الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 852
- بتاريخ: 31 - 10 - 1949
من وحي الهجرة
بعث الله النبي الكريم على فترة من الرسل، في عصر غير ذي دين، وجيل غير ذي خلق، وبلد غير ذي زرع. فلقي صلوات الله عليه من سفه الجاهليةوكلَب المادية وكيد العصبية وحرمان الفقر وخذلان القلة ما لا يسعه طوق بشر إلا بروْح من الله وسند من الإيمان وعون من الخلق.
حمل محمد رسالة الله وهو فقير ضعيف، وحمل أبو جهل رسالة الشيطان وهو غني مسلَّط، فحوّل مكة المشركة جبلا من السعير سدَّ على الرسول طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتفور بالعذاب. وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبي لهب بالأذى والهون والمعاياة والمعارضة. وكل قرشي كان يومئذ أبا جهل أو أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن كفار مكة ومشركو الطائف في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي أهله وفي صحبه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لأن ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (دار الندوة) فقرَّر القتل، وتدخل الله بروْحه في (غار ثور) فقدَّر النجاة. وانطلق محمد هو وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المؤتمرين في الطريق الموحش الوعر حتى بلغوا طيبة. وهنالك بالصبر والصدق والإيمان والرجولة أثمر غرس الدعوة وتم نور الله.
كان يوم الهجرة الذي جعله عمر الحكيم العظيم تاريخاً للمسلمين يحسبون منه أيامهم، ويؤرخون به أحداثهم، خاتمة وفاتحة: كان خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام القواتل تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس؛ وكان فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، أعلن العرب فيها كلمة الله، وبلغوا رسالة الحق، وحملوا أمانة العلم، وأرشدوا الضال فاهتدى، وحموا الذليل فعز، وعلموا الجاهل فتعلم، ومكنوا في أرضهم الفسيحة ودنياهم العريضة لعناصر الجمال والخير فقويت في كل نفس، وازدهرت في كل جنس، وانبعثت من كل مذهب، وانتشرت في كل أفق؛ وحققوا لهذا الإنسان طريد العدوان وعبد الطغيان أحاديث أحلامه وهواجس أمانيه، من الأخوَّة التي يعم بها النعيم، والمساواة التي يقوم عليها العدل، والحرية التي تخصب بها المدارك؛ لأن رسالة محمد لم يوحها الجوع ولا الطمع، وإنما أوحاها الذي خلق الموت والحياة، وجعل
الظلام والنور، وأوجد الفساد والصلاح، ليدرأ قوة بقوة، وينقذ إنساناً بإنسان.
كان يوم الهجرة إلى المدينة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغي على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز.
وكان يوم العودة إلى مكة وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها، واتحدت كلمتها، واستحصدت قواها، لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله، ولا تسالم إلا في الحق.
كانت المدينة وحدها بعد يوم الهجرة مجالا لسياسة الرسول يضم شتات الجماعة، ويوثق عقدة الأمة، ويجمع أهبة الحرب، فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعاهد بين المسلمين واليهود، حتى تكتَّب في يثرب جيش الله الذي فتح الدنيا بفتح مكة.
ثم كان العالم كله بعد يوم الفتح مشرقاً لوحي الله وهدى الرسول، فطهره الإسلام من الأرستقراطية بالمساواة، ومن الرأسمالية بالزكاة، ثم علم الناس حكم الشورى، وألزمهم قضاء العدل، حتى أخرجهم من الوطنية المحدودة إلى الإنسانية المطلقة.
إن هجرة الرسول ملحمة من ملاحم البطولة القدسية لا يفتر عن إنشادها الدهر! استمدت إلهامها من وحي الله، وروحها من خلق الرسول، وعملها من صدق العرب، واستقرت في مسامع الأجيال والقرون مثلا مضروباً لقواد الإنسانية، يعلمهم الصبر على مكاره الرأي، والاستمساك في مزالق الفتنة، والاستبسال في مواقف المحنة، والاستشهاد في سبيل المبدأ.
فاذكروا يا ساسة العرب وأنتم تجتمعون اليوم لتوثقوا روابط الجامعة العربية أن الرسالة المحمدية التي هاجرت مغلوبة من مكة إلى المدينة، سافرت غالبة من الشرق إلى الغرب، بفضل مبدئها الإلهي الذي قامت عليه ودعت إليه وفازت به، وهو توحيد الله، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الخطة، وتوحيد الغاية.
اذكروا لماذا نذكر صاحب الهجرة في كل أذان وفي كل صلاة من كل يوم. هل نذكر اسمه مع اسم الله تعبداً به؟ معاذ الله فما يكون الشرك غير هذا. إنما نذكر الله ونذكر بعده محمداً كما نذكر القاعدة ومعها المثل، أو النظرية وبعدها العمل؛ لأن الله يوحي والرسول يبلغ،
ويأمر وهو ينفذ، ويشرع وهو يطبق؛ فذكر الله استحضار لأوامره ونواهيه وتلك هي القدرة، وذكر الرسول استحضار لأفعاله وأقواله وتلك هي القدوة.
اذكروا ذلك وقولوا للمعوقين منكم إن العصبية التي توسوس في بعض الصدور بالرياسة والسيادة، إنما كانت في تاريخنا الحافل بالأحداث والعبر علة العلل في انشقاق العصا، وانقسام الرأي، وانتشار الأمر، وتعدد الدول، حتى كان لنا في الأرض ثلاثة خلفاء في وقت واحد: عباسي على عرش بغداد، وأموي على عرش قرطبة، وفاطمي على عرش القاهرة، ولكل خليفة منهم شأن يغنيه، وعدوان مع الباغين على أخيه.
اذكروا ذلك يا ساسة العرب واستاروا بسيرة نبيكم في السياسة، واستنوا بسنته في الحكم، فإن محمد بن عبد الله الذي آثر أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكاً، قد ساس الناس في عهده سياسة دينية لا وطنية ولا قومية؛ لأن الوطن محدود والدين لا حد له، ولأن القوم جماعة متميزة والدين إنسانية شاملة. أما وقد استشْرت العصبية ففرقت شعبنا فرقاً لكل فرقة طرُزٌ ورسوم، ومزقت وطننا مزَقاً تفصل بينها مكوس وتخوم، فإنا أحرياء بأن نصلح الأمر بما صلح عليه أوله: تخفت في نفوسنا صوت الأثرة، ونسكن في رءوسنا عصف الهوى، ونجدد في أذهاننا ما انطمس من معاني الإيثار والإخاء والفداء والمروءة، ونوضح في أفهامنا ما انبهم من هذه المبادئ الإسلامية الصريحة: إنما المؤمنون أخوة. وأمرهم شورى بينهم. وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. . . وتلك هي المثل العليا للسلام والنظام والحكم، تطلبها الشعوب المكروبة المسخَّرة بالثورة بعد الثورة، وبالحرب بعد الحرب، فيحول بينها وبينها تصادم القوة وتعارض المنافع.
لا نطمع في أن نجعل من الوطن العربي الذي قطَّعه الغاصبون دويلات ليسهل ازدرادها، وحدة كاملة. ذلك فوق الطاقة الآن، لأنه عمل لم يقو عليه من قبل غير محمد، ولن يقوى عليه من بعد غير رجل من رجال محمد، هو الرجل الذي ينتظره العرب انتظار الأرض رجعة الربيع. وبحسبنا أن نمهد أمامه الطريق بهذه الجامعة العربية التي توافدتم اليوم إلى توكيد ميثاقها وتثبيت أركانها في القاهرة. فإذا أقمتموها يا ساسة العرب على الإيمان الصادق والنية الخالصة، كانت إرهاصاً لظهور ذلك الزعيم المنتظر الذي يجمع الله لكم فيه الراعي الذي يطرد الذئب، والخيط الذي يجمع الحب، والدليل الذي يحمل المصباح، والقائد
الذي يرفع العلم، والأستاذ الذي يعلمكم أن تصنعوا الإبرة والمدفع، وتشقوا المنجم والحقل، وتوفقوا بين الدين والدنيا، وتلائموا بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة. ويومئذ تعودون إلى منزلتكم من صدر الحياة، ومكانتكم من قيادة الناس.
أحمد حسن الزيات
صور من الحياة:
2 -
زوجة تنهار!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: (مالك تغلو في رسم صورة (زوجة تنهار) فتزعم أن المرأة تفر من دار زوجها وتذر أولادها، وهم حبة القلب، ونور العين، وفرحة العمر، وبهجة الحياة. . . تذرهم لتعيش إلى جانب عشيق كائن من كان؛ على حين نرى الحيوان الوديع يتنمر إن أحس بسوء يوشك أن يصيب صغاره. . . فما بال الإنسان؟)
قلت: (أما هذه القصة، فهي من صميم الحياة، قصها صاحبها علي وعلى رهط من صحابه. . . وقصها أيضاً على الأستاذ سعيد العريان، وهو رجل ذو مروءة وإنسانية، وذو مكانة وشأن. . . فناله - مما سمع - الضيق والعطف، فقدم لصاحب القصة من إنسانيته ورجولته ما خفف عنه لأواء المصيبة، وأزاح عنه بعض وطأة البلوى. . .)
(كامل)
آه. . . يا لقلبي! إن الزوجة حين ترتدع في حمأة الخيانة تعلن عن أن دمها الملوث لم يشعر يوماً بصفاء المعاني السامية في الشرف والكرامة!
والزوجة الساقطة امرأة انتكست إنسانيتها، واتَّضعت كرامتها، ومات ضميرها. . . امرأة برمت بها روحانية السماء فلفظتها فجذبتها ظلمات الأرض لتسفل إلى هوة الخسة والرذيلة. . . وهي في عين زوجها وباء، وفي رأي أهلها داء، وفي موكب الحياة عار وسبة، وفي عمر الرجل ساعة لهو رخيص، يستمتع بها حيناً، ثم يطرحها إلى عرض الشارع. . . وهي - دائماً - تتوارى عن الأعين المتلفتة لأنها خلعت ثوب العفة، وتفزع عن الألسنة المتلطفة لأنها نزعت رداء الشرف!
يا فتاة الشارع: أرأيت الدار الخربة وقد انقض دارها، وانفتح بابها، فأصبحت مثابة للص والشحاذ وابن السبيل؟!
أرأيت المرعى الخصيب وقد نام عنه المدافع وانصرف الحامي فأضحى مستباحاً ترده كل سائمة فلا تجد هناك إلا الأمان والخفض وإلا الري والشبع؟
أرأيت الجيفة - وهي ملقاة على الثرى - لا تملك أن تدفع عن نفسها، ومن حواليها
الكلاب تتدافع في نهم، وتتهارش في شره، لينال كل واحد منها أوفى نصيب، فلا تستطيع هي أن تمتنع على مَنْ يلغ أو يطعم أو يعبث؟
ما أعجب ما أرى! هذا القانون الأرضي يكبل السارق بقيد من حديد إن سرق دريهمات لا تغني من فقر، ولا تسمن من فاقة، ولكنه يذر اللص يستلب الشرف، ويسطو على العِرض، فلا يغلّه بأصفاد من الرجولة والإنسانية. . .
هذا هو القانون الأرضي حين يتشبث بالتراب ويرسف في الوحل!. . .
لقد طارت الزوجة الخائنة مع شيطان من الناس. . . طارت لتذر زوجها على فراش المرض يقاسي ألم الداء ويعاني هم الزوجة ويحمل - وحده - عبء الأولاد. طارت حين زين لها الشيطان بأساليبه السفلية أن تنفلت من دارها في هدأة الليل وسكونه، فتخلف وراءها راحة الضمير في الدار، ولذة العيش في ظل الزوج وسعادة الحياة بين مرح الأولاد.
وزعمت الزوجة الآبقة أنها ضاقت بهموم الدار، وما فيها سوى زوج مريض معدم ينفق من صبابة تكاد تنضب وهي إلى جانبه يضنيها التعب - كزعمها - ويؤذيها السجن؛ وسوى صبية صغار يلحون في طلب الطعام واللباس، والمدرسة من ورائهم تصر على أن يدفعوا ثمن العلم. ونسيت أن المرأة التي تفر من دار زوجها هي عاهر القلب فاسقة العقل فاجرة الضمير، وأن المرأة التي تهرب من أولادها، وهم ملء العين والقلب والفؤاد، قد انحطت فأصبحت حيوانية النوازع أرضية المشارب.
لقد فزعت الزوجة عن دارها لتحتفظ لنفسها ببهجة الجمال ورواء الشباب ونضرة النعيم، ولتستمتع بلذة الحياة في كنف شاب وضيع وسوس لها فاغترها عن عزة النفس وشرف الترفع وسمو الإنسانية. وأرادت أن تسعد بالشهوة الرخيصة إلى جانب شيطانها فخسرت لذائذ الدنيا السامية في الدار والزوج والولد.
وانطلق الفتى إلى جانبها، وعيناه تشعان فنوناً من الختل والخداع، وحديثه يفيض ألواناً من المكر والمواربة، وقلبه ينبض بصنوف من الاحتقار والزراية، وعقله يضطرم بضروب من الكراهية والمقت. لقد غطى الشيطان على عيني الفتى - حيناً - فإندفع يزخرف الحديث للزوجة ويختلبها بالمظهر البراق، يوهمها أنه شيء وما هو بشيء، وفي طبيعة
المرأة ضعف وفي جبلتها خور فأسلست له وانقادت فهوت. ولكن عقل الفتى كان يخزه - بين الحين والحين - وخزات عنيفة توقظ في نفسه الندم أن اقترف الجريمة الشنعاء في ساعة من ساعات الطيش الجامح، غير أنه يرى الزوجة الخائنة إلى جانبه تبسم له في رقة وتحنو عليه في عطف، فيرق لها قلبه وتتحرك في فؤاده نوازع الرحمة يشوبها الاحتقار، وتضطرب في نفسه دوافع الشفقة ممزوجة بالبغض.
أما هي فكانت تتملقه وهي ترى ثوب الرياء الذي تسربله حيناً من الزمن يتكشف أمام ناظريها عن ألوان من الضعة والسفالة والفقر. . . ولكنها كانت تتملقه وهي تحس في نفسها ألماً يتصدع له قلبها وينقد فؤادها. . . تتملقه لأنها لم تعد شيئاً سوى جيفة نتنة ملقاة على الثرى، وهي تخشى أن يقذف بها صاحبها إلى عرض الشارع.
لا عجب، فقد كان الشاب - في يوم ما - يحب الزوجة حباً يراه فالقاً كبده، ولكنه كان حب الحيوان يرنو إلى الأنثى ليقضي منها وطراً. فلما ظفر بمأربه بدأ الملل ينسرب إلى قلبه وضاق هو بحاجات المرأة وراتبه ضئيل تافه. وخانته شجاعته فلم يقو على أن يكشف لها عن خواطر عقله، فعاشا معاً زماناً.
وانطوت الأيام تمسح بيدها الرفيقة على قلب الزوج عسى أن تلتئم جراحه أو تسري عنه بعض همه، وترفقت به العناية الإلهية فتدفقت في مفاصله روح الصحة والعافية، فإذا هو - بعد أيام - في مكانه في المدرسة يجد السلوة في عمله بين كراساته ودفاتره وتلاميذه. ولكن ستراً كثيفاً من الأسى ما زال ينسدل على جبينه فيبدو كئيباً ضيق النفس لا تنفرج شفتاه - أبداً - عن ابتسامة.
وسأله صاحب له - ذات مرة - عن ما أصابه فقال: (لقد ماتت زوجتي وخلفت لي صغاراً لا أجد من يكفلهم في غيبتي وإن عملي ليرغمني على أن أقضي ساعات النهار كلها في المدرسة) فقال له صاحبه (أحقاً ما تقول؟) قال (نعم، لقد ماتت من تاريخي أنا فقط) وتراءى للصديق أن حادثة اجتاحت الزوجة وطمَّت على بشاشة الزوج في وقت معاً، فقال له في لهفة وشفقة (وكيف؟) فجلس إليه يقص القصة كلها وإن عبراته لتتدفق هتَّانة ثم قال: (وأنا الآن أضيق بالحياة فما أصبر على الوحدة ولا أستطيع أن أتزوج فأضرب أولادي باليتم والضياع. فلا معدى لي عن أحد أمرين: إما أن ألقي بنفسي في اليم فأخلص من
عذابي بين أمواجه وإما أن أذهب إلى السودان مرة أخرى فأفقد روحي بين لظى الحر وقيظ الهاجرة) فقال له صاحبه في فزع: (وأولادك؟. . . أولادك يا أحمق؟) واضطرب قلب الرجل فآثر أن يبقى بين أولاده يرعى شأنهم، وهو يتشبث بالصبر والسلوان. وكان صاحبه ذا شأن ومكانة فجذبه من مشغلة التدريس إلى فراغ الديوان ليجد من وقته فراغاً للدار ومن قلبه سعة للولد.
وقضى الزوج سنة ذاق فيها غصة الحياة ومرارة الوحدة، وأحس - هو وصغاره - حرقة اليتم ولذع الضياع، واستشعر - وحده - قسوة القدر وغلظة الأيام. على حين كانت الزوجة الخائنة تعيش بين ذراعي فتى يصغرها بسنوات ويضيق بعشرتها، ويرى فيها فنوناً من الضعة والصغار، ويخشى أن تعبث به كما عبثت بزوجها من قبل؛ وما حاله بأحسن من حال زوجها يوم أن كان، ولا هو أعز عليها من أولادها. . . ثم ثارت به الشكوك وساورته الريبة!
