساعة دفعني إعجابي بذلك الكتاب إلى أن تحدثت عنه في حماسة الشباب على مسمع من بعض الزملاء، فحسب أحدهم - عفا الله عنه - أنني أقصد التعريض به وأكيل المدح لصديقي لكي أغيظ به لا لكي أعبر عن رأي خالص، فهبت علي منه عاصفة شديدة من الحنق كانت بمثابة احتفال رائع بميلاد ذلك الكتاب الجديد.
وقد مضى الأستاذ الزيات في سبيله بعد ذلك يؤلف في الأدب والنقد، وكان له أثره المشكور في توجيه دراسة الأدب، وفي مقاييس النقد، ومؤلفاته في هذا الباب غنية عن أن أعيد ذكرها في هذا المقام.
ولكن جهاده في خدمة اللغة العربية من هذا الوجه لم يكن كل جهاده الأدبي، بل لقد أحسب أنه لم يكن الجانب الأكبر من نشاطه، فهو مترجم القصتين الخالدتين:(آلام فرتر) و (رفائيل)، والأولى للأديب الألماني العظيم جوت، والثانية للأديب الفرنسي الكبير لامارتين. ثم هو صاحب القلم الدائب الذي يمتاز بالتجويد وحسن البيان يختص به صحيفة (الرسالة) منذ نشأتها سبعة عشر عاماً من عمرها الطويل إن شاء الله.
فإذا كنا اليوم نرى في بلادنا حركة أدبية نامية، ومواهب فنية تتطلع إلى الكمال وتسير نحوه قدماً، فما ذلك إلا من آثار جهاد هذا الجيل العامل - جهاد الأستاذ الزيات وصحبه الذين شقوا سبيلهم ما بين الصخور الوعرة والصحاري المجدبة، وأسالوا عصارة قلوبهم ليحيلوا الوعر المجدب إلى خصوبة وارفة الظلال، وليهيئوا للمستقبل آفاقاً جديدة أرفق جواً وأعذب مورداً.
وإذا كان بعض شباب الأدباء يندفعون أحياناً مع القلق في أحاديثهم عن شيوخ الأدب، فإن عليهم أن يذكروا أن هؤلاء الشيوخ قد أهدوا إليهم من الثروة الفنية ما لم يسعدهم الحظ بمثله في بدء حياتهم، وأن على الشبان واجباً لا يستطيعون أن يتخلوا عنه، وهو أن يبلغوا من الإجادة الفنية أعلى مرتبة، إذ لا عذر لهم في التخلف وقد شق الشيوخ طريقهم من قبل ومهدوها لهم وعبدوها
وقد أضاف الأستاذ الزيات بترجمته لفرتر ورفائيل أثرين عظيمين إلى التراث الفني للغة العربية. ولا أعدو الحق إذا قلت إنهما قد أصبحا قطعتين من الأدب القومي.
وقد نسأل أنفسنا: أكنا أشد حاجة إلى التأليف أم إلى الترجمة في مثل حالنا؟ وقد يقال: إن الترجمة عن اللغات الأخرى تنقل إلينا مشاعر قوم غير قومنا، وتعبر عن خلجات نفوس غير نفوسنا. وقد يقال: إن الشعوب الناهضة أجدر بأن تصور مشاعرها وتتعمق ضمائرها، وأن تنشئ أدبها صغيراً حتى ينمو معها ويبلغ مع الأيام مرتبة التمام في التعبير عن آلامها وآمالها.
ولكن الأدب العالمي تراث مشترك بين الشعوب جميعاً، والأديب النابغ لا يكتب لأمة من الأمم دون الأخرى، فهو إنسان يكتب لبني الإنسان، ومن حقه وحق الإنسانية عليه ألا يعد في أمة من الأمم أجنبياً. وقد كانت اللغة العربية في أمس الحاجة إلى جهاد الأستاذ الزيات في ترجمته، بل إنها ما تزال إلى اليوم في حاجة إلى تأمل هذا المثال الذي ضربه في الترجمة والحرص على احتذائه عند نقل الآداب الأجنبية. ما زلنا إلى اليوم ننقل من تلك الآداب ولن نستغني عنها في يوم من الأيام، بل إن حاجتنا إلى الترجمة تزداد كلما زادت ثروتنا الأدبية اتساعاً وغزارة، وكلما زاد اتصالنا بالفكر الإنساني في أنحاء الأرض قوة ولكن هذا النقل لا يضيف شيئاً إلى ثروتنا الفنية إلا إذا توفر عليه من كان له أهلاً من خاصة الأدباء الذين يملكون ناصية البيان.
قال الدكتور طه حسين بك في مقدمته لترجمة آلام فرتر (والترجمة في الفن والأدب ليست وضع لفظ عربي موضع لفظ أجنبي، إذ الألفاظ شديدة القصور عن وصف الشعور في اللغة الطبيعية فكيف بها في لغة أخرى. إنما الترجمة الفنية والأدبية عبارة عن عملين مختلفين كلاهما صعب عسير: الأول أن يشعر المترجم بما شعر به المؤلف وأن تأخذ
حواسه وملكاته من التأثر والانفعال نفس الصورة التي أخذتها حواس المؤلف وملكاته إن صح هذا التعبير. والثاني يحاول المترجم الإعراب عن هذه الصورة والإفصاح عن دقائقها وخفاياها بأشد الألفاظ تمثيلا لها وأوضحها دلالة عليها.
وخلاصة القول أن المترجم يجب أن يجتهد ما استطاع لا أن ينقل إلينا معنى الألفاظ التي خطتها يد المؤلف بل في أن ينقل إلينا نفس المؤلف جلية واضحة تتبين فيها من غير مشقة ولا عناء ما أثر فيها من ضروب الإحساس والشعور).
وقد وفى الأستاذ الزيات حق الترجمة بما لا مطمع بعده لمستزيد؛ فكانت عنايته باللفظ ودقة أدائه، لا يعدلهما إلا عنايته بالتركيب وبلاغة تعبيره.
وهو ممن يعرفون للألفاظ حقها. وقد بين رأيه في هذا الأمر بياناً وافياً في كتابه (دفاع عن البلاغة) إذ قال:
(وفي اختيار الكلمة الخاصة بالمعنى إبداع وخلق؛ لأن الكلمة ميتة ما دامت في المعجم، فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة، دبت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر عليها اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة إذا وضعت في موضعها على الصورة اللازمة والنظام المطلوب تحركت الآلة وإلا ظلت جامدة.
وللكلمات أرواح كما قال موباسان وأكثر القراء، وإن شئت فقل أكثر الكتاب، لا يطلبون منها غير المعاني. فإذا استطعت أن تجد الكلمة التي لا غنى عنها ولا عوض منها، ثم وضعتها في الموضع الذي أعد لها وهندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد إليها الحياة وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة والصدق والطبيعةوالوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف ووضع الجملة في موضع الكلمة؛ وذلك في الجهاد الفني غير قليل).
ولا شك في أن الأستاذ قد أصاب في هذا القول لب الحقيقة ووضع به أول حد للبلاغة.
وإذا كنت أحب أن أضيف إلى هذا القول شيئاً فذلك أن أخلص منه إلى نتيجة. فاللفظ كما قال لا يزيد على أن يكون جماداً ما بقي في المعجم، ولن تدب فيه الحياة إلا إذا وضع في موضعه من العبارة فأدى المعنى الذي يقصده الكاتب منه. ولن يستطيع كاتب أن يقحم لفظاً على غير المعنى الذي تعود أن يمثله. بل أنه لن يستطيع أن يعيد الحياة إلى لفظ إلا إذا
كان قد اتخذ من قبل صورة بعد صورة جعلته أهلا لأنيعبر عن المعنى الذي يريده الكاتب. فالاستعمال يخلع على الألفاظ هالة من المعاني التي لا تستطيع المعاجم أن تصورها، وبراعة الكاتب إنما تظهر في ترويض اللفظ حتى يلقي على العبارة كل ظلال معناه فيمكنه من إثارة الشعور الذي يريد إثارته في نفوس القراء إذا ما أدركته الأبصار ووعته الأسماع.
ومن الألفاظ طائفة تقبع جامدة بين صفحات المعاجم قد حاول اللغويون أن يحددوا المعاني التي فهموها منها إذ كانت حية تؤدي واجبها في التعبير والبيان. ولكنها بقيت هناك دفينة مدة عصور طويلة لم تنبعث فيها الحياة في كتاب ولم يستخدمها أحد في بيان معنى من معاني الحياة. فمن عمد إلى إعادة الحياة إلى هذه الألفاظ لم يأمن أن يقحمها في غير مادتها فتبقى جامدة ميتة لا تبعث في أحد معنى ولا شعوراً.
فأجد الألفاظ بالتعبير الصحيح الفني هي أقربها إلى الحياة في استعمال أهل هذه الحياة.
ومن الكتاب من يذهب إلى أن من الألفاظ ما هو شريف ومنها ما هو مبتذل.
ولا شك في أن هذا صحيح من وجه واحد، فالسر في شرف الألفاظ أو ابتذالها ما هو إلا تاريخ حياتها السابقة وما خلعه عليها الاستعمال من ظلال المعاني في التراكيب التي استخدمت فيها والصور التي اختصت بأدائها.
ولكن الشرف لا يقوم باللفظ من أجل غرابته أو ضخامة جرسه؛ فما ذلك سوى شرف زائف يشبه شرف السوقي الذي يعمد إلى غرائب الثياب ليخلع على صورته ما يجذب إليه الأنظار. فمن الألفاظ ما يعده بعض الكتاب كريما فإذا عمدوا إلى استخدامه في بيانهم بقي في عزلة لا يؤدي المعنى المقصود منه أو يبقى نافراً شامساً يضيع جهد الكاتب هباء.
والأديب إذا كان صادق الحس ممتلئ القلب من المعنى الذي يريد أن يعبر عنه لا يستخدم في عبارته لفظاً إلا وهو يقصد من ورائه صورة.
وليس من السهل على المقلد أن يخلع على أسلوبه الجلال بأن يستعير ذلك اللفظ في عبارته، بل أن ذلك يعرضهلأنيخطئ البيان إذا لم يكن في اختياره للفظ منبعثاً عن إحساس صادق يهديه سبيله. ففي هذا الإحساس وصدق التعبير عنه يكمن الإعجاز في الأداء الفني. هذا الإحساس الصادق هو الذي هدى شوقي إلى تعبيره الرائع إذ قال:
دقات قلب المرء قائلة له
…
إن الحياة دقائق وثوان
فهذا البيت وإن كان يفيد في جملته أن الحياة الإنسانية زائلة فانية يحمل فوق ذلك فيضاً من الأحاسيس الدقيقة التي تدرك من ظلال المعنى. فدقات قلب المرء لا تكون إلا مع العاطفة المشبوبة والأشجان الثائرة. ووحي الشاعر يحمله في سرعة البرق إلى تأمل بطلان الحزن وإلى أن كل شيء زائل حتى هذه الآلام الشديدة التي تنزلها الكوارث الفادحة، والحزن وإن كان شديداً عند فقد الأحبة يحمل معه خاطرة أخرى أكثر تحريكا للقلب من الحزن نفسه، وذلك أن كل شيء فإن، وأن الوجود دائب على تقريب الإنسان من الفناء لحظة بعد لحظة في غير توقف ولا هوادة.
وقال شاعر آخر:
وإني لأستغشي وما بي نعسة
…
لعل خيالاً منك يلقي خياليا
وأخرج من بين الجلوس لعلني
…
أحدث عنك النفس بالليل خاليا
فما بين هذه الألفاظ هالات مختلفة من المعاني وهي سر ما تحدثه من الأثر في النفوس. فهذا المحب يستغشي وليس به نوم؛ وهو يخرج من بين الجلوس فجاءة كما يفعل من كان مضطرب الخاطر لا يأنس إلى المجامع الصاخبة؛ وهو يطلب خيال الحبيبة ليلقى خياله؛ وهو يحدث نفسه إذا ما خلا إليها - أليست هذه صورة رجل قد سلب لبه واختل عقله ونسي كل شيء في الحياة إلا صورة الحبيبة التي استولت على فؤاده؟ فهو لا يخبر الناس بحقيقة يريد أن يطلعهم عليها، بل يرسم صورة لما أصابه من الاضطراب والقلق والخيل.
ولأضرب مثلاً قصيراً آخر للدلالة على أن شرف الألفاظ كامن في ظلال معانيها، وأن هذه الظلال لا يستطاع نقلها في تعسف من عبارة إلى أخرى.
قال الأبيرد اليربرعي في رثاء صديق اسمه (بُريد):
أحقاً عباد الله أن لست لاقياً
…
بريداً طوال الدهر ما لألأ العفر
فهو يسأل في لهفة أحقاً لن يرى صديقه مرة أخرى وأنه سوف يقضي سائر أيامه وحيداً محروماً من صحبته وإيناسه. ولكنه لا يقول في ذلك أنه لن يراه ما طلعت الشمس ولا ما هبت الريح ولا ما انعقد السامر في الحي، بل يقول أنه لن يراه طوال الدهر ما لألأت الظباء العفر بأذنابها. فأين وجه البلاغة هناك؟ أليس ذلك أنه كلما تذكر صديقه عادت إليه ذكرى ساعات المتعة الصريحة القوية التي كان يحسها في صحبته إذ يخرجان معاً إلى
الصيد، حتى إذا ما لاحت لهما الظباء العفر تحرك أذنابها وثب قلباهما طرباً وسددا إليها السهام حتى يظفرا بصيد منها ثم يجلسان معاً يطربان سائر يومهما بما أصابا من لذة الصيد والفتوة؟ فلو أراد كاتب آخر أن يستعير ذلك اللفظ في تعبيره عن الألم لفقد صديق حميم لم يكن يخرج معه إلى صيد الظباء في الأيام الصافية لكان جديراً بأن يخطئه التوفيق. فليس هذه الألفاظ بعينها التي تخلع البلاغة على عباراتها وإنما هي ظلال المعاني الخفية التي جعلت لتلك الألفاظ دلالة وأكسبتها شرفاً. ومن الألفاظ الأخرى ما لا يقل في الأداء روعة عنها إذا لم يزد عليها في التعبير عن الحسرة للمتعة المفقودة في مواطن أخرى. فالصديق الذي كان يحس المتعة في صحبة صديقه إذ يمرحان على شاطئ البحر مثلاً لا يزيد على أن يكون سخيفاً إذا رثى صديقه قائلاً (أحقاً أني لن أراك طوال الدهر ما لألأ العفر) وإنما البلاغة في أن يقول مثلاً (ما لمعت أمواج البحر الفاترةُ في أيام الصيف الوديعة) فإذا كان الصديقان ممن يرتادون مجاهل الصحراء معاً أو يجولون بين الغابات العاتية، كان الأجدر بمن يريد أن يعبر عن حزنه لفقد صاحبه أن يقول (أحقاً لن أرى صديقي ما هبت الرياح بين الأغصان، أو ما غابت الشمس وراء الكثبان.
ويمكن أن نخلص من هذا إلى أن خير الألفاظ وأشرفها ما كان جديراً بتأدية المعنى واضحاً في غير عسر، وما كان فيه ظلال من المعاني توحي بالأثر النفسي الذي يريد الكاتب أن يبعثه في نفس قارئه. وذلك لا يتأتى إلا إذا كان اللفظ حياً تحيط به هالة من المعاني يستمدها من الاستعمال في الحياة. وإذا كانت الكلمات غريبة بعيدة عن الاستعمال كانت أحرى بالتقصير عن تأدية حق البلاغة في التعبير.
