الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 856
- بتاريخ: 28 - 11 - 1949
أحقا مات على محمود طه؟!
أحقا رفاق علي لن تروه بعد اليوم يحي المجالس بروحة اللطيف، ويؤنس الجلاس بوجهة المتهلل، يدير على السمّار أكؤساً من سلاف الأحاديث تبعث المسرة في النفوس، وتحدث النشوة في المشاعر؟
أحقاً عشاق على لن تسمعوه بعد اليوم ينشد القصائد الرقيقة، ويخرج الدواوين الأنيقة، ويصور الحياة بألوان من الشعر والسحر والفتون، في إطار من الجمال والحب واللذة؟
أحقا أصدقاء علي أن تجدوه بعد اليوم يبذل من سعيه ليواسي، وينيل من جاهه ليعين، ويجعل بيته سكناً لكل نفس لا تجد الدعة ولا الأنس، ومثابة لكل طائر لا يجد الروضة ولا العش؟
أحقاًَ عباد الله سكت البلبل، وتحطم الجام، وتقوض المجلس، وانفض السامر، وتفرق الشمل، وأقفر الرّبع، وأصبح علي طه الشاعر العامل الآمل أثراً وخبراً وذكرى؟
لقد حدثني ربع ساعة في تليفون المستشفى يوم الأربعاء، فبشرني أن قلبه أنتظم وجسمه صحّ ووجهه شبا، وأن الأطباء سمحوا له بالرجوع إلىبيته، وأن استقباله في الدار سيعود، وأن مجلسه في (الأميريكين) سينعقد، وأنه سينتظرني يوم الجمعة في مكتبه ليقرأ عليَّ النشيد الأول من ملحمة (اليرموك) التي اقترحتها عليه، وربما خرج معي بعد القراءة إلىنزهة هادئة في طريق الأهرام؛ ثم ختم عليَّ حديثه الطويل بضحكة حلوة فيها أمل، وعبارة فكهة فيها تفاؤل! ولكنما كان بين يوم الأربعاء الذي حدثني فيه هذا الحديث، ويوم الجمعة الذي ضرب لي فيه هذا الموعد، يوم الخميس الذي سكن فيه قلبه الطيب فما ينبض بحياة ولا حب، وسكت لسانه الحلو فما ينطق بنثر ولا شعر: طلع صباحه الأسود المشئوم على غرفة علي وهو يلبس ثيابه ويداعب أصحابه، وينظر في الداخل فيرى طاقات الزهر تزين المنضدة، وفي الخارج فيرى ممرضات المستشفى يجمَّلن الممشى، فيهفو الشاعر المعمود إلىأزاهره التي تنفخ قلبه بالعطور، وإلى عرائسه التي تغمر شعره بالشعور، فيخرج ليؤدي ما عليه من المال للمصحة، ومن الشكر للأطباء؛ حتى إذا أبرأ ذمته من حقوق الناس أدار فيمن حوله من أصدقائه وذوي قرباه نظرة فاترة حائرة، ثم أسبل عينيه، وخر مغشيا عليه! فخف إليهأساته الذين بشروه العافية ووعدوه السلامة، وأخذوا يقلبونه ويفحصونه فإذا الجسد الجياش بالشباب والقوه هامد لا حراك به ولاحس فيه! وهكذا في
مثل ارتداد الطرف ذهب من أرض الآدميين إنسان، وغاب من سماء العبقريين فنان!
والهف نفسي على أحبائه وقد مسهم ما مسني من غصة الريق وحرقة الجوى حين نعاه إليه م الناعي! لقد كان كل معنى أقرب إلىعلي في أذهانهم إلاّ معنى الموت. لذلك ظلّوا متبلدين ساهمين، يقلبون الأكف أسى وحسرة، ويحركون الألسن إنكاراً ودهشة!
لا يا بديع الزمان! ليس الموت كما زعمت خطبا صعب حتى هان، ولا ثوبا خشُن حتى لان! إنما الموت نقيض الحياة وبغيضها من أزل الدهر إلىأبده؛ لا تقترب من مظنته، ولا تأنس بناحيته، ولا تسكن إلىريحه، حتى يفجأها كالقضاء، ويدهمها كالوحش، ويختلها كالصائد، ويختلسها كاللص! وهل الدنيا كلها بمن فيها وما فيها إلا معركة لا تفتر بين البقاء والفناء والجدَّة والبلى؟ أرحام تدفع، وأجداث تبلع، وهجوم فيه المرض والشهوة والأثرة، ودفاع فيه الطب والسياسة والخديعة، وصرعى هذه المعركة الضَّروس لا ينفكون يتناثرون من بين شقي الرحا الهائلة أشلاء لا تُشبع جوف الأرض، ودماء لا تنقع غليل الثرى!
عرفت علياً منذ سبع وعشرين سنه على الضفاف الخضر من مدينة المنصورة. وكان حين عرفته شابا منضور الطلعة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا يبصر غير الجمال، ولا ينشد غير الحب، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلاّ قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك!
كان كالفراشة الجميلة الهائمة في الحقول تحوم على الزهر، وترف على الماء، وتخفق على العشب، وتسقط على النور، لا تكاد تعرف لها بغية غير السبوح، ولا لذّة إلاّ التنقل. ثم تتبعته بعد ذلك في أطواره وآثاره، فإذا الفراشة الهائمة على أرباض المنصورة تصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، (والأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، (والأرواح والأشباح) في أطباق اللانهايه؛ وإذا الشاعر الناشئ يغدو الشاعر المحلق بجناح المَلك، وتارة بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة والشياطين بالناس!
كان علي - وا حسرتا عليه - من أصدق الأمثلة للشاعر الذي خلقته الطبيعة. والشاعر الذي تخلقه الطبيعة يكون في ذاته وفي معناه نشيداً من أناشيد الجمال، ولحناً من الحان الحب؛ فيكون شاعراً في أخلاقه ومُثُلة وأحلامه وهندامه وسلوكه، وفي نمط حياته وأسلوب
تفكيره وطريقة عمله وطبيعة صداقته. وأشهد لقد كان علي برَّد الله ثراه نسقاً فريداً في الصفاء والوفاء والمروءة والمودة. كان لا يطوي صدره على ضغينة، ولا يحرك لسانه بنقيصة، ولا يقبض يده عن معروف، ولا يعقد ضميره على غدر؛ فلم تدع له هذه الصفات الشاعرة النادرة عدوا، لا في نفسه ولا في الناس، فعاش ما عاش وادع البال في سلام الحب وأمان الصداقة.
قضى عليُّ عمره بالعرض لا بالطول، وقدر عيشه بالكيف لا بالكم، وجعل همّه في الحاضر لا في المستقبل، ونظر إلىالشعر نظر البلبل إلىالشدو، فكان يصدر عنه بالطبيعة إعلاناً لوجود، وإبرازاً لنفس، وكمالا لصوره، وجمالا لحياة! لذلك كان شعره تعبيراً صادقاً عن شعوره، وتصويراً ناطقاً لهواه، ونظاماً متسقاً مع خلقه وطبعه في الحرية والأصالة والوضوح والأناقة والسهولة والسلامة.
إن حياة علي طه كانت أشبه بالطيف خفق خفوق المَلك على حواشي الروض ثم عبر، أو الحلم نعم به رائيه في إغفاءة الفجر، ثم زال أو حبات الندى تلألأت في وجه الصباح ثم ذهبت في متوع الضحى، أو قطرات العطر سطعت في نفح النسيم ثم تبددت في عصف الريح. فالحزن على وفاته حزن على حبيب قضى، وخير مضى، وجمال ذوى، وشباب تولى، ووفاء غاض، وفن ذهب. فإذا بكينا فإنما نبكي علينا لا عليه، وإذا سألنا الله العوض منه فإنما نسأله لنا لا له. وكل ما نملكه للفقيد العزيز أن ندعو الله أن يتغمده برحمته، وأن ينزله منزلة الأبرار في نعيم جنته.
أحمد حسَن الزيات
الصديق الراحل
اليوم هادنت الحوادث، فاطرح
…
عبء السنين، وألق عبء الداء
خلفت في الدنيا بياناً خالداً
…
وتركت أجيالا من الأبناء
وغداً سيذكرك الزمان ولم يزل
…
للدهر إنصاف وحسن جزاء
(شوقي)
للأستاذ كامل محمود حبيب
من ضنى قلبي أذرف عبرات الحنين على قبر ثوى فيه حبيب، ومن لوعة الفؤاد أرسل زفرات الأسى لفراقك أنت، أيها الرجل. . . أيها الإنسان. ومن لهفة الروح أعاني البثّ وهو يتدفق في أعماق دمي لأنني وجدت فقدك في قرارة نفسي، أيها الصديق.
فلقد كنت - يا صاحبي - غصناً رطيباً سما ثم ذوى وصوّحت أوراقه.
وكنت روحاً تتوهج نبوغاً أشرق وتألق ثم خبا وانطفأ.
وكنت جذوة من عبقريات سطعت في سماء الشعر ثم همدت وجفَّت ذبالتها.
وكنت في قيثارة الحياة وتراً حساساً داعبته أنّات الشجون فأهتز يشدو بأنغام السماء.
وكنت في قيثارة الحياة وتراً كلما أرسل لحناً هاج للحن فؤاد شجٍٍ أو حنَّ قلب طروب.
كنت في الدنيا لمعة الفن ونور العبقرية. فكان الربيع الغض من صوغ بنانك، وشذى عطر أفواه الرياحين من فيض جنانك، وبسمة الأمل الحلو من لحن قيثارك، والبهجة والشجو من سحر يراعك.
وكنت شباباً عارماً فاض بالبشر فغنى فطرب، وشدا بالسحر فألقى الدهر للألحان سمعه، وتغنى فهفا الطير إلىأنغام عوده.
فيا للفجيعة فيك - يا صاحبي - وأنت كنت غصناً رطيباً سما ثم ذوى وصوَّحت أوراقه.
صاحب الزورق جذلان استخفًّه الطرب؛ هزّ هـ نوح نايك فانتشى فتهادى يضرب الموج بكفي رقة وحنان.
تائهاً في لجة الدنيا يرنو إلىشطئآنها في قلق الحائر.
صاحب الزورق قم وانظر هل بلغت الشاطئ الأمين بعد تيه العمر في بيداء السنين، أم أخرس الردى نغم نايك الحبيب، وقدَّ وتر قيثارك الرفيق.
أم غمرت - الآن - أشجان نفسك وأفراح قلبك في كأس مترعة من دم القلوب. . . القلوب التي هدَّها الحزن لفراقك.
قم تر مأتم الشعر يندب ربَّه، مأتم الفن والهوى والشباب ينادي سيده والفجيعة تفعم نواحيه.
قم تر الدنيا - بعدك - خواء من مزامير الخلد ونجوى العاشقين.
قم فلقد كنت - يا صاحبي - شباباً عارماً فاض بالبشرى فغنى فطرب.
لدى مشرق الحياة تلاقينا، والدنيا رخاء ودعة. فكنت أنت ريحانة الجمع وروح المجلس وبهجة الحديث ثم مرت الأيام والعيش تلاق وافتراق.
ومنذ أيام تلاقينا وأنت على فراش المرض، فإنصدع قلبي؛ غير إنك كنت شجاع القلب جريء النفس ثابت الحنان.
ثم جاء النعي. . . فدعني انشر ضعف نفسي على أيدي رفاقي، فما بي قوة لأكتم ضنى قلبي، أو استر لوعة فؤادي أو أداري لهفة روحي.
دعني اذرف عبرات الحنين على قبر ثوى فيه حبيب. دعني أرسل زفرات الأسى لفراقك أنت أيها الرجل، أيها الإنسان. دعني أعاني البث وهو يتدفق في أعماق دمي لأنني وجدت فقدك أيها الصديق. . .
دعني أرق آلام نفسي بين يدي قبرك العزيز قبل أن يجرفني تيار الحياة القاسي. . .
دعني. . . دعني أشيعك بنظرات الأسى ونبضات الهم، ثم أناديك - وأنت في طريق الأبدية - وداعاً. . . وداعاً، أيها الحبيب. . .
كامل محمود حبيب
سيف بن عمر
للدكتور جواد علي
ذلك سيف بن عمر، مؤرخ نشيط من مؤرخي القرن الثاني الهجرة. كان مثل زملائه نهماً في التفتيش عن إخبار الماضين، وتتبع أمورهم، والكتابة عن الأموات مثل جماعتنا أصحاب التأريخ لم يترك التأريخ حتى أحبه واصطفاه من بين الناس فمات سنة 180الهجرة فكتب عنه من كان على شاكلته، من أصحاب التأريخ. من هؤلاء المفتونين بنبش الماضي، والبحث عن الحسنات والسيئات. وهي لا تقدم المؤرخ المسكين ولا تؤخره، ولا تقدم العالم ولا تؤخره، ولكنها الدنيا، والدنيا عالم الجنون فيه فنون. وأنا مع الأسف الشديد من صرعى هذا الجنون. ولكن ولله الحمد الذي لا يحمد على محبوب أو مكروه سواء، لولا هذا الجنون لما حدث عمران ولا ظهر اختراع ولأحدثت هذه الطفرات التي هي من عمل (المجانين) الذين يمتازون عن الأسوياء بحالات سمّها يا أخي ما شئت. . .
ثم سيف بن عمر الذي أقدمه للقراء كوفي من مدينة (الكوفة) المدينة العلوية الخارجية العثمانية السفيانية المروانية العباسية، حرباء المدن، و (منجستر) زمانها، صاحبة المعامل الضخمة والشركات الكبرى لصنع الأخبار، ورواية الأحاديث ووضع القصص، المدينة التي نفقت سوقها في الأخبار، واشتغلت معاملها ليل نهار في صنع الشعر والنثر فأخرجت بضاعة مزجاة، على درجات متباينات، بينها الصحيح السليم الأصيل الذي يمثل أعلى درجات الرواية، وبينها الموضوع المنحول الفاسد، الذي له أصحاب واتباع وسوق على كل حال، يعيش عليه عدد من أصحاب الفطنة والذكاء والمكر والقصد، وأصحاب العقائد أيضاً الذين يرون في الوضع نصراً للعقيدة والمذهب، وقربى إلىالله، وراحة للضمير.
ولم يرد في الكتب أن صاحبنا كان واحداً من أولئك الذين عرفوا بالعبث والمجون وبفساد الأخلاق كوالبة بن الحبَّاب، أو مطيع بن أياس، أو حماد عجرد، أو حماد بن الزبرقان، أو حماد الرواية، أو أمثالهم ممن أختلط حديثهم بالمجون، واكتسب أدبهم لوناً، وإن أبعد ما يكون عن الشهامة والآداب، وحياة الرزانة والجد، واقرب ما إلىالعبث وتمضية الوقت، إلا أنه لون ظريف على كل حال من ألوان الأدب. والأدب في عرف الأدباء أشكال وألوان.
