المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 854 - بتاريخ: 14 - 11 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٥٤

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 854

- بتاريخ: 14 - 11 - 1949

ص: -1

(يظهر أن الانتخاب قريب!)

كذلك قال الحاج على وشفتاه الغليظتان تنفرجان عن ابتسامة لا يتم بدونها معنى الجملة، وعيناه الحادتان تتبعان مركبة كانت تدرج في طريقها إلى القرية. فقال له المأذون وهو يربت على كتفه: صح نومك! لقد أذاع الراديو وأعلنت الصحف حل مجلس النواب وتحديد يوم الانتخاب؛ فالحكومة تتجهز، والأحزاب تتحفز، والمستنابون يغدون ويروحون، من الدائرة إلى الحزب، ومن الحزب إلى الدائرة، والعرق يتصبب من الجباه، والوعود تتناثر من الشفاه، والنقود تشرأب من المحافظ، و. . . فقاطعه الحاج علي بقوله: حسبك يا شيخ إبراهيم! إنك لتعلم أني لا أسمع الإذاعة ولا أقرأ الصحف ولا أغشى المجالس، ولولا مقدم الأستاذ لما تركت حقلي. إنما أعرف اقتراب يوم الانتخاب بظهور هذه المركبة. أن قدومها على القرية أشبه بقدوم بغلة العشر على الموعود. أنها تحمل إلينا مع الباشا التساهل في الحساب، والتسامح في المتأخر، والاستماع إلى كل شكوى، والاستجابة لكل طلب، والمجاملة في كل حادث، والمواساة في كل خطب؛ حتى إذا انقضى يوم الانتخاب، ودخل الباشا مجلس النواب، أشاح بوجهه ونأى بجانبه، وسلط على وعوده الحلوة مطال (ناظره) وضلال (كاتبه). فإذا لقيناه عبس وبسر، وإذا سألناه دعَّ وزجر، وإذا أسترحمناه (سخط ونطر)؛ ثم لا نسمع بعد ذلك انه قال كلمة في المجلس، أو أبدى رغبة إلى الحكومة، أو أدى خدمة إلى الفلاح، أو أسدى منة إلى الوطن! فحل المجلس أنفع لنا من عقده، وترشيح النائب أجدى علينا من نيابته.

فقلت له: وما الذي يحملكم على انتخابه وقد علمتم بالتجربة انه يرضيكم شهرا ويغضبكم دهراً؟ فقال: يحملنا على انتخابه انه مالك ونحن مستأجرون، وليس بين المالك والمستأجر قانون غير قانون العقد؛ والعقد تختمه على بياض وهو الذي يكتبه ويحتفظ به. فإذا غلَّبنا إرادتنا على إرادته، وآثرنا مصلحة البلد على مصلحته، اشتط في أجرة الارض، وتعسف في تسوية الحساب، وتحكم في اقتضاء الدين، فلا يكون لنا غير الاحتكام، ولكن إلى من؟ أو المهاجرة، ولكن إلى أين؟

فقلت له: ذلك ادعى إلى أن تنتخبوا غيره ممن يعلمون أموركم، ويشعرون شعوركم؛ حتى إذا تقدمت الحكومة باقتراح قانون بخفض الإيجار، أو برفع الأجر، أو يحدد الملكية، أو يزيد الضريبة، كان مع الاقتراح لا عليه. ومتى سنت هذه القوانين ضمنت الحماية

ص: 1

للمستأجر فلا يُظلم، وكفلت الرعاية للأجير فلا يُستغل. أما أن تعرفوا نائبكم هذه المعرفة، ثم تنتخبوه على هذه الصفة، فذلك ما لا يسيغه عقل ولا تسوغه مصلحة.

فقال الحاج: ألحق أننا لا نعرف ما هو البرلمان ، لا ماذا يصنع النواب فيه. كل ما نعلمه أنها رجة تعتاد البلاد من حين إلى حين، فينشط مؤذنو القرى ومعلموها في الدعوة إلى فلان أو فلان، ثم تقوم المآدب والخطاب هنا، وتنشب المعارك والشتائم هناك! ثم لا يكون الانتخاب آخر الأمر إلا بإرشاد المأمور، أو إكراه المالك، أو إيحاء العمدة، أو إغراء الجنيه!

فقلت في نفسي: ذلك هو الواقع. ومتى عرفت الأمة أن لها السلطان، وأن سلطانها معناه البرلمان، علمت الناخب كيف ينتخب، وأرشدت النائب كيف ينوب!

ابن عبد الملك

ص: 2

‌صور من الحياة:

كبرياء. . .!

للأستاذ كامل محمود حبيب

وقف الفتى أمام أبيه المسجى في كفن ينظر وإن نفسه لتضطرم بعوامل الأسى على أن فقد أباه أحوج ما يكون إليه، فهو ما يزال طالباً في المدرسة الثانوية لم ينهل من العلم إلا صبابة لا تغني من جهل ولا تعصم من طيش. وإن قلبه ليضطرب بخلجات الفرح، فهو أصبح - في رأي نفسه - ثرياً يملك آلاف الجنيهات وعشرات الأفدنة وقصراً مشيداً وسط حديقة وارفة الظلال دانية القطوف، فغداً ينعم بالمال ويسعد بالراحة ويلذ بالحرية. وثارت فيه نوازع الأسى والراحة في وقت معاً، فانهمرت عبرات عينيه على حين كان ينضم قلبه على نشوة جارفة من الفرح، فلطالما عانى الضيق والحاجة ولطالما أمسك أبوه عنه المال شحاً منه وكزازة. ثم سكنت خواطره حين بهره بريق الذهب وهو يتألق بين يديه فيجذب روحه ويصرفه عن أن يلقي بالاً إلى من ناح أو ندب.

وخلص الفتى من عسر الدرس إلى يسر الحقل، ومن ضيق المدرسة إلى سعة الحياة، ومن ذل الاستذكار إلى خفض العيش. وأحس - على حين فجأة - بأنه انفلت من قيود أبيه الثقال فأصبح رب نفسه يطير ويقع فلا يقع إلاّ على لذة أو متعة، وأخوه الأكبر يرى بعين الرجل دفعات العبث توشك أن تعصف بأخيه فتستلبه من صحته وماله في وقت معاً. وآذاه أن يقع الفتى بين مخالب رفاق السوء يبعثرون ماله وشبابه، فأراده على أن يتزوج من ابنة خاله عسى أن ينزع عنه طيش نفسه أو أن يفزعه عن صحاب السوء.

ومضت السنون فإذا الفتى زوج وأب، غير انه لم يرتدع عن غي ولا أقلع عن سفاهة. وأنى له أن يفعل وإن الحنين إلى اللهو الوضيع ليعاوده - بين الفينة والفينة - فيطلق لنفسه العنان فيندفع - في غير وعي - إلى الخمر والقمار والنساء جميعاً، ومن حواليه من شرذمة من السفلة يزينون له حياة الفسق والفجور، فيلقي إليهم السلم في غير عقل ولا تفكير.

وطمَّت لذاذات الطيش على عقل الفتى فما أفاق من نشوته إلا ليرى يده صفراً من الذهب والفضة معاً. لقد ابتلعت أسباب العبث والطيش كل ما ورثه من مال إلا الإفدنة وقد أهملتها

ص: 3

يد الفلاح فأصابها التلف والبوار، وإلا القصر وقد ضاقت جنباته بالفحش والمجون. . . القصر الذي يمرح فيه صغاره وهم ملائكة الأرض ينشرون عليها روح الجنة وطهارة السماء. ووقف الأب - ذات مرة - ينظر إلى بنيه وهم يتدافعون تحت ظلال شجرة في مرح لم ترهقه نوازع العيش ولا دنسته شواغل الحياة، فأصابه الضيق والأسى لأنه يوشك أن يلقي بهم - بحماقته وجهله - إلى هوة من الشقاء والذل.

ووجد الفتى مسَّ الحاجة فانطلق إلى أخيه الأكبر يستعينه على أمره ريثما يجمع غلات أرضه. وضحك الأخ الأكبر في شماتة حين وجد الفرصة سانحة فانحط على أخيه يقذع له في القول ويقسو عليه في اللوم ويعنف في الحديث، ثم قال (ورفاقك. . . رفاق السوء؟ إلا تنظر أيهم يستطيع أن يسد الثغرة في الشدة، أو يرأب الصدع عند اليأس، بعد إذ استنزفوا كل وفرك في التافه الوضيع؟ أما أنا فلا أستطيع لأن لي أولادا هم أحق منك بمالي وجهدي) فانفلت الفتى من لدن أخيه وهو يتعثر في الضيق ويجرر أذيال الخيبة. وغاظه أن يلقى من أخيه الأكبر الاحتقار والمهانة، وأن يحس فيه القسوة والعنف، وأن يخرج من داره تصفعه لاذعات الإخفاق والحرمان، فانطوى على أشجانه يدير الرأي ويقلب الفكرة: لقد أفاق من سكرات اللذة فما وجد صحابه، وصحا من غفوة النشوة فما وجد ماله. ونازعته نفسه إلى أن يستعين ببعض أهله ليصلح من شأنه أو يقيم من عوجعه، ولكن كلمات أخيه كانت ما تبرح ترن في مسمعيه فتدفعه عن أن ينشر ضعفه على عيني واحد من الناس خشية أن يناله الأذى أو أن تصيبه المهانة فأمسك على مضض وهم. وغبر ساعات يضطرب في لجة من الهواجس لا يهدأ ولا يستقر ولا يهتدي إلى حيلة ثم انفرجت ظلمات الحيرة عن قبس من هدى فعقد العزم على رأي.

وعلى حين غفلة من أهله انطلق إلى الإسكندرية.

وألقى الفتى بنفسه وأفدنته في خضم المضاربات المالية وهو يرى الهاوية أمامه تكاد تبتلعه فيقبل عليها في غير فزع ولا تردد. لقد سلبه اليأس الأناة والصبر يوم أن تراءت له فرجات الحياة تنسد أمام ناظريه، يوم أن لمس الجفوة والغلظة في حديث أخيه الأكبر وقد كان يطمع أن يجد فيه العون والساعد، فعزم على أن يختار لنفسه، وما في المضاربات المالية إلا الثراء العريض أو المتربة القاسية.

ص: 4

وهناك في الإسكندرية، ابتسمت الحياة للفتى وتألق نجمه وسما حظه، فأصاب من الثراء والغنى في سنة واحدة ما يعجز غيره عن أن يناله في سنوات، فطابت نفسه وهدأت جائشته. ثم أخذ الحنين يعاوده إلى القرية، إلى الأهل، إلى الرفاق! فطار إلى القرية ليعيش على نمط الصالحين يسكن إلى الراحة ويطمئن إلى الهدوء وينعم بالسعادة في الأسرة بين الزوجة والولد والأهل، لا تحدثه نفسه بنزوات العبث وقد قاسى مغبته، ولا يدفعه قلبه إلى الطيش وقد ذاق مرارته.

وتلقاه أخوه الأكبر - أول ما جاء إلى القرية - في بشر وسرور! يعانقه في شوق: ويقبله في حرارة، ويحدثه في شغف، ويستغفره عن زلته بقوله (لا تؤاخذني - يا أخي - بما فعلت ولا ترهقني من أمري عسراً، فما كان يخيل إلي أن كلماتي وهي هينة لينة ستفزعك عن دارك وأهلك ووطنك، وما كنت أطمع بحديثي إلا أن أردك عن هاوية توشك أن تتردى في قرارها بين رفاق لا كرم فيهم ولا شهامة) وأغضى الفتى عن حديث أخيه الأكبر فعاشا معا في رضى وطمأنينة.

ترى ماذا دهى الرجل الذي طرد أخاه الأصغر من داره أحوج ما يكون إليه فهو يقبل عليه في حب وشغف؟ هل استحالت حاله وانقلبت خواطره فندم على زلته فجاء يستغفر أخاه الأصغر وقد فات الأوان؟ أم هو قد أكبر فيه الهمة والنشاط حين عاد منصوراً مظفراً؟ أم هو المال يبهر العقول الضعيفة ويستلب الأحلام الوضيعة فتجلّه وتحترمه لأنه هو. . . هو المال؟

وانطوت السنون فإذا الفتى الطائش رجل فيه الرجولة والإنسانية، وفيه الكرم والشهامة، وفيه المروءة والسخاء. وإذا صغاره فتيان ملء البصر والسمع والقلب جميعاً تتوثب فيهم فوره الحياة والقوة وتتألق فيهم لمعان الذكاء والعقل، وإذا ماله يربو ويزداد فيكفل لهم جميعاً الجاه والسلطان ويحبوهم بالرفاهية والخفض.

ودأب الرجل على أن يختلس في كل سنة شهراً يقضيه في الإسكندرية، يفر - كزعمه - من مضطرب الحياة وشاغلها إلى هدوء الوحدة وراحتها. ولكنه - في الحق - كان يهرع إلى البورصة ليشبع رغبة نفسه في المضاربات المالية، ما يستطيع أن يصرف نفسه عنها بعد أن ذاق حلاوة الكسب ولذة الثراء.

ص: 5

وهو يرجع إلى أهله في القرية - كل مرة - طلق المحيه بادي البشر، تكسوه ثياب الصحة والعافية، وترتسم عليه علامات النشاط والقوة! لا يشغله الربح ولا تؤرّقه الخسارة.

ما لهذا الرجل يفزع من الإسكندرية - في هذه السنة - بعد أيام قلائل ليرجع إلى القرية مشتت الذهن مقطب الجبين، ينطوي على نفسه في صمت وسكون، لا يطمئن إلى رفيق ولا يهدأ إلى صاحب ولا يتحدث إلى صديق؟ وتلقفته الألسن والأبصار، وحامت حوله الشائعات: ماذا كان هناك في الإسكندرية؟ لعل حادثة عصفت بآثار المرح في نفسه، أو لعل نكبة نزلت فأطاحت بالبشر في قلبه! وحار الناس في أمره وهو في صمت، ومن حوله رجال لا يجد واحد الجرأة على أن يزيح الستار عن خبيئة نفسه.

الآن برح الخفاء، فهذا هو المحضر جاء ليوقع الحجز على كل ما يملك الرجل إلا صبابة لا تشفي غلة ولا تنقع صدى، حتى القصر الذي يعتز به ويوليه كل عنايته واهتمامه. وارتسمت على الشفاه ابتسامة التشفي والشماتة، ولاكت الألسن كلمات السخرية والاستهزاء، وقال واحد من الناس (من عسى أن يكون المحظوظ الذي يشتري أملاك الرجل الثري؟) وانبرى الأخ الأكبر يساوم الرجل لينقذه من براثن الدين ويستولي هو على أطيانه وقصره فلم يجد الرجل بداً من أن يلقي السلم فباع كل أملاكه بالثمن البخس.

وأرغمت الفاقة ربيب العز والثراء أن يسكن دارا وضيعة في ناحية قذرة من القرية، وأن يعمل طول يومه ليكسب قوته وقوت عياله على حين أغلق الأخ الأكبر من دونه باب داره، وأن ينزع أبناؤه من المدرسة ليجد فيهم من يشد أزره ويعينه على لأواء الحياة وشظف العيش. ولكن الابن الأكبر أبى أن يخضع لنزوة أبيه فراح يناقشه في حدة، وأراد أن ينطلق إلى عمه يرجوه أن يعينه على إتمام دراسته لقاء دين يسدده بعد أن يتخرج في الجامعة. ورفض الأب أن يستسلم لرأي ابنه الشاب. . . رفض أن يستخذى في إصرار وعناد. واحتدم النقاش بين الأب وابنه فثارت ثائرة الأب فلطم ابنه لطمة طار لها صواب الشاب فما شعر إلا وهو يهوي على خد أبيه بلطمة قاسية ثم يطير إلى عمه يستجديه.

وطفرت من عين الأب المنكود عبرة حرّى تحمل كل معاني الذل والشقاء.

وفي الصباح فزع الناس إلى الدار الوضيعة. . . دار ربيب العز والثراء ليروا الرجل ملقى في ناحية ينزف دمه آخر قطرة من الترفع، تنهمر من شريان في يده مزقته كبرياء لم

ص: 6

تتصاغر من ذل الفاقة، ولا تطامنت أمام ذل اللطمة من ابن عاق. . .

كامل محمود حبيب

ص: 7

‌عالمية الأدب العربي

للأستاذ محمد وهبي

لئن كنا نفهم الأدب على انه التعبير الصادق للنفس البشرية، وتصوير الحياة من جميع وجوهها النفسية والفكرية والاجتماعية بواسطة الألفاظ، فإننا نستطيع أن نجد بذلك التفسير العميق لخلود الآداب على وجه العموم. فما دامت النفس الإنسانية هي هي في جوهرها على مر الأزمنة والعصور، فإنها تدأب على تمجيد صورها الفنية الرائعة التي رسمتها ريشة الأدباء والشعراء على اختلاف نحلهم وأوطانهم. وهي تمجد هذه الصور لأنها تظل تفهمها مهما تقدم بها الزمن.

