الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 853
- بتاريخ: 07 - 11 - 1949
تحية القائد المغربي
الأمير عبد الكريم الخطابي
للأستاذ أحمد رمزي بك
وقد عجمت تلك الخطوب قناته
…
فزاد على عجم الخطوب اعتدالها
وما كان محروماً من النصر في الوغى
…
ولكنها الحرب اعتدت وسجالها
ولو شاء إذ ترك المشيئة سؤدد
…
لأشوته يوم الهندوان نبالها
غداة يجاريه التقدم في الوغى
…
أبو غالب والخيل تترى رعالها
كأنهما من نصرة وترافد
…
يمينك أعطتها الوفاء شماله
(البحتري)
بين مدينتي تور وبواتييه حيث المروج الخضراء وفي قلب فرنسا شن الغرب علينا هجومه المضاد سنة 732 هجرية، ومنذ ألف ومائتين وخمسين سنة، والقتال دائم بيننا، لا هوادة فيه ولا حماية ولا تسليم ولا رحمة. . .
ولكنك يوم دخلت مصر آمناً مطمئناً، وعبرت مجمع البحرين: هلّلت العروبة في أفريقيا وآسيا لمقدمك، وقالت اليوم انتهى هجوم شارل مارتل، وانتقلت أمم المغرب والمشرق من خطط المدافعة إلى الهجوم، نعم في الساعة التي نزلت فيها إلى أرض مصر العربية في تلك اللحظة أيها المجاهد المقاتل، تراجعت القرون وانحنت أمام إرادة صامتة وقوة لا تقهر، وبدأنا مرحلة جديدة من الكفاح في سبيل تحرير المغرب ونصرته وعودته إلى حظيرة الوطن الأكبر. فاذكر ذلك اليوم. لأن وراءنا الأزمات تتحدث والنكبات تتوالى، وملاحقة الشعوب الحرة في عقر ديارها في الجزائر وتونس وطرابلس ومصر، لقد انتهى كل هذا بمقدمك، وبدأنا صراعاً آخر نحو الحرية والمجد، لا تراجع فيه ولا يأس وإنما هو دفعة تتبعها وثبةٌ، ووثبةٌ لا يقف أمامها في المعترك حائل. لقد نظرت إلى الشاطئ الأفريقي وقلت من ضفاف قناة السويس من هنا يبدأ يوم الفصل: نعم يبدأ هجومنا نحن، هجوم البطولة والجهاد تحت إعلام الحرية والعروبة والإسلام.
ويوم دخلت القاهرة، قاهرة المعز لدين الله، بلد صلاح الدين وبيبرس، ضحكت واستبشرت، وأتتك الجموع تتري إليك، أتدري لماذا أيها القائد العظيم؟.
لأنها رأت في وجهك بقية من عبد الرحمن الناصر والمنصور ويوسف بن تاشفين وتطلعت لجبينك فتعرفت على وجوه المرابطين والموحدين، وسرت بيننا فإذا بكل منا يحس بنفحة من نفحات الأندلس وأرض الجزيرة الخضراء تغمر نفسه، وخرجت إلينا فإذا بنا نتصور على جنبيك سيوف المجاهدين والركع السجود من أهل المغرب فكأنك واقف ومئات السنين تنحني أمام قوتك ونظرتك، وكأنك تمثل شهداء معاركنا الخالدة في ألف سنة مضت.
عجباً اكلما مددت اليد إليك تمثلتك قائدا في رداء الماضي؟ رأيتك في رداء أهل المغرب الذين انتصروا في يوم الجمعة لثاني عشر خلت من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة، رأيت أعلام النصر في الزلاقة وكأنها ترفرف على رأسك: يوم صلى قائدنا ابن تاشفين صلاة الصبح في ذلك السهل الذي شهد آيات البطولة والقوة والبطش في قلب أسبانيا.
ورأيتك يوماً في لباس الموحدين من أهل المغرب، وهم الذين أسسوا الملك وقادوا الجحافل ودانت لهم الدنيا، مررت أمام ناظري وكأن الأعلام التي طويت يوم تور وبواتييه، قد اخترقت ما وراء عالم الغيب والشهادة، فإذا بها تنشر من جديد وعلى رأسك ترفع، وكأن أصوات التكبير والتهليل التي ملأت جبال البرانس وصاحبت المسلمين في معاركهم وملاحمهم بالأندلس، قد تجمعت بقدرة القادر جل وعلا، وعاد صداها يرن في أذني ويعيد على أرض مصر ذكرى تلك الأيام الخالدة.
لقد أمضينا بأرض الأندلس ثمانية قرون من الزمن، كانت الحرب سجالا والدنيا قائمة علينا، تلك عوائدها فهل عرفناها يوماً من الأيام على غير عادتها، لا لم نعرف للراحة ولا للاطمئنان طعماً، بل عشناها قروناً والسهام على الأقواس مسددة، والدماء جارية، والصدور تتلقى الطعنات، والنصال تتكسر على النصال.
وتمثلتك يوماً في موقف عبد القادر وهو يدفع المغتصب عن أرض الجزائر، فقمت أحي بطولته في شخصك، وأتمنى لو كنت جندياً أتلقى الأوامر منه.
وأعرض صدري لرصاص الخصم العاتي، في سبيل هذا الركن الخالد من أرض العروبة، تُرى أكنت تدعوني لحمل السلاح كجندي من جنود المغرب، فانضم لصفوف كتائبك على بطاح الريف؟
إذن لوقفت على ربوة عالية أتحدى الأخطار والمهالك والحياة والموت، لأحيي فيك البطل
العظيم والقائد المنتصر رغم أنف المستعمر. . . ستذكر القاهرة يوم قدمت إليها وحللت ضيفاً معززاً مكرماً فيها، كيوم من أيامها التي لا تنساها.
والقاهرة لا تنسى من أحبها، لأن العواطف المتدفقة في قلوب أهلها ثابتة راسخة منذ أيام الفتح الإسلامي الأول، منذ دخلها عمرو بن العاص. فهي حريصة على صداقتها ومعزتها، بقدر ما هي قوية في البأساء والضراء والشدائد. . .
ولذلك سميت القاهرة: لأنها قهرت الحوادث والزمن، وخرجت ظافرة من المعارك والمواقع الفاصلة، منصورة في المنصورة وحطين وعين جالوت. . . ولذا تعرفت من أول يوم عليك، وقرأت نفحاتها وروحها مرتسمة على جبينك وأصبح سكانها اهلك وعشيرتك
فإذا خطرت ببالك سنوات الغربة في جزائر المحيط، فخفف عنك هذا، وذكر الخصوم أن أبناء القاهرة أسروا لهم ملكا يوم المنصورة. بالله سر في قاهرة المعز، وارفع ناظريك إلى قلعة الجبل، وتأمل حجارتها: تحدثك أن اثنا عشر ألفاً من أسرى العدو في المعارك والحروب التي انتصر فيها جند مصر الإسلامية، قطعوا هذه الصخور ورفعوا هذه الحجارة. كانت مواكبهم تمر تحت بابي النصر والفتوح، وأعلامهم منكسة وأيديهم في السلاسل وأعناقهم في الأغلال. أما أنت فقد جعلت لموطنك مراكش حديثاً له دوي في القرن العشرين اهتزت له الدنيا، فقد هزمت دولتين وحاربت على جبهتين، وكنت موفقاً في الهجوم والدفاع وبرهنت على أن قلوب أهل الريف أقوى وأثبت في مقاعد القتال من قلوب أعداء الريف.
بل أشهدت العالم أجمع انهم بحق سلالة المرابطين والموحدين وأبناء أولئك الذين كتب أجدادهم ملامح الأندلس وأيامها.
أيها الأمير القائد!
من يحلق مثلك فوق شوامخ الجبال وقممها العالية تصغر الدنيا أمام عينيه فتتضاءل الصعاب، ويبدو الجهاد أمراً سهلاً لأنك بطل من أبطال العروبة والإسلام ونفحة من نفحات بدر.
أحمد رمزي
أزواج وزوجات
للكاتب الإنجليزي يوسف أديسون
للسيدة الفاضلة ماهرة النقشبندي
أخبرني صديقي ويل هوني كومب منذ أكثر من نصف سنة أن في نيته أن يجرب الكتابة في جريدة السبكتاتور، وأنه يرغب أن تكون كتابته عن طريقي إلى القراء. وفي هذا الصباح تسلمت منه الرسالة التالية. وبعد أن صححت بعض الأخطاء الإملائية فيها، أقدمها إلى القراء.
عزيزي محرر السبكتاتور:
قبل ليلتين كنت في جماعة لطيفة من شباب الجنسين، وكنا نتحدث عن بعض مقالاتك التي كتبتها في موضوع الحب الزوجي، فنشب بيننا نزاع حاد حول عدم وفاء الأزواج في الحياة بالنسبة إلى الزوجات، وقد انبرى أحد المدافعين عن المرأة وقص علينا قصة حصار مشهور في ألمانيا، وقد وجدت إنني ذكرتها في معجمي التاريخي كما يلي:
عندما حاصر الإمبراطور كونراد الثالث جولفيوس، دوق بافاريا في مدينة هنسبورغ، وأتضح للسيدات أن المدينة لن تثبت طويلا، التمسن من الإمبراطور أن يسمح لهن بالخروج منها حاملات ما يستطعن حمله. ولما كان الإمبراطور واثقاً من أنهن لا يستطعن حمل كثير من الأشياء، فقد أجاز لهن ما التمسن. ودهش الإمبراطور من رؤية النسوة وهن خارجات يحملن أزواجهن على أكتافهن! فتأثر من هذا المنظر حتى طفرت الدموع من عينيه، وبعد أن أشاد بحبهن الزوجي، وهب لهن أزواجهن وعفا عن الدوق.
ولكن السيدات لم يطربن لهذه القصة وسألننا في نفس الوقت، إن كنا نعتقد في قرارة أنفسنا أن رجال أية مدينة في بريطانيا العظمى، لو كانوا في نفس الأزمة، ومنحوا نفس المنحة، هل كانوا يحملون نساءهم أو كانوا يسرون من هذه الفرصة التي أتيحت لهم للتخلص منهن؟ وقد أجاب صاحبي تووم وابروت الذي جعل من نفسه محاميا عن جنسنا قائلا:
إنهم إن لم يفعلوا ما فعلت السيدات فسيستحقون أعنف اللوم مع اعتبار أنهم أقوى منهن وأحمالهم ستكون أخف كثيراً.
وبينما كنا نخوض في أحاديث من هذا النوع تسلية لنفوسنا وقتلا للوقت الذي أصبح مملاً
قادنا الحديث، والحديث ذو شجون، إلى أن يتولى كل بدوره توجيه أسئلة يجب على الآخرين الإجابة عنها. ولما حان دوري أمرت كل السيدات حسب السلطة المخولة لي أن يخبرن الجماعة بصراحة تامة عن الشيء الذي يفعلنه لو أنهن كن في هذا الحصار المذكور وأجيز لهن ما أجيز لتلكم السيدات، فما الذي تأخذه كل منهن على اعتبار أنه جدير بالإنقاذ؟ وقد أجبن إجابات طريفة عن سؤالي أبهجتنا حتى وقت النوم. وقد ملأت هذه الإجابات رأسي بالأفكار المشوشة فحلمت بعد أن نمت الحلم التالي.
رأيت مدينة في هذه الجزيرة - ليس لها اسم - محاصرة من كل الجهات وقد أجبر ساكنوها وضويقوا حتى ضجوا يطلبون لهم ملجأ يحميهم. وقد رفض القائد أي حل سوى تلك المنحة التي ذكرناها في حكاية هنسبورغ أي أن كل سيدة لها الحق أن تخرج آخذة معها ما تراه يستحق الإنقاذ.
وعلى حين غرة فتح الباب فظهر صف طويل من السيدات تتبع إحداهن الأخرى يتمايلن تحت أحمالهن. وقد أخذت مكاني على مرتفع في مخيم العدو في المكان الذي عينه القائد لمقابلة النسوة للنظر فيما يحملن. وكنت شديد الرغبة في رؤية هذه الأحمال.
كانت أولاهن تحمل كيساً على كتفيها، فقد جلست لفتحه بكل عناية، وبينما كنت أنتظر أن أرى زجها خارجاً منه، وجدته مملوءاً بالأواني الصينية. وبدت الأخرى بقوامها تحمل شاباً جميلاً على ظهرها وقد أكبرت هذه الصبية لحبها زوجها، ولكن دهشتي كانت بالغة أقصاها عندما اتضح أنها تركت زوجها المسكين في البيت وحملت صاحبها. وأقبلت الثالثة من بعد بوجهها الجاف، فنظرت إلى حملها الذي لم أشك في انه زوجها، ولكن بعد أن أنزلته عن كتفيها سمعتها تناديه بعزيزي بك فإذا به كلبها المدلل، إذ يبدوا أن زوجها كان في غاية الضخامة فرأت في جلب هذا الكيوبيد الصغير تجنباً لكثير من المزعجات. وكانت التالية زوجة رجل فاحش الغنى، وقد حملت معها حقيبة مملوءة بالذهب، وأخبرتنا أن زوجها قد بلغ من العمر أرذله، وبحسب قانون الطبيعة لن يعيش طويلاً، ولتريه عظم حبها له أنقذت ما يحبه المسكين أكثر من حياته. وكانت الأخرى تحمل ابنها على ظهرها، وقيل لنا إنه من أعظم الفجار الأشرار في المدينة، ولكن على مثل هذا الحنان جبلت الأمهات الرقيقات، فقد تركت خلفها أسرة عامرة بالأمل ومؤلفة من زوج وبنين وبنات لأجل هذا المخلوق الشرير.
ولو تركت لقلمي العنان أن يسجل ما رأيت في هذا الحلم الغريب لما انتهيت من السرد والوصف، فقد امتلأ المكان حولي برزم مربوطة وحرائر مشجرة ومطرزات وعشرة آلاف من مواد أخرى كافية لأن تملأ شارعاً بمخازن مملوءة بالدمى. وأقبلت إحدى السيدات تحمل زوجها الذي لم يكن ثقيلا وتحمل في الوقت نفسه علاوة على ذلك ربطة كبيرة من الأشرطة الحريرية الهولندية، وعندما ضاقت بحمليها ووجدت أنها لا تستطيع الاحتفاظ بكليهما أسقطت بعلها الصالح وحملت الأشرطة وتابعت سيرها. وبالاختصار لم أجد سوى زوج واحد مع هذه الأمتعة وكان إسكافياً نشيطاً. لقد كان يرفس ويهمز رجليه وهو محمول على أكتاف زوجته، وقيل لي بعدئذ إن يوماً من أيام حياتها لم يمر دون أن يعاقبها بالضرب الشديد.
ولن أستطيع إتمام هذه الرسالة يا صديقي المحرر من غير أن أخبرك عن خاطر عجيب مر بي في رؤياي. فقد رأيت كما خيل إلي عشرات النساء منهمكات في سحب رجل واحد لم أتبينه أول وهلة حتى اقترب مني وبانت ملامحه فإذا به أنت. وقد صرحن أن ذلك لأجل إنتاجك الأدبي، وليس لشخصك، على شرط أن تستمر في تحرير السبكتاتور. فإذا وجدت في هذا الحلم ما يلائمك فهو تحت تصرفك يا عزيزي المحرر. وأنا صديقك في النوم واليقظة.
ويل هوني كومب
سيرى السيدات كما خبرتهن كثيراً، أن (ويل) رجل من الطراز القديم في التهكم والمجون في المدينة، وهو هنا يظهر مواهبه بالتهكم على الزواج كرجل جرب حظه مراراً عديدة في هذا المضمار وخاب. وعلى كل حال لم أستطع إهمال رسالته لأن القصة الحقيقية التي بنى عليها رسالته مما يرفع رأس المرأة عالياً، وأنه في سبيل إيذائهن قد جنح به المنطق إلى الرؤى والخيال.