ولم يعرف عنه شعر من ذلك النوع الذي كان يقوله الشعراء في دار (ابن رامين) قبلة الشعراء المجان الذين يبحثون عن الخمر والجمال في هذه الدار. ولم يعرف عنه أمر آخر من تلك الأمور التي تعد منقصة في الرجال، ومع ذلك فقد اتهم بالزندقة والوضع، والكذب في الحديث.
أما الزندقة فلا أستطيع أن أثبتها ولا أن أنفيها، فلم تذكر الكتب التي اتهمته بهذه التهمه الأسباب الداعية إلىهذا الاتهام. وأما الوضع والدس والكذب في الحديث فلها شأن ستراه فيما بعد.
وعرف سيف بتخصصه بلون واحد من الأخبار، هي أخبار (الفتوح والردة) وكلها حروب وعراك: حروب لنصر كلمة الله وإعلان شأنه، وعراك لإخماد كلمة من أراد إخماد كلمة الله وإطفاء نوره. ولذلك قيل له صاحب (كتاب الردة والفتوح) وعرف بهذا الكتاب الذي لم يصل لنا كاملا مع الأسف، ولعله لم يصل إلىالناس منذ أمد بعيد. وتدل وقائع الأحوال على أنه كان صاحب كتب أخرى في التاريخ.
وقد اعتمد على هذا الكتاب مؤرخ حصيف شهير هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير غالب أبو جعفر الطبري المتوفى سنة (310) للهجرة، وإلى هذا المؤرخ يعود الفضل في إطلاعنا على نماذج من ذلك الكتاب، وعلى فصول منه. وقد ألف عدد من كبار المؤرخين (الردة) ومع ذلك فقد رجح الطبري سيف على سواه؛ رجحه حتى على (كتاب الردة والدار) لأبى عبد الله محمد بن عمر الواقدي. وعلى (كتاب الردة) لأبى الحسن على بن محمد المدائني. وعلى كتب أخرى لمؤرخين شهيرين في هذا الموضوع كانوا الطليعة وفى مقدمة أصحاب الأخبار. ويستمر صوت (سيف) عالياً في تأريخ الطبري، حيث تجد له مكانة في الكتاب، إلىانتهاء حوادث معركة (الجمل) فينخفض هذا الصوت ثم ينقطع تماماً، ليرتفع صوت آخر، صوت قوي رنان، هو صوت أبي مخنف لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف الأزدي الذي يتسلم دوره، ويصبح بطل الكتاب من معركة (صفين) فيما بعد يساعد، المدائني وعوانة والوافدي وعمر بن شبة وابن الكلبي وأمثالهم.
وكان سيف كأكثر أصحاب الأخبار عاطفي المزاج، متعصباً لقبيلته، يرفع من شأنها، ويضيف إليه ا، ويجعلها بطلة في كل الحوادث، مثله في ذلك مثل أكثر مؤرخي زمانه،
الذين أضافوا إلىقبائلهم ما لا يدخل في حسابها، فخلقوا لها شعراً ونثراً ليجعلوا لها شأناً يفوق شأن القبائل الأخرى. وما الذي يهم ابن القبيلة غير قبيلته التي ينتمي إليه ا، والتي تدافع عنه، والتي تكون قوميته، أما القبائل الأخرى فأمرها إلىالله.
وأنا لا أريد أن ألوم صاحبنا على عاطفته الجامحة هذه، فقد كان عصره عصر القبائل، وقد كان النظام السياسي القائم نظاماً قبلياً، يستند على العصبية القبلية. لا حقوق للمواطن فيه إلا إذا كان ينتمي إلىقبيلة تحميه، أو إلىعشيرة تدافع عنه، فطبيعي إذا أن يكون على المؤرخ في ذلك الوقت إلىواجب شاق، ودين في عنقه للقبيلة، فهو مضطر إذا بحكم الوقت إلىالتعصب لعشيرته، وإضافة المفاخر إليه ا، فلا نلوم صاحبنا إذا إذا ما أضاف إلى (تميم) ونسب إليه افي الفتوحات والردة ما كان يجب أن ينسب لقبيلة أخرى. فالعصر عصر قبائل. وقد نسب محمد بن الساب بن بشر الكلبي المتوفى سنة 146 وابنه أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي المتوفى سنة 206 للهجرة وغيرهما ممن هو أقدم أو أحدث عهداً منهما، أشياء كثيرة إلىقبائلهم لم يكن لهل أصل ولا نسب في الأخبار.
ثم لا تعجب من فعل أولئك الناس؛ فقد أضاف القرن العشرين بآلاته واختراعاته وتقدم العقل فيه أضعاف الذي أضافه أولئك الذين نتحدث عنهم، كما حذف القرن العشرون بكبريائه واعتداده بما يملكه من وسائل النقد والتدقيق، والتمحيص، شيئاً كثيراً من الحقائق والوقائع التي يعرفها الناس في كل مكان فلا عجب إذا ظهر من قال: كذب والله أصحاب التأريخ. وويل للعالم من شر المؤرخين. وأنا واحد منهم على كل حال.
درس سيف بن عمر على جماعة من المؤرخين والمحدثين والإخباريين أمثال هشام بن عروة المتوفى سنة 146 أو 147 للهجرة وهو من ممثلي مدرسة الحديث في المدينة ومن كبار المحدثين بها، وناشر طريقة أهل المدينة في العراق، ومن المحدثين بحديث أهل العراق، والذي عده أهل المدينة فيمن أسف في أواخر عهده في الحديث، وانحرف عن الجادة، جادة أهل المدينة المعروفة في كيفية رواية السند، وفي الحرج والتعديل، فتركه المشائخ مشائخ المدينة الذين حافظوا على الطريقة التي ورثوها وهي طريقة محافظة بالنظر لأهل الحديث في العراق.
ودرس على محدث آخر يرجع أصله إلىالبيزنطيين هو أبن جريج، أبو الوليد أو أبو خالد
عبد الملك بن عبد العزيز الرومي المتوفى سنة (150) من أوائل المؤلفين في الإسلام. وكانت له كتب تتداولها الأيدي عرفت عند أصحابه بكتب الأمانة. يظهر أنها كانت مبوبه ومرتبه على فصول. وهو من المشتغلين بالسيرة والمغازي بالإضافة إلىالفقه والحديث. وأخذ عن أستاذ آخر هو موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي مولى آل الزبير المتوفى سنة 141 للهجرة من محدثي المدينة ومن قدماء المشتغلين بالسيرة والمغازي. وهو ثقة أهل المدينة في السيرة، قال عنه الإمام مالك: عليكم بمغازي موسى بن عقبة فإنه ثقة؛ أو عليكم بمغازي الرجل الصالح موسى بن عقبه فإنها أصح المغازي. وهي شهادة ذات قيمة، فقد كان الإمام صعب الأرضاء، لا يعطي مثل هذه الشهادة إلا بعد امتحان.
وقد نقل من مغازيه عدد من العلماء مثل ابن جريج والواقدي وابن عيينة، وعرف مؤلفه عند المشائخ بمغازي موسى بن عقبه. وقد عثرت على قطعة منه حفظت في خزانة كتب برلين. وكان من مشائخ سيف، رجال معروفون في عالم التاريخ، لهم أسماء بارزة ترد في أكثر الكتب التي تبحث عن صدر الإسلام أمثال محمد بن السائب الكلبي عالم الكوفة ومرجع أهل الأخبار والأنساب المتوفى سنة (146هـ) ومن المؤلفين، وأمثال محمد بن إسحاق صاحب السيرة المعروف، وحامل طريقة أهل المدينة في كتابة السيرة إلىأهل العراق. وأمثال هؤلاء ممن قد يخرجنا البحث عنهم عن الاستمرار في وحدة الموضوع.
واقتبس من كتب (سيف) عدد من المؤرخين، منهم، نصر بن مزاحم المنقري المتوفى سنة (212) للهجرة، صاحب كتاب (وقعة صفين) والطبري أبو جعفر محمد بن جرير، في (أخبار الردة) والظاهر أنه استعان بكتاب (سيف) بالذات كالذي يفهم من قول الطبري (حكى الطبري عن سيف في كتابه عن أبي عثمان. . .). أو (ذكر سيف عن أبي الزهراء القشيري عن رجل من بني قشير. . .) ومن عادة الطبري استعمال مثل هذه العبارات عند النقل من الكتب، وإلا فيذكر السند، إلا في الحوادث التي وقعت في أيامه أو في أيام ليست بعيدة عنه. واستعان الطبري بكتاب آخر من كتاب سيف هو (كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي) وقد أخذ سيف أقواله من مظانها الأصلية، ومثل شهود عيان شهدوا المعارك، أو ثقاة سمعوا من الشهود الثقاة، وقد ذكرت أسماء قسم منهم في موضعه من تأريخ الطبري، في القطع التي انتزعها من ذلك الكتاب. فحفظ لنا (ابن جرير) بذلك نماذج من هذا المرجع
القيم المفقود. ولعل له كتاباً في معركة (صفين) هو الكتاب الذي نقل منه (نصر بن مزاحم) في بعض الأماكن من كتابه (وقعة صفين).
ورد أسم (سيف بن عمر) في أكثر من (300) موضع من تأريخ الطبري، ورد لأول مرة في حوادث سنة (10) للهجرة وهي السنة التي بدأ مسيلمة فيها بادعاء النبوَّة في حياة الرسول. وورد أسمه لآخر مرة في حوادث سنة (36) للهجرة وفي ابتداء علي بن أبي طالب بالخروج إلىصفين. ثم تنتهي أخبار سيف عند هذا الحد وتنقطع. فهل يعني هذا أن صاحبنا لم يشتغل إلا في الردة ومعركة الجمل؟
يحدثنا ابن النديم عن سيف فيقول: أحد أصحاب السير والأحداث وله من الكتب، كتاب الفتوح الكبير والردة، كتاب الجمل ومسير عائشة وعلي، وروى سيف عن شعيب ابن إبراهيم). فيظهر من كلام ابن النديم انه كان صاحب مؤلف كبير في الفتوح. يظهر أنه فقد مع الأسف، ولعل له عدداً من المؤلفات الأخرى لم يصل خبرها إلىمسامع ابن النديم.
وأخذ الطبري أخبار (سيف) عن طريق آخر هو طريق شيخه (السرَّى) الذي ورد اسمه في (241) موضعاً من تأريخ الطبري. ورد لأول مرة في أخبار الردة، وورد لآخر مرة في حوادث سنة 145 للهجرة، في معرض الكلام عن تأسيس مدينة بغداد. والسرى الذي يقصده الطبري هو: السرى بن يحيى من رواة شعيب بن إبراهيم الكوفي رواية كتب سيف بن عمر. وقد قال ابن حجر العسقلاني عن شعيب ابن إبراهيم فيه جهالة، ليس بالمعروف وله أحاديث وأخبار وفيه بعض النكرة ولا نعرف من أمرهما مع الأسف شيئاً مع كثرة ورود اسميهما في تأريخ الطبري.
لم يكن سيف بن عمر رواية شعيب بن إبراهيم كما ورد ذلك في كتاب الفهرست لابن النديم وفي كتاب (ميزان الاعتدا) للذهبي المتوفى سنة 748 للهجرة. والصحيح هو العكس. فقد كان شعيب بن إبراهيم رواية كتب سيف، وقد صرح بذلك ابن حجر العسقلاني في كتابة (لسان الميزان). كما أن الطبري نفسه يفند رأي الفهرست وميزان الاعتدال في جميع المواضع التي وردت فيها أخبار سيف حيث يقول مثلاً (وحدثني بهذا الحديث السري عن شعيب بن إبراهيم عن سيف). أو (حدثنا السرى قال أخبرنا شعيب قال حدثنا سيف) أو (كتب إلىالسرى بن يحيى عن شعيب عن سيف) أو (قال أبو جعفر فيما كتب به
إلىالسرى بن يحيى يذكر عن شعيب بن إبراهيم أنه حدثه سيف بن عمر). فكان شعيب بن إبراهيم إذا من تلامذة سيف بن عمر ورواته وحامل كتبه والمقربين لديه.
وشعيب بن إبراهيم مثل شيخه لا نعرف من أمره مع الأسف شيئا، وقد طعن أصحاب علم الرجال فيه، وقالوا إن فيه جهالة وفيه بعض النكرة. وهي أقوال قيلت في أكثر الرجال الذين مالوا إلىالأخبار، وقيلت أقوال أخرى أشد من هذه في أناس أعرف عندنا من سيف، ومن شعيب، ومن السرى بن يحيى، مثل إسحاق صاحب السيرة الشهير، والواقدي محمد بن عمر المتوفى سنة 207 للهجرة. وابن الكلبي، وفي أناس أرفع من هؤلاء في نظر أهل الحديث مثل عبد الملك بن جريج. فلا غرابة إذا رأينا كتب الرجال وهي تجرح هؤلاء: السرى بن يحيى وشعيب بن إبراهيم وشيخه سيف بن عمر. وسبب ذلك على ما يظهر انشغالهم برواية الأخبار. وقد كان الاشتغال بهذا الفرع في القرنين الأولين من الأمور التي لا ترفع من شأن الرجل في نظر المحدثين.
وتتصل رواية الطبري عن سيف بن عمر بطريق آخر: طريق عبيد الله بن سعيد الزهري المتوفى سنة 260 للهجرة. وقد ورد اسمه في (400) موضع من تأريخ الطبري. وقد نقل روايات (سيف) عن عمه يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري نزيل بغداد المتوفى سنة 208 للهجرة وكان رواة (سيف) وكان من رجال الحديث، كما كان من رجال التأريخ والأدب. وقد ورد اسمه في (39) موضعاً من تأريخ الطبري ورد لأول مرة في حوادث سنة (10) للهجرة في خبر حجة الوداع ومرض الرسول. وقد نقل خبره عن سيف. ويظهر من هذا الموضع ومن مواضع أخرى أنه كان لسيف كتب أخرى في السيرة وفي الأحداث الأخرى. ربما لم تلق رواجاً، أو حدث لها ما سبب فقدانها فلم يصل خبرها إلىابن النديم وغير ابن النديم.