على أن الخلود ليس الصفة الوحيدة التي تتمتع بها الآداب! فهناك صفة العالمية، أو قل طابع الشمول الإنساني الذي لم نجده في جميع الآداب، وإنما امتاز به بعضها فقط.

لقد يخلد أدب في أبناء القوم الذين أنتجوه، لأنه يحمل بين طياته صورة لحياتهم الخاصة، وغذاء معينا لذوقهم المحلي، ولكنه لا يستطيع أن يمتد إلى ذوق سواهم من البشر، ولا أن يصل بكامل روحه إلى إفهام غيرهم من سكان المعمورة إذا ترجم لهؤلاء لأنهم لا يجدون فيه ما يتجاوب مع نفسياتهم، ولا ما يعبر عن أحوالهم وأفكارهم التي قد يشاركهم فيها جميع البشر إنه أدب محلي شخصي، ينطوي على فردية متقلصة ضيقة فقيرة، تجهل صفة الإنسانية العامة، الغنيمة بمعانيها الحية. ولهذا نجد آداباً كثيرة جمدت ضمن البيئات التي نشأت فيها لاحتفاظها بصفة الفردية الضيقة، ثم اندثرت مع الحضارات التي رافقتها، حتى أصبحت لا تذكر إلا على سبيل التأريخ لحياة الأمم التي أنتجتها! بينما نرى آداباً خلدت وانتشرت في أكثر اللغات، وظلت حية مجدة في كل صقع وكل قطر، لأنها تتمتع بصفة العالمية الواسعة. . .

والأدب العربي من زمرة الآداب العالمية التي لها صفة الشمول الإنساني. . . نقول هذا ونؤكده، ونحن نعلم تمام العلم أن من المستشرقين من أنكروه قطعاً، وحجتهم خلو هذا الأدب من المسرحيات التمثيلية والملاحم الضخمة، واقتصاره على وصف الأحوال والبيئات الخاصة لأعلامه. ولا يجد الواحد منا كبير عناء في الرد على مثل هذا الادعاء المنهار الأساس. فالأدب العربي يحتوي على عناصر إنسانية عدة، تنوب عن الفن المسرحي،

ص: 8

وتكاد تفوقه في الأهمية كما سنرى. وقبل أن ننفذ إلى بحث فنون هذا الأدب، أو قل عناصره التي تجلى بها، لنأخذ لغته التي تشكل قاعدته الاولى، وعصبه الأساسي.

اللغة العربية لغة حية ما في ذلك إشكال، وهي إلى هذا غزيرة مرنة قد برهنت خلال العصور على قدرتها على التسرب إلى مختلف الشعوب، والتأثير في كثير من اللغات. والأدلة على هذا كثيرة: فمع أن الفاتحين الذين ظهروا في الشرق قبل العرب لم يستطيعوا أن يفرضوا على الأمم المغلوبة لغاتهم، فقد تمكن العرب من فرض لغتهم عليهم. ولما صارت اللغة العربية عامة في جميع البلاد التي استولوا عليها، حلت محل ما كان فيها من اللغات: كالسريانية واليونانية والقبطية والبربرية وغيرها. وقد كان للغة العرب مثل ذلك الحظ حتى في بلاد فارس على الرغم من يقظة الفرس، بل لقد ظلت اللغة العربية في تلك البلاد لغة أهل العلم والأدب، وظل الفرس يكتبون لغتهم بالحروف العربية ولم تؤلف كتب الكلام والعلوم الأخرى في بلاد فارس بغير لغة العرب، وإلى اليوم لا يزال أمر اللغة العربية في ذلك الجزء من آسيا كالذي كان للغة اللاتينية في القرون الوسطى بأوربا.

وقد كان للغة العربية فوق هذا أثر عميق في اللغات اللاتينية ذاتها، حتى أن لمستشرقين (دوزي) و (أنجلْمن) وضعا معجما في الكلمات الأسبانية والبرتغالية المشتقة من اللغة العربية.

وحتى اللغة الفرنسية أيضاً لم تنج من تأثير اللغة العربية التي أعطتها مثلما أعطت الإيطاليين اصطلاحات كثيرة، وخصوصا الاصطلاحات البحرية. ويذهب الدكتور (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) إلى القول بأن الأوربيين اقتبسوا فن القافية في الشعر من العرب، وأن الشعر الأسباني والشعر البروفنسي مدينان في ظهورهما لشعراء عرب الأندلس، ويؤيده في هذا عدة مستشرقين.

لسنا في حاجة إلى الاسترسال في التدليل على خاصة المرونة في اللغة العربية، تلك الخاصة التي جعلت منها لغة عالمية عظيمة الانتشار، فكان لها الأثر الأكبر في نقل الأدب العربي إلى أقطار كثيرة، وتزويد روحه بعناصر شتى ومواد غزيرة في بلاد متنوعة، مما جعله بالتالي أدباً عالمياً قريباً إلى نفس الإنسان في أي مكان. ولا أدل على ما نذهب إليه من كثرة الترجمات الأدبية من اللغة العربية إلى اللغة الأجنبية، ورواج هذه الترجمات

ص: 9

وتعدد طبعاتها. . .

وإذا ما نظرنا في الأدب العربي، فأول ما يسترعي انتباهنا في روحه ذلك الاتصال المباشر الدقيق بأعماق النفس الإنسانية على وجه العموم، بحيث أنه وصفها وحللها وتواجد معها، ونبض بمعانيها على اختلافها وتنوعها من سمو وضعة، ومن قوة وضعف. ويبرز أمامنا في هذا المعنى شعر عمر بن أبي ربيعة الذي عبر أصدق تعبير عن نفسية الإنسان في غرامه وفي فهمه لعقلية النساء. وإن أنس لا أنس داليته المشهورة التي قالها في محبوبته (هند)، حيث يصور لنا مشهداً فريداً في نوعه، ويعطينا وصفاً طريفاً لأحاديث النساء فيما بينهن، بحيث يخلص منه إلى إبراز الغيرة التي تخالج نفس المرأة أياً كان لونها أو زمنها، لنصغ إليه إذ يقول:

زعموها سألت جاراتها

وتعرت ذات يوم تبترد:

أكما ينعتني تبصرنني

عمركن الله لمْ لا يقتصد؟

فتضاحكن وقد قلن لها:

حسن في كل عين من تود

حسداً حملنه من أجلها

وقديماً كان في الناس الحسد

ونستطيع أن تبين اوجه الشبه القوي في هذه الخاصة بين ابن أبي ربيعه و (راسين) في الأدب الفرنسي، أو (الفرد دو موسيه) كذلك، بل أن ابن أبي ربيعه بلغ من إتقانه تصوير النفس البشرية حداً جعله يستعمل أبسط الألفاظ وأقربها إلى العامية أحيانا لأجل تأدية المعاني الدقيقة.

ويشارك ابن أبي ربيعه في هذه الميزة أبو نواس، ذلك الشاعر العالمي النادر المثال الذي لم يدع حالة من أحوال اللهو والمجون إلا وصفها وصفاً صريحاً كشف عن أدق النزعات والنزوات التي تخامر نفس الإنسان ويكبتها أو يحجبها عن المجتمع.

وخاصة ثانية ارتقى بفضلها الشعراء العرب إلى مرتبة الشعراء العالميين، تلك هي إحساس الطبيعة، أو قل تعشق الطبيعة، والتواجد معها، وتقديس جمالها والافتنان بتصويره. فابن الرومي، ذلك الفنان المتيم بالألوان، والبحتري يستويان في هذا الباب في مرتبة (لامرتين) و (شاتوبريان) و (فيكتور هوجو).

وأما شعراء الأندلس، فلا تسل عن الشأو الرفيع الذي بلغوه في هذا التواجد الإنساني، الذي

ص: 10

يتجلى في قول ابن خفاجة حين يصف روضة عند الصباح:

والنور طرفٌ قد تنبه دامعٌ

والماء مبتسمٌ يروقُ صقيلُ

فالروض مهتز المعاطف نعمة

نشوان يعطفه الصبا فيميلُ

ريان فضضه الندى ثم انجلى

عنه ذهَّب صفحتيه أصيل

وارتد ينظر في نقاب غمامة

طرف يمرضه النعاس كليل

ساج كما يرنو إلى عواده

شاك ويلتمح العزيز ذليل. . .

وبين أعلام الأدب العربي شعراء نستطيع تسميتهم شعراء المبدأ أو شعراء الفكرة أن صح هذا التعبير، يرتقون إلى درجة العالمية بجدارة صريحة، بفضل المبادئ أو المذاهب الإنسانية التي اعتمدوها في إنتاجهم الفكري. ففلسفة التشاؤم وحرية الفكرة تشكلان المحور الأساسي لشعر أبي العلاء المعري، وهو يلتقي من ناحية التشاؤم بالفيلسوف الألماني (شوبنهور)، وفي ناحية حرية الفكر بالكاتب العالمي المعاصر (برناردشو).

أمام المتنبي فقد تجلت في شعره فكرة إنسانية خطيرة، كان من شأنها أن تطورت وتبلورت من بعده في مبدأ فلسفي هام عند الفيلسوف الألماني نيتشه: إلا وهي فكرة (الاستعلاء)؛ وقد جسمها (نيتشه) في شخصية (الإنسان الأعلى) أو (السوبرمن) على حد تعبيره وحسبنا من شعر المتنبي المفعم بهذه الفكرة قوله:

وإني لمن قوم كأن نفوسهم

بها أنف أن تسكن اللحم والعظما!

وقوله:

أطاعن خيلاً من فوارسها الدهر

وحيداً، وما قولي كذا ومعي الصبر!

ومن فنون الأدب فن عالمي قيم اشتهر به كتاب عالميون وكان لأدباء العرب فيه نصيب كبير، وهو فن (الظرف) أو قل باب الفكاهة والمرح الفكري. وقد امتاز بهذا الفن بين الإنكليز (تشارلز ديكنز) و (وبرناردشو)، وبين الفرنسيين (أناتول فرانس)! ويقبل هؤلاء من بين الأدباء العرب الجاحظ، بحيث يضاهيهم بالفعل، وذلك بما في كتاباته من رقة ومرح، وبما في فكآهاته من لذع خفي، وظرف محكم، لحمتهما وسداهما الفكرة العميقة.

وهنالك لونان عالميان من ألوان الأدب، طرقهما الأدباء العرب فأبدعوا، وكان لهم بذلك تأثير كبي رفي الآداب الأجنبية.

ص: 11

فأحدهما (الأدب الصوفي)، وقد برز فيه ابن الفارض، وحوله زمرة لا يستهان بها من المتصوفين الذي يعدون عالميين في أدبهم الصوفي! والأخر فن تأدية الحكمة على لسان الحيوان، وقد تجلى هذا الفن في أدب ابن المقفع، وانتقل تأثيره إلى الشاعر الفرنسي (لافونتين).

بإمكاننا أن نلتمس من هذا العرض السريع، مدى أهمية الأدب العربي بالنسبة إلى الآداب العالمية، تلك الآداب التي عالجت قضايا الإنسان، ووصفت نفسية الإنسان، فكانت لغته الحية الناطقة في كل مكان وكل زمان.

ولئن لجأ بعض الأدباء العالميين لتحقيق هذه الغاية، إلى وضع المسرحيات، فما ذلك إلا لأن بيئاتهم الخاصة حدت بهم إلى هذه الوسيلة، ويسرت لهم تحقيقها! أما أدباء العرب فقد عوضوا عن هذا النقص الطفيف بلجوئهم إلى وسائل أخرى لا تقل عنها أهمية أو قيمة، مما أتينا على ذكره، فأنتجوا بذلك أدباً عامراً بالمعاني والعناصر الإنسانية التي بإمكانها أن تتجاوب مع نفس كل إنسان. بل لقد رأينا كيف أبه عندما سمحت البيئة الاجتماعية بطرق فن الأدب التمثيلي عند العرب، برز شوقي بمسرحياته الخالدة، فسد ذلك الفراغ العارض بكل جدارة.

وحسب الأدب العربي أعلامه الخالدون عمر بن أبي ربيعه وأبو نواس والمتنبي وأبو العلاء وابن الرومي وشوقي، حتى يستوي في مرتبة الآداب العالمية الخالدة.

(بيروت)

محمد وهبي

ص: 12

‌الوليد بن عقبة في كتاب عثمان

للأستاذ محمود أبو رية

مما لا يكاد يخفى على الباحث المحقق أن أدق فترة في التاريخ الإسلامي هي التي بدأت باغتيال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتولي عثمان أمر الخلافة بعده. ذلك أن تيار الإسلام الزاخر قد أخذ بعد مقتل عمر يتحول عن مجراه الذي كان يندفع فيه بالخير والهدى والسلام على عهد الرسول صلوات الله عليه وصاحبيه إلى اتجاه آخر. وكان الإسلام الذي اعتز بإسلام عمر وتهدّى في سيره قد انقلب يعتسف الطريق بعد أن انقلب هذا الخليفة العظيم إلى ربه وعلى أن هذه الفترة على ما وصفنا، فأنها لم تؤرخ على ما يجب أن يكون عليه التاريخ الصحيح، وذلك أن كل مؤرخ قد كبَّل فكره بما وضعه السلف من قيود، ووقف عندما خطوه من حدود فلا يبحث بعلم ولا يفكر بعقل. وكان أثقل تلك القيود هو ما قرروه من عدالة الصحابة جميعاً، حتى جعلوا الطلقاء في مرتبة المهاجرين، والمؤلفة قلوبهم في منزلة الأنصار المخلصين، والمنافقين في مقام الأتقياء الصالحين.

وعلى ذلك جرى الخلف وراء السلف يتبع بعضهم بعضاً فلا بصر ولا بصيرة معتمدين على مجرد النقل عنهم، منصرفين عما يقضي به العقل والمنطق في نقد ما وصل إلينا منهم.

إنه لا يمكن للمؤلف المحقق أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة إلا إذا تزوّد بزاد كبير من مواد التاريخ، وحرر عقله من رقّ التقليد، واستعان في النقد والتحليل بنظر بعيد وأن يسبر الوقائع كما يقول ابن خلدون. بمعيار الحكمة وأن يقف على طبائع الكائنات ويحكم النظر والبصيرة في الأخبار).

ومما يجب على من يؤرخ هذه الفترة أن يقف على طبائع الجاهلية عامة وما كان من نزاع وتخاصم بين بني أمية وبني هاشم خاصة، وأن يدرك أن ما كان بينهما في الجاهلية لم يطفئ الإسلام جذوته، ولم يخفف الهدى المحمدي حدته، وان يميز بين الذي آمنوا إيماناً صادقاً من الذين أسلموا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.

هذا ما يجب على كل من يريد أن يؤرخ هذه الفترة الدقيقة تأريخاً صادقاً، ومن يفته شيء من ذلك فإن عمله يخرج ناقصاً وتاريخه يظهر عقيماً وإن سمى بين العامة تاريخاً!!.

ص: 13

نوطئ بهذا النبذ من القول أن نرسل كلمة صغيرة عن كتاب (عثمان) أحد أجزاء الفتنة الكبرى الذي يتوفر على إخراجها الدكتور طه حسين بك.

تناولت هذا الكتاب بعد أن فرغ الناس من الكتابة عنه والبحث فيه فإذا بي تلقاء نمط جديد في دراسة التاريخ لم أعهد مثله فيما كتب عن تاريخ صدر الإسلام بحثاً وتحليلاً اللهم إلا كتاب (فجر الإسلام) للأستاذ أحمد أمين بك، فهو صنوه في البحث، وقرينه في التحقيق، هذا في تاريخ الحياة العقلية وذاك في تاريخ الحياة السياسية.

وهذا الكتاب لا يفهمه حق الفهم إلا من حرر عقله وآثر الحق على هواه. وإذا كان الكلام عن هذا الكتاب النفيس قد يعد الآن من التكرار بعد أن تولاه الكتاب من قبل بالتقريظ والثناء الطيب فأني أتحدث اليوم عن أمر وجدته فيه ولم أر بداً من الكلام عنه.

ذلك أن الدكتور طه حسين بك قد أستراب فيما حملته الرواية من أن الوليد بن عقبة قد صلى بالناس فريضة الصبح وهو ثمل ثم التفت إلى من معه وقال: أزيدكم؟ فقال أن هذه القصة مخترعة من أصلها فيما أعتقد.