(بغداد)
ماهرة النقشبندي
ثورة الطبيعة وثورة المجتمع
للدكتور محمد يحيى الهاشمي
كم من تشابه بين حوادث الطبيعة وحوادث المجتمع! وهل المجتمع إلا جزء من عالم الطبيعة وخلية من الخليات المتعددة التي تشكل هذا العالم الكبير الواضح بمظاهره والخفي بأسراره ومعمياته؟ وكما يسود التطور في نظام الطبيعة على اختلاف أشكالها وتباين أنواعها، يسود في نظام المجتمع والهيئات البشرية هذا القانون. هكذا نجد انتقالا وتصعداً في سلم الرقي خطوة فخطوة ودرجة فدرجة. أما الطريق ففي العالمين بعيد، وليس من هدف ولا غاية، وما المكان الذي نظنه بنهاية المطاف ما هو في الحقيقة إلا مرحلة انتقالية إلى مرحلة أخرى. الطبيعة تمشي والمجتمع يسير، لا يعرفان الوقوف ولا السكون ولا الراحة ولا الاستقرار، وما الاستقرار الظاهري إلا دور يهيئ إلى دور آخر؛ فكل ما يقع عليه بصرنا أو تدركه بصيرتنا، يسطو عليه دوما ناموس الجريان والتغير الدائم.
إن هذه التغيرات البطيئة جداً تدق حتى عن فهم الذكي، ولكن لدى النظرة العميقة وتتبع الحوادث الطويلة نجد كل ما على سطح الأرض تابعاً للتغير والتبدل، فلا شيء يبقى على حاله الأصلي فالجبال التي يضرب بها المثل في الثبوت لا تبقى مكانها، بل بتعاقب الأحقاب الطويلة تتزلزل وتصبح سهولاً وترتفع السهول فتصير وهاداً فنجاداً فهضاباً إلى أن تكون جبالا شاهقة تتخللها الوديان السحيقة، وكثيراً ما تجف بعض المناطق البحرية، فتصبح براً والبر يتحول إلى بحر، وهكذا فإن التبدلات الجزئية التي تظهر للناظر السطحي كشيء تافه لا قيمة له، تكون بتعاقب ملايين السنين انقلاباً خطيراً يدهش الأنظار، ويكاد لا يصدق الإنسان ما كانت عليه بعض المرتفعات الشاهقة في الماضي لولا الحيوانات البحرية التي بادت وتركت معالمها بين طيات الحجار.
قياساً على ما بينا فإن الأمم تتغير وتتبدل، وبتأثير الأفكار الهادئة الرزينة تنتقل من طور إلى طور وذلك بتعاقب الأجيال والعصور، ولولا ما دونه لنا التاريخ في قرون مضت، أو بعض الآثار الباقية عن الأمم الخالية، لما عرفنا ما كانت علي الشعوب والحضارات الماضية.
نعم إن بعض الأمم قد تدنت عما كانت عليه من قبل، كاليونان الذين كانوا يحملون مشعل
العلم والفن، أو كالرومان الذين شيدوا الممالك وأوجدوا التشاريع، أو كالأمة العربية التي أخذت عن الأمم السالفة ما أخذت وأبدعت من ذاتها ما أبدعت وساهمت في تشييد صرح المدنية الحاضرة، ولكننا إذا اعتبرنا البشرية بأجمعها أسرة واحدة ورثت كل أمة عن الأخرى ما ورثت فعند ذلك نميل إلى الاعتقاد بالتقدم الدائم والتطور المستمر.
هذا التطور البطيء هو من سنة الكون، ولكن بجانب ذلك نشاهد في عالم الطبيعة وعالم المجتمع من انقلاب فجائي واندفاع آني يدك الأرض دكا ويغير معالمها. إن هذه الغضبة تغضبها الطبيعة في انفجار البركان وفي الزلزال الأرضي يذهب ضحيتها في كثير من الأحيان كثير من الكائنات الحية. وفي عالم الاجتماع نشاهد ذلك أيضاً في الانقلابات الاجتماعية التي تكون عند الاختراعات العظيمة أو عند اليقظة الفكرية. ولعل حاجتنا في هذا العصر الذي قطعت فيه أوروبا في سبيل الرقي والتقدم ما قطعت من الخطوات الواسعة، إلى انقلاب في جميع طرز حياتنا لأعظم من أي عصر، لأن بلاد الغرب قطعت تلك المراحل في قرون عديدة.
أما نحن، فان حاجتنا أن نأخذ النتائج كما هي، ومن بعد ذلك نسمى في الإبداع وإظهار قابليتنا. فإذا أردنا أن ننتظر الزمن وتقلباته البطيئة فلن نلحق بركاب الغرب. عند ذلك نبقى متأخرين عن الأمم الراقية أبد الآبدين. فالأرض تثور لتخرج ما في جوفها من لظى مستعر، والمجتمع يثور ليطلق ما في قلبه من نار متأججة مبدلا بها معالم حياته. وكم من تشابه بين الطبيعة والمجتمع. تدفع المياه إلى النيران المستعرة في جوف الأرض فتتشكل الأبخرة وتتراكم إلى أن تنطلق بقوة وعنف، وكذلك تتجمع الأفكار في الأدمغة إلى أن تنطلق بقوة فعالة فتدك المعالم القديمة لتبني فوق أنقاضها عالما جديدا على أساس عميق. وما أعمق غور الإنسان، وما أشد حاجته إلى أن يبني بناء المجد الشامخ على أساس ثابت! وكلما سمت الشجرة في السماء تحتاج إلى جذر عميق في الأرض، منبعث عن توق للتجدد واشتياق كامن في النفوس إلى الحياة. ولا يعد من أبنائها إلا من تاق لها وقدر قيمها. أما من لم يتق إلا للفناء ففي قرارة نفسه على رأي بعض الأدباء المعاصرين فراغ رهيب وصدى فناء صارخ بصوت القبور، ونشاط أجوف يبتلع القيم، ناقم على الوجود. ويقاس الناس في عمل كل إصلاح بالنسبة إلى إيجابيتهم وأهليتهم للبناء ومساهمتهم في الفوضى. المدمرون
كثيرون وأما البناءون فقلائل. ودعاة الفوضى لا يحصى لهم عدد؛ أما الإيجابي فطريقه طريق الحياة ولو جاءت الحياة من طريق التدمير.
في النهضة المنبعثة عن الحياة النابضة انطلاق وثاب ونفس ضاقت بما فيها فانفجرت في قوة مكتسحة بناءة تتجه نحو الخير والجمال، وتدوس في سبيل بلوغها بقايا الفساد القائمة. شتان بين من يهدم ليهدم وبين من يهدم ليبني، ففي أحشاء الأول فناء وفي أحشاء الثاني حياة وارتقاء. يثور الأول ليحطم، فلن يلبث أن يبتلع نفسه. أما الساعي للبناء ففي أحشائه امتلاء دفاق، فيعطي عطاء سخيا، ولا تكون الحياة إلا حيث يكون العطاء.
في انطلاق البراكين مواد هامة لبناء القشرة الأرضية، حتى أن دورة الماء لا تقف عند سطح الأرض، بل ثبت أن الحياة الاندفاعية الباطنية لتشترك في الدورة المائية، وفي الأحقاب التي كان فيها اندفاع البراكين على أشده كانت المياه أشد غزارة. في اندفاع الينابيع الفوارة ارتواء للأرض وللكائنات الحية على سطحها، وفي الفيضانات الطاغية سماد لها لتزداد قوة الإنبات فيها، رغم ما تجره تلك السيول الطاغية على الحقول والبساتين والمنازل من الأضرار والتخريب. حتى أن في الزلازل المخيفة فائدة في تكييف شكل الأرض.
إن في النهضات الاجتماعية أيضاً والثورات الفكرية أضراراً جزئية لا يخلو منها انقلاب من الانقلابات، ولكن الحوادث تتراءى لنا عكرة إذا نظرنا إليها بمنظار أنانيتنا، أما إذا نظرنا إليها بمنظار المصلحة العامة والخير الشامل، عند ذلك يتلاشى من نفوسنا حب الذات والأثرة وندرك أموراً خافية عنا.
قد يكون في النور الشديد الظل المديد، وجذر الانقلاب العميق هو في النفس، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
(بغداد)
محمد يحيى الهاشمي
شياطين الشعراء
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
عبقر - شيطان الشعر - شياطين بعض الشعراء - شياطين
شعراء الإفرنج - العقل الباطن.
- 1 -
الشعر وحي وفيض وإلهام، وهو إذا ما صدر عن عاطفة مشبوبة صادقة، فن لا أثر للإرادة فيه، أو أثرها فيه أضعف من تأثير التلقي والطواعية والاستمداد من أغوار النفس واللاشعور.
وقد نسب العرب كل أمر عجيب إلى الجن، وتخيلوا أن عبقر واديهم ومقامهم، وقالوا في الأمر العظيم عبقري، فلا عجب أن يصلوا الشعر بالجن، ولا عجب أن يتخيلوا أن لكل شاعر شيطاناً يلهمه القريض ولكن للشعر شيطانين: أحدهما مجيد واسمه الهوبر، والآخر مفسد واسمه الهوجل، وكانت عقيدتهم هذه معلومة في العصر الإسلامي، فقد روى أن رجلا من تميم أتى الفرزدق وقال له: إني قد قلت شعراً فاسمعه قال: أنشدني فقال:
ومنهم عمر المحمود نائله
…
كأنما رأسه طين الخواتيم
فضحك الفرزدق، ثم قال: يا ابن أخي إن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر فسد شعره، وقد اجتمعا لك في هذا البيت، فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت.
وقد سمى الشعر رقى الشياطين، قال جرير:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه
…
وقد كان شيطاني من الجن راقياً
وقال آخر:
ماذا يظن بسلمى إذ يُلمُّ بها
…
مُرَجَّل الرأس ذو بُردَين وضَّاح
خزٌّ عمامته حلوٌ فكاهته
…
في كفه من رقى الشيطان مفتاح
وصرح كثير منهم في العصر الجاهلي وفيما بعده بأن شياطينهم تلهمهم أفانين القول، قال الراجز:
إني وإن كنت صغير السن
…
وكان في العين نبوٌّ عني
فإن شيطاني أمير الجن
…
يذهب بي في الشعر كل فن
وقال حسان في جاهليته يعزو إلى شيطانه أنه قائل بعض شعره:
إذا ما ترعرع فينا الغلا
…
فما إن يُقال له: من هوة؟
إذا لم يسد قبل شد الإزار
…
فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان
…
فطوراً أقول، وطوراً هوه
وقال جرير:
إني ليُلْقى عليَّ الش
…
عر مكتهل من الشياطين
- 2 -
ولم يكتفوا بنسبة شعرهم إلى الشياطين، بل سموْها، فكان لكل شاعر شيطانه المسمى. فشيطان الأعشى مسحل، وشيطان فرو بن قطن جهنام، قال الأعشى:
دعوت خليلي مسحلا، ودعوا له
…
جهنام. بعداً للغوي المذمم
وشيطان المخبل السعدي عمرو، قال الشاعر الإسلامي:
لقد كان جنّيُّ الفرزدق قدوة
…
ولا كان فينا مثل فحل المخبل
ولا في القوافي مثل عمرو وشيخه
…
ولا بعد عمرو شاعرٌ مثل مسحل
وشيطان عبيد بن الأبرص عبيد، وهو نفسه شيطان بشر بن أبي خازم وينسبون إليه:
أنا ابن الصلادم أُدعى الهبيد
…
حبوت القوافي قَرْمي أسد
عبيداً حبوت بمأثورة
…
وأنطقت بشرا على غير كد
ولاقى بمدرك رهط الكميت
…
ملاذا عزيزاً ومجداً وجد
منحناهم الشعر عن قدرة
…
فهل تشكر اليوم هذا معد؟
وسأله الراوي: أما عن نفسك فقد أخبرتني، فأخبرني عن مدرك، فقال: هو مدرك بن واغم صاحب الكميت، وهو ابن عمي.
وقالوا إن شيطان امرئ القيس لافظ بن لاحظ، وشيطان زياد الذبياني هاذر ونسبوا إلى أبي نواس انه كان يستعين بإبليس في نظم الشعر ورووا له أبياتاً منها:
دعوت إبليس ثم قلت له
…
في خلوة والدموع تنحدر:
أما ترى كيف قد بليت، وقد
…
قرح جفني البكاء والسهر؟
إن أنت لم تلق لي المودة في
…
صدر حبيبي وأنت مقتدر
لا قلت شعراً ولا سمعت هنا
…
ولا جرى في مفاصلي السكر
فما مضت بعد ذاك ثالثة
…
حتى أتاني الحبيب يعتذر
ولم يقتصروا على نسبة الشعر للشياطين، بل نسبوا إليهم الغناء أيضاً في العصر الإسلامي، وقالوا إن الغريض كان يتلقى غناءه عن الجن، وأن سماره سمعوا وهو يغنيهم ذات ليلة عزيفاً عجيبا، وأصواتاً مختلفة أفزعتهم، فقال لهم. إن فيها صوتاً إذا نام سمعه، ويصيح فيبني عليه غناءه، فأصغوا إليه فإذا نغمته نغمة القريض فصدقوه.
ولم يقنع أبو النجم أن يكون شيطانه كشياطين الشعراء، فادعى أن شيطانه ذكر وشياطينهم إناث؛ لأن الذكور أقوى من الإناث وأقدر:
وإني - وكل شاعر من البشر
…
شيطانه أنثى - وشيطاني ذكر
وروى بعضهم بيت عمرو بن كلثوم في معلقته هكذا:
وقد هرت كلاب الجن منا
…
وشذبنا قتادة من يلينا
وقال إن الشعراء كانوا يسمون كلاب الجن، فالمعنى أننا لبسنا الأسلحة فشرع الشعراء يذكروننا.
- 3 -
ولهم مع شياطين الشعراء أقاصيص ومساجلات، ومحاكمات منثورة في كتب الأدب، نذكر بعضها للتمثيل:
قال جرير بن عبد الله البجلي: (سافرت في الجاهلية فأقبلت على بعيري ليلة أريد أن أسقيه، فأبى أن يتقدم، فدنوت من الماء وعقلته، ثم أتيت الماء فإذا قوم مشوهون عنده، فقعدت ثم أتاهم رجل أشد تشويهاً منهم، فقالوا هذا شاعرهم، وطلبوا منه أن ينشدني، فأنشد:
(ودع هريرة إن الركب مرتحل) البيت
فلا والله ما خرم منها بيتاً واحداً، حتى انتهى إلى هذا البيت:
تسمع للحَلي وسواساً إذا انصرفت
…
كما استعان بريح عشرقٌ زجلُ
فأعجبه، فقلت له: من يقول هذه القصيدة؟ قال: أنا، قلت: لولا ما تقول لأخبرتك أن أعشى
بني ثعلبة أنشدنيها عاما أول بنجران. قال: فإنك صادق، أنا الذي ألقيتها على لسانه، وأنا مسحل صاحبه، ما ضاع شعر شاعر وضعه عند ميمون بن قيس).
وقد لاقى الأعشى هاجسه مسحلا وسمع منه، وقد اعترف في شعره أن مِسحلاً يوحي إليه، بل إنه مصدر وحيه ولولاه ما شعر:
وما كنت شاحوذاً ولكن حسبتني
…
إذا مسحل يسدي لي القول أعلق
شريكان فيما بيننا من هوادة
…
صفيان: إنسيٌ وجنٌّ موفّق
يقول فلا أعيا بقول يقوله
…
كفاني لا عَي ولا هو أخرق
وحاور عبيد بن الحُمارس جِنِّياً بالشعر.