واعتمد الطبري في فصل الفتوح على كتاب سيف كذلك، وقد أخذ المتن من (السرى بن يحيى) في الغالب، واعتمد عليه في أخبار الفتن التي قامت على عثمان مثل فتنة (عبد الله بن سبأ) التي أظهرها في البصرة عام (33) للهجرة. وقد نقل سيف روايته عن (عطية بن الحارث أبو روق الهمداني من كبار رواة الأخبار في الكوفة ومن مشاهير المفسرين. وهو من رواة عكرمة والضحاك بن مزاحم. وقد ورد اسمه في (46) موضعاً من تأريخ الطبري
وقد أخذ أبو روق أخباره عن عبد الله بن سبأ وخبره مع أبي ذر الغفاري، ومراسلات ابن سبأ مع زعماء الفتنة من شخص آخر هو يزيد بن الفقعسي، وورد اسمه (يزيد) في (5) مواضع من تأريخ الطبري كلها في حوادث عثمان وعلي. ومن هذا المصدر أخذ أكثر أهل الأخبار رواياتهم عن عبد الله بن سبأ وفتنته في أيام عثمان وعلي. ولذلك يجب الانتباه إلىذلك عند تدوين هذا الحادث والتعمق في البحث.
وقد ذكر الطبري أسماء مشائخ (سيف بن عمر) في المواضع التي أورد فيها قطعاً من كتب (سيف) أو رواياته، وهي تفيدنا بالطبع في معرفة أساتذة هذا الرواية من جهة، وفي معرفة الرواة الذين كانوا يتعاطون رواية الأخبار في ذلك الوقت من جهة أخرى؛ وبينهم عدد يظهر أنهم كانوا من أنشط الأخباريين في ذلك العهد ربما نتحدث عنهم في فرصة أخرى إذا طال بنا العمر.
الدكتور جواد علي
مكانة الدين في التعليم
للدكتور السيد محمد يوسف الهندي
بمناسبة ما كتبه أخيراً الأستاذ عباس خضر عن مكانة الدين في التعليم ألفت نظر القراء إلىملاحظات الكاتب الإنجليزي كنث رشمند فإنه يقول في معرض الكلام عن الاتجاهات الجديدة (وهي ضد ذلك النوع من (التقدم) الذي يحاول أمثال سلامة موسى أن ينتحلوه لأنفسهم عفواً بلا كد ولا تعب) في ميدان التعليم بإنجلترا ما يلخص بأن ظروف الحرب العالمية الأخيرة - مثل اختفاء الفوارق بين الطبقات في المخابئ والمساهمة في التضحيات على السواء، والإقبال على الخدمات الاجتماعية، وضرورة الارتجال في كثير من الأمور - أثارت في الشعب شعوراً قويا يجعل التعليم جماعيا بعد ما كان إلىما قبل الحرب فرديا. ومعنى ذلك أن الفرد سيربى تربية تبعثه على الاهتمام بمصالح الشعب كله بعد ما كان يعود قصر ذلك الاهتمام على مصلحة ذاته، وبعبارة أخرى ستبذل من الآن محاولة للإبقاء على عواطف الأفراد ومشاعرهم نحو الجماعة أو الشعب في حالة السلم على ما كانت هي عليه إبان الحرب وأمام خطر الفناء المشترك. ولنضرب لذلك مثلا، فإن الفرق دقيق ويتعلق بالروح أكثر مما يتعلق بالشكل: من المعروف أن كليات العلوم والهندسة في إنجلترا كانت قد تحولت أيام الحرب إلىمصانع للقنابل والعتاد الحربي، كما أن المصانع كانت قد أنشأت فصولا لتدريب فئات مختلفة من الشبان الجدد في الصناعات المختلفة، وكان المنخرطون في هذه الصفوف طلابا ناشئين للعلم؛ وكانوا في الوقت نفسه يقومون مقام العمال المنتجين يدفع لهم بعض الأجر، ولكن الطالب كان يشتغل لا ليكتسب لنفسه ويهيئ سبيل العيش لذاته، بل إنما كان ذلك مساهمة منه في المجهود القومي للدفاع عن الشعب بأسره. وكان يكتنف العمل من أوله إلىآخره جو من الحقيقة والواقعية والحماس وإخلاص النية جعل التعليم أسرع وأنفذ وأنجع بكثير من إلقاء المحاضرات وتجريع الدروس في المعامل التجريبية.
كان من الطبيعي إذا أن يتجه المسئولون عن سياسة التعليم، غير المصابين بمركب النقص الذي يحدو المرء إلىمحاكاة التقدم الزائف، إلىالتساؤل: هل يمكن أن تستمر هذه الروح الجماعية السليمة القوية تسود معاهد التعليم بعد أن انتهت الحرب وزال الخطر؟ وكان
الجواب: نعم بشرط أن يكون هناك مقصد عال ومرمى واضح يوضع موضع الانتصار على هتلر وأعوانه. وهل يتصور أن يتألف هذا المقصد السلمي الدائم إلا من قيم روحية وأخلاقية وإنسانية ذات منفعة عالمية يجد الفرد في تنميتها وتشييدها ما كان يجد في إمداد القوى المحاربة وتعزيز الدفاع ضد العدو؟ ثم هناك مسألة أخرى وهي: هل يمكن أن توجد وتقوى وتزدهر القيم الروحية والأخلاقية مجردة عن نظام ديني؟ مهما يقل القائلون في هذا الصدد فإنه يكفينا في هذا المقام أن المفكرين في إنجلترا رأوا أن لا معدي لهم عن الارتكاز على الدين (لا استغلاله كما نفعل نحن في بعض المناسبات) ولذلك رسموا للدين مكانا محترما ممتازاً في مشروع قانون التعليم لسنة 1944م. ولكن هناك بعض الناس يخيل إليه م أن القيم الإنسانية إذا اقترنت بالإسلام فهي لابد أن تتحول (طائفية) أرى أن الانصراف عن إقناع هؤلاء الناس أولى من الرد عليهم.
وهكذا مر التعليم بأربعة أدوار مختلفة؛ فإنه كان في الأول يقتصر على نقل بعض الملومات إلىذهن الطالب. ثم اتسع نطاقه حتى شمل الجسم السليم مع العقل السليم؛ وبعد ذلك أشاروا بإبراز شخصية الطالب وتنمية قواه الكامنة فحسب، حتى انتهى بهم المطاف في الوقت الحاضر إلىإدماج تلك الشخصية في المجتمع وضرورة توجيه عواطف وتركيز اهتمامه في المصالح الجماعية.
وللكاتب الإنجليزي المذكور استطرادات طريفة، منها أن الولاء للقدور السامية والقيم الأخلاقية من أقوى الضمانات للإقلال من أوقات الفراغ والقضاء على الكسل والبطالة والحد من المرح والهزل؛ وفوق ذلك كله هو الدواء الوحيد لتجنيب الإنسانية ويلات تقدم العلوم والحضارة الآلية التي تؤدي إلىفناء المواساة وعدم المروءة. ولعل من أهم ما استطرد إليهالكاتب مصارحته القول بأن الديمقراطية الحقة لا يمكن أن توجد إلا بالاستناد إلىالدين؛ وذلك لأن المساواة بين الناس شيء لاوجود له. في العالم الخارجي المحسوس ولا يقرَّهُ العقل. أو ليست الحقيقة البسيطة الملموسة التي تؤكد نفسها علينا كل لحظة هي استحالة وجود رجلين متساويين في الخلق والمواهب والقدرة؟ أو لا ترون أن الفيلسوف هكسلي لم يكن عنده رادع من أن يهزأ علنا من تصور وحقوق الإنسان الطبيعية؟ فهل نقنع بوجوب استبدال أرستقراطية العقل والدهاء بأرستقراطية الحسب والمال؟ حقا لا ينشأ
تصور المساواة بين الناس إلا بالنظر إلىعلاقتهم جميعا مع خالق الزمان والمكان ومصرف الكون والفساد.
السيد محمد يوسف
غزل أبي فراس
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
غزل أبي فراس قصير النفس، لا يكاد يتجاوز ما أنشأه للغزل قصدا البيتين والثلاثة غالبا، مكتفيا بذلك في التعبير عما ألم به، من انفعال سريع.
أعرف شاعرنا الحب؟ أم أن غزله تقليدي لا ينبعث عن حب ولا عاطفة؟
أرجح أن الشاعر عرف الحب وتأثر به، بدليل هذه القطع التي نظمها خاصة في النسيب، ولم يقف عند حد المقدمات التي يفتتح بها بعض قصائده. ولم يكن أبو فراس ممن ينشئ الشعر إلا ترجمة لعاطفته، وتعبيراً عما في نفسه، ولكننا نكاد نلمس أن هذا الحب، ما كان يشغل من هذه النفسية الشاعرة إلا حيزاً محدوداً صغيراً، لأن هذا القلب الكبير كان في شغل بكبار الأماني وسامي الآمال، ولم يدع ذلك منه إلا فراغاً يسيرا تشغله هذه العاطفة القوية.
عرف شاعرنا الحب، ولعل من بادلها تلك العاطفة كانت قريبة له، وربما كانت جميلة بنت ناصر الدولة، فإنه أنشأ قصيدة يودع فيها بعض أهله، وقد خرجت تسعى إلىالحج، وهذه القصيدة تفيض بعواطف حارة متدفقة، ينم عنها بكاؤه، ويذكيها في صدره ما امتازت به تلك الفاتنة من غرام بالصون، وحب للحجاب حتى ليكاد وجهها تخفى معالمه على خدرها، وها هو ذا يقص علينا حديثه يوم سافرت تلك الحبيبة المصونة ولعلها جميلة:
أشيعه، والدمع من شدة الأسى
…
على خده نظم، وفي نحره نثر
رجعت، وقلبي في سجاف غبيطه
…
ولي لفتات نحو هودجه كثر
وفيمن حوى ذاك الحجيج خريدة
…
لها دون عطف الستر من صونها ستر
وفي الكم كف لا يراها عديلها
…
وفي الخدروجه، ليس يعرفه الخدر
وقد سجل في هذه القصيدة شعورا صادقا حيا. وإن شدة شعوره بحيوية تلك الحبيبة، جعلته يحس كأنها تبعث الحياة فيما يحيط بها، حتى في النبات والجماد، فيقول:
فهل عرفات عارفات بزورها
…
وهل شعرت تلك المشاعر والحجر
أما اخضر من ريحان مكة ما ذوى
…
أما أعشب الوادي؟ أما أنبت الصخر
وقد أنشأ هذه القصيدة في الغزل خاصة؛ وهي أطول شعره فيه، وربما ذاق من هذا الحب،
ما شجاه حينا وأضناه، حتى صح له أن يقول:
أمعنية بالعذل، رفقا بقلبه
…
أيحمل ذا قلب، ولو أنه صخر؟
عذيري من اللائى يلمن على الهوى
…
أما في الهوى لو ذقن طعم الهوى عذر
ومنكرة ما عاينت من شحوبه
…
ولا عجب ما عاينته، ولا نكر
وقائلة: ماذا دهاك تعجبا؟
…
فقلت لها: يا هذه، أنت والدهر
أبالبين، أم بالهجر، أم بكليهما
…
تشارك فيما ساءني البين، والهجر
كان صدق إحساس أبي فراس بالحب ينبوعا لتعبيرات صادقة عن عواطف صادقة، فهو يخشى على حبيبه أن تمسه العيون بأذاها فيستحلفه أن يرد عليه لثامه:
أيا سافرا، ورداء الخجل
…
مقيم بوجنته، لم يزل
بعيشك، رد عليك اللثام
…
أخاف عليك جراح المقل
فما حق حسنك أن يجتلى
…
ولا حق وجهك أن يبتذل
ويتقبل ظلم حبيبه، بنفس راضية، بل متلذذة بهذا الظلم:
وبعض الظالمين وأن تناهى
…
شهي الظلم مغفور الذنوب
ويقر أنه مذنب، وإن لم يجن ذنبا، ويتوب عن إثم لم يقترفه
أقر له بالذنب، والذنب ذنبه
…
ويزعم أني ظالم فأتوب
ويقصدني بالهجر علما بأنه
…
إلى، على ما كان منه، حبيب
ويجد في الهجر القصير الأجل لذة تجدد الحب:
إنما يحسن التهاجر يوما
…
فإذا كان دائما فقبيح
كل هجر يدوم يوما إلىالليل، ويفنى، فذاك هجر مليح
ويتخيل حبيبه وقد غاب عنه، فيصوره في شعره، ويتساءل: أينساه وقد غاب عنه:
وبالدارين إنسان
…
له في القلب داران
إذا ما ماس في القر
…
طق، يسعى بين أخدان
رأيت البدر فدبا
…
ن، على غصن من ألبان
وخدا يجتنى الور
…
د، به، في كل إبان
ألا يا صاحبي رحلي، بالله أجيباني
ترى من لست أنساه
…
على الحالات ينساني
ويتحمل إدلاله ويحفظ عهده، لأنه ليس له عنه معدي ولا متحول:
نبوة الإدلال ليست
…
عندنا ذنبا يعد
قل لمن ليس له عهد: لنا عهد، وعقد
جملة تغني عن التفصيل: مالي عنك بد
إن تغيرت فما غير منا لك عهد
ويقبل ذلة الحب برغم أنه أمير من بيت الملك:
وباخلة أنالتني قليلا
…
وقد يرضى القليل من البخيل
قنعت به، وكنت أظن أني
…
عزوف النفس عن نيل قليل
ولكني وجدت الحب يكسو
…
عزيز القوم أثواب الذليل
وما كان يرى ذل الحب إلا عزاً:
بنفسي التي أخفت مخافة أهلها
…
وداعي، وأبدت حين أبدت لنا رمزا
فلم أر مقتولين: مثلي ومثلهما
…
أذلاً، وإن كان لعمر الهوى عزا
ويستسلم للحب، وأن قوبل بالجفاء:
وكنى الرسول عن الجواب تظرفا
…
ولئن كنى، فلقد علمنا ما عنى
قل يا رسول، ولا تحاش، فإنه
…
لابد منه، أساء بي، أم أحسنا
الذنب لي فيما، لأنني
…
مكنته من مهجتي، فتمكنا
ولكنه يثور على الحب إذا كان فيه غدر وخيانة:
الآن حين عرفت رشدي،
…
واغتديت على حذر
ونهيت نفسي فإنتهت،
…
وزجرت قلبي فإنزجر
ولقد أقام على الضلالة،
…
ثم أذعن واستقر
الحب فيه مذلة،
…
إلا على الرجل الذكر
هيهات، لست أبا فراس،
…
إن وفيت لمن غدر
وتلك ثورة نفسية، تدرك المحب إذا رأى الغدر ممن يحب هذا، وأرجح أن الحب الذي كان بينه وبين قريبته كان حبا طاهرا عفيفا، تحوطه شدة الصيانة من جانب الحبيبة. وأغلب
الظن أن هذه الليالي التي غلب الخمر فيها عقل من يهوى، والتي يصف واحدة منها بقوله:
وزيارة من غير وعد
…
في ليلة طرقت بسعد
بات الحبيب إلىالصباح
…
معانقي، خدا لخد
يمتار في وناظري
…
ما شئت من خمر وورد
قد كان مولاي الأجل
…
فصيرته الراح عبدي
ليست بأول منة
…
مشكورة للراح عندي
لم تكن مع هذه القريبة المحتشمة.