وقد سار الأستاذ الزيات على هذه السنة في أسلوبه سواء أكان ذلك في ترجمته أمفي إنشائه. غير أنني أقول في شيء من التردد أنه يحاذر أن يستخدم لفظاً يظنه سوقياً أو يظن أن القارئ يراه سوقياً. فهو إذا تحدث عن الماء البارد قال الماء الخِصر، وإذا ذكر عبوس الوجه قال ابتساره وهو يقول: لو عَرفَت لهذا الخطب لتبدد يأسها، يقصد أن يقول لو صبرت للخطب وتجلدت ويقول: اليوم وجدت بي إقهاء عن الطعام؛ وانماث قلبي كما ينماث الثلج؛ وفرقتهم عُدواء الدار. وإني أرى للوزير صَوْرة إلي منذ زمن طويل. وما أظنه يعمد إلى هذا إلا لغاية مضمرة في نفسه؛ فقد رأى بعض الكتاب إذا ترجموا قطعة من
آيات الفن أسفّوا في اختيار ألفاظهم بدعوى التسهل، وما هم من السهولة في شيء سوى التقصير عن شأو البلغاء؛ فإنهم لا يختارون السهل الفصيح ولا يجعلون اللفظ في موضعه الذي خلقه الله له، بل يقحمون الألفاظ في غير مواضعها فتنفر منهم ولا تجود لهم إلا بصور تافهة تضيع لب المعنى وتشوه المشاعر العالية التي يدعون أنهم ينقلونها. فهذا التحري الذي يتحراه الأستاذ في اختيار ألفاظه ليس سوى احتجاج على من يقحمون أنفسهم فيما لم يكونوا له أهلا. على أن الأستاذ الزيات مع هذا التخير لألفاظه سهل واضح عذب في الإسماع دقيق الدلالة على معناه.
والآن أختم كلمتي كما بدأتها بالترحيب بالأستاذ الجليل والابتهاج بالعودة إلى مزاملته في هذا المجمع الموقر. وأسأل الله تعالى أن يسدد خطاه وخطانا في خدمة لغتنا العربية الشريفة.
والسلام عليكم ورحمة الله.
محمد فريد أبو حديد
صرخة العبقرية!
للأستاذ راجي الراعي
هزَّني أمس وأنا أتنقل في دنيا الجبابرة صراخ هائل عنيف كاد يمزق الأثير ويهتك حجاب الأفق فأسرعت إليه فإذا هناك ستة عباقرة يستجيرون بالسماء والأرض، وكأنهم مجموعة آفاق ماطرة وبراكين ثائرة تختلط فيها الحمم المشتعلة بالسيول الهتانة فسألت: ما بكم أيها المنتحبون الثائرون ومن أنتم؟ فكشفوا لي صدورهم فإذا هي تحمل هذه الفظائع:
- أنا جائع واسمي (هوميروس)!
- أنا ظمآن واسمي (فرجيل)!
- أنا عريان واسمي (ديوجينس)!
- أنا أعمى سجين واسمي (المعري)!
- أنا مهشم الجسم واسمي (غاليله)!
- أنا يا عباد الله في الشارع وقد طردني المالك ولا بيت لي آوي إليه واسمي (سبينوزا)!
ففار دمي وأطلقت من أعماق الروح صرخة حمراء مخيفة اهتزَّ لها ضمير الزمان، وهجمت وفي جبيني حمى الانتقام على الخبازين، وجمعت ما لديهم من الخبز وطرحته أمام (هوميروس) صائحاً: كل أيها الجائع، إن خبز الخبازين هو لك لأنك تُغذِّي الخلائق.
وهرعت إلى الجبال وأطلقت الينابيع أمام (فرجيل) صائحاً: اشرب أيها الظمآن فهذه الينابيع هي بعض ما تدفق بها وحيك وإلهامك.
وتصديت للبلهاء المرتدين أفخر الحلل ونزعتها عنهم صارخاً: إن (ديوجينس) الفيلسوف عريان فتخلوا له عن حللكم أيها البله المغتصبون. .
ووثبت إلى الشمس وانتزعت منها ألف شعاع وأسرعت بها إلى (المعري) ليستعين بها، ويرى بعينه الشمس التي تضطرم في عبقريته. .
ورجوت من الخالق أن يوقف دورة الأرض احتجاجاً على تعذيب (غاليله) الذي قال بها ولم يؤمنوا به. .
وشهرت سيفي على الملاَّكين وحملقتُ مزمجراً: افتحوا أبوابكم (لسبينوزا)، أنه أحق منكم ببيوتكم فهو المالك الحقيقي، المالك الأكبر، مالك العقول والقلوب. .
وتنفس أبطالي الصعداء وراحوا يقبلونني قبلة العبقرية والوفاء
أيها الناس، أيها الناس! إن أبطالكم يموتون من الجوع والظمأ والعري والظلم وهم مفاخر تاريخكم وعناوين أمجادكم. . .
إن الأمة التي تقتل نابغها جوعاً لا يجوز أن ينبت الزرع في أرضها. .
إن الأمة التي يموت فيها الفن والفنان ظمأ لا حق لها في الماء
إن الأمة التي تبقي فيلسوفها عرياناً يمزق ثوبها التاريخ. .
أيها الناس إن الإنسانية التي تفخرون بها قامت على سواعد الكتاب والشعراء والفلاسفة والفنانين والمفكرين الذين تشق سيوفهم كثافة الدهور وتترنح بذكرهم الأجيال. .
أيها الناس، أيها الناس! اعترفوا بالجميل وكونوا إنسانيين عادلين. .
راجي الراعي
صور من الحياة:
زوجة تنهار!
للأستاذ كامل محمود حبيب
هب الفتى من فراشه - لدى مطلع الفجر - يستقبل هبّات النسيم اللينة الرقيقة ويستمتع بأنفاس الصبح الندية وهي تعابث فلول جيش الليل المتدافعة نحو الغرب في رهبة وفزع. ووقف يتأمل ماء النيل وهو ينسرب متدفقاً إلى غير غاية، ويرنو إلى الأشجار الباسقة على الضفة الأخرى، وإن أغصانها المتعانقة لتترنح في فتور وتراخ كأنما تجاهد لتلقي عن نفسها لباس النوم الكثيف. وأحس الفتى - وهو مكانه - بالقوة تتدفق في أعصابه وبالنشاط يمرح في إهابه وبالنشوة تسري في دمه، ونسى يوم أن كان طفلاً رطيب العود لين العظم مسلوب القوة واهي الإرادة وقد أصابه اليتم والفقر في وقت معاً، ففقد أباه صغيراً ليعيش إلى جانب أمه وحيدين في ركن من دار، ونسى يوم أن كان صبياً تضنيه المسكنة وتفريه الذلة، يحس وطأة الشظف ولأواء الضيق، يتوارى - أبداً - عن أترابه خشية أن تقتحمه عين وهو في أسمال بالية وضيعة، وخيفة أن يناله لسان سليط وهو يقضم كسرة خشنة تافهة. ونسى يوم أن صار شاباً ينطوي على نفسه في تخاذل وهوان لأنه لا يستطيع أن يتطاول إلى مكانة رفاقه وهو خاوي الوفاض صفر اليدين. لقد كانت أمه تستفرغ وسع الطاقة لتدفع ثمن مكانه في المدرسة ثم يصيبها البهر والإعياء فلا تستطيع أن تحبوه بالجديد من اللباس ولا اللين من العيش. . . فعاشت إلى جانبه تدفعه إلى الغاية التي تصبو إليها نفسها وتصبر هي على الجوع والعري في رضى وإيمان.
أما الآن فقد تخرج في مدرسة المعلمين العليا وعين مدرساً في مدرسة (كذا) الابتدائية، فهو يستطيع أن يحبو نفسه بالكريم من الطعام والشريف من اللباس في غير عنت ولا إرهاق، والدنيا رخاء. فراح يتأنق في مأكله وملبسه ومسكنه ويغدق على نفسه من أفانين المتعة ما أعجزه أن يناله في عمر الفاقة والمتربة. وأحس اللذة والسعادة في حياته الجديدة لا يشوبهما إلا أنه فقد أمه. . . القلب الوحيد الذي يتوثب حناناً وعطفاً ويفيض شفقة ورحمة. فعاش من بعدها وحيداً، لا يصحبه في موكب الحياة إلا خادمه وهو فتى ريفي هرب من جفوة الحقل ليسكن إلى رخاوة المدينة، وإلا بعض زملائه في المدرسة.
واستشعر الفتى الوحدة توشك أن تقض مضجعه وتعكر صفو أحلامه وتقذف به في بيداء الخواطر المضطربة، فهو لا يحس عطف الأب وقد ضمه القبر منذ عمر طويل، ولا حنان الأم وقد ودعته الوداع الأخير منذ سنوات خمس، ولا رقة الأخ وهو وحيد أبويه. أما أهله فقد تنكروا له يوم أن كان في شظف العيش ورقة الحال، فإلى على نفسه ألا يزور ديارهم أبداً وألا يعطف على فقير فيهم وألا يستعين بذي جاه منهم أو يلجأ إلى ذي مال. ومضت الأيام على نسق واحد وقد أقفرت من قلب ينبض بحبه أو نفس تضطرب بالعطف عليه فذاق لذع الوحدة ومرارة العزلة.
وجلس الفتى - ذات اليوم - إلى زميل له يحدثه حديثه وإن نبرات صوته لتكشف عن أسى دفين عاش في قلبه منذ أن كان طفلاً، ونما على السنين وربا واشتد غرسه، وإن عبراته المترقرقة لتنبئ عن شجو يقطع نياط القلب ويقد أوتار الفؤاد. ورقَّ صاحب لصاحبه فقال الزميل (أرأيت - يا صاحبي - مرض نفسك وعلة قلبك؟ إن لكل داء دواء يستطب به!) قال في لهفة، (وما دواء دائي، وقد استعصى عليَّ أن أطب له؟) قال (لا ضير عليك، إن الزوجة والولد هما دواء قلبك وشفاء نفسك، إنهما ولا ريب يمسحان على آثار الضيق، ويمحوان علامات الضنا، وينفثان في الدار البهجة والنور، ويبعثان في القلب السرور والنشوة) فقال الفتى (لا عجب، ولكن أنَّى لي أن أجد الزوجة وأنا أمقت أهلي وأبغض عشيرتي وأفزع عن ذوي قرابتي) قال (أفحتماً أن تتزوج من أهلك وفي الدنيا مراد وسعة) قال (أما أنا فلا أعرف داراً أجد فيها شفاء علتي) قال (ماذا ترى في ابنة الأستاذ فلان؟) قال (هي فتاة لا أستطيع أن أسكن إليها. فأنا أرى في أبيها الرجعية والتزمت وضيق العقل وسفاهة الحلم، والفتاة في كنف مثل هذا الأب تستشعر السجن والغل معاً، فإذا انفلتت من سجنها انفلتت من قيود الشرف والكرامة) قال (هذا وهم باطل، ولكن نفس العزب تصور له خواطر تافهة مضطربة لتقعد به أن يكبل نفسه بالزواج) قال الفتى (لطالما طافت الفكرة بذهني فما دفعني عنها إلا أنني لا أجد من يتحدث بلساني ويكشف عن ذات نفسي) فقال الزميل (لا عليك، فإنا - منذ الآن - رسولك!)
وانطلق الرجل يمهد السبيل لصديقه الفتى، فما لبث الأب أن اطمأن إلى الرأي وأسلس للخاطرة فسميت الفتاة على فتاها.
وذاق الفتى - لأول مرة في حياته - لذة الحياة وهدوء النفس وراحة الضمير وسعادة العيش، فزوجته فتاة في ربيع العمر ورونق الجمال، تتألق شباباً وبهاء، وتشع نوراً وضياءً، وهي زوجة من طراز ممتاز، ترعى شأن الزوج وتحفظ ودَّه وتقوم على حقه، فيها اليقظة والنشاط وفيها الرقة واللطف. فهي تبذل جهد الطاقة لتهيئ داراً أنيقة فيها النظافة والنظام وفيها الهدوء والراحة وفيها السعادة والطمأنينة. وعاش الفتى إلى جانب زوجته يسعد بها ويرتاح إلى لقياها. ثم أقبل الطفل الأول يملأ الدار بهجة ورواءً، ويشد قلباً إلى قلب ويضم فؤاداً إلى فؤاد، وانطوت الأيام
وجاءت الحرب تنذر بخطر عظيم، وجاء الغلاء يريد أن يحطم سعادة قلبين، فعلت وجه الفتى غيرة قاتمة حين رأى راتبه الضئيل يتداعى أمام صفعات الغلاء وهي قاسية عنيفة ويتهاوى أمام حاجات العيش وهي كثيرة ملحة. والحكومة تنظر ولا ترى، وتتحدث ولا تفعل.
وأفزع الفتى أن يرى سعادته توشك أن تنهار لضيق ذات يده فأنطلق إلى المدير يكشف له عن خلجات ضميره ويكشف أمامه عن حاجات نفسه ثم راح يستجدي عطفه ويسأله أن ينتدبه مدرساً في السودان ليجد الحياة الطيبة والنعمة الوارفة. ورق قلب المدير للفتى الصريح فأجاب طلبته.
وعجل الفتى إلى زوجته يزف إليها البشرى. . بشرى راتبه الذي زاد ضعفين في لمحة عين. وعجبت الفتاة أن يضاعف راتب زوجها مرة واحدة فسألته في لهفة (وكيف؟) قال (لقد انتدبت مدرساً في السودان) وابتسمت الزوجة فقال لها (أو يزعجك أن أفعل؟) قالت (حسبي أن أجد لذة الحياة إلى جانبك وأن أسعد بخفض العيش في جوارك، ومالي هنا مأرب ولا حاجة) واطمأنت نفس الفتى حين وجد الخلاص، وحين فر - هو وزوجته وأولاده - من بين فكي الفاقة والغلاء والضيق قبل أن تعصره عصراً يهد من كيانه ويزعزع من سعادته.
يا لرجولتك أيها الفتى! لقد فزعت عن دارك ووطنك لتكون أباً وزوجاً تستعذب الغربة وتستمرئ الضنا وتصبر على رمضاء الحر ولفحه الهاجرة، لتهيئ لزوجك وبنيك حياة طيبة فيها الرفاهية والخفض.
وخَرَّ الفتى - بعد عامين - مريضاً تتناهبه الأسقام من وقدة القيظ وتتوزعه الأوجاع من لظى الحر، فارتد إلى القاهرة يتلمس الشفاء من علته ويطلب البرء من سقمه وإلى جانبه زوجته ترف حواليه رفيفاً حلواً يخفف من ضنى نفسه ويمسح على آلام جسمه.
وطال به المرض والفتاة إلى جانبه يتقاسمها الفتور والملل ويفزعها السجن والمرض، وإن فيها شباباً يصبو إلى الشارع ويهفو إلى السينما وينزع إلى المتعة فما تجد السبيل، غير أنها لم تعدم تعلة تتعلل بها لتفر من الدار ساعة أو بعض ساعة. وبدا عليها الضيق على حين تتصنع الوفاء، وأصابها الخور وهي تتخلق بالنشاط. وللمريض عين نفاذة وأذن واعية وإحساس مرهف، فأرخى الفتى لزوجته العنان علها تجد السلوى والمتاع.