وذكر أبو العلاء أن أبا بكر بن دريد قص على أصحابه أنه رأى فيما يرى النائم أن قائلا يقول: لم لا تقول في الخمر شيئاً؟ فقال: وهل ترك أبو نواس مقالاً؟ فقال له: أنت أشعر منه حيث تقول:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده
…
أتت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفاً فسلطوا
…
عليها مزاجاً فاكتست لون عاشق
فقال له أبو بكر: من أنت؟ فقال: أنا شيطانك، وسأله عن اسمه فقال: أبو زاجية، وخبره أنه يسكن بالموصل.
- 4 -
وإذا كان العرب قد عزوا شعرهم إلى الجن وتخيلوا أنها تلهمهم ونسبوا كل أمر عظيم إلى عبقر فإن الفرنجة يشبهونهم في كثير من تخيلهم.
يعبر الإنجليز عن العبقرية بكلمة ومصدرها الذي اشتقت منه كلمة ومعناها جن، فبين العبقرية والجن علاقة في اللغة الإنجليزية كالعلاقة التي بين عبقر والعبقرية في اللغة العربية، وقيل إن أصل الكلمة لاتيني يدل على معنيين متقابلين: ملك رجيم وشيطان رجيم، يولد الواحد منهما أو يولدان معاً بمولد الشاعر، ويقصون عن بعض شعرائهم قصصاً تشبه شبهاً قوياً ما روى عن شياطين شعراء العرب، فمثلاً بدا الشاعر (كولردج) قصيدته (كوبلاخان) وأتمها لها جني والشاعر نائم، واستيقظ الشاعر (ماسفيلد) من نومه لينقل عن جني قصيدته (المرأة تتكلم) وأغرب من هذين ما يرويه (وليم بلاك) عن نفسه إذ يزعم أنه
مسكون، وأن ساكنيه ملائكة وشياطين تطارده نهارا، وتوقظه ليلا، لتوحي إليه بما ينظم وحياً لا يستطيع أن يصده، ولا قدرة له على تنضج ما توحي به
ويقول (ريلكة) إنه ظل أسير الأرواح ثلاثة أيام لم ينقطع فيها نظمه، وأخرج ديواناً من دواوينه الروائع، وأعجبه، وألح الجن أن ينشره، فرضى على شريطة أن يكون النشر بعد وفاته حتى لا يتحمل تبعة شعر أملاه عليه جني جالس قبالته.
- 5 -
ولكن علم النفس يعزو هذا كله إلى العقل الباطن، وقد كشفت الدراسات التي قام بها علماء التحليل النفسي عن كثيرمن عمل العقل عند الفنان، وانتهوا إلى أن الإنتاج الفني يصدر غالباً عن العقل الباطن كأنه حلم يقظة.
ويروي استيفنسن، كيف بدأ هو نفسه يكتب قصته الفنية البديعة (دكتور جيكل ومستر هيد) فيقول:(إن العمل الحقيقي يقوم به مساعد غير منظور، أبقيه أنا داخل حجرة عليا مغلقة. . . يقوم به أولئك الناس الصغار - في الدماغ - الذين ينجزون لي نصف عملي وأنا مستغرق في نومي وربما أنجزوا النصف الباقي وأنا مستيقظ تمام اليقظة حيث أظن أني أنا القائم بالعمل، وكثيرا ما يعلن لي أن أعتبر نفسي غير فنان، بل مخلوقا شأنه شأن بائع الجبن أو الجبن نفسه).
وهذا التصوير المستملح تؤيده إشارات من كتاب آخرين، فهذا فولتير - وقد لس مرة في إحدى مقاصير المسرح يشهد تمثيل رواية من رواياته - يصبح متعجباً. . أحقاً أنا الذي كتب ذلك؟.
وجورج إليوت - ولم تكن تعتقد في وقى نفسية غير طبيعية - تصرح أنها قد خيل إليها وهي تكتب أن عقلا آخر قد استحوذ على قلمها وسيَّره، ويقول جوته إنه كتب أحسن رواية له وهو في غيبوبة حالمة يشبهها بحالة النائم الماشي. وكثير من الأدباء الأحياء صرحوا بهذا، فمثلا بروفسور هوسمان يقول في طريقة إنتاج قصائده: أنا أظن أن إنتاج الشعر ليس عملية فاعلة قدر ما هي قابلة وغير اختيارية.
- 6 -
التحليل النفسي يعزو إلى العقل الباطن الإنتاج الأدبي الرفيع وقد عبر الشعراء من العرب والإفرنج عن هذا العقل بأنه قوى خفية تلهم، وسموها شياطين.
وإذا كان الشعر يحلق بجناحين من الخيال فقد حق للشعراء أن ينطلقوا مع خيالهم فينسبوا شعرهم إلى قوى وراء حسهم، وتصورهم هذه القوى شياطين ألصق بالخيال وأدنى إلى الشعر من التحليل النفسي الذي يرجع الإنتاج الأدبي إلى العقل الباطن للشاعر، أي إلى الشاعر نفسه.
لست بهذا أهيم مع الشعراء وأجحد حقائق العلم، وإنما أقرر أن الشعراء كانوا موفقين في تخيلهم وفي دعواهم أن شياطينهم تلهمهم أو تملي عليهم. . .
أحمد محمد الحوفي
المدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول
رائية أبي فراس في الشعر المعاصر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
لم تظفر قصيدة في شعر أبي فراس من الشهرة بما ظفرت به قصيدته الرّائية التي بدأها بقوله:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
…
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
فهي أكثر قصائده دوراناً على الألسنة، وقد أغرت بعض الأدباء بتشطيرها حيناً، وتخميسها حينا آخر، ومعارضتها مرة أخرى.
وممن شطر هذه القصيدة الأستاذ الكناني الأبياري (سنة 986 هـ)، وليس في تطيره من جديد سوى زيادة عدد الأبيات، وكان عمل المشطر أن كرر المعنى، أو فصله بعض التفصيل، وهاك نموذجاً لما فعل:
قال أبو فراس:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة
…
كما ردها يوماً بسوأته عمرو
فشطره الكناني بقوله:
ولا خير في دفع الردى بمذلّة
…
إذا لم يكن عز فإن الردى خير
ومن يرتضي ردّ الردى بمعرة
…
كما ردها يوماً بسوأته عمرو
وعلى هذا النسق يسير، لا يأتي بمعنى جديد، ولا يكمل معنى جاء به الشاعر الأول. ولا ريب أن ما جاء به الكناني شديد الضعف بموازنته بما جاء به أبو فراس. ثم عاد الكناني، فشرح الأصل والتشطير، يشرح الكلمات اللغوية أولاً، ثم يعود إلى الشرح الإجمالي، وسمى عمله (إيناس الجلاس، بتشطير وشرح قصيدة أبي فراس).
وخمس هذه الرائية الجنبيهي، المعاصر للكناني، وهذا التخميس أقلق قوة من تشطير معاصره، وقد أضعف القصيدة، وأنهك معناها، وكثيراً ما كان يتلمس الوصول إلى البيت بمعان ليست في الصميم، كما ترى في تخميس بيتي أبي فراس:
وإني لنزال بكل مخوفة
…
كثير إلى نزالها النظر الشزر
وإني لجرار لكل كتيبة
…
معودة ألا بخل بها النصر
خمسها الجنبيهي بقوله:
وليس لها ما بين لين وعطفة
…
وبين الجفا والصد أدنى مسافة
لذا صرت منها في ارتعاد ورجفة
…
وإني لنزل بكل مخوفة
كثير إلى نزالها النظر الشزر
فيا سعد مهلاً، ليس نأيي لوحشة
…
من الأهل، لا بل مزعجات محبة
وإني من قوم كرام أعزة
…
وإني لجرار لكل كتيبة
معودة ألا يخل بها النصر
فأنت ترى ضعف التأليف، وكيف كان الشاعر يلتمس المعاني التي تصل به إلى البيت لأدنى ملابسة، وكيف إن الجمع بين الغزل والفخر أضعف كليهما، ولكنك تحس بقوة القصيدة منفردة عن التشطير والتخميس.
وعارض البارودي وهو في المنفى، تلك القصيدة الرائية التي أنشأها أبو فراس وهو في الأسر، وافتخر الشاعران في القصيدتين، وبدأهما بالغزل.
كانت طبيعة الغزل في القصيدتين مستمدة من موقف الشاعرين، فاقتبس الحديث عن الحب من ذلك الموقف مشاعره وإحساساته. أما أبو فراس فقد أنشأ قصيدته في أيام أسره الأولى، عندما كان الأمل يملأ قلبه في أن ابن عمه سيسرع إلى فدائه، وهو من أجل ذلك يبدي الجلد والصبر، وإن كان لا يستطيع بينه وبين نفسه أن يخفي اللوعة والأسى، فهو أمام الناس جلد صبور، حتى إذا جن الليل وانفرد، بكى ما شاء له البكاء.
هذا الخاطر الذي كان يملأ نفسه، هو الذي أوحى إليه بهذا الشعور عندما تحدث عن الحب فقال:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
…
أما للهوى نهي عليك ولا أمر
بلى، أنا مشتاق، وعندي لوعة
…
ولكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى
…
وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي
…
إذا هي أذكتها الصبابة والفكر
وتستطيع أن ترى أثر موقفه في مبدأ الأسر جلياً في غزل هذه القصيدة، وأكاد ألمس فيها نوعاً من الرمز والإيماء، وبهذا نستطيع أن نفهم كيف غنها عللّته بالوصل حيناً إذ يقول:
معلّلتي بالوصل، والموت دونه
…
إذا مت ظمأنا، فلا نزل القطر
وكيف إنها تجاهلته حيناً آخر:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة
…
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت، كما شاءت وشاء لها الهوى
…
قتيلك، قالت أيهم؟ فهمو كثر
فقلت لها: لو شئت لم تتعّني
…
ولم تسألي عني، وعندك بي خبر
فقالت: لقد أزرى بك الدَّهر بعدنا
…
فقلت: معاذ الله، بل أنت لا الدهر
وما كان للأحزان لولاك مسلك
…
إلى القلب، لكن الهوى للبلا جسر
وينتقل أبو فراس بعدئذ انتقالاً طبيعياً إلى الفخر بنفسه إذ يقول:
فلا تنكريني يا ابنة العم، إنه
…
ليعرف من أنكرته البدو والحضر
ولا تنكريني، إنني غير منكر
…
إذا زلت الأقدام واستنزل النصر
وهنا وجد المجال فسيحاً للحديث عن خصاله الحربية، ومزاياه؛ فتحدث عن أنه ميمون الطالع، قائد مظفر، لا يخشى المعارك المخوفة، بل يخوض غمارها، حتى ترتوي البيض، وتشبع الذئاب والنسور، لا يغتال عدوه، ولا يفجؤه، بل يرسل إليه النذر تخيفه وتحذره، ثم يصور لك إقدامه في صورة بارعة إذ يقول:
ويا رب دار لم تخفني منيعة
…
طلعت عليها بالردى أنا والفجر
فهذا حصن منيع قد وثق بنفسه، ولكن لم يلبث الفجر أن قاد إليه الهلاك عندما صعد إليه أبو فراس يحمل له الردى. وتحدث الشاعر عن احترامه للمرأة، حتى تستطيع شجاعته إلا أن تلقي بسلاحها أمامها، فيعفو عن قومها ويرد إليهم أسلابهم. ثم هو رجل لا يطغيه الغنى، ولا يثنيه الفقر عن الكرم، وهو في كل هذا الحديث قوي يشيع في أبياته روح الأمل.
وانتقل بعدئذ إلى حديث أسره، فلم ينسبه إلى ضعف بدر منه، بل قضاء غلاب، لا يستطيع امرؤ أن يفلت منه:
أسرت، وما صحبي بعزل لدى الوغى
…
ولا فرسي مهر، ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على امرئ
…
فليس له برٌّ يقيه ولا بحر
وقال أصيحابي: (الفرار أو الردى)
…
فقلت: هما أمران، أحلاهما مر
ولكنني أمضي لمالا يعيبني
…
وحسبك من أمرين خيرهما الأسر
ولعل أبا فراس صغّر الأصحاب هنا تقليلاً لعددهم، وتحقيرا لشأنهم.
كان الأمل يملأ شعره في هذه القصيدة، ولهذا رأيناه يستقبل الأسر بصدر رحب، لإيمانه بأن قومه لا بد ذاكروه وفادوه. فليس عندهم من يملأ مكانه إذا غاب:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به
…
وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر
ويختم أبو فراس قصيدته مفتخراً بقومه الذين يحتلون في قومهم مركز الصدارة، ولا يقبلون دونه مكاناً ن ففي سبيله تهون نفوسهم، ويشتد شعور أبي فراس بهم وبعزتهم فيقول:
أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلا
…
وأكرم من فوق التراب ولا فخر
أما البارودي فقد كان غزله كذلك مستمداً من موقفه، فإذا كان أبو فراس مؤملا يخفي آلامه، فإن البارودي - وقد جفت آماله - لا يجد بداً من أن يتحدث ببعض ما يشعر به من أسى وحزن، وإن كان يخفي في قلبه من اللوعة أكثر مما يبين، فتلون عزله بهذا اللون، فرأيناه يبوح بالحب لا ينهاه عن ذلك زجر ولا عتاب، وهو يرى الحب، وربما كان يرمز به إلى مصيره - أمراً مقدورا، ليس لامرئ فيه من نهي ولا أمر، وإنه ليقاسي من هذا الحب أعنف ما يقاسيه إنسان، ومع هذا لا يبدي كل ما يحمله صدره من الوجد، ولا يترك دموعه تهمي، لا صبراً في انتظار تحقيق أمل، ولكن حياء وكبراً، واستمع إليه يقول:
طربت وعادتني المخيلة والسكر
…
وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر
كأني مخمور سرت بلسانه
…
معتقة، مما يضن بها التجر
سريع هوى يلوي بي الشوق كلما
…
تلألأ برق أو سرت ديم غزر
إذا مال ميزان النهار رأيتني
…
على حسرات، لا يقاومها صبر
يقول أناس: إنه السحر ضلة
…
وما هي إلا نظرة دونها السحر
فكيف يعيب الناس أمري، وليس لي
…
ولا لامرئ في الحب نهي ولا أمر
ولو كان مما يستطاع دفاعه
…
لألوت به البيض المباتير والسمر
ولكنه الحب الذي لو تعلقت
…
شرارته بالجمر لاحترق الجمر
على أنني كاتمت صدري حرقة
…
من الوجد لا يقوى على حملها صدر
وكفكفت دمعا لو أسلت شؤونه
…
على الأرض ما شك امرؤ أنه البحر
حياء وكبراً أن يقال: ترجحت
…
به صبوة أو فل من غربه الهجر
فأنت ترى الغزل مستمدا من حاله، ولو أنك جعلت ما يهواه وطنه، وأدرت عليه الحديث لم تبعد.
لم يطل البارودي بعدئذ في الحديث عن نفسه كما فعل أبو فراس، بل اكتفى ببيت واحد يحمل خيبة الآمال، إذ قال:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت
…
لسلطانه البدو المغيرة والحضر
وكان المجال أمامه فسيحا لتعداد مواقفه في الحرب والسياسة، ولكن يبدو أن يأسه ساعتئذ قد تغلب عليه، فصرفه عن الحديث ماض لا سبيل إلى استئنافه، على عكس أبي فراس، القوي الأمل في أن يعود - كما كان - البطل المفدى. وكان المجال فسيحاً كذلك أمام البارودي للحديث عن نفسه، والدفاع عن نفسه، كما تحدث أبو فراس عن أسره، ولكنه لم يفعل، ولعله اكتفى في ذلك بما تحدث به في قصائد أخرى كثيرة.