وقد ذكرنا أن أبا فراس قد أخذ بنصيب من اللهو، ولعله كان يرى أن الحب لا يحول بينه وبين المتعة، إذا ظفر بها.
ومن مجموعة شعر أبي فراس نستطيع أن نرسم صورة للمرأة المثالية عنده، فهي البيضاء، المتوردة الخد، الفاترة الجفن، ذات الشعر الفاحم، الممشوقة القد، الناهدة الصدر، الهيفاء الخصر، في غير هزال.
وتغزل أبو فراس بالغلمان كذلك؛ وإن هذا الداء الوبيل قد وجد سبيله إلىقلب شاعرنا؛ وكانت البيئة التي عاش فيها تساعد عليه؛ فقد كان أميره ومثله الأعلى سيف الدولة يعشق غلاما تركيا اسمه يماك.
تغزل أبو فراس في غلمانه، وترك من هذا الغزل مقطوعات قصيرة كذلك، وبعضها يفيض بالرقة والحنان، يقول:
الورد في وجنتيه
…
والسحر في مقلتيه
وإن عصاني لساني
…
فالقلب طوع يديه
يا ظالما، لست أردى
…
أدعو له، أم عليه
واسم هذا الغلام منصور، وله غلمان أخر، وإن كان لمنصور الغلب على قلب الشاعر. ولسنا ندري جنسيته على وجه التحقيق، ولا أن كان المقصود بتلك الأبيات التي يتغزل فيها بمملوك فارسي، وقد أستغل الشاعر فيها معركة ذي قار، التي كانت لقبائل العرب ومن بينها تغلب قبيلة الشاعر على الفرس، وقد أحسن هذا الاستغلال حين قال:
بأبي شادن، بديع الجمال
…
أعجمي الهوى، فصيح الدلال
سل سيف الهوى على، ونادي
…
يا لثأر الأعمام والأخوال
كيف أرجو ممن يرى الثأر عندي
…
خلفا من تعطف ووصال
ما درت أسرتي بذي قار أني
…
بعض من جندلوا من الأبطال
أيها الملزمى جرائر قومي
…
بعد ما قد مضت عليها الليالي
(لم أكن من جناتها علم الله، وإني بحرها اليوم سالي)
ولأبي فراس، غير هذا الغزل الحقيقي، غزل تقليدي يفتتح به قصائده، ولا يريد به غالبا التعبير عن عواطف تجيش في نفسه. وهو في هذا الغزل يتشبه بالأقدمين في وقوفهم على الديار، وسؤالهم الأطلال:
على لربع العامرية وقفة
…
يملى على الشوق والدمع كاتب
فلا، وأبى العشاق، ما أنا عاشق
…
إذا هي لم تلعب بصبري الملاعب
ومن مذهبي حب الديار لأهلها
…
وللناس فيما يعشقون مذاهب
وفي هذا الغزل التقليدي يبدو الضعف، والمغالاة والصناعة اللفظية، وتكرير المعاني المألوفة، ولا تحس بروح الغزل القوية المتدفقة، وأي قوة في قولة:
قلوب فيك دامية الجراح
…
وأكباد مكلمة النواحي
وحزن لا نفاد له، ودمع
…
يلاحي في الصبابة كل لاح
أتدري ما أروح به، وأغدو
…
فتاة الحي: حي بني رياح
ألا يا هذه، هل من مقيل
…
لضيفإن الصبابة أو مراح
وترى التشبيهات المتداولة بالشمس والغزالة والأقحوان، كما تلحظ في هذا الغزل أيضاً التناقض، وعدم الوقوف عند المعقول. نجد هذا التناقض في قوله:
إن الحبيب الذي هام الفؤاد به
…
ينام عن طول ليل، أنت ساهره
ما أنس لا أنس يوم البين موقفنا
…
والشوق ينهى البكا عني، ويأمره
وقولها، ودموع العين واكفة
…
(هذا الفراق الذي كنا نحاذره)
فحبيب تكف دموعه ويحذر الفراق، لا ينام عن طول ليل يسهره صاحبه، ويبدو البعد عن حدود المعقول في قوله:
تسائلني من أنت؟ وهي عليمة
…
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
فقلت كما شاءت وشاء لها الهوى
…
قتيلك، قالت: أيهم فهم كثر
ووجه الغرابة في هذا أن الشاعر قد أخبرنا في هذه القصيدة عينها أنها قد وعدته بالوصل، وأنه أحب البدو من أجل حبها، وحارب قومه في سبيل هواها، ولا يعقل بعد ذلك أن تجهله الحبيبة ولا تدري من هو؟ وهي التي يقول فيها:
معللتي بالوصل، والموت دونه
…
إذا مت ضمآنا فلا نزل القطر
بدوت، وأهلي حاضرون، لأنني
…
أرى أن دارا لست من أهلها قفر
وحاربت قومي في هواك، وإنهم
…
وإياي - لولا حبك - الماء والخمر
نلحظ في غزل أبي فراس، سواء الحقيقي منه والتقليدي، أنه غزل فارس، تلمس فيه روح الفتوة، وتجد منثوراً بين أبياته لغة الفرسان المحاربين، ويأخذ من هذه اللغة تشبيهاته واستعاراته، فتسمعه يقول:
أغرن على قلبي بخيل من الهوى
…
فطارد عنهن الغزال المغازل
بأسهم لفظ لم تركب نصالها
…
وأسياف لحظ، ما جلتها الصياقل
وقائع قتلى الحب فيها كثيرة
…
ولم، يشتهر سيف، ولا هز ذابل
أراميتي، كل السهام مصيبة
…
وأنت لي الرامي، فكلي مقاتل
ويقول متعجباً كيف يمد حبيبه جيش سقامه بالهجر، فينصره:
بالله ربك، لم فتنت بصبره
…
ونصرت بالهجران جيش سقامه
وفي سبيل طاعة الحب، قد استشهد الصبر والسلو:
مالي بكتمان هوى شادن
…
عيني له عين على القلب
عرضت صبري وسلوى له
…
فاستشهدا في طاعة الحب
ويشبه طرة من يحب بالزرد المضاعف:
ومرتد بطرة
…
مسدولة الرفارف
كأنها مسبلة
…
من زرد مضاعف
أبو فراس حين يجعل الغزل مقدمة لإغراض أخرى، يجتهد غالبا في أن يجعل روح الغزل مناسبة لروح الموضوع الذي يقصد إليه، وهل أنسب من هذا الغزل العاتب يبدأ به عتابه لسيف الدولة:
أما لجميل عندكن ثواب
…
ولا لمسيء عندكن متاب
أو أنسب من البدء بإهداء التحية لمن يحبها، في قصيدة يحيي بها إخوانه في الموصل، إذ يقول:
سلام، رائح، غادي
…
على ساكنة الوادي
أو من البدء بهذا الغزل الحزين، الذي يشكو الفراق في قصيدة أرسلها إلىأخيه، وهو أسير:
فديتك إني للصبابة صاحب
…
وللنوم مذ زال الخليط مجانب
وما أدعي أن الخطوب فجأنني
…
لقد خبرتني بالفراق النواعب
ولكن الشاعر في أغلب الأحيان، ما كان يحسن التخلص من الغزل إلىالغرض المقصود، بل كان انتقاله فجائيا، وهو في ذلك يشبه البحتري زعيم شعراء الشام. فها هو ذا - مثلا - يتغزل، ويختم غزله بقوله:
وقد عاديت ضوء الصبح حتى
…
لطرفي عن مطالعه ازورار
ثم ينتقل إلىالفخر قائلا من غير أن يحسن التخلص:
ومضطغن يرواد في عيبا
…
سيلقاه إذا سكنت وبار
وفي بعض الأحيان يحسن التخلص، كما في تلك القصيدة التي بعث بها إلىابن عمه أبي زهير، وفيها يقول:
يا أخي يا أبا زهير، ألي عندك عون على الغزال الغرير -؟
لم تزل مشتكاي في كل أمر
…
ومغيثي وعمدتي، ومشيري
وهكذا يمضي في حديث أبن عمه.
وقبل أن أختم الحديث عن غزله، أشير إلىما يبدو في هذا الغزل حينا، من شعور أبي فراس بنفسه محبوبا، وأنه ليس شخصا عاديا، ولكنه محب جدير أن يقابل بغبطة من يحبه، وأن يضم عليه بالنواجذ، فتسمعه يقول:
أجملي يا أم عمر
…
زادك الله جمالا
لا تبيعني برخص
…
إن في مثلي يغالي
بل لقد تدلل مرة على من يحب، حتى شكته إلىإحدى جاراتها:
قامت إلىجارتها
…
تشكو بذل وشجا:
أما ترين ذا الفتى
…
مر بنا ما عرجا
إن كان ما ذاق الهوى
…
فلا نجوت إن نجا
وليس ببعيد أن تعجب بأمير وسيم مثله، بعض أولئك الجميلات اللاتي كن يرينه في غدواته وروحاته.
أحمد أحمد بدوي
مدرس بكلية دار العلوم
الخطر إليه ودي
بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء
(إلى أستاذي الجليلين العقاد والزيات والأستاذ الفاضل نقولا
الحداد أهدي هذه الصفحات).
م. خ. التونسي
أما قبل، فمنذ لاحت في أفق السياسة الدولية نذر اعتزام إليه ود إنفاذ خططهم التي دبروها لتأسيس دولتهم في فلسطين - عمدت أكثر الصحف العربية إلىنشر مقالات ونُبذ تفضح فيها نيات إليه ود ومؤامراتهم وأغراضهم القريبة والبعيدة من إنشاء دولتهم، وتفنّد حججهم في استحقاقهم تأسيسها في فلسطين.
وخير ما كتب في هذا المجال وبعد دراسات علمية صحيحة المقالات التي كتبها الأستاذان الكبيران عباس محمود العقاد ونقولا الحداد، وقد نهضت بالعبء الأكبر في ذلك (الرسالة) مجلة العروبة القائمة على نشر ثمرات عقولها، الموثقة بين شعوبها، الزائدة عن كيانها وكرامتها، وقد كانت من الصحف الذي عجز إليه ود عن استصناعها أو إسكاتها كطريقتهم مع الصحف وأصحابها وكتابها مما يعلمه قليل ويجهله كثير.
فأما الأستاذ العقاد فقد عقد على صفحات (الرسالة) وصفحات (الأساس) فصولاً للكشف عن العقلية إليه ودية والخلق إليه ودي منذ موسى حتى الآن مستشهداً بأقوال العهد القديم وأحداثه وما تلاه من حوادثهم، وبين الصلة بين الصهيونية والشيوعية، وبينهما وبين إليه ود وبعض التيارات الحاضرة التي تسعى إلىتخريب العالم وتسلط إليه ود على البشرية.
وأما الأستاذ نقولا الحداد فقد قام بمثل ذلك وأفاض فيه كما أفاض في بيان الصلة بين إليه ود والماسونية والشيوعية، واستشهد لذلك بنصوص العهد القديم والتلمود وكتاب ثالث لم يشر إليهغيره مع خطره البالغ في التعريف بهم وبمؤامراتهم وسياستهم إزاء العالم أجمع ولا سيما الأمم المسيحية، لأن الشعوب التي تعتنقها هي الشعوب التي في أيديها مقاليد حكم البشر، وهذا الكتاب الثالث هو:(بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء) وهو كتاب يفضح ما لا يفضحه كتاب آخر من سوء نياتهم وفظاعة خططهم لتخريب العالم وإفساد
نظمه وآدابه وقيمه توصلا إلىإقامة مملكة يهودية أوتقرا طية لحكم العالم جميعاً يجلس على عرشها ملك من نسل داود.
وكانت النصوص التي نقلها الأستاذ الحداد خلال مقالاته كثيرة، وكانت تمهيداته لها وتعليقاته عليها كثيرة أيضا جليلة المنفعة، عظيمة الطرافة لدى قراء العربية.
وقد كانت أحد الأسباب المباشرة التي حملتني على ترجمة الكتاب كله إلىالعربية تمدها أسباب كثيرة مباشرة وغير مباشرة حفزتني على ترجمته، فلما أطلعت أستاذي الكبير الزيات على رغبتي في نشر الترجمة تحقيقاً للغرض الذي أنشده وهو تعريف قومي بما يدبر إليه ود من مؤامرات لتخريب العالم وبخاصة بعد أن صاروا إلىجوارنا يتهددوننا بطرق مباشرة وغير مباشرة - لما أطلعته على ذلك قبل مشكوراً نشر ما تيسر منها على صفحات مجلته الزاهرة.
وأما بعد فهذه البروتوكولات منشورة أمام القراء وأني لأرجو أن يتبينوا آثار خططها في سياسات العالم جميعاً، وأن يميزوا شواهدها فيما مر، وما يمر، عليهم من أحداث، وفيمن يصادفهم من صنائعها، وكثير ما هم بين الرجال والنساء.
وألفت النظر إلىأن كل محاولة لتلخيص البروتوكولات محاولة بتراء تضل أكثر مما تهدي، وأنه لمن الخير أن نقرأها جميعاً، فكل فقرة بل فصل فيها لا يدل على أكثر مما فيه لا على ما في المواثيق كلها، ولا على خلاصتها، وهي أحوج ما تكون إلىدرسها وتوضيح شواهدها فيمن يمرون علينا وما يمر علينا، وتعرف اتجاهاتها بدقة وسداد. وهي تدل على خطة واسعة شاملة تتضمن آلاف الخطط في كل نشاط بشري لتخريب العالم.
وهي تدل على معرفة صحيحة بالمجتمع البشري وما فيه من ضعف، ووسائل استغلال كل قوة وضعف فيه، ولا تنحرف إلا عندما يعميها الغرض فتفوتها أشياء تجري تحت عينيها، ولولا إغراضها لما خفيت على ذكائها النفاذ وملاحظتها الدقيقة، وهي من أجل ذلك تدرك من المعرفة شيئاً صحيحاً وتفوتها أشياء، ويصدق عليها قول أبي نؤاس الشاعر في النظام الفيلسوف المتكلم.
(فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
…
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء).