وجلست الساقطة - ذات ليلة - إلى فتاها تطلب إليه أن يرتبطا معاً بالرباط المقدس. . . الزواج، وتلح في الطلب. ولكنه امتنع عليها وأعرض عنها!
يا لجهل الحمقاء! لقد عزب عن عقلها الفج أن المرأة الهينة هي لعبة تافهة بين يدي الرجل يلهو بها ساعة، ثم يحطمها وينبذها بالعراء؛ لا يحمل لها في نفسه إلا المهانة والاحتقار، وأن المرأة الصعبة هي في ناظريه كالطود الأشم ينحسر عنها البصر كلما اقترب منها لأنها تتراءى أمامه شامخة باسقة.
وألحت الحمقاء في الطلب فثار صاحبها ثورة قذفت بها إلى عرض الشارع وهو يقول (أفأتزوَّج هذه العاهر. . هذه الفاسقة؟)
وخرجت الخائنة إلى الشارع في ليلة ممطرة وإن أسنانها لتصطك من شدة البرد وإن جسمها لينتفض من زمهرير الشتاء وإن عبراتها لتنهمر من خيبة الرجاء وضيعة الأمل.
واقتص القدر من الزوجة الخائنة حين قذف بها إلى الشارع لا تجد العون ولا المأوى، فيا للقصاص العادل. . . يا للقصاص!
كامل محمود حبيب
هل تستطيع روسيا غزو العالم؟
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
عندما أعلن كارل ماركس نبوءته بشر بثورة العمال الكبرى التي ستنهي المرحلة الرأسمالية وتقيم على أنقاض عالمها نظاماً شيوعياً، وقال إن الفقر سيكون الدافع الذي يعجل بهذا الانهيار. وقد حصلت الثورة في روسيا وقام أبطالها بتطبيق نظريات كارل ماركس تمهيداً لإنشاء المجتمع الشيوعي الموعود. واليوم، وبعد أن مر أكثر من ثلث قرن على هذه الثورة، نسمع أن الجيش الأحمر حل محل ثورة العمال، وأن زعامة ستالين خلفت الفقر في تولي قيادة التاريخ. وبهذا تعلق مصير الشيوعية بهذا الجيش وبهذه الزعامة ولم تعد تعني تطوراً اجتماعياً محتماً لا بد منه. وبناء على هذا التحول نتساءل الآن عما إذا كان في إمكان الجيش الأحمر ومن وراء قوته روسيا غزو العالم وإقامة النظام الشيوعي؟
لقد اتضح بسرعة بعد الثورة الروسية أن هؤلاء الاشتراكيين البلشفيين أناس يختلفون في نزعتهم عن أولئك البلغار الدستوريين والثوريين من اتباع كريسنكي. لقد كانوا من الشيوعيين المتعصبين، وكانوا يعتقدون أن تسلمهم للسلطة في روسيا ليس إلا بداية للثورة الاجتماعية، فعملوا على تغيير النظام الاجتماعي والاقتصادي وإقامة نظام جديد بعقول لم تنضجها التجارب. وإن كانت الحكومة البلشفية قد نجحت في كفاحها ضد التدخلات الخارجية والثورات الداخلية، إلا أن نجاحها كان أقل في محاولاتها لإقامة نظام اجتماعي جديد يرتكز على المبادئ الشيوعية. فقد كان الفلاح الروسي، ذلك الفلاح الجائع صاحب الأرض الصغيرة، بعيداً عن الشيوعية في آرائه وطرائقه في الحياة بعد الحوت عن الطيران كما يقول ويلز. إن الثورة منحته أرضاً من تلك الأراضي التي كان يملكها الملاك الكبار، ولكنها لم تيسر له إنتاج غذائه لغير معاملات التبادل النقدية، بل إن الثورة دمرت من بين ما دمرت قيمة النقد ذاتها. يضاف إلى ذلك أن الفوضى كان قد سبق لها أن شملت الإنتاج الزراعي من جراء انهيار طرق السكك الحديدية أثناء المجهود الحربي فتقلص هذا الإنتاج تقلصاً انتهى به إلى أن غدا مجرد إنتاج للطعام يتعهده الفلاحون لاستهلاكهم الخاص. وجاعت المدن وفشلت فشلاً تاماً كل المحاولات الارتجالية الداعية لتحويل الإنتاج الصناعي وفقاً للمبادئ الشيوعية. وما إن حل عام 1920 حتى كانت روسيا قد عرضت
أول اتجاه من نوعه في المدينة الحديثة إلى الانهيار التام. وأعقب ذلك انهيار خطوط السكك الحديدية وخراب المدن وسريان الدمار إلى كل مكان. وفي عام 1921 حل جدب عام وسرت بين الفلاحين المنتجين مجاعة كبرى دمرت المناطق الجنوبية وأجاعت الملايين من الناس.
ووسط هذه الظروف المؤلمة وضعت التصاميم لتنفيذ عملية الأعمار، ووضعت سياسة اقتصادية جديدة. وبمقتضى هذه التدابير منحت حرية لا بأس بها للمالك الفردي ولصاحب المشروع الخاص على عكس ما يتطلبه المنطق الماركسي. ولهذا لاح أن روسيا قد تخلت عن الاشتراكية وأنها أصبحت تعيش في ظروف تشبه نوعاً ما تلك الظروف التي كانت عليها الولايات المتحدة في المئات الأولى من سني تاريخها. فقد ظهرت طبقة الفلاحين المرفهين من الكولاك الذين يشبهون الفلاحين الأمريكيين الصغار وتضاعف عدد التجار المستغلين. ولكن الحزب الشيوعي لم يكن يميل إلى ترك وسائله الخاصة في سبيل السماح لروسيا أن تسير على النمط ذلك سارت عليه اليقظة الأمريكية منذ مئات السنين.
وفي عام 1928 بدأ مجهود ضخم جبار لإعادة البلاد إلى الطريق الشيوعي في التطور الاجتماعي. فوضع مشروع الخمس سنوات وفق تصميم يروم دفع البلاد إلى الأمام لتحقيق توسع سريع في ميدان التصنيع، وعلى الأخص، وبصورة كبيرة، في مجال المصنوعات الثقيلة وإعادة تنظيم الإنتاج الزراعي حسب أسلوب الإنتاج الكبير الذي تتعهده المزارع التعاونية. وفي شهر يناير من عام 1924 خسرت روسيا قيادة لينين البارعة، وكان خلفه ستالين صاحب يد قوية قاسية فعمل على تصنيع البلاد بالعنف ولكنه لم يصب أي تقدم رغم كل المحاولات. وما إن حل الشتاء عام 1933 - 1934 حتى وجدت روسيا نفسها دفعة واحدة تواجه نقصاً كبيراً في الطعام. وخلال كل هذه المراحل كانت بقية الدول في العالم مشغولة في اجتناء نظام الفائدة الخاصة، مراقبة التجربة الروسية مراقبة يمتزج فيها الفضول بعدم الثقة والتهيب. ولكن هذه التجربة كانت تتحول من حال إلى حال ومن شكل إلى شكل. فإن الضغط العنيف على المعارضة قد استمر على قوته مما اضطر كل أسلوب من أساليب المقاومة أن يعمل في الخفاء والسر، وبذلك كان الأمر ينتهي بالمعارضة المضغوط عليها إلى أن تصبح معارضة دموية. وأخذت دواعي الانفصال تأكل في قلب
النظام الجديد، وأعقب وفاة لينين صراع طاحن من أجل السلطة، بين تروتسكي الذي يعزي إلى قيادته العسكرية اللامعة النجاح الذي أحرزته الجمهورية في المعارك الدفاعية التي خاضتها عام 1919 - 1920 وبين ستالين سكرتير الحزب الشيوعي سابقاً. إن التفاصيل الكاملة لهذا الصراع المعقد لا تزال غامضة لم يزح عنها النقاب؛ فقد كان تروتسكي موهوباً ولكنه كان مغروراً، أما ستالين فكان صلباً مستبداً برأيه. وأدى الصراع بينهما إلى تقسيم القوة الماركسية اليسارية في جميع العالم إلى جبهتين متخاصمتين.
وشوهد في روسيا نفسها الكفاح السري الذي يؤججه المعارضون من الموظفين والمستخدمين ضد ستالين في إدارته، ولكن أكثر قوى هذا الكفاح قد ضاع في وسط شديد الغموض وفشت بين الجبهات المعارضة بكل تأكيد بعض الخيانات والانشقاقات، إلا أن هناك احتمالاً يقرب من اليقين يؤيد بأن المعارضة كانت موجودة في زمان لينين، وأنها ازدادت نشاطاً وترابطاً بعد وفاته. وسلكت الحكومة الستالينية في بادئ الأمر سياسة معتدلة مع هؤلاء المعارضين لفترة من الزمن. وقد سيق إلى المحاكمة عدد من الموظفين المسؤولين معهم عدد من الفنيين البريطانيين متهمين بأنهم يعوقون عن عمد المحاولات الجارية لتصنيع روسيا. وانكشف الستار بعد عدة محاكمات متتالية عن عناصر سياسية متآمرة. ولكن حتى مقتل واحد من أقرب المقربين إلى ستالين وهو وزيره (كيرون) الذي قتل أثناء قيامه بواجبه في الكرملين في أول ديسمبر 1934، وإلى حد هذا التاريخ كان المتهمون يساقون إلى السجن أو إلى المنفى؛ إلا أن الأمور بعد هذه الحادثة أخذت تتجهم وتزداد حلوكة. ففي ربيع 1934 فقد ستالين زوجته في ظروف لا تزال إلى الآن غير معروفة بل وأن هناك من يظن أنها انتحرت بسبب الآلام التي قاساها الفلاحون عند تطبيق مشروع السنوات الخمس. وبعد أن نفض ستالين يديه من جميع معارضيه قتلاً وتشريداً وحبسا وجد نفسه بلا صديق حميم فراحت المحاكمات السياسية تتبع الواحدة الأخرى، وأصبح الموت هو الشيء الوحيد الذي يتبع مجرد الاتهام، وقتل القادة البولشفيك الواحد بعد الآخر، ولم يبق منهم غير اثنين أو ثلاثة. وغدا ستالين طاغية لا يعرف معنى التسامح ولا أسلوب التسويات بل كان همه مكافحة المتآمرين على حياته ومصلحته.
هذه هي الحالة التي كانت عليها روسيا عام 1938؛ فالحياة المادية فيها - كما يقول ويلز
في كتابه تاريخ العالم - كانت تعاني الإجهاد يصاحبها نقصان تدريجي في الإنتاجين الزراعي والصناعي. وقد كان في وسع الجيش الهتلري لو وجه كل قواه منذ أول الحرب لغزو روسيا أن ينجح أكثر من نجاحه الذي حققه في الغزو الذي شنه بعد أن استنزفت القوى الألمانية وبعد أن استطاع الإنجليز والأميركيون أن يزيدوا مواردهم ويضاعفوا إنتاجهم.
ومع أن قوات الروس والحلفاء ظلت متعاونة قرابة أربع سنين إلا أن الهوة التي تفصل بين الأهداف الروسية والأهداف الأمريكية سرعان ما فصلت بين الحلفاء الغربيين وبين روسيا بمجرد انتهاء الحرب، وعاد العالم - كما حدث في كل مراحل التاريخ - لينقسم إلى معسكرين متعاديين متعارضين، وأخذت تتردد أحاديث الحرب الجديدة على الشفاه، فيكتب عن هولها المعلقون، ويتنبأ بنتائجها الباحثون والكاتبون. ولا يمكن حتى لأشد الناس تفاؤلا أن يكتم يقينه بوقوع الواقعة يوماً ما، لأن ستالين قد أعد جيشه الأحمر ليكون رسولا لمبادئ كارل ماركس، كما سبق لهتلر أن أعد جيش الرايخ ليقيم النظام الجديد. فما هي الموارد التي تمون هذا الجيش الذي أضحى بديلاً عن الثورة العمالية الكبرى؟ أو بمعنى أصح، هل روسيا قادرة على تحقيق حلم ستالين بإقامة قيصرية روسية كبرى مركزها الكرملين؟
هل تستطيع روسيا أن تثير حرباً؟ هذا هو السؤال الذي يجابهنا اليوم، وفي الإجابة عنه نقول إن خطط روسيا الحربية يجب أن تبنى على اقتصادها الصناعي في حين أن المعلومات عن هذا الاقتصاد غير متوفرة تمام التوفر. ومع ذلك فهناك عدد من الحقائق الأساسية يمكن التكهن بواسطتها. ولنبدأ أول ما نبدأ بالسكان ندرس بعد ذلك مساحة البلاد نفسها. وفي هذا المجال من الخطأ الظن بأن روسيا إقليم ضخم ذو ثروة وإمكانيات غير محدودة. فمساحة روسيا تبلغ ما مقداره (45) مرة بقدر مساحة ألمانيا؛ إلا إن أكثر من نصف مساحتها غابات، وما يقارب خمسها صحراء أو شبه صحراء، ولا تتجاوز المنطقة الخصبة ثمن المساحة الحقيقية. وهذا يعني أن قابلية روسيا لإعاشة (182) مليون نفس لا تتجاوز قابلية أمريكا لإعاشة (142) نفس، ويعني أيضاًبأن الروس سيعانون دوما نقصاً في غذائهم وستبقى روسيا مدة طويلة من البلدان التي تدركها المجاعات.
ويوجد حوالي خمسة ملايين من الروس مشتتين في مناطق بعيدة تشتتاً أضاعهم في الغابات
والمجاهل الواسعة، وكذل فإن عدد السكان الروس العاملين لا يتجاوز عدد السكان الأمريكيين العاملين. وإذا أضفنا إلى ذلك أن أغلب المصانع الروسية متركزة في المثلث الذي يمتد من (لينينغراد) و (أوكرانيا) غرباً إلى المناطق الصناعية الجديدة في وسط سيبريا وهي المنطقة الروسية المنتجة الوحيدة، وأن هذا المصدر الرئيسي المتركز داخل المثلث مكشوف تماماً، عرفنا مقدار انحطاط القابلية الصناعية في روسيا ومقدار تعرضها للخطر في حالة نشوب حرب حديثة.
ويبلغ الإنتاج الروسي اليوم إنتاج الولايات المتحدة قبل 48 سنة. ونحن نعرف أن الحرب قد أتلفت الكثير في ألمانيا وإيطاليا واليابان وإنجلترا إلا أن التلف الذي حصل في روسيا يفوق كل تلف سواه، فقد خسرت روسيا 58 بالمائة من طرقها الحديدية و44 بالمائة من قوتها الكهربائية و45 بالمائة من إنتاجها من الحديد و55 بالمائة من إنتاجها من المواد الغذائية، كما خسرت الملايين من البيوت والبنايات والجسور.
(البقية في العدد القادم)
فؤاد طرزي المحامي
المازني في عهدين
بين إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني
للأستاذ غائب طعمة فرمان
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
في نهاية رحلته. . . يدلف إبراهيم الكاتب إلى المقبرة. . . العالم المليء بالذكريات. . . لتذكره بالموت. . . ويملأ عينيه بالرفات الباقي من حيوات كثيرة. . . وما أشبه الرفات بالذكريات!. . أليست هي بمثابة رفات لحبه الماضي؟!.
وهناك في ذلك الجو الساكن الرهيب يفكر في أمر هذه الحياة الغامضة الغريبة التي يمتزج فيها الصراخ بالغناء، ويختلط بها الألم بالطرب. . . وهو يردد (لا شك في أن الحياة عمياء وصماء. . . فليتها توهب البصر هنيهة لترى هذا الخليط من الحسن والقبح، والخير والشر! ويا ليت! من يدري ماذا تصنع إذن؟. . أترى يثور الخجل بها، فتعصف بكل شيء وتمحوه، أم تأخذ في إصلاحه وعلاجه في صبر وأناة.). . . أما لو كنت أنا الحياة لتناولت ما أخرجت كفاي من طينة الأرض المحدودة، ودككته وحطمته، ثم ذررته لهذه الرياح.
وتلك فلسفة إبراهيم الكاتب التشاؤمية. . . تلك الفلسفة القاتمة التي تعتبر الحياة (قبضة ريح) و (حصاد الهشيم) و (باطل الأباطيل) وهي فلسفة الكتاب المقدس الذي أشربت نفسه حكمته - كما يقول الدكتور محمد مندور.
ويدركه الأعياء فيقول لنفسه:
(الموت على الأقل راحة. . . فليت الحادي يعجل بنا، فقد سئمت الحياة، ومللت النظر في وجهها الملطخ، وثوبها المرقع، واشتقت أن أرقد هنا إلى جانب. . .).
ولكن صوتاً قوياً يصرخ من جانب القبر. . . (لا. . .).
ويظل القول يعاتبه فيقتنع إبراهيم بذلك ويقول:
(حسن. . . سأحيا من أجلك، وألقى المهالك إكراماً لك، وظناً بك أن تلحقي بالأموات جداً.)
ولكن. . . من أجل مَنْ؟.
(من أجل التي لها يحيا، وفي سبيلها يسعى، وبها وحدها يعني طائعاً أو كارهاً. . . من أجل
نفسه!).
ويمر ذلك العهد. . . عن العاطفة الصارمة، والحب الجارف، والاندفاع وراء القلب المرهف. . . عهد كان أخوف ما يخافه ويضجر من شقائه هو العقل. . . العقل الذي لا يستسيغ تصرفات قلبه الجامح، ولا يطمئن إلى عاطفته الحارة. . . فكان إبراهيم الكاتب يقول:
(أوه. . . العقل! العقل!. ليت المقادير حرمتنا هذه النعمة التي لم نغن بها) ثم ينقضي عهد العواصف واليأس والقنوط.