أما الذي أطال الحديث فيه حتى استغرق معظم قصيدته على عكس أبي فراس، فحديثه عن آبائه. وقد ذكروا أنه ينحدر من المماليك الشركية، فاتخذ من ذكراهم وسيلة يشبع بها عاطفته في الفخر، ويسلي نفسه بمصايرهم، وسجل لهؤلاء الأسلاف شجاعتهم وكرمهم، وهنا يستعير خيالاً بدوياً إذ يقول:
لهم عمد مرفوعة، ومعاقل
…
وألوية حمرن وأفنية خضر
ونار لها في كل شرق ومغرب
…
لمدرع الظلماء ألسنة حمر
تمد يداً نحو السماء خضيبة
…
تصافحها الشعرى ويلثمها الغفر
وختم قصيدته ختاماً يائساً حزيناً، رثى فيه قومه وقد مضوا، وسوف يمضي على أثرهم:
لعمرك ما حي وإن طال سيره
…
يعد طليقاً والمنون له أسر
وما هذه الأيام إلا منازل
…
يحل بها سفرن ويتركها سفر
فلا تحسين المرء فيها بخالد
…
ولكنه يسعى، وغايته العمر
أما أبو فراس فقد ختم قصيدته مالئاً شدقيه من الفخر بقومه الذين كانوا يومئذ قابضين على الملك والسلطان.
هذا، وقد ظفرت قصيدة أبي فراس بشهرة في العالم العربي الحديث، كما رأينا، وغنت أم كلثوم بعض غزلها، وسارت على الألسنة بعض أبياتها كقوله:
ولكن إذا حم القضاء على امرئ
…
فليس له بر يقيه ولا بحر
وقوله:
سيذكرني قومي إذا جدَّ جدهم
…
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وقوله:
ونحن أناس لا توسط بيننا
…
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقوله: (ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر).
وأما قصيدة البارودي فلم تظفر من الشهرة بنصيب.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
2 - من شجرة الدر
لحضرة صاحب السعادة عزيز أباظة باشا
المشهد السابع:
الملكة، أيبك، أقطاي، بيربس، قلاوون. يدخل سنجر.
سنجر: هذا أبن مطروح
الملكة: أجاءَ؟
سنجر: أجل
الملكة: فأد
خله ورحب بالوزير الشاعر
قد عاد آخر رسْلنا ولعلنا
…
نُهدَى بأنباءِ الرسول الآخر
(يدخل جمال الدين بن مطروح)
الملكة مستمرة: خيراً جمال الدين
ابن مطروح: خيرٌ لم يزل
…
يندَى على الستر الرفيع الطاهر
الملكة: ماذا وراكَ؟
ابن مطروح: تركت ألأمَ عصبة
…
فكأنما خُلقوا بغير ضمائر
الملكة: صفْ ما رأيت وقائعاً ومشاهدا
…
وانقل لنا - لا تقتضب - ما قيلا
ابن مطروح: أبلغة أنباء التمرد
الملكة: ساقها
أخواك قبلك
ابن مطروح: فأسمعي التفصيلا
لم يكفهم عصيانهم ومروقهم
…
بل أوسعوا أنصارنا قتيلا
(الملكة في غضب)
أتعرضوا للصالحية؟
أبن مطروح: من نجوا
…
منهم تواروا في البلاد فلولا
أخذوهم والليل ضارب ستره
…
في غِرة أخذا هناك وبيلا
الملكة: شرفا شيوخ الصالحية مصر لن=تنسى لكم ذاك الدم المطلولا
من مات في شرف الجهاد فإنهُ
…
حيٌ، وأودى من يعيش ذليلا
(أقطاي في تحمس)
يا ملْكة الوادي جيوشك دوَّخت
…
تلك البلاد وأهلها فتكلمي
في كلَّ موضع حافرٍ من أرضهم
…
أثرٌ لخيلك بالفوارس ترتمي
الملكة: صبراً أمير الجند، إن لم تُحسم أل_أحداثُ بالحسنى إذن فتقدِم
إيه جمالَ الدين فارجع للذي
…
تروي
ابن مطروح: نفضتُ لك الخطير
الملكة: فأتمم
ابن مطروح: خلفتهم عزموا على اُلجلى
الملكة: فها
ت الرأي
أقطاي: استبقي الحوادث واعزمي
ابن مطروح: وتركتهم قد أجمعوا أن يبعثوا
…
وفداً بشكواهم إلى المستعصم
الملكة: أإلى الخليفة يُهرعون؟!
أبن مطروح: أجل
أيبك: فما
يبغون؟
الملكة: يبغون اعتزاليَ فاعلم
أيبك: كيف السبيل! ومصر حولك تفتدى=وتذود عن أستار عرشك بالدم
هذى بلادٌ نحن سادتها
الملكة: أصطنع
صبراً ولا يعجل لسانك تندم
(تبدو الملكة وكأنها عادت فتمالكت جأشها)
لو أنهم قصدوا الخليفة وحده
…
قلنا - وإن لم ينصفوا - لم يسرفوا
لكنهم ركنوا إلى أعدائنا
…
مستنصرين بهم ولم يتعففوا
(دهشة وتهامس من الجميع)
بيبرس: مولاتنا!
أيبك: أنعى الذي قلت
الملكة: اهدأوا
هذا اليسير النزر مما نعرفُ
أيبك: هل حالفوا أعدائنا؟
الملكة: بل أوفدوا
شعراءهم فتوددوا وتلطفوا
أيبك: مولاتنا، إن صح ذاك فإنه=عارٌ يجللهم فلا يتحرَّفُ
الملكة: إن كنت في شك فهذى كتْبهم=بالمخزيات وبالخيانة ترعفُ
وعدوا الفرنجة بعضَ مصرَ فقل لهم
…
الله مانع مصر مهما ترجفوا
(تخرج مكتوبين من صدرها وتطلع عليهما رجالها)
أيبك: أفتأذنين؟
الملكة: أجل
أيبك: فكيف استطعت أن
تصلي لهذي الكْتب؛ هل نبأتني؟
(الملكة بعد فترة صمت)
أفضت إلينا مر غريت مليكة ال
…
أفرنج بالأنباء، قلت فبرهني
لم يُرضها أني شككت فأسْرعت
…
وسعت إلينا بالدليل البين
فإذا يكتبهم وتوقيعاتهم
أيبك: يا لَلخيانة والصَّغار الممعن!
الملكة: لم تسألوني لم خُصِصتُ بذلك السر الخطير أمراؤهم كتبوا لأخوة زوجها الملك الأسير قالوا لهم حتَّام صبركمو على ذلَّ الدهور لن تنقذوا الشرف الرفيع بغير جيشكمو المغي فثبوا على مصرتهن، وتذلَّ في الأمد القصير قالوا وهل تقوي النساء على مصاولة
الذكوِر
أيبك: أكذا؟
الملكة: أجل فأسمع فلم تعلم سوى النزر اليسير وعدوّهم وجنداً يؤازرهم مؤازرةَ الظهير من أجل ذاك رأيت يا أقطايُ إطلاق الأسير سيرون بأس الغانيات وبأس ربات الخدور
ابن مطروح: أعداؤنا كثرٌ
أيبك: أمنا مكرهم=إن لم نبت بضغائن وحقود
لو قد بقينا جبهة مصرية
…
لم تخش عادية الخطوب السود
أقسمتُ (بالمنصورة) العظمى التي
…
شهدت مجالي نصرك المشهود
وبكل شبر من ثراها خالد
…
بدماء علجٍ أو دماء شهيد
أقسمت لن تُجتاح مصرُ وأنتِ من
…
أبطالها في شكة وجنود
(الملكة مخاطبة الموجودين)
سيجيئكم أمري
بيبرس: أتأذن ربة ال - تاج السنىَّ
الملكة: أذنت
بيربس: عز مكانها
الملكة: يا قوم ضبط النفس أكرم خلة=ونجاح كل سياسة كتمانها
عزيز أباظة
هل تستطيع روسيا غزو العالم؟
للأستاذ فؤاد طرزي المحامي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
عند نهاية الحرب أنخفض الإنتاج الاقتصادي في الاتحاد السوفيتي من 42 في المائة بالقياس إلى الإنتاج الأمريكي إلى 25 في المائة بالنسبة لهذا القياس. وإذا ما سار كل شيء سيره الطبيعي في روسيا فإن الكفاءة الصناعية فيها ستبلغ في عام 1951 نفس الكفاءة التي كانت تتمتع بها أمريكا عام 1904 أي قبل 44 سنة وفي عام 1960 سيبلغ الإنتاج الروسي إنتاج أمريكا عام 1918.
وحين قدم ستالين مشروع السنوات الخمس الرابع في 9 شباط عام 1947 قال: (أن المهمة الأساسية تتركز في استعادة مستوى ما قبل الحرب في الصناعة والزراعة ثم بعد ذلك نزيد هذا المستوى بنسب متفاوتة معقولة. وربما تطلبت الزيادة ثلاثة مشاريع جديدة من مشاريع الخمس سنوات، ولكننا أن ننجز ذلك).
ويستطيع المتتبع أن يتأمل في هذا المشروع جيداً، محللا أهداف ستالين، مقدراً الكفاءة الشيوعية تقديراً مسرفاً في المبالغة، ومع ذلك فإن روسيا إلى الآن لم تنفذ مشروعاً واحداً من مشاريع السنوات الخمس المتعدد.
وقد أعلن ستالين بأن هدفه فيها يتعلق بإنتاج النفط أن يبلغ هذا الإنتاج (60) مليون طن سنوياً عام 1951، بينما تعدت أمريكا هذا الرقم منذ (28) سنة مضت وأنتجت في عام 1947 وحدة (270) مليون طن. وإذا رجعنا إلى الحقائق وتركنا الآمال وجدنا أن إنتاج روسيا من النفط يبلغ درجة من القلة اضطرها إلى استعمال الفحم وغيره من الوقود القليل الاحتراق عند عدم توفره.
ووجد المهندسون السويديون العاملون في روسيا اليوم أن (35) بالمائة من إنتاج الفحم قد استهلكته القاطرات. بينما استعملت كميات أخرى تقدر ب (30) بالمائة أيضاً من هذا الإنتاج في إنتاج القوة الكهربائية، ولذلك لم يبق سوى (40) بالمائة من إنتاج الفحم يجب أن يستعمل في كافة المصانع الروسية يشمل ذلك فحم الكوك المستعمل في إنتاج الفولاذ.
ويريد ستالين من مشروع السنوات الخمس الحالي أن يوصل إنتاج الفحم إلى (500)
مليون طن سنوياً عام 1951، بينما تجاوزت أوربا والولايات المتحدة هذا الرقم منذ (30) سنة مضت.
وطلب ستالين أن يصل إنتاج الفولاذ إلى (60) مليون طن عند نهاية مشروع السنوات الخمس الجديد، أو خلال المشروع الذي يليه، بينما بلغ إنتاج القارة الأوربية وحدها ما مقدار (50 بالمائة أكثر من هذه الكمية في نهاية الحرب الأخيرة.
وينقص روسيا بعض المواد الصناعية المهمة في الاستعداد الحربي منها (التانكستن) والمليدنوم والقصدير والأمونيا، وينقصها أيضاً ما هو أهم من هذه المواد وهو المطاط، إذ أنها لا تملك خطوط مواصلات إلى ما وراء البحار تجلب عن طريقها المطاط الطبيعي، كذلك ليست لها الإمكانيات اللازمة لبناء المصانع المعقدة التي لابد منها لإنتاج المطاط الصناعي.
ويشكوا الاتحاد السوفيتي شكوى واضحة من قلة طرق المواصلات، ولكن فيما يتعلق بعدد البواخر الموجودة الآن لديه فهو في وضع لا بأس به، إذ أن بواخره التجارية التي كان يقدر عددها قبل الحرب بمقدار عدد بواخر السويد قد ضوعفت بما قدمته أمريكا للاتحاد السوفيتي من هدايا ومما حصل عليه من ألمانيا كتعويضات. ومع ذلك فإن سعة مساحة الاتحاد السوفيتي ترهق مواصلاته الداخلية المحدودة. فالطرق قليلة رخوة، والطريق الوحيد هو الطريق الذي يبدأ من موسكو إلى لننغراد شمالاً وإلى (منسك) غرباً ونحو (كييف) و (خاركوف) جنوباً، بينما تستعمل العربات في المدن استعمالاً رئيسياً. ولهذا فأن روسيا تحتاج احتياجاً كبيراً إلى قنوات منظمة كالقنوات التي تقوم بالقسط الأكبر من أمور النقل في أوربا الغربية. كما أنها لا تملك طرقاً مائية ما خلا عدة أنهار كبيرة تتجمد مياهها أغلب أيام السنة. ولذلك فإن أكثر من (83) بالمائة من الشحنات الداخلية يجب أن تنقل بالسكك الحديدية، وأن روسيا حتى داخل مثلثها الصناعي لا تملك وسائل المواصلات الكافية، وكل ما يبلغه طول طرق سككها الحديدية طول الطرق التي كانت في الولايات المتحدة منذ مائة سنة مضت أي في عام 1846، إذ يبلغ مجموع طول طرق السكك الحديدية في روسيا (57) ألف ميل يقابل ذلك (226) ألف ميل في الولايات المتحدة الآن.
وهكذا فإن نقص طرق المواصلات الحديدية يشكل أعظم ثغرة في الاقتصاد الروسي، وهو
نقص سيحد من طاقة روسيا سنين عديدة مقبلة، وحتى وفق مشروع السنوات الخمس الجديد ستبنى روسيا (4500) ميل من خطوط السكك الحديدية الجديدة متركزة في الجبهة الغربية من البلاد وهي الجبهة التي سيطر عليها النازيون مدة من الزمن. وروسيا مضطرة إلى تبديل مهمات السكك الحديدية في حين أن هذا البديل لا يمكن أن يتم عن طريق الإنتاج الروسي، ولذلك فأن السوفيت يستعملون الآن عربات قديمه ويجلبون التجهيزات أحياناً من ألمانيا والأقطار التابعة لها. ويعمل الاختصاصيين الروس والمهندسون السويديون الآن على تقليد العربات الأمريكية وإنتاج أنواع منها.
أننا نستطيع أن نعرف الشيء الكثير عن روسيا من دراسة الصناعة الآلية السوفيتية. فالمصانع الروسية لا تنتج أي مبتكر خاص بها من تصاميم السيارات بل هي تنتج على منوال التصاميم الأمريكية والبريطانية مع أحداث بعض التغيرات الطفيفة. ومع ذلك فإن المنتجات الروسية من السيارات لا تزال غير قوية جداً. ولا يزيد مجموع طرق السيارات المعبدة في روسيا على ثمانية آلاف ميل.
كما أن الكلام عن استخدام الأيدي العاملة في الاتحاد السوفيتي يقفنا بدوره على قدرة روسيا الحربية. فقد جاء في مجلة (المشاكل الاقتصادية) الروسية أن قوة الكهرباء المستعملة في إدارة المحطة الأمريكية في ماهوس (نيوجرسي) تعادل القوة الكهربائية المستعمل في محطة كيمرفو الروسية. وعلى الرغم من أن المحطتين تنتجان إنتاجاً متساوياً، فإن المصنع الأمريكي في المحطة الأولى يستخدم (151) عاملاً، بينما تستخدم المحطة الروسية (480) عاملاً. ويستخدم المصنع الأمريكي في نفس المحطة (17) موظفاً لإنتاج الورق بينما يستخدم المصنع الروسي في المحطة الروسية (61) موظفاً. وبصورة عامة يمكن القول بأنه يجب استخدام (11) شخصاً لإنتاج ألف فولت من الكهرباء في ضل النظام الروسي الاقتصادي بينما تحتاج الكفاءة الصناعية في الولايات المتحدة شخصين فقط لإنتاج نفس القوة.