وهي تعنى أكثر ما تعنى بتبين نواحي الضعف البشري، وتعمل على استغلاله إلىأقصى
الحدود، متجاهلة، أو جاهلة، نواحي القوة البشرية، فترسم الخطة وكأن كل النواميس البشرية عدا النواميس المتمشية مع أهدافها - قد تعطلت بفعل ساحر، ومن أجل ذلك كثر إيغالها في الأحلام التي تدل على المقت الذي ينوء باحتماله أي قلب من لحم ودم ولو كان قلب وحش كاسر، ولكن تلك الأحلام لا تدل من أي وجه على إمكان تحقيق شيء جدي منها. ولذلك ألفت النظر إلىأن فيها كثيراً من المبالغات الدجلية الخادعة التي لا يمكن تحقق شيء منها، وخير ما نقابل به تلك المبالغات هو معرفة زيفها والثبات أمامها، إذ ما من خطر حقيقي لها إلا التهويلُ الكاذب لإضعاف العزائم، ونشر الفزع والرعب لتهويش المجتمع، كي يتوهم لليهود ما ليس لهم من القوة والنفوذ، أو يغفل عما لهم من القوة والنفوذ في الحقيقة.
ولقد كانت هذه البروتوكولات من أسرار إليه ود التي يحرصون على إخفائها أشد الحرص، ثم افتضح أمرها منذ نصف قرن تقريبا إذ وصل خبرها إلىأحد وجوه الروس في عهد القيصرية وهو سرجي نيلوس وهي مكتوبة بالروسية، فقام بطبعها في سنة 1905 وكتب لها مقدمة وتعقيبا لابد من قراءتهما لما فيهما من فوائد جليلة، ويحملنا ضيق المقام هنا على القناعة بمقتبسات ملخصة من المقدمة نعرف منها كيف تأدت إليهوماذا صنع بها. فقد ذكر أن صديقا دفعها إليهقبل وفاته سنة 1901، أكد له أنها ترجمة صحيحة لأوراق مخطوطة سرقتها سيدة من أحد رؤوس الماسونيين الأحرار في نهاية اجتماع ماسوني عقد في باريس، وقد تمت السرقة في فرنسا في خلية من خلايا الماسونية إليه ودية (الخاصة باليهود).
وقد نشر الأستاذ نيلوس هذه الوثائق الخطية في سنة 1905 مطبوعة بعنوان (بروتوكولات شيوخ صهيون) وأشار إلىأنها ليست بالدقة نصوص محاضر الاجتماعات السرية التي عقدها هؤلاء الشيوخ، بل إنها تقرير وضعه شخص قوي وقسمه أقساما لا تطرد منطقيا على الدوام، وهي بذلك تبعث على الظن بأنها جزء منتزع من وثيقة أهم قد ضاعت بعض فقره، بيد أن أصل الوثيقة يتكلم عن نفسه في هذا الجزء.
ويسلم الأستاذ نيلوس بالعجز عن الحصول على دليل كتابي أو شفوي على صحة هذه المؤامرة أو على شيء بكشف زعماءها متلبسين بإمساك خيوطها الدموية، ويكتفي بشواهد
الملابسات والقرائن القوية التي تكفي لإقناع (من لهم آذان للسمع) وهي تُلتمس من الظروف الجارية في العالم؛ وفيها مقنع لكل باحث محترم.
وبعد عام من طبع البروتوكولات بالروسية (1905) وصلت نسخة مطبوعة إلىالمتحف البريطاني فكتب عليها قيد تسلمها وتاريخه وهو 10 أغسطس سنة 1906. وبقيت هذه النسخة في المتحف دون أن يتنبه إليه اأو يعرف خطرها حتى عثر عليها الأستاذ فكتور مارسدن مراسل جريدة (المورننج بوست) في روسيا خلال الحرب العالمية الأولى التي وقع خلالها الانقلاب الروسي الذي مكن للشيوعيين من السيطرة على روسيا، وكان لليهود نصيب عظيم في تدبير هذا الانقلاب وهم الذين استطاعوا أن يستغلوه لمصلحتهم قبل غيرها من وراء ستار حينا وجهارا حينا، وحاولوا هناك تطبيق مذهب أخيهم كارل ماركس بالنار والدم، ونجحوا في بسط سلطانهم هناك حتى اليوم، ومن العجيب أن الأستاذ نيلوس تنبأ بهذه المؤامرة إليه ودية ضد روسيا - وطنه - في سنة 1905 كما أشار إلىذلك في المقدمة، ومن العجيب أن تشير (البروتوكولات) نفسها إلىمحاولة إليه ود نشر مذهب ماركس إليه ودي المتنصر (أنظر الميثاق الثاني).
وكان الأستاذ فكتور مراسل (المورننج بوست) يعرف الروسية، فأكب على ترجمة الكتاب من الروسية إلىالإنجليزية في المتحف نفسه، ثم نشرت جمعية الطباعة البريطانية الترجمة الإنجليزية، وأعادت بعد ذلك طبعها مرات، وهذا الكتاب مجهول حتى بين علية المثقفين.
والكلام المفصل في الشواهد التي تدل على صحة المواثيق وأنها من عمل إليه ود - يستغرق عشرات الصفحات، وخير ما كتب باللغة العربية في هذا الصدد مقالات الأستاذ الحداد في الرسالة، وفيها بلاغ (راجع العدد 771 وما تلاه) ولنا إلىهذا الموضوع عود أن شاء الله بعد أن تصير النصوص في المتناول لتسهل المقارنة والاستنباط. فإلى المواثيق لفهمها وتدبرها، ولكل نبأ مستقر.
محمد خليفة التونسي
(البروتوكولات من العدد القادم)
أهل العلم والحكم في ريف فلسطين
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
- 2 -
أنهارها وبحيراتها
ويصف لنا ياقوت أهم أنهارها وبحيراتها وقد زار بحيرة طبرية مراراً ويكشف لنا عن مشروع ري عظيم يجمع بين نهري الأردن واليرموك فتسقي مياهها الغور والبثنية (وهي الناحية الواقفة على الضفة اليسرى من الأردن بعد جريانه من بحيرة طبرية) كما يذكر لنا زراعة قصب السكر في هذه المنطقة وتصدير السكّر إلىسائر بلاد الشرق، ويروى لنا ما قاله الشعراء في هذه الأماكن.
فيقول عن الأردن في (ج1 - ص186) وطبرية على طرف جبل يشرف على هذه البحيرة، فهذا النهر أعني الأردن الكبير بينه وبين طبرية البحيرة. وأما الأردن الصغير فهو نهر يأخذ من بحيرة طبرية ويمر نحو الجنوب في وسط الغور فيسقي ضياع الغور. وأكثر مستغلهم السكّر، ومنها يحمل إلىسائر بلاد الشرق وعليه قرى كثيرة منها بَيْسا، وفراوا، وأريحا والعوجاء وغير ذلك.
(وعلى هذا النهر قرب طبرية قنطرة عظيمة ذات طاقات كثيرة تزيد على العشرين، ويجتمع هذا النهر ونهر اليرموك فيصيران نهراً واحداً فيسقي ضياع الغور وضياع البثلية ثم يمر حتى يصب في البحيرة المنتنة (البحر الميت) في طرف الغور الغربي (كذا)(الجنوبي).
وقال أبو دهلب أحد بني ربيعة بن قريع. . . بن تميم:
حنَّت قلوصي أمس بالأرُدن
…
حنى فما ظَلمت أن تحنّى
حنَّت بأعلى صوتها المُرن
…
في خَرعب ٍ أجشًّ مستجِن
فيه كتهزيم نواحى الشن
وقال عدى بن الرقاع العاملي:
لولا الإله وأهل الأردن اقتسمت
…
نار الجماعة يوم المرج نيرانا
قالوا والأردن في لغة العرب النعاس، قال أبان الزبيري:
وقد علتني نعسة الأردن
…
وَموهبُ مبر بها مُصن
والظاهر أن الأردن الشدة والغلبة، فإنه لا معنى لقوله (وقد علتني نعسة الأردن).
وقال المتنبي يمدح بدر بن عمار وكان قد ولى ثغور الأردن والساحل من قبل أبي بكر محمد بن واثق:
تهنا بصور أم تهنئها بكا
…
وقل الذي صور وأنت له لكا
وما صغر الأردن والساحل الذي
…
حبيت به إلا إلىجنب قد ركا
تحاسدت البلدان حتى لو أنها
…
نفوس لسار الشرق والغرب نحوكا
وأصبح مصر لا تكون أميره
…
ولو أنه ذو مقلة وفم بكا.
وحدث اليزيدي قال خرجنا مع المأمون في خرجته إلىبلاد الروم فرأيت جارية عربية في هودج. فلما رأتني قالت يا يزيدي أنشدني شعراً حتى أصنع فيه لحناً فإنشدت:
ماذا بقلبي من دوام الخفق
…
إذا رأيت لمعان البرق
من أقبل الأردن أو دمشق
…
لأن من أهوى بذاك الأفق
ذاك الذي يملك منى رقّ
…
ولست أبغي م حييت عتقي
قال فتنفست تنفساً ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه، فقلت هدا والله تنفس ما شق. فقالت أسكت ويلك أنا أعشق والله، لقد نظرت نظرة مريبة فادعاها من أهل المجلس عشرون رأساً ظريفاً (معجم ياقوت ج1 - 185).
وجاء في شذرات الذهب (ج6 - 273) في حوادث سنة 782هـ أن برقوق أمر ببناء جسر الشريعة (الأردن) بطريق الشام وجاء طوله مائة وعشرين ذراعاً وانتفع الناس به. وفي الشذرات أيضاً (7 - ص7) لما بنى الجسر قال فيه شمس الدين محمد المزين:
بنى سلطاننا للناس جسراً
…
بأمر والوجوه له مطيعة
مجازاً في الحقيقة للبرابا
…
وأمراً بالسلوك على الشريعة
وفي رواية أخرى بنى سلطاننا برقوق، والأنام بدل الوجوه والمرور بدل السلوك.
وعلى الأردن خمسة جسور هي من الشمال إلىالجنوب: جسر بنات يعقوب، وجسر المحامع، وجسر الشيخ حسين، وجسر اللنبي، وهو الذي يوصل طريق القدس بعمان، وله
أكثر من مخاضة يسلكها العرب في غدواتهم.
أما بحيراتها، فقد جاء ذكر الحولة، بأنها كوره بين بانياس وصور وأنها أي ناحية الحولة ذات قرى كثيرة من إحداها كان الحارث الكذاب الذي ادعى النبوة أيام عبد الملك بن مروان وكان هذا من أهل دمشق وكان له أب بالحولة (معجم البلدان3 - 368).
ويقول عن بحيرة طبرية إنه رآها مراراً وهي كالبركة يحيط بها الجبل ويصب فيها فضلات أنهر كثيرة تجئ من جهة بانياس وينفصل فيها نهر عظيم فيسقي أرض الأردن الأصغر وهو بلاد الغور ويصب في البحيرة المنتنة (البحر الميت) قرب أريحا. ومدينة طبرية في لحف الجبل مشرفة على البحيرة ماؤها عذب شروب ليس بصادق الحلاوة ثقيل، وإياها أراد المتنبي يصف الأسد:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه
…
لمن ادخّرت الصارم المصقولا
وقعت على الأردن منه بلية
…
نضدت لها هام الرفاق تلولا
وَردُ إذا ورد البيحرة شارباً
…
ورد الفرات زئيره والنيلا
(راجع معجم ياقوت ج2 - 80).
أما عن البحر الميت، أو بحر لوط، أو زُغر كما يسميها فيفول أن زغر أسم بنت لوط، نزلت بهذه القرية فسميت بها. قال حاتم الطائي:
سقى الله رب الناس سحاً وديمة
…
جنوب السراة من مآب إلىزُغر
بلاد إمرىء لا يعرف الدم بيته
…
له المشرب الصافي ولا يطعم الكدر
وقد جاء ذكرها في حديث الحساسة، وهذه في وادي وخم رديء في أشأم بقعة، إنما يسكنه أهله لأجل الوطن وقد يهيج فيهم في بعض الأعوام مرض فيفني كل من فيه أو أكثرهم. (معجم البلدان4 - 393) والأرجح أن المرض الذي يشير إليهياقوت إنما هو الملاريا.
أما عن الأنهر الصغيرة فيذكر نهر أبي فطرس أو نهر فطرس (العوجا، وهو تحريف كلمة انتبياترس المدينة التي ينبع هذا النهر بالقرب منه.) فيقول ياقوت، موضع قرب الرملة من أرض فلسطين مخرجه من أعين في الجبل المتصل بنابلس ويصب في البحر الملح (البحر المتوسط) بين يدي مدينتي ارسوف ويافا وبه كانت وقعة عبد الله بن العباس مع بني أمية فقتلهم في سنة 132هـ، وهي السنة التي زال فيها ملك الأمويين وقامت فيه دولة
بني العباس.
قال إبراهيم مولى قائد العبلي يرثيهم:
أفاض المدامع فتكي كدا
…
وقتلى بكثوة لم ثُرمَسِِ
وقتلي بوجٍٍ وباللابتين
…
بيثرب هم خيرُ ما أنفس
وبالذابيين نفوس ثوت
…
وأخرى بنهر أبي فطرس
أولئك قوم أناخت بهم
…
نوائب من زمن متعس
إذا ركبوا زينوا المركبين
…
وإن جلسوا زينة المجلس
هم اضرعوني لريب الزمان
…
وهم الصقوا الرغم بالمعطس
فما أنس لا أنس قتلاهم
…
ولا عاش بعدهم من نسي
قال المهلبي وعلى نهر ابي فطرس أوقع أحمد بن طولون بالمعتضد فهزمه. قلت إنما كانت الوقعة بموضع يقال له الطواحين بين المعتضد وخمارويه بن أحمد بن طولون قال وعليه أخذ العزيز هفتكين التركي. وفلت عساكر الشام عليه. وبالقرب منه أوقع القائد فضل بن صالح بابي ثغلب حمدان فقتله ويقال إنه ما التقى عليه عسكران إلا هزم الغربي منها.
وقد ذكر أبو نواس في قصيدته في الخصيب نهر فطرس ولم يضفه إلىكبيه فقال:
وأصبحن قد فوّزن عن نهر فطرس
…
وهنّ من البيت المقدس زور
طوالب بالركبان غزّة هاشم
…
وبالفرَ ما من حاجهن شعور
وقال العبلي:
ابكي على فتية رزئتهم
…
ما إن لهم في الرجال من خلف
نهر أبى فطرس محلهم
…
وصجوا الزابين للكتف
أشكو من الله ما بليت به
…
من فقد تلك الوجوه والشرف
راجع معجم البلدان (8ج - ص333).