واندفعت الفتاة إلى الشارع وإلى السينما، لا تعبأ بالمريض ولا تعنى بشأنه، وخلفته بين يدي الخادم تعبث به وتهمل أمره. وضاق الفتى بحماقة الزوجة الشابة حين رآها تسرف في الزينة وتغرق في التطرية وتفرِّط في أمر الدار والزوج والولد، فراح يحدثها حديث خواطره في لباقة ولين. ولكن الزوجة كانت قد علقت شاباً آخر ذاقت إلى جواره حلاوة الهوى ورشفت رضاب المتعة ونقعت غلة الحرمان.
وعند الصباح انطلقت الخادم لتوقظ الزوجة فألفت فراشها خالياً. . . لقد طارت الزوجة الخائنة مع شيطان من الناس. . . طارت لتذر زوجها وحيداً على فراش المرض يقاسي ألم المرض ويعاني هم الزوجة.
ونظر الزوج إلى بنيه وهم يتدافعون إلى حجرة أمهم وينادون (أمي. . . أمي!) فطفرت من عينه عبرة جرى لأنه أحس - في يوم ما - أن فقد الأم يخز القلب وخزات جاسية غليظة، ولأنه استشعر لذع الخيانة يسم حياته بسمات الخزي والمهانة، ويسربل أولاده بلباس السبة والعار.
آه، يا لقلبي! إن الزوجة حين ترتدغ في حمأة الخيانة تعلن عن أن دمها لم يشعر يوماً بالمعاني السامية والشرف والكرامة.
كامل محمود حبيب
المازني في عهدين
بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني
للأستاذ غائب طعمة فرمان
وصف المازني إبراهيم الكاتب بقوله:
(إن أبرز مزاياه كانت أن أسلوبه صورة لنفسه الحية الحساسة المتوقدة. . . . وكان دأبه أن يدور بعينه في نفسه ليطلع على كل ما فيها، وأن يجيلها فيما هو خارج عنها ليحيط بكل ما وراءها. . . ولكن قلما رأى شيئاً خارجها إلا من خلالها. . .)
. . . ومن خلال هذا الوصف أعطانا المازني صورة واضحة المعالم دقيقة السمات لنفسه. . . تلك التي ترى الأشياء من مرآتها الخاصة وتبث من خلجاتها حياة فيها. . .
والمازني لا يفتأ يتحدث عن نفسه، وينفذ إلى أعمق أعماقها، ويسبر أغور أغوارها، ويطلع على أخفى خفاياها. . . ثم يرى العالم من خلالها ليتعرف على أسرارها!
فإذا بتلك السلسلة المتصلة الحلقات من التجارب الإنسانية تصبح مادة أدبه، وإذا بذلك النهر المتجمع من قطرات أيامه وسنيه يمد المازني بمعين لا ينضب من الأدب الرفيع.
وتحت معاول الهزات النفسية، والجنبة في رحلاته الطويلة في عالم الفكر والشعور تربت نفسه، وتهذبت، وامحي بريقها الكاذب وبدت خالصة من الشوائب، ناصعة الجوهر. . . فإذا هو يعتز بها، ويحيا لها، وفي سبيلها يسعى، وبها وحدها يعنى.
فإذا أسلمنا بهذا حملنا إلى الشك في قول المازني بأنه (ليس إبراهيم الكاتب الذي تصفه الرواية؛ وإن هذا المخلوق ما كان قط، ولا فتح عينيه على الحياة إلا في روايته) فتلك مغالطة أعظم بها من مغالطة، وتنكب عن واقع الحياة، وهروب عن لذعات السنين الماضية، وذكرياتها المريرة التي قد تكون شديدة الوطأ على نفسه، قاسية الواقع على شعوره. . . وما تلك الفروق بين إبراهيم المازني وإبراهيم الكاتب إلا ضرب من المخادعة واللف يلجأ إليه المازني في كثير من الأحايين.
وقد تغير المازني السنون فيبدو لعينيه إبراهيم الكاتب - وهو يمثل طوراً من أطوار حياته - رجلاً غريباً (لا تعجبه سيرته ولا مزاجه ولا التفاتات ذهنه). فينفر منه، ويجفوه لاختلافه في الاحتفال بالحياة والإعراض عن الدنيا، والوعورة في الأخلاق والنفور من
الناس، والمرارة من الواقع الأليم، والرضى بما هو كائن. . .
فالمازني الشاب بنزوات قلبه، وخفقات روحه، وتسابيح خياله، وانسراح عواطفه قد مضى. . وخلف ذكريات مرة مسجلة على صفحات (إبراهيم الكاتب).
ولست أدري كيف استساغ المازني أن ينفي كونه إبراهيم الكاتب بعد أن قال في الصفحة الأولى من المقدمة:
بدأت هذه الرواية في سنة 1925 ثم عدلت عن إتمامها، والمضي فيها وبها إلى غايتها ونسيتها إلى شتاء 1926 فاتفق في ذلك الوقت أن عرفت سيدة نمساوية تزاول الصحافة والتعليم في آن معاً، وتوثقت بينا الصداقة على الأيام - فقد طال مقامها هنا - فأطلعتني على صفحة من حياتها حافلة بالكروب والمتاعب، ولما كنت لا أعرف لي، مع الأسف، تاريخاً يستحق الذكر، أو حياة جديرة بأن يصغي إليها، أو يطلع عليها السامع أو القارئ، ولما كنت معها في موقف يتقاضاني أن أجازيها بثاً ببث، وأن أقول لها بشجوي، كما قالت لي بشجوها، فقد ركبني عفريتي الذي استراح إلى كتفي، واطمأن إلى استسلامي لقضاء الله فيَّ معه فقصصت عليها حكاية الرواية - كما كنت أنوي أن أكتبها - وزعمت أن هذه قصة حياتي!!! ولما كانت حياتي مستمرة فقد احتجت وأنا أسرد عليها هذا التاريخ المبتدع أن أجعل الختام باباً مفتوحاً)
. . . ثم وصف المازني لإبراهيم الكاتب وصفاً لا أظن الذين رأوا المازني رأي العين يفوتهم هذا التشابه الجسمي بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم المازني. . .
كل هذا يدفعنا إلى أن نقر بأن المازني قد سجل في إبراهيم الكاتب عهداً من عهود حياته، عهداً مليئاً بالهزات النفسية، عهداً بذر بذور التشاؤم في نفسه، وأسلمه إلى شيء يشبه القنوط، عهداً لم يخل من أخطاء ونزوات وزلات وهفوات، حتى اضطره آخر الأمر إلى أن ينكر ذلك الرجل الذي يهرب من العقل، ويغور في كهوف العاطفة، ويهوم في مساربها العميقة. .
و (إبراهيم الكاتب) قصة رحلة، تبدأ بإخفاق، وتنتهي بإخفاق. . ويظل القلب الذي شهد فصولها يتألم من الحاضر، ويتعذب بالماضي الدفين.
وتبدأ هذه الرحلة حين يذهب إبراهيم إلى الريف، بعد موت زوجته، وخروجه من
المستشفى وهو مجروح القلب، يعذبه حب ماري. . . يذهب إلى الريف ليسلو، وليقضي وقتاً في أحضان السكون، ومراتع الطبيعة الريفية الهادئة، بعيداً عن ضوضاء المدينة ووساوس الحب وآلامه. . ولكنه لم يدر أن القدر يترصده؛ فيقع في حب ثان أعنف وأشد. . . هو حب شوشو بنت خالته، تلك الفتاة الغريرة بنت السابعة عشرة، وذات العينين العميقتين السوداوين المعبرتين عن طبيعة صاحبتها، والمفصحتين عن حقيقة جمالها، الحلوة النفس، الخفيفة الروح، الظمأى إلى المجهول.
ولكن المرارة دائماً تفعم قلب المازني، واليأس يصحبه، والإخفاق يطارده؛ فالحب الذي اضطرمت ناره في صدر العاشقين، وجريا معه في مجاريه يتحطم على أعتاب تلك القوة الغاشمة. . . قوة التقاليد. . . فيسافر إبراهيم إلى الأقصر ليدفن هواه الجريح، ويواسي قلبه المضطرب، وليتسلى عما أصابه من إخفاق.
وكأن القدر يلذ له أن يحرك الآثار المرهقة من قلب إبراهيم، فهناك يلاقي فتاة مصرية تدعى (ليلى). . وسرعان ما يختلج في فؤاده لهيب العاطفة التي تعذب بها، وصلى نارها، فينجرف في تيارها إلى الشاطئ ذي الأشواك. . شاطئ الحب الصارم، فيوغل في حب ليلى، ويندفع معها إلى جنائن الفاكهة المحرمة!.
ولكن ذلك الشيطان الظالم. . . الإخفاق. . . دائماً يظلله بأجنحته السوداء، فيصاب بالمرض، أغلب الظن أنه أورثه تلف الأعصاب، وخلق منه إبراهيم الكاتب.
وبعد تلك الرحلة الفنية يسلم نفسه إلى كآبة عميقة، ويأس مرير. . . وفي خلال صفحات الكتاب نرى نفسه الحساسة المرهفة كيف تتعذب، وكيف تشقى بإحساسها. . . فالحياة لم تنر لها الطريق، ولم تهدها إلى نعيم الاستقرار، فظلت هائمة لا يثوب إليها الاستقرار، ولا تركن بزورقها الحائر إلى شاطئ الهدوء.
فلا غرابة - إن اتجه إبراهيم الكاتب إلى التشاؤم بعد هول العاصفة، يلوذ بكهوفه، يرضي فيه نفسه الجريحة، ويحاول أن يحسب الألم عنصراً من عناصر الحياة:
(اسمعي يا ثوثو. . . لقد أهاب بنا نتشه أن نحيا حياة خطرة. . . ولكني أقول أنه ينبغي أن نحيا حياة مؤلمة!. إن الألم لا سخيف ولا بشع. . . انظري هذه الشمس التي تنحدر للمغيب. . . إن للشمس بقعها، والشمس على رغم من بقعها هي حياة الأرض. . . هي
وحدها الحياة. . . والسعادة أيضاً لها بقعها. . . ولك أن تسمّيها آلاماً. . . ولكن هذه الآلام هي التي تجعلنا نقدر السعادة التي نفوز بها، والحياة بالقلب هي الحياة الثامنة، أما من يبلد قلبه؛ من يخنقه فهذا إنما يحيا حياة هندسية في ناحية واحدة).
هذا الشاب المتوقد كم عذبه إحساسه، وشقي بعاطفته؛ فكان يحس في قرارة نفسه بعد أن أنهى آماله، وتحطمت أحلامه - أنه يحسن به أن يستقر، ويهدأ ويلقي جسمه المنكود المتعب، ونفسه المنهوكة المثقلة بأعباء الحياة في ركن يستكن به. . . في بيت يربطه بالرباط المقدس، وتظلله ظلال وارفة من التآلف والحنان. . ولكن أنى له ذلك؟! ألم يحاول أن يتزوج من ميمي الفتاة التي أحبها، وأحبته واستغرق الاثنان في حبهما، حتى إذا أشرف على الزواج وقف ذلك الجدار المرتفع من التقاليد. حائلاً دونه ودون ما يصبو إليه.
وليلى؟. . الفتاة الظريفة الحركة الحلوة التعبير، الناضجة الجسم، السمراء اللون، الدائمة التفكير. . . لقد هام بها فجاء إليها مرة قائلاً (. . إن هذه اللحظة رهيبة في حياتي فهل توافقين على الزواج مني؟. .) فتجيبه (يا حبيبي المسكين أجننت؟!).
وفي هذه اللحظة الرهيبة تتبين له حقيقة ليلى، وتكشف له سطوراً من صفحات ماضيها القاتم، وتزرع في قلبه المفتون أشواكاً، وتذر في عينيه حفنة من رماد!
ويتحطم كل أمل له في البيت المنشود، ويظل الاستقرار بعيداً عنه، نفوراً منه، ويظل قلبه المرهف يتجرح الصاب في صمت!. وينظر إلى سجل أيامه الماضية من بعيد وهي متوارية خلف آفاق الماضي، والدموع تملأ قلبه، والغصة في حلقه.
وذات مرة تسأله أمه:
- يا بني ألم تفكر في الاستقرار؟
- الاستقرار؟!. . إن البيوت الثابتة إنما اخترعت لأنالإنسان اشتهى السلامة وطلب الأمن، وأراد أن يكون مطمئناً إلى ما يتوقع. . فإن الخيال لعنة. . والحياة تظل تجربة حتى يكون للإنسان بيت ويشعر بأنه له، ويصبح هو ملكاً لهذا البيت، مشدوداً إليه، مقيداً به، والناس في العادة يرتاحون إلى هذا الشعور، ويحبون أن يكونوا على يقين من أن هناك وسادة يضعون عليها رؤوسهم كل ليلة، وأن هناك امرأة يسمونها الزوجة ترقد إلى جانبهم. . نعم فإن الإنسان إنما يطلب البيت لأنه يطلب الزوجة، وهو يطلب الزوجة لأنه يريد أن يريح
نفسه من متاعب الإحساس الجنسي!! كأنما هو يريد أن يفرغ من الأمر مرة واحدة وفي لحظة واحدة. . هذا هو الاستقرار. . وليس فيه ما يخدم الآداب والفنون أو يساعد على التقدم.
وهكذا يخلص إبراهيم الكاتب إلى هذه الفلسفة يحاول فيها أن يقنع نفسه ويرضيها بالتعلات، ويسوغ إخفاقه بأشياء لا يرضاها إلا القلب الكسير!
فلا جناح أن يتجه المازني في ذلك الدور المضطرب، إلى الكآبة يغرق في لججها، وإلى التشاؤم يتسلى في قناعته، وإلى الألم يستسيغه، ويستمري مره، وإلى اليأس من كل شيء.
وخيل إليه (أن المرء لا يستطيع أن ينظر إلى الحياة بإخلاص إلا بعين يمتزج بها التشاؤم والتسامح، وأن الدنيا حافلة بالسوء والمقابح، وأن الحياة فنها - أقوى فنونها - التثبيط، وأن الإنسان يعيش سنين وسنين ويتصل بمن لا يحصى عددهم من الناس، ولكن ما أقل الموافق منهم!. . وأن خاتمة كل حياة الأسف والندم. . وهما جيل ينمو معنا طالعاً من أقدامنا، وقلما نعرف اسمه في صباناً، وما أكثر ما نتوهمه جيلاً رائعاً جليلاً. . وإنه لرائع وجليل. . ولكنه مخيب للأمل. . ويعلو الجبل أمامنا ويتضخم ونحن نصعد فرحين بالحياة، مغتبطين بالعيش، ثم لا نلبث على الأيام أن نتمهل وندير عيوننا، ونرجع البصر فيما خلفنا ووراءنا، فتأخذ عيوننا شقوق الفضائح وفدافد اليأس، وأودية السقوط. . ومع ذلك نظل نصعد في جيل الندامة، وماذا عسانا نصنع غير ذلك؟ ويجيء يوم نهرم فيه، وتكل أرجلنا، وتجف أنسجتنا، ونعيا بالأصفاد، فنقعد على قنة مريحة، وننظر إلى جداول الحياة المنحدرة. . الحياة التي تظل تترقرق، ويظل واديها خصيباً، وإن أخفقنا نحن، ونشفنا واحداً بعد واحد فنتعلل بذكرياتنا، وتبدو لنا هذه الذكريات أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها!).