وإذا رجعنا إلى موضوع حقول النفط في روسيا وجدنا أن وضع هذه الحقول ليس جيدا أيضاً. ففي الولايات المتحدة يستخرج اكثر من (90) بالمائة من الفحم على شكل قطع، ثم ينقل ميكانيكياً، ولا يستخرج بالمسحات والفأس غير مقدار قليل لا يتجاوز الأربعة بالمائة
من مجموع الإنتاج. بينما تستخرج أكثر كميات الفحم في روسيا باليد. وتشكو مناجم الفحم، ككل الصناعات الروسية من قلة الأيدي العاملة المنتجة. فقد وجد أحد مهندسي المناجم وهو سويدي زار منطقة الفحم في روسيا مهندساً روسياً واحداً لا يزال على قيد الحياة وميكانيكياً وقوميسيراً سياسياً واحداً ومجموعات من العمال يحرس كل أربعة منهم جندي مسلح. فإن عدد العمال الذين يخضعون لنظام العمل الإجباري في روسيا يفوق أي عدد آخر من عمال المصانع الأحرار المستخدمين في المصانع الروسية، إلا أن العامل المستعبد في ظل النظام الروسي الاقتصادي لا ينتج بنفس الكفاءة التي ينتج بها العامل الحر في ظل الأنظمة الاقتصادية. ولقد بذلت المحاولات في مشاريع السنوات الخمس الأولى لتدريب العمال المهرة بواسطة المدارس الفنية الخاضعة للدولة، ولكن رغم ذلك عندما جاء عام 1936 لم تجهز هذه المؤسسات غير حوالي مليون عامل وظل التقدم في هذا الاتجاه بطيئاً. ويهدف مشروع ستالين الحالي تجهيز الصناعات الروسية بستة ملاين عامل مدرب، وعندما يتحقق هذا الهدف الذي يعتبر غاية آمال الروس يكون الاتحاد السوفيتي قد حصل على عدد من العمال يساوي عدد العمال الذين يشتغلون في إنتاج السيارات فقط في الولايات المتحدة.
ولآن نتساءل عن القنبلة الذرية وعن الموعد الذي تستطيع فيه روسيا أن تصنع القنبلة بكميات كبيرة:
إن العلماء الأمريكيين والإنجليز مقتنعون بأن العلماء الروس يعرفون الطرق العامة لصنع القنبلة ولو أنهم لا يعرفون الخطوات الحقيقية التي (تفجر فيها القنبلة وترمى). إلا أن أغلب المشاكل الصعبة بالنسبة للروس هي بناء المصانع المعقدة التي لا بد منها لإنتاج القنبلة الذرية، لأن إنتاجنا يحتاج إلى مقدرة تفوق حد الوصف. فالبراميد يحتاج إلى عمليات معقدة والإشعاع الراديومي مثلا يحتاج إلى سيطرة آلية هائلة إذ أن إقامة مصنع للقنابل الذرية يجب أن يوضع وفق تصميم يستطيع أن يعمل بموجبه المعمل وحده بلا إشراف العمال عليه. وبالقياس إلى هذا المستوى العلمي الفائق في القابلية العملية تعتبر روسيا متأخرة. فمن حيث الكفاءة الإنتاجية التي تعتبر مفتاح صنع القنبلة الذرية تتأخر روسيا عن الولايات المتحدة والدول الغربية بمعدل (22) سنة إلى الوراء.
والخلاصة، أن تهديد روسيا للعالم تهديد حقيقي لاشك فيه، ولكن روسيا بدرجة من الضعف
تستطيع معه القيام بحرب دفاعية بالقرب من بلادها، ولكنها أضعف من أن تشن حرباً هجومية كالحرب التي شنتها دول المحور عام 1939.
فؤاد طراز المحامي
الجناح المهيض
للأستاذ إبراهيم الوائلي
دعيني وتهويمة الشاعرين
…
ونجوى الطبيعة في معزل
فإني - متى شجع السامرون -
…
بغير الهواجس لم أحفل
أراك ووحشة هذا الظلام
…
تزيدين من هَّمي المثقل
فهل تعلمين بأني شربت
…
أمر من الصاب والحنظل؟
وأني أذبت بقايا الفؤاد
…
ترانيم تصخب كالمرجل
سلي الشهب عن سهري في الدجى
…
تجبك متى شئت أن تسألي
خطوب يعج بها حاضري
…
وأخرى تهدد مستقبلي
وفي كل يوم أرى نَبوة
…
من الزمن القلّب الحوَّل
أنا اليوم لست كما تعهدين
…
وكاليوم شأن غدي المقبل
وما بات يخفق في أضلعي
…
حنين إلى عهدي الأول
دفنت الشباب وأحلامه
…
وما فيه من متع حُفّل
وودعت أمسى بين الصخور
…
فذاب على الشوك والجندل
وماتت بقلبي تلك الرغاب
…
كما يحصد الزهر بالمنجل
دعيني وألحان المعولات
…
تنوح على الأرغن المعوِل
تريدين مني زفيف الطيور
…
وأين الزفيف من الأعزل؟
فلا زغب في الجناح المهيض
…
أهوَّم فيه على منهل
تفيض الينابيع عن جانبي
…
وأُحرم من مائها السلسل
وأدرك في الروض معنى الجمال
…
وأُمنع من نضرة المجتِلى
وأشتاق أن أرد الضفتين
…
فتُحجبُ عني رؤى الجدول
وأهوى سنا الفجر خلف الغيوم
…
فأقبع في ليلىَ الأليل
وأهتاج أنسامه الحالمات
…
فيرتد عني سُرى الشمأل
وأصغي لعل طيور الفضاء
…
تطارح أنشودة البلبل
فأمضي ولا صوت في مسمعي
…
يرن سوى خفقة الأجدل
تريدين مني غناء الطيور
…
وليس سوى القفر من موائل؟
حشدت الصخور إلى جانبي
…
وشوك الطبيعة في محفلي
وصوّبتُ في جنبات السهول
…
وصعدتُ في قمم الأجبُل
وهممت للوحش في غابه
…
وغمغمتُ للنعم الُجفَّل
وعدت ولا شيء غير الرياح
…
متى أرها في الدجى تعول
ضللت الطريق. . . وكم تائه
…
أراح على جذوة المصطلى
وأبصر في خلجات السماء
…
نجوماً تُغوَّر أو تعتلى
ولكنن لم أزل حائراً
…
أجوب الرمال على الأنمل
تواكبني خطرات الدجى
…
ثقالاً ينوء بها محملي
فمن هيكل سابح في الطريق
…
يلوح أمامي إلى هيكل
ومن شبح مدبر يستفز
…
خيالي إلى شبح مقبل
تريدين مني انطلاق النسيم
…
على الروض في ثوبه المخمَل؟
وإشراقة الفجر بين الحقول
…
وفوق أفانينها الميَّل
وما أنا. . . يا هذه. . . إنني
…
برمت بعالمك الأمثل
دعيني وما بي. . . فلولا الشجون
…
تثير الحمائم لم تهدل
(القاهرة)
إبراهيم الوائلي
انتظار.
. .
للأستاذ عمر النص
اقبلي. . . أقبلي. . . فقد عسعس الل
…
يلُ وغام الفضاءُ في ناظريَّا
السماء الأكناء ترهق أنفا
…
سي وتلقي النذير في أذنيا
أقبلي. . . فالظلام يوقر نفسي
…
نزواتٍ. . ويوقظ الشجو فيها
والرياح الغضاب تلطم شبا
…
كي وتدوي خلف الزجاج دويا
والحيا دافق. . . يطير مع الري
…
ح وتجري به سخياً سخيا!
ونباح الكلاب يخنقه الق
…
ر وتمضي به الرياح قصيا. . .
أقبلي. . . فالظنون يا ليل تأبى
…
أن أحس النعاس في جفنيا
وأنا في ترقبي. . . أفتح البا
…
ب وأرنو. . . عّلي أطالع شيا
أسأل الليل: ما وراءك يالي
…
ل. . . وأصغي إلى الرياح حفيا
أنا في موقفي. . تحدق عينا
…
ي. . . ويسعى بي الخيال مليا
كلما مر في الدجى ذو جناح
…
كدت أني أضمه بينديا
وكأني أراه يشفق مني
…
فيكاد الفؤاد يصرخ: هيا!
. . . أي شيء تُرى أعاقك عني
…
بعد ما أرهف الصدى أذنيا
أي درب سلكته فأضلت
…
فيه إقدامك الطريق إليا؟!
طال لبثي. . . ولم أزل أفتح الصد
…
ر وأستقبل الظلام العتيا
كلما صحتُ في القتام لسارٍ
…
ضاع صوتي. . . ومات في شفتيا!
ليت شعري ألم يحن لفؤادي
…
أن يرى في الحياة شيئاً رضيا
مزقته يد الفراق ومرت
…
وهو ما زال بالفراق شقيا!
طاش حلمي. . . وكدت أفقد صبري
…
وتجلى الشحوب في وجنتيا. . .
أنا باق هنا. . . وقد نصل الليل. . . فردي لي الخيال الغويا
ودعيني لوحدتي. . . أغلق البا
…
ب وأبكي. . . فلست آمل شيا!!
إيه ليلاى. . . لم أعد أرقب الأفق. . . وإن كنت قد مددت يديا
أنا باق هنا أجاهد إخفا
…
قي وأخفي العياء في نظريا
(دمشق)
عمر النصر
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
قصة الدموع التي شابت:
جاء إلى الحيات والدمع في عينيه، ورحل عنها والدموع في عينيه. . . وتلك هي قصته: قصة الدمع الذي شاب والشعر في سواد الليل، والروح الذي أكتهل والعمر في ربيع الأمل، والزهر الذي صوَّح والعطر في رياض الشباب!
من هو؟ لا أحد يعرفه. . . لقد عاش غريباً في دنياه: همسة تنطلق من فجاج الصمت لتتلاشى في سكون العدم، وومضة تشع من وراء الأبد لخبو في ظلام اليأس، ولحن ينساب من أوتار الزمن ليشجى كل عابر سبيل!
يخيل إليَّ أنه لم يكن بشراً من البشر. . . لقد كان روحاً: روحاً شرب من خمرة الأسى المعتقة في دنان الشجن حتى ثمل، و: أن الأيام حين طافت عليه بكئوسها قد ثملت معه فنسيت غيره من الشاربين. وكان طيفاً: طيفاً شفه الحزن حتى لكأن الوجود مأتم كبير، ترملت فيه أحلامه ومنيت بالشكل أمانيه، فكل تعزية في حساب الشعور وهم لا يجدي وسلوة لا تحين!
تسألني عنه؟. . . لقد كان (قارئاً) من قراء (الرسالة)، حدثني عن نفسه يوما فكتبت أليه، وشكا إلى الحياة فأشفقت عليه، ثم لم نلتقي بعد ذلك إلا في عالم الرؤى والطيوف! كل ما بقى منه سطور رأيته من خلالها رأى الفكر، وصورة رأيته من ظلالها رأى العين. . . وما تستطيع يدي بعد اليوم أن تمتد إلى رسائله. . . وما تستطيع عيني بعد اليوم أن تنظر إلى صورته. رباه إني لا أخشى أن تحرقني ناره إذا ما قرأت، ولكنني أهاب نبش القبور إذا رقدت فيها الذكريات. . . ولا أن يلوعني وهج نوره إذا ما نظرت، ولكنني أفزع من رؤية الشموع إذا احتضرت على فراش الغروب!
لقد كانت كل رسالة من رسائله تحمل إلي معنى من معاني القبر في كلماتها كم شهدت مصرع الفكر، وفي زفراتها كم شممت رائحة الموت، وفي أناتها كم سمعت صوت النعاة. وكم أشفقت أن يصبح الظن حقيقة. . . وأن أصحو يوماً على وقع أقدام المشيعين.
ألا ما أعجب القدر حين يفرق بين الناس ويدفع كل حي إلى طريق. . . بسمة ترف على
الشفاه هنا ودمعة تقرح الجفون هناك وحياة في موكب الصفو تمضي وحياة في موكب الشجو تقيم، وكأس مزاجها الشهد للسكارى وليس فيها للحيارى نصيب، وليل يقصر وليل يطول. . . وندامى. . . ويتامى. . . وفرحت يهتز منها شعور وحرقة تلتهب منها صدور، ويا جرعة الصبر في قلوب الصابرين ما أعمق مرارتها، حين يصور لك الوهم في التراب أكواباً من العزاء!
من حمرة الشفق حيث طويت الشمس الغاربة، يصطبغ اليوم وجدان وأنا أستعيد ذكرى حياة. . . حياة أشبه بحيرة الغرب دفعت به المقادير إلى دار غير داره، فكل ما فيها خواء يبعث على الشكوى ويغرى بالرحيل!. . . ولكم وقفت منه موقف الطبيب من مريض تبخرت قطرات الأمل في شفائه: مبضعي الذي يفتش عن مكامن الداء قلم، ودواء الذي يأسو جراح الزمن كلمات. وكان هذا هو كل ما أملكه. . . أعالج بالقلم ودماء القلب تنزف، وأسباب الرجاء تخيب، وزورق العمر يمخر العباب والضباب إلى شواطئ الفناء!
رباه، لقد كنت رحيماً به حين أخذته. . . لقد تحملت سنواته السبع والعشرون فوق ما يحمل طوق الأحياء من عبادك!!
جيته بعد قرنين من ميلاده:
تحت هذا العنوان كتب الأستاذ عباس محمود العقاد مقلاً في عدد أكتوبر من مجلة (الكتاب) جاء فيه: (كارل ياسبر) هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين، وهو إمام الوجودية الألمانية غير مدافع، وله آراء في علم النفس وأدب السلوك تعد من مبتدعات المذاهب الأخلاقية في القرن العشرين، ومن أجل هذه الآراء يعول على تقديره لشاعر الألمان الأكبر جيته في ذكرى ميلاده، بعد انقضاء مائتي عام على ذلك الميلاد. . . قال ياسبر عن منزلة جيته الأدبية: إنه وإن يكن أعظم الشعراء الفنائيين ٍالألمان، وعلا الرغم من التقدير العالمي العظيم الذي نالته روايته (فارس)، لا يقف في عالم الأدب موقف الند من هومير أو دانتي أو شكسبير على أساس عمل خاص من أعماله. ولكنه منقطع النظير حين نقيسه بمجموعة أعماله وجوانب شخصيته التي كان الشعر والبعث العلمي والجهود العلمية من عناصرها الأولية!
وتقدير ياسبر هذا يطابق تقديرنا للنابغ الألماني العظيم فيما كتبناه قبل سبع عشر سنة،
لمناسبة الاحتفال بانقضاء مائة سنة على وفاته، فقد قلنا عنه في رسالة صغيرة: إن جيته من العبقريين الذين لا ينبئ قليلهم عن كثيرهم لأنه لم يجمع نفسه في قطعة واحدة ولا موضوع واحد. فهو كثير الجوانب كثير التجزئة: الموضوع الواحد عنده لا يدل على كل موضوعاته، والجزء الصغير لا يدل على جملة الموضوع، فكل فكرة له هي أصغر من الرجل في جميع أفكاره)!