وتنقلب صفحة مليئة بالأشجان. . . لتطلع علينا صفحة ثانية تقص علينا قصة حياة أكثر اطمئناناً، ورضى بنصيبها، وفهماً لدنياها. . . قصة تزول عنها حمى العاطفة ونزواتها وطيشها، وتنقلب إلى حكمة ودراية واتزان.
تلك هي حياة إبراهيم الثاني. . أو إذا أردنا الدقة. . . حياة إبراهيم الكاتب بعد أن تغير تغيراً كبيراً، أو كما عبر المازني نفسه (ولو أمكن أن يلتقي الإبراهيمان - إبراهيم الكاتب وإبراهيم الثاني - لاحتاجا إلى من يقوم بينهما بواجب التعريف)
فإبراهيم الثاني اليوم في العقد الخامس من عمره. . . أورثته حياته المرهقة، وإحساسه العميق، وذكرياته الطويلة، وسواساً قوياً يخيفه، ويأخذ بمجامع قلبه، وقلقاً صارماً يستحوذ على فكره. . . (فقد كان أخوف ما يخافه أن يكون قد شيخ، أو أشفى على الشيخوخة) فهذا الهاجس يعذبه دائماً، ويحيل حياته إلى عذاب نفسي أليم. . . وينغص عليه عيشه. . . وكأنه يلمح على عتبة الحياة شبحاً مدبراً هو شبح شبابه حاملاً معه كل حلم من أحلامه، وكل زهرة من زهرات ربيعه.
ويزداد هذا الوسواس بعد موت أمه، وقام في خلده أنه شب عن الطوق جداً جداً! ودخل مداخل الرجال الذين لا يحتاجون إلى تعهد ورعاية. . . فهو يدلف إلى الشيخوخة بقوة لا يستطيع لها دفعاً، ويخلص من نعيم الشباب وهو معتلج القلب بالعواطف.
ولكن. . . مهلا ما الشباب. . . أليس هو إيحاء وشعور يستوليان على النفس. . . وهل خلى إبراهيم من إيحاء الشباب والشعورية؟!
ولكن اليأس المضني يدركه حين تصور له أوهامه، وتلف أعصابه أنه موشك على الموت،
ذلك العالم المجهول لشد ما يخيفه، ويفزعه، وذكراه وحدها كفيلة بأن تقلقه. . . (يا ويحه إذا رأى جنازة أو فاجأه عويل نسوة على ميت. . .).
غير أن شيئاً من الاطمئنان يسري في نفسه حين يتزوج، ويرى من زوجته امرأة عظيمة الإخلاص، حنوناً تترفق به، وتحبه، وتسهر على مرضاته، وتقوم مقام الأم الرؤوم، والصديقة الوفية، والزوجة المخلصة.
ولكن الإحساس بالشيخوخة والمرض لا يلبث يطارده، فتنقلب عاطفة إبراهيم الكاتب إلى برود، وينسخ العقل والتفكير أحكام العاطفة، وتتحول النار المضطرمة إلى رماد!.
وتخلو حياته من العواصف. . . فالاتزان عماد حياته، فلا الحب يهزه - كما كان يهز خلفه - ولا الحزن يأخذ بأفكار نفسه. . . فإذا قام الحب بينه وبين امرأة على رغمه، وتصارحه امرأة بما في صدرها من كامن الحب يقف كالشيخ الجليل أمام النار المتوقدة التي تطلب الوقود. . . ويحاول أن يخمدها بحكمته.
دعني أنقل لك موقفاً من مواقف حكمته لترى مقدار التغير الذي أصاب إبراهيم الكاتب.
(عايدة) فتاة عزيزة تعاني الكبت الشديد، والحرمان من كل ما عسى أن يكون فيه إرضاء للأنوثة، وتلطيف من حدة ثورتها الطبيعية، وقلة الثقة بنفسها، كثيرة الوسواس، تنتابها الأزمات العصبية وتتركها مهدمة محطمة. . . وهي مع ذلك ذات جمال وفتنة وقوام رشيق. . . تتعرف إلى إبراهيم، فترى فيه رجلا يملأ عينيها، وترتاح إليه، وتهرب إلى كنفه من رمضاء الحياة. وتجد في صحبته ملاذاً من وساوسها وأوهامها، وكهفاً تستكن إليه حين تعصف العواصف في سماء نفسها القلقة الهشة - وعلى مر الأيام يتسلل عطر الحب إلى صدرها، حتى يضيق به، فتصارحه بذلك:
(أنت حبيبي. . . نعم. . . لا تفتح فمك هكذا كأني رميتك بحجر. . . ما حيلتي؟. كن منصفاً. . . ألقاك كل يوم وأسمع حديثك، وأشعر بقربك، ولا أرى أو أسمع سواك، وأحس عطفك. . . لقد علمتني أشياء. . . وإنك لمسئول عني. . . ولا أمل لي في الحياة. . . وليس لي غيرك. . . أنت عزائي فيها.)
نعم. . . تلقاه كل يوم. . . وتتحدث معه، وتشعر بقربه. ولكن قلبه لا يتحرك لها، ولا يستجيب لنداء فؤادها. . . ما خطبه؟. لقد خمدت في جوفه النيران!!. فيجيبها جواباً أشار
به عقله، ولم يستشر هواه:
- (اسمعي يا عايدة. . . إنك عزيزة عليَّ، أثيرة عندي. . . ولكن الحب شيء آخر!. لا ينبغي أن يكون بيننا هذا. . . أنه يفسد كل شيء عليَّ وعليك!! أنت فتاة صغيرة عزيزة ومستقبلك كله أمامك. . . وأنا رجل كهل قد خلفت صباي ورائي. ثم إن لي زوجة تحبك وتأتمنك. اسمحي لي أن أقول إني لا أصدق أن فتاة مثلك يمكن أن تحب رجلا مثلي. . . كلا. . . ليس هذا حباً وإنما هو فورة إحساس. . . إنها حركة لنفس مكبوتة ليس إلا. . . نشوة عارضة تحسينها، وتغلطين وتتوهمينها حباً.)
إنه صوت العقل. . . العقل الذي ركن إلى الاتزان، وابتعد عن صحراء الحب وعطشه. . . وقد فطنت الصغيرة عايدة لذلك فصرخت في وجهه قائلة:(إنك آلة مفكرة لا إنسان من لحم ودم!)
وقد صدقت عايدة. . . تلك التي ماتت وهي تعاني آلام الحب المجروح الذي وقف متضرعاً أمام هيكل العقل المكين. . . وإبراهيم الثاني يعرف مبلغ تحكم العقل فيه فقال يصف نفسه (ويعرف من يعرفونه أنه رجل عاطفة ووجدان، وإحساس مرهف وأعصاب كالأوتار المشدودة. . . ولكنهم كثيراً ما كان يخفى عليهم أن عقله مسيطر على عاطفته، وأن زمام نفسه لا يفلت من إرادته، وأن العواطف عنده تتحول إلى فكرة. . . فهي غذاء لعقله، كما يتحول الطعام قوة في بدنه. . .)
وأين هذه القمة الباردة من لهيب العاطفة، وحرارتها في إبراهيم الكاتب؟. إبراهيم المندفع وراء قلبه. . . إذا استقر الحب في سره مدة عذبه، وانقلب حسكا لا يجد الإرادة القوية التي تقف دون إفشائه.
ويلذ لإبراهيم الثاني أن يكون طبيباً نفسانياً يدرس مرضاه، ويسدي لهم النصح ويهديهم سواء السبيل، ويقف أمام (المشرحة) وأمامه نفس تتعذب وتتلوى من الألم. . . وفي صدره إرادة لا يقهرها أي قاهر.
وينفرط عقد القصة، وتبدو الحوادث مفككة الأجزاء حتى ليخيل إليك أنك أمام مذكرات لطبيب نفساني يسرد أعماله النفسية فحسب.
وتنطوي مع صفحة الشباب المندفع صفحة أخرى هي صفحة تشاؤمه وحزنه ويأسه وما
يخيم في سماء حياته من غيوم.
واستسلم القلب المنكود إلى القناعة، والعقل المفكر إلى أحضان الواقع:
(إن الدنيا ليست بالجنة، ولم تخلق على هوانا، ولا كان لنا رأي في خلقنا نحن. . . وإنما جئنالأننواميس الحياة اقتضت أن نجيء، فغير عجيب أن يكون ثم ما يسخطنا ولا يرضينا، ولو ذهبنا نتسخط كل ما لا يرضينا لما عادت الحياة محتملة، فالصبر والحكم وتناول الأمور برفق وتسهل، أوجب ما يجب، وأدل شيء على حسن الفهم وصحة الإدراك، وليس هذا من قبيل قولهم ليس في الإمكان أبدع مما كان. . . فإن كل ما في الدنيا قابل لتحسين وإصلاح وتهذيب. . . وإن لم يكن في ذاته غاية في السوء والفساد. . .
. . . وأهرق كأس الحزن على أطلال الماضي، ولم تشغله أشباح الزوال، ولم تعمر فكره الرؤى القاتمة، وتساوى عنده قصر العمر وطوله في مقياس الفكر والإحساس، والشعور والإدراك:
(إننا أعطينا الحياة ولم نعطها بشرط، وقد أعطيناها لنحياها لا لنقطع نفوسنا حسرات على أنها لا محالة زائلة. . . ولا قيمة لطول العمر أو قصره فإن العمر لا يقاس بعد السنين بل بمبلغ ما يعمره من الإحساس والفكر).
وكفرحة الراهب برجوع الصابئ إلى ديره يفرح إبراهيم حين يرجع أحد مرضاه - أحد أشخاص روايته - إلى الطريق السوي. . . فاليوم يعيش في فكره. . . أما قلبه فقد دفنه في الماضي البعيد.
(بغداد)
غائب طعمة فرمان
ركن المعتزلة:
قدرة الله في مذهب المعتزلة
للدكتور ألبير نصري نادر
ردَّت المعتزلة جميع صفات الله إلى ذاته. فإذا تحدثوا عن قدرته تعالى، فهم ينظرون إليها كأنها وجه آخر من أوجه الذات يبحثونها على زعم أنها اعتبار ذهني ليس إلا وغير موجودة حقيقة في الذات.
ما يقدر الله عليه:
كما أن علم الله يشمل كل شيء، كذلك قدرته تعالى منبسطة على كل شيء - وتميز المعتزلة بين قدرة الله وما يقدر الله عليه؛ ويقول أبو الهذيل في هذا الصدد: إن لِما يقدر الله عليه غاية ونهاية في العلم به والقدرة عليه والإحصاء له، ليس يخفى على الله منه شيء، ولا يعجزه شيء منه. ومن أدلته على ذلك قوله تعالى:(إنَّ اللهَ على كلِّ شيْءٍ قديرٌ). (وبكلِّ شَيْء عليم). (وأَحصَى كلَّ شيء عدَداً).
كما أنه لا شيء يغيب عن علمه تعالى كذلك لا شيء يخرج عن قدرته تعالى؛ ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت قدرة الله عاجزة ضعيفة، وعليه تكون ذاته ناقصة؛ وفي هذا تناقضلأن علمه وقدرته تعالى هما ذاته.
وحين يقول أبو الهذيل ومعه المعتزلة أجمع: إن الله على كل شيء قدير، هل يعني هذا القول أن قدرته تعالى لا يُمكنها أن تتعدَّى حدود ما قدر عليه وأنها تحققت كلها فيما قدرت عليه كما أن علمه شمل كل المعلوم ولا يمكنه أن يتعداه؟ وبمعنى آخر هل لقدرة الله حدّ هو هذا العالم المخلوق؟ ولو انبسطت على ما ليس متحققاً أو ممكناً لكانت قدرة بدون مقدور؟
يحكي ابن حزم عن أبي الهذيل بهذا الخصوص قائلاً: وقال أبو الهذيل بن مكحول العلاف إن لما يقدر الله عليه آخِر ولقدرته نهاية لو خرج إلى الفعل لم يقدر الله تعالى بعد ذلك إلى شيء أصلاً ولا على خلق ذرة فما فوقها ولا إحياء بعوضة ميتة ولا على تحريك ورقة فما فوقها ولا على أن يفعل شيئاً أصلاً.
ويقول ابن حزم في مكان آخر: وكان علي الأسواري البصري أحد شيوخ المعتزلة يقول
إن الله عز وجل لا يقدر على غير ما فعل
إن هذين القولين اللذين يذكرهما ابن حزم لا يعطيان فكرة صحيحة عن قولأبيالهذيل والأسواري ولا عن قول المعتزلة فيما يختص بقدرة الله. ويكفينا أن نرجع إلى تعريف المتعزلة لقدرة الله لندرك أن في مذهبهم القدرة هي الذات وأنها غير متناهية. وإذا بدت لنا هذه القدرة بواسطة بعض الأشياء المتحققة فالمعتزلة لا يستنتجون من ذلك أَن قدرته تعالى محدودة بهذه الأشياء لأنه زيادة على ما تحقق من الأشياء توجد أشياء ممكنة وغير متناهية في العدد تتحقق في الزمان أو خارجا عنه، ولكنها لا تخرج عن قدرته تعالى لأن هذه القدرة لا متناهية كالذات. فعلى ذلك إذا كان ما تحقق وما يتحقق من الأشياء محدوداً في العدد والكم والإبعاض فإن هذا شيء لا يعني أن قدرة الله تقف وتنتهي عند هذا الحد لأنها غير متناهية.
تجنب المعتزلة للمذهب الحلولي
كما أنه لا يوجد عالِم بدون معلوم ولا قادر بدون مقدور عليه، كذلك توجد موازاة بين الله والعالم. فمن جهة نرى علماً وقدرة غير متناهين ولهما موضوع؛ ومن جهة أخرى نرى موضوعاً لا متناهيا وأزليا نوعاً ما، لأنه يقابل فاعلاً متحلياً بهاتين الصفتين: صفة العلم وصفة القدرة الغير متناهيتين؛ ألا وهو الله الذي هو في مذهب المعتزلة كله علم وقدرة.
فيكفينا أن ندمج فكرة الله هذه (وهو الفاعل) في العالم (وهوالموضوع أعني موضوع العلم والقدرة) حتى ننتهي إلى المذهب الحلولي وهو خلط الله وإدماجه في العالم. ولكن المعتزلة تميز دائماً بين ماهية الفاعل وماهية الموضوع، وهذا ما أدَّى بهم إلى التكلم في العدم واعتباره شيئاً متميزاً تماماً عن ماهية الله. والعدم في مذهبهم هو مادة العالم التي ينقصها الوجود والله يمنح هذه المادة الوجود ليكوِّن العالم المخلوق.
العلاقة بين علم الله وقدرته تعالى:
قالت المعتزلة إن علم الله هو هو، وإن قدرته هي هو؛ فعلى ذلك تكون الذات هي العلم والقدرة فإذاً علمه وقدرته تعالى يختلفان تمام الاختلاف عن العلم والقدرة عندنا لأنه كثيراً ما يقوم الخلاف بين العقل وهو عندنا ملكة المعرفة، وبين الإرادة وهي عندنا ملكة التنفيذ
والعمل. وكم من الأحيان ندرك الشيء الحسن ونميزه ولكنا بالرغم من ذلك نغفل العمل السيئ - لكن في الله العلم هو القدرة والقدرة هي العلم؛ لذلك نجد عليّاً الأسواري المعتزلي يشدد بحق على العلاقة بين علم الله وقدرته إذ يقول: إن من علم الله أنه سيموت ابن آدم ابن ثمانين سنة، فإن الله لا يقدر على أن يميته قبل ذلك، ولا أن يبقيه طرفة عين بعد ذلك. وإن من علم الله من مرضه يوم الخميس مع الزوال مثلا فإن الله تعالى لا يقدر على أن يبرئه قبل ذلك لا بما قرب ولا بما بعُد، ولا على أن يزيد في مرضه طرفة عين فما فوقها.
يدهش ابن حزم كل الدهشة من هذا القول في حين أن المعتزلة تجده قولاً صحيحاً معقولا منطقيا لأنهم يردون جميع الصفات إلى الذات: فعلم الله هو ذاته كما أن قدرته هي ذاته، فما يعلمه الله فهو قادر عليه ولا يجوز خلاف ذلك، وما يقدر عليه فهو يعلمه، ولا يجوز خلاف ذلك في مذهبهم - فهم لا ينظرون إليه تعالى كما نحن ننظر إلى الإنسان الذي يفكر ويعلم ويقرر ثم لا ينفذ أو ينفذ خلاف ما قرر. لا. لأن علم الله هو قدرته. وليس هناك أي مشابهة بين الله تعالى والإنسان. لذلك نجد أكثر مؤرخي الملل يدهشون لأقوال المعتزلة التي تبدو لهم غريبة؛ ولكن عندما ندرك أصل مذهبهم وهو رد جميع الصفات إلى الذات نفهم بسهولة هذه الأقوال ونجدها نتيجة منطقية للأصل الذي بنوا عليه مذهبهم.