ولكن هذا الخبر أثبته كبار المؤرخين وبخاصة من كان منهم من ثقات المحدثين كالبخاري وابن عبد البر والذهبي وابن كثير، وآخر من أيد هذا الخبر مجتهد اليمن ابن الوزير في كتابه (الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم) فانه على ما أطال في الدفاع عن رجال الحديث الذين لا يجوزون الكبائر على الصحابة، وما بالغ من ذلك فانه لم يستطع أن ينكر ما نسب إلى الوليد من أنه صلى الصبح وهو سكران ومما جاء في كتابه هذا:

(قال إمام أهل الحديث أبو عمر بن عبد البر في كتابه (الاستيعاب) في معرفة الصحابة عن الوليد:

(له أخبار فيها نكارة وشناعة تدل بقطع على سوء حاله) وبعد أن بيّن ابن عبد البر: أن أخباره في شرب الخمر ومنادمته لأهلها كثيرة، ذكر أنه صلى الفجر بأهل الكوفة ثم قال أزيدكم.

وإذا كان الدكتور قد قرر بحق أن إسلام الوليد كان رقيقاً وأنه غشَّ النبي، فإن وقوع مثل هذا الأمر ليس بغريب منه.

على أن ما فعله الوليد من شربه الخمر وصلاته وهو سكران قد استفاض بين الناس حتى

ص: 14

أكثروا من القول فيه ويبدو أن عثمان قد تباطأ في إقامة الحد عليه فقد روى البخاري عن عروة بن الزبير أن عبيد الله بن عدي أخبره أن المسوّر بن مخرم وعبد الرحمن بن الأسود قالا ما يمنعك أن تكلم خالك عثمان في أخيه الوليد بن عقبة فقد أكثر الناس (أي من تركه إقامة الحد عليه) فانتصبت لعثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: أن لي إليك حاجة وهي نصيحة، فقال: أيها المرء، أعوذ بالله منك، فانصرفت فلما قضيت الصلاة جلست إلى المسور وإلى عبد يغوث فحدثتهما بالذي قلت لعثمان، فقالا: قد قضيت الذي كان عليك! فبينما أنا جالس معهما إذ جاء رسول عثمان، فقالا: قد ابتلاك الله! فأتيته، فقال: ما نصيحتك؟ فقلت: أن الله بعث محمداً وأنزل عليه الكتاب وكنت ممن استجاب لله ورسوله (ص) وهاجرت الهجرتين وصحبت رسول الله (ص) ورأيت هديه. وقد أكثر الناس في شأن الوليد فحق عليك أن تقيم عليه الحد. وبعد أن أجاب عثمان بقول يذكر فيه إسلامه وموقفه من النبي (ص) وصاحبيه، قال: ما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شان الوليد بن عقبة فسنأخذ فيه بالحق أن شاء الله. ثم أمر بجلد الوليد فجلد أربعين جلدة في أصح الروايات! فقد خرج مسلم من طريق أبي ساسان قال: (شهدت عثمان أتي بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أنه قد شرب الخمر والذي تولى جلده عبد الله بن جعفر.

وتبين من سياق الأحداث واستقراء الأخبار أن عثمان رضي الله عنه لم يقم الحد على أخيه إلا لأنه صلى بالناس وهو سكران، لا لأنه شرب الخمر فحسب؟ إذ لو أقيم عليه حد الخمر فقط لوقع ذلك في كل يوم لأنه كان مدمن خمر!.

هذا ما نرى بيانه، ونرجو أن يوفق الدكتور في إتمام سائر الأجزاء التي رأى أن يكسرها على تأريخ الفتنة الكبرى، وأن يخرج ما بقي من عمله على غرار هذا الجزء الذي بين أيدينا.

ولعله بعد ذلك يتخذ سبيله إلى تأريخ الأدب العربي تأريخا مستفيضاً مفصلا حتى يؤدي ما عليه من دين للغة العربية وآدابها.

المنصورة

محمود أبو رية

ص: 15

‌صدى مقتل الحسين في التاريخ الإسلامي والأدب

‌العربي

للأستاذ ضياء الدخيلي

في محرم الحرام تغشى الكآبة والحزن الأقطار التي يتغلب فيها التشيع لآل البيت عليهم السلام كما في العراق وإيران والهند وأقسام في الأفغان والتبت في الصين وجبل عامل في لبنان ومحلة الأمن في دمشق ومحلات المتاولة (أي المتولين لأهل البيت) وبعض عشائر الحجاز حوالي المدينة وفي البحرين الكويت وتركستان والففقاز في روسيا ومحلات أخرى أجهلها. في الأصقاع الشيعية تجد المساجد والجوامع تجلل في محرم من كل عام بالسواد القاتم حزناً على شهيد كربلاء وتخرج المواكب باكية معولة تندب ابن بنت رسول الله (ص) الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) الذي قتله جند عبيد الله بن زياد بأمر من يزيد بن معاوية وذلك عام 61 هـ (680م) - قتلوه هو وصحبه الكرام وأهل بيته حتى طفله الرضيع ومثلوا بأجساد الطاهرة وأحرقوا خيامهم وسبوا نساءهم وذلك في كربلاء على مسافة من الكوفة عاصمة أبيه الأمام (ع) وقد بالغوا في القسوة وفظاعة التمثيل وحرموه هو وأطفاله الماء حتى مات عطشان! كل ذلك لأخافه شيعة أبيه في العراق وقصد إخماد كل ثورة يحتمل أن يقوم بها الشيعة في العراق للانفصال من الحكم الأموي؛ ولكنهم اقترفوا من الفظائع ما أثار حفيظة العالم الإسلامي وأغضب كل من وقف على الواقعة من الناس حتى المستشرقين، فاقرأ ما كتبه المستشرق الفرنسي سيديو في كتابه (تاريخ العرب العام) والمستشرق الإنجليزي ميور في كتابه (الخلافة بزوغها وانحداره وسقوطها) - إنك لتجد أقلام هؤلاء على نصرانيتهم - تسيل سخطاً على الجيش الأموي وما قام به في كربلاء من ظلم وعدوان. لذلك صار اسم محرم رمز الحزن والكآبة في العالم الإسلامي وكان شهر النوح والبكاء عند الشيعة على الأخص فقد حدث المؤرخون أن الشيعة في العهد الأموي كانوا يعقدون المواكب والاحتفالات الصاخبة، وقد اتخذوا يوم كربلاء يوم حزن ورثاء، وكانوا يولونه كثيراً من عنايتهم فيجتمعون في الأسواق ويسيرون المواكب ويلزمون أنفسهم الامتناع عن تناول أطايب الطعوم ولذيذ المشروب ويتناشدون الأشعار بالنوح على الحسين (ع) والطعن في قاتليه! وظل الحال على ذلك في العراق إلى أن تولى الحجاج بن يوسف

ص: 17

الثقفي العراقيين في عهد عبد الملك بن مروان فقابل الشيعة بالضد وحمل الناس على اتخاذ هذا اليوم عيداً وألزمهم لباس الثياب الفاخرة وتناول الأطعمة الشهية واتخاذ صنوف الحلوى والافتنان فيها ومنها الحبوب المطبوخة باللبن والسكر وكان من نتيجة ذلك أن وقعت مصادمات دامية بين الشيعة والسنة وحدثت مجازر مؤلمة بين المسلمين وقانا الله شرها.

حتى إذا قامت الدولة البويهية في العراق جعلت الاحتفال بذكرى مصرع الحسين أمراً رسمياً تلتزم القيام به الدولة المستولية على أزمة الحكم. قال السيوطي في (تاريخ الخلفاء)، وفي سنة 352 هـ يوم عاشوراء ألزم معز الدولة (البويهي) الناس بغلق الأسواق ومنع الطباخين من الطبيخ ونصبوا القباب في الأسواق وعلقوا عليها المسوح (والمسوح جمع المسح وهو الكساء من شعر، وما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً وقهراً للجسد) قال السيوطي وأخرجوا نساء منشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على الحسين! وهذا أول يوم نيح عليه ببغداد. واستمرت هذه البدعة سنين: وفي 18 ذي الحجة منها عُمل عيد غدير خم وضربت الدبادب (والدبادب جمع الدبداب وهو الطبل سمي بذلك حكاية لصوته).

وقال ابن الأثير في أخبار سنة 352 هـ وفي هذه السنة عاشر محرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء وأن يظهروا النياحة ويلبسوا قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرجوا النساء منشرات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن يدرن في البلد بالنواح ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي (ع) ففعل الناس ذلك. ولم يكن للسنية قدرة على المنع منه لكثرة الشيعة ولأن السلطان معهم. وفي 18 ذي الحجة أمر معز الدولة بإظهار الزينة في البلد وأشعلت النيران بمجلس الشرطة وأظهر الفرح وفتحت الأسواق بالليل كما يفعل ليالي الأعياد، فعل ذلك فرحاً بعيد غدير (وضربت الدبادب والبوقات وكان يوماً مشهوداً) وقال أبو المحاسن في (النجوم الزاهرة) في حوادث سنة 363 وفيها أعاد عز الدولة يختار النوح في يوم عاشوراء إلى ما كان عليه.

وقال ابن الجوزي في المنتظم في أخبار سنة 352 فمن الحوادث فيها أنه في اليوم العاشر من المحرم غلقت الأسواق ببغداد وعطل البيع ولم يذبح القصابون ولا طبخ الهراسون ولا ترك الناس أن يستقوا الماء ونصبت القباب في الأسواق وأقيمت النائحة على الحسين (ع).

ص: 18

والظاهر أن ما سنه معز الدولة البويهي استمر في بغداد والعراق وتمسك به شيعة بغداد والتزموا القيام به في كل عام؛ حتى اليوم تجد تلك المواكب الحزينة الباكية تقام في العراق ومنه أخذها العالم الإسلامي الشيعي. وقد جر إصرار الشيعة على إقامة تلك التقاليد المذهبية أن حدثت عدة أصطدامات بينهم ويبن إخوانهم الأعزاء من أبناء السنة! ففي الأيام الأخيرة عندما حاول يأسين باشا الهاشمي منعها قامت ثورات دامية في الفرات في لواء الديوانية وفي لواء الناصرية.

أما في العصر العباسي الأخير فقد كانت الفتن المذهبية قائمة على قدم وساق بين الشيعة والسنة من أجل إصرار الشيعة على إحياء المواكب العزائية في كل عام وقت محرم كما سنها معز الدولة البويهي ومن سبقه في العصر الأموي قبل أن يجعل الحجاج يوم عاشوراء عيداً نكاية بشيعة العلويين.

قال ابن الأثير في حوادث سنة 441 هـ وفيها منع أهل الكرخ من النوح (على الحسين) وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا وفعلوا ذلك فجرى بينهم وبين السنية فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنية من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين. وأخرج الطائفتان في العمارة مالا جزيلا وجرت بينهما فتن كثيرة وبطلت الأسواق وزاد الشر حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به. وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوى بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر فسمع أهل الجانب الغربي ذلك فاجتمع السنية والشيعة على المنع منه وأصلحوا أمرهم بأنفسهم، وأذَّنوا في القلائين وغيرها بحي على غير العمل (وهذا النداء ينفرد به الشيعة في آذانهم) وأذَّنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم (وهذا نداء ينفرد به أذان السنية وقت الفجر) وأظهروا الترحم على الصحابة فبطل عبور النسوى) هذا ما نقله ابن الأثير وفيه ترى التشاحن بين أهالي بغداد لم يكن منبعثاً بدوافع مذهبية فحسب، بل أنه دخلت في تكوينه أسباب أخرى جاهلية هو ما كان بين المحلات من تفاخر، وهذا مظهر لانحطاط عقلية العامة من الناس في تلك العهود وانتشار الجهل بين الطبقات الاجتماعية الدنيا الذي أدى إلى توسيع شقة الخلاف.

ص: 19

قال ابن الأثير ثم تجددت الفتنة سنة 443 هـ في صفر وعظمت أضعاف ما كانت قديماً فكان الاتفاق المتقدم غير مأمون الانتقاض لما في الصدور من الإحن. ووصف ابن الأثير في الجزء الثامن ص 209 قيام بعض رجال الدولة العباسية من أهل السنة بالانتقام من شيعة الكرخ بإحراق أسواقهم ودورهم بوضع النار في عدة مواضع منها مما أدى إلى احتراق سبعة عشر ألف إنسان وخسارة عظمى في الأموال وهذا من أفظع صور المعارك الطائفية في العصر العباسي الأخير مما مهد إلى انقراض الدولة الإسلامية وذهاب ريحها.

قال ابن الأثير وفي سنة 502 هـ وقع الصلح ببغداد بين السنية والشيعة بعد فتن تكررت بينهم سنين عديدة، ولم يستطع خليفة ولا سلطان أن يصلح بينهم، (بل الصحيح أن الملوك لم يكونوا يريدون الإصلاح، بل كانوا يزيدون النار حطباً على أساس القاعدة: فرق تسد) فترى مما تقدم ما تركه مصرع سيدنا الحسين (ع) من أثر سيئ ظل يدوي صداه في الإعصار الإسلامية! وقد سبب مجازر طائفية دامية أضاعت شوكة الإسلام وشغلت المسلمين بأنفسهم وألقت بأسهم فيما بينهم وأعداؤهم يتربصون بهم الدوائر، ويتحينون الفرص للانقضاض عليهم وتدمير معالم حضارتهم وإلقاء نير العبودية في رقابهم وقد سنحت لهم الفرصة في عهد المستعصم الذي قام جيشه بأفضع مجزرة طائفية في الكرخ إذ قتل ونهب وسبى العلويات بقيادة (أمير الجيش) وأبي بكر ابن المستعصم كما وصف الحادثة ابن الفوطي من أبناء ذلك العصر في كتابه (الحوادث الجامعة والعبر النافعة في المائة السابعة).

وأما في مصر فقد قال المقريزي في (خططه) ج2 ص385 عن عاشوراء كان الفاطميون يتخذونه يوم حزن تتعطل فيه الأسواق ويعمل يفه السماط العظيم المسمى سماط الحزن وقد ذكر عند ذكر المشهد الحسيني فأنظره، وكان يصل إلى الناس منه شيء كثير. فلما زالت الدولة اتخذ الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسعون فيه على عيالهم ويتبسطون في المطاعم ويصنع الحلاوات ويتخذون الأواني الجديدة ويكتحلون ويدخلون الحمام جرياً على عادة أهل الشام التي سنها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه الذي يتخذون يوم عاشوراء يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي لأنه قتل فيه وقد أدركنا بقايا مما عمله بنو

ص: 20

أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط وكلا الفعلين غير جيد والصواب ترك ذلك والاقتداء بفعل السلف فقط.

وكان الفاطميون ينحرون يوم عاشوراء عند القبر (أي قبر رأس الحسين (ع) الذي نقله الأفضل بن أمير الجيوش من عسقلان في فلسطين إلى مصر) - الإبل والبقر والغنم ويكثرون النوح والبكاء ويسبون من قتل الحسين (ع) ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم.

قال ابن زولاق في كتاب (سيرة المعز لدين الله): في يوم عاشوراء من سنة 353 هـ انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين قبر كلثوم ونفيسة (يقول المقريزي أن السيدة كلثوم هي بنت القاسم بن محمد بن جعفر الصادق (ع) والسيدة نفيسة هي بنت الحسن بن زين العابدين بن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وقد توفيتا بمصر ودفنتا هناك) ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم بالنياحة والبكاء على الحسين (ع) وكسروا أواني السقاءين في الأسواق وشققوا الروايا وسبوا من ينفق في هذا اليوم ونزلوا حتى بلغوا مسجد الريح وثارت عليهم جماعة من رعية أسفل فخرج أبو محمد الحسين بن عمار وكان يسكن هناك في دار محمد بن أبي بكر وأغلق الدرب ومنع الفريقين ورجع الجميع فحسن موقع ذلك عند المعز ولولا ذلك لعظمت الفتنة لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور وعطلوا الأسواق وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعز (الفاطمي) بمصر. وقد كانت مصر لا تخلو منهم في أيام الإخشيدية والكافورية وكانوا يجتمعون في يوم عاشوراء عند قبر كلثوم وقبر نفيسة. وكان السودان وكافور يتعصبون على الشيعة وتعلق السودان في الطرقات بالناس ويقولون للرجل من خالك؟ فإن قال معاوية أكرموه، وإن سكت لقي المكروه وأخذت ثيابه وما معه حتى كان كافور قد وكل بالصحراء ومنع الناس من الخروج.

وقال المسبحي (قال لي الدكتور مصطفى جواد هو عز الدين المسبحي له كتاب مفقود في تاريخ الدولة الفاطمية ومسبح هنا اسم مفعول من سبح بالتشديد) - وفي يوم عاشوراء من سنة 396 هـ جرى الأمر فيه على ما يجري كل سنة من تعطيل الأسواق وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة ونزولهم مجتمعين بالنوح والنشيد؛ ثم جمع بعد هذا اليوم قاضي

ص: 21

القضاة عبد العزيز بن النعمان سائر المنشدين الذين يتكسبون بالنوح والنشيد وقال لهم لا تلزموا الناس أخذ شيء منهم إذا وقفتم على حوانيتهم ولا تؤذوهم ولا تتكسبوا بالنوح والنشيد، ومن أراد ذلك فعليه بالصحراء. ثم اجتمع بعد ذلك طائفة منهم يوم الجمعة في الجامع العتيق بعد الصلاة وأنشدوا وخرجوا على الشارع بجمعهم وسبوا السلف فقبضوا على رجل ونودي عليه هذا جزاء من سب عائشة وزوجها (ص) وقدم الرجل بعد النداء وضرب عنقه.