أود أن أقف قليلاً لأناقش هذه الآراء، وأول شيء يستوجب الوقوف ويدعو إلى التعقيب قول الأستاذ العقاد إن كارل ياسبر هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين وإمام الوجودية الألمانية غير مدافع. وأظن أن تاريخ الفلسفة المعاصرة سيقرران الفيلسوف الألماني هيدجر لا (ياسبر) هو أشهر فلاسفة الألمان المعاصرين وإمام الوجودية الألمانية غير مدافع. . . وحسبنا في مجال التدليل على صحة هذا الرأي أن نقول إن الوجودية الفرنسية عند (سارتر) قد اتجهت في تقرير مذاهبها إلى الوجودية الألمانية عند (هيدجر)، وأن فلسفة هذا الأخير كانت المنبع الأصيل التي تدفقت منه القاطرات الأولى في الوجودية السارترية، أو الحقل الأول الذي أستمد منه الفيلسوف الفرنسي بذوره الفكرية الضخمة، تلك التي أينعت وأثمرت في الوجود والعدم '. .
أما عن رأي ياسبر في منزلة جيته الأدبية فهو رأي عجيب، ومصدر العجب فيه تلك الموازنة بين أديب وأديب على أساس عمل خاص من أعماله الفنية. . . إن الموازنة على هذا الأساس باطلة، لأن الميزان الحق لأقدار الأدباء لا يقام على أساس فكرة واحدة أو رأي واحد أو كتاب واحد يضم بين دفتيه عدداً من الآراء والأفكار، وإنما يقام الميزان الحق في مجال الموازنة بين أديب وأديب بأن يوضع إنتاج هذا كله في كفة، وأن يوضع في الكفة الأخرى إنتاج ذاك. . . عندئذ يصح الحكم ويستقيم التقدير لأننا نضع عالماً من الفكر أمام علم، ونقابل في ميدان الذهنية المبدع بين حياة وحياة. إننا إذا وازنا مثلاً بين فاوست والإلياذة، أو بين فاوست والكوميديا الإلهية، أو بين فاوست وهملت، لنخرج من هذه الموازنة بأن جيته على أساس هذا العمل الخاص من أعماله لا يقف موقف الند من هومير أو دانتي أو شكسبير، كنا كمثل من يوازن بين شارع في برلين وثلاثة شوارع أخرى في أثينا وروما ولندن، لندلل على أن المدين الأولى لا تقف في مجال الضخامة أو الجمال أو
النظافة موقف الند من المدن الثلاث الأخريات. . . تلك ولاشك موازنة لا تليق ومنطق لا يروق!
ورب قارئ يعترض على نقدنا لهذا الشق الأول من رأي ياسبر بأن الشق الأخير يتفق وهذا التصحيح، وهو الشق الذي ينادي فيه الفيلسوف الألماني بأن جيته منقطع النظير حين نقيسه بمجموعة أعماله وجوانب شخصيته. . . إن ردنا عليه هو أن جيته ليس منقطع النظير في رأي ياسبر بمجموعة أعماله الأدبية وحدها ولكنه منقطع النظير بشخصيته المتعدد الجوانب والمواهب والملكات، ويدخل في ذلك أدبه وبحوثه العلمية وجهوده العلمية!
وأعجب العجب بعد هذا كله أن ينظر الفيلسوف الألماني ياسبر إلى الشاعر الألماني جيته نظرة قوامها أنه لا يقف في ميدان الأدب موقف الند من شكسبير وأن ينظر الكاتب الإنجليزي كارليل إلى الشاعر الإنجليزي شكسبير نظرة قوامها أنه لا يقف في ميدان الأدب موقف الند من جيته. . . ذلك لأن لكارليل في شاعر الألمان الأكبر رأياً معروفاً سجلته من قبل على صفحات الرسالة، وهو أن جيته أعظم أدباء العالم بلا استثناء!!
حديث لم يخطر لي على بال:
في العدد (225) مجلة المسامرات، وفي الصفحة الثامنة والعشرين يمكنك أن تقرأ مقالاً هذا عنوانه (بين الشيوخ والشباب ما صنع الحداد). . . مقالاً مهدت له المجلة بهذه الكلمات (هي معركة لم تنته بعد، بين الشيوخ والشباب. . . فأولئك يتهمون الجيل الجديد بالسرعة وعدم الاستقرار، وهؤلاء يتهمون السالفين بالجمود والرجعية. وفيما يلي تعرض (المسامرات) مجموعة إجابات من الجيلين.
وبعد أن سجلت المجلة عدداً من الآراء لفريق من شيوخ الأدب وفريق من شبابه، بعد هذا جاء دور أنور المعداوي فقال:(إننا نقدر الشيوخ لأنهم فتحوا أعيننا على الكثير، وهذا التقدير يقف حائلاً بيننا وبين إعلان سخطنا عن التواء بعضهم. . . إن الكاتب ينبغي أن يكون إنساناً قبل كل شيء. وحينما يكون إنساناً تسقط عنه العصبية السخيفة، فلا تجد فارقاً بين كاتب وكاتب. . . وما أقل الكاتب الإنسان عندنا)!
أشهد أن حديثاً كهذا لم يخطر لي على بال، وأشهد أن مجلة المسامرات لم تسألني في أي يوم من الأيام عن رأيي في أي موضوع عرضت له، ولو سألتني لما أجبت. . . لأن في
مثل هذه الأحاديث سخفاً لا أحب أن أشارك فيه، ولكنها الصحافة المصرية تنطق الناس بما تشاء لا بما يشاءون! صدقني لو أنطقتني (المسامرات) بما يمكن أن أنطق به لهان الأمر ولكنها - عفا الله عنها - قد جعلت الشيوخ - مع احترامي لهم - إنساناً بلغت به الإنسانية ذلك الحد من التسامح الذي لا أفرق عنده بين كاتب وكاتب!. . إن مجلة (المسامرات) تذكرني ببعض كتاب القصة والمسرحية في مصر، أولئك الذين ينطقون أبطال خيالهم بما لا يمكن أن تنطقهم به الحياة!!
حول الأمانة العلمية في الجامعة:
يذكر القراء تلك القضية التي عرضتها على محكمة الرأي العام الفني في عدد مضى من (الرسالة)، وأعني بها قضية الأمانة العلمية بين أستاذين في الجامعة، هما الدكتور محمد فؤاد شكري والدكتور جمال الدين الشيال. ولقد سألني الكثيرون لماذا لم يرد الدكتور شكري على ما اتهم به من السطو على رسالة زميله وقد انقضت على ذلك أيام وأيام؟. . . أما أنا فقد كنت على وشك أن أعقب على موضوع الأمانة العلمية ظناً مني أن الدكتور شكري قد آثر السلامة فلاذ بالصمت، ولكن أحد زملائه في الجامعة قد أنبأني بأنه متغيب عن وطنه منذ بعيد في مهمة سياسية، ولهذا أرجئ التعقيب مرة أخرى حتى يعود ونسمع دفاعه.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
أبن الحسب والنسب:
هذا هو أسم المسرحية التي قدمتها أخيراً الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا الملكية، وهي للكاتبين الفرنسيين أميل أوجييه وجورج صاندو، وقد ترجمها محمد عبد المنعم سعيد بك، وأخرجها الأستاذ فتوح نشاطي المخرج بالفرقة. وتجري وقائع هذه المسرحية في القرن التاسع عشر بفرنسا، وهي تعرض ناحية من الصراع الاجتماعي بين طبقة الأشراف التي كان قد تضاءل نفوذها وانحسرت سيادتها عن المجتمع، وبين الطبق الوسطى التي بمثلها رجال الأعمال الذين وصلوا إلى الغنى بكدهم وارتقت بفضلهم التجارة والصناعة ن ويتجه سير المسرحية إلى السخرية من طبقة الأشراف وانتصار طبقة العاملين عليهم، فكان الغرض واضحاً، كما أن المنهج طبيعي والعرض طلي، بحيث يشعر المشاهد أنه يواجه موضوعاً مهماً، وفي نفس الوقت يحس بالطرافة والمتعة الفنية. وقد استطاع المترجم أن ينقل تلك المقاصد حية نابضة، بأسلوب لا بأس به، غير أنه لم يراع السلامة اللغوية في بعض العبارات، ولا تزال تطن في أذني كلمة (الماية) التي رددها أبطال المسرحية في قولهم (القرض بفائدة ستة في الماية) بفتح الميم الممدودة. . .
وتتلخص المسرحية في أن (المركيز دي بريل) تزوج من (أنطوانيت) ابنة (المسيو بوارييه) التاجر الغني، ويبدو هذا الزواج في المشهد الأول على أنه صفقة رضى بها المركيز المفلس ليستمتع بثروة صهره ويحيا حياة الترف والتبطل التي أعتادها، كما اغتبط بها المسيو بوارييه ليستفيد من لقب المركيز وهو يطمع في أن يصل بهذه المصاهرة إلى عضويه الشيوخ، وقد أنس من ابنته حبها للمركيز. ونعلم بغرض المركيز من هذه المصاهرة، من حديث يجري بينه وبين صديقه (الدوق دي موتمران) الذي يعمل كجندي في الجيش بأفريقيا، وقد قدم في إجازة؛ أما السير بوارييه فهو يعرب عن آماله لصديقه وشريكه (فردليه) وهو (عراب) أنطوانيت، ويخيل إلى أن الجمهور لم يدرك معنى كلمة (عراب) والمقصود بها ما يسمى في العرف الكنسي بمصر (الشبين) الذي يكفل الطفل من وقت (تعميده) أي يرعد ويعطف عليه. والكلمة (عراب) لا تستقيم عربية، ولعلها سريانية.
يلاحظ فردليه أن صديقه يغدق على المركيز المفلس المسرف المتبطل، وأن المركيز يستهين بزوجته أنطوانيت، فيحرض المسيو بواربيه على أن يضع حداً لهذا الحال فيطلب من المركيز أن يبحث له عن عمل. وما إن يفاتح المركيز في ذلك حتى يأبى في تشمخ واشمئزاز، وتسوء العلاقة بين الصهرين، ويشعر المسيو بواربيه أن زوج أبنته يحقره، فيقابله بالمثل ويعنف به، ويرتب الأمور على أن يطرده من القصر. ومرة يلين المركيز في مناقشة صهره حتى يستدرجه إلى البوح له بأنه يطمع أن ينال بجاهه عضوية الشيوخ فيهزأ به وتزداد الحال بينهما سوءاً.
وفي خلال تلك الحوادث نرى الفتاة الوديعة أنطوانيت تتودد إلى زوجها الذي يستخف بها أولاً ثم لا يلبث أن يشعر نحوها بشيء من الحب.
ثم يتحرج موقف المركيز عندما يكشف الجميع عن علاقته بمدام (دي مونجيه) بوساطة رسالة منها إلى المركيز تقع في يد المسيو بواريه فيفضها ويطلع أنطوانيت عليها فتكاد تصعق منها. ويهدد الرجل صهره برفع الأمر إلى القضاء ليفصل بينه وبين أبنته التي تحطمت سعادتها. فيغضب المركيز خوفاً على سمعة خليلته، ولكنه يخضع لصهره فيرجوه ألا يفعل ويعده بأن يقطع علاقته بها وأن ينزل عند رغبته في مزاولة عمل، وتدخل أنطوانيت وتخطف الرسالة من أبيها معلنة أنها صاحبة الحق وأنها هي التي ستقاضي زوجها. ويفاجأ المركيز بما يدهشه من نبل زوجته، إذ تمزق الرسالة وتلقي بها. . ويتقدم إليها في احترام، ولكنها تصده وتعلن أنها أرملة منذ اليوم. . ويحاول المركيز أن يستغفر زوجته. ويقبل عليها أخيراً وقد أعتزم مبارزة منافس له في (مدام دي مونجيه) فتمنعه أنطوانيت فيأبى التخلف عن المبارز ولكنها تقول له أنها تعتبر عدوله عن المبارزة دليلاً على حبه إياها، فيعدل، فتطلب منه أن يذهب إلى المبارزة محافظة على كرامته وشرفه، فيهم بالذهاب فترد إليه رسالة من منافسه بعدوله عن المبارزة.
وفي هذا الجو الصافي يعبر المركيز عن اقتناعه بضرورة أن يعمل عملاً يعيش منه فيتقدم (فردليه) ويهدي إلى المركيز وزوجته قصر أجداد المركيز الذي كان قد اشتراه وما يحيط به من المزارع ليعمل المركيز في استغلالها، وبذلك تنتهي المشاكل كلها حتى تطلع المسيو بواربيه إلى عضوية الشيوخ.
وكنت أفضل أن يظل المسيو بواربيه طامعاً في عضوية الشيوخ، فإن المركيز لم يقدم شيئاً، بل هم الذين كالوا له وصفحوا عنه وإن كانوا قد أذلوا كبرياءه، ولكن لا يوجد ما يجعل الرجل يتنازل عما يطمح إليه.
وأبطال القصة سماتهم واضحة ما عدا أثنين: صديق المركيز، وصديق المسيو بواربيه، وقد مثل المركيز (فاخر فاخر) ومثل المسيو بواربيه (حسين رياض) وقد أندمج كل منهما في دوره اندماجاً كلياً حتى نقلانا إلى فرنسا في القرن التاسع عشر وكان حسين رياض يعبر بكل لفظة وكل حركة، حتى حركة قدمه التي كان يرفعها في وجه المركيز احتقاراً له.
ومثلت أنطوانيت (أمينة رزق) فأجادت تمثيل الفتاة الرقيقة المتلطفة لزوجها، ثم الفتاة الشموس التي تغضب لكرامتها وتمزج هذا الغضب بالنبل الذي يصفع نبل (الأشراف) ولكنها أسرفت في مظاهر الغيرة بالبكاء والنحيب كدأبها. . . ولست أدري أهذه الغيرة الشديدة من امرأة فرنسية في أصل المسرحية أم حدث تعديل يمكن لأمينة رزق من هذا الذي عرفت به. . .
وأجاد فؤاد فهيم في تمثيل الطاهي الذي يزدهي بعراقته في فن الطهي، وكان هذا الدور من تمام السخرية من الأرستقراطية إذ ينتسب إليها الطاهي ويفخر بأجداده وماضيهم في المطابخ!
ومثل صديق المركيز (كمال حسين) ومثل فردليه (محمود رضا) والشخصية الأولى مائعة فلم تدل صفاتها وتصرفاتها على طبقة من الطبقتين، والشخصية الثانية تافهة غير جديدة بما أنسب إليها من التأثير في أنطوانيت ولعل ضعف تمثيل الشخصيتين أتى من ذلك. . .
العربية بين الباكستان والبلاد العربية:
قدم إلى مصر في الأسبوع الماضي السيد شودري خليق الزمان (لا خالق الزمان كما ذكرت بعض الصحف) رئيس الرابطة الإسلامية بالباكستان. وزيارته لمصر جزء من برنامج رحلته في البلاد العربية التي يقوم بها لبث الدعوة إلى اتحاد إسلامي عام تتكتل فيه جميع البلاد الإسلامية.
وقد دعت الجالية الباكستانية في القاهرة يوم الأربعاء الماضي، طائف كبيرة من رجال الفكر والصحافة وعلماء الدين، إلى الاجتماع بدارها حيث تحدث إليهم السيد خليق الزمان،
وقد بين في حديثه ضرورة تكتل المسلمين وتعاونهم على الأخذ بوسائل التقدم وأسباب القوة، وأبرز فكرة (الجنسية الإسلامية) التي تقوم على الترابط والتواد بين كافة المسلمين في مختلف ديارهم، ومما قاله أن بعض المفكرين يدعون إلى الاقتداء بالغرب، وبعضهم يقول بالنظر إلى الشرق، ولكني أقول: يجب أن ننظر إلى ذاتنا وإلى إلهنا.