هل الله مكلف بفعل الأصلح؟
تقول المعتزلة: إن الله مكلف بفعل الأصلح. وهذا القول نتيجة منطقية لرأيهم في ماهية الله اللامتناهية والكاملة إذ أنهم يردون إليها العلم والقدرة. ولما كان الله كاملاً فلا يمكنه أن يقف عند ما هو غير كامل وإلا أصبح هو تعالى أيضاً غير كامل. وعلى هذا القول بنت المعتزلة رأيها في التفاؤل. ويقول النظام والجاحظ والأسواري والكعبي إن الله لا يوصف بالقدرة على ترك الأصلح من الأفعال إلى ما ليس بأصلح ونحن لا نعجب من رأي المعتزلة هذالأن الله وهو كل الكمال لا يعزم على خير ثم يميل إلى خير آخر أسمى من الأول كأنه تعالى يتدرج في مراتب الكمال. فإذا كان الأمر كذلك لم يعد الله كلي الكمال؛ إذ أن في هذا الخير الأسمى الذي مال إليه الله تعالى بعد تركه الخير الأول يوجد كمال كان ينقص الأول وهذا الكمال كان سبباً في تحرك الله من درجة في الكمال إلى أخرى أسمى منها. وهذا التحرك دليل على النقص والنقص برهان على عدم الكمال. وبناء على ذلك
يمكننا أن ندرك بسهولة لماذا كان أبو القاسم الكعبي المعتزلي يقول بإيجاب الأصلح للعبد وأن الإيجاب على الله تعالى محال لاستحالة موجب فوقه يوجب عليه شيئاً.
التفاؤل عند المعتزلة
ينوه ابن حزم بهذا التفاؤل عند المعتزلة حين يقول: وقالت المعتزلة كلها إن الله عز وجل ليس في قوته أحسن مما فعل بنا وأن هذا الذي فعل هو منتهى طاقته وآخر قدرته التي لا يمكنه ولا يقدر على أكثر. ويدافع النظام عن هذه العقيدة الراسخة عند المعتزلة دفاعاً قوياً حيث يقول: إن الله لا يقدر على أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم، ولا يقدر على أن ينقص من نعيم أهل الجنة ذرة لأن نعيمهم صلاح لهم والنقصان مما فيه صلاح ظلم؛ ولا يقدر أن يزيد في عذاب أهل النار ذرة ولا على أن ينقص من عذابهم شيئاً. ثم زاد على هذا بأن قال إن الله لا يقدر أن يعمي بصيراً أو يزمن صحيحاً أو يفقر غنياً إذا علم أن البصر والصحة والغنى أصلح لهم، ولذلك لا يقدر أن يغني فقيراً أو يصحح زمناً إذا علم أن المرض والزمانة والفقر أصلح لهم.
فإذاً كل ما يحصل في الدنيا وفي الآخرى هو أصح ما يمكن للعباد. وهذه نتيجة منطقية لنفي جميع الصفات عن الله وردها إلى الذات. والذات غاية الكمال لا يعترضها أي عجز أو نقص؛ لذلك يلزم أن يكون ما تعمله كاملا.
لكن الإنسان وهو محدود في عقله يتساءل أحياناً أي خير يوجد في بعض الأمور والحوادث التي لا يرى فيها سوى النقص والعجز والآفات. إن المعتزلة لا تحكم على الأشياء بجزئياتها، وإنما تنظر إلى العالم بأسره وتبدي حكمها عليه بأكمله. ويذهبون إلى القول بأن الصنيعة كاملة لأن الصانع كامل. فما يبدو لنا كأنه عجز أو نقص أو آفة، فكل ذلك يساهم في خير الدنيا العام، ويصبح خيراً وصلاحاً.
هل يعني هذا القول أن المعتزلة كانت تميل إلى صبر رواقي على الآلام والشدائدأمإلى صبر كصبر المسيحيين الذين يرون في الألم طريقاً لكسب خير أعظم؟. لا يمكن الرد على إلى السؤال إلا بعد البحث في مصدر فكرة التفاؤل عند المعتزلة.
مصدر فكرة التفاؤل:
بالرغم من أن النظام هو أول معتزلي تكلم بوضوح في التفاؤل يقول الشهرستاني إن النظَّام أخذ هذه المقالة من قدماء الفلاسفة حيث قضوا بأن الجوَّاد لا يجوز أن يدخر شيئاً لا يفعله فما أبدعه وأوجده هو المقدور، ولو كان في علمه ومقدوره ما هو أحسن وأكمل مما أبدعه نظاماً وترتيباً وصلاحاً لفعل. ويرى هوروفتز أن النظام قد تأثر بفلسفة الرواقيين القائلين بأن الشرَّ والخير يتبعهما حتماً عقاب أو جزاء، وذلك حسب قوانين ثابتة لا يمكن تغييرها أو تحريفها. فعلى الإنسان يتحمل بصبر وسكوت المصائب والشدائد والآلام إذ لا يمكنه أن يغير مجرى الأمور وسننها. ولكن شتان ما بين رأي الزواقيين ورأي المعتزلة من فرق في التفاؤل. إن هؤلاء يرون فيما ندعيه شراً سبيلا لخير أكبر وأعم. فلا يمكنا أن نشاطر المستشرق هوروفتز رأيه هذا القائل أن المعتزلة قد تأثرت بالرواقيين، لأنالمعتزلة لا تنظر إلى الألم في حد ذاته، بل ترى فيه سبيلا للخير.
ويقول البغدادي من جانبه إن النظام تأثر بالمتانية القائلين إن الله إله الخير لا يمكنه أن يفعل إلا الخير ولا يمكنه أن يفعل الشر، لأن الشرَّ لا يصدر إلا عن إله الشر ، ولكن النظام ردَّ على المتانية قولها بالاثنين (إله الخير وإله الشر).
فتكون المعتزلة قد بحثت أقوال قدماء الفلاسفة وأقوال المتانية واستخلصت منها قولا يتفق وكمال الله تعالى. وجاء قولها متفقاً أيضاً وفكرة المسيحيين في الألم كطريق لخير أعظم.
البير نصري نادر
دكتور في الآداب والفلسفة
ماذا علمتني الحياة؟
تأليف الأسقف و. ر أنبج
بقلم الأستاذ علي محمد سرطاوي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
أرى من واجبي أن أذكر شيئاً عن آرائي في الدين، لأندين الإنسان الصحيح هو ما يتعلمه في مدرسة الحياة، وكثيراً ما يختلف عن المعتقد الذي يعتقده وهو صغير. لقد نشأ والداي في مكان ناء عن المدن في الريف، وكانا من المشايعين والمتعصبين لعقيدة التركتاريين القدامى من اتباع بوسيي وكيل - وهم فئة لا وجود لها اليوم، يتركز معتقدها في الصلاة وعدم الإيمان بطقوس الكنيسة. وهم يؤمنون إيماناً حرفياً بما في الكتاب المقدس، وبصورة خاصة بما نشره الحواريون من تعاليم لم تثبت تاريخياً. ولقد كانوا متقشفين على الطريقة البيوريتانية من حرمان النفس والبذل للمحتاجين. كان يوم الأحد مقدساً جداً؛ لا ألعاب فيه، ولا قراءة في كتب دنيوية. ولسبب لا نعرفه كانت تحرم علينا قراءة الروايات ذات (الغلاف الأصفر) حتى روايات ثاكاري وديكنز كانت تحرم علينا.
أما قصص شكسبير وولترسكوت فكانت تقرأ علينا بصوت جهوري، لقد كانت ثقافة جيدة على عيوب الرقابة التي فيها.
لكنني سرعان ما تمردت على ذلك، وأحسب أن أمي لم تغفر لي تمردي طيلة حياتها، ولم يسرها مطلقاً تقدمي المطرد في سلك الكهنوت لأن الرأي السائد في ذلك الزمن كان يتلخص في أن الرج المفكر لا يصلح لخدمة الكنيسة. إنني لم أفكر مطلقاً في المعتقدات الدينية إلا عندما صرت محاضراً في جامعة اكسفورد. لم يكن يسمح لنا في إيتون بالتفكير في مشاكل الحياة، وحينما كنت طالباً في الجامعة لم يكن لنا هم غير التنقيب عما تطلبه لجان الامتحانات. أما في اكسفورد فإن أقل محاضر يجب أن يكون فيلسوفاً.
لقد كان الصراع بين الدين والعلم - ذلك الصراع الذي أثار ضجة كبيرة في القرن الماضي - يبحث من جميع وجوهه بحثاً مستفيضاً يبدو لنا الآن سخافة مضحكة. أن المعتقد الأرثوذكسي يعتمد في أصوله على النبوءات والمعجزات المتواترة. ليس هنالك سبب
يحملنا على الاعتقاد بأن في مقدور البشر معرفة الغيب. إن المسيح نفسه قد اعترف بعجزه عن معرفة زمان يوم القيامة. والبحث في صحة تحقيق النبوءات المزعومة يقودنا إلى سبل ثلاث: أما أن تكون النبوءة قد قيلت بعد وقوع الحادثة، أو أنها حرفت لتوافق الحادثة في سياق لا علاقة لها به أبداً، أو أن الحادثة اخترعت لتوافق النبوءة. إن الافتراض الثالث يبدو واضحاً جلياً في الإنجيل، والأمثلة على ذلك تتراءى لنا في أسطورة الميلاد في بيت لحم، وفي أسطورة مذابح الأبرياء، وفي الهرب إلى مصر.
أما ما يتصل بحدوث المعجزات طبقاً لإرادة الله، فأمر يرجع الإصرار عليه إلى ما تواتر في الماضي من رغبة اقتران وقوع المعجزات مع أحداث خاصة، وهو في ذاته لا يعود على الدين بربح جزيل. لم يكن قول جوته:(إن المعجزة ابنة الإيمان العزيزة) إلا تفسيراً لمحاولة الناس ربط قوانين الطبيعة الباردة بتيار من حرارة الروح، والتهرب من الواقع الجامد إلى الخيال الجميل.
إن الاستناد إلى رحمة الله، وأنه يستجيب الدعوات وهو المعتقد الأساسي لكثير من الناس قد يكون في الاستطاعة من جهة أخرى، كما اقترح، اختبار أثر دعاء المخلوق إلى الخالق، بطريقة عملية، كما اختبرت (التلباثي) وهي نقل الأفكار من شخص إلى آخر - وكما تثبت في الولايات المتحدة، وفي هذه البلاد، على رأي بعض الناس. والسخط البالغ الذي تقابل له تجربة من هذا النوع، يخفي وراءه الحقيقة المريرة وهي الفشل التام للتجربة. أن الإله الذي لا يعمل - كما يخيل لناس - أما أن يكون لا ظل له في الوجود، وإما أنه قانون مجسم من قوانين الطبيعة.
أما ما يتعلق بالعِلم فقد كان الجدل فيه عقيما. لقد أنكر علماء العصر الفكتوري (المادة)، وفسروا العالم بأنه أنواع من (الكم) الميكانيكي، ضاربين صفحاً عما سماه بسمارك (الأجسام التي لا ثقل لها)، ووصلوا عن طريق ذلك إلى ما سموه (بالنظام المتماسك المغلق). وما دعوه خطأ قانون النسبة لم يكن غير قانون الاستمرار الدائم.
أما العلم الصحيح فلم يكن غير الرياضيات. ليس بالصحيح القول أنها تبصرنا بحقائق لا قيمة لها؛ لأن الحقيقة في حد ذاتها قيمة مطلقة. إن الرياضيات تضرب صفحاً عن القيم النهائية ولا تؤمن بها، وتغض الطرف عن قانون الحرارة والعمل الميكانيكي الثاني
(ثرموديناميك) والذي بموجبه تتحرك الدنيا في اتجاه عقرب الساعة.
أما الدين، والمثل العليا فقد أضاف هربرت سيسر كل ما يدرك إلى العلم؛ وما لا يدرك إلى الدين، وخطا ليزلي ستيفن خطوة أكثر فتحدث عن الحقائق الثابتة والأحلام. لقد طفت (دنيا القيم) كالضباب على وجه العالم الملموس في النجوم والذرات، غير أنها احتفظت ببعض عتوها فيما يتصل بالأمور الخارقة للعادة والتي سميت بالمعجزات والتي لم يأبه بها العلم كثيراً. وعلى كل حال سواء كان سبب انتشار مرض الكوليرا الماء الملوث بالجراثيم كما هو الواقع، أم إلحاد رئيس البلدة التي ينتشر فيها ذلك الوباء، كما كان اعتقاد كثير من الناس آنذاك، فقد انتهت تلك الفصول الهزلية من مسرح الحياة.
عندما أفكر فيما كان يسميه وليام جيمز (التجربة الدينية) وما كان الناس بالنور الداخلي أو الإيمان بالروح القدسي، يروق لي أن أكرس كثيراً من وقتي لدراسة الصوفية والأفلاطونية، شأن الكثيرين الذين كان يضطرم في نفوسهم مثل هذا الإحساس أن الإيمان بالقديسين يكاد يكون أمراً مفروغاً منه ومجمعاً عليه، وأولئك الذين أعطوا كل ما يملكون ليجدوا الجوهرة الثمينة، لم يرجعوا صفر اليد ولم يكونوا جميعاً من المسيحيين. لقد كان بلوتونيوس أعظم فلاسفة التصوف في القرن الثالث الميلادي وثنياً. وقد ابتدأنا ندرك الآن أن أشياء كثيرة نستطيع تعلمها من الهنود. وليس أصدق من القول الذي يزعم أن الديانة المسيحية والبوذية قد خسرتا بتدابرهما طرق الحياة. إن خيال التصوف يبدو لي غامضاً لأنني لم أحصل على معرفة كافية، ولكنني من ذلك النوع من الرجال الذين لو حدثهم من يثقون به عن وصوله أعلى قمة من جبال العالم، لاعتقدت إمكان الوصول إلى تلك القمة على رغم عجزي عن الوصول إليها. إن الديانة المسيحية كما يصفها سنت أغسطين ليست إلا الأفلاطونية ممزوجة بعقيدة حلول الروح القدسي في المسيح. تكاد معظم الفلسفات تجمع على جعل الإنسان مندمجاً في المهل التي تفهمها الحياة. لكن الديانة المسيحية لا تفعل مثل ذلك. الله هو المحبة. وكثيراً ما تورد المحبة صاحبها موارد الهلكة، وحب الله العظيم للناس جعله يضحي بابنه في سبيل إنقاذهم. إن التضحية هي قانون أولئك الذين يتبعون الله ويؤمنون به ويضحون في سبيل الآخرين ويتحملون الآلام، وكما عبر عن ذلك وليم بن بقوله (لأجزاء بلا تضحية) وكثيراً ما خيل إلي أن جماعة (الكويكارز) قد تأثروا بهذا الرأي
كثيراً.
لم تتغير آرائي في شخص المسيح إلا قليلاً. لقد تأثرت في صدر حياتي بما كتبه عن المسيحية شيلي وهارنك والبروتستنتيون من الألمان. لقد وجهت نقداً لاذعاً في محاضراتي في الجامعة لقول ليوزي (إن المسيح ليس إلا فلاحاً من منطقة الجليل في الأرض المقدسة محدود الذكاء). اعتقد أن استمرار إيمان الحواريين بالمسيح بعد صلبه لم يكن إلا انعكاساً من أنفسهم لما تأثروا به وهو بينهم. ومن غير المعقول أن نؤمن بما قاله ليوزي ونحن نرى الأثر الذي تركته حياة المسيح في حياة الناس مدى الأجيال البعيدة. والاعتقاد بعودة المسيح ليس في رأيي غير انعكاس عميق لحماس روحي لم يستطع الناس تفسيره بغير الأمل العظيم في مستقبل قريب. ألم نجرب ذلك في نفوسنا ونحن نعلق الآمال على وقت سعيد مقبل، فهل يتغير ذلك الاعتقاد إذا ما أناخ بكلكله علينا وقت سيئ مفعم بالآلام؟
أرى لزاماً علي أن أبين الخطر الذي يكمن وراء ما يسمونه (عبادة المسيح) لقد أساء مارتن لوثر فهم معتقد سنت بول، ذلك المعتقد الذي كان لا يعني غير صوفية عميقة في المسيح. إن المسيح الذي تعبده الديانة المسيحية هو الذي كان حياً ومات، والذي لا يفنى أبداً. لقد آمنت بأن الأقسام الثلاثة التي قسم سنت بول بموجبها الطبيعة الإنسانية: الجسد والروح والنفس، صحيحة من وجهة سيكولوجية. إننا نعيش في عالم المادة، والروح طليقة تعيش في المادة وما وراءها، فينبغي أن تكون حياتنا الداخلية تحولا مستمراً من المادة إلى الروح. إننا نكاد لا نؤمن بإمكان تحويل الشخصية المادية إلى شخصية غير مادية مطلقة. هذا هو الشرح لضرورة وجود الرمزية في الدين. أما في الحياة المادية فإننا نستطيع أن نرى - كما في المرآة - عن طريق الرمزية. وحينما تمر كل يوم من المنظور إلى غير المنظور، ومن الحقيقة إلى الخيال، تكاد تتملكنا رغبة تدفعنا إلى محاولة رؤية المجهول في عالم الزمان والمكان الذي نعيش فيه. لقد قلت في إحدى مواعظي أن من أبسط واجباتنا نحن رجال الدين أن نساعد الذين في بصيرتهم ضعف على رؤية ما لا يدرك بالحواس، وهو عمل محفوف بالمصاعب. وإذا كان قولي صحيحاً، كان التقليل من الغموض في الدين أدعى إلى إنارة أذهان الناس وأدعى إلى بلوغ ذلك الهدف عن أقرب طريق. لست أريد أن أتجاوز أكثر من هذا في حديثي لأننا كثيراً ما نسمح لأنفسنا بحرية أوسع في التفكير
والخيال.