وقال ابن المأمون وفي يوم عاشوراء يعني سنة 515 هـ (وذلك في عهد الآمر بأحكام الله سنة 1121 م) عبئ السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر التي كان يسكنها الأفضل ابن أمير الجيوش وهو السماط المخصص بعاشوراء وكان يعبأ في غير المكان الجاري به العادة في الأعياد ولا يعمل مدورة خشب بل سفرة كبيرة من أدم والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخللات، وجميع الخبز من شعير وخرج الأفضل من باب (فرد الكم) وجلس على بساط صوف من غير مشورة واستفتح المقرئون واستدعى الأشراف على طبقاتهم وحمل السماط لهم وقد عمل في الصحن الأول الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود ثم بعده عدس مصفى إلى السماط ثم رفع وقربت صحون جميعها عسل نحل.

ضياء الدخيلي

ص: 22

‌ركن المعتزلة:

قدرة الله في مذهب المعتزلة

للدكتور ألبير نصري نادر

- 2 -

تقول المعتزلة أن الله لا يفعل إلا ألأصلح وأن قدرته لا تأتي إلا بما هو كمال! فقط هناك نقطتان ذواتا أهمية كبرى وهما التوفيق بين قدرة الله تعالى وحرية الاختيار عند الإنسان من جهة ومن جهة أخرى مسألة الظلم: هل يمكن أن يفعله أم لا يمكن.

قدرة الله وقدرة الإنسان على أعماله:

لما كان الله قادراً على كل شيء، ولما كانت قدرته لا متناهية كذاته ومتجهة دائماً نحو الكمال، فمن أين إذن الشر والمعصية وما يترتب عليهما من عقاب وألم؟ إنهما لا يقعان إلا عن كائن حر الاختيار في نياته وأعماله، يتردد ثم يختار ويعزم. وفي تردده هذا دليل على عجزه وعدم كماله. ويترتب على اختياره نتائج ملائمة لما اختاره من عمل حسن أو سيئ. فأين قدرة الله من عمل الإنسان هذا؟ أن قدرته تعالى تحدها حرية الإنسان. والمعتزلة يتمسكون بشدة بهذا المبدأ ويبنون عليه المسألة الأخلاقية بكاملها.

ربما أن الثواب أو العقاب هو نتيجة لما اختاره الإنسان بمجرد حريته فلا يمكن الله أن يغير أو يبدل في هذا الثواب أو العقاب. ويقول النظام بهذا الصدد: أن الله لا يقدر على أن يخرج أحداً من أهل النار. ويقول أيضاً: لو وقف طفل على شفير جهنم لم يكن الله قادراً على إلقائه فيها وقدر الطفل على إلقاء نفسه فيها. إننا لا نعب من قول المعتزلة هذا لأنهم أثبتوا من جهة قدرة الله لا متناهية؛ وهي في مذهبهم ليست سوى الذات؛ وأثبتوا من جهة قدرة الإنسان على أنه حر في اختيارها. وبعد ذلك وجدوا أنفسهم أمام مشكلة عويصة وهي هل الله قادر على كل شيء: على الظلم والجور كما هو قادر على العدل؟ وبمعنى أوضح هل يقدر الله تعالى أن يثيب من استحق العقاب وان يعاقب من استحق الثواب؟ بحثت المعتزلة هذه المسألة على ضوء العدل وسنبين فيما بعد الحل الذي أتوا به وقبل أن تعرض لهذا الحل نذكر هنا عقيدة راسخة عند المعتزلة استنتجوها من قولهم بعدل الله وقدرة

ص: 23

الإنسان على أعماله، وهي أن الله تعالى يعمل لما فيه صالح الخلق ولكنه يترك الإنسان حراً في اختياره. ولما كان الله تعالى لم يزل يعلم ما يختاره الإنسان من أعمال فإنه يأتي أحياناً بلطف من عنده لمساعدة ذوي الإرادة الحسنة. لذلك يقول بشر ابن المعتمر أن الله لو علم من عبد أنه لو أبقاه لآمن كان إبقاؤه إياه أصلح له من أن يميته كافراً فنلمس هنا مسألة اللطف الذي يتدارك به الله الفاسق. ولكن المعتزلة تقول أن هذا اللطف لا يمنح إلا في حالات شاذة نادرة. وخلاص نفوسنا أو هلاكها عائد إلينا، وذلك بفضل حرية اختيارنا لذلك يقول بشر بن المعتمر ومعه جميع المعتزلة أن الله لا يكون موالياً للمطيع في حال وجود طاعته، ولا معادياً للكافر في حال وجود كفره؛ وإنما يوالي المطيع في الحالة الثانية من وجود طاعته، ويعادي الكافر في الحالة الثانية من وجود كفره.

هذا قول واضح بأن الإنسان بمحض إرادته يصبح مطيعاً أو كافراً ولا قدرة لله في ذلك. وبعدما يصبح الإنسان مطيعاً (وهي الحالة الثانية التي يتحدث عنها المعتزلة) حينئذ يكون الله موالياً له! وبعدما يصبح كافراً (وهي الحالة الثانية في الكفر) حينئذ يكون الله معادياً له. ويستدل المعتزلة على ذلك بقولهم إنه لو جاز أن يساعد الله الإنسان في حال وجود الطاعة فيه لجاز أن يساعده في حال وجود الكفر فيه. وهذا محال في مذهبهم لأن الله لا يفعل الشر! والشر في الحقيقة هو المعاصي الموصلة إلى عذاب الله، على حسب قول قاسم الدمشقي.

الحكمة في أعمال الله:

تقول المعتزلة عن الله غاية في الحكمة ولا يفعل إلا الإصلاح فهو تعالى لا يعمل شيئاً اتفاقاً أو جزافاً. فعليه توجد قوانين ثابتة ومحددة من لدن حكمته تعالى تسوس جميع الأمور في هذا العالم؛ وهذه القوانين خاضعة لحكمة الله الكاملة. فيجب أن ننظر إلى كل ما يحدث في الدنيا كأنه تعبير لهذه الحكمة. وعقل الإنسان، في رأيهم، يمكنه أن يدرك هذا النظام الكامل في العالم والذي يدل على وجود خالق أزلي حكيم كامل عادل.

هل يقدر الله على أن يظلم؟

يبدو هذا السؤال غريباً في مذهب المعتزلة القائلين بأن الله كلي الكمال! ولكنهم بالرغم من

ص: 24

ذلك فحصوا هذا السؤال حتى يوضحوا فكرتهم عن الله ويجلوها.

من الجلي أنهم جميعاً يردون أي فكرة تؤدي إلى الاعتقاد بأن هناك ظلماً في عمله تعالى وهم يرددون دائماً بأن الله يفعل ما فيه صالح الخلق فإذا بحثت المعتزلة هذا الموضوع فيكون ذلك من جهة القدرة فقط، وليس من جهة عمل الظلم فعلا من لدنه تعالى. فيكون الموضوع مجرد بحث نظري. وعلى هذا الشكل نجد حلين مختلفين لهذا السؤال عند المعتزلة.

الحل الأول: القول بالقدرة:

القائلون بها من المعتزلة هم ابو الهذيل العلاف وأبو موسى المردار وجعفر بن حرب وبشر بن المعتمر. وقولهم مقتضى أن الله يمكنه أن يفعل الظلم ولكنه لا يفعله أبداً وأوضح المردار حجتهم في ذلك بقوله: أن الله يوصف بالقدرة على العدل وعلى خلافه وعلى الصدق وعلى خلافه، لأن هذه هي حقيقة الفاعل المختار أن يكون إذا قدر على فعل شيء قدر على ضده وتركه ولكن يضيف المردار إلى هذا قوله: ولو فعل تعالى مقدوره من الظلم والكذب لكان إلها ظالماً كاذباً وهذا ما يناقض فكرة الله عند المعتزلة وتعريفهم له تعالى إذ يقولون أن ذات الله هي الكمال والظلم لا يقع إلا عن كائن غير كامل. فإذن يستند أصحاب هذا الرأي على فكرة الاختيار عند الله ليقرروا أنه تعالى قادر على الظلم؛ ولكنهم يعودون ويقولون أن الله لا يفعله. ويقول أبو الهذيل في هذا الصدد: أن الله يقدر على الظلم والكذب ولكنه لا يفعلهما لقبحهما وهو تعالى كامل لا يفعل القبيح. ويضيف جعفر بن حرب قوله: لن يسأل هؤلاء المعتزلة: أفمعكم أمان من أن الله لا يفعل الظلم وهو قادر عليه؟

(أ) قلنا: نعم هو ما أظهر من حكمته وأدلته على نفي الظلم والجور والكذب.

(ب) فيستنتج من ذلك أن المعتزلة القائلين بقدرة الله على الظلم لأنه مختار لأفعاله يذهبون في آخر الأمر إلى القول بأنه لا يفعل الظلم لأنه تعالى كامل ولأن الظلم قبيح في ذاته. ولهذين السببين يقولون أن الله مع قرته على الظلم لا يفعله.

الحل الثاني: القول بعدم القدرة:

يقول النظام وعلى الأسواري والجاحظ والإسكافي أن الله لا يوصف بالقدرة على الظلم

ص: 25

والكذب وعلى ترك الأصح من الأفعال إلى ما ليس بأصح وأحالوا أن يوصف الله بالقدرة على عذاب المؤمنين والأطفال وإلقائهم في جهنم لأن المخلوق العاقل في رأيهم يقدر أن يفعل الشر كما يقدر أن يفعل الخير لأن إرادة الإنسان الحرة يمكنها أن تختار بين الخير والشر وهي تثاب أو تعاقب حسب ما اختارته من أعمال. ولكن لا يوجد هذا الاختيار في قدرة الله، لأن قدرته تعالى على قول هؤلاء المعتزلة لم تزل متجهة فقط نحو الخير المطلق. وللنظام حجته في ذلك. فهو يقول: أن القبح إذا كان صفة ذاتية للقبيح وهو المانع من الإضافة إليه فعلا ففي تجويز وقوع القبيح من الله تعالى قبح أيضاً! فيجب أن يكون مانعاً. ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم، لأنه لو وصف بالقدرة عليه لكان عنده ميل إلى الظلم. وهذا الميل نقص وضعف مما يناقض ماهيته تعالى الكاملة. وخلافا لمن زعم من المعتزلة أن الله يقدر على أن يظلم، يقول النظام إننا لا يمكننا أن نصف الله بهذه القدرة لأن ذاته تعالى لم تزل ثابتة وليس فيها أي ضعف أو عجز. لذلك يقول النظام أن الله لا يقدر على أن يفعل لعباده في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم، كما انه لا يوصف بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئاً، ولا على أن ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحداً من أهل الجنة. وليس ذلك مقدوراً له لأن الظلم والكذب لا يقعان إلا من جسم ذي آفة. فالواصف لله بالقدرة عليهما قد وصفه بأنه جسم ذو آفة. ثم هناك قول آخر شديد لأبي جعفر الإسكافي في هذا الصدد إذ يقول أن الأجسام تدل بما فيها من العقول والنعم التي أنعم الله بها عليها على أن الله ليس بظالم لها. والعقول تدل بأنفسها على أن الله ليس بظالم. فليس يجوز أن يجامع دفوع الظلم منه ما دل لنفسه على أن الظلم ليس يقع منه.

هذان القولان: القول بقدرة الله على الظلم والقول بعدم قدرته تعالى عليه، ولو أنهما مختلفان إلا أن النتيجة التي يصلان إليها واحدة وهي أن الله لا يظلم أبداً حتى ولو قدر على الظلم. إلا أن أصحاب القول الأول بنوا رأيهم على فكرة وجود الاختيار عند الله في حين أن أصحاب القول الثاني لا يقولون بهذا الاختبار لأن الله في زعمهم غير مختار وهو الكمال المطلق، والاختيار تفضيل أمر على أمر وهذا ليس من خصائص الله تعالى. والذي جعل أصحاب القول الأول يتراجعون ويقولون إنه تعالى لا يأتي الظلم هو أن الظلم قبيح في ذاته وأن الله كمال مطلق. فالفارق بين هؤلاء وهؤلاء فارق نظري بحت.

ص: 26

ألبير نصري نادر

دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 27

‌اذكريني

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

اذكريني إذا استفاض الضياء

فاستقرت في خدرها الظلماءُ

وبدا الفجر شادياً بالأغاني

فإذا الكون فرحة وغناء

هو طفل على الروابي غرير

راقص الخطو، باسم، وضاء

تخشع الأرض حين يمشي عليها

وتناجيه بالأغاني السماء

ولدته الظلماء معشوقة اللي

ل، ولليل شهوة حمراء

أطلعته إلى الوجود وجوداً

ماؤه الحب، والمنى، والرجاء

فيه منها صبابة وحنين

وبه من عشيقها أهواء

أنت فجر الحياة في قلبيَ البا

كي، وأنت الطبيعة العذراء

واذكريني إذا تراءى الصباحُ

فتهادت في نوره الأرواحُ

ورأيت الطيور تبعث في الأف

ق أغاريد كلها أفراح

ورأيت الزهور يخفق فيها الط

ل، والظل، والسنا اللماح

عطرها خمرة القلوب، وإن كا

ن طليقاً لم تحوه الأقداح

أنت قيثارتي وألحان قلبي

ونشيدي المعطر الممراح

جنة أنت في صحارى حياتي

وأنا فيك بلبل صداح

في دمي لحنك الشجي وفي قل

بي المعنَّى عبيرك الفواح

فاذكريني ما هام في الجو عطر

وتسامى على الرياح جناح

واذكريني إذا الأصيل تجلى

شاحب النور، واهنا، مضمحلاً

أبصر الليل مسرعا، فاعترته

رهبة أرعشته نوراً وظلا

كل شيء فيه أراه بقلبي

أملاً راحلا، وعمراً تولّى

أنا مثل الأصيل تذبل في قل

بي الأماني كأنني صرت كهلا

لم أمت غير أنني أدرك المو

ت بروحي، كأنني مت قبلا

طالما رن صوته في حياتي

وبدا طيفه عليها مطلا. .

بليتْ جدَّةُ الشباب كما تَبْ

لى الليالي، وكل شيء سيبلى

ص: 28

فاذكريني عند الأصيل! ففيه

من حياتي مشابهٌ تتجلى

واذكريني إذا رأيت الغروبا

والسنا راحل يؤم الغيوبا

ورأيت السماء قلباً حزيناً

موشكا من صبابة أن يذوبا

فقد الشمس، وهي إلف عزيز

فبكى إلفه العزيز الحبيبا

وانحنى ضارعاً يطل عليها

وينادي لعلها أن تجيبا

آه من لوعة الغروب التي تم

لأ قلبي صبابة ونحيبا

آه من روعة الغروب التي تل

هم نفسي فناً جميلا عجيبا

إن نفسي من الغروب أراها

وأراه فراشة ولهيبا

فاذكريني عند الغروب غروباً

قد أطل الدجى عليه رهيبا

واذكريني إذا المساء طواني

قلق النفس، حائر الوجدان

فإذا بي أرى أمانيَّ تمضي

في فضاء تضل فيه الأماني

وأحسن الظلام ينساب في أغ

وار نفسي، وفي صميم كياني

وأرى الروح، وهي تمضي بعيداً

عن قيود المكان خلف الزمان

أطلقتها يد المساء، وقد كا

نت تعاني في سجنها ما تعاني

فاستقرت في عالم خلعته

قبل أن تلبس الوجود الثاني

إن هذا المساء يسمو بروحي

وبنفسي عن عالم الإنسان

فاذكريني عند المساء، ففيه

تخلص النفس من قيود المكان

واذكريني في الليلة القمراء

والدجى غارق بنهر الضياء

والسماء الضحوك تنساب بالنو

ر، وتُزهي ببدرها الوضاء

والضياء الشفيف لحن شجي

عزفته ملائك في السماء

والنسيم اللطيف أرواح عشا

ق تغني بحبها في الفضاء

آه من روعة الضياء، وما تب

عث في النفس من أمان وِضاء

ليتني كنت ذرة من ضياء

في جواء طليقة الأرجاء

ليتنا نعبر الفناء بروحي

نا إلى عالم وراء الفناء

حيث نحيا في عالم الخلد والمج

هول، والسحر، والرؤى، والخفاء

ص: 29

وإذا ضمك السكون الحبيبُ

في مساء تحن فيه القلوبُ

فاذكري أنني أناديك بالرو

ح، وما لي إلا صداها مجيب

وأقول الأشعار فيك، وفيها

مهجة في لظى الجراح تذوب

نحن روحان عاشقان، ولكن

بيننا في اللقاء شيء رهيب

أنت في الشام يا شقيقة نفسي

وأنا هاهنا بمصر غريب!