وكان الزعيم الباكستاني يتحدث باللغة الأردية، وهي لغة التخاطب السائدة في الهند والباكستان، وترجم عنه إلى العربية الأستاذ الأعظمي عميد كلية اللغة العربية في كراتشي. وقد شعر الجميع بالتقارب الفكري والوجداني بينهم وبين الضيف الكبير الكريم، على رغم الاختلاف في اللغة، ولا شك أن لاتحاد اللغة شأناً كبيراً في جمع المتكلمين بها على المودة والأخوة، وأنا أعتقد أن الباكستان تدنو من أخواتها الإسلامية التي تتكلم العربية، وتحقق هدف الاتحاد المنشود، باتخاذها العربية لغة لها. ولا يقل هذا شأناً - إن لم يزد - عن الوسائل الأخرى من الدعوة المباشرة وغيرها.
ولا أريد أن أثقل على إخواننا الباكستانيين بتكرار ذلك الذي قلته في مناسبة سابقة، وإنما أستبشر بما تنقله إلينا الأنباء عن حركة تعلم العربية في الباكستان، وما تبذله الدولة في هذا السبيل، وهي لا تزال في أوائل سنتها الثالثة، وأستشرف إلى المستقبل القريب الذي نرى فيه الباكستان أمة مسلمة متعربة.
وقد لاحظت كثيراً من الكلمات العربية في خلال حديث السيد خليق الزمان، ويقال إن اللغة الأردية تحتوي من الكلمات العربية ما يقدر بنحو خمسة وستين في المائة من مجموع ألفاظها. ولذلك لم يجد الباكستانيون الذين أقبلوا على تعلم العربية صعوبة فيها، وقد تقرر تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم ابتداء من السنة الأولى الثانوية. وهناك (الجمعية العربية العامة) التي يرعاها وزير المعارف ويرأسها شيخ الإسلام، ولهذه الجمعية سنة طريفة في الحث على التخاطب باللغة العربية، فهي تفرض على من يتحدث في دارها أن يدفع عن كل لفظة غير عربية ما يعادل خمسة مليمات مصرية.
وقد جرى حديث بيني وبين باكستاني كبير في موضوع نشر اللغة العربية في الباكستان، قلت له: لماذا لا تكثرون من بعثات الطلاب إلى مصر، ليتعلموا في معاهدها باللغة العربية، ويكتسبون القدرة على هذه اللغة من البيئة المصرية؟ وجهت هذا السؤال وأنا غافل عن
خرق واسع فيه. . قال: إن طلابنا الموجودين في مصر يشكون من اللغة العامية التي تتحدثون بها لا في الأسواق فحسب، بل كذلك في دور التعليم ومجالس المتعلمين فكيف يكتسبون القدرة على الحديث بالعربية من هذه البيئة؟
سمعت ذلك فلم أستطع إلا أن أهز رأسي آسفاً على هذه الحال وذكرت ما وقع لأحد المستشرقين، وقد جاء إلى مصر لأول مرة بعد أن درس اللغة العربية في بلده هو وزوجته حتى أصبحا يتخاطبان بها، فلما نزل بأحد الفنادق بالقاهرة وجاءه الخادم، قال له: أريد طعاماً. فأنصرف الخادم ثم عاد يحمل إليه (طعمية) فقال له: ما هذا. .؟ أريد شواء. قال خادم الفندق: مش قلت إنك عاوز طعمية!) فبهت الرجل. . . وكتب إلى زوجته يقول: لقد نزلت بالقاهرة زعيمة العواصم العربية، فلم أجد بها من يتحدث باللغة العربية غير زوجك العزيز!
والعجيب أو المخجل أن كثيراً من (المثقفين) المصريين الذين يجتمعون بهؤلاء الأجانب المتعربين، لا يبادلونهم الخطاب بالعربية، بل يحدثونهم بالعامية فلا يكادون يفهمون منهم شيئاً، ويتضايقون من المجالس، مجالس المتعلمين، التي يدور فيها الحديث بالعامية.
وأعود إلى الموضوع، فأقول مع ذلك: إن تفشي عاميتنا في الحديث العادي لا ينبغي أن يحول دون الإكثار من البعثات الباكستانية، فنحن نعمل على التقريب بين العامية والفصحى بالتعليم ووسائل النشر المختلفة، وليس من بأس ولا كبير عناء في أن يأخذوا بالضروري من العامية، وهي قريبة من الفصحى كما أنها تتشابه في البلاد العربية المختلفة التي تتجه الباكستان نحو مودتها، وهم مع ذلك لن يعدموا مواطن الفصحى وأدواتها في مصر.
عباس خضر
البريد الأدبي
بواسل من لحن القول:
1 -
حمل إلينا بريد الرسالة الأدبي في العدد (845) كلاماً للأستاذ الفاضل السيد أحمد صقر فيه سب وسخط على المعقبين اللغويين، ورد ما كتبناه في العدد (843) نخطئ فيه استعمالهم بواسل صفة لجمع مذكر عاقل، وتواً بمعنى الساعة أو حالاً، وذكر أن بواسل مسموعة عن العرب الخلّص منذ الجاهلية الأولى، وأورد شاهدين لذلك، الأول؛ قول باعث بن صريم اليشكري من شعراء الحماسة يذكر يوم الحاجر:
وكتيبةُ سفع الوجوه (بواسل)
…
كالأسد حين تذب عن أشبالها
والثاني قوله:
فلا توعدونا بالحروب فإننا
…
لدى الحرب أسد خادرات (بواسل)
وذلك فيه وهم كبير، إذ المعروف عند النحويين أن فواعل جمع لفاعلة - غير شواذ معدودة - فبواسل جمع لباسلة في هذين الشاهدين، ففي الأول يصف الشاعر كتيبة وفي الثاني يصف أسداً خادرات، فماذا بقى إذا في شاهدي الأستاذ؟ ونحن قد قلنا إن بواسل خطأ حينما تكون وصفاً لجمع مذكر عاقل.
التو بمعنى الساعة خطأ:
2 -
وأما تصويبه قولهم ذهب توا، وإيراده نصين من الفائق والقاموس، فقد عجبت له لأني قد خصلت ما أورده في كلمتي القصيرة (التو بمعنى الفرد، فذهب تواً أي فرداً أو لم يله شيء والصواب توه) هذا هو ما في المعاجم بمعناه لا بلفظه، فإن المعاجم كلها ذكرت مكان لم يلوه، لم يعرجه، وفي المعاجم كلها أن التو بهاء الساعة - وقد أورد الأستاذ ذلك وغفل عنه - وكنا قد قصرنا الخطأ على التو بمعنى الساعة، ومما يزيد هذا الخطأ إيضاحاً قولهم أيضاً ذهب في التو واللحظة فيجعلون التو مرادفاً للساعة وذلك خطأ أجمعت عليه كتب اللغة.
(المنصورة)
عبد الجليل السيد حسن
خطيئة داود:
طالعت كتاب (صور من العشق) للأستاذ كمال منصور قصة (خطيئة داود) فطالعت فرية على نبي من الأنبياء وهو داود عليه السلام فقد أختلف العلماء والمفسرون في قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه - وفي بعض الآثار أنه وزيره - فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل وتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزاً في شريعته مألوفاً فيما بين أمته إذ كان يسأل أحدهم الآخر أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام إذا كانت زوجتان نزل عن إحداهما لمن أتخذه أخاً له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على إنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلاً ليس له إلا امرأة واحد أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه، بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما أمتحن به.
هذا ما ذكر عن قصته في أضعف وجوهها وهي القصة التي أخذها الأستاذ كمال منصور في كتابه. غير أنه جعل النبي داود يزني وتحمل هذه المرأة من سفاح ويقتل زوجها و. . و. . مما لا يليق ببشر عادي؛ الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرره إنا لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون.
عزة حماد منصور
دم الكبش وداء الكلب:
قرأت لأديب - فأنني أسمه - كلمة يقول فيها (. . وكان المرضى في الجاهلية الأولى يتداوون بدم (الكبش) في شفائهم من داء (الكلب). . . الخ)!
قلت: الأديب - وعله من طلاب الطب البيطري - اختلط عليه الطريق، وفهم ما قرأ على لفظه الوارد دون المقصود منه.
و (الكبش) في لغة العرب بمعنى (السيد أو الرئيس) وفلان (كبش القوم) أي (سيدهم ورئيسهم) المطاع. . . وسيد القوم خادمهم. قال عمرو بن معد يكرب:
نازلت (كبشهم) ولم أر من نزال الكبش بدا
وبعض الأعراب في الجاهلية الأولى كانوا يعتقدون بدم الرئيس (الكبش) لمكانه منهم، وإمرته عليهم، وإنه يشفي من داء (الكلب). وفي ذلك يقول شاعرهم:
بناة مكارم وأساة جرح
…
دماؤهم من الكلب الشفاء
ويقول غيره:
أحلامكم لسقام الجهل شافية
…
كما دماؤكم تشفي من الكلب!
ولست أدري - الحق يقال - فضل دم الرئيس على دم المرؤوس في شفاء (الكلب) إن كان ثم شفاء!
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فإني أذكر أن العرب كان من عاداتهم الفاشية إلى يومنا هذا أنهم إذا رحل عنهم الضيف واستكرهوا رجعته كسروا في إثره شيئاً من الأواني والقدور. وفي ذلك يقول قائلهم:
كسرنا القدر بعد أبى سواح
…
فعاد وقدرنا ذهبت ضياعاً
ويقول غيره:
ولا نكسر الكيزان في إثر ضيفنا
…
ولكننا نكفيه زاداً ليرجع
وبعد: فمعتقدات القوم في الجاهلية الأولى جلها أباطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
(الزيتون)
عدنان
1 -
إلى الأستاذ أنور المعداوي:
أقدم تحيتي وأرجئ الإفصاح عن إعجابي وبعد، أردت النظر في ميثاق جامعة الأمم العربية وفي ميثاق هيئة الأمم، وقرأت بعض ما كتب من تعليق عليهما فوجهت بطبيعة الحال إلى مكتبة الإسكندرية.
فهل وجدت من ذلك شيئاً؟! كلا!!
بل خرجت منها وأنا أتساءل فيما بيني وبين نفسي: أيتجشم الإنسان مشقة الانتقال وضياع الوقت في الذهاب إلى المكتبة العامة ليقرأ رواية (اللص الظريف) أو (المرأة الغادرة)؟
وأين إذن أستطيع قراءة الوثائق والكتب العلمية إن لم أجدها في المكتب العامة؟ ولم أطلب شيئاً عسيراً بل شيئاً مشهوراً لا تخلو من الحديث عنه صفحات الجرائد كل يوم.
ثم دعاني داعي الإنصاف إلى الاعتذار عن المكتبة بعدم ظهور كتب تتناول نشر الميثاقين أو الحديث عن الهيئتين. وأردت التأكد بنفسي فما هي إلا جولة حتى خرجت من عند بائع الكتب وأنا أتأبط كتابين ولشدة حاجتي للإلمام بالموضوع دفعت فيهما ما يقرب من جنيهين.
وتساءلت مرة أخرى: ألا يتمكن الفرد من معرفة ما يعرض له أثناء البحث - على كثرة ما يعرض له - إلا إذا كان يملك الوسيلة إلى الشراء! وإذا كان الأمر كذلك فإلي أي حد تتحمل مالية الإنسان مهما عظمت تكاليف الكتب مع تعددها وارتفاع أسعارها؟!
لقد كانت مكتبة الإسكندرية - يرحمها الله - موجودة حقاً منذ ألفي عام حين كانت تقدم الزاد الدسم فيعجز عن هضمه العلماء الكبار؛ أما الآن فقد أصبح كل ما فيها من زاد لا يكاد يقيم أود الصغار.
وذكرني ذلك بالموقف الذي قاساه من قبل الأستاذ عباس خضر (في قاعة المطالعة بدار الكتب) وعدت لأقرأ من جديد ما كتب ولأجد فيه بعض العزاء.
والآن يطيب لي أن يثار هذا الموضوع مرة أخرى. إن عشرات الكتب العلمية تغمر السوق كل يوم، وكلها مما يحتاج الباحث إلى الإلمام بها أو ببعضها.
وإذا كانت وزارة المعارف - سامحها الله - قد ألجأتنا بإفقار مكتباتها المدرسية - إلى المكاتب العامة فلا أقل من أن نجد لدى الأخيرة بغيتنا، وإلا فنحن نزود الراسخين عن الإطلاع ونزود المبتدئين بالحجة التي تدفع عنهم لوم اللائمين ثم لتسلكهم بعد حين في عداد الجاهلين.
حقاً إنه لموضوع يستحق من قلم صاحب التعقيب تعقيباً يكون له عند المسئولين صداه. وعسى أن تستأنف المكاتب العامة سيرها في ركب الحياة.
2_
حول مسئولية الاحتلال:
(سألني بعض حضرات القراء عن المرجع الذي اقتبست عنه بعض الفقرات التي استشهدت بها لتأييد الرأي الذي ذهبت إليه في تحديد مسئولية الاحتلال الإنجليزي لمصر بالمقال المنشور بالرسالة عدد850.
ويسرني أن أشير إلى أنه كتاب المسألة التونسية وموقف الدول العظمى منها للدكتور محمد مصطفى صفوت أستاذ التاريخ الحديث بجامعة فاروق الأول. وأن التنويه بذكره قد سقط أثناء الطباعة سهواً).
كمال السيد درويش
مدرس بالرمل الثانوية
الكُتُب
أبو العتاهية
تأليف الأستاذ محمد أحمد برانق
للأستاذ كامل محمود حبيب
المدرس رجل نال حظاً كبيراً من الأدب والعلم، وأصاب قسطاً وافراً من أصالة الرأي وصفاء الذهن، وجمع بين الثقافة العالية والتفكير الرصين؛ فهو أجدر الناس بأن يخوض معمعة النشاط الأدبي والعلمي، فعنده الاستعداد وبين يديه الأداة. ولكن الإنسان ليعجب أشد العجب أن يرى المدرس أقل الناس إنتاجاً وأبعدهم عن معترك التأليف وأقصاهم عن مجال البحث. فماذا، يا ترى، زهده في هذه اللذة الفكرية وإن فيها لحياة للقلب وشحذاً للذهن وصقلاً للعقل؟ أما أنا فلا أرى ما يدفعه عن ميدان الفكر إلا ما يعاني من عنت شديد في العمل وما يقاسي من إرهاق عنيف في المدرسة، فهو لا يكاد يخلص من الدرس إلا ليندس بين أكوام من الكراسات تستحثه وترهقه وتشغل باله وتقتل وقته. وهكذا يبدد عمره في إعداد الدرس ويفني عقله في تصحيح الكراسات، ثم لا ينفلت من هذا كله إلا ليلقى بنفسه في خضم الدروس الخاصة وما به لهفة إليها، أو إلى مضطرب التأليف المدرسي وما به رغبة إليه. ولكنها حاجات العيش ودوافع الحياة وطلبات الدار والولد تقذف به في غير هوادة ولا لين إلى هذا السبيل عله يجد القوت الكريم واللباس الشريف والمسكن اللائق. ولشد ما يدهش المرء حين يرى جيشاً لجباً من المدرسين المثقفين - يربو على سبعة آلاف - فلا يرى فيهم من يحن إلى البحث العلمي أو من يصبو إلى التأليف الأدبي، اللهم إلا فئة قليلة لا تتجاوز العشرة! فالمدرس - إذن - رجل يموج بين الإرهاق والإملاق، فإن عكف عن الحياة العقلية أو حمل نفسه على الناحية الأدبية أخرج للناس شيئاً فيه روح نفس المضطرب وفيه سمات حياته المزعزعة.
وأشهد أن صاحب كتاب (أبو العتاهية) رجل من الفئة القليلة، صبر على الجهد ورضى بالمشقة ليخرج بحثاً أدبياً فيه الاستقصاء والجهد والاستنتاج.