لقد كان اهتمامي بالغاً بالفلسفة والدين، وقد ملكا علي جميع أوقات فراغي. ولم يمنع هذا الاهتمام أن تكون نواح أخرى صرفت لها بعض وقتي ورغبتي. إن من حق الفرد في الحكومات الديمقراطية أن يعبر عن أفكاره تعبيراً صحيحاً، ويقنع من حوله بما يدور في رأسه من مُثل وآراء. وهذا يصدق على رجال الدين أيضاً؛ غير أنه لا يجوز لرجل الدين وهو يحتل منصباً رسميا في الكنيسة أن يجاهر بآراء خاصة قد لا يؤمن بها غيره من المسيحيين التابعين للكنيسة. لقد ظهرت محاولات عديدة ليكون للكنيسة صوت في الحياة السياسية؛ ولكن الكنيسة تجنبت ذلك تمشياً مع قول اللورد أكتون الذي يقول:(إن كل قوة مصيرها إلى الفساد). ولذلك احتفظت الكنيسة بحيادها ولزمت الجانب الروحي من حياة الناس.
كان أبواي من المحافظين، وقد ابتدأت علاقة أتباع الكنيسة العليا بالاشتراكية عن طريق جور وسكوت وهولاند، وكانوا يأسفون أن يكون المستر جلادستون خيراً من دزرائيلي من جهة الدين.
أما ما يتعلق بي، فإنه ليضحكني أن أذكر - حتى زمن حرب البوير - أنني كنت محافظاً متعصباً على طريقة رديارد كبلنج، وقد أثرت تلك الآراء في وفي الكثير من أمثالي، ورأى القرن الجديد انكماش الإمبراطورية البريطانية وتقلصها، وأصبح لزاماً على الإنجليز أن تكون لهم آراء تتمشى مع التطور الجديد. لقد بلغت الذروة جميع الشعوب التي تقع على شواطئ الأطلسي وأصبح اتجاه التوسع الإمبراطوري إلى الشرق، وانتهى من ناحية الغرب. إنني لا أنسى قول اللورد هلدان في مطلع الحرب العالمية الأولى:(لو ركن الألمان إلى السلم لنالوا كل ما يريدون). لقد ألقوا بالجائزة مرتين من أيديهم. وقد أخذ عصر الاسترقاق يطل برأسه على الدنيا. إن المستقبل للشعوب التي لديهاأرض واسعة، ومستوى منخفض في المعيشة، واستعداد للعمل المرهق، ونحن والفرنسيون لا ندخل في نطاق هذه الشعوب.
كثيراً ما يتراءى لنا أن ثلاثة أخطار تهددنا: أولها حق التصويت العام. من المؤكد أن السياسة ستنحط إلى نوع من المزاد العلني تباع وتشترى فيه أصوات الأغلبيات غير
الممثلة. أقول غير الممثلةلأن المفروض أن أصحاب الحرف التجارية والمهن قد مثلتهم في المجلس مائة مقعد، إلا أن الواقع يظهر أن كثيراً من المناطق لا يمثلها أحد غير مدينة لندن والجامعات القديمة. لقد تدهورت معنويات العامل الإنجليزي تدهوراً جعله غير مرغوب فيه عند الشعوب الأخرى.
والخطر الثاني: نمو سلطان الحكومة المركزي من أثر الحربين الأخيرتين، وفي سبيل القضاء على الطغيان الفاشي، قد جعلنا أنفسنا فاشيين: إن عبادة الدولة شر أنواع الوثنية. والشعب الإنجليزي يضع قوته في المجتمع لا في الدولة. لكن الدولة الآن تصول وتجول وتتجاوز كل حق موضوع.
والخطر الثالث هو اكتشاف قنابل الذرة، ذلك الاكتشاف الذي وضع سلاحاً رهيباً في يد الدولة وقوى سلطانها. ليس هنالك ما يدعو إلى الخوف من القنبلة الذرية الآن. ولقد بدا ذلك واضحاً في روسيا وألمانيا حيث عوملت الجماهير بأشد ما في الظلم والهمجية من معان. نقول لأنفسنا أحياناً:(إن أعمالاً من هذا النوع لا تحدث عندنا)، ربما كان ذلك صحيحاً.
لكن الخطر لا يزال موجوداً. إن الطبقات المتوسطة التي تحمي الحرية الشخصية آخذة في الفناء، والأحرار الذين كانوا في زمن سابق يحمون هذه الحرية أصبحوا في موقف سيئ لا يحسدون عليه. حينما كنت طفلاً كان الأحرار يعيرون المحافظين بأنهم حزب بليد. لقد جنوا على أنفسهم وهم يفسحون المجال للامتيازات والآراء الحديثة. ويذكرنا ذلك بقول جلادستون (لن يمكن للشيوعية الاشتراكية إذا قدر لها أن تكون في هذه البلاد غير حزب الأحرار). وهربرت سبنسر كان يرى أن الاشتراكية ربيبة الأحرار أيضاً.
إنني أرجو أن يكون في إنزال إله المال عن عرشه، بعد أن أصبح صفر اليدين، بعض النفع للطبقات التي هي خليعة بذلك وكانت محرومة. إن كل ما يطلب هو إزالة ويلات الحرب، وليس ذلك - في اعتقادي - بعزيز. ومن يدري فلعلنا في مطلع عصر مظلم رهيب. حينما يوجد الأمل توجد الحياة. والغرب لم يفقد آماله. إننا نجتاز أعظم كارثة حلت بالبشرية، ولكن كل تحد - ما لم يكن مدمراً - يترك رد فعل. وقد برهنا على أن في استطاعتنا احتمال الآلام دون مضض أو تذمر أو تراجع.
ليكن هذا كل ما أريد قوله. لقد علمتني الحياة ما كنت خليقاً بتعلمه منها. لقد كنت طموحاً،
ولا أذكر أنني قلت أو كتبت أي شيء لا يرضى عنه ضميري، في سبيل إرضاء الآخرين.
يقول الناس عني إنني كنت كثير الحركة، وكثير الحركة تتوارى وراء روحه الثورة. إن الناجح في الحياة هو ذلك الذي يطفو على ماء نهر الوجود كالكلب الميت؛ يتملق صاحبه وكأنه ينبض بالحياة. إن الصرخات التي لا معنى لها اليوم ليست إلا صدى أحلام الأمس غير البعيد.
آمل أن يكون جزائي ما كنت أحمله في عواطفي من الصدق، ذلك الصدق الذي لم أستطع خدمة بلادي به إلا قليلا.
(بغداد)
علي محمد سرطاوي
مع شاعرة (من الأعماق)
للأستاذ عبد المحسن الحكيم
الشعر الآن غيره قبل حين. . . حيث كان لا يطلب منه إلا أن يسمو في اللفظ أو في المعنى على اختلاف في فهم الشعر ووظيفته. أما الآن فإن أهم وظائفه أن يصدق في نقل أحاسيس الشاعر وتأثره بالتجارب الشعورية التي تفيض بها الحياة. . . وأحسب أن الشعر بلغ منتهاه من التطور. . . حين تحرر من سلطان اللفظ وسلطان المعنى الذي لم يكن للشاعر به عهد. . . وإنما هو تخيره من بين المعاني لأن غيره من قراء الشعر يعجب به ويدهش له، وحين قدر له أن يكون وقفاً على صاحبه. . . يعرض دقات قلبه لوجه جميل، وحركات شعوره لمنظر جميل أو منظر قاتم. . . تمثله الحيوات التي يحياها مواطنوه.
وجميل أن يطلب من الشعر أن يكون نتيجة إحساس. . قبل أن يكون نتيجة فكرة. . تعرض على أنها حكمة خالدة أبدية. . فهو إذ ذاك يكون شعراً. . وشعراً فقط. . لا منبراً لوعظ وإرشاد وتنبيه إلى الحقائق.
وإن هذا الذي قرأته في عدد سالف من الرسالة، للآنسة الفاضلة والمطوقة، لهو شعر حقاً. . يمنح من الإحساس ويصدر عنه. . . كما لو لم يكن غيره مصدراً لشعر في القديم والحديث.
وليس أصدق في نقل الأحاسيس إلى لغة الشعر من قول الآنسة الفاضلة تعلن وحدتها. . . وهي إذ ذاك تقطع مفاوز الحياة. دون أن تلقى بين يديها من يؤنس وحشتها ويشعرها أن الحياة غير الملل والصمت والظلام. . . لم تلف بين يديها هذا الإنسان. . . وإذا الحياة عندها. . تيه معمي. . ليس فيه غير ظلام مطبق وملل وسأم ووحشة فهي تقول:
سرت وحدي في غربة العمر؛ في التيه المعمي، تيه الحياة السحيق
لا أرى غاية لسيري ولا أبصر قصداً يوفى إليه. . . طريقي
ملل في صميم روحي منساب، وفيض من الظلام الدفوق
وأنا في توحشي تنفض الحيرة حولي أشباح رعب محيق
سرت وحدي في التيه ، لا قلب يهتز صدى خفقة لقلبي الوحيد
سرت وحدي لا وقع خطو سوى خطوي على المجهول المخوف البعيد
لا رفيق، لا صاحب، لا دليل غير يأسي ووحدتي وشرودي
وجمود الحياة يضفي على عمري ظل العناء. . . ظل الهمود
والإحساس الكبير هنا تتوزعه جميع هذه الأبيات. . ولكنه يظهر في بعضها بصورة أكبر. . تكاد لا تملك نفسك من الإعجاب بها. . . وقد لا تظفر مني أكبر قطعة موسيقية أو أبلغ لوحة وجدانية من الإعجاب ما ظفرت به بعض التعابير هنا. . . في هذه الأبيات. . . من ذلك مثلاً. (غربة العمر)(التيه المعمي)(جمود الحياة). فإن الإحساس الكبير في مثل موقف الشاعرة لا بد أن يعبر عن نفسه بمثل هذه التعابير. . لأنه صادق ولأنه بعد ذلك عميق فائض نفاذ.
وموقف آخر. . . هو أيضاً جميل، يشيع فيه الإحساس باللحظة الكبيرة. . . التي تغمر الشاعرة. . . ولكنه لا يظهر بالتعبير عن نفسه وإنما بالعجز عن ذلك. وهو ما أسميه ب (عي الإحساس) وعندي أن العي ليس وقفاً على اللسان فهو كذلك يصيب الإحساس كما يصيب اللسان على السواء. . . وذلك في المواقف الكبيرة التي تضيق بها التعابير ويضيق بها الإحساس نفسه. . . والشاعرة المجيدة حين تقول:
والتقينا. . . لم أدر أي قوى سا
…
قتك حتى عبرت درب حياتي
كيف كان اللقاء؟ من ذا هدى خط
…
وك؟ كيف انبعثت في طرقاتي؟
لست أدري، لكن رأيتك روحاً
…
يوقظ الشوق في مسارب ذاتي
ويذرِّي الرماد عن روحي الخابي،
…
ويذكي ناري، ويحيي مواتي
وحين تشيع الاستفهامات. . . لأن اللحظة كبيرة غمرت الإحساس بفيضها، وعب هو منها حتى ارتوى، وزاد بعد ذلك من اللحظة كثيراً. . . لم يحتوه الإحساس ولم يغمر. . . فضاق وعجز. . . وعبر عن هذا الضيق والعجز بهذا الاستفهامات الكثيرة في الأبيات القليلة. . . وما ذاك إلا لأن الموقف كبير. . . وكبير جداً. . . فلنتصور فتاة هائمة. . . قد أعياها البحث عن الشريك الذي يزيل لهفتها، ويريها الحياة كما هي لا من وراء الوحشة والوحدة. . . لعبور هذه الفتاة الهائمة تعبر الدروب وتجتاز المغاوز حائرة بائسة. . . وإذا هناك في بعض الدروب ألفته. . . أجل ألفته. . . عن غير قصد ولا سابق وعد أو انتظار. . . فسوف تدرك سر الاستفهام وجلاله وروعته. . . وسوف تدرك أن الشاعرة كانت تعوم
حينذاك في السموات. . . تبحث فيها عن الصورة التي تمثل هذا المشهد المفاجئ تمام التمثيل. . بعد أن فتشت عنه في الأرض. . . وحين لم تلقه هناك. . . ألقت حيرتها في الاستفهام وهي تدري أن قصاراها في هذا الموقف هو الاستفهام الذي يبدي عجزها، في الموقف وبعده.
ولا يفوتني أن أدل على تعبير جميل تريد به الشاعرة الفاضلة مفاجأة اللقاء. . . هو (كيف انبعثت في طرقاتي). . . أرأيت المشاهد كيف تنثال عليك؟. . . مشهد الفتاة الهائمة في الطرقات. . . ومشهد الطرقات وهي قفراء من الحبيب، ثم مشهد الحبيب وقد نبض على غرة من الهائمة. . ومشهدها هي وقد فاجأها اللقاء. . . هذه المشاهد التي توحيها كلمات (كيف انبعثت في طرقاتي) مصدرها قسوة تكمن في قلب الشاعرة النابض. . . ومصدرها كذلك حاسة فنية عميقة.
ولأعبر ثلاثة أدوار من قصيدة (من الأعماق) لأقف قليلاً عند قولها البليغ:
ومضت بي الأيام، لا أنا صر
…
حت، ولا لهفتي الحيية تبدو
كم وكم راح يحتوينا مكان
…
وأنا صبوة توارت. . . ووجد
كم حديث حدثتني! كم قصيد
…
هز روحي وأنت تروي وتشدو
ولقلبي السعيد شيء كعنف المو
…
ج، يطغى تياره. . . ويمد
والبلاغة هنا تعني مطابقة الإحساس. . يضاف إليها الحاسة الفنية التي لا تكاد تلتقي بلحظة حياة. . حتى تحيلها إلى حياة بعيدة المدى شديدة الإيحاء. . وأحب للقارئ أن يقف على هذا البيت بصورة خاصة:
كم وكم راح يحتوينا مكان
…
وأنا صبوة توارت. . ووجد
ثم يلمس بنفسه جمال الصورة التي توحيها هذه الألفاظ. . وليتذكر القارئ أبداً أنه أمام ألفاظ لا قطعة موسيقية ولا تمثال جميل.
وهكذا تسير قصيدة (من الأعماق). . إحساس شديد صادق. . وحاسة فنية قوية. . وتعبير جميل موح. . وروح بعد ذلك كله شاعرة طليقة. . وإن بدت أنها مقيدة إلى الأرض بأكثر من قيد.
وإني لأشبه الآنسة المطوقة. . بالشاعرة العراقية المجيدة (نازك الملائكة). . فقد كانت
الشاعرة العراقية دائمة الشكوى من الحياة شديدة التذمر من أسبابها. . أما الآن فقد عطفها إلى الحياة طبيعة عريقة لا يمكن أن تفلت منها مهما حاولت ذلك. . وعلى أي حال. . فإني أريد قبل أن أفارق القارئ أن أتلو معه خاتمة (من الأعماق) لتكون خاتمة هذا الحديث:
وافترقنا، وبين كفي رسم
…
لم يزل كل زاد روحي المتيم
كم تلمست عمق عينيك فيه
…
وبعينيَّ أدمع تتضرم
يا لقلبي (كم راح بين يديه
…
يهتك الحجب عن هواه المكتم)
اصغ تسمع عبر الصحارة صداه
…
يترامى إليك شعراً مرنم
(العراق - النجف)
عبد المحسن الحكيم
إلى جوته.
. .
للأستاذ نصري عطا الله
احتفلت الدنيا بمرور مائتي عام على مولدك، ومنذ أعوام قلائل احتفلت بمرور مائة عام على رحيلك عنها. . . فهل رحلت حقاً وانتهت حياتك يوم غيبوك في التراب كما يرحل عشرات الألوف من أبناء الفناء كل يوم، أولئك الذين يغدون إلى هذا العالم ويتنفسون هواءه حقبة من الزمن ثم يرحلون عنه دون أن يكون لحياتهم هدف أو معنى أو مبررات، أولئك الذين ينسون أنفسهم في حياتهم فتنساهم الدنيا ويموتون قبل أن تفارق الروح منهم الجيد. . . هل مت حقاً مثلهم؟
لا، إنك لست منهم، إن الدنيا ستظل تعتز بك وتتمسك بوجودك وتصر على بقائك في الأحياء، لأنك من بين أبنائها القلائل الذين تفخر بهم وتحس في وجودهم كبرياءها وعظمتها ونفاستها. إننا - ومن بعدنا الأجيال - نحبك ونجلك، ونحن نحبك لنفسك ولكننا نحبك أكثر من أجل معجزة الإله فيك، فكم من أبواب الحياة ظل مغلقاً، وكم من طرقاتها ظل مظلماً مجهولا حتى أتيت أنت فإذا بيدك المباركة تفتح الأبواب الموحدة، وإذا بنور عبقريتك يبدد الظلام، وإذا بالحياة متسعة الرحاب بعيدة الآفاق. لقد كانت الحياة بدونك فرضاً أو عبثاً أو واجباً فإذا هي بك فرحة ونضرة وتحمس لغاية وغايات.
لقد علمتنا أن نضع أنفسنا فوق الصغائر: فوق الحقد والحسد والغيرة والعناد وأن تطهر قلوبنا ونفسح فيها المجال لتلقي رسالات الخير والحق والجمال. أجل، في صحبتك يخجل الإنسان من الصغائر والصغار ويتطلع إلى الأعالي، ينقي نفسه من أدرانها ويصلي لله بحرارة أن يهبه القدرة على السمو بحياته وتنمية مواهبه الخفية واستغلال قواه الكامنة حتى يصبح جديراً بصحبتك وبإنسانيتك الكاملة الناضجة.