عذبتني الحياة حتى لقد صر

ت كأني في نارها مصلوب

كم تمنيت أن أقيم بأرض

أي أرض وأنت مني قريب

غير أن الزمان يسرع بالأيام

والشمس. . . شمس عمري تغيب

وإذا قلت شعرك الولهانا

فاملئيه ضراعة وحنانا

واذكري أنني أذوِّب قلبي

في قصيدي، وأسكب الوجدانا

أنت قربتني ففجرت في قل

بي وروحي الغناء والألحانا

ثم أقصيتني فصارت حياتي

تستثير الأنين والأشجانا

يا منى الروح كيف هان على قل

بك قلبي؟ تكلمي! كيف هانا؟

رسمك المفتدى يثير حنيني حين آتيه أنشد السلوانا!

ورسالاتك الرقيقة أتلو

ها، فأنسى نفسي، وأنسى الزمانا

فاذكريني، فلم يعد لي سوى الذك

رى عزاء عما انطوى من هوانا

واذكريني إذا طواني الفناءُ

كشعاع تضمنه الظلماءُ

فرأيت الحياة تنسلُّ من جس

مي، كأفق ينسل منه الضياء

ورأيت السكون يرسب في رو

حي، فلا نامة، ولا أصداء

وتذكرت ما مضى من حياتي

وحياتي مدامع ودماء!

فبكت روحي الحزينة، والدم

ع من الحزن سلوة وشفاء

هذه سنة الحياة: بكاءٌ

حين نأتي! وحين نمضي بكاء؟

آه من رهبة الفناء، وإن كا

ن حبيباً إليَّ هذا الفناء؟

فاذكريني إذا مضيت عن الدن

يا وحيداً حتى يحين اللقاء

وإذا جئت يا هوى أيامي

من بلاد عطريّة الأنسام

ص: 30

فاذهبي مرة إلى قبري الثا

وي بعيداً في العزل المترامي

والمسيه في رقة وحنان

عن فيه قلبي، وفيه حطامي

وضعي زهرة عليه، وفيها

ألقٌ من جبينك البسام

واسكبي دمعة عليه، وفيها

سر ما تكتمين من آلام

وأقرئي شعرك الرقيق على قب

ري، فتهفو من الحنين عظامي

واسمعي شعري المولّه تبكي

فيه أشواق روحي المستهام

واعلمي أنني مضيت عن الدن

يا، وما نلت غايتي ومرامي

لم أنل منك ما يخدّر إحسا

سي، وما ذقت ما يبل أوامي

فقضيت الحياة أمعن في الأح

لام حتى فنيت في الأحلام

وأغذي الأيام بالوهم حتى

صار عمري وهما من الأوهام

فاذكريني مدى الحياة محباً

صادق الحب، واذكري أيامي

إبراهيم محمد نجا

ص: 31

‌حرمان.

. .

للأستاذ عمر النص

أتكفر بي يا شباب المنى. . .

وقد وهبتك يداي الشباب؟

طغت كبرياؤك حتى سدلت

على ناظريَّ نقاب العذاب

تركت لك الزهو. . زهو الصبا

وودعت تلك الأماني الكذاب

على مقلتيَّ يلوح العياء

وتخنى كتفي الصعاب

وأخرست في شفتي اللحون

وأطبقت كفي فوق الرباب

وأقبلت أنثر بين يدي

ثمار الغدو ومحْل الإياب. .!

وألفيتني في عباب الذهول

أقلب طرفي خلال السحاب

أحدق على أمسَّ الغيوب

وأبصر ماذا وراء الحجاب.؟!

وأهفو إلى حلم لا أراه

ولكن ألامحه في الضباب

يطوح بي في شعاب الظنون

وتقذف بي في خضم العتاب

أفر له من لهاث الحنين

وأهرب من وسوسات العقاب

نفرت إليه أُريح الحشا

فبعثرت فيه المنى والرغاب

فضاء نفضت عليه اليقين

وضيعت فيه الظنون العذاب

طفقت أؤمل فيه الحياة

فلم ألف غير البلى والخراب

وعدت إلى الوهم أسقي الخيال

فغص الخيال وجف الشراب

وكنت ازدريت السراب الغوي

فمن ذا يعيد إليَّ السراب. .؟!

تلاشى السباب. . ولما يكن

سوى ورقة في الرياح الغضاب

تمشي به اليبس قبل الينوع

وألقت به الريح فوق التراب!

ص: 32

‌مشكلات الفلسفة:

في الحرية

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

تأخذ الحرية لدى الشبان معنى لا يمكن أن تعرفه ولا أن تتوصل إليه أذهان الشيوخ، ويكون لهذه الكلمة من الوقع في نفوس المقبلين على ميادين الحياة البكر أكثر مما يكون لها عند الذين أشرفت عهودهم على النهاية واقتربت أعمارهم من الختام. فالحرية لا يمكن أن تكون موضوع بحث أو مثار نزاع إلا في الأطوار الأولى من حياة الأفراد، حيث تسبغ البكارة غموضها على كل شيء، وتبعث الطفولة أحلامها في كل معنى، وتقحم المثل الإنسانية تصويرها من كل جانب. وإذا صح هذا كنا بازاء نتيجتين: إحداهما أن الحرية تقترن بالجهل دائماً، وثانيهما أن العادة هي العدو الأكبر لما تؤدي إليه الحرية من صنوف العمل وضروب الإنتاج.

ولتوضيح هاتين النظريتين ينبغي أن نبدأ فنؤكد تلك الصلة الوثيقة بين الجهل والحرية عن طريق ما يسمونه في الفلسفة بالممكنات. أليست الممكنات أشياء مجهولة عند من يريد أن يضعها موضع البحث والتأمل؟.

نعم، هي كذلك بلا مراء ما دمنا بعيدين عن دائرة الوجود الحقيقي، وما دمنا مقتصرين على تدبر الاحتمالات النظرية بخصوص شأن من الشئون. وكان أرسطو في الفلسفة القديمة يفرق بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل على أساس أن الأول هو الشيء الذي لا يزال في حكم العدم، وإن راودنا الأمل في وجوده بعد حين. أما الأشياء الموجودة بالفعل، فهي تلك التي تقوم من حولنا والتي تظلنا بظلها وتثقل علينا بوطأتها وتعيش في العالم الظاهر المحسوس. وهناك اختلاف كبير ينبغي أن نلاحظه بين العدم الخالص وبين الوجود بالقوة؛ فهذا على الرغم من أنه غير موجود، يقع في دائرة الإمكان وينظر الإنسان إليه نظرته إلى شيء سيأتي به المستقبل على وجه من الوجوه.

أما العدم، فهو حقيقة خالية من أنه مضمون، ويستحيل أن يكون في المستقبل بحال من الأحوال، ولا يملك في ذاته ما يعينه على أن يتحقق، أي أن يكون شيئاً ما. وعين هذه التفرقة التي وضعها أرسطو هي التي ترددها اليوم فلسفة الوجود على وجه يختلف قليلاً

ص: 33

من ناحية الاصطلاح اللفظي ولا يختلف كثيراً من ناحية المضمون المعنوي.

فالفلسفة الوجودية والفلسفات الحديثة عموماً تضع كلمة الممكن في مقابل الاصطلاح الأرسطي (الوجود بالقوة)، وتضع كلمة الوجود للتعبير عما هو قائم في حدود الأشياء الماثلة أو داخل ضمن الكائنات الحية وكل امتياز للممكن على العدم يتلخص في قدرته على أن يكون، وفي احتوائه على ما يمكن أن يهيئ له الحياة، وفي شموله على المعبر الذي يمكن أن ينقله إلى دائرة الوجود. ولما كان الأمر كذلك بالقياس إليه، فقد صاحب الإنسان عند مواجهته شعور بالإبهام لا يستطيع أن يفسره إلا على أساس من جهله بهذا الشيء - أستغفر الله - بل بهذا اللاشيء. وكلما كان الإنسان في عهد مبكر، وكلما قلت تجاربه وضعفت خبرته كان أقرب إلى هذا الشعور بالجهل. فالوقوف بازاء المجهول من شأنه أن يولد في النفس إحساساً غريباً بتعدد الوجوه التي يمكن أن تتصور فيها الأشياء، وبكثرة الخطط التي يمكن أن تؤدي إليها المسالك، وبقوة الاحتمال فيما هو ممكن غامض. وإذا زاد الجهل بالإمكانيات إلى هذا الحد استشعر الإنسان بالحرية على نحو لا يمكن أن يخايل صاحب المبدأ في المشاكل التي تعرض له، أو صاحب المنهج في المباحث التي يوقف نفسه عليها. فالمبادئ والمناهج لا تأتى إلا من كثرة التجارب ومن اعتياد المضي بالأمور على أنحاء محدودة. أما الجهل بما يترتب على فعل من الأفعال وعدم انتظار نوع بالذات من أنواع الموجودات عقب إتيان أمر من الأمور، فمن شأنه أن يولد في صدر الإنسان ضرباً من الحرية، وطرازاً في الاختيار يندر وقوعه في غير هذه الظروف. فالجهل حليف من حلفاء الحرية لا يمكن إنكار أثره أو إهمال مفعوله عندما نحاول أن نقيم نظرية في الاختيار على أساس نظرية في الوجود.

ونستطيع أن نثبت هذا الشعور بالحرية لدى الجاهل عن طريق الأمثلة: فالأديب الذي يجهل المراجع الهامة في بحثه يكون أكثر حرية في الكلام من الأديب الذي يستوعب كل ما يكون قد قيل أو كتب حول الموضوع الذي يختص به! والسياسي المبتدئ يشعر للحرية برنين لا يمكن أن يطن في أذن السياسي المحنك. . . وقس على هذا المنوال بالنسبة إلى أي شخص في موقف من هذا القبيل، أو عندما يواجه أمراً من الأمور لأول مرة. وليس عبثاً ما كان قد جاء على لسان اسبنوزا في موضوع الحرية من أن الإنسان كلما ازداد علماً

ص: 34

ازداد معرفة بالضرورة الحاصلة في الوجود وبالحتمية الضاربة في أنحاء الكون. وتقتصر الفائدة المرجوة من وراء الفلسفة والمعرفة الصحيحة في أنها توقفه على قوانين الأشياء وتجعله قادراً بالتالي على متابعتها ومسايرتها.

وإذا كان من نعمة الجهل علينا أنه يجعلنا ننخدع عن أنفسنا ونحسب أن الحرية ملك أيدينا، وأننا نفعل ما نشاء أن نفعله من غير أن تتدخل قوة في الأرض أو في السماء، فمن بلوائه - في مقابل هذا - انه يملأ قلوبنا بالخوف، وينشئ في نفوسنا ضروباً من القلق، ويبعث في نفوسنا ألواناً من الجزع والهم. وذلك طبيعي ومعقول جداً إذا أنعمنا النظر في الحقيقة الماثلة أمامنا وتبينا فيها ملامح الغموض والإبهام وعدم التعين. فالإنسان في أمثال هذه المواقف يحس بالجزع حينما يواجه عالماً مستسراً غير معلوم لديه وليس داخلاً في نطاق تجاربه الذاتية. ويمكن أن نشبه هذه الحالة بموقف رجل للمرة الأولى أمام الميزان الذي لا يعمل إلا بعد وضع قرش مثقوب فيه. إنه لا شك سيحس بنوع من الخوف على القرش طيلة المد الذي يسبق خروج التذكرة المكتوبة. أما الرجل المتحضر المجرب لمثل هذه الآلة مرات ومرات فلا دخل للجزع في عمله هذا على الإطلاق، ولا يكاد يحس بأي إشفاق على القرش وهو يلقي به من داخل الثقب.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الفتى الذي يصوب عينيه نحو الزمن، هو يغض بالممكنات عن طريق المستقبل الغامض المجهول. يمتلكه الذعر ويهزه الخوف على ذلك الشيء الخفي وهو قاب قوسين أو أدنى من العدم. إنه يشرف على حقيقة الوجود وهي في طريقها أن تكون على نحو من الأنحاء لا يعلم مداه ولا يدرك منتهاه. حتى العلم الطبيعي الذي كان مجالا من مجالات الثبات واليقين قد فقد كل الصفات الحتمية والاطراد. فأصبح العالم غير متأكد من خلوص التجارب إلى نفس ما خلت إليه في الماضي على الرغم من توافر كل ما من شأنه أن يكفيها ويهيئها للحدوث على وجه واحد بالذات. فالإنسان عندما يواجه تجربة من أي نوع لأول مرة يكون في خوف من إلا تكون؛ أو أن تكون ولكن على نحو غير الذي يؤمل فيه ويطمح إليه. وقد تتغلب المعرفة أو التجارب الكثيرة على هذا الشعور بالخوف ولكنها لا تقضي عليه قضاء تاماً إلا بعد أن تتدخل العادة. وهي كما قلنا في صدر هذا المقال عدو الحرية الأكبر.

ص: 35

فالعادة من شأنها أن تفسد دلالة الحرية من جانبين: جانب الآلية في إتيان الأعمال وإصدار الحركات، وجانب الشعور بالاطمئنان عند مواجهة المكنونات المستسرة في ضمير الغيب. ويقول رافيسون في كتابه عن العادة إنها توحي - كما توحي الأفعال الغريزية - بالجنوح إلى هدف مقصود من غير ما إرادة أو شعور. وهذا صحيح من ناحية كونه دليلا على خلو العادة من الإحساس أو من البطانة الوجدانية كما يقول علماء النفس. فيصعب أن تقول بوجود أي نوع من أنواع المخاوف وأي ضرب من ضروب المنازع عند أداء الأفعال التعودية. وبناء على ذلك تمحى كل حرية وتزول كل إرادة وتختفي مشابه الاختيار الذاتي، فهذه كلها لا تتوفر إلا حيثما كان الإنسان قادراً على الانفعال لها والاهتمام بشأنها والتوتر من أجلها.

والحرية من شانها أن تبعث في الإنسان ألواناً من الخوف والفزع، لسب بسيط وهو أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بوجوده ومعاشه. فيكفي أن تتصور أنك صاحب الأمر والنهي في إعداد حياتك وفي تقرير مصيرك وفي تكييف أقدارك حتى تنفجر في رأسك عيون الخوف، وحتى تثور في صدرك عوامل الرعب، وحتى تنتاب جسمك عوارض الحمى. . . فأنا مثلاً أقرر مصيري - ككاتب - على هذه الورقة البسيطة البيضاء تحت عيني وأضع لنفسي قيوداً من الرأي لا أستطيع الفكاك منها حين يأتي المستقبل. وانظر على هذا النحو في حياة الناس وتأمل أفعالهم على ضوء كل من العادة والحرية فتجد أن الأفعال الحرة وحدها هي التي يوازيها على طول الامتداد شعور بالقلق ويحس صاحبها بأنه يأتيها لأول مرة. وذلك لأنها مشدودة إلى كيانه شداً بحيث لا يملك في النهاية إلا أن يخضع لها وأن يكون مأسوراً بها.

والحق أن الأفعال الحرة الواعية لا يزاملها الشعور بالقلق وحده، وإنما يرافقها أيضاً - إلى جانب هذا - إحساس خفي بالهم. ولنضرب لهذا مثلاً بواحد من الناس الذين يملكون الوقت من اجل الذهاب إلى المسرح أو التنزه في الخلاء أو البقاء في البيت أو القيام بزيارة صديق. ولنفرض مقدماً أن هذا الشخص هو بعض الذي يهمهم الوقت ويحسون بعامل الزمن إحساساً قوياً في معاشهم بحيث يضطربون لانقضائه حينما يمضي هباء. سيضطر أولاً إلى عملية الاختيار، وهي عملية قد تكون سهلة عند الإنسان العادي بحكم انصرافه عن

ص: 36

التفكير أو بحكم تركه للأمور في أيدي المقادير. أما الشخص الحر الواعي فسيضع أساساً للاختيار وسيعرف في قرارة نفسه بأن ثلاث ساعات متصلة ستضيع من عمره ومن حياته في هذا الفعل البسيط وأنه أقمن به أن يستفيد من بقائه على الأرض على أفضل وجه ممكن ولا شك أن وجوده بأكمله ينقسم إلى جزئيات من هذا القبيل فعنايته بساعة من عمره تضارع عنايته بكل هذه الساعات التي يقضيه على وجه البسيطة. والعالم الخارجي من شانه أن يقدم إليه الإمكانيات حتى يبذل من لدنه ما يحيلها إلى وجود، ويصرف من طاقته الخاصة ما يبعثها من جمودها ويبث فيها الحياة. . . قد تكون المجالات محدودة أمامه، وقد تكون الإمكانيات معدودة عليه! ولكنها مع هذا كله تدع له فرصة للاختيار؛ وفي الاختيار وحده ينحصر وجوده ويتحدد معاشه.