وقد ذكر ياقوت اليرموك مع الوديان، فقال أنه واد بناحية الشام في طرف الغور يصب في نهر الأردن. كانت به حرب بين المسلمين والروم أيام أبي بكر الصديق، وقدم خالد الشام مدداً لهم. قال القعقاع بن عمر يذكر مسير خالد من العراق إلىالشام:
بدأنا بجمع الصفَّرين فلم يدع
…
لغسان أنفاً فوق تلك المناصر
صبيحة صاح الحارثان ومن به
…
سوى نفر نجتذهم بالبواتر
وجئنا إلىبصرى وبصرى مقيمة
…
فألقت إلينا بالحشا والمعاذر
فضضنا بها أبوابها ثم قابلت
…
بنا العيش في اليرموك جمع العشائر
ذكر الجبال والوديان والحصول والمواقع:
(أنظر معم البلدان 8ج - 504):
ذكر ياقوت من الجبال، جبل الجليل في ساحل الشام ممتد إلىقرب حمص. كان معاوية يحبس في موضع منه من يظفر به ممن ينبز في قتل عثمان. وجبل الجليل بالقرب من دمشق وهو يقيل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل، وما كان بالأردن فهو جبل الجليل، وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير. قال أبو القسيس بن الأسلت:
فلولا ربنا كنا يهوداً
…
وما دين إليه ود بذي شكول
ولولا ربنا كنا نصارى
…
مع الرهبان في جبل الجليل
ولكنا خلقنا إذ خلقنا
…
حنيف ديننا عن كل جيل
قال الحافظ الدمشقي واصل بن جمبل أبو بكر السلاماني من بني سلامان الجليلي من جبل الجليل من أعمال صيدا، وبيروت، من ساحل دمشق، حدث عن مجاهد ومكحول وعطاء وطاووس والحسن البصري وروي عنه الأوزاعي. قال يحيى بن معين، واصل بن جميل مستقيم الحديث، ولما هرب الأوزاعي من عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس اختبأ عنده وكان الأوزاعي يحمد ضيافته ويقول ما تهنأت بضيافة أحد مثل ما تهنأت بضيافتي عنده، وكان خبأني في هرى العدس، فإذا كان العشاء جاءت الجارية فأخذت من العدس فطبخت ثم جاءتني به فكان لا يتكلف فتهنأت بضيافته. (معجم البلدان 3 - 131).
ويصف لنا جبل الطور (طابور) وديره فيقول الطور هو الجبل المشرف، أما هذا فمستدير واسع الأسفل، مستدير الرأس لا يتعلق به الجبال، وليس له إلا طريق واحد وهو ما بين طبرية واللجون مشرف على الغور ومرج اللجون (مرج بني عامر) وفيه عين تنبع بماء غزير وكثير، والدير في نفس القبلة مبني بالحجر وحوله الكروم يعتصرونها فالشراب عندهم كثير. ويعرف أيضاً بدير التجلي، والناس يقصدونه من كل موضع فيقيمون به ويشربون فيه. موضعه حسن يشرف على طبرية البحيرة وما والاها على اللجون وفيه
يقول مهلهل بن غريب المزرع:
نهضت إلىالطور في فتية
…
سراع النهوض إلىما أحب
كدام الجدور حسان الوجوه
…
كهول العقول شباب اللعب
انخث الركاب على ديره
…
وقضيت من حقه ما يجب
(معجم البلدان 4 - 212):
أحمد سالم الخالدي
للكلام بقية
الملاح التائه!!
أسلمت بعدك للأسى خلجاتي
…
يا شاعر الأحلام والصبوات
حمل المساء إلي أيّ فجيعة
…
- لما نعيت - وأي خطب عات
يا دولة الشعرِ الرصين. . ترحلت
…
أمجاد عرشك في ركاب رفات
هجر الجميل اليوم آخر بلبل
…
هو أول بحسانه الألقات
وأرق من حمل القياثر شادياً
…
بالحب والأوطان والغزوات
أودى (خليل) الشعر مثل (عليه)
…
(الجارم) المفتن في الصدحات
وثوى الغداة سميه وضريبه
…
في مثل خفق اللمحة المزجاة
من للفريض العبقري وقد هوت
…
تلك النجوم الثرة الومضات
يا ملهمي الأشعار، كيف أصوغها
…
والحزن موف والنشيج موات؟!
غشى الذهول النفس من أقطارها
…
فزعاً. . وبث النار في طرقاتي
هي زورة لك يا (علي) يتيمة
…
أذكت لهيب الشوق بعد شتات
لم أنس حين لقيتني متلطفاً
…
وهتفت بي: الملاحن هات
وذهبت أستدني الخيال. . فأجفلت
…
منك المشاعر. . واستحت خطراتي
وعرضت آلهة الخلود فلم أجد
…
إلا نشيدك في فم الربات
فمضيت أتلوها عليك عرائساً
…
لك يا (علي) وضيئة القسمات
وسمعت شعرك من فمي فضممنني
…
ضم الحفيَّ بهذه اللفتات
. . هي زورة في العمر. كانت مالها
…
- واحسرة الآمال - من أخوات
لو كنت أشتف المقادر بعدها
…
أسرفت في الروحات والغدوات
جزت الحياة على شراعك ضاربا
…
في المجهل النائي. . وفي الغمرات
ترتاد آفاق البحار. . مرنما
…
بخوارق الأنغام والنفثات
تلقي شباك الفكر تحت عبابها
…
فتصيد كل عصية السمكات
يا أيها الملاح. . . كيف عبرتها
…
قبل الأوان. لآخر الضفات؟!
ما كان هذا اليوم موعدك الذي
…
تلقي الشراع به إلىمرساة
يا ليته قضى الليالي تائهاً
…
عن هذه الشطئان والربوات
لو لم تفض تلك البحار بمائها
…
لغدت تفيض اليوم بالعبرات
قم حدث الأجيال عنك. وصف لها
…
يوم الرحيل. . . نهاية الرحلات
فجيعة الوادي عليك ورزءوه
…
ومناحة الأطيار والزهرات
وصف الردى الملتاغ. . نازعنا الهوى
…
في الهيكل المحمول. . . لا النفحات
صف راحلا. . أطربت في (ميلاده)
…
سمع الوجود بأعذب النغمات
أولا. فما أعيى النهى. ولو أنها
…
كانت نهاك عتًّية الطاقات
أنت الذي أخضعت كل مُدّلة
…
وحُبيتَ سحر نتائج الملكات
لو قد بُعثت إلىالدنى. . غب النوى
…
وشهدت وقع نواك في المهجات
أشفقت من هول الذي شاهدته
…
وقفلت مشدوها إلىالغرفات
أنعاك للدنيا. . غداة هجرتها
…
حسدت عليك شواطئ الجنات
عبد الرحيم عثمان صاروا
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
علي محمود طه الصديق والإنسان:
في صباح يوم الجمعة الماضي أمسكت يدان صغيرتان بجريدة الأهرام، واندفع صاحب اليدين الصغيرتين نحوي وهو يهتف في دهشة: أبي. . أنظر يا أبي. . . أليس هذا هو علي طه؟ هل مات حقا يا أبي؟! وراحت عينا الصغير تحدقان في الصورة المجللة بالسواد ثم ترتدان إلىفي لهفة المنتظر الذي يريد من فمي جوابا. . . يكذب ما رأته عيناه! ونظرت إلىالفتى الصغير الذي يحلني من نفسه محل أبيه وأجبت: نعم يا بني. . . لقد مات. . . ترى ألا تزال تذكره يا صغيري؟ وقال الصغير وقد غلبه الأسى على أمره: كيف لا أذكره يا أبي؟ ألم أذهب معكما ذات مساء إلى (الأهرام) أنت وتوفيق الحكيم، وهناك في مكتب الصاوي رأيناه؟ أليس هو الذي ضمني إلىصدره، وقبلني، وقال لي: إذا كبرت يا بني فكن أديبا من طراز عمك؟ أليس هو يا أبي. . . صاحب هذا الصورة؟! وقلت للصغير دون أن أنظر إليه حتى لا تقع عيناي على الصورة التي بين يديه: بلى يا بني إنه هو. . . ذلك الإنسان!
ومضيت أرتدي ملابسي، إلىأين يا أبي؟ إلىهناك يا بني. . . إلىحيث أودع الصديق الحبيب الذي ضمك يوما إلىصدره، وقبلك، وأوصاك أن تكون أديبا. . . ألا تأخذني معك يا أبي؟ يعز عليّ ألا آخذك يا بني، أبق هنا حتى أعود إليك. . . بدموعي!
وبعد دقائق كنت هناك. . . كنت في ذلك المكان الذي قدر لي فيه أن أرى علي طه محمولا على الأعناق! وسرت وراء نعشه، سرت في زحمة المشيعين بجسمي، أما فكري. . . فقد كان مع الماضي القريب، كان ينتزع الذكريات الغالية من قبضة الزمن!
في أول عدد من الرسالة كتبت فيه (التعقيبات) حملت سلاحي، وهو قلمي، ودافعت عن الشاعر الذي لا أعرفه: علي محمود طه. . . وفي هذا العدد من الرسالة ألقي سلاحي، وهو قلمي، لأنني لا أستطيع أن أدافع عن الشاعر الذي عرفته: علي محمود طه. . . لقد كنت بالأمس قادراً على أن أدفع عنه هجوم الناس، أما اليوم فليس بوسعي أن أدفع عنه هجوم القدر، ولا أن أرد عوادي القضاء!
كان اللقاء الأول بيني وبينه في صحبة الأستاذ صاحب الرسالة، كان هو الذي جمع بيننا فالتقينا. . . كأكرم ما يلتقي الصديق بالصديق. وتكرر بعد ذلك لقاؤنا وعلى مر الأيام. . . ربط الحسب بين قلبينا بأقوى رباط. وفارق علي طه الدنيا وهو قطعة من نفسي. . . نفسي التي وهبتها قطعا لأصحاب الوفاء!
أشهد لقد كان علي طه مثالا فريدا في صداقته وإنسانيته. وأشهد ما رأيت إنساناً يفتح قلبه لأحبابه من أول لقاء كما رأيت هذا الإنسان. . . لقد كان علي طه يقف أبدا وراء قلبه، أشبه بالرجل الكريم الذي يقف وراء بابه في انتظار الطارقين! وما كان أعذب حديثه إذا تحدث. ما كان أروعه وأمتعه! لا أذكر مرة أنني جلست إليهدون أن يلذ لي الصمت الطويل ليفرغ هو للحديث الطويل. . . أنني أحب دائما أن أستمع إلىصوت فنان، ينطلق من بين شفتين تنتسبان إلىإنسان! مرة واحدة هي التي ضقت فيها بحديثه، وأوشكت أن أضع يدي على شفتيه. كان ذلك ونحن نزوره في مرضه الأخير الذي لقي فيه ربه. . . لقد كان الصمت المفروض عليه هو الطريق الوحيد إلىالحياة، ومع ذلك فقد آثر أن يضحي بحياته ليتحدث إلىأحبابه. . . هو الذي كان يعلم أن كل كلمة ينطق بها لسانه تحمل الفناء لكل نبضة من نبضات قلبه! يا رحمة الله له، لقد كان في ذلك اليوم أشبه بزهرة ذابلة. . . هو الذي كم أفاض علينا من عطره وشذاه!
ما سمعت علي طه مرة يذكر أنسانا بسوء، أو يتناول شاعرا بذم. وكان إذا تحدث عن نفسه فهو الحديث الطليّ الذي يخرج من أعماقه وهو قريب من فكرك وحبيب إلىقلبك، فلا زهو ولا صلف ولا غرور ولا ادعاء. . . ما أثقل الحديث تسمعه من بعض الناس إذا دار حول النفس أو طاف حول معالم الذات! ما أثقله من كل متحدث عن نفسه، وما أخف وقعه على الشعور وأبعد نفاذه إلىالعقول إذا كان المتحدث علي طه. . . كان إذا تحدث عن نفسه فليرسم صورته الإنسانية كما فطره الله عليها. وكان إذا تحدث عن شعره فليحدد طاقته الفنية كما تعارف عليها الناس. . . إيمان عميق بالنفس وإحساس صادق بالقيم. ورحم الله أولئك المؤمنين بأنفسهم، يضعونها الموضع للائق الكريم، دون جور على الحق إذا كان لهم في رحابه نصيب أي نصيب!
رحم الله علي طه، لقد كان واحدا من أولئك. . . . كان يعرف لنفسه قدرها ويعرف لشعره
مكانه. . . لم يهبط به أو بها إلىذلك الدرك السحيق الذي يهبط إليهغيره من الشعراء؛ أولئك الذين يضحون بكرامتهم العقلية في سبيل المتعة الزائلة والشهرة الزائفة. . . ويدفعون بها إلىالحضيض لقاء كل زهيد من الأجر وكل تافه من الجزاء! كان شعلة متوقدة من الإحساس بالجمال؛ الجمال في شتى صوره وألوانه ومعانيه: جمال الصداقة، وجمال الكرامة، وجمال الحياة. . . أخلص للجمال الأول فأغترف الأحباب من نبع وفائه، وآمن بالجمال الثاني فقبس الكرام من وهج إبائه. . . وهام بالجمال الأخير فقصر الشعراء عن بلوغ مداه!
كان علي طه أشبه بالبلبل في حياته. . . إذا حلق فلا يحلق إلا في أفق يهيئ له وسائل التغريد، وإذا وقع فلا يقع إلا على غصن يشد له أوتار الغناء! وكان إذا طوّف تخير البقعة التي تثير خيال الشاعر، وإذا شد الرحال فإلى الأرض التي تفجر عواطف الفنان. لقد قضى حياته يفتش عن مواطن الإثارة في كل مشهد من مشاهد الكون وكل مجلي من مجالي الطبيعة، فإذا جلس يوما إلىمائدة الحياة. . . عب من رحيقها المصفى وصب من عصارة الروح في أشهى الدنان. . . .
وكان صاحب ذوق نادر، ذوق كنت أرقبه فيملأ جوانب نفسي تقديرا له وإعجابا به. . . كنت أرقبه إذا ما تحدث عن لوحة فنية راعته، عن قطعة موسيقية هزته، عن أثر أدبي ترك ظلاله في نفسه، عن منظر طبيعي فجر الشعر في أعماقه. . . . عن أي شيء وقعت عليه عينه والتقطه حسه وعاش في طوايا الوجدان! كان مسكنه آية على ذوقه. . . إذا دخلت حكمت على صاحبه من أول نظرة بأنه فنان. . . أنظر إلىهذه اللوحة الرائعة التي تغطي جداراً بأكمله، وإلى تلك التي تغطي الجدار الذي يواجهه. وإلى اللوحات الأخرى الصغيرة التي انتثرت هنا وهناك. . . وتأمل هذا التمثال، وأدر هذه الأسطوانة، وطف ما شئت بأجواء الشرق والغرب، وهيئ شعورك لوقع الفجيعة وأطرق لحظة من زمان. . . إن البلبل الذي كان يصدح هنا قد طوت الريح جناحيه، وهوى من سماء الفن إلىأرض السكون والعدم. . . . ولا رجعة له بعد ذلك ولا إياب!