إنك تستنهض ذاتنا العليا - وما ذاتنا العليا إلا روح الله في هيكلنا البشري، وتخلق لنا أجنحة نحلق بها فوق هذه الحياة، فما نلبث أن نخجل من ذاتنا الصغرى ومن تصرفاتنا الأرضية وتفاهاتنا وحماقاتنا التي، تمليها علينا في هذه الأرضالشقية ما نسميه بالحكمة العملية، أو يفرضها علينا ضعفنا البشري.
أيها الحبيب. إن النور الذي تشعه عظمتك يهدينا إليك ويقربنا منك ويملأ قلوبنا فرحة بك
وحباً وإجلالاً لك.
وإذا بالقلب وقد امتلأ حباً لك يشعر بأنه لا يستطيع وحده أن يسع عظمتك كلها فيهيب بالعقل والروح والخيال أن يشاركون العبء العظيم أو النعمة الكبرى.
وكم يسعد العقل إذ يجاهد في توسيع دائرة أفقه، وكم تنعم الروح وهي ترقى معك إلى أعلى الذرى، وكم يبتهج الخيال وهو ينشر أجنحته ويظل يصعد في الأجواء البعيدة حتى يصل إليك ويحوم حولك.
كل قوى الإنسان وملكاته تلبي نداء القلب وتؤازره في محاولة تفهمك وارتياد تلك المساحات الشاسعة من العالم النفسي، التي سبق أن جبتها أنت، رائداً، ودليلاً، وهادياً، ومنشداً، ومغنياً! هكذا تهدينا إلى كنوز النفس الإنسانية وعواملها الواسعة الشاسعة التي تظل مجهولة أو كالمجهولة تحت ستار من غبار معركة الحياة بما فيها من خير وشر، وسمو وإسعاف، ونور وظلام، وهدى وضلال.
إننا نتذكرك ونباركك، لأنك تمنحنا من ذات نفسك، عن طريق إحياء ما في نفوسنا ما يبارك أيامنا وليالينا، ويضاعف ويخصب معنى الحياة في قلوبنا، فكأنك تمنح عمرك مجدداً على مدى الأزمان كل من طرق بابك ورام صحبتك ونشد زمالتك. وعمرك - أيها العظيم - هو خلاصة حكمة الدنيا وفلسفتها وشعرها وما تنطوي عليه من حق وخير وجمال.
لذلك ستظل الدنيا تعتز بك وتتمسك بوجودك وتصر على وجودك في الأحياء.
نصري عطا الله
الوتر الهامد
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
إن رأيتِ العود في كفَّي مشلول النشيدِ؟
كافر الأوتار مصلوب الصدى قوق وُجودي
لاهثاً يستنزفُ النغمة من جُرحٍ بعيد
ضارعاً للوهم إن مرَّ، وللحُلم الشريد
بيديْ عبدٍ شقيٍّ راسفٍ بين القيود
تتلوى ناره بين فحيح وهمود
ورمادٍ مستجير من أباطيل الوعود
ورؤى حمقاء لا تعرف أطلال العهود
لا، ولا تحملُ عن أكفانها زُور الخلود
وحكايات الهوى والوجد والنوح السعيد
والأغاني السارقات النبضَ من طير النهود. . .
فاصمتي، وامضي. . فناري ضيعت كل الوقود
واتركيني واسخري ما شئتِ من أنات عودي!
وإذا أبصرت للكون ظلالاً في عيوني
ورأيت الفنَّ طيراً هائماً حول جُفوني
كلما دفَّ سقاني الريحُ من غاب الجنون. . .
ورأيت الحيرة الرَّمضاء تشوى في يقيني
ورياح الشكِّ يرتابُ صداها من أنيني
فتسوقُ الخطو للأعماق، للسرِّ الدَّفين
تُنشب الأنياب في بُقيا رمادٍ من حنيني. . .
فاعذري هُلكي، ويأسي وارحميني
نزحتْ سريَ أهوالُ الليالي والسنين
وانتهى دربي إلى ليل بنجواه ضنين
فتكتْ ظُلمته حتى بوهمي وظنوني. . .
أنا من طير إلى القضبان مشدودٍ سجين
في فلاةٍ تفزع الأوهامُ فيها من سكوني
محمود حسن إسماعيل
أين السعادة؟!
للآنسة (ن. ط. ع)
قالوا السعادة والهنا
…
ءة بين جدران القصورْ
حيث الحياة يسيرةٌ
…
لا مطلبٌ فيها عسير
فإذا القصور تكشفتْ
…
عن كل محزون كسير
قالوا السعادة للمثا
…
ليين عشَّاق الكمال
ومكارم الأخلاق وال
…
إخلاص في كلِّ الفعال
سحر المعاني غرَّني
…
فشددتْ من فوري الرحال
فإذا المثاليَّ الكري
…
م يضيع في هذي الحياهْ
وتظلُّ تلطمه الحقا
…
ئق أينما ألقى عصاه
وإذا الدناءة أهلها
…
بالأرض مرفوعو الجباه
قالوا السعادة بين أحض
…
ان الطبيعة والزهورْ
حيث الجمال العبقري
…
وذلك العيش النضير
فإذا أهل الريف قد
…
حُرموا السعادة والسرور
قالوا السعادة حيث تج
…
تنبُ العداوة والشقاقْ
حيث العدالة والأما
…
نة والتآخي والوفاق
فإذا كبار الأرض لم
…
يرفعهمُ غير النفاق
ربي تُرى أين السعا
…
دة لم نجدها في القصورْ
وبحثتُ في الأكواخ لم
…
أجد السعيد ولا القرير
ولكم تصفحت الوجو
…
هـ وما تضنُّ به الصدور
وعرفت أسرار الخلا
…
ئق من عظيم أو شريدْ
وارتدتُ أحظان الطبي
…
عة علني أجد السعيد
فإذا بكل الناس دأ
…
بهمُ التمرُّدُ والجحود
ن. ط. ع
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
خطبة الأستاذ الزيات في مجمع فؤاد الأول للغة العربية:
قال لي بعض الأصدقاء متسائلين: لماذا لم تعقب على خطبة الزيات في مجمع فؤاد الأول وقد كانت حديث الناس في المجمع وخارج المجمع؟ وقلت للأصدقاء رداً على التساؤل الذي يتطلب شيئاً من الإيضاح: أما التعقيب فقد أرجأته حتى يقرأ الخطبة هنا من لم يستمع لها هناك، وكذلك الخطبة التي سبقتها في الإلقاء وأعقبتها في النشر.
والآن، وبعد أن طالع الناس الخطبتين على صفحات الرسالة أود أن أقول كلمة عن الزيات الصديق، والزيات الأديب، والزيات الإنسان. . . كلمة تتناول هذه النواحي الثلاث جمعياً، ورائدها الضمير الذي يتفيأ ظلال الصدق ولا تلفحه حرارة الصداقة، ويستروح أنسام الحق ولا تعصف به رياح المجاملة!
أما الزيات الصديق، فقد قدمته إليك نفحات من الوفاء تجلت في عباراته، وما أكثر ما تطمس يد الزمن سطور الوفاء من صفحة القلب نحو من تطول غيبته، ثم لا ترجى بعد ذلك أوبته. . . ولكن الزيات في موطن الذكرى الباقية نحو أنطون الجميل، كان مثال الصديق الذي يعدد المآثر في حساب الشعور لا في حساب السنين والأيام، وتلك هي غاية الوفاء؛ فمآثر أنطون الجميل في حساب الزيات أو في حساب شعوره، تدفعه إلى القول بأن كرسي الرجل ينكره كما ينكر الفرس الجواد راكبه الغر، أما حساب السنين والأيام، فهو حساب تاريخ الأدب يوم أن يؤرخ الأدب، يوم يكون للزيات فيه صفحات تنكر قوله بأن كرسي الجميل ينكره!
ما أكثر ما يظلم هذا الرجل نفسه إذا ما تحدث عن نفسه!
ولكن الذين يعرفون الزيات كما أعرفه، يعرفون فيه صفتين قل أن تجتمعا لرجل في هذا العصر الذي نعيش فيه: الحياء، والوفاء. . . ومن هاتين الكلمتين يمكنك أن تخرج بأصدق عنوان لكتاب حياته! ولا تعجب إذا قلت لك إنني كثيراً ما ضقت بحيائه، وثرت على وفائه؛ ذلك لأن وفرة الحياء قد تحول بين صاحبها وبين كثير مما يتطلع إليه أصحاب الطموح، وقد تدفعه إلى الرضا عن الشيء وهو ضائق به، وإلى السكوت عن الأمر وهو
قادر عليه، وفي ذلك يقول الزيات في كلمته:(ولقد حدثتني نفسي - شهد الله - حين تأدى إليَّ خبر انتخابي لعضوية المجمع أن أستعفيه من هذا التشريف، لا زهادة في الشرف، ولا رغبة عن العمل، ولا فراراً من الواجب، ولكن لعلة نفسية مزمنة كان من أخف أعراضها أني أحسن العمل منفرداً أكثر مما أحسنه مجتمعاً، وربما جعلتني - لعنها الله - أعلم الشيء ولا أقوله، وأسمع الخطأ ولا أصوبه، وأرى المنكر ولا أغيره!)
هذا عن الحياء وهو عجيب، وما أعجب الرجل بعد ذلك في مجال الوفاء. . . أعرف أناساً فتح لهم الزيات قلبه، وسقاهم من نبع حبه، ومنحهم من فيض ثقته، وأخلص لهم في السر والعلانية. ودار الزمن دورته فتنكر هؤلاء جميعاً لصداقته، وتجاهلوا ما كان من مودته، وقطعت أحقاد النفوس كل ما كان بينهم وبينه من صلات. ومع ذلك فقد نسى الرجل الإساءة وصفح عن حاضرهم وحاضره، وعاش بفكره وشعوره في ماضيهم وماضيه؛ ذلك لأنه لا يستطيب العيش إلا في ظلال الوفاء، ولو كان الوفاء وهماً يحلق على أجنحة الماضي البعيد فوق ركام الذكريات. . . وأجادله في موقفه من هؤلاء الناس فيبتسم، وأدفعه إلى لقائهم بمثل ما يلقونه به فيعتذر، وأثور على هذا كله فيلوذ بالصمت!
وحين أخلو إلى نفسي وأذكر ما كان منه وما كان مني، لا أملك إلا أن أخفض قلمي تحية لحيائه، وأحد من ثورتي إجلالاً لوفائه؛ ذلك لأن الإفراط في الحياء ولو جنى على القيم، والإغراق في الوفاء ولو كان لغير أهله، صفتان أقل ما يقال فيهما إنهما ترفعان الغطاء عن حقيقة إنسان!
أما الزيات الأديب، فيحدثك عنه اسمه اللامع وماضيه الطويل، وإنما أريد أن أحدثك عنه اليوم على ضوء كلمته التي سمعها البعض في المجمع، وقرأها البعض في (الرسالة). . . أدب وتاريخ أدب ونقد: في الأول أسلوب وعرض، وفي الثاني إحاطة وصدق، وفي الثالث ذوق وميزان. وأبلغ الدلالة على هذا كله أن يقول الزيات في معرض الموازنة بين المدرستين المصرية واللبنانية: (وظلت المدرستان الشقيقتان تنتجان الأدب في ضروبه المختلفة بأسلوبين مستقلين، أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، على ما كان بينهما من تفاوت في الطاقة والمادَّة والصنعة والتقيُّد والتحرر، وبقيت المدرسة الأزهرية الأم عاكفة على النظر المجرد والجدل العقيم بين أروقة الأزهر والزيتونة والأموي
والنجف، تنتج الخام ولا تصنع، وتشحذ السلاح ولا تقطع، فلم يكن لها في ذلك العهد الغابر أدب غير أدب الشواهد، ولا أسلوب غير أسلوب الحواشي. . . ولكن الحق أن المدرسة اللبنانية كانت عملية تقدمية حرة، واكبت الزمن في السير، وطلبت العلم للعمل، وسخرت الأدب للحياة، ونظرت إلى اللغة نظر الوارث إلى ما ورث، يملك عليه بمقتضى الشريعة والطبيعة حق الانتفاع به على الوضع الذي يريد، وحق التصرف فيه على الوجه الذي يحب. . . والمتتبع لتطور المدرستين يرى أن كلتيهما قد مرت في أطوار ثلاثة: طور التقيد والمحاكاة، وطور التحرُّر والاعتدال، ثم طور التمرُّد والانطلاق. ولكن الانتقال من طور إلى طور كان في مصر متثاقلاً متداخلاً، يرود قبل النجعة، ويحوم قبل الوقوع، على حين كان في لبنان متسرعاً لا يتأنى، مصمماً لا ينخزل. فبينما نجد مراشا الحلبي في (مشهد الأحوال) يقلد ابن حبيب الحلبي في (نسيم الصبا) وناصيفاً اليازجي في (مجمع البحرين) يُقلد الحريري في (المقامات)، وإبراهيم اليازجي في (لغة الجرائد) ينهج نهج الحريري في (درة الغواص) إذ نجد آل البستاني وآل الحداد وزيدان ومطران والخوري والجميل وملاط يتوخون السهولة والابتكار والطرافة، والجبرانيين والمهجريين يجنحون إلى الأصالة والإبداع والتطرف، والزمن بين هؤلاء وأولئك متقارب، والعوامل المؤثرة فيهم لا تكاد تختلف). . .
هذه فقرات يضيق المقام عن أن أنقل إليك من نظائرها الكثير، ولكنها تغني عن هذا الكثير لأنها تقدم إليك مفتاح الشخصية الأدبية في كلمات، ورب لمحة تغني في مجال التقديم عن لمحات. . . أما فضل الرجل على اللغة والأدب وأثره في توجيه الجيل، فقد كشف عن هاتين الناحيتين الأستاذ فريد أبو حديد بك في كلمته القيمة الصادقة التي ألقاها في المجمع ونشرتها الرسالة! بقي أن أقول كلمة عن ناحية أخرى من نواحي الزيات الأدبية، وهي ناحية عرض لها الأستاذ فريد أبو حديد بك في خطبته حين تحدث عن قصتي جوته ولامرتين. . . كلمة عن قلم الزيات حين يترجم آثار الفن من لغة إلى لغة، ومن ذوق إلى ذوق، ومن أدب إلى أدب؛ هناك في (آلام فرتر) و (رفائيل) و (من الأدب الفرنسي) ثلاثة كتب لو قرأتها دون أن ترجع إلى أصولها الفرنسية لتبادر إلى ذهنك ووقع في ظنك أن الزيات يضحي بأمانة النقل في سبيل رشاقة اللفظ وموسيقى العبارة. أشهد لقد خطر لي هذا
وأنا أقرأ ترجمته لقصة قصيرة من قصص موباسان هي (الحلية وأشهد لقد رجعت إلى النص الفرنسي لأراجع عليه الترجمة العربية فما رأيت عبارة قلقة في ثنايا التعبير، ولا شهدت لفظاً في غير موضعه من الأداء، وما لمست أثراً للتضحية بدقة المقابلة في سبيل المحافظة على جمال التعبير. . . ولقد ذكرت هذه الظاهرة الفريدة ذات يوم للدكتور طه حسين فكان جوابه أن ما خطر لي قد خطر يوماً له، وأن ما وقع في ظني قد وقع يوماً في ظنه، وكان ذلك حين قرأ (آلام فرتر) للزيات، ولكنه حين رجع إلى القصة في أصلها الفرنسي لم يملك أمام حرفية الترجمة وبلاغة الأداء، إلا أن يكتب مقدمتها الرائعة تحية إعجاب وتقدير!
قصة طريفة:
منذ عشرة أشهر على التحديد، وفي إحدى المناسبات وأنا أنقد كتاباً في مكان آخر غير الرسالة، قلت عن الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي:(. . . هذا شاعر رفيق مجدد، ولكنه شاعر في حدود القصيدة التي لا تتعدى في طولها عشرة أبيات من الشعر، لأنه ضيق الأفق، محدود الطاقة، لا يعينه جناحاه على التحليق في الأجواء العالية؛ الأجواء التي تتطلب جناحي نسر لا جناحي فراشة)!
قلت هذا عن الدكتور ناجي ومضت بعد ذلك أيام، ثم حدث أن لقيت شاعراً من شعرائنا الشبان يربطه بالدكتور سبب من صلات الود والصداقة، وأبدى الشاعر الشاب رغبته في أن يجمع بيني وبين الدكتور ناجي، لأنني في رأيه قد ظلمت شاعريته حين وصفتها بهذه الكلمات التي انتهت بجناح الفراشة. . . وكان ردي على الشاعر الشاب أنني لم أر صديقه في يوم من الأيام، وليس بيني وبينه ما يدفع الناس إلى شيء من سوء الظن إذا ما أشدت بحسناته أو أشرت إلى سيئاته، ومهما يكن من شيء فليس هناك ما يحول بيني وبين لقائه!
وحدث مرة أخرى أن كنا في ندوة الرسالة فجاء ذكر الدكتور ناجي على لسان أديب شاب، ما لبث أن وجه إلي الحديث مذكراً بتلك الكلمات التي كتبتها عنه، خاتماً هذا الحديث بقوله: إن ناجي سيقدم في القريب دليلاً فنياً يرد به على نقدي. . .