لم يكن أبو العتاهية شاعراً يتحدث عن خلجات قلبه ولا مفكراً ينطق بعقله، وأني له أن
يفعل وهو (رجل فقير نشأ في بيت متواضع وصنع الجرار مع أبيه، فإذا نضجت الجرار حملها أبو العتاهية، أو حملها أكَّار معه على ظهره، وسار بين الحواري والأزقة في مدينة الكوفة يبيع جراره ويساهم في ثمنها، فإذا ألهبت الشمس قفاه ومس حر التراب أخمص قدميه وبلغ منه التعب مبلغه - أجاءه ما به إلى ضل حائط، فيحط حمله، ويجلس مسنداً إلى الحائط ظهره، برماً بالدنيا متسخطاً عليها فيلتف حوله الصبيان يعبثون به ويعبث بهم ويتبسط معهم في الحديث. . .).
فهو لم يكن ذا علم وثقافة، ولم يكن ذا عقل وحصافة، فعاش حتى آخر أيامه فجاً لم تستكمل أداته ولا بلغ ذروة الشعر ولا جاري شعراء عصره - عصر الإبداع والازدهار - فتخلف عن الركب وانبهرت أنفاسه ولكنه أتخذ إلى الشهرة سبيلاً هيناً سهلاً، فانحط على كبير من بني معن يقذع له في القول ويفحش في الهجاء، في غير ذنب ولا جريرة ولكن الشاعر - في رأيي - كان يحس في قرارة نفسه ضعة الشأن وحقارة المنبت وصعوبة المرتقى فتأرث قلبه غيظاً وحقداً، فوجد في الهجاء متنفساً يطفئ شرَّة غيظه، ووجد في هجاء عبد الله بن معن - وهو رجل عظيم من بيت كبير - طريقاً يعلو به إلى سماء الشهرة في سهولة ويسر. والهجاء فن من الشعر لا يحتاج إلى كياسة ولا يتطلب لباقة. وهكذا طار صيت الشاعر في الكوفة - أول الأمر - وامتد أفقه حين ضربه عبد الله بن معن مائة سوط جزاء ما أفحش في القول.
وفي رأي العقل أن شاعرنا كان يتصنع في كل شيء: في الهجاء وفي الغزل وفي التصوف جميعاً. يتصنع الهجاء وما به مقت ويتصنع الغزل وما به هوى ويتصنع التصوف وما به زهد.
فهو حين شبب بجارية المهدي (عتبة) كان - في رأيي - لا يبتغي من ورائها إلا أن تكون وسيلة إلى بيت الخلافة، يرتفع بها شأنه ويزكو مكانه، على حين لم تكن به لوعة ولا كان به شوق. وإن القارئ ليعجب حين يعجزه أن يجد في نسيبه بيتاً واحداً ينبض بعاطف جياشة أو سطراً يخفق بحب عميق. وليس أدل على ما أزعم من قوله في عتبة وهي من أحب وتدله في حبها واصطفاها بشعره وخصها - وحدها - بقلبه.
وقد أتعب الله نفسي بها
…
وأتعب باللوم عذالها
فتعبير الشاعر عن نوازع قلبه بكلمة (أتعب) تعبير تافه لا ينطوي على شاعرية ولا سمو. فالكلمة مضطربة قلقة، فقيل النطق وضيعة المعنى لا تتحدث عن صبابة وهوى ولا تكشف عن لوعة الحنين ولا تهتز بلذعة الشوق. وفيها - فوق ذلك - معاني الضيق والملل.
ومما يدل على أنه كان في غزله عابثاً لا يعبأ بمن أحب ما جاء في ص93 من الكتاب حين أنساه كلبه للمال ذكر عتبة فتقول (لو كان عاشقاً - كما يزعم - لم يكن يختلف منذ حول في التميز بين الدراهم والدنانير وقد عرض عن ذكر صفحاً).
لقد أشتهر أبو العتاهية بين العامة بالزهد والتقشف، أما أنا فحين أتحدث عن زهده فلا معدي لي عن أن أستنير برأي الحديث الشريف الذي يقول (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل مسلم أبداً، ولا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداَ).
وينقل المؤلف في ص51 سطر13 خبراً يدل على أن أبا نواس كان يجل أبا العتاهية ويعظمه لزهده وتقشفه، فلما سأله سائل (لم أجللته هذا الإجلال؟) قال (ويحك! لا تغفل، فو الله ما رأيته قط إلا توهمت أنه سماوي وأنا أرضي). وهذا كلام عجيب إ خاله لا يصدر عن شاعر عبقري فذ مثل أبي نواس تتألق روحه بومضات سماوية تزري بكل ما نظم أبو العتاهية في الزهد. ثم يحس المؤلف كذب الحديث فيقول في ص52 سطر4 (وأنا من اللذين يرجحون أن زهد أبي العتاهية زهد مفتعل لا يعبر عما في نفسه ولا يصور دخيلتها ولم نطرق فيه إلا المعاني العامة التي يتحدث الناس بها، وإلا فما بال رجل هذا شعره يحرص على المال كل الحرص ويسلك مختلف المسالك لجمعه.)
هذا ولقد رأيت في الكتاب أثر الجهد والصبر وطول البحث والاستقراء مما يدفعني إلى أن أقدر مجهود الأستاذ المؤلف حق قدره وأشكره على أن أخرج لنا صورة حية ناطقة من شاعر لا يعرف أكثر الناس عنه إلا شذرات لا تغني ولا تسمن.
كامل محمود حبيب
أعلام من الشرق والغرب
تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن
بقلم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني
من واجب كل أمة تريد أن تستكمل نهضتها، وترفع من شأنها، أن تعرف ماضيها حق المعرفة. فليست القومية الوطنية إلا التاريخ المتجدد مع الزمان. ولست أدري كيف نريد أن نعتز بمصريتنا دون أن نعرف دقائق تاريخنا. وقد شاءت إرادة المستعمر أن يسدل بيننا وبين تاريخنا ستاراً كشيفاً من النسيان يحجبنا عنه حتى لا نتعلق بأذيال الوطنية ولا نطالب بالتخلص من نير الاستعمار فلم يكن يسمح بدراسة التاريخ القومي إلى بمقدار. حتى إذا قامت مصر قومتها ظهر كثير من المفكرين والكتاب يحاولون تدوين ذلك التاريخ القومي الذي يصل بيننا وبين ماضينا سواءٍ في ذلك الماضي البعيد أو القريب. وأرخ لهذا الماضي القريب الراقص في الحركة القومية ولكنه عنى قبل كل شيء بالجانب السياسي ولو أنه لم يغفل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأدبية حتى لقد أفرد في كتابه فصولاً قصارا ترجم فيها لبعض أعلام مصر الحديثة مثل رفاعة رافع الطهطاوي من البارزين في سماء النهضة المصرية.
ويحتاج التحقيق التام للحركة الأدبية في القرن التاسع عشر إلى مجهودات كثيرة ينقطع فيها الباحثون إلى التاريخ لرجال الفكر والأدب في القرن الماضي.
وقد دفعت وطنية صديقنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن الشاعر الأديب إلى رسم صورة محققة عن بعض أعلامنا يجد الباحث عنهم العناء الشديد في التعرف إليهم. فنفض عنهم غبار النسيان وجلا للقراء صفحة مطوية من تاريخ مصر الحديث.
فهو يحدثنا عن مصطفى مختار بك أول وزير للمعارف المصرية الذي أرسله محمد علي باش مع البعثة المصرية إلى فرنسا، وهي تلك البعثة التي كان رفاعة الطهطاوي إماماً لها.
ويحدثنا بعد ذلك عن شاعر الخديوي الأول الشيخ محمد شهاب الدين وهو كما يحدثنا صاحب هذا الكتاب (الشاعر الرسمي لمصر الحديثة). ولم يكن هذا الشيخ ربيب الأزهر وإنما كان وزاناً صغيراً في أسواق البيع والشراء. وكأن الوزن المادي في الأسواق النافقة والكاسدة كان تمهيداً للوزن المعنوي في سوق القريض والقصيد فقد أصبح هذا الوزان
شاعراً رسمياً للخديوي يزن القصيد ويتفنى الناس بشعره.
على أن شعر الشيخ لم يكن جيداً وقد قدم الكاتب نموذجاً لشعره وحلله إلى أن انتهى بهذا الحكم الصادق وهو (أننا نكلف رجال ذلك العصر شططاً إذا طلبنا منهم أن يكونوا أجود مما وصلوا إلينا فقد كونته بيئتهم ثم مهدو السبيل بعد ذلك للبارودي الذي اجتمعت له ولعصره أسباب الأحياء في الشعر العربي).
ويحدثنا بعد ذلك عن عالم طريف مغمور هو الشيخ محمد عياد الطنطاوي الذي سافر من مصر إلى بتروجراد عاصمة روسيا يعلم اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية فكان له أثر كبير في المستشرقين من الروس. ولقد لقي الكاتب عناء شديداً في الترجمة لهذا الشيخ فأخذ يجمع سطراً من هنا وإشارة من هناك ويتصل اتصالاً شخصياً بمن يظن فيه شبهة معرفة بتاريخ ذلك الرجل حتى أخبره البروفيسور بولوتسكي بالجامعة العبرية أن للشيخ مؤلفاً بعنوان تحفة الأذكياء بأخبار بلاد روسيا، وأن الكتاب كخطوط يوجد منه نسخة في أسطنبول. ولا ريب في أن مثل هذا الكتاب طريف فريد في بابه فضلاً عن قيمته التاريخية الكبيرة، فهو يصور الحياة في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر بقلم مصري أزهري، فهل نطمع في قيام أحد علمائنا باجتلاب هذا المخطوط وطبعه؟
وينتقل بنا الأستاذ عبد الغني بعد ذلك إلى الحديث عن شاعر مصري، وقف شعره على أشراف الحجاز يسمى محمود صفوة الساعاتي، سافر للحج فاتصل بالشريف محمد بن عون أمير مكة فقربه إليه وصحبه في حروبه مع أمراء نجد، فصور الساعاتي هذه الحروب شعراً يذكرنا كما يقول عبد الغني بشعر المعارك عند المتنبي في القديم وعند البارودي في الحديث. وذلك مثل قوله في مدح الشريف أبن عون:
إذا تألق برق السيف في يده
…
أبصرت غيث دم الأبطال منسفحاً
مقوم كل معوج بصارمه
…
فكل خصم لهذا صار منطرحاً
وقد طاف الساعاتي بكثير من أغراض الشعر فمدح وطلب وعتب ورثى، فلم يخرج في ذلك عن مألوف القدماء.
وكنا مود أن يحدثنا الأستاذ عبد الغني عن الشاعر السيد علي الدرويش بعد أن حدثنا عن شهاب الدين مباشرة لأنهما من الذين أختصهما عباس الأول بمجلسه حتى كان كل منهما
يلقب بشاعر عباس الأول. وقد ترجم له ترجمة جيد درس فيها شعره محللاً أغراضه وبين الخصومة التي كان لا بد أن تقع بينه وبين شهاب الدين حتى بلغ من هجاء الدرويش لخصمه أن يقول له في قصيدة يهجوه فيها:
عاش دهراً وجهله في ازدياد
…
ليته بعد لم يكن ليعيشا.
وينقلنا المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن علم من أعلام الأدب في مصر الحديثة كان له أثر عظيم وفضل كبير على نهضة الأدب في مصر هو الشيخ حسين المرصفي الذي ظل يدرس في الأزهر إلى أن كانت نظارة على مبارك فعهد إليه بالتدريس في دار العلوم وكان يحضر عليه كثير من أعلام العصر منهم على مبارك نفسه. وقد أختط في تدريس الأدب العربي والبلاغة منهجاً جديداً ظهره في كتابه المسمى بالوسيلة الأدبية قد وصفه على مبارك برقة المزاج ووحدة الذهن وشدة الحذق.
ونجد علماً آخر مجهولاً ولكنه أثر في الحياة الأدبية عن طريق الصحافة هو حسن حسني الطوبراني باشا والذي دعا المؤلف أن يترجم له هو سؤال سائل في مجلة الرسالة أن يتفضل أحد الأدباء برواية قصة الشاعر المغمور. فأفتتح الأستاذ عبد الغني ترجمته بعجبه أن ينسى أديب عربي مشهور وصحافي ذائع الصيت، وشاعر قوي العبارة، ولما يمض على وفاته نصف قرن كامل؛ فكيف إذا خب المطي به عشرات القرون؟
ولد الطوبراني في مصر ولكنه تركى تنقل من بلد إلى بلد حتى قال عن نفسه:
شرق النسر وغرب
…
وتترك وتعرب
ولئن أطري وأطرب
…
فهو نصاح مجرب
وهو إن أعرب أغرب
…
وهو إن أعجم أعرب
وحرر في صحف تركية وأخرى عربية كانت تصدر في القسطنطينية وكانت تغلب عليه الروح الإسلامية ونزعة الإصلاح وله ديوان شعر ولكنه غير جيد. وقد درسه المؤلف دراسة مستفيضة فتكلم عن أغراضه وعن أسلوبه وعن مآخذ عابها في شعره.
ثم نجد فصلاً طريفاً يحدثنا فيه عبد الغني عن شوقي وحافظ بين الكتب وهو فصل طريف لأننا على وثوق معرفتنا بشوقي وقراءتنا لديوانه وتمثيلياته وقصصه نجهل عنه بعض تأليفه مما أخرجه في صدر شبابه؛ فأسدل عليه ستار النسيان فقد كتب شوقي رواية ظهرت
في 1897 تسمى عذراء الهند ترجع حوادثها إلى زمن رمسيس الثاني وهي أول محاولة لشوقي في معالجة الفن السروائي ولكنها لم تنجح. وظهرت له بعد عامين رواية نشرتها مجلة الموسوعات تسمى لادياس قصد منها شوقي أن يصور حالة مصر بعد عهد ابسماتيك الثاني، وقد كتبها نثراً ولكنه نثر مطبوع بطابع العصر يمتاز بتكلف السجع وفيها يقول:(وكانت لادياس فتنة الناس، بالبذر الطالع في الفصن المياس. . .) ولقد تحرر شوقي من السجع بعد ذلك كما نرى في رواية أميرة الأندلس.
ولشوقي رواية ثالثة هي ورقة الآس.
ولا أحب أن أمضي في هذا التلخيص إلى نهاية الكتاب خشية الإطالة، فنحن بحد بعد ذلك ترجمة دقيقة للشيخ محمد شاكر الذي كان وكيلاً للأزهر في مطلع القرن العشرين وهو والد صديقنا الشيخ أحمد شاكر الذي ينشر الآن مسند الإمام أحمد بن حنبل.
ويحدثنا عن أدباء عرفناهم واتصلنا بهم مثل إسماعيل أدهم وفخري أبو السعود، وإسعاف النشاشبي، وأنطون الجميل.
فأنت ترى أن الكتاب قد جمع أعلاماً مختلفين اختلافاً شديداً ولكن تربطهم رابطة قويا هي رابطة الأدب في مصر الحديثة.
ويبدوا أن نصيب الشعراء أوفر ولا غرو فصاحب الكتاب شاعر تستجيب نفسه إلى الشعراء فتجمعه وإياهم صلة الصناعة، ولذلك كانت دراسته لهؤلاء الشعراء دراسة الحاذق البصير والناقد القصير.
ولقد لفتني ما ذكره عن شوقي من أن نثره يكاد يكون شعراً ففيها هذه الموسيقى التي تطرب لها الآذان ولذلك حاول أن يرد بعض نثره إلى الأوزان الشعرية مثل قوله في الوطن.
ومراد الرزق ومطلبه
…
وطريق المجد ومركبه
فهو بيت من بحر المتدارك فقلت في بالي: وأنا اقرأ أسلوب عبد الغني وأحسن فيه بهذه الموسيقى التي ترتاح إليها النفس أن ذلك أثر من آثار صناعة الشعر وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده.
أحمد فؤاد الأهواني