فهناك أنواع كثيرة من الوسائل التي تقدم للإنسان متعاً تلذه ومباهج تريحه وأدوات لتثقيف الذوق وتهذيب الروح. قد تكون هذه الوسائل محدودة في المجتمع الذي نعيش فيه، ولكننا مع ذلك نحكم رأينا ونملي فرديتنا عليها بعملية من الاختيار الواعي؛ وكلما زدنا جهلاً بالمجالات التي يُتيحها لنا المجتمع ارتفعت قيمة الحرية وازداد قدرها. فلو أنني مثلاً لا أعرف غير أربعة وسائل من وسائل التسلية ومن أنواع الملاهي في القاهرة لكان اختياري بنسبة (4: 1) أي أن حريتي حينئذ تساوي الربع. أما إذ كنت أعرف اثنتين فحسب كانت النسبة (2: 1) أي أن حريتي آنئذ تساوي النصف.

وهكذا يحدث عندي الشعور بالقلق من ناحية الاختيار، أما الهم فيتولد عندي إحساس به وأشعر كأنما يثقل على صدري من جراء الأسف على ضياع الإمكانيات الأخرى عندما أحدد رغبتي وأثبت إرادتي على شيء بالذات. فأنا مثلاً عندما أذهب إلى المسرح أحس بالهم من جراء طمعي في أن أحصل على أقصى ما يمكن أن تهبني إياه الحياة. ونتيجة لشهوتي في إحتلاب كل ثانية تمر بي واعتصار كل لحظة تمضي علي وأنا حي أرزق. ولذلك تراني في المسرح مهموماً من أجل تلك الإمكانيات الأخرى (التنزه في الخلاء - البقاء في البيت - زيارة الصديق) التي قتلتها بيدي وأعد منها بمحض إرادتي مع أنها قد تكون أعود علي بالخير من كل ما أنا فيه من استمتاع أو حبور. . . ولكن يكفي بعد هذا أن أحس بأنني قد اخترت وأنا حر من كل قيد، وأن مسئولية هذا الاختيار تقع على عاتقي

ص: 37

وأن كل شر يأتي من إرادة أفضل بمئات المرات من أسعد الأوقات التي يمضيها الإنسان عن غير رغبة: أقول يكفي هذا كما أطامن في نفسي من شدة الشعور بالحسرة وأواجه الحياة بقوة وجلد.

وهكذا تقترن الحرية بنوع من المثالية الخالصة ومن الفدائية العصماء فتكسب وجودنا ألواناً من البهجة الخالية من الزيف والبريق، ، تسبغ على حياتنا غير قليل من الصراحة وتشعرنا في قرارة أنفسنا أننا في بؤس ولكن عن إرادة، وفي حزن ولكن عن إرادة، وفي هم ولكن باختيار، وفي حزن ولكن برغبتنا. وهكذا نحن نحمي أنفسنا من مرارة الحياة ونرضي غرور الإنسان القوي منا والضعيف.

عبد الفتاح الديدي

ص: 38

‌سيكولوجية الجنس

للأستاذ محمد محمد علي

السيكولوجيا أو علم النفس هو العلم الذي يدرس سلوك العقل أو الشعور. وبالطبع ليس للجنس ولا شعور ولكن عندما نتكلم عن سيكولوجية الجنس إنما نعني دراسة ذلك الجزء من العقل الذي يتأثر بالحياة الجنسية. وفي أواخر القرن الماضي ظهر فرويد بنظرياته - التي أذهلت العالم، والتي ترى معظمها أن العقل ليس هو الشعور، ولكنه خليط أو جمع بين الشعور واللاشعور. ومنذ ذلك الحين، حاول المربون وعلماء النفس، الكشف عن المكان الحقيقي للجنس في ذلك الخليط. وكلنا سيكولوجيون؛ على الأقل على طريقة الرجل الذي يتكلم النثر طول حياته من غير أن يعرفه! فإذا قلنا لأحد شيئاً، فإننا نعرف ماذا يجيب، وذلك باستخدام معلوماتنا عن علم النفس فمثلا إذا سألنا أحداً في يوم مطير:(جو مخيف! أليس كذلك؟ نعرف أن الإجابة غالباً ما تتفق وسؤالنا).

وقد تساءل علماء النفس عن مكانة الجنس في النمو العقلي. وليس هناك من يجيب إجابة صحيحة فقد ذهب بعض أتباع فرويد، وقرروا أن الحياة الجنسية تتحكم في نمو الفرد العقلي.

إن الغريزة الجنسية ترمي إلى استمرار النوع، فهي تأتي بعد المحافظة على النفس التي تضم كل الغرائز. وفي ظل المدينة لا بد من السيطرة على الغرائز. بسبب هذه السيطرة، نسمو بالغريزة الجنسية، فنقول مثلا في المناسبات: السيدات والأطفال أولا. وبسببها أيضاً أمسك الناس عن ذكر المسائل الجنسية إلا في غرفة النوم. وظهر الخجل عند تعليمها. وهذه السيطرة هي ما يسميها علماء النفس: كبت الغرائز. ويرجع كثير من الناس بالجنس إلى وراء، فيتجنبون ما يشغل جزءاً كبيراً من حياتهم.

يحاولون أن ينسوه. وإذا رزقوا أطفالاً لم يعلموهم شيئاً عن الأمور الجنسية، فلو سألهم أطفالهم ما يسمى بالأسئلة المخجلة - وهي الأسئلة التي يوجهها الأطفال عادة إلى آبائهم - فإن الآباء يحاولون إسكاتهم ويخبرونهم كذبا!.

إن الكبت الشديد يجلب التأخر والهبوط، وهو مرض خطير، يختلف عن ضبط النفس الذي هو مواجهة شريفة شعورية للواقع، وليس هذا بالأمر السهل، إنما يخلو من الصراع بين

ص: 39

الدوافع البيولوجية والعقلية. وضبط النسل كبت للغريزة الجنسية الطبيعية، لأن له نفس الأثر في تحديد السكان، كطريقة الحيوان في بقاء الأصلح. وفي الحق أن ضبط النسل الحديث ليس فيه شيء من (بقاء الاصلح) إنما يضمن حياة الأسر المحدودة! فكل أعضاء الأسر الصغيرة لديهم الفرصة ليكونوا (صالحين) لأنهم ينالون نفس العناية والغذاء كما لو كانوا موزعين في أسر أكبر.

قلنا أن الغريزة الجنسية تتلو غريزة المحافظة على النوع. فالشعور بالجوع، دافع قوي غريزي للمحافظة على النفس، ولكن الغرائز في حاجة إلى كبت - إلى حد مخصوص -، وإلا فإن الفرد يصبح نهماً أو مجنوناً جنسياً، مما يؤدي به إلى مخفر الشرطة أو مستشفى الأمراض العقلية.

إن مشكلة الحب قد راقت كثيرين من علماء النفس. فقد كان معتقداً أن الحب والكراهية ضدان. ولكن تعاليم فرويد دلت على أن لا تعارض بينهما. وما الكراهية إلا جزء من الحب. وليس هناك حب خال من شيء من الكراهية وشيء من العواطف الأخرى، التي تكون في مجموعها الحب.

ومن الثابت أن الشعور الجنسي فينا جميعا يختلف تبعاً للوقت. ولكنه لم يثبت كيف يختلف التأثير الجنسي في حياة الفرد اليومية. فليست غريزتنا الجنسية وغرائز جيراننا، هي التي تؤثر فينا فحسب، بل أن أولئك الذين لم نرهم يمكن أن يغيروا حياتنا. فالشذوذ الجنسي - في رجل مثل هتلر - قد أثر في حياته. وبالتالي في العالم أجمع.

ولما درس علم النفس كعلم، بدأ الناس يعرفون الدور الحيوي الذي يقوم به الجنس في حياة الفرد اليومية، وتنبه الباحثون إلى مسألة لها من الأهمية مثلما لدور الجنس في الحياة! وهي كيف تؤثر ظروف الحياة في الغريزة الجنسية؟ نحن نعلم أن الشخص الجائع - بصرف النظر عن حاجته للإشباع الجنسي - يهتم بمعدته أولا. ولكن ماذا عن الأم؟ لئن كانت الأم جائعة، فان شعورها وغريزتها تدفعانها إلى إطعام أطفالها قبل نفسها. ولقد قيل عن غريزة الأمومة جزء من الغريزة الجنسية. وإذا جمع الحب الخالص بين شخصين فان شعورهما نحو بعضهما يمكن أن يظل ثابتاً أمام تيار الحظ الشيء. كمثل الزوجين، يتحمل كل منهما صاحبه في السراء والضراء. ولكن حيثما كان النمو الجنسي لأحد الطرفين أو كليهما ليس

ص: 40

من هذا القبيل، فان تغييراً طفيفاً في الحظوظ، كفيل بانفصال الشريكين.

وإذا تحاب اثنان فانهما يتصوران أن لا شيء يشغل بالهما سوى الأفكار الجنسية. كم مليون من الرجال يرتكبون خطايا طيلة يومهم، ثم ينسونها وهم في صحبة امرأة في المساء! أن كل شيء ينسى في نشوة اللذة الجنسية. يحسب الرفيقان أن الناس قد غفلوا عنهما ولكن نقر الباب أو صوت التليفون قمين بأن يرجع بهما سريعاً إلى تعقل ما حولهما ومعرفته! ويتساءل بعض الناس: لئن كانت الحياة الجنسية عاملا فعالا في النمو العقلي، فلماذا يجتاحنا النشاط الجنسي بقوة عارمة في غالب الأحيان؟ الجواب هو أن هذا الاجتياح ضروري لإزالة العقبات التي تقف في سبيل هذا النشاط، كالخطايا اليومية.

ويحلو للكثيرين أن يقرروا أن ذوي الاسترخاء الجنسي بمولدهم في حل من الوقوع تحت السيطرة الجنسية. ولكن هذا لا يحدث فهم قد ولدوا نتيجة للجنس، ثم أن علاقته بالآخرين تتحكم فيها عقول هؤلاء. فبطريق غير مباشر يتأثرون بالحياة الجنسية.

يختلف الناس في تأثرهم بالغريزة الجنسية، فمنهم العاطفي ومنهم من يقال عنه إنه: بارد. وبعضهم ذو مثلية جنسية، والبعض الآخر يكره المرأة وقد جادت قريحة أحد العلماء بنظرية خطيرة، هي نظرية الثنائية الجنسية التي تقرر أن الإنسان يولد وفيه شعور أو ميل جنسي نحو الجنسين. وفي الفرد العادي يكون الشعور نحو الجنس الآخر متغلباً، إنما لا يختفي الشعور الجنسي نحو نفس الجنس! ومن السهل أن نتصور بالعقل تلك الحقيقة الواقعة في الجسم. فلكل رجل ثديان، وهما - قبل كل شيء - أعضاء تناسلية ثانوية للأنثى والأفراد العاديين هم الذين لهم أصدقاء من كلا الجنسين. أما عند غير العاديين، فان التوازن يختل، إما لأنهم ولدوا كذلك، أو لأن ظروفاً خارجية أوجدتهم في حالتهم هذه.

إن الوضع الاقتصادي - وهو جزء من مدنيتنا - منظم ليجعل الظروف المحيطة بجماعة، تختلف عن الظروف المحيطة بجماعة أخرى. وتأثير الوضع الاقتصادي على الحياة الجنسية لبعض الفتيات، يظهر بوضوح في عقول المومسات اللائى جعلن الغريزة الجنسية تساعد غريزة المحافظة على النفس، وتصبح تحت سيطرتها. عندهن أن البغاء هو الطريق الوحيد للارتزاق. على أنه يمكن أن نميز بينهن متزوجات!.

وبوجود الصراع المستمر في عقولن، يصعب علينا أن ندخل السرور إلى نفوسنا. ومثل

ص: 41

هذا الصراع يوجد في عقول الذين هم في حاجة إلى الإشباع الجنسي، أو الذين يجهدون أنفسهم جنسياً أكثر مما يتحملون. ويلاحظ بوجه عام الذين يعيشون عيشة رغده ناجحة، تكون حياتهم التناسلية لا غبار عليها، ومن تكون حياتهم التناسلية طبيعية، ينجون في حياتهم الاجتماعية.

إن علم النفس لا يزال في المهد، وقد علمنا الشيء الكثير عن خطايا الناس وأُثرها في حياتهم. كما عمل ولا يزال يعمل - على إدخال السرور في قلوب الناس. إنه يحررنا من كثير من أنواع الكبت التي كنا نراها ضرورية، ثم يتبين لنا اليوم أنها تضايقنا. وأخيراً هو المسئول عن حركة التثقيف الجنسي.

محمد محمد علي

ص: 42

‌باحثة البادية

لمناسبة ذكراها الثاني والثلاثين

للأستاذ عبد الجواد سليمان

أول ما توحي به إلينا ذكرى باحثة البادية (ملك حفني ناصف) من معان وعبر، إنما هو النهضة النسائية في مصر في معناها الوطني الصادق.

فلقد كانت رحمها الله، أول فتاة مصرية حصلت على شهادة الابتدائية سنة 1900 وعمرها إذ ذاك لا يتجاوز الثالثة عشرة، ثم انتقلت إلى القسم العالمي بالمدرسة السنية، وحصلت على شهادته العالية، وعملت مدرسة بالمدارس الأميرية.

لقد كانت باحثة البادية مثالا صادقاً ونموذجا كاملاً للفتاة المصرية في طباعها ووطنيتها! فالظرف المصري أصيل في طبعها، إذ كان يتمثل في كتابتها وفي نكتها اللاذعة التي تسعفها بها بديهتها الحاضرة وسرعة خاطرها، والتي يزينها تهكم لا مرارة فيه في مثل قولها (فما أقدر زوج الضرتين على التفنن، ولو أنصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسياً أو ناظراً للمستعمرات! ولكن الذي يؤسف له أنا ليس لنا مستعمرات) وفي مثل قولها (يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري أي الفرمان صدر بذلك من عند الله؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا، لما عيرونا بأنا قليلات النبوغ، وأنه لم يسمع بأن إحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلاً، وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد: فنحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع (خريستوف كلومب) لما تعذر على أنا أيضاً أن اكتشف أمريكا).

أما وطنيتها فتتمثل في حبها لكل ما هو مصري ورفضها أن تأخذ من مدينة الغرب إلا ما هو ضروري، وبشرط أن يصبغ بالصيغة المصرية ويطبع بطابعها. كقولها:(ما أحلىالسمرة الجاذبة، ولو فهمنا معناها، إنها جميلة لأنها مصرية، ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفى).

وكقولها: (إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا إلا نقتبس من المدنية الأوربية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائماً لعاداتنا وطبيعة بلادنا، نقتبس

ص: 43

منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل، نقتبس منها أساليب التعليم والتربية. . وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن نندمج في الغرب فنقضي على ما بقي لنا مهن القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة).

لقد تأثرت باحثة البادية ببيئتها تأثراً بعيداً فتخرجت كاتبة وشاعرة وناقدة وخطيبة ومصلحة! فأبوها المرحوم (حفني بك ناصف) العالم اللغوي والكاتب الضليع والشاعر الفكه كبير مفتشي اللغة العربية بمصر، وزوجها العربي الصميم المرحوم (عبد الستار بك الباسل) من بيت مجد أثيل وحسب عربي عريق وهو من وجهاء قبيلة الرماح بالفيوم.

وقد دبجت براعتها كثيراً من المقالات البليغة والبحوث العميقة والرسائل الممتعة التي امتازت بالسلاسة والوضوح والتي خصت بها صحيفتي: (المؤيد) و (المحروسة)، وحسبها دليلاً على بلاغتها، أن يشهد لها أمراء البيان في مصر، من هؤلاء أحمد لطفي السيد باشا بقوله فيها (أما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر).

والشيخ عبد الكريم سلمان بقوله (إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات، وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها) وأحمد زكي باشا بقوله (إنها أعادت لنا لك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم في ميداني الكتابة والخطابة).

وحافظ بك إبراهيم بقوله:

لله درَّك أن نثرت

ودرّ حفني أن نثر

ولقد توفرت لها شروط النقد من سلامة الفطرة وقوة الملاحظة وسعة الاطلاع، فكان نقدها ينصب على المجتمع المصري الذي ظلم المرأة وسلبها حقوقها من قولها في ذلك (المرأة المصرية مسلوبة الحق مظلومة في كل أدوار حياتها، نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة).

وقولها في استبداد الرجال بالنساء: (بعض النساء يهددن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون، ويذكر لهن الزواج إرهاباً، فأي الأمرين تختار الزوجة البائسة؟ المرأة مظلومة دائماً، إذا كانت فقيرة لا يرغب فيها، وإن كانت وارثة يطمع في مالها، والوارثة مظلومة

ص: 44

أيضاً، فإما ألا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا).