أما هذا الدليل الفني فهو ملحمة تحت الطبع بلغت فيها الطاقة الشعرية ثلاثمائة بيت من الشعر. وكان ردي على الأديب الشاب أنني على استعداد لتقديم هذه الملحمة إلى القراء
تقديماً يبرز ما فيها من قيم، على شرط أن يعينني الطبيب الشاعر على تحقيق هذه الأمنية!
وحدث مرة ثالثة - وكان ذلك منذ أيام - أن دق جرس التليفون في مكتبي بوزارة المعارف، وكان المتحدث ذلك الشاعر الشاب الذي طالما أبدى رغبته في أن يجمع بيني وبين صديقه، وبعد دقائق من بدء الحديث أفهمني أن الدكتور ناجي إلى جانبه وأنه يريد أن يتحدث إليّ. . . وتكلم الدكتور وتكلمت، وكانت كلمات فيها كثير من الترحيب بلقائه، انتهت بالتواعد على اللقاء في حفلة التأبين التي أقيمت لفقيد السينما أحمد سالم بدار نقابة الصحفيين، ولقد اختار ناجي هذا المكان بالذات لأستمع إلى قصيدته التي ألقاها في الحفلة، عسى أن أغير رأيي في جناح الفراشة.
إلى هنا وأشهد الله أنني توجهت إلى نقابة الصحفيين رغبة في الاستماع لقصيدة الطبيب الشاعر، وأملا في إنصافه، وتحقيقاً لتسجيل إلى الإنصاف على صفحات الرسالة. . . وجاء دور ناجي في الإلقاء فمددت عينيّ، وأرهفت أذنيّ، وحشدت الذوق كله والشعور كله لتلك الأبيات التي بدأها بمطلع لا يبشر بالخير! ومضى الطبيب الشاعر في إنشاده حتى فرغ من إلقاء قصيدته، وقلت لنفسي ترى هل من الذوق أن أصارحهأم حسبه أن أصافحه؟! وبعد حساب طويل بيني وبين نفسي صافحته وانصرفت.
ومع ذلك فأنا في انتظار الملحمة الكبرى، وأرجو الله أن يهب الطبيب الشاعر من التوفيق ما يعينني على إنصافه. . .
تقدير الأدب والأدباء عندنا وعندهم:
إياك أن تعجب إذا قلت لك إن الذين شيعوا الكاتبة الأمريكية مرجريت ميتشل إلى مقرها الأخير بلغوا مائة ألف. . . مائة ألف ذرفوا عليها من الدموع ما يرطب ثراها إلى الأبد! ولا تعجب إذا قلت لكأيضاً إن السائق الأرعن الذي دهمها بسيارته فقضى على الفن والنبوغ في لحظات، هذا السائق قد جن جنونه ولطم خديه حين علم أن تلك التي قضى عليها لم تكن سوى صاحبة الذهن المبدع الذي أخرج للملايين قصته الخالدة (ذهب مع الريح!) ولا تعجب مرة ثالثة إذا قلت لك إن الصحافة الأمريكية قد طالبت بإعدام المجرم لأنه لم يقتل عابرة طريق، وإنما قتل مرجريت ميتشل. . . ولا تعجب مرة رابعة إذا قلت لك إن سكان الولاية التي أنجبت الكاتبة الأمريكية قد عهدوا إلى أحد نوابغ المثالين أن
يصنع تمثالا ضخما للفقيدة العظيمة، ليقام في القريب العاجل في أكبر ميدان من ميادين العاصمة!!
هذا في الولايات المتحدة التي يقال عنها إن دويّ الآلات فيها قد طغى على صوت الفن، وإن ضجيج المادة قد أخمد سبحات الروح. . . وليس هذا في الولايات المتحدة وحدها ولكنه في فرنسا وغيرها من البلاد الأوربية، أهل الأدب والفن لهم مكان الصدارة في مواطن التكريم والتعظيم، سواء أكانوا في عداد الموتى أم في عالم الحياة والأحياء، وحسبك أن تعلم أن جنازة الشاعر بول فاليري كانت أعظم وأروع من جنازة أي رئيس من رؤساء الجمهورية الفرنسية، وحسبك أن تعلم أيضاً أنه ما من أديب فرنسي كبير إلا وله تمثال يذكرك به في ميدان من الميادين، أو شارع قد أطلق عليه اسمه، أو دار قد حولت إلى متحف ينتسب إليه. هذا عدا وسائل التخليد الأخرى التي تقوم بها الهيئات والحكومات!
عندهم هذا كله. . وعندنا الأدباء والفنانون يتضورون من الجوع، ويضجون من الغبن، ويصرخون من الإهمال. وعندما يموت أحدهم تقام له حفلة تأبين في نقابة الصحفيين، لا يتهافت عليها كرام القوم بعض تهافتهم على تكريم مطربة من صواحب الصوت الجميل!!
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
طه حسين سفير مصر الأدبي في أوربا:
جاء من باريس أن الدكتور طه حسين بك غادرها عائداً إلى مصر، وقد عرف الناس من أنباء رحلته في أوربا هذا الصيف، أنه توجه إلى إنجلترا تلبية لدعوة جامعة لندن إلى إلقاء محاضرات هناك، وقد ألقى هذه المحاضرات التي دارت موضوعاتها على الأدب العربي، وقرأ الناس أيضاً من أنباء هذه الرحلة ما قوبل به في تلك البلاد من الحفاوة والترحيب، لا من المصريين هناك فحسب، بل من الهيئات العالمية أيضاً، كنادي القلم الدولي في لندن. وقد بهر أديبنا العظيم من لقيه هناك واستمع إليه، حتى أطلق عليه بعضهم (برناردو شو الشرق) وما نعد نحن هذا التشبيه زيادة في قدره، وإنما الدلالة الملحوظة أن ينزل هو من تقديرهم مثل منزلة أديبهم الكبير.
وفي العام الماضي دعي طه حسين إلى أسبانيا لإلقاء محاضرات في جامعتها، فلبى الدعوة وقضى هناك أشهراً تحدث فيها إلى الأسبانيين عن الأدب المصري الحديث فيما تحدث. وكان من ثمرات تلك الرحلة فكرة إنشاء معهد مصري في أسبانيا، التي اقترحها على وزارة المعارف، والتي ترمي إلى دراسة الآثار العربية والفنية والفكرية في البلاد التي كانت تسمى بالأندلس في عهدها العربي، دراسة تصلنا مباشرة بتلك الآثار التي لا نعرف عنها إلا ما نلقفه من المستشرقين.
وأعود إلى طه حسين وهو يضطرب في فرنسا متنقلا بين عاصمتها ومصايفها، يخالط الأدباء الكبار ويدارسهم، يستمع إليهم ويستمعون إليه. وأكبر الظن أنه لا بد أن يرد في الحديث ذكر الأدب في مصر وأخواتها العربية، وأقل ما يشعر به أولئك الأعلام العالميون أن بينهم أديباً عربياً يمثل الثقافة العربية الحديثة، فيعلي ذلك من شأن هذه الثقافة في نظرهم. وليس قدر طه حسين بين كبار الأدباء في فرنسا بالذي يحتاج إلى تبيين، وقد رشحه أندريه جيد وماسنيون وأدوار هريو لنيل جائزة نوبل للآداب في هذا العام، كما أشرت إلى ذلك في الأسبوع الماضي.
تلك هي السفارة الأدبية التي يقوم بها لمصر طه حسين، وهي سفارة - كما ترى - ذات
شأن وأثر كبيرين، ففيها دعاية لبلادنا وفيها تعريف بأدبنا وثقافتنا، إلى ما يستمده أديبنا الكبير نفسه من ثمرات الأفكار وما يستلهمه من صور الحياة ثم يفيضه علينا في أدبه المصفى.
وذلك هو طه حسين (مالئ الدنيا وشاغل الناس). أنه يعود إلى مصر، فليت شعري، كيف تلقاه مصر؟ هل يتوجه إلى داره ويذهب للتسليم عليه جماعة من الناس، يحمدون الله على سلامته، كأي واحد من آلاف الناس الذين يسافرون ويؤوبون، في تجارة أو لهو؟
قرأت في الصحف أن رجال التعليم الحر سيقيمون له حفلة استقبال، هذا حسن، وهؤلاء قوم يعرفون الواجب. ولكن الأدباء أين هم؟ لا أريد أن أسبق اللوم، فعسى أن يخطر الأمر على بالهم، وليت (عسى) تنفع شيئاً!
ولكن أقول: إن الخطباء والشعراء يسارعون إلى المشاركة في الحفلات التي تقام لرجال السياسة وغيرهم، وأراهم يتقاعس بعضهم عن بعض، لا يكرمون أحداً منهم ولا يحيون ذكر موتاهم، مع أن هذا هو الأكرم لهم والأجدر بهم، ولكن قاتل الله التطلع والأثرة والمنافسة. . .
ولست أدعو إلى تكريم طه حسين لذاته، فالرجل غني بأدبه وصيته عن كل تكريم، وإنما في ذلك معان منها إكرام النفس بعرفان الفضل، وفي ذلك أيضاً مجال للأذهان والقرائح، وتنشيط للحركة الأدبية، وعرس للأدب والفن.
وتحيتي إلى الرجل العظيم الذي يذكر اسمه مجرداً، فيغني عن كل ما تحلى به الأسماء، وهو طه حسين.
من طرف المجالس:
كم في مصر من العبقريات! هذه عبقرية من نوع آخر. . التقينا بصاحبها بفندق الكونتننتال في إحدى أمسيات هذا الأسبوع وعبقريتنا هذا هو الفيلسوف الاقتصادي، أو قل زعيم الفلاسفة والاقتصاديين جميعاً من غير منازع، محمد مختار. . وتجريد اسمه من الألقاب لعظمة الاستحقاق. . . كما أن تجريد اسم (طه حسين) للاستغناء. . وهكذا تتنوع الأسباب والتجريد واحد. .
قدم لنا الدكتور أحمد فؤاد الأهواني ذلك العبقري، وعرفنا به ولم يكن بحاجة إلى تعريف،
فقد كانت (عظمته) بادية في سمته، كما هي كامنة في اعتقاده. . وشاء ظرف معالي حلمي عيسى باشا أن يشير إلى ناحية من نواحي هذه العبقرية التي قلما يجود بمثلها الزمان. . تلك الناحية هي تجديد عبقرينا في النحو، بجر الاسم الذي يقع عليه الفعل وهو لا يعترف بالنصب إلا في حالة واحدة، عندما يدخل على الاسم حرف جر، فإنه يقف في وجه هذا الحرف ليمنعه أن يؤثر شيئاً في الاسم، أو يحمله على نصبه حملا! قال معالي حلمي باشا: كيف يقول الدكتور أحمد أمين في خطبته بالمجمع اللغوي: إن النحو ظل جامداً لم يتطور! ولكن له عذره لأنه لم يسمع مختار بك، ولو سمعه يدحض مذاهب النحويين بالقراءة على غير مقتضاها لغير رأيه. .
ولكن الفيلسوف الاقتصادي الكبير لا يلقي بالاً إلى النحو، فهو يتكلم بالسليقة، وهو يوجه همه إلى الفلسفة والاقتصاد. وقد أجمع أهل المجلس على الرغبة في سماع شيء من إنتاج عبقريته، فأخرج من جيبه مقالا عنوانه (فلسفة الحياة) وهو مقال صغير في مبناه كبير في معناه. . . تتجلى روحه الفلسفية في مستهله إذ يقول:(الله سبحانه جلت قدرته خلق الإنسان مكوناً من مادتي الجسد والروح، وتصل الفلسفة إلى قمتها عندما يقول (إذا فقد شخص ما مكانته الاجتماعية إذ كان موظفاً وأحيل على المعاش شعر بنقص كبير في شخصية مكانته الاجتماعية فيسعى لإظهارها بأن يعمل عضواً برلمانيا أو تجاريا أو محامياً) أرأيت مثل هذه الفلسفة في (الحث على العمل)؟
وقد أراد الأستاذ الزيات أن تتحلى الصفحة الأولى من (الأهرام) بذلك المقال. ولكني ضننت به على الأهرام، وأخذته لتحليله وعرض فكرته الهائلة في (الرسالة) ولا يسعني بعد ذلك إلا أن أنبه على وجوب اختيار هذا العبقري الفيلسوف وزيراً لأي وزارة. . تحقيقاً لرغبة أصحابه ومجالسيه في الكونتننتال، وتحقيقاً لرغبته هوأيضاً فالتواضع لا يحسن في كل حال.
عقبال البكاري:
كان مخرجو الأفلام المصرية يعمدون إلى خلق المناسبات وأدنى الملابسات ليظهروا في مناظرها الراقصات والمغنين والمغنيات والمضحكين والمضحكات، ويُعد من الأفلام الجيدة ما تقدم هذه العناصر والمظاهر مع موضوعه الهزيل كي تستر نقصه وتغطي هزاله. . .
ولكن فلم (عقبال البكاري) حدث جديد في هذا الميدان لم يسبق له مثيل. ذلك أنه لا ينتهز الفرص لتقديم الرقص وغيره، وإنما هو يحاول أن ينتهز الفرص في خلال الرقص لعرض قصة. . وللمرة الأولى نرى القصة خرجت عن (السيناريو) وصارت شيئاً آخر إضافياً، وأصبح (التقطيع) ينصبُّ على الرقص وما إليه. . .
ولم لا؟ ألست بطلة الفلم هي تحية كاريوكا؟ وها هي ذي تظهر - واسمها في الفلم تحية أيضاً - في أول منظر أمام الرسام حمدي باعتبارها (مثالاً) للرسم، وبينا هو يعمل في رسمها ويسمع قطعة موسيقية من الحاكي إذا هي تتحرك على الموسيقى وتروح ترقص وترقص. . . ولا بد من ذلك ليبدأ الفلم أو - على الحقيقة - ليرقص. . وتُنتهز فرصة فراغ تحية من الرقص لعرض مناظر يفهم منها أن حمدي الرسام تعلق قلبه بتحية الراقصة، فذهب إليها في (الصالة) التي تعمل بها، وهنا يستأنف الفلم مجراه الطبيعي، فيقدم ما تشتهي الأنظار من ألوان الرقص والغناء وفي حجرة تحية الخاصة نراها تستقبل حمدي ضمن زوار آخرين استقبال مجهول وتسأله عن اسمه. . فهل نسيت أو نسى المخرج أنها كانت عند حمدي في مرسمه، يرسمها وترقص؟ ولندع هذا فما هي إلا برهة وجيزة حتى نرى تحية وحمدي وآخرين معهما يتعشون في (كازينو نجمة الصبح) والحقيقة أن كلمة (العشاء) نسمعها من ألسنتهم فقط، فلم نر عشاء على المائدة التي جلسوا إليها قليلا ثم نهضوا للرقص. .
ونرى بعد ذلك حمدي يصارح تحية بحبه إياها وهي تبادله الحب، ويتفقان على الزواج، بعد أن يقول لها أنه فقير، وتقول له إنها ترضى به، لأنها تحبه وقد كرهت هذا النمط من الحياة الذي تجري عليه. ويبدأ في البحث عن شقة يسكناها، هو وصديقه جميل، ويعني المخرج بإبراز هذا البحث ليشير إلى أزمة المساكن، ولكنه لا يوفق في ذلك إذ أنه جعل من العسير عليهما أن يجدا أي شقة، مع أن الشقق الآن موجودة في كل مكان ولكن الأزمة في ارتفاع أجورها، اللهم إلا أن يكون الفلم أعد منذ سنوات وعرض الآن فقط.
وأخيراً يجد حمدي إعلاناً عن شقة خالية في منزل المعلم عاشور الجزار، ويذهب حمدي وصاحبه جميل إلى هذا المنزل، فيحدث اشتباه مفتعل ظريف، إذ يظن الجزار أن حمدي يخطب أخته العانس فيرحب به، ويجري الحوار بينهما مشبهاً، يفهمه حمدي على الشقة،
ويأخذه الجزار على أنه في الرغبة من زواج أخته، ويضرب الموعد لكتابة (العقد). . . وأي عقد؟ أهو عقد الإيجار، أم عقد الزواج؟ كل يفهم ما يريد. . . ويعد الجزار لعرس أخته، ويقبل حمدي ليؤجر الشقة. . . ثم يرغم على الزواج، إذ يهدد بالسكاكين إن لم يقبل، حتى لا تتعرض سمعة العائلة للقيل والقال.
ويجري كل ذلك سريعاً سريعاً، ويدور الرقص في الفرح، وتعلم تحية فتعود إلى (الصالة) بعد أن تركتها وتستأنف الرقص. ثم يهرب حمدي من العروس التي أكره عليها، ويحصل الجزار من (قسم البوليس) على أمر بالقبض على العريس أينما وجد. ولأول مرة - فكل ما في الفلم أول - نرى أمر القبض على زوج هارب من زوجته، والأمر من (عسكري البوليس) لا من وكيل النيابة! ولم هذا الأمر يا ترى؟ ليذهب به الجزار إلى ميدان سباق الخيل بالإسكندرية حيث ذهب إلى هناك حمدي وتحية ومن معهما ليشاهدوا الحصان (سعد السعود) الذي خرجت باسمه ورقة النصيب التي معه، فيطالبه بمؤخر الصداق وهو ألفا جنيه، ويهدده بأمر القبض عليه. . . وبعد أخذ ورد يتفقان على أن يتنازل الجزار عن ألفي الجنيه ويدفع خمسة آلاف أخرى لقاء ورقة النصيب التي أيقن أن حصانها سيسبق ويربح عشرة آلاف جنيه، ثم يخفق الحصان. وينتهي الفلم بمنظر حمدي وتحية مسرورين بخمسة الآلاف
ويلاحظ أن الجزار يطالب بمؤخر صداق أخته، ويساومه زوجها حمدي، وهذا أيضاً تجديد نوجه إليه الأنظار، فالمتبع ألا يطالب بمؤخر الصداق إلا عند الطلاق، ولكن هنا لا يجري للطلاق أي ذكر، ومع ذلك يتساوم الطرفان على مؤخر الصداق، والسؤال الحائر هو: لماذا لم يطلق حمدي أخت الجزار؟ وهل يكفي أن يوقع له أخوها بأنه تسلم مؤخر المهر لتكون هي طالقاً؟
ومن العبث أن يتحدث الناقد في مثل هذا الفلم عن رسم الشخصيات، فليس فيه شخصية مرسومة، حتى الرسام الذي لم نجد في مرسمه شيئاً من روائع فنه!