أذكر أننا تواعدنا على اللقاء ذات مساء في (الأهرام)، ثم خرجنا معا نقصد إلىضفاف النيل والليل ساج والكون غارق في ضياء القمر. . . وراح علي طه يتحدث عن الحياة، وينشد
من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات. . . وحين يفرغ من هذا كله يمد عينيه إلىالضفة المقابلة ثم يهتف بصوته الحالم: أنظر إلىهذا البيت الجميل الذي ينام في أحضان الزهر. وإلى ذلك البيت الأنيق الذي يستحم في مياه النهر. . . هذه يا صديقي هي الأبيات. . . الأبيات التي أقامها السعداء على دعائم الواقع. أما أبياتنا نحن الشعراء فقد أقمناها على دعائم الخيال!
وأجيبه في صوت يمتزج فيه الإنكار بالعزاء: بالله حسبك. إنها أبيات من حجارة وطين، سيعيش أصحابها نكرات ويموتون كذلك. . . وستمتد إليه ايوما يد البلى فلا يبقي منها حجر ولا أثر أما أبياتك وأبيات الموهوبين من أمثالك فهي من نفس وروح. . . لن تبلى لأنها ستعيش في الضمائر والقلوب، وسيعيش أصحابها ما نطق لسان وما كتب قلم. . . إنك يا صديقي تعكس القضية، إن أصحاب الفن هم أصحاب الواقع. . . لأنهم أصحاب الخلود!
ويعترض علي طه في لطف ثم يقول: أصحاب الفن هم أصحاب الخلود؟ هذا حق جميل، ولكن الحق المر أنهم ليسوا كذلك هنا. . . في هذا الشرق يا صديقي! الشرق الذي قال عنه الزيات كلمة ستظل إلىالأبد شعاراً له. . . ترى أتذكر قوله:(. . . إن النابغ في أمم الشرق يعيش وكأنه لم يولد، ثم يموت وكأنه لم يعش؛ ذلك لأن الحياة فيها لا تزال نوعا من السكر الغليظ يذهل الناس عن الوجود أكثر العمر، فإذا أفاقوا - وقليلاً ما يفيقون - عربد بعضهم على بعض!!).
وأقول ردا على اعتراضه: إن هذه الكلمة قد تعبر عن الشرق في هذا الجيل، ولكنها لن تعبر عنه إلىالأبد كما تظن. . . إن أبناء هذا الجيل لن يؤرخوا الأدب وحدهم وكذلك لم يؤرخه أبناء الأجيال الماضية. . . إن هناك أجيالا آتية ستكون أوسع أفقا وأكثر ذوقا وأوفر فهما وأعمق ثقافة، فليطمئن كل صاحب حق إلىأنه سيظفر بحقه. . . إن لم يكن اليوم فغدا، وإن لم يكن في الغد القريب ففي الغد البعيد على كل حال. . . يا أخي ما أكثر طمعك! ألا يكفيك أنك ملء السمع والبصر في كل مكان؟!
ويتوقف علي طه عن المسير ثم يقول: كلمات يسمعها الشاعر من الناقد ما دام على قيد الحياة. . . فإذا مات. . . . قبض الناقد قلمه عن تقويم شعره واكتفى بكلمة رثاء!
وأهمس في أذنه ضاحكا: إذا مت قبلي فلا تخف. . . سأكتب عنك مقالا! ويغرق علي طه في الضحك ثم يقول: وأنت أيضا لا تخف. . . سأرثيك ببيت من الشعر! إن مقالا واحداً من الكاتب لا يستحق غير بيت واحد من الشاعر. . . ويعود علي طه فيتحدث عن الحياة، وينشد من أشعاره، ويروي من أخباره، ويحلق ما شاء له التحليق على جناح الذكريات!
يا أخي. . . يا صديقي. . . يا أيها اللطيف الذي مر بدنياي مرور الطائر الغريب رفرف في سماء الله. . . يا أيها الحلم الذي أيقظ الدجى في خيالي ثم أغفى على جبين الصباح. . . يا أيها الأمل الذي عانق قلبي عناق النسمة العابرة لضفاف جدول ضمآن. . . يا آيها الشعاع الذي رقرق النور في حسي ثم أفرغ في كأسي مرارة الظلام. . . . يا أيها الشراع الذي هز بالشدو شاطئ وقَّبل أمواجي ورحل قبلي إلىالشاطئ المجهول. . . وأشواقنا التي استحالت في معبد الحب دعاءً وصلاة!!
يا أخي. . . يا صديقي إن وفاءك يطوق عنقي. إن دينك يثقل كاهلي. . . لقد تحدثت في هذا العدد عن علي طه الصديق، والإنسان أما في الأعداد المقبلة. . . فسيكون الحديث عن علي طه الشاعر والفنان.
دمعة وفاء من حقيبة البريد:
صورة يتبعها نعي. . . لمن الصورة. . . ولمن كان هذا النعي الطويل يا علي؟. . . . أحقاً أنك أنت يا شاعر؟. . . أحقاً أنك تتوارى عن الحياة التي ملأتها نغماً؟. . . أحقاً أنك أنت يا شاعر؟!
جمعتني به الحياة على شطها ألفاني قبيل مرضه بقليل. . . وطال بيننا الحديث. . . وحديثه حلو طويل. . . يسمعه السامع فلا يمل. . . . ويستزيد!. . . قال لي في ختام حديثه: من ينعيني بعد موتي. . . إنني أحس المنية تقربني. . . أتنعينني يا فتاة؟!. . . ما كنت أعلم حين سألتك عما أقول في نعيك بعد موتك. . . وحين قلت لك مازحة أأقول فيك:
يا راحلاً عن فتنة الدنيا التي
…
ملئت من الأكدار والأحزان
ما كنت أعلم حين أجبتني: لا. . . دعي ذلك لأهل الزهد، وقولي في:(مات شاعر الغيد الحسان. . . مات عابد الحسن والجمال). إن هذا يكفيني أن يكون من إحداهن!
قلت يا ويلتا. . . يرى الجميلُ الدميمَ جميلا!
والآن. . . وقد حلت الفجيعة ووقع الخطب. . . ما حيلتي في نعيك يا علي ولست من أهل البيان؟!
أحقا أنك أنت يا شاعر؟؟
هذه الدمعة الصادقة، تلقيتها من الأديبة الفاضلة (ل. م). وقد رأيت أن أسجلها هنا وفاءً للوفاء. . . ووفاء للفقيد.
أنور المعداوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
فقيدنا الشاعر علي محمود طه:
ما كدنا نستبشر بإبلال صديقنا الشاعر الكبير علي محمود طه حتى فوجئنا وفجعنا بفقده. حسبنا أن الأقدار قد خففت عنا ما أصابنا من الهم لمرضه، وأنا سنسعد بسلامته واستئناف صحبته، فإذا هي تصب علينا نعيه فتغرقنا في الهم والأسى، وإذا نحن نلقاه مسجى في نعشه، في اليوم الذي قدرناه للفرح برؤيته بعد مبارحة المستشفى، فياله من لقاء!
قضينا هذه الأيام، وما نزال، في غمرة الأسى، لا نستطيع غير الوجوم الحزين، فما لقيت أحدا من إخواننا الأدباء حتى ذكرنا الفقيد العزيز وتبادلنا النظرات المفصحة عما يعلو الوجوه من الكآبة، نلوذ بالصمت خشية التهدج، ونختلس مسح العبرة، لإظهار التجلد، وإيثار التجمل.
كان لعلي محمود طه شخصية واضحة جذابة، وكان وضوحها ينم على ما فيها من طيب وصفاء. ويخيل إلي أنه ترك كل من عرفهم أصدقاء، فلا يملك من يعرفه إلا أن يحبه، فقد كان إنسانا نقيا مما يشوب الإنسانية الصافية؛ كان مرحا طروبا، أقبل على الحياة بنفس مبسوطة لا تعقيد فيها، فراح يستشعر ما فيها من جمال، بحس الشاعر المرهف، يعب من مواردها ما يحيله إلىفن جميل، ويرتاد آفاق الحسن في الشرق والغرب، ثم يصوغه شعراً خالداً ولحنا يتغنى به الزمان. لم ينغصه غير العلة التي عصفت به وهو يغرد على أفنان هذه الحياة ليجعلها متاعا وبهجة لمن يصغي إليه، ولكن طبيعتها القاسية غلبته على أمره، فصار الأمر من بعده لوعة وحسرة بعد المتاع والبهجة.
كان على محمود طه حلقة في سلسلة تطور الشعر العربي الحديث، تتميز بالأصالة المبينة، وأعني بكل كلمة من هاتين الكلمتين معناها الواسع؛ فقد كان أصيل الشاعرية، لوى شعره عن التقليد والترديد، وقصد إلىمشاعره وخواطره لا يحرص على شيء قدر ما يحرص على أدائها وإبرازها؛ وكانت إبانته تتمثل في حسن تأتيه وبعده عن الخيال المجدب وعن الإيغال في الأجواء التي لا يأتي الموغل فيها بشيء، فكان حذواً بين المدرسة القديمة الجامدة والمدرسة الحديثة المضطربة، أو قل أنه كان يمثل المدرسة الحديثة كما ينبغي أن
تكون.
وكان بيانه وأصالته يرتكزان على ثقافة واسعة منوعة، هضمتها طبيعته الفنية وتمثلتها، فقد اغترف من الآداب المختلفة واستوحى البيئات المتباينة، وسيطر على كل ذلك بقوة هضمه، وضبط مقايسه بفنه الهندسي، فأخرج بذلك فنا من الشعر سريا متناسق الألوان.
كان الفقيد الكريم طوال الصيف الماضي يعاني مرضا شديدا، خف عنه أولا، ثم أنتكس فعاودت قلبه العلة، وكان يعالج أخيراً في المستشفى الإيطالي، وقد تماثل وتقدم نحو الشفاء، حتى عين يوم الخميس الماضي (17 نوفمبر سنة 1949) لخروجه، وفي هذا اليوم المعين لبس ثيابه وتأهب لمغادرة المستشفى، وإذا هو يسقط صريعاً بين أيدي من أتوا لمرافقته إلىمنزله.
وتوفي الفقيد وهو في السابعة والأربعين من عمره، وقد قضى أكثر حياته العملية موظفا في الحكومة، بعد أن تخرج في مدرسة الهندسة التطبيقية، وتنقل في الوظائف حتى كان مديراً لمكتب رئيس مجلس النواب وفي سنة 1945 استقال من هذا المنصب، إذ آثر أن يغرد طليقا بعيدا عن وظائف الحكومة، وظل كذلك حتى عين في هذا العام وكيلا لدار الكتب المصرية.
أخرج الفقيد عدة دواوين، هي (الملاح التائه) و (ليالي الملاح التائه) و (أرواح وأشباح) و (الشوق العائد) و (زهر وجمر) و (شرق وغرب) وله مسرحية شعرية هي (أغنية الرياح الأربع) وله أيضاً كتاب (أرواح شاردة) وهو يحتوي على نثر وشعر.
إن يكن علي طه خلَّي مكانه بين الأحياء الفإنين، فستظل آثاره باقية في سجل الخلود، وتبقى شمائله حية ماثلة في نفوسنا ما بقينا.
تكريم دسوقي أباظة باشا
احتفلت جامعة أدباء العروبة يوم الأربعاء الماضي في فندق الكنتال، بتكريم رئيسها معالي الأستاذ دسوقي أباظة باشا، وقد تساءل معاليه في كلمته بختام الحفلة عن مناسبة هذا التكريم، فقال هيكل باشا: مناسبتها أنك عدت إليه م بعد طول غياب، فكثرة اشتغالك بالمسائل العامة حالت بينك وبينهم مدة طويلة. وقال دسوقي باشا: جرت العادة أن يكرم الوزراء المعينون لا الوزراء السابقون، فهذا تقليد جديد نبيل ولعله يغري الوزراء الحاليين
بالخلاف. . وقد أبدى حفني محمود باشا تخوفه من إن تكون هذه مؤامرة لأخذ دسوقي باشا إلىجانب الأدب وترك زملائه السياسيين وحدهم في الميدان، ولكنه عقب بأنه يقول الحق إذ يصرح بأن مجتمع الأدباء بما فيه من سمو العاطفة وجمال الحب الصادق يفضل ألف مرة مجتمع السياسة بما فيه من عداء ونفاق.
وكان طبيعياً أن يتتابع الشعراء والخطباء مكثرين من الشعر والنثر في تكريم دسوقي باشا، فالمجال مجالهم والقوم كلهم شعراء وخطباء، والرجل حقيق بالتكريم والتقدير، لأدبه ونبله وحسن رعايته، وقد جاذبته السياسة، فلم تأخذه من الأدب بل كان هو يؤدبها. . ودسوقي باشا يحب أعضاء جامعة أدباء العروبة كما قال في كلمته إذ وصف الحفلة بأنها (تلبس) في حالة حب متبادل بينه وبينهم. ولكنه لا يقصر عليهم حبه، فهو يميل إلىالأدباء عامة ويعجب بكل مجيد منهم، ولا عجب في ذلك فهو أحد هؤلاء الأدباء، وقد ظفر عالم الأدب منه أخيراً بكتابه القيم (وميض الأدب في غيوم السياسة) على رغم اضطلاعه بأعباء الوزارة كما يدل على ذلك عنوان الكتاب.
ألقي في الحفل شعر ونثر كثير، وكنت أود أن يخرج القائلون بعض الخروج عن حدود القوالب المألوفة في المديح إلىشيء من الموضوعية، أعني أن يكون للكلمة أو القصيدة موضوع غير مجرد المدح، وقد كان ذلك في بعض ما قيل ولكنه قليل. وكنا ننتقل من سماع الجيد إلىالعادي أو المعدوم القيمة، والعكس، حتى رأيناهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً، ويبدو أنهم قدموا (أعضاء مكتب الجامعة) على غيرهم دون مراعاة الأجدر بالتقديم من هؤلاء وهؤلاء.
وممن أجادوا الأستاذ محمود غنيم وقد ألقى أبياتا أولها:
حكم تقلص عنه ظل
…
ك ما تقلص عنك ظله
وكانت كلمة الدكتور حسين الهمداني الملحق الصحفي بسفارة الباكستان - ذات موضوع، فكانت كلمة الباكستان حقاً في تكريم دسوقي باشا، وقد تحدث فيها عن مكانه في الأدب وفي السياسة وقال إنه كان في سياسته عربيا مسلما قبل أن يكون مصريا قوميا، فقد شغل نفسه بالمسائل الشرقية العامة حتى كان يتخيله وزيراً باكستانيا في مجلس وزراء مصر عندما كان يستمع إليهفي مناسبة تخص الباكستان. ودعا الدكتور الهمداني إلىإقامة مؤتمرات أدبية
ومهرجانات عربية تغذي الأرواح وتشيد بمفاخر البلاد.