هذه الصورة الرمزية القاتمة الدقيقة التي رسمها المازني ليمثل فيها أدوار الحياة الإنسانية تمثيلاً يحمل إلى النفس كثيراً من الأسى والحسرة. . هي خلاصة فلسفة إبراهيم الكاتب بعد أن ألقى رحاله في أحضان اليأس، والإخفاق، يحسب أنه معذور إذا بكى إساره، وحاول أن يتلهى بسجنه. . وبدت له الصور القائمة في خميلته، صور الذكريات الحلوة المرة، الباسمة القاتمة (أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها) في نظر اليائس على الأقل!
وإلا فماذا كسب من الذكرى؟
أحب ماري ثم أراد القدر أن يسخر بمنطق الحب، فافترق عنها. . ولكن ذكرياته معها ظلت حية تعمر مخيلته، وصحبته إلى الريف موطن العزاء والسلوان. . حتى إذا أحب ثوثو بقيت ذكرياته تملأ قلبه مرارة. . ثم تحول حبه إلى ثوثو قبضة من إخفاق. . وبعضاً من ذكريات كانت تعذبه وهو غارق إلى أذنيه في حب ليلى!.
ومع ذلك فهو يحسب الذكريات (أجمل وأسبى من الحوادث التي ولدتها).
(البقية في العدد القادم)
غائب طعمة فرمان
ماذا علمتني الحياة؟
تأليف الأسقف و. ر. أنبج
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
تقديم الكاتب:
(ولد عام 1860 في مقاطعة يورك شير. اشتغل محاضراً من 1889 - 1804 في جامعة اكسفورد (كلية هوتفورد). ثم كان قسيساً لإحدى كنائس لندن بضع سنوات، ثم أستاذاً للاهوت في كلية ماجدولين كمبردج وعين عام 1911 أسقفا لكنيسة (سنت بول). ثم ترك الخدمة العامة 1934. ألف ونشر ما يزيد على أربعين كتابا ومن بينها كتب قيمة عن الصوفية والمتصوفين).
ماذا علمتني الحياة؟ إن سبعة وثمانين عاماً يعيشها المرء كافية لتعليمه شيئاً.
كان ماركوس أوريليوس يقول: إن رجلا حصيفاً في الأربعين من عمره يرى من الحياة ما يكفي لتعليمه الدور الذي سيمثله على مسرحها. ولعله مصيب في قوله. إن العقل والضمير قد بدا - إلى حد بعيد - يستيقظان في القرون الوسطى. أحسب أن هذه المقالات لن تكون إلا يوميات مركزة على طراز أميل، غير أنني ذكرت كل ما يمكن قوله عن حياتي في كتابي المسمى (وداعاً أيها الوادي) الذي كتبته للسادة لونجمان عام 1934 وذلك حين تخليت عن كرسي المسؤولية في التوجيه الروحي، وأحسب أن طبعة ذلك الكتاب قد نفدت الآن، لأن قاذفات الألمان قد دمرت مستودعات الناشرين. ولعل الأمل غير بعيد في إعادة طبع ذلك الكتاب إذا كانت هنالك رغبة في تسجيل حياتي المتواضعة إذ لم يبق شيء يتصل بها غير ما هو محفوظ في سجلات الأكاديمية البريطانية عن تاريخ حياة الأعضاء والذي قد ينشر بناء على رغبتي. لذلك لا أجد مناصاً من المرور مرور الكرام بما نشر سابقاً عن حياتي وأنا أكتب هذا المقال.
لقد تعلمت شيئاً واحداً بصورة لا تقبل الشك، ألا أحسن الظن بنفسي كثيراً. وكلما أويت إلى فراشي تمر الحماقات وأعمال الطيش التي تتصل بالنصف الأول من حياتي، كفلم متصل الحلقات، أمام عيني تحملق في مكشرة عن أنيابها. يقول الكونت كسرلنج: علينا أن لا
نزعج أنفسنا بأمور حدثت قبل خمس عشرة سنة، غير أنني لا ألقي اللوم عن نفسي. حينما أفكر في الحنان الذي كان يغدقه علي أبواي وأهلي، وبعواطف الصداقة الخالصة التي كان يغمرني بها الأصدقاء، لا أجد مناصاً من اتهام نفسي بعدم المبالاة ونكران الجميل، وهو خطأ في حد ذاته جد خطير.
والذي يبدو لي أننا لا نتذكر من مثالبنا غير التي لا وجود لها في أخلاقنا الآن. إن ذاكرتي تكاد تفيض بالحماقات التي لم أسجلها عن نفسي وهنالك أسرار يحملها الموت معي إلى القبر وهي مزيج من القسوة والأخطاء والطيش.
هل نحن ملزمون أن نطبق على أعمالنا مبدأ (لا تحكم على نفسك). قال سنت يول: (لا أستطيع الحكم على نفسي). وقالت بورشيا: (نحن نطلب الرحمة من الله). إن الله يغفر لنا الذنوب التي نتوب عنها توبة صادقة وإن كنا لا نغفر لأنفسنا بعض ما اقترفنا من ذنوب.
أتراني أستطيع تذكر المباهج الكثيرة التي مرت بحياة كان التوفيق الظاهري حليفها في الدنيا؟ كلا. لقد كان نصيبي من أوجاع الدنيا أكثر من مباهجها. لقد كان بيت القسيس في القرن التاسع عشر - كبيت القسيس الاسكتلندي - المكان الذي تترنى فيه المثل العليا للخلق والذوق: حياة رتيبة بسيطة تعني بالعقل كثيراً؛ لا فقر ولا غناء؛ صحة وعمل مثمر، وهي أمور لم يكن لها وجود إلا في بيئة من هذا النوع في ذلك الزمان.
كان أبي لاعباً مبرزاً في (الكركيت)، ومعيداً في الكلية التي تخرج منها في أكسفورد، وأبعد الناس عن الطموح. لقد اكتفى من دنياه أن يكون قسيساً مساعداً لجدي شورتون رئيس الشمامسة حتى بلغ الخامسة والأربعين من عمره. حتى لقد رفض أن يكون مطراناً لأبرشية سلسبوري ذات المكانة الممتازة عن طريق التواضع الرخيص والخمول النفسي. وكانت والدتي امرأة عالية الثقافة تعلمت في ظلها تعليما مكنني من اجتياز الفحص لدخول كلية ايثون، بعد دراسة فصل واحد في مدرسة خصوصية، وكان ترتيبي في ذلك الفحص الثاني. لقد ابتسم الحظ لي في ايثون وتتلمذت على أمر أستاذ في الآداب الكلاسيكية وهو فرانيس سنت جون ثاكاري ابن عم الروائي العظيم.
كانت تلك الفترة هي عصر الدراسات الكلاسيكية الذهبي في ايثون. لقد ارتفعت دراساتنا في تلك الآداب إلى مستوى لم تعرفه جامعة كمبردج في تاريخها الحافل المجيد، فحزنا
درجات الشرف، ولكن الحظ لم يداوم ابتسامه فعبس في وجوهنا ونقل أستاذنا العظيم إلى أكسفورد.
لم يكن هنالك مكان لمحاضراتي في كلية (كنج) ولذلك رحت أعلم اليونانية واللاتينية لطلاب ايثون الصغار - ذلك الأمر الذي لم يكن من واجبي. وبعد أربع سنوات مضنية مع أولئك الصغار، نقلت إلى جامعة أكسفورد محاضراً فبقيت خمس عشرة سنة والسعادة ترفرف على رأسي. وحينما أخذ السأم يدب إلى نفسي من حياة الجامعة، قدم لي صديقي القسيس هنسون منزلاً يقع في (وست أند)، وقد صادف التغير الجديد أسعد حادث في حياتي وهو الزواج.
لست أدري هل من حسن الذوق أن أقول ذلك؟ لقد طلب مني أن أذكر ما علمتني الحياة. وهذا الشيء هو أثمن وأروع دروسها. ليس الزواج السعيد هو أحسن ما في حياة البشر، إنما تعلمت إلى جانب ذلك أن الحب لا يختلف في مقداره وإنما في نوعه بالنسبة لنعم الله علينا. حينما قال سنت جونس:(إن الذي لا يحب لا يعرف الله لأن الله هو المحبة)، كان يعبر بأبسط الكلمات عن الحقيقة العليا، وهي أن الحب يقودنا إلى عالم الحقيقة عن أقصر طريق لا يعرفه إلا الذين يحبون.
هنالك يبدو الخالق مجسما في الخير المطلق والصدق والجمال. إن هذه في حد ذاتها ليست في واقع الحياة غير مثل أفلاطونية إنها تخص عالم الروح ولا تصل إليها إلا عن طريق الإيمان، كما تتراءى لنا الصورة في المرأة على حد تعبير سنت يول. إن الحب هو الجناح القوي الذي يحمل أرواحنا محلقة إلى ملكوت الله. لقد أوضح تلك الحقيقة سنت برنارد كلارفو فيما يتعلق بحب الله، لكن سنت جونسي قال لنا إن الذي لا يحب أخاه وهو يراه لا يستطيع أن يحب الله وهو لا يراه.
كثيراً ما رددت وأنا أبارك فتى وفتاة من على مذبح الكنيسة البيت الثاني من شعر شكسبير: (لا قيمة للروابط الظاهرية في تمكن العلائق الروحية بين زوجين كريمين). وهو من أروع ما قيل من الشعر.
لست أرى مانعاً من الخوض في هذا الموضوع. ليس الضرر الاجتماعي من انتشار الدعارة بأكثر من التساهل في شأنها التساهل المعيب في طبقات المجتمع العالية التي
يُفرض أن تكون نموذجاً للفضيلة في الحياة. لقد تدهور الخلق في الخمسين سنة المنصرفة تدهوراً معيباً يدعو إلى الأسف الشديد.
إن السعادة الثانية لزواج سعيد أساسه الحب هي الأبناء. لقد كان أولادنا الخمسة مصدر سعادة خالصة لنا. مات اثنان من أولادي وهما صغيران، وتبعتهما ابنتي بعد مرض طويل، وقد مزق قلبي صوتها فرثيتها بأبيات أعتقد أنها كانت مصدر عزاء وسلوى لقلوب محزونة كثيرة. وتعلم ابني الأصغر في ايثون وفي كلية ماجدولين من جامعة كمبردج، وانتظم في سلك الكهنوت وأحبه الناس كثيراً في يوركشير. وكان ينتظره مستقبل باهر في خدمة الكنيسة. كثيراً ما كنت أردد قول هكتور في إلياذة هوميروس حينما حمل طفله استيانكس بين ذراعيه وهو يقول:(سيقول الناس عنه أنه كان أحسن من أبيه). لكن الحياة لم تمهله. لقد دفعه الواجب إلى التطوع في قوة الطيران الملكية إبان الحرب العالمية الأخيرة، وعين مدرباً، وكان عمله يستوجب أن يطير مع المتمرنين، وقد اضطرت الطائرة مرة إلى الهبوط، وتخلص ابني ريشارد منها، ولكنه حينما حاول إنقاذ رفيقه وتلميذه من الطائرة المحترقة اختنقوا وماتا معاً.
علينا أن نحذر من الآمال الكثيرة في الحياة الأخرى. إننا لا نستطيع تصورها إلا في حدود الزمان والمكان، ولكن إذا كنا من الذين يؤمنون بأن منقذنا المسيح قد ضمن لنا الحياة الخالدة فإن ذلك كاف لأن ننظر إلى الموت بغير ما يتراءى لنا. ولعلنا نوافق وليم بن على قوله:(إن الذين يحبون ما وراء الحياة، لا تستطيع الحياة فصلهم عما يحبون، وليس في مقدور الموت أن يقتل ما لا يمكن أن يموت، ولا أن يفرق بين الأرواح التي جمعها الحب في الحياة والتي سيجمعها ملكوت الله فترى نفسها في المرآة الإلهية وتتحدث بأسلوب طليق. . .)
وقد عينت عام 1907 أستاذاً لكرسي اللاهوت في كمبردج بعد إقامة تقرب من السنوات الثلاث في لندن. كانت حياتي في عملي الجديد رتيبة، هادئة، رضية، وكنت أتمنى أن تستديم حتى نهاية عملي في الخدمة العامة. ولكن التاج بوساطة المستر اسكويث عام 1911 عرض علي منصب مطران كنيسة سنت بول، وقد رأيت أن اللباقة تقضي علي أن أقبل مسؤولية هذا المنصب الخطير.
لن أذكر هنا كثيراً عن الثلاث والعشرين سنة التي قضتها في هذا المنصب، لأن ذلك قد استغرق القسم الأعظم من كتابي المشار إليه عن تلك الذكريات. إنني مدين للصحافة بقسم كبير من التوفيق لعظيم ما تلقتني به من الترحيب والتشجيع. . . لقد لقيت كتبي رواجا عظيما، ودعيت لإلقاء محاضرات لا يبلغها الحصر. قال لي رئيس الوزراء حينما سلمني براءة التعيين: أنه يأمل أن أحيي تقاليد ذلك المنصب الروحي الخطير في كنيسة إنجلترا. لقد كانت تمر بخياله ذكريات رواد الكنيسة وبناة مجدها الأولين من طراز كولث، ودون، وتلستون، وملمان، ومانسل، وشرك، وأحسب أنني قد سرت على أثارهم كأحسن ما يكون، ولكن ليس من حقي أن أحكم على أعمال نفسي. ولا أرى أيضاً ضرورة لذكر الثلاث عشرة سنة التي قضيتها في ريف يوركشير بعد اعتزال الخدمة. إن بلوغ الإنسان أرذل العمر تجربة خطيرة من تجارب الحياة. إنني لا أكاد الآن أشعر بأثر أي شيء من عواطفي. تجري الأيام والشهور والسنون وأنا احسبني في حلم طويل. لم أجد شيئاً في الحياة يستحق أن يتهالك الناس عليه، لأن الدنيا بكل ما فيها من متاع وسرور، ليست إلا خيالا يمر مرور سحابة صيف، وليس في حياة فانية لا شيء يستحق أن يرجى ويؤسف عليه. إلا أن في رحمة الله ما يسع بلادي البائسة وأبناء وطني المتعبين. إن تراخي رباط الحياة التدريجي من جسدي لا يخيفني كثيراً، ولن أبكي كما بكى شاعر الحب الإغريقي ممنرامس وتمنى أن يموت في الستين من عمره؛ وليس كما فعل هوراس الذي كبر في غير أوانه، وأصبح يحس بفقد مباهج الحياة واحدة بعد الأخرى. لا أريد أن أردد قول تنسون المرير:(إن السنين التي تجعل من الطيش اتزاناً في الإنسان، هي التي تأخذ ما تعطي وتترك الظلام في البصيرة والعينين). . .