وقد عرض الفلم - لأول مرة - في هذا الأسبوع بسينما الكورسال بالقاهرة، وهو من تأليف أبو السعود الأبياري وإخراج إبراهيم عمارة. ومثل (حمدي) محمود المليجي، وهو ممثل عرف بالإجادة في أدوار الشر، وكان بهذا الفلم في دور البطل المحبوب، وقد وفق
في القيام به، غير أنه لا تزال تلازمه بعض الظلال والخلال التي كان يظهر بها في الأدوار الشريرة. ومثل (جميل) إسماعيل ياسين وهو دور إضافي يمكن الاستغناء عنه، وإنما يقصد به الإضحاك، وكذلك حسن كامل الذي مثل عم تحية، وقد كانا فعلاً ركني الفكاهة في الفلم، على أنه يمكن أن يقال إن كل من في الفلم يمكن الاستغناء عنهم. . . ما عدا تحية. . .
عباس خضر
البريد الأدبي
المازني في يافا:
كانت يافا العربية وقتئذ مركزاً هاماً للنشاط الأدبي والفكري في فلسطين، ففيها الصحافة، وفيها الأندية، وفيها محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية.
وفي سنة 1945 دعت محطة الإذاعة الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تغمده الله برحمته ليحل ضيفاً عليها لمدة أسبوعين يبث في أثنائها وجهات نظره إلى المذياع.
فحدثنا رحمه الله في مواضيع شتى أذكر منها (رسالة الشباب) و (فن الترجمة) و (هل للأدب رسالة اجتماعية) و (التعاون الفكري بين البلاد العربية).
ورحبت بمقدمه أندية يافا مثل النادي العربي، والنادي الأرثوذكسي، والنادي الرياضي الإسلامي، والمعهد البريطاني، وألقى فيها محاضرات قيمة في الأدب والاجتماع.
وأذكر أن حدث للأستاذ المازني في يافا حادث عجيب، فقد جاءه بعد ظهر يوم وفد يمثل نادي الشبيبة الإسلامية، وكان الأديب الكبير ينزل في (كليف أوتيل) وطلب مقابلته، فأخبره صاحب النزل بأن الأستاذ يتناول دواء بعد كل غذاء وينام مدة ساعتين على وجه التقريب، وقد منع كل مقابلة له في هذه الأثناء، فأصر الوفد على مقابلته، وعلا الهرج والمرج في القاعة، فاخترقت الأصوات باب حجرة الأستاذ وبلغت مسمعيه مصحوبة بترديد اسمه فنهض متدثراً في قميص النوم، وفتح الباب مستوضحاً الخبر، فقال له رئيس الوفد: يؤسفنا جداً أن نزعجكم في مثل هذا الوقت، فأعضاء نادي الشبيبة الإسلامية مجتمعون في ناديهم للاحتفاء بكم، ويسرهم أن تقوم فيهم خطيباً.
فقال: إنني لم أعتد الخطابة بعد الظهر، وهو وقت راحتي واستجمامي. . . لكنني لن أرد لكم طلباً، فأذنوا لي بدقائق معدودات لأغير لباسي.
واستقل الأستاذ المازني والوفد سيارة إلى النادي.
لقد توقع الضيف الكريم أن يرى وفداً آخر عند مدخل النادي، ومرحبين يبتدئ طرفهم بأول درجة من درجاته وينتهي الطرف الآخر بالحفل. . . ولكنه لم يلتق بأحد، فامتقع وجهه قليلا، وتبلبل الوفد المرافق.
وولج الأستاذ المازني القاعة، وكان هواء البحر يداعب ستائرها، فوجدها خالية إلا من قيم
مكتبة النادي الذي دهش لمرأى الأستاذ المازني في الثالثة بعد الظهر فهرع إليه بقول: أستاذنا الكبير. . . أهلا بأديب العربية. . . ما هذه المفاجأة السارة؟. . . لقد كنا نود أن تشرفونا بزيارتكم في وقت غير هذا الوقت. . . فالأعضاء متغيبون، ومع ذلك فأهلا بكم!
فوقف الأستاذ المازني حائراً، ووقف الوفد مشدوهاً.
وبدأت الاعتذارات ممتزجة بتصبب العرق وفرك اليدين، وساد النادي صمت رهيب، ولم ينقذ الموقف إلا فرقة من الكشافة قد عرجت على النادي مصادفة لتستريح قليلاً من عناء رحلة شاقة فعلمت بوجود الأستاذ المازني في النادي وراحت تشق عنان السماء بالهتاف: يعيش المازني. يا. . يا يعيش!. . نريد كلمة من المازني!
ووقفت الكشافة في صفين متقابلين، فاستعرضهم الأستاذ المازني، وألهب نفوسهم بخطاب وطني جارف. . وترك النادي بين هتافاتهم وتصفيقهم الحاد.
فلما روى لي رحمه الله هذا الحادث العجيب، سألته مداعباً: أترون في الأمر سوء تفاهم أم (مقلباً)؟. .
فأجاب وهو يضحك: والله لا أدري. . ولكنه حادث طريف يصلح للكتابة!. .
ليماسول (قبرص)
نجاتي صدقي
ماذا؟
في البريد الأدبي في العدد 847 من الرسالة قرأت من الأستاذ راجي الراعي رداً على سؤال وجه إليه. . كان السؤال معقولاً ولكن الرد كان عجيباً. . لم يفهم الأستاذ دسوقي حنفي معنى لنداء بعثه الأستاذ الراعي إلى الشمس فقال لها (يا ابنة الله) ثم (يا عين الله) وأراد الأستاذ الراعي أن يجيب ولم يكن ثمة داع للإجابة. . قلم شط في التعبير وكان الله غفوراً رحيما. ولكنه قال لنا إنها لغة غير لغة الناس. . . إذن فقد كنت في السماء مع الشمس. . . أو هكذا يقولون هناك! غير لغة الناس يا سيدي. فأي لغة هي؟ حسبنا الله الواحد الأحد لم يولد ولم يلد. . . هكذا نقول نحن الناس. . . فهو إذن والد في لغة غير لغتنا. . . أستغفره لهذه اللغة وأسأله لها الرحمة والتوبة والهداية.
أما أن الشمس هي عين الله فهذا ما أراد أستاذنا الراعي أن يدلل عليه فقال إنها النور وإنها إحدى عيون الله التي ترعى الخلق. خسأت الشمس عيناً له جل جلاله. . . أتبلغ عين الله من الضعف والهوان هذا الدرك. . . أي عين الله تلك التي أذودها عني بستارة أسدلها أو خشب نافذة أقفله. . . إن عيون الله يا سيدي. . . أي عين له لهي أحد من ذلك وأقوى. . . رحماك يا أستاذنا الراعي اعتذر فقد أخطأ من قبلك كل جليل وإن الحق قديم. . . هكذا يقول الناس.
ثروت أباظه
القصص
الصورة. . .
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
بقلم الأديب يوسف يعقوب حداد
سمعت من يقول لصديقه، وهما على مقربة من مجلسي. . . أنظر. . . ها هو ذا ميليال!
واتجهت إلى هذا الذي يشيرون إليه بإعجاب ودهشة، إذ أنني كنت في شوق للتعرف على هذا الرجل الذي تعبده النساء. . . هذا الرجل الغريب، الذي تتهالك عليه بنات حواء!
كان قد تجاوز سن الشباب بقليل، يبدو للعين في هيئة غريبة، غير مألوفة، فشعره غزير، ينسدل حتى كتفيه، ويغطي رأسه حتى ليبدو وكأنه قبعة جلدية كتلك القبعات التي يلبسها أهل الشمال! ولحيته ناعمة، طويلة، تداعب صدره، وكأنها قطعة منتزعة من فرو معطف نسائي جميل!
رأيته يتحدث لامرأة، وفي حديثه كثير من اللطف والرقة، قد أحنى جذعه في احترام، وهو يوجه إليها نظرات لطيفة إذا استطعت أن تدرك منها شيئاً، فإنما أنت تدرك، عاطفة فيها مزيج من الحنان والعطف والاحترام!
كنت قد سمعت طرفاً من حياة هذا الرجل. . . وعرفت أن يضع نساء قد أحببنه حتى العبادة، وتفانين في حبه إلى حد لا يتصوره العقل، وسمعت اسمه يتردد في كثير من قصص الحب، فكنت إذا ما سألت أولئك النسوة اللوائي كن يطنبن في مدحه، ويندفعن في التحدث عن سجاياه، وعن سر سحره الذي يسحرهن وجاذبيته التي تجذبهن، كن يجبنني بعد تفكير عميق، وتأمل طويل، بأنهن لا يعرفن هذا السحر. ولا يدركن لهذه الجاذبية سراً. . كل ما يعرفن، أنهن ينجذبن له لأول نظرة، وينسحرن بسحره لأول لقاء!
وأستطيع الآن، وبعد أن رأيته، أو أؤكد أنه لم يكن جميلاً، كما أنني أستطيع أن أقول، وأنا لا أتجنى عليه، أنني لم أجد فيه شيئاً من تلك الخصال التي يتصف بها عادة، أولئك الرجال الذين يجتذبون إليهم قلوب النساء، لذلك رحت أتساءل في دهشة عن سر هذه الجاذبية. أهو كامن في ذكاء الرجل؟. . . ولكني لم أسمع من يمتدح فيه الذكاء!. . . أهو مختف في
مظهره؟. . . ربما!. . . ألا يمكن أن يكون مكمن السر في صوته؟. . . وإنما هنالك غيره من يمثلك مثل هذا الصوت، المشحون بالرقة، والحنان، والعذوبة!
ومر أحد معارفي، فاستوقفته، وسألته - أتعرف السيد ميليال؟
قال في دهشة - نعم!
قلت في رغبة واندفاع - أرجوك. . . قدمني إليه.
وبعد دقيقة. . . دقيقة واحدة فقط، كنا نتصافح، ونتجاذب أطراف الحديث!
كان حديثه مرحاً، هادئاً، متزناً. وكان صوته جميلاً، رقيقاً ناعماً. إلا أنني سمعت من قبل أصواتاً أكثر تأثيراً في أذن السامع، وأشد وقعاً في نفسه. . . سمعت أصواتاً تبعث السرور، وتنشر في النفس الحبور. . . سمعت أصواتاً لا تجهد في تتبع معانيها، تنساب من الشفاه سهلة، لينة، غير معقدة ولا متشابكة.
وبدا لي حديثة طبيعياً. لا ينبه الشعور بالملل. والمتحدث إليه يشعر بأنه يبادله الحديث في سهولة وبساطة. وأن الألفاظ تنساب من فمه بسهولة، ومن غير تفكير أو عناء!
ومع أن المدة التي مضت لتعرفي عليه لم تزد على الربع ساعة، إلا أنني وجدت نفسي، وكأنني أعرفه منذ ربع قرن!. . . شعرت نحوه كما أشعر نحو صديق قديم. أفكاره، وحركاته ونزعاته، لم تكن غريبة عني. في هذه الفترة القصيرة من الزمن، شعرت وكأن كل ذلك التكلف والتحفظ، وكل تلك الحواجز والعادات التي تقف عادة بين الناس، قد انهارت كلها مرة واحدة، وتداعت من أساسها!. . . والمعروف أن تلك الحواجز والعادات، وذلك التكلف والتحفظ لا تسقط بين الناس مرة واحدة، وإنما تسقط تدريجياً الواحدة بعد الأخرى. تسقط مع مرور الزمن. وتوطد أركان المعرفة، وتوثق عرى الصداقة.
وافترقنا بعد أن أعطاني عنوان بيته، ودعاني لتناول الغذاء عنده في اليوم التالي. إلا أنني نسيت الموعد بالضبط حين ذهبت إليه في اليوم التالي، ووصلت قبل الموعد فلم أجده هنالك. فاستقبلني خادم صموت، قادني إلى غرفة الاستقبال، حيث جلست على مقعد وثير وكأنني في بيتي!
إن مشاعر المرء لتختلف بالنسبة للغرف التي يدخلها. . . بعضها يشعرك بالضيق. وبعضها يشعرك بالكآبة، والبعض الآخر منها يشعرك بالبلادة!. . . أن عيوننا كقلوبنا
ترتاح لأشياء وتشمئز من أشياء أخرى!
وأخذت أنظر إلى ما يحيطني. وأتأمل فيما يدور حولي. فلم أجد ثمة شيئاً غير مألوف، فالأثاث بسيط يغلب عليه القدم. والستائر من حرير شرقي ناعم. وفي صدر الغرفة، في مواجهتي صورة لامرأة متوسطة الحجم، يظهر منها الرأس والقسم الأعلى من الجسد. . . وبيدها كتاب.
كانت المرأة في مقتبل العمر حاسرة الرأس. وكان شعرها الناعم مرتباً في بساطة، يبدو على شفتيها طيف ابتسامة حزينة كئيبة. والصورة طبيعية لا أثر للتكلف والتصنع فيها.
إن ما رأيته من صور قبل الآن، كانت البهرجة تغلب عليها بوضوح، حلى، وجواهر، ولباس أنيق، وشعر مضفور في عناية. فكانت تلك الصور تشعرني لأول وهلة، أن صاحب الصورة قد تصنع كل ذلك التصنع لأنه كان يعلم سلفاً بأنه جالس أمام المصور. . . وإنه يريد أن يرضي أحبابه وأصدقاءه الذين سيرون صورته. لذلك كرهت تلك الصور البعيدة عن الواقع، الشديدة التكلف والتصنع. . . أما هذه الصورة، فإنا أعجز عن وصفها. ولا أحس بالخجل إذا قلت بأنني أعجز عن التعبير شعوري تجاهها.
كانت مثبتة في مكان بارز، منعزلة، تبتسم ابتسامة باهتة يشوبها الحزن، ويخالطها الأسى. تماماً كما يبتسم بعض الناس حين يختلون بأنفسهم، ويتذكرون ما مضى من حياتهم. فيبتسمون، يبتسمون لأنفسهم حتى إذا كانت تلك الذكريات مرة وحزينة!
كانت منفردة في مكانها، غير شاعرة بهذه الأشياء التي تحيط بها. وهذه الصورة قد خلقت في الغرفة جواً ساكناً، يشيع فيه الهدوء. . . هذه الصورة هي الشيء الوحيد الذي يبعن الحياة في هذه الغرفة!
من الممكن أن يقتحم هذه الغرفة جمع غفير من الناس يضحكون فيها ويعبثون، يشربون ويفنون، ولكنهم لن يستطيعوا أن يبعثوا هذه الحياة التي بعثتها الصورة نفسها!
وبدت لي نظراتها غريبة. . . بدت لي مصوبة نحوي. إن كل الصور تقابلك نظراتها، أما هذه الصورة فإنها لا تراني وإن كانت مصوبة نحوي بالضبط كما أنها لا تستطيع أن ترى شيئاً آخر أبداً. هي نظرات شاردة، تنظر ولا ترى، مما ذكرني بقول الشاعر يودكيرز (آه من نظراتك. . . إنهن يجذبنني كما تجذبنني نظرات الصور!).
نعم. . . إن هذه الأعين المرسومة بالدهان على الورق الجامد لتبدو لي، وكأنها حية، وإنها ستحيى إلى الأبد.
آه. . . يا له من سحر، يخدر الأعصاب، ناعم كمرور النسيم كصوت القبلات، محرك للعواطف كلون السماء عند الغروب. . . آه. . . إن هاتين العينين لتشبهان الليل الذي يعقب الغروب. . . وما أجمل الليل، وما أجمل الغروب!
من هذا الإطار العابس، تنظر إليك هذه العيون في رقة وحنان. . . نعم، إن هذه العيون التي أبدعتها يد الفنان على الورق بعدة حركات من ريشته، لتبدو لي هي الأخرى، مفعمة بالأسرار. . . أسرار المرأة، الكامنة أو الظاهرة. إن هذه العيون لتحمل كل ما تستطيع المرأة التعبير عنه بنظراتها. هذه النظرات التي تنبه في قلوبنا الإحساس الأول للحب!
وأخيراً، انفتح الباب، ودخل منه السيد ميليال، فاعتذر لي عن تأخره، فصافحته وأنا أعتذر إليه بدوري عن تبكيري في الحضور. ثم سألته أن يغفر لي تطفلي، ويجيبني عن سؤالي عن صاحبة الصورة، ومن عساها تكون، فقال (إنها والدتي. . . ماتت في ريعان الصبا وميعة الشباب!).
وعندئذ. . . عندئذ فقط انكشفت لي كل الأقنعة عن سر جاذبية هذا الرجل، وتأثيره على النساء!
(البصرة: عراق)
يوسف يعقوب حداد
ص. ب. رقم 15