وقولها ساخطة على سياسة بعض الآباء (لا أحب الرجل يتكبر على أهله وأولاده فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة وهو لا يعلم بما يشعرون، وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربي فيه الجبن والذل ثم الاستبداد متى كبر).

والإصلاح عادة وليد النقد، وباحثة البادية قد حاولت الإصلاح عن طريق النقد، فرأيناها تنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة بقلبها ولسانها! فمن خطبها في نادي حزب الأمة (والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا ونزيل سوء التفاهم والتحزب لنحل بدلهما الثقة والإنصاف ولنبحث أولاً في نقط الخلاف).

أما شعرها فهو عصارة روحها وذوب نفسها، إذ تغلب عليه خفة الروح تارة وتهكم الشديد تارة أخرى! هذا إلى بعده عن العقيد وذخره بالمعاني ودلالته على نضوج الفكر، ومنه في رثاء عائشة التيمورية:

إلا يا موت ويحك لم تراع

حقوقاً للطروس ولا اليراع

تركت الكتب باكية

بكاء يشيب الطفل في عهد الرضاع

فذب يا قلب لا تك في جمود

وزد يا دمع لا تك في امتناع

سنبقى بعد عائشة حيارى

كسرب في الفلاة بغير راع

ومنه في الفتاة:

إن الفتاة حديقة وحياؤها

كالماء موقوفاً عليه بقاؤها

بفروعها جري الحياة فتكتسي

حللاً يروق الناظرين رواؤها

لا خير في حسن الفتاة وعلمها

إن كان في غير الصلاح رضاؤها

فجمالها وقف عليها إنما

للناس فيها دينها ووفاؤها

وفي الفتاة تقول:

مجد الفتاة مقامها

في البيت لا في المعمل

والمرء يعمل في الحقول

وعرسه في المنزل

ومن قولها في السفور والحجاب ترد على شوقي بك:

ص: 45

أما السفور فحكمه

في الشرع ليس بمعضل

ذهب الأئمة فيه

بين محرم ومحلل

ويجوز بالإجماع منهم

عند قصد تأهل

ليس النقاب هو الحجا - ب فقصري أو طولي

فإذا جهلت الفرق بينهما

فدونك فاسألي

لا أبتغي غير الفضيلة

للنساء فأجملي

التحقت باحثة البادية بالرفيق الأعلى ليلة الخميس الموافق 17 من أكتوبر سنة 1918 بعد أن أدت رسالتها أحسن الأداء، وقدمت للمرأة المصرية أجل الخدمات، ومهدت السبيل لمن أتين بعدها فسرن في طريق معبدة، ونلن بعض ما لهن من حقوق في الحياة الاجتماعية، فمن حقها عليهن أن يخلدن ذكراها ولو بالاكتتاب في مشروع نسوي نافع باسمها أو إحياء آثارها الأدبية. . .

عبد الجواد سليمان

المدرس بمصلحات سوهاج

ص: 46

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

الوساطة في التعليم:

لا شك أن الأزمة القائمة في قبول الطلاب بالمدارس ومعاهد التعليم المختلفة، يعاني كثير من الناس شرها، ويلاقون فيها الضيق والعنت، ولا تقتصر الآفة على مظاهرها القريبة البادية، فإن لها آثارا بعيدة غير هذه المظاهر. أن الوالد اللهيب الحريص تعليم ولده لا يدخر وسعاً في رجاء أصدقائه ومن يلوذ بهم من ذوي النفوذ في القبول بالمدارس، من كبير في الوزارة أو ناظر أو ناظرة أو مدرس أو مدرسة، أو من يتذرع بهم إلا هؤلاء - هذا الوالد وهو مثل من كثير، يعدُّ الأزمة منتهية بقبول ولده في المدرسة أو الكلية، ولكن هناك أثراً بعيداً غائرا في نفس الولد، فقد قر عنده أن (كل شيء بالواسطة) حتى دخول المدارس. سينسى متاعب أبيه في سبيل إدخاله المدرسة، وما بذله في هذا السبيل من وقت وجهد كان عمله في حاجة إليهما، وما عساه أن يكون قد شعر به من الحرج في رجاء الناس؛ ولكنه لن ينسى أن (الواسطة) مفتاح الباب المغلق ولو كان باب العلم.

ويا لحسرة الواقفين وراء الأسوار والأبواب. . إنهم أيضاً تتفتح أعينهم على أن (كل شيء بالواسطة) فهم يندبون حظهم لأنهم لا وسيط لهم. . حتى من لا تنفع في حالته الوساطة لو تيسرت كمن كبرت سنه وكثر رسوبه، أن هذا أيضاً يدعي أنه محروم لفقدان الوسيط.

وما بال هذا الذي تتحقق في ولده شروط القبول وتتوافر له أسباب الأولوية، من ملاءمة السن وتقدم في النجاح ونحو ذلك، ما باله يهرع إلى من يوصي بولده؟ إنه يعيش في الجو. . . ويخيل إليه أن الوساطة أول الشروط! وهناك كثير من الناس يرون في اتخاذ الوساطة مظهراً للوجاهة ودلالة على علو المكانة، فالمقصد عندهم هين في ذاته جليل بجلالة الوسيط. . .

وهكذا يتفتح الجيل الناشئ الغض على منظر هذا الداء، فيألفه ويتصوره أمرا عاديا ليس فيه من عوج ولا أمت. وقد تلقي عليهم في بعض الدروس أشياء عن الحقوق والواجبات والعدالة والمساواة وما إلى ذلك، فيأخذونه على أنه كلام ينفع في الامتحان أما الحياة الواقعة فقد رأوا فيها بأعينهم (تطبيقات) على غير ذلك.

ص: 47

وبعد فذلك وجه من وجوه أزمة القبول في دور العلم، وهو من أوجهها الخفية البعيدة، وما أرى للداء دواء غير أن يقتلع من جذوره بتسيير العلم لطلابه وتعليم الراغبين في التعليم! وإنه لمن تضييع الفوائد أن يهمل هذا الإقبال الشديد الدال على شدة الرغبة والتعطش دون انتهازه للقضاء على الجهل والأمية، ومن الحمق أن نصد الصغار عن التعليم لنكافح الجهل والأمية فيهم كباراً.

إلى معالي وزير المعارف:

كتب إليّ أحد إخواننا المدرسين يقول إنه حرر (الاستمارة)

التي اعتاد أن يكتبها في أول كل عام دراسي، لطلب تعليم

أولاده بمصروفات مخفضة، وله ثلاثة أولاد في روضة

الأطفال فردت منطقة القاهرة الشمالية (الاستمارة) بعد أن

كتبت عليها: (معاد إلى حضرة الأستاذ. . . للعلم بأن قرار

مجلس الوزراء بتاريخ 23149 لا يعطي الحق في التماسه

هذا إذ أن الإعفاء من المصروفات للمدرسين لا ينصب إلا

على التلاميذ المقيدين بالمدارس الثانوية وما في حكمها. مع

قبول الاحترام).

ومعنى ذلك حرمان المدرس المنحة التي كانت تجري عليها الوزارة في معاملة أولاد المدرسين برياض الأطفال، والتي تقضي بأن يكون الولد الأول بمصروفات كاملة وأن يعفى الأربعة الذي يلونه من نصف المصروفات ثم يعفى من يلي هؤلاء إعفاء كاملاً. فكيف أقدمت وزارة المعارف على ذلك وهي التي تعمل على التخفيف عن المدرسين في نفقات أولادهم المدرسية؟.

علمت أن الوزارة أصدرت منشوراً يتضمن الأمر بإبطال

ص: 48

العمل السابق، والاكتفاء بتطبيق قرار مجلس الوزراء الصادر

في 23149 وهو يقضي بإعفاء أولاد المدرسين من

مصروفات التعليم الثانوي وما في مستواه لمن يثبت منهم أنه

يدفع مصروفات مدرسية لطالب واحد في مرحلة تعليمية غير

المرحلة الأولى.

والذي يستوقف النظر أن هذا (المنشور) بني على أساس أن القرار الأخير أعم وأوسع في مزاياه من القرار الأول وأكثر منه تيسيراً وتمكيناً لرجال التعليم من تعليم أبنائهم دون إرهاق!! فكيف يصدق هذا بالنسبة إلى ذوي الأطفال الذين يتعلمون في الرياض! لقد سلبوا ما كانوا يتمتعون به فيما مضى، ولم يجدهم القرار الأخير شيئا!.

وبعد فإلى معالي وزير المعارف الجديد محمد حسن العثماوي باشا يساق الحديث، وهو زعيم الإصلاح الاجتماعي ورجل قضاء وعدل، ولا أشك في أنه سيعير الأمر ما هو جدير به من عناية المصلح العادل واهتمامه، تقديراً لما يقوم به المعلمون من جهود في أداء الرسالة التعليمية.

أعظم ما كتب يوسف وهبي:

افتتحت الفرقة المصرية موسمها الحالي في الأوبرا الملكية برواية (اليوم خمر) ثم مثلت بعدها رواية (ابن الحسب والنسب) فكان ابتداء حسناً يلائم رسالة الفرقة في ترقية التمثيل العربي. ثم قدمت الفرقة أخيراً رواية (الصحراء) وقالوا في الإعلان عنها إنها (أعظم ما كتب يوسف وهبي) وهي من الروايات مسرح رمسيس القديمة التي ألفها يوسف وهبي، أو هي أعظمها كما قالوا. وتقع حوادثها في طرابلس الغرب حيث يجري الكفاح بين الإيطاليين وعرب المغرب، وقد وضعت الرواية ومثلت بين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، فكان زمنها بطبيعة الحال إبان الحرب الأولى، ولكنا شاهدناها تمثل الآن على أن زمنها في الحرب الثانية، فقد سمعنا أبطالها يرددون كلمات (الدوتشي

ص: 49

وموسيليني وروميل) ولكن العجيب أنهم يتناقلون ما وقع لعمر المختار على أنه حاصل في وقت وقوع هذه الحوادث أي في الحرب العالمية الثانية، فهذا خلط تاريخي كان الالتفات إليه وعدم الوقوع فيه من أيسر الأشياء ثم أن الحروب بين الإيطاليين وعرب المغرب إنما كانت ملابسة للحرب الأولى وبعدها، فكانت فظائع المستعمرين واستبسال المغاربة في مقاومتهم حديث الناس أيام مثلت هذه الرواية بمسرح رمسيس، أما في الحرب الثانية وبعدها فلم يكن شيء من ذلك.

وتجري الحوادث حول شخصية الأمير عماد بن سعد (يوسف وهبي) وهو قائد طرابلسي يقاتل الإيطاليين، وله زوجتان: زوجة عربية وهي أمينة (نجمة إبراهيم) وأخرى إيطالية وهي لينا (سامية فهمي) وله ولدان من كل منهما: شهاب (فاخر فاخر) من العربية وحسن (عمر الحريري) من الإيطالية. تفر الإيطالية بابنها مع جنود إيطاليين يفقئون عيني الأمير عماد، وينتهي بذلك المشهد الأول. وفي المشهد الثاني نرى كهفاً يعيش به الأمير الضرير وزوجته العربية التي أصيبت في غارة جوية بساقيها فأصبحت مقعدة وابنهما شهاب وابنة عمه عائشة (أمينة رزق) التي يحبها وتحبه، وقد أزمع شهاب اللحاق بفرقة من المدافعين عن الوطن، فتودعه أمه وتموت بين يديه، وينتهي المشهد بذهابه مع الفرقة والمشهد الثالث في الكهف أيضا حيث يعيش الأمير وابنة أخيه عائشة، يطرقهما جندي إيطالي جريح، فيؤويانه على مقتضى المروءة العربية، وبعد ذلك يتبين انه حسن ابن الأمير من الإيطالية. وفي المشهد الرابع نرى حسناً يحاول أن يكسب مودة عائشة التي حزنت على خطيبها شهاب، وبعد حوار بينهما تبدي له أنها تجيبه إلى رغبته في الزواج منها إذا قاتل الأعداء وثأر لأخيه وعاد منتصراً، ولكن حسناً يحار في أمره لأنه لا يزال يعد نفسه إيطالياً تبعاً لأمه، ثم يلتقي بجاسوس إيطالي فيتفق معه على نقل أخبار العرب إلى الجيش الإيطالي، ويسمع الأمير عماد الجاسوس وينقل أسرار الجيش العربي باللاسلكي، فيتحسس ناحيته حتى يمسك به ويستغيث، ولكن الجاسوس يفلت منه ويسدد إليه المسدس فيلتصق حسن بأبيه فيصيبه رصاص الجاسوس فيرديه. وهنا تستعصي الرواية على يوسف وهبي المؤلف إذ تأبى أن يختتم. . . فيزعق يوسف وهبي الممثل زعقة هائلة تجعل ولده شهاباً يبرز من تحت الأرض وكان قد بلغه انه قتل فيظهر انه كان جريحا فقط، فيتلقاه في

ص: 50

أحضانه، على حين تجري أمينة رزق (عائشة) بالبندقية متحمسة مع المتحمسين لقتال الأعداء. وتلتقي فلقتا الستار. . .

كان المشهد الثالث أحسن المشاهد كلها، فقد كان هادئاً تجلت فيه الإنسانية والمروءة في إيواء العدو الجريح والعطف عليه، وقد اعتُمد في أكثر أجزاء القصة على (الرواية) أي أن اثنين من أبطالها يتحادثان طويلاً ليخبرانا بما حدث من كذا وكذا، وكان حديث الشخص الواحد يطول حتى يكاد يتحول إلى خطيب، ومن ذلك الحديث الذي دار في أول مشهد بين الشيخ صالح والشيخ حسان عن المستعمرين وممالئيهم من الخونة، فكان الثاني يلقي كأنه على منبر يوم جمعة. . . وفي أثناء الحديث بدا المسرح في منظر غريب، جملان يسيران الهوينى ونساء يحملن الجرار فارغات - إذ يحملنها وجوانبها على رؤوسهن - في الذهاب وفي الإياب! ورجال كثير يروحون ويجيئون، والجميع صامتون كأنهم قبيلة من الخرس! وكل ذلك حتى يفرغ المتحدثان، وبعد ذلك يأخذ الرجال في صلاة المغرب، فيطيلون الركوع والسجود ويمدون التكبير والحمد والتسبيح، ويختمون الصلاة بالأدعية، وكل ذلك أيضاً لكي تتمكن امرأتان من حديثهما المقصود منه (رواية) بعض الحوادث البعيدة عن المسرح! ولذلك وأمثاله كانت الحركة بطيئة مملة والتسلسل المشوق معدوماً، ولم يكن يمنع الجمهور من النوم غير انفجارات البنادق والغارة الجوية. . . وانفجار بعض (الأكليشيهات) الوطنية التي تستجلب التصفيق. . . ولست أدري ولا المؤلف (وهو المخرج أيضاً) يدري كيف يهجم جنود الأعداء على مكان القبيلة وطائراتهم تحلق فوقه وتقذفهم بالقنابل!.

وموضوع الرواية، أو المدعى انه موضوعها، هو الإشادة بالبطولة العربية في المغرب، ولكن أين ذلك على المسرح؟ أفي عرض جماعة من حملة السيوف يشرعونها نحو الطائرات التي تقذفهم بالقنابل. . . وكيف تقاتل الدبابات والمدمرات بالسيوف؟! وقد كان في الإمكان الذي يتفق مع الواقع أن يكون في أيدي الأبطال بنادق بدلا من السيوف.

أم في ذلك المشهد العجيب الذي شغل ببكاء الأم ونشيج الحبيبة قبيل رحيل الشاب إلى الحرب؟ كان الأوفق أن تتجملا بالصبر والجلد أمامه، ولا بأس بقليل من العواطف يبدو في أثناء التجلد، وقد كان هذا المشهد (فاصلة) مملة من العويل والبكاء تجلت فيه أمينة رزق!.

هذا وذاك إلى الروح الفاتر الذي ران على كل الأبطال. . . ولم تقدم لنا المسرحية بطلا

ص: 51

واحدا تملأ العين شجاعته، ومن هنا إنعدم رسم الشخصيات، حتى الأمير عماد، والمفروض انه قائد مغوار، فقد رأيناه أولا منهوكا لا يستطيع الوقوف، وبعد ذلك صار شيخاً ضريراً لا حول له ولا طول، حتى زعق زعقته الأخيرة التي كانت هول الختام. .

عباس خضر

ص: 52

‌البريد الأدبي

كتاب النفس لأرسطو طاليس

أنت في غير مريه على بصيرة بأرسطو، تعرفه فيلسوفاً ذا باع طويل، له المؤلفات المأخوذ عنها، والأقوال السائرة، والآراء المحمول عليها إلى اليوم. .