لعل في استطاعتنا تجنب الإحساس بحالة من هذا النوع في الشيخوخة، وإن كنا لا نرى رأي السير توماس افريري الذي يريد أن نشعر بشيخوختنا إحساساً تُنسى فيه أرواحنا بدلا من الإحساس بضعف أجسادنا. . . أستطيع أن أقول إنني لست تعساً. . . إن الراحة بعد النصب المرهق أمنية جميلة، وإذا كنا نؤمن بصدق الديانة المسيحية فعلينا أن نؤمن بقول لويس نتلسشب:(ليس للموت وجود). إن المسيح يقول في الإنجيل الرابع: (إن الذي يعيش ويتبعني فلن يموت أبداً)
(البقية في العدد القادم)
علي محمد سرطاوي
الفلسفة الوجودية
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
لم يصل المستوى الثقافي في مصر إلى الحد الذي نستطيع معه أن نقول عن حركة فكرية بالذات أو نوع من الفلسفة بأنه قد شاع بين أبنائها وطبقات المتعلمين فيها، ولكننا نستطيع مع ذلك أن نقول عن الفلسفة الوجودية إنها قد شغلت الأذهان وجرى اسمها على الأقلام والألسن واختلف الناس في أمرها اختلافاً كبيراً بين محبذ لها ومندد بها. وهؤلاء يتلقفون أخبارها وينتظرون الأنباء عنها بفارغ الصبر. فيجدون يوماً من يذهب إلى باريس ليعود بعد ذلك فيقول عن شايعيها إنهم فلاسفة الأندية والمقاهي (والمواصلات). وينظرون فإذا بأديب كبير من أدبائنا المعدودين يحمل نبأ خطيراً مؤداه أن الأستاذ الجليل أندريه لالند قد حكم عليها أمامه بأنها فلسفة العدم. فضلا عن أن الجرائد المصرية والأجنبية قد أخذت تنشر عنها أخباراً متصلة الحلقات: فمرة تقول إن الشيوعيين قد صادروا كتاباً من كتب جان بول سارتر - الفيلسوف الوجودي المعروف - في معظم المناطق الأوروبية الخاضعة لحكمهم. ومرة يأتي خبر بأن البابا قد أصدر قراراً بتحريم كتب سارتر لخروجها عما توحي به الشرائع وما تنص عليه الكتب المقدسة. وفي مرة ثالثة يأتي خبر من أسبانيا يصف البوليس هنالك وهو يطارد الوجوديين كما يطارد المهربين والخارجين على القانون. فهذه الأنباء المتواترة من شأنها أن تزعج القائمين بشئون الثقافة والأدب في مصر وأن تدفعهم إلى إثارة موضوعها من حين إلى حين.
ولكن أحداً عندنا لم يناقش هذه الفلسفة مناقشة عادلة صريحة، أو قل إن أحداً عندنا لم يحاول أن يفهم المسألة فهما يؤهله لأن يقف منها موقف المؤيد أو المعارض. فما زالت الوجودية حديثة عهد بالنسبة إلى كثير من الذين يفكرون عندنا ولم تزل موضوعاتها غريبة عن عقولنا ولم تزل روحها غريبة عن مشاعرنا. ويمكن أن نذهب إلى حد القول بأن هذه الفلسفة، وقد جاءت نتيجة لروح عامة أو لحركة معينة في الفكر الأوربي لم تجد كثيراً من القبول لدى أدبائنا ومفكرينا ممن لا يستطيعون الخروج عن نطاق الذوق المصري المتأثر بظروفنا الخاصة كشعب أولاً وكطبقة متعلمة ثانياً. والحق أنها لم تصادف هذا الموقف لدينا فحسب، وإنما وجدت كثيراً من المعارضة ومن النقد في معظم المجلات والصحف
الإنجليزية والأمريكية. وأغرب من هذا كله وأدعى منه إلى الدهشة والتعجب أن أنصارها أنفسهم والمشايعين لها بأفكارهم وكتبهم ليسوا راضين عنها كل الرضا وأنهم لا يوافقون على نسبتها إليهم.
وأصل الإشكال في هذه الفلسفة هو أنها تتطلب روحاً معينة لدى من يؤمن بها ويتعصب لها، وتقتضي أن يكون في نفس الإنسان صفات خاصة من أجل أن يصير واحداً من المعجبين بها. فليس كل إنسان بقادر على أن تجد فلسفة الوجود عنده موافقة ورضا وأن يقدم على قراءتها بنفس مطاوعة، فإن الكثير من النزعات الاجتماعية والتربوية والدينية - وهي الأكبر تأثيراً في نفوس الناس - لا تتلاءم مع الوجودية في أفكارها وميولها. كذلك يلاحظ أن الفلسفة الوجودية أميل إلى الأدب والفن منها إلى العلم والحقائق المقررة؛ ومن هنا كانت تعول دائماً على الذوق وعلى الإحساس أكثر مما تعول على المعرفة الأصولية المستندة إلى خبرة عملية واتجاه نفعي.
وهناك أسباب موضوعية خالصة تدفع بالناس إلى كراهة هذا النوع الجديد من التفكير: فقد اتجه فلاسفة الوجود إلى العناية بظاهرة الموت مثلا وتفسيرها، والكلام عن الشعور بالقرف، والاهتمام بمسألة العدم وتقديمها على ما عداها وتحليل المواقف المعينة التي يوجد فيها المرء ويحتاج من أجل المرور بها إلى تجربة وجدانية من طراز فريد. فمن ناحية الموضوعات التي تدرسها الفلسفة الوجودية نجد أنفسنا بإزاء جملة من الأفكار الغريبة التي إن لم تكن جديدة بالمرة ففي بعض التحليلات والتفصيلات ما يشعرك بأنك تجاه شيء لم يقع من قبل في دائرة البحث أو في مجال التفسير والتعليل.
والوجودية بعد هذا كله ليست أحادية على طول الخط، وإنما فيها فريق مؤمن يستهوى بكتاباته كثيرين ممن يريدون إشباع نزعتهم الصوفية بتحليل المشاعر الدينية والسلوك في طريق الروح. فكير كجورد وبرديائف ومارسل يأخذون جانباً معيناً في التفكير الوجودي ويسيرون على نمط خاص يجعلنا نطلق عليهم اسم الشق الإيماني ونفردهم قسماً واحداً. وقد كان من الممكن بالنسبة إلى هؤلاء أن يبعثوا الشوق في نفوس قراء الأدب والفلسفة من المتدينين وأن يحببوا المذهب الوجودي إلى قلوب الناس؛ بيد أن تحليلاتهم الطويلة، وأسلوبهم في معالجة المسائل، وتطرفهم في ناحية الإحساس المرهف، وتفصيلهم الدقيق
عند شرح الحالات الوجدانية زهَّد الكثيرين فيهم وجعلهم يحسون بالملل والضيق عند قراءة صنوف نتاجهم.
فهذه كلها من المسائل التي توضح لنا السبب المباشر في أن الكثيرين من الأدباء والمفكرين لم تعجبهم فلسفة الوجود، وتوقفنا على أصل الداء في كراهية الناس لهذا النوع من التحليل العقلي ولكنها بغير شك لا تقنع الباحث، ولا تصده عن مراجعة هذه الأفكار مراجعة الإنسان المسئول عن رأيه، ولا توقفه عن قراءة ما ينتجه فلاسفتهم من الكتب والمقالات والبحوث. وأغلب ظني أن الإنسان الذي يحول بين عقله وبين هذا الزاد الفكري الجديد سيخسر كثيراً من كونه قد حرَّم على نفسه ضرباً من ضروب الإحساس بالحياة على نحو غير مألوف وأساء إلى فكره بأن أبقاه في دائرة مقفلة من المذاهب التقليدية العتيقة.
فالفلسفة الوجودية إنما جاءت كرد فعل لطغيان التفكير المذهبي على عقول الناس وأرادت أن ترفع عن كاهل الفكر البشري هذه الأثقال التي تركتها أحقاب من الفلسفة التجريدية الجوفاء. وبالإضافة إلى هذا كله غيرت من اتجاه التفكير واستبدلت بالموضوعات القديمة غيرها مما يُعدُّ داخلاً في نطاق التحليل العادي وبطبيعة الحال أسقطت من حسابها في هذه العملية مجموعة من الأفكار البالية التي كان سيستحيل على الإنسان أن يجد لها تفسيراً معقولاً وإن ظل يتأملها أجيالا بعد أجيال. وذلك كله بحكم خروجها عن نطاق البحث الفلسفي، ومن باب أولى عن نطاق البحث العلمي. فهي مسائل معلقة ليس يتأتى الفصل فيها لطائفة من البراهين دون غيرها ويستحيل أن تخضع لمناقشة سليمة معقولة. ولذلك صار الموضوع الأساسي بالنسبة إليها هو الإنسان؛ وعدنا من جديد نحس أمام مفكريها بأن الوجود في حد ذاته مشكلة على نحو ما أعلنها شكسبير على لسان هاملت في يوم مضى
وفي الفلسفة الوجودية نزعة ميتافيزيقية واضحة؛ ولكن لا بد من أن نراعي دائماً فيما يتعلق بهذه الميتافيزيقا أنها ليست مثل غيرها، وأنها تنفرد بصفات خاصة ومعالم ذاتية هي وليدة التيار الفكري السائد بعد الانحلال الحضاري الأخير في الغرب، وتتبدى مظاهر الانحلال في تلك الحياة الكسيحة التي انتهت إليها أوربا، والانهزامات المتوالية على فرنسا وألمانيا والدويلات المجاورة لهما بالذات، فضلاً عن المجاعات الحاصلة من يوم إلى يوم ومعاناة الجيل الجديد من الشباب الأوربي لألوان من العيش ولضروب من الحياة لم يألفوها
من قبل. فالمراحل الفكرية القلقة التي مرَّت بهم، والحالات النفسية الشاذة التي خضعت لها شعوب الغرب المثقفة الحية كان لها أكبر الأثر في مشاعر الشبان وآرائهم، وكانت النتيجة أن آمنوا بالمذاهب ذات الصبغة الزاهية، وذات الطابع الحاد، وذات الميل المتطرف. وبعد هذا كله - أو قبل هذا كله - أبعدتهم كل البعد عن فلسفات الخيال والوهم، والأفكار التي لها طابع روحاني زائف أو خصائص دينية كاذبة.
ومن هنا كانت الميتافيزيقا عندهم غير متملقة بشيء خارج الوجود، ولا باحثة في أمور تتعدى نطاق المحسوس. وبطبيعة الحال أنا لا أعني الطائفة المسيحية من الوجوديين، فهؤلاء لهم حكمهم الخاص. إذ أن فلسفة الوجود - كما قلنا - فيها شق مؤمن يدخل تحت لوائه من سبق أن ذكرناهم بالإضافة إلى مارتن بوبر وكارل بارث. أما الشق الآخر فإلحادي متطرف مثل هيدجر وسارتر وسيمون دي بوفوار ومارلو بونتي. وهؤلاء الأخيرون هم الذين نعنيهم كلما تحدثنا عن ميتافيزيقا الوجود. وهي ميتافيزيقا تخضع للتجارب الحية داخل الوجود، وموضوعها الوجود في العالم كما يقول هيدجر. ونجد التعبير عنها كاملاً في كلمة سيمون دي بوفوار إذ تقول:(في الحق أنه لا يوجد أحد خارج الوجود.) وبهذا التصريح منها اعتقدت في أنها قد حدت من الحلم الذي طالما خطر على أذهان البشر بوجود موضوعية غير إنسانية، وأنها قد أثقلت الخيال بقيود وروابط تجعل من المستحيل بالنسبة إليه فيما بعد أن يخرج على ما هو ماثل أمامه وقائم من حوله. ويؤيدها سارتر في هذا المعنى بقوله:
(ليس هناك أكوان أخرى غير كون إنساني واحد هو الكون المنسوب إلى الذاتية الإنسانية). ويعني سارتر خصوصاً بأن يقدَّم لنا تفرقة هامة حينما يتكلم عن الميتافيزيقا وهو يقدم عليها علم الوجود بوصف هذا العلم تمهيداً للميتافيزيقا التي يأتي على عرضها في كتبه. وينظر إلى هذا العلم كما لو كان بحثاً في الحالة الراهنة للموجود، والأقسام التي يمكن أن يرد إليها (كالموجود في ذاته والموجود لذاته). أما الميتافيزيقا عنده فهي التي تضع المشكلة النهائية الخاصة بإمكانيات هذا الموجود على النحو الذي يوحي به علم الوجود.
فالميتافيزيقا الوجودية عند سارتر وإضرابه ليست بحثاً في المجهولات، ولا تخمينا في مسائل الروح والعالم الآخر، ولا هي عود إلى النظر في مراتب الوجود وعالم الأفلاك. . .
ومن هنا حاول البعض في انتقاده له أن يتهمه بأنه مادي كما فعل روجيه تروافونتين في كتابه عن الاختيار لدى جان بول سارتر. وبذلك نلاحظ دائماً عند الكلام في تاريخ الميتافيزيقا - كما هو واضح - جديدة كل الجدة ولا غريبة كل الغرابة عن الفكر الفلسفي؛ فلها إرهاصات من الفلسفات الباحثة فيما يدخل ضمن حدود الموجودات على الرغم من خروجه عن نطاق التجربة.
وإذا حاولنا أن نعود بأذهاننا إلى الوراء من أجل النظر في الأصول التي نبعت منها فلسفة الوجود اصطدمنا بمشكلة أخرى لا تقل إعساراً عن أي مشكلة تصدت لها هذه الفلسفة. فالواقع أنه من الصعب جداً أن نعثر على خط واحد مرت به هذه التيارات المتلاحقة في إبانة وانكشاف. بل يصعب في الغالب أن تجد نقطة بدء واحدة لدى جميع الذين كتبوا في هذا الموضوع. فبعضهم يردها إلى شخصية سقراط واعترافات القديس أوغسطين. وضد هؤلاء مباشرة من يزعم أن أصلها موجود في فلسفة الحياة عند نيتشه وإلى شعر الحياة في الحركة الرومانتيكية. ومعظم الذين كتبوا تأريخها يقررون بزوغها من محاولة كيركجورد الفلسفية عندما عارض هيجل في إيمانه بالمطلق وبالروح الكلية. ولكن هذا ما يمنع الكثيرين من أن يجدوا لها مشابهات ومقابلات في كتابات باسكال وقصص إبسن ودستويفسكي وفي أشعار بودلير وأرتور رامبو
أما عن سارتر نفسه فقد رجع بتفكيره إلى كل من هُسِرْل وهيدجر. وهذا واضح وطبيعي؛ فعلى الرغم من أنه يصعب حتى الآنتحديد الموضوعات التي بحثها سارتر تجديداً ختامياً فمن الممكن أن نجد لديه نوعين من التفكير أحدهما نفسي والآخر متافيزيقي. وكلاهما راجع إلى الأبواب التي تفتحت على أيدي هذين الفيلسوفين لأول مرة في تاريخ الفكر.
فلم يعد من الطبيعي بعد هذا كله أن نظل في موقف سلب بإزاء هذه الفلسفة التي شغلت أذهان الناس وقتاً طويلاً والتي لها من تاريخها ما يؤهلها لأن تعبر عن اتجاه معين في المراحل الحاضرة من حياة الأفراد والجماعات. ولا بد من أن نحاول شيئاً بازاء هذه الحركة الضخمة؛ فإن لم يكن بد من شيء فلا أقل من أن نتأثر بها تأثرنا بالسحابة الماضية في يوم صائف.
عبد الفتاح الديدي
من شجرة الدر
لحضرة صاحب السعادة عزيز أباظه باشا
فرغ الشاعر الكبير عزيز أباظه باشا من مسرحيته الرابعة (شجرة الدر) فقدم بها إلى الشعر التمثيلي العربي الناشئ قطعة رائعة تزيد في ثروته وتدنيه من كماله. وقد تفضل فآثر (الرسالة) ببعض مشاهد هذه المسرحية ننشر اليوم مشهداً منها شاكرين.
الفصل الأول - المشهد السادس
عز الدين أيبك: قائد الجند
أقطاي
بيبرس من أمراء الجيش.
قلاوون
(يدخل بيبرس وقلاوون على الملكة شجرة الدر وكانت قد أرسلتهما في مهمة سياسية إلى أمراء الشام، وكان في حضرتها عز الدين أيبك وأقطاي)
شجرة الدر: يا صاحبيَّ فنبِّآني ما الذي
…
خلَّفتما في تلكم الأمصار
بيبرس: يا مَلْكة الوادي سلمتِ تقينَه
…
وتقينَ شعبك عاديَ الأخطار
إن ندَّ والٍ، أو تخلَّف حاكم
…
فكِلي الأمورَ لعقلك الجبار
فإذا همو انتقضوا وثاروا فاقذفي
…
بالنار فوق مناكب الثوَّار
ودعي حسابهمو العسيرَ لجيشك ال
…
جرار يوفض بالقنا الخطار
شجرة الدر: أحسنت بيبرسُ العزيز ففي الذي=لمَّحت لي عنه الجواب الشافي
فضلُ السفير أداؤه في رقةٍ
…
ما ساء من نبأ وفي إلطاف
ابدأ بأسوأ ما حملتَ ففي يدي
…
حسمٌ لكل ملمةٍ وتلافي
بيبرس: مولاتي الأحداث حولك أوشكت
…
تنقض بين صبيحةٍ ومساء
جيرانك الأدنون ضمُّوا شملَهم
…
وتجمعوا لخيانةٍ نكراء
حسدوك فانتقضوا عليك. . . فهذه
…
حلبٌ تهم بغدرةٍ شنعاء
والموصل استشرى عليك عداوة
…
والحقد ملء جانب الفيحاء
شجرة الدر: بيبرس في هذا الحماسِ يؤودني
…
تمحيص ما تلقي من الأنباء
هلا هدأت؟
بيبرس: سلي أجبك فإنني
…
قد طال في تلك الديار عنائي
شجرة الدر: ما يفعل (الملك الرحيم)؟
بيبرس: تركته
…
متحاملاً ومجاهراً بعداء
شجرة الدر: وحليفهُ (الملك المظفر)
بيبرس: مثله
…
يطوي أضالعه على بغضاء
شجرة الدر: والناصر الملك الذي أُصفي له ودي؟
قلاوون: كبير العصبة الحمقاء
جمعوا على جبْنِ النفوس صفوفَهم
…
أفتحفلين بعُصبة الجبناء
أيبك: أسألتماهم ما الذي قد أنكروا
…
منها الغداة
قلاوون: أجل
أيبك: فماذا قالوا؟
قلاوون: لغو من القول السقيم وحجة
…
صالوا لتثبت في العقول وجالوا
أيبك: فاعرض لحجتهم وسُقها
قلاوون: أعفني
…
فلكل قول موقعٌ ومجال
أيبك: يا ملْكة الوادي مُرِي تتثبتي
شجرة الدر: لم تخفَ عني هذه الأقوال
قالوا: فما حكم النساء بجائزٍ
…
شرعاً وقوَّام النساء الرجال
بيبرس: هذا الذي زعموه
أيبك: وهمٌ باطل
…
ما كان جنس المرء خالق فضله
أيٌ من الجنسين بالغ شأوه
…
- لا فرق بينهما - ببالغ عقله
لو قد رقيتِ الملك وراثةً له
…
قلنا اعتراضٌ في صميم محله
لكننا اخترناك رأياً واحداً
…
فنزلتِ أنت على مشيئة أهله
إجماعُ شعبٍ راشد لم يجتمع
…
متضافراً من بعده أو قبله
شجرة الدر: دع ذاك أيبك ولنعد لحديثنا ال
…
مأثور عن أمرائنا الأعلام
هل أنكروا أسلوبنا في الحكم
بيبرس: لم
…
يتحدثوا في ذاك قط أمامي
شجرة الدر: أفناقمون عليَّ أنِّي قِبلتي ال
…
شورى وأحكامُ الكتاب إمامي
أم غاضبون لأنني نكلت بال
…
غازي وصنت كنانة الإسلام
صبراً بني أيوب لا تتعجلوا
…
كالغافلين مصائرَ الأيام
أنا زوج عمكمو أسرَّ إليَّ بال
…
نجوى فقلت: اهدأ ونم بسلام
إني لحافظةُ التراثِ لآلهِ
…
عهدي إليه على المدىَ وزمامي
(ثم تلتفت لبيبرس)
أكمل حديثك
بيبرس (لقلاوون): هل لدينا غير ما
…
قلنا؟
قلاوون: أجل فلهم لديك رجاء
شجرة الدر (في استهزاء):
…
بل قل لهم أمرٌ
قلاوون: أتُأمرُ سُدةٌ
…
عزت كما عزَّ السنا الوضاء
قالوا إذا أسرى الفرنجةِ أُطلقوا
…
وهمُو الملوكُ الصِّيدُ والأمراءُ
فالمسلمون ممالكا وجحافلا
…
وضُربت عليهم ذلةٌ وعفاء
شجرة الدر (في بسمة ساخرة): أكذاك قالوا؟ لن يكونَ على المدى
…
ما يبتغيه أولئك
السفهاء
(ثم تقول كمن تستأنس بالرأي):
فإذا رأيتُ من السياسة والحجى
…
أن يطلقوا
أقطاي (في دهشة): أترينَ ذلك؟
شجرة الدر: ربما
أقطاي (في إصرار): أخشى إذا همْ أُطلقوا أن يشهروا
…
شعواَء تُمطرنا الحديدَ المرزما
درج الصليبيون ألا يحفظوا
…
عهداً
شجرة الدر: أعيذك أن تزِل وتظلما
قد ينقضون، وقد تفضنا مثلهم
…
لكننا كنا أعفَّ وأكرما
لا تخش، ربَّ ذرائعٍ أحكمتُها
…
مهدن للوطن الطريق الأقوما
أقطاي: مولاتنا فالجيش لم يُعلم بما
…
يجري
شجرة الدر: وهل من حقه أن يُعلما
أقطاي: هو حامل الأعباء غير مؤازرٍ
…
عن مصر إن خاضته يوماً أيوما
شجرة الدر: أدرِي ولكن السياسة مهنةٌ
…
إن راضها جيش هوى وتحطما
أقطاي دع ما لست تحسنه لمن
…
عرك الأمور وساسها فتعلما
عزيز أباظه
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
حول مشكلة الأداء النفسي مرة أخرى:
في بريد العدد الماضي من الرسالة، طالعت كلمة وجهها إليَّ الأديب الفاضل عبد المنعم سلمان مسلم حول مشكلة الأداء النفسي في الشعر العربي، ولا يسعني قبل الرد عليه إلا أن أبادر بشكره على تلك التحية الكريمة التي شاء ذوقه ولطف مودته أن يخصَّ بها هذا القلم!
يقول الأديب الفاضل بعد تحيته: (ولكنني لا أوافقك، بل أعتب عليك عتباً كبيراً حينما تصب حكمك القاسي على الشعر العربي القديم جملة واحدة، هذا التراث الذي نفخر به على مرِّ الزمن، هذا التراث الذي جعلته خواء من الروح والعاطفة. إنك بهذا الحكم تهدم حضارة، وتبعثر أمجاد أمة، وأنا أعيذك من هذه النظرة، وأرجو تراجع نفسك، وتستشير ذوقك وحسك، وأنا موقن أنك لن ترضى لنفسك أن تسم الشعر العربي بهذه السمات: (شعر السطوح الخارجية)، شعر يشعرك بفراغ (الوجود الداخلي) عند قائليه، لأنهم كانوا يعيشون خارج (الحدود النفسية). . .
ثم يقول الأديب الفاضل بعد ذلك: (ألم تقرأ شعر المتنبي؟ اقرأه في السيفيات والكافوريات، فتراه شِعراً مُنبثقاً من أعماق النفس، هو في ظاهره مديح، ولكن وراء هذا معان كلها أثر للإحساس النفسي والانفعالات الحزينة تارة، المريرة أخرى، الساخرة كثيراً. واقرأ شعر ابن الرومي في رثائه ومدحه وهجوه، فهو صادر عن نفس حساسة شاعرة، وألفاظه شفافة موحية. واقرأ في كل عصر من عصور الأدب، فستجد شعر النفس، وصدق الفن في أكثر ما تقرأ). . .
هذه هي الكلمات واللفتات التي تحفل بصدق الغيرة على تراثنا العربي القديم ممثلاُ في الشعر، وهي غيرة من حقِّ صاحبها عليِّ أن أحمدها له، مهما بعدت الشقة بيني وبينه، واختلفت وجهات النظر. . . أما عن حُكمي على الشعر العربي، فأنا لا أصدر حُكماً إلا وأنا مؤمن به، ولا أسوق رأياً إلا وأنا مُطمئن إليه؛ ذلك لأنني ما نظرت في فن من فنون الأدب إلا وأنا أنشد الدراسة بغية التقويم، وإطالة التأمل رغبة في النقد، وإنعام الفكر سعياً إلى كشف غامض أو جرياً وراء تقرير مذهب؛ تلك هي عادتي كلما تناولت أثراً من آثار
الفن وكلما لقيت رجلا من رجاله، سواء أكانت اللقيا في عالم الأحياء أم في عالم الشعور والسطور. . . من هنا أود أن أقول للأديب الفاضل إنني ما وسمت الشعر العربي القديم بتلك السمات، إلا بعد أن صاحبتهُ مصاحبة كانت في حساب الزمن خمسة عشر عاماً، وكانت في حساب الدراسة النقدية خمس عشرة مرحلة، في كل مرحلة منها ما شاء من إعادة النظر، وما شاء من تقليب الرأي، وما شاء من مراجعة النفس، وما شاء من استشارة الذوق والحس والوجدان!
أنا يا صديقي لا أنكر أن في الشعر العربي القديم لوامع رائعة من الأداء النفسي، ولكنها كما قلت لوامع تطغى عليها تيارات الأداء اللفظي، ذلك الأداء الذي يعني بمادية التعبير أكثر مما يعني بظلاله النفسية. . . إن الأداء النفسي موجود في شعر المتنبي كما هو موجود في شعر ابن الرومي والبحتري وأبي تمام وما شئت من كبار الشعراء، ولكن أي وجود؟ أنه وجود لا يملأ سمع المتذوق لهذا اللون من الأداء، ولا يحيط بمنطقة الشعور تلك الإحاطة الكاملة التي نلتمسها في الإثارة الوجدانية. . . عندهم إثارة، نعم. ولكنها الإثارة التي تنبثق من ثنايا الذهن لا من شغاف القلب، وتنطلق من وراء اللسان لا من حنايا العاطفة؛ وتلك هي الإثارة العقلية التي دفعت بهم إلى خارج (الحدود النفسية) كما قلت، وبعدت بهم عن أن يكونوا قمماً من قمم الأداء النفسي الذي أشرت إليه!
لقد كان الشاعر القديم لا يخلو إلى نفسه إلا في القليل النادر ولقد كان مشغولا عنها بأغراض الحياة ومطالب العيش ومظاهر الغلبة على الأقران والتشوف إلى الوقوف بباب السلطان، ولذلك ضرب بجناحيه في كل أفق وبقى أفق واحد عزَّ عليه أن يحلق فيه، وهو أفق الخلوة إلى النفس والتحدث إليها والتعبير عما يجيش بداخلها من شتى الانفعالات والخلجات. . . ولو خلص الشعراء القدامى لأنفسهم وخلصت لهم، وتفرغوا للتأملات الذاتية في شيء من الاستجابة الصادقة لدعاء الشعور الصادق، لبدوا عمالقة في ميدان لم يطرقوه مرة إلا ارتدوا عنه مرات، ولاغترفوا من نبغ لم يحوموا حوله لحظة إلا وضلوا عن طريقه لحظات، جرياً وراء السراب؛ سراب الصنعة اللفظية والذاتية البيانية!
ومع ذلك يذهب الأديب الفاضل إلى أن المتنبي وابن الرومي ينفذان من نطاق النقد الذي أقمته حول بناء الشعر العربي القديم، فهل يتفضل بتقديم قصيدة لهذا وأخرى لذاك
يتخيرهما من روائع الشاعرين، لنستطيع أن نضعهما فوق مشرحة الدراسة النقدية، مستخدمين مبضع التحليل على ضوء الأصول الفنية التي عرضت لها في مشكلة الأداء النفسي في الشعر؟ إنني على استعداد لتشريح أية قصيدة تقدم إليَّ من الشعر العربي القديم، وعلى استعداد لأن أثبت لمقدمها في غير تجن ولا مغالاة، أن أية ومضة نفسية يمكن أن تشع في بيت من الشعر هنا، ستقابلها عشرات الومضات اللفظية في كثير من الأبيات هناك. . . وهذا هو الحد الفاصل بيني وبين من يختلفون معي في الرأي حول الشعر العربي القديم!
نترك هذا كله لنرد على اللفتة الأخيرة في كلمة الأديب الفاضل حين يقول: (لقد جعلت (شوقي) زعيم مدرسة في حسن الأداء النفسي، لأنه يملك الصدق في الشعور والصدق في الفن، وجعلته قريناً لشاعر آخر. . . والمعروف أن المدرستين مختلفتان في كثير من السمات والوجوه؛ فشوقي في رأيي يحفل بالصدق الفني، ويتأنق في عرض الصورة البيانية، فطابع الصدق الفني أغلب في شعره من الصدق الشعوري، وعلى النقيض من ذلك الشاعر (إيليا أبو ماضي). والذي يهمني بعد، أن توضح لي رأيك في مكان شوقي بين الشعراء، ومكانة شعره في نفسك).
إن القول بأن المدرستين مختلفتان في كثير من السمات والوجوه غير صحيح في جملته، ذلك لأنهما تختلفان في المظهر وتتفقان في الجوهر، ونعني بالمظهر هنا ذلك الإخراج الفني للصورة البيانية، أما الجوهر فنعني به ذلك العرض الصادق للصورة النفسية؛ وهنا تتمثل نقطة الارتكاز في الأداء النفسي حيث تلتقي المدرستان. . . فاللفظ عند شوقي هو لفظ الدلالة الموحية، الدلالة على الموجات الشعورية التي يندفع رشاشها من الداخل ليرطب مسالك التعبير، وهو كذلك أيضاً عند إيلياأبيماضي. الأداء نفسي هنا ونفسي هناك، أما الاختلاف فهو في تلك المعالم الخارجية للهياكل اللفظية، ولا بأس من توضيح هذا الاختلاف الذي يبدو في المظهر لا في الجوهر بأن نقول: إن شعر المدرستين أشبه بثوبين أخرجهما مصنع واحد من نسيج واحد، ولكن العامل الذي ابتكر تلوين هذا الثوب غير العامل الذي ابتكر تلوين ذاك. . .
ولقد سبق أن قلت: إن الأداء النفسي في الشعر، لا بد أن يقوم على دعامتين لا غِنى
لإحداهما عن الأخرى: دعامة الصدق الفني ودعامة الصدق الشعوري، ومعنى هذا أننا إذ قلنا إن شعر شوقي يغلب فيه طابع الصدق الفني، فقد أخرجناه بعض الإخراج من دائرة الأداء النفسي، وكذلك ينطبق القول على أبي ماضي إذا ما حكمنا بالغلبة لطابع الصدق الشعوري في شعره. . . إذ لا بد من المساواة بين الصدقين لتكتمل العناصر الفنية المتفاعل لتكوين المزيج الأخير، ونعني به مزيج الأداء النفسي في شعر الشاعرين أو شعر المدرستين!