وقد ظفرت المكتبة العربية من قبل بكتبه التي عنّى نفسه بها معالي (أحمد لطفي السيد باشا) محموداً مشكوراً، فأخرج للناس كتاب الطبيعة، والكون، والفساد، والأخلاق، والسياسة.

واليوم تظفر المكتبة العربية بجديد لأرسطو، هو هذا الكتاب الذي أنا شاغلك بالحديث عنه، والذي فرغ له زميلان كريمان، جهد أولهما في تحويره عربياً، وأعان ثانيهما في مقابلة المنقول ومعارضته على اليونانية. فكمل جهد جهداً، وصدّق الخُبر الخَبر.

والكتاب كما ينبئك عنوانه حديث عن النفس. وفي غير هذا الكتاب لأرسطو في النفس آراء ولكنه هنا جمع شتات ما تفرق وزاد واستطرد فعرض لمذاهب القدماء الرئيسة في النفس ثم ساق رأيه هو مع أدلته التي تنهضه وأفاض في القوى الحاسة! ثم ختم الحديث بالكلام عن الحس المشترك والتخيل والتفكير والنزوع.

ويشوقك أن نطالعك بالقليل من الكتاب لتفيد علماً بالمؤلف ونهجه، وتقدر الزميلين قدرهما على ما أحسنا فيه.

يقول أرسطو على لسان الزميلين: (فإذا صح أن النفس تتفشى في جميع الجسم الحاس، فبالضرورة يشغل جسمان نفس المكان، مادامت النفس جسما. وأولئك الذين يزعمون أن النفس عدد، يجب أن يسلموا بوجود نقط كثيرة في النقطة الواحدة، أو أن لكل جسم نفساً. إلا إذا كان العدد الذي يوجد في الجسم هو عدد مختلف اختلافاً تاماً عن مجموع النقط الموجودة من قبل الجسم. . .)

ويعقب الدكتور الأهواني على هذه الجملة بقوله (ترجمة الجملة (هكس) لوضوحها وهذا يذكرنا بقوله في مقدمته! ثم جعلت ترجمة (تريكو) الفرنسية الأساس الذي اعتمدت عليه ونظرت إلى جانبها في ترجمة (هكس) كلما وجدت النص عند (تريكو) غامضا).

فأنت ترى أن الكتاب لم يكن على يسر، عانى فيه (تريكو) و (هكس) ثم عانى فيه الدكتور

ص: 53

الأهواني، بين (تريكو) و (هكس).

وليس الأمر أمر ترجمة بل يسبق ذلك فهم وتذوق للعلم، هما عدة المترجم وسلاحه قبل حذفه اللغة وبصره بها.

ثم تجده بعد ذلك في شك الأمين غير راض عن جهده فيخف إلى الأب (قنواتي) ويكشف له هذا عن الصحف اليونانية فيجد فيها ما يصوب الكثير من هنأت (تريكو) و (هكس).

ويثنيني هذا العناء الذي ألمسه عن أن ألتفت إلى القول في عبارات كنت أحبها أكثر صقلاً.

وأعود فأهنئ الزميلين بهذا الجهد الموفق، راجيا أن أرى لهما متعاونين غيره. فما أحوجنا إلى النقل عن اللغات المختلفة.

إبراهيم الأبياري

مع الأستاذ:

يا ساسة العرب: (إن محمد بن عبد الله الذي آثر أن يكون نبياً عبداً على أن يكون نبياً ملكا قد ساس الناس في عهده سياسة دينية لا وطنية ولا قومية، لأن الوطن محدود والدين لا حد له. ولأن القوم جماعة متميزة والدين إنسانية شاملة).

بهذا النداء القوي الحار انساب صوت الزيات العظيم مع (الأثير) في هدوء رزين، فكأنه كان (جبريل) نزل من علاه إلى أرض الناس يصب في الآذان الوحي من جديد فيلف القلوب بالشجن، ويندى العيون بالدمع، ويثير العواطف بالتذكير.

لم يأت أستاذنا بجديد - فالجديد يبلى - ولكنه أتى بقديم قدم الأزل، فساقه موقعاً بأنغام موسيقاه التي تأسر النفس بخدر لذيذ، وسحر حلال.

أجل: فقد قال ما عناه الله المتعال حين قال:

(وما محمد إلا رسول)؛ وحين قال: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم).

قلم الزيات العظيم من مولده رائع قوى، ولكن بيانه المؤثر مع صوته الوقور مزيج عبقري يهز النفس بما يواجبها في إحساسها. تلك تحية مستمع من جمهور الرسالة الكريم.

طنطا

ص: 54

عبد الفتاح علي بركات

إلى الأستاذ كامل محمود حبيب:

قرأت ما كتبته بعنوان: (زوجة تنهار)، فأكبرت بلاغة أسلوبك، وسحر بيانك، وعذوبة ألفاظك، وتأثرت بانفعالات نفسك، تأثراً كبيراً، حتى انتهيت من القراءة إلى كلمة:(يا للقصاص). فلم تعجبني خاتمة كلمتيك، لأن القارئ يود أن تكون نهاية الخائنة أشد وأنكى من أن تطرد إلى الشارع.

كيف واجهت الشارع؟ أجرى الذئاب وراءها؟ أما زالت حية تتمرغ في الأوحال؟ أم كفّرت عن ذنبها فألقت بروحها في أعماق البحر؟ أم أرجعها زوجها إليه، وغفر لها إساءتها، ومسح عنها عارها شفقة ورأفة بأولاده الصغار الأبرياء؟ أم ماذا صنعت، وصنع؟ أن لم يكن حقيقة فخيالاً لتكون عبرة وعظة.

(دمياط)

عطية قنون

ص: 55

‌القصص

الوفاء المذبوح. .!

للأديب أحمد شفيق حلمي

(كيف السبيل إلى البقاء على العهد، وهو على قيد الحياة، وحبيبته رهينة القبور؟ لا يجب أن يلحق بها، أن يموت لكي يتم اللقاء الذي لا فراق بعده؟ نعم يجب أن يلحق بها. فهناك السعادة الأبدية إنه طاهر نقي، وهي طاهرة نقية، إنها تنتظره وتدعوه إليها)

إيفان تورجنيف

مالي أراك يا وحيد ساهماً، وقد علت وجهك الغيوم. . . غيوم نفسك الحائرة في الحياة. . وقد سرحت الطرف، ترقب الشمس الغاربة، تتهادى على صفحة الأمواه، ناشرة غلالتها القرمزية على صفحة البحر الخضم، تودع الحياة. . . فتنحدر وجلة نحو المجهول، حتى احتضنتها الأمواج، فطوتها مع أشلائها المتناثرة ثم ولت نحو المغيب. . .

هل لفظتك الدنيا، وسئمتك الحياة، ففررت إلى تلك البقعة الجرداء، تنعى الأمل وتبكي الحياة، أم تخاطب النجوم المبعثرة في القبة الزرقاء؟!.

هل جلست هنا، أم منبسط المياه. . . تستمع لحشرة الريح؟ أم تعاتب القدر لقسوته عليك!؟

ألف سؤال أحتوشتني من كل جانب، وعندما قادتني قدماي إلى تلك البقعة الجرداء. . . فوجدته هناك شارداً عليه وجوم، وراحتاه تحملان رأسه الثقيل بالأتراح. . . يجوب بنظرته التائهة عبر البحر، يناشد الأمواج العزاء والسلوى، ويقاسم الريح عويلها الحزين!.

وألفيتني أدق في السكون الساري، والبحر من تحت قدمي، أمواجه تتلاعب، وتندفع إلى بعيد. . . في الصفحة الفسيحة.

وفجأة لمحت أشباحاً انشق عنها البحر، ونفضت عنها ثوبها الأسود الكالح. . . فبدت طيوفاً بيضاء زاهية، حملتني إلى الماضي القريب، وقد خلته بعيداً، لما ناءت به مخيلتي من الخواطر والأفكار. . .

عرفتك يا وحيد أول مرة، طفلاً ساذجاً حلو الشمائل، وهب الله أباك نعمة واسعة، وخيراً عميماً. . . في القصور بين حدب الأب، وحنان الأم كنت، فكانت حياتك كالجدول العذب،

ص: 56

يلعب بأنامله السحرية في الفلاة الصادية، فيحيلها مروجاً سندسية نضيرة. . . ويتسرب بين السهول والوديان، عازفاً ألحان المرح، وتراتيل السرور!.

وكذلك أنت يا وحيد. . . كانت حياتك تسير في مواكب الأفراح ترقص وتغني! وكلما أغدقت من ثروتك الطائلة في سبيل الخير. . . زادت، واتسعت، والتف حيالك الناس!؟.

ومضى بك الزمن هادئاً ناعماً إلى مطلع الشباب، فحلقت روحك بعيدا بعيدا أنت وحدك تدري إلى أين!! ثم هامت في اللانهاية. . . تجوب عالم الخيال، تمني نفسك العطش نعيم الحياة، فما فتئت ترتوي من مختلف ينابيعها، وتعطف القبل من ثغرها البسام، إلى أن صبت نفسك إلى الراحة، وهفا قلبك للسكون، وتاقت روحك الهائمة. . . إلى بيت الزوجية الهانئ، فنفضت غبار الماضي، لتستقبل من اصطفتها توأماً لنفسك، وشريكة في الحياة.

وغمرتني النشوة، والطيوف تداعب خيالي، والرؤى تتماوج في شتيت الذكريات، وأحسست بالراحة رانت على روحي. . . عندما تشابكت خيوط الماضي، كأنما لعبت بها أنامل بارعة، سرعان ما أحالتها إلى وجه صبوح عليه إشراقة عذبة ساحرة. . . فانطبعت في خاطري صورة عروسك الحبيب (سهام). ما كان أنظرها! عيناها كسندس تكتسي به الحقول، وشعرها المتهدل على جبينها الوضاح كبدر بين حفيف السحاب، أما صدرها الناهد وجسدها الريان، فمملوءان بسحر مجنون!!.

ما كان أروعها ليلة الزفاف، وهي تخطر إلى جوارك، بين هالة من الفتيات يحملن الشموع والزهور. . . تفتر شفتاها من بسمة حلوة، يرف فيها ما تحس من سعادة وهناء. . . وتلمح في عينيها تأملات حالمة، تحملها سراعاً إلى عشها الجميل، وأملها المنتظر، وبيعها الدائم، وقد نبتت فيه أزاهير من حب ووفاء.

وهنالك بين أكاليل الزهور. . . جلست وعلى رأسها تاج من زهور الأقحوان، محلى بالجيراينوم ومرصع بالفيولد. . . كانت في نبل الملائكة، تحوطها حالة من نور. . . نور يخطف الأبصار. . . قد تسربلت خيوطه البهية من بين أهدابها الحالمة!.

وكانت الليلة حلماً رائعاً، رقصت فيه الملائكة على أنغام الجازبند فتمايلت نشوانة فرحى. . . ترف حولها في المكان. . . آهات حري أرسلها صدرك يا صاحبي - علها تريد أن ترقص أيضاً!! - يحملها الأثير الهادئ اللين إلى ابتسامة الأمل، ونفحة الله. . . سهام.

ص: 57

وعلى دعاء الفجر لأله الوجود، حملتك وعروسك نسائم الصباح الندية، إلى عشكما الآمن، تشيعكما قلوب العذارى، وقد غبن في حلم جميل يتمنين أن تدب فيه الحياة!.

ها هو الليل قد أوشك على الرحيل، وها هو - أنا - أجلس إليك بعد ذلك الحلم الطويل. . . فهلا فككت كربتي يا وحيد، فتبسط على نفسك الحزينة الغارقة في الأتراح. . . وتقص علي ما وراء تلك العشرات البيض من أحداث! إنها تتسلل في شعرك الفاحم كنور الصبح يتلاشى أمامه الظلام!.

- أواه يا خليل. . . أن جراحات قلبي لم تندمل، وروحي الشريد. . . لم يستقر بعد!. . .

أنت تذكر ليلة العرس يا خليل، وقد حملتني وعروسي عربة انطلقت إلى النزل الفخيم، الذي اخترته للإقامة. . .؟

وصلنا هناك، والى غرفة تشعرك بالبهجة، تطل على مروج خضراء، ومياه جارية في سهل فسيح. . . حملنا أمتعتنا.

إني أذكر ساعة الوصول، ومدير الفندق يقودنا إلى الغرفة البهيجة، ثم يصفق خلفه الباب، وهو يتمنى لنا إقامة هانئة. . .

قلت لزوجتي وأنا أجوب الغرفة فرحاً: (ما أجملها غرفة يا سهام)؟ فقالت بصوت حنون: (إنها بديعة يا حبيبي)!.

وتطلعت إليها فتلاقت العيون، وتلمست أصابعي كتفيها المرمريتين بخفة ورشاقة، وقبلتها بحنان، ثم دفعتها برفق إلى الفراش، فاتكأت على حافته بحياء وخفر، وعلق بصري بعقارب الساعة تترى بسرعة. . . وسدتها ذراعي، وهصرتها بين أحضاني، ثم تلاقت الشفتان في قبلة محمومة ولهى، فرشفت من الكأس حتى الثمالة. . .

وتراقصت الظلال في جلالة وروعة. . داعب النسيم البليل خصلات شعرها بمرح، فتهدل على صدرها العاري، وهو يعلو ويهبط بسرعة، وانعكست على صفحة وجهها خبايا هواها، وتألق في عينيها بريق عجيب، فيه لهفة عميقة!.

وفجأة. . . وفجأة يا خليل لمحت وجهها الوردي الفاتن يصير إلى اصفرار رويداً، وعيناها أخذتا تحدقان في شيء مجهول، تبكي في صمت وتتوسل في ذهول. . . كأن قوة جبارة أمسكتها بيد من حديد.

ص: 58

تحسست جسدها، وأنا من الهول لا اعي، فكان في برودة الثلج، فصرخت والدموع في عيني:(مالك يا سهام!. . . ماذا تحسين؟. . . إلي بطبيب! إلي بطبيب!).

وتداعى ذراعاي من حولها، فسقطت على الملاءات البيضاء، فقلت يائساً:(إليك روحي يا حياتي، خذيها وعودي إلي!. . . هل تذبل الورود وهي تختال في المروج؟ تكلمي. . . ردي عليّ ردي عليّ. . . لماذا لا أسمع صوتك الحنون؟ وأحر قلباه، يا ضيعة العمر وأنا من غيرك يا سهام)!.

. . . وامتلأت الغرفة بالظلال الداكنة. . . تهتز في صمت ثقيل. . . وحفل الفراغ بالأشباح. . . تتراقص في عربدة مجنونة. . . فجثم على صدري صرخاتها المنكرة. . . فهرعت إلى الأسجاف أرفعها، وفتحت النافذة، فاندفع الهواء من السهل القريب، حيات تسعى. . . ومادت الأرض. . . حتى غدوت في النهاية، غريقاً في صخب هائل مفزع. . . وتوهج المصباح، ثم خبا فتشتت الضوء، وأحسست بالبرودة تسري في أطرافي، ثم غبت عن الوعي.

. . . وعادت الغرفة تلوح من بين أهدابي المغلقة، فلمحت خيالات كثيرة تروح وتجيء، وسمعت أحدهم يقول لخيال:(إنه في طريقه إلى الوعي). . .

تحاملت على نفسي، وحدقت في الجدران التي تدور. . . وصرخت ملتاعاً (أين سهام؟ أين سهام؟). . . فحشرج في سمعي صوت رهيب (ذهبت. . . ذهبت يا وحيد ولن تعود)!

وانهمر على وجنتيه دمع حبيس، فقلت له وأنا من أجله ملتاع، أطالع صفحته الحزينة. . . فيثب إلى خاطري الوفاء المُعَذَّبُ، والدنيا والأحلام، وقد لُفّضت في أكفان الأبد، قلت له (وبعد يا رجل، هل تود أن تموت؟ هيا يا صديقي إلى الحياة، ترى فيها السلوى والعزاء).

- أنا؟؟ أنا أهبط إلى الحياة من جديد!؟ لقد سحقت قلبي أناشيد الحرمان، وذريت روحي في مهمة الظلمات، فهل أهبط إليها من غير قلب وروح!؟

- جرب هل الريح تأتي وفاء!

- دعني يا صاحبي في أحزاني وآلامي، علني ألحق بها، بعد أن خلفتني وحيداً في عالم الأحزان!

- لك الله يا وحيد، ولكن رفقاً بنفسك يا صديقي، ولم الوفاء لميت!؟.

ص: 59

- ويلك، ماذا تقول؟ وهل الحياة غير الوفاء لحبيب؟! مضيت في طريقي، وتركته وحيداً، وهو في غمرة الأسى، ولوعة الشجن، يذوب ويذوب، وهو يتطلع بشوق لهيف، هناك. . . إلى السماء. . . عل ملك الموت الرحيم! يختطفه إليها، فيجمعه بها في الفردوس. . . عند الله.

أحمد شفيق حلمي

ص: 60