أما عن رأيي في مكان شوقي بين الشعراء ومكانة شعره في نفسي، فقد أبديت هذا الرأي من قبل، هناك في (تعقيبات) العدد (815) من الرسالة، تحت عنوان (لحظات مع أمير الشعراء)، ومهما يكن من شيء، فإن رأيي في شعر الرجل، هو رأيي في شعر الأداء النفسي، ولعلي قد أشرت إلى مكانة شعره حين أفضت في الحديث عن مكانة ذلك الأداء في موازين النقد. . . وللأديب الفاضل خالص الشكر وعاطر التحية.
إلى الصديق الفاضل صاحب (بيروت المساء):
قرأت في آخر عدد تلقيته من جريدتكم منذ أيام، مقالاً ثائراً تحت عنوان ضخم:(المعداوي يتهجم على أدباء لبنان). . . وكان مصدر الثورة أنني قلت للأستاذ سهيل إدريس على صفحات (الرسالة) وأنا أتحدَّث عن قصته (سراب)، مُشيراً إلى حملات خصومه من كتاب لبنان على إنتاجه القصصي:(. . . فلم لا ترفع معول الهدم لتهوي به على الأصنام، ولم لا تشق طريقك على أشلاء الجثث المحنطة في توابيت الأدب)؟!
قلت هذا للأستاذ إدريس بالأمس، فإذا أحد كتَّابكم يُهاجمني اليوم على صفحات (بيروت المساء) مُؤكداً أنني قد تهجمت على أدباء لبنان. . . معذرة إذا قلت لك إن هذا القول تنقصه الدَّقة في التعبير، وتعوزه الأمانة في تصوير الواقع. الحق أنني لم أتهجم على (أدباء) لبنان، ولكنني تهجمت على (أنصاف الأدباء) في لبنان، ولهذا لم تُثر كلمتي سخط الفريق الأول، ولكنها أثارت سخط الفريق الأخير!!. . .
ومعذرة مرة أخرى إذا وجهت إليك الحديث وأهملت ذلك الكاتب الذي كان يعنيني بكلماته. . . إنني ما تعودتُ قط أن أخاطب المجهولين! ولقد قلت لنفسي بعد أن فرغتُ من قراءة كلمته: كيف لم أسمع باسمه إلا اليوم، أنا الذي تعي ذاكرتي المتواضعة أسماء رجال الأدب
في لبنان، منذ أن وُجد في لبنان أدب وأدباء؟!. . . اسم الكاتب الفاضل (علي شرف)، هل تسمح بأن تمدني ببعض ما تعرف عن مؤهلات الكاتب الفاضل؟ لستُ أعني مؤهلاته الدراسية، وإنما أعني مُؤهلاته الثقافية، أتدري لماذا؟ لأنني حاولت أكثر من مرة - وذلك على ضوء كلماته - حاولت أن أنصف ثقافته حيث لم تنصف الأيام اسمه. . . ولكنني لم أستطع!!
كل ما خرجت به من مقال الكاتب الفاضل، هو أنه أراد أن يلقي عليَّ دروسه القيمة في أصول النقد الأدبي. . .
أرجو أن تنقل إليه هاتين الكلمتين: لقد هزلت! ذلك لأنني - والحق يقال - قد تعلمت أصول النقد الأدبي قبل أن يتعلم الكاتب الفاضل حروف الهجاء العربية. . . إن من المضحك حقاً أن يتوهم الكاتب الفاضل أنني قد تهجمت على (أدباء) لبنان، وأشدّ من ذلك إضحاكاً أن يغضب عليَّ تلك الغضبة المضرية متوهماً مرة أخرى أنه من أدباء لبنان، وقاتل الله مركب النقص حين يحلق بأصحابه على أجنحة الوهم في كل أفق تهبط عليهم فيه عرائس الخيال!!. . . أنه ليسألني أن أشرح له ماذا أعني (بطبقات القصة) تلك التي (حددتها المقاييس)، ويسألني عن (اكتمال التصميم الفني) وأهميته قبل الشروع في البناء، ويسألني ويسألني؛ وقاتل الله الفراغ. . . وبعد ذلك يفغر فاه من الدهشة ويخبط كفاً بكف من شدة العجب: كيف واتتني الجرأة على القول بأن في لبنان بعض الجثث المحنطة في توابيت الأدب؟!
إن في لبنان (أدباء) أقدِّرهم وأعتز بهم، وكثيرون منهم يعطرون صفحات (بيروت المساء) بإنتاجهم الأدبي الممتاز. . .
الكرامة العقلية في حفلة تكريم أم كلثوم:
تهافت كثير من كتابنا وشعرائنا على حفلة تكريم الآنسة أم كلثوم تهافتاً يدل على أن (الوفاء) و (عرفان الجميل) في مصر بخير، وأشاد بعضهم (بوطنية) الآنسة أم كلثوم و (فضلها) على أبناء الوطن إشادة تبشر أيضاً بأن موازين أصحاب القلم في مصر بخير، أما حفلة التكريم فقد أقيمت رغبة في تسجيل كل هذه (القِيم) بمناسبة عودة المطربة الكبيرة من البلاد الأوربية. . . ولكنني أعلم مثلا أن الدكتور طه حسين قد سافر إلى الخارج وعاد إلى
وطنه أكثر من مرة، وكذلك عاد الأستاذ توفيق الحكيم من فرنسا منذ أيام، ومع ذلك فلم يفكر أحد من هؤلاء السادة في تكريم الرجلين. وأعلم أيضاً أن مطران قد مات وأن المازني قد مات، ومع ذلك فلم يتهافت أحد من هؤلاء السادة بعض هذا التهافت على تأبين الراحلين. . . بل إن صوتاً واحداً من أصوات هؤلاء السادة لم يرتفع منادياً بمنح أولاد المازني مجانية تعينهم على مواصلة التعليم، بعد أن طرقوا كل باب وما من سميع ولا من مجيب!!
معنى هذا أن رجلا كطه أو الحكيم أو المازني أو مطران، هؤلاء جميعاً في ميزان كتابنا وشعرائنا ليس لهم من الفضل في توجيه الجيل بعض ما للآنسة أم كلثوم. . . بل إن صحافتنا الموقرة لم تكتب مثلا عن حفلة استقبال الأستاذ الزيات وزميله في مجمع اللغة إلا سطوراً في حين أنها خصصت من صفحاتها أعمدة كاملة لحفلة استقبال المطربة الكبيرة!
أيها الأدباء، أيها الشعراء، أيها الصحفيون. . شيئاً من الكرامة العقلية!!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تكريم أم كلثوم:
في يوم الأربعاء الماضي احتفلت الهيئات الموسيقية في مصر بتكريم كوكب الشرق الآنسة أم كلثوم بدار معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، لمناسبة عودتها من أوربا، تعبيراً عن السرور بشفاء عينيها واطمئنانها على صحتها بعد أن قلقت عليهما وامتنعت عن الغناء فشاركها الناس الأسف واكتأبوا لما نالها من الهم. فلما عادت سالمة قريرة إلى الوادي لتشدو في مغانيه، انبعثت النشوة في جوانبه وسرت الفرحة في أرجائه، ثم تبلورت بعض المشاعر في هذا الحفل.
ولئن اجتمعت الهيئات الموسيقية على تكريم أم كلثوم، لقد كرمت هي الموسيقى والغناء، ورفعت شأن الفن وأهله في هذا العصر بفنها العالي وشخصيتها المترفعة. ولم يكن تكريم أم كلثوم قاصراً على الهيئات الموسيقية التي نظمت الحفل ودعت إليه، وإنما كان تكريم مصر كلها لمهدية السرور إلى قلوي أبنائها، تكلم بلسانها أعلامها من شعراء وخطباء، وإن أم كلثوم لأهل لكل تكريم، فهي ثروة فنية طائلة، وإن اهتم الناس في مصر بتكريمها وتقاعدوا عن تقدير غيرها من الأدباء والفنانين، فقد أدوا واجبهم نحوها وقصروا في حق من أهملوه.
ألقيت في الحفل كلمات مناسبة للمقام من ممثلي الهيئات الموسيقية، وخطب الأستاذ توفيق دياب بك، وأُلقيت قصائد للأستاذ عباس محمود العقاد والأستاذ عزيز أباظه باشا والدكتور إبراهيم ناجي والأستاذ كامل الشناوي، وأزجال للأستاذ بديع خيري والأستاذ بيرم التونسي والدكتور سعيد عبده، وختم الحفل بكلمة الشكر من المحتفل بتكريمها، وما أبلغها كلمة! غنت لمكرميها رداً للتحية، فأعطت أكثر مما أخذت.
وتخلل ذلك غناء موسيقي، وقد قدم الموسيقيون ألواناً من عزفهم وفنوناً من ألحانهم، فردوا اعتبار الفن إليه بعد طول ما أساءت إليه الإذاعة بما تقدم من الغث الممجوج والمعاد المملول. ومما يذكر بالإعجاب قدرة الموسيقيين المصريين على عزف بعض القطع الرائعة من الموسيقى العالمية، ولا سيما الذي عزف موسيقى الباليه. وقد أبدع (خماسي مجلس
الإدارة) الذي يتكون أصحابه من خمسة أعضاء بمجلس إدارة نقابة الموسيقيين المحترفين، وكانت موسيقى على فراج بارعة، وقد نبغ هذا الفنان في الموسيقى التصويرية التي قدم منها قطعة (فرح القرية) فأجاد.
ونلقى بعد ذلك - أيها السادة - نظرات إلى القصائد التي ألقيت في الحفلة. كانت قصيدة الأستاذ العقاد جيدة، كان فيها شاعراً بخواطره، وكاتباً بطبعيه السياق وسهولة الأداء واتساق الأفكار. قال في مطلعها:
هلل الشرق بالدعاء
…
كوكب الشرق في السماء
ثم قال يخاطب أم كلثوم:
انظري في وجوههم
…
تعرفي نضرة الوفاء
كلهم ود لو يغني
…
من البشر والصفاء
لو بقدر السرور نشدو
…
غلبناك بالغناء!
ثم يصف صوتها بقوله:
فيه أنس لمن يشا
…
ء وسلوى لمن يشاء
فيه للمرتجي سلا
…
م وللمشتكي عزاء
فيه حرز من الهمو
…
م وعون على القضاء
أي نفس إذا ترنم
…
ت لا تهزم الشقاء
وابتدأ الأستاذ عزيز أباظه باشا قصيدته بقوله:
سعيت في زحمة الأعلام أسكب من
…
قلبي الولاء ومن عليا سرائره
في مهرجان حباه الفن روعته
…
وزانه بالأوالي من عشائره
وقلت أدلف للتاريخ تفرضني
…
على مشارفه كبرى منائره
وباقي القصيدة على هذا النحو من قوة التعبير، وقد أخذ يفتن في معانيه وخواطره حتى قال:
ما أنت إلا اعتذار الدهر قربه
…
لكل عان ومظلوم ومكلوم
ما أنت إلا ابتسام الله جاد به
…
ورحمة الله عمت كل محروم
وهي خواطر يفوح منها عبير الشعر.
وقد قال:
يا أم كلثوم بعض الشر ما برحت
…
آثاره تتجلى في مآثره
ثم أعقبت هذا بأبيات تحدث فيها عن اعتلال أم كلثوم والأسى له، وحمد الله على أنه عاد للروض بهجته ثم قال:
ألم أقل لك إن الشر ما برحت
…
آثاره تتجلى في مآثره
ولم أفهم آثار الشر ومآثره ولا موقعها مما بين البيتين، ولعله يريد بمآثر الشر فرصة التكريم التي كان أول سببها محنة المرض، ولكن كيف تتجلى فيها آثاره؟
أما الدكتور إبراهيم ناجي فيظهر أنه كد شاعريته في هذه القصيدة حتى أتعبها فحرص على أن يحلق، فحلق، ولكن جناحيه لم يقويا كثيراً على التحليق، فجاءت القصيدة أقل من مستوى شعره. ومن تحليقه قوله:
تسمعي، في العلى همس وأغنية
…
أذاك صوتك أم في الخلد تنزيل
على الثرى لك أكباد مصفقة
…
وفي السماوات إكبار وتهليل
وقوله محدثاً عن الفن:
وحسبه وقطوف منك دانية
…
بأنه في وجوه العيش تجميل
فما أبدع صورة الحياة مجملا وجهها بآيات الفن!
وقد قال عن النيل يرنو نحو أم كلثوم:
جرى النسيم على وجه الغير به
…
كأنه في شفاه الفن تقبيل
وأدع لفظ (الغدير) قلقاً في موضعه هنا، وأنظر في جري النسيم على صفحة الماء، هل يصلح تقبيلاً في شفاه الفن؟ وما جدوى تمثيل الفن شخصاً له شفاه فيها تقبيل يشبهها النسيم؟ لا أستطيع أن أخرج من ذلك بشيء.
وألقى الأستاذ كامل الشناوي قصيدة حاول فيها أن يخدع برنات كلماتها وقوافيها، وهذا مطلعها:
فديتها منحة، السحر أعطاها
…
والسحر والشعر شيء من عطاياها
وفيه ترى السحر من عطاياها وهي من عطايا السحر. . . أي أنهما يتعاطيان! وقد جانبه التوفيق (الذوقي) في مقارنته بين أم كلثوم وانقسام الذرة. . . لأنهما يتنافسان على المجد
في هذا الأوان! ويتساءل أيهما أولى بالمباهاة، ويجيب:
الفن أولى ففيه رحمة وهدى
…
الفن قنبلة تأسو شظاياها
ولست أدري كيف يكون الفن رحمة وهدى وقنبلة ذات شظايا. . ولا أخال الأستاذ إلا معتزاً بأن جعل شظايا القنبلة تأسو ولكنا لا نأمنها، وما انفجار الذخيرة في جبل المقطم ببعيد.
وفي القصيدة أبيات لا بأس بها منها:
الصوت بعض هداياها وقد فتنت
…
به الخلود فأمسى من هداياها
السندباد البحري:
عرض أخيراً بسينما (ديانا) فلم (السندباد البحري) وهو معرب بأصوات ممثلين وممثلات مصريين، والفلم يقوم على أسطورة من أساطير (ألف ليلة وليلة) فيعرض مغامرات السندباد البحري العجيبة، وما تعرض له خلالها من أهوال، وما بذله من جهود خارقة في التغلب عليها، فقد أغرق (الأمير أحمد) وأخذ (مداليته) السحرية التي مكنته من قهر خصومه وخاصة الأمير الهندي الذي ينافسه في حب الأميرة الجميلة، وأخيراً يدعي أنه الأمير أحمد ويذهب إلى أبيه - أبي الأمير - (اسكندر) كاتم سر (الكنز) الذي يبوح بالسر له وللأمير الهندي ورجل آخر يدعى (عبد الملك الحلاق) فيفرح هذان بمحتويات الكنز ولكنهما يموتان دون الانتفاع بشيء منها، أما السندباد البطل المغوار فيفوز بالأميرة الفاتنة ولا يلقىبالا إلى المال.
ويقال في تقديم هذا الفلم أنه يمثل سحر الشرق وعظمة الشرق، وأنا - والله - لم أجد فيه للشرق رائحة، فضلا عن السحر والعظمة. . . ولكن أقول أنه يمثل الشرق الذي يتصوره أولئك الغربيون أو يحلو لهم أن يتصوروه، لا في هذا الفلم فقط بل في أشباهه (كلص بغداد) و (ألف ليلة وليلة) من تلك الخرافات التي يحب الغربيون أن يتخذوا منها صوراً لحياة البلاد الشرقية في العصور الماضية، وكأنهم يهربون مع خيال هذه الأساطير من واقع الشرق نفسه في تلك العصور، كما يهرب من يزور مصر منهم من حاضرها وحياتها المعاصرة إلى الأهرام وأبي الهول
وليتهم يوفقون في تصوير الروح الشرقية والجو الشرقي في تلك الأفلام التي نرى فيها أشخاصاً وأشياء لا هي شرقية ولا غربية فهم يمسخونها كما يمسخ بعض المؤلفين
والمخرجين عندنا الأفلام الغربية ويدعون أنها مصرية مؤلفة، هؤلاء كأولئك، حذو الفلم بالفلم.
وفلم (السندباد البحري) يعرض بالألوان الطبيعية، وهم يختارون أجمل الممثلات في مثل هذا الفلم، وأعترف بعبقرية المخرج إذ قدم لنا (الأميرة الفاتنة) كأي فتاة عصرية في كل شيء، تلبس الثياب (على آخر مودة)! والممثلون يلبسون (البنطلونات) وأجسامهم الحمراء تنطق ب (السكسونية) الصارخة، يختلط كل ذلك بمناظر التعذيب المفزعة إذ تهوى السياط على الأبدان فتمزقها كما كان يصنع الشرقيون في غابر الأزمان وسالف العصر والأوان!
ويظهر أن المشاهدين يصبرون على متابعة الفلم، مستمدين الجلد عليها من القوة السحرة الخارقة التي يتمتع بها السندباد البحري، على الرغم مما يلاقونه من أهوال في تلك المشاهدة، كأهوال السندباد. ولكنه يخرج أهواله بالأميرة الحسناء، أما نحن - المساكين - فنخرج مصدعي الرءوس، وقد يذهل الفتى عن فتاته التي دخلت معه متعلقة بذراعه.
حقاً إن السندباد خطب في آخر الفلم، مبيناً أن المال لا قيمة له في سعادة الإنسان، وإنما السعادة الحقيقية هي سعادة القلب والفكر ومن أجل ذلك داس جواهر الكنز ولم يعبأ بها مكتفياً بفاتنته الأميرة، ولكن الفلم لم يعرض لنا ذلك عرضاً عملياً يجعلنا نستخلص العبر من الحوادث ولم يضعنا في جو طبيعي ندرك منه ذلك؛ وقد يقال إن القصة خرافة، ولكن ما هدف هذه الخرافة غير قلب الدماغ بتلك الحوادث التي لا تحمل متعة فنية لذوق سليم، وغير وقع القلب بالوعظ في آخر الأمر؟
والذي يؤسف له أن يكون ذلك هو ثمرة تعريب الأفلام (دبلجتها) وقد كتبت في هذا الموضوع عندما هب السينمائيون المصريون يعارضون تعريب الأفلام في العام الماضي، وبينت أن هذه المعارضة حركة تجارية، وأن الفائدة التي نجنيها من تعريب الأفلام الجيدة محققة. وإذا كنا نعرب الكتب مقتنعين بفائدتها فلم نمنع تعريب الأفلام؟ ولكن أي الأفلام نعرب؟ هذه هي المسألة التي نراها تواجهنا الآن، وكل ما يجب هو حسن الاختيار.
عباس خضر
القصص
حيوان أليف
للكاتب الياباني شيما زاكي توسون
بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
لازمها سوء حظها منذ ولادتها. لقد أقبلت إلى العالم بشعر قصير أشهب، وأذنين واقفتين، وعينان تشبهان عيني الثعلب. إن كل ما يدعي حيواناً أليفاً يتحلى بصفات تجذب شعور الصداقة بينه وبين الناس. بيد أنها لم تكن حائزة أية صفة منها. ولم يكن يبدو على ملامحها ما يحببها إلى البشر. كانت تعوزها خواص الحيوان الأليف. وبطبيعة الحال، أهملوا أمرها.
ومع ذلك، كانت كلبة: حيواناً لا يستطيع أن يعيش منفرداً. وكان من المستحيل عليها أن تنبذ عادتها الموروثة في أن يجود عليها الناس بالطعام. ولذلك أخذت تبحث عن دار تلائمها.
وهام ذلك الكائن المجهد في ضيعة كن سان المزارع، وكان قد انتهى من إنشاء الدار الجديدة ذات السقف الخشبي، المقامة بجوار طريق قرية إكويو بحيث يستطيع أي إنسان أن يقصد الطريق الرئيسي من خلال فنائها الخلفي. وكانت أرضيتها مرتفعة وتربتها جافة، فضلا عن أنه كان بها فناء ضيق حالك ذو فرجة بين مدخله والحاجز القائم بين هذه الدار وتلك التي تليها، تستطيع فيها أن تخفي نفسها في الحال عندما يقضي الأمر ذلك. ولم تتوان لحظة في احتلال هذا المخبأ الكائن تحت الأرض.
ثم دعتها الحاجة الملحة إلى الحصول على الطعام. وأرشدها أنفها الحساس إلى الطريق صوب المطبخ. ولم يكن لديها وقت للاختيار، فقد كانت جائعة. فأخذت تأكل ما يصادفها: قشور الفاكهة، وحساء بارد نتن الرائحة، وأوعية من الطعام الفاسد. فإذا لم يكفها كل هذا، قامت تتشمم ما حولها، حتى كومة الغبار، وتصيد أقصى ما تستطيع صيده. ووجدت هناك جوارب قذرة مشربة بماء الغسيل بجوار الحائط، فجعلت تشرب الماء المتساقط منها في سرور.
كانت هناك في الحديقة شجرة قديمة، فعزمت على أن تجعل من ظلالها موضعاً لراحتها، فتمدد أقدامها الأربع على الأرض الدافئة من حرارة الشمس الساطعة خلال الأفنان. وتتثاءب أو تحك مواضع في جسمها. وعندما يأتي المساء تدلف إلى ملجأها تحت الأرض وترقد على أجولة الفحم. وهكذا بدأت حياتها.
كانت عائلة كن سان تحتفظ في ذلك الوقت بكلب أسمر اللون يدعى بوتشي. وكان الحيوان الوحيد الذي يقابل بالترحاب. وكان يبدو أنه ذو طبيعة اجتماعية، فقد كان يتقرب إليها في أدب وهو يحفر الأرض، فترد عليه تحيته بهز ذنبها القذر.
بيد أن كن سان وغيره من أولئك الذين يعيشون في ضيعته، لم يرحبوا بها كما رحبوا ببوتشي. وصاح أحدهم (أليس من الخسارة الكبرى أن يكون الفرد قبيحاً حتى بين الحيوانات؟) فيرد آخر (لو كانت ذات مسحة من الجمال لاحتفظت بها!) بيد أن كل هذا لم يكن له معنى عندها.
ودعاها هؤلاء الناس (بب). وكانت لكل دار (عمة): لقب يضفى على ربة الدار. وكانت العمات والأولاد يشتركن في كراهيتهم لها ويصرخون فيها. أما الأعمام فقد كانوا فظعاء. إن أقل إهمال أو انتباه تجعلها طريدتهم. وكثيراً ما ألقوا عليها الأحجار وكرات الطين وأسياخ المدفأة. وفي ذات يوم أصابها مقبض باب، فسبب لها جرحاً في إحدى مؤخرتيها.
وشيئاً فشيئاً، أخذت تفهم العقلية البشرية: معنى زم الفم، والقيام بالتقاط شيء، وهز الأكتاف، وعض الشفاه. كانت كل هذه الانفعالات الثائرة ضدها، قد بينت لها مدى كراهية مطارديها. وكادت في ذات يوم أن تساق لتغرق في الخليج. ولا يستطيع أحد أن يعرف كيف وجدت سبيلها إلى الهرب! كان الناس يصيحون (استحضروا الحبل. الحبل!) وكانت يائسة، فجعلت تعدو خلال الحديقة، بين الشجيرات. وذهبت صوب الفرن ثم استدارت حول مخزن الغلال، وأخيراً فرت إلى الحقول حيث تنمو الزهور التي تباع في الأعياد.
وصاح أحد الأعمام: (لقد فرَّت أخيراً!) فرد كن سان وهو يضحك ضحكة رجل طيب (أليست شيئاً متعباً؟)
وتكررت مثل هذه التجربة القاسية. ولكنها لم تكن بالتي تقهر من مثل هذه الأعمال. ينبغي لها أن تبحث عن طعامها في هدوء وفي مظهر من يقول (إن هذه أرضي). وكانت تتقدم
إلى المطبخ الجديد في شجاعة، أو تذهب إلى الشرفة بأقدامها القذرة، فتمزق الستائر، وتلهو بما تغسله العمات من ملبوسات وتلطخها بالطمي والغبار. ولم يكن لها اعتبار عند الأطفال. كان لهذه العائلة فتاة تدعى شوكان. وكانت تميل إلى اللعب في الفناء، فكانت الكلبة تطاردها مداعبة. وكانت الفتاة أحياناً ما تستحضر معها قطعة من الكعك، وتظهرها لها قائلة:(انظري! انظري يا بب!)
وسرعان ما تقفز على كوشان، فيتعالى صراخ الفتاة (أوه، ما ما، إن بب شريرة!) وكانت هذه دائماً صرخة كوشان في طلب المعونة. فتقبل عندئذ العمات مسرعات وينادين كوشان: (اهربي يا كوشان! في سرعة!) فتفر الفتاة باكية ولم يبق معها شيء من الكعك. لقد أخذته الكلبة منها، وبذلك حصلت على الحلوى التي تأكلها الناس، وبعدما تنتهي من أكلها، تلعق طرف أنفها بلسانها الأحمر
ومهما يكن من الأمر، فقد كانت لا تتعمد ما تقوم به من حركات، طيبة كانت أو شريرة. وكانت هذه الكلمات التي تسمعها من أفواه الأعمام والعمات لا تفهم لها معنى. فلم يكن لها طبيعة فهم تقاليد الناس المتمدينين وأحوالهم، لم تكن سوى كلبة سواء أكانت أفعالها مؤدبة أو خالية من الأدب. إنها حيوان مسكين يعمل كما توحي إليه طبيعته
ومر الشتاء القارس البائس، ولم تزل تتألم من هذه المعاملة، معاملة طردها، وكان من العجيب ألا تموت جوعاً في ذلك الشتاء لقد كانت المخلوقات البشرية في حالة محزنة، فكيف إذا يستغنون عن حفنات من أرزهم البارد لهذا الحيوان الجاهل، تلك الكلبة المتعبة التي لا تنفع في شيء؟ وكانت تهيم في الأماكن النائية، فتتبلغ بما تجده من أشياء، حتى قشور البرتقال
ثم أقبل الربيع، وأخذ الجليد في الذوبان، وبدت الكلبة كأنما نما عودها، وكانت كل الكلاب تتجمع حولها: بوتشي الذي يقطن دار كن سو، كورو الذي يعيش بدار الاستحمام، وآكا الذي يحرس مسكن تاجر الخشب، وذلك الكلب الضخم الذي يخض الجيران. وكان يتبعها ثلاثة أو أربعة منها أينما ذهبت وكان الموضع المريح في ظلال الشجرة الكائنة بالفناء مرتعاً لصدى هريرها وكأنها تود أن تهمس إليها بكلمات الغزل
ولاحظت ذلك المشهد عمة مقبلة نحو البئر الجانبية، وقد حملت معها دلواً، فقالت: (يا إلهي
إن بب كلبة أنثى! إني لم ألاحظ ذلك من قبل!
فردَّت عمة من الدَّار الجديدة شاهدت أيضاً ما يحدث (ولا أنا)
وضحكت العمتان وجعلتا تنظران إلى ذلك المشهد في اهتمام
(يجب أن تنفى). كان هذا منشأ الجدال الذي استمر في ضيعة كن سان بين أعضاء عائلتين من العائلات الأربع. ثم انقسموا إلى حزبين: حزب الأعمام، وحزب العمات. كانت العمات يصرحن أن الأمر قد أصبح مختلفاً. أن حالتها الآن مغايرة لما كانت عليه في الماضي. وكن في جدلهن كأنما يقارن أنفسهن بها (وقد يكون هناك وجه للمقارنة). وكان الأعمام يعارضون في إنجابها ذرية. أنه من الفظاعة أن تلد أولاداً على شاكلتها. وفي الحق، لم يكن هناك من يهتم بمستقبلها. ولم تكن الكلبة تعرف شيئاً عن كل ذلك.
وما إن مر يوم حتى وقفت مركبة بجوار دار كن سان، يعلوها صندوق بلا غطاء، مغطى بقطعة قذرة من الحصير. وتشمم أنفها في سرعة ما الذي في المركبة.
وأقبل شرطي يتبعه رجل ذو نظرات مريبة. ودلفا إلى الدار. بيد أنها لم تكن تحوم في مثل هذه الأماكن الخطرة. وأخذ بوتشي وكورو وغيرهما من الكلاب في النباح. وأقبل الأعمام والعمات وكل سكان القرية. وصاحت كوشان (صياد الكلاب يا ما ما!) ثم اختبأت خلف والدتها.
وجرى الناس حول الحديقة. وشاركهم في العدو صبي من مدرسة متوسطة كان يرسم صورة بالألوان المائية، وقد أمسك بحامل الرسم، وابنة كن سان وكانت تقوم بري الزهور.
(لقد هربت من هنا! لقد ولت من هناك!).
وارتبك القوم في عجب. ثم قالت كوشان وهي ترجف (من المؤكد أن بب قد قتلت).
وأخيراً استطاعت الهرب. وهز رجل ممسك في يده هراوة غليظة في غيظ. وقال الشرطي (لا فائدة، لا فائدة) وضحك وهو يسير صوب الباب. ثم انسحب هو ورفيقه إلى المركبة الفارغة يجران وراءهما ذيول الخيبة.
لقد هربت على أية حال، ونجت بجلدها. ومرت الأيام وتضخمت بطنها، وأخذت عيناها تتلونان بلون غير ثابت من القلق. إنها لن تحافظ على نفسها فحسب، بل يجب عليها أيضاً أن تحمي أولادها في بطنها. إن ظلال الشجرة لم تعد مأمونة، وحتى عندما كانت ترقد على
الأرض الندية، وهي تلهث مما اعتراها من ألم. سرعان ما كانت تهب واقفة عندما تشاهد خيال إنسان ما، يجب ألاّ تتهاون ولو لحظة واحدة، وكان يلوح في عينيها أنه ليس هناك من أشد قسوة وأقل رحمة من الكائن البشري.
بيد أنه على الرغم من خوفها، كانت لا تستطيع الابتعاد عن الدار. وقد يبدو في عين الرائي، أنها قد تكون في راحة تامة، كغيرها من الحيوانات، لو ذهبت إلى الغابة النائية، ورقدت هناك بين الأشجار والحشائش! ولكن ذلك لم يبد في عينيها، إنها لا تستطيع أن تغير من طبيعتها الموروثة
وفي أوائل شهر يونيو، انتهت من القيام بواجبات الأمومة وظهرت أربعة جراء في فرن كن سان، اثنان منها جميلان يشبهان بوتشي في لونه، وواحد أسود فاحم، والرابع يشبهها كثيراً.
وفي صباح يوم ولادتها، تراءت لها للمرة الأولى ابتسامة البشر تهش بها، وفي ذلك الصباح أيضاً قدموا إليها لأول مرة الطعام
وأخذت عمة كن سان تناديها (بب، تعالي، تعالي) ثم أصبحت تناديها دائماً منذ ذلك اليوم. . .
محمد فتحي عبد الوهاب