ومن القصائد الجيدة قصيدة الأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي ومطلعها:
عد للخميلة كالربيع الناضر
…
يا نفحة الشادي وأنس السامر
وكانت قصيدة الأستاذ أحمد مخيمر أدنى إلىالتحليل، ومن قوله بعد أن تحدث عن السياسة وتلونها:
واليوم نأنس للنور الذي فقدوا
…
واليوم نفرح بالمجد الذي خسروا.
وقد ألقاها الأستاذ عبد الفتاح الشناوي إلقاء جيداً. أما الأستاذ العوضي الوكيل فقد دفع بقصيدته إلىمن يلقيها، فإنتهز الفرصة وجعل يخطب قبل أن يلقي، وقد أساء إلىالنحو واللغة في الخطابة والإلقاء، عوض الله العوضي خيراً. . .
شؤم ابن الرومي:
كتب أحد الأدباء بتوقيع (م. ف. ع) بجريدة المصري، مقالا عنوانه (ابن الرومي الشاعر المشئوم الذي حلت لعنته على وزارة المعارف) أراد فيه أن يسوق طرائف يمتع بها القارىء، وأندفع مع الرغبة في الحبك الصحفي إلى (تأليف) وقائع تتعلق بشؤم ابن الرومي، فقال إن وزارة المعارف ألفت لجنة سنة 1945 لإخراج ديوان ابن الرومي، وفي اليوم الذي وقع السنهوري باشا وزير المعارف يومذاك القرار بتأليف اللجنة استقالت الوزارة، ولما تولى الأستاذ علي أيوب بك وزارة المعارف أعاد تأليف اللجنة، وفي اليوم الذي أصدر فيه القرار استقالت الوزارة، ثم جاء الأستاذ مرسي بدر بك إلىوزارة المعارف وعرضت عليه إجراءات الشروع في طبع الديوان، فلما وافق عليها استقالت الوزارة.
ولا أريد أن أقف عند ذلك كثيراً، مكتفياً بالإشارة إلىأن اللجنة الأولى التي الفت في عهد السنهوري باشا مضى على تأليفها عدة أشهر وهو وزير المعارف، وقد يكون باقي ما ذكره أو بعضة من هذا القبيل. وإنما أريد أن أعرض لقول الكاتب الأديب في آخر المقال:(ويظهر أن القدماء قد أفزعتهم هذه الروح المشؤومة التي وضحت في تصرفات هذا الشاعر فأغفلوه وأهملوا شعره وأدبه مع تقديرهم لعبقريته الشاعرية، فلم يترجم له صاحب الأغاني ولم يقدم أحد على الاهتمام بديوانه فظل ديوانه - وهو ضخم فخم - مطويا إلىاليوم في مطاوي النسيان).
فهل من الحق أن صاحب الأغاني وغيره من القدماء أغفلوا ذكر ابن الرومي لفزعهم من شؤمه؟ أقول قبل كل شيء إننا رأينا المؤلفين يتحدثون عن تشاؤم ابن الرومي بغيره من الناس والأشياء، أما تشاؤم الناس به وفيهم المؤلفون ومنهم صاحب الأغاني فلم نره عند المتقدمين. على أن صاحب الأغاني لم يغفل ذكر ابن الرومي إطلاقا، فقد ذكره مرتين: مرة نسب إليهانتحال بيت من الشعر لإبراهيم بن العباس، ومرة أظهره بمظهر الشامت في نكبة سليمان بن وهب، فلو أنه كان يفزع من شؤمه لما أتى بذكره. إذن لماذا أهمل صاحب الأغاني الإشادة بابن الرومي وشعره؟ حقق الأستاذ كامل كيلاني هذا الموضوع في كتابه (صور جديدة من الأدب العربي) فأرجع ذلك إلىأن ابن الرومي كان مكروها من الناس لإفحاشه في الهجاء، وكان فيمن هجاهم البحتري وكانت له مكانة بين أعيان الدولة وكبار رجالها، وكان أبو الفرج يحبه ويشيد بذكره ويعني بآثاره، ومنهم الأخفش أستاذ أبي الفرج (فلا غرو أن يغرس الأستاذ في نفس تلميذه بذور الكراهية والبغض لابن الرومي منذ الصغر، أو يغضب التلميذ لأستاذه فتعمد إغفال من جعل همه الأول شتم أستاذه والتشهير به).
ومهما كان السبب في إهمال صاحب الأغاني الترجمة لابن الرومي والتنويه بشعره، فليس من المعقول أن يكون ذلك لتشاؤمه به وخوفه من أن يقع له شر، كما وقع للمازني والعقاد وكامل كيلاني حين تعرضوا لشعره ودراسته، فقد كسرت رجل الأول وسجن الثاني ومات ولد الثالث، وهي اتفاقات لا تذكر إلا في مجال التلهي والتندر.
عباس خضر
البريد الأدبي
لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها:
هل تأذن أيها الأستاذ الجليل أن يكتب إليكقروي نشأ في قرية من قرى السودان الذي صور الحال فيه شاعر من شعرائه مخاطبا قصبته الخرطوم، بقوله:
يا ملتقى النيلين أنت جميلة
…
بهما فتيهي وافخري واختالي
كم في مغانيك الحبيبة من فتى
…
ضاعت مواهبه لفقد المال
ولكم بها من عبقري بائس
…
يمسي ويضحي بالي الأسمال
ليت الذي المواهب أهلها
…
لو كان زودهم بحظ عال
فإذا كانت هذه حال عاصمته فما بالك بقرية من قراه النائية؟ حالت الظروف المادية بين كاتب هذه السطور وبين مغادرة قريته ليتعلم علما أو ليكتسب أدبا فقنع بما تلقاه عن الوافدين على قريته من علماء الدين وطلاب الأدب.
ولكن الرسالة الغراء مد الله في حياتهما وكثر عدد صفحاتها وأمتع بما يدبحه قلم الأستاذ الزيات من مقالات عقول قارئيها وقارئاتها؛ هذه الرسالة قد تخطت السدود والقيود وتسللت خيطاً من النور إلىظلام هذه القرية فتعلق بها هذا القروي ورأى فيها متعة العقل والروح، وسلوى القلب والنفس، وقد ذكر تعلقه بها حتى خال نفسه تلميذاً مخلصاً لصاحب الرسالة.
قرأت في عدد الرسالة (822) في باب الكتب تحت عنوان على هامش كتابين للأستاذ كامل محمود حبيب ناقدا للكتاب (مع الناس) للأستاذ الحوماني فجاء في نقد الأستاذ حبيب يصف مؤلف الكتاب بقوله: وللمؤلف فكرة واحدة هي إيمانه بقول سيد العرب (ص)(لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) الخ وأقول إن هذه الحكمة قد ذكر مؤرخو حياة الإمام مالك بن انس أنها من كلامه، وعلى هذا فهي ليست من حديث سيد الخلق صلوات الله عليه وبالمناسبة اذكر أنى قرأت منذ سنوات حديثاً للأستاذ حافظ وهبة تحدثه من إذاعة لندن ونشرته مجلة المستمع العربي، آنذاك قال فيه يتحدث عن مليكه جلالة الملك بن السعود أنه كثيراً ما يردد في مجالسه هذه الحكمة التي رويت عن للإمام مالك (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح) واذكر أني وقفت طويلاً في فهم هذا الإصلاح ونوعه لقد كان أشياخنا في دروس الفقه عندما يمرون بهذه الحكمة التي قالها أمامهم مالك يفسرونها بأن
المسلمين الأولين انتصروا على أعدائهم بالسيف، فإذا لم ينتض المسلمون مرة أخرى لا يمكن أن يكونوا أنفسهم ويصلحوا شأنهم. وأني مع اعتقادي الجازم بأن السيف أصدق أنباء من الكتب لا أوافق هؤلاء الأشباح عفا الله عنهم الذين لم يكونوا واسعي الأفق على تفسيرهم خصوصاً بعد أن علمت أن مسألة انتصار الإسلام بالسيف حاول خصوم الإسلام من الغربيين أن يجعلوا منها ثغرة ينفذون بها إلىالطعن في تعاليم الإسلام. وقد ردَّ عليهم مفكرو المسلمين المتأخرون بما يبدد شبههم وينفي قولهم: إذن ماذا يعني مالك الذي هو من رجال الإصلاح في وقته؟ وماذا يعني الملك أبن السعود الذي يعتقد كثير من العرب والمسلمين أنه من قادة الإصلاح؟ ماذا يعنيان بهذا الإصلاح الذي صلح به المسلمون في عصرهم الأول ولا يمكن أن يصلحوا إلا به في كل عصورهم المتأخرة هذا، وقف عنده تفكيري مدةً طويلة ثم هداني فهمي القاصر إلىرأي لا أرى يأساً من عرضه على أستاذي الكبير الزيات.
إني أرى أن المناسبة التي دعت الإمام مالك أن يقول كلمته هذه هي نفس المناسبة التي دعت ابن السعود أن يرددها في مجالسه إذ أن بين المناسبتين تشابهاً كبيراً على أقل تقدير.
لقد عاش الإمام مالك في العصر العباسي ذلك العصر الذي ترجمت فيه فلسفة اليونان وانتشرت فيه ثقافة الفرس وترفهم بين الطبقات العليا المتوسطة من الأمة الإسلامية خصوصاً في العواصم الكبرى وحصل على أثر ذلك بعض الانحلال في المعتقدات والتدهور في الأخلاق. ولعل بعض من يهمه الصلاح المسلمين قد فكر في طريقة للإصلاح تكون متمشية على أسس الفلسفة والسياسة العباسية وغيرها من سياسات الأمم التي سبقت العرب إلىالحضارة والمدنية. فلما سمع الإمام هذا الرأي قال: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما يصلح به أولها) كذلك الملك ابن السعود لما رأى ثقافة الغرب وترفه يغزوان الأمم الإسلامية فينشران الإلحاد في الدين والانحلال في الأخلاق، وسمع أن بعض القادة يرون أن المسلمين لا يمكن إصلاحهم إلا إذا اتبعوا الغرب في كل خطواتهم ولو دخل حجر. كما سمع بهذا الإصلاح ردد تلك الحكمة التي سبقه إليه االإمام مالك (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها) حقاً لقد صلح أول هذه الأمة بل لقد صارت هذه الأمة أمة بعد أن اهتدت بهدي هذا الوحي الإلهي السامي واسترشدت بأخلاق محمد بن عبد الله صلوات الله
عليه وسلامه. فهل ترجع هذه الأمم إلىهذين الأصلين تستوحي منهما الإصلاح أم تظل تجري وراء مبادئ الغرب من شيوعية وديمقراطية التي هي كالسراب يحبه الضمآن ماءا حتى إذا جاء لم يجده شيئا ووحد الله عند فوفاه حسابه والله سريع الحساب؟
هذا رأي في هذه الحكمة أعرضه على القراء وأتمنى أن يجعلوها عنوانا لمقال أو مقالات تنشر في الرسالة لنستشف منها الهدي ونجد منها الرشاد.
محمد عبد الله الوالي
فداس. السودان
نهاية نقاش
شاء الأستاذ محمد عبد الرحمن أن يردني مرة أخرى إلىما كنت قد أزمعت منه انتهاء. . فإنا أشكره أن أتاح لي الفرصة لأقدم إلىالأستاذ الراعي كل اعتذار مما أخشى أن يكون قد فهمه من تعقيبي. . . وغاية الأمر أنني بسليقتي غير مهيأ لأن أستقبل من الكلام ما يند عن المألوف في العلاقة بيننا وبين الخالق.
أما الأستاذ محمد عبد الرحمن فقد شاء - مشكورا أيضا - أن يطالبني النظر إلىالتعبيرين من الناحية الخيالية والمجازية منحرفا عن هذه الزاوية التي نظرت من خلالها، وساق مثلا من قولهم (بنات الأفكار). . . الأفكار إذن في رأي الأستاذ محمد هي والله سواء. . . لا يا سيدي كان الأولى بك أن تستشهد بقوله عز وعلا (يد الله مع الجماعة) فإن هذا أقرب لما نحن فيه وردي عليه أن يد الله كلمة معنوية ولا نتخذ تجسيما في شمس أو غير ذلك من المخلوقات.
أما التخريج العجيب الذي رضي به عن عين الله فإنني ألمح من كلام الأستاذ نفسه أنه غير راض عنه. الحقيقة والحقيقة هي الله والشمس عين الحقيقة. . . أهكذا تظن.
وبعد يا سيدي فإنني ما زلت أتوكأ على شرح الأستاذ الراعي فليست هناك لغة غير لغة الناس. . . ليست هناك غير هذه اللغة مهما دافعت. وإنني ما زلت أعتذر إلىالأستاذ الراعي عن الأسلوب الذي صغت به الكلمة معجباً به.
ثروت أباظة
القصص
بيت الذكريات
للأستاذ غائب طعمة فرمان
خمسة عشرة سنة مرت وهو بعيد عن وطنه؛ يعاني آلام الغربة، ويكافح أعياء الحياة، ويتلمس الطريق إلىمستقبل جميل.
خمسة عشرة سنة لقي فيها أشد العناء، وقاسا ضروباً من الفاقة والعسر وثقلت على عاتقه تكاليف العيش. . . واليوم يرجع إلىوطنه بعد الكفاح المضني، والفراق الطويل، وقد أمحى من عينيه إئتلاق الشباب، وتحولت صباحة وجهه إلىجهامة منكره، وذبول حزين. . . فقد حطم خمسا وثلاثين سلسلة من السلاسل التي تربطه بالوجود، وأخذ يترقب الانحدار إلىالجانب الثاني من تل الحياة ليستقبل السلام الأبدي في قراره الوادي السحيق! فلاح الإجهاد على محياه، وغشيه موج من الحزن عميق.
الآن يرجع إلىوطنه، ويستقبل هذا الشارع الضيق الذي يعرفه حق المعرفة، وتصدمه رائحة العفونة المنبعثة من أكوام الأقذار، وتملأ عيناه منظر الأحجار التي ما زالت قائمة بها يد الإنسان، ولم تنل منها صروف خمس عشرة سنة!
يا للعجب!. . ويا لمرارة الذكرى!. . خمس عشرة سنة ما أحفلها بالأحداث والغير، وما أثرعها بالشجون والغصص، وما أكثر ما غيرت منه، وما جارت على بنيانه الإنساني! ونقلته من حال إلىحال. ولكن الشارع ما زال كما عهده لم يتغير منه أي شيء! إنه ليتذكر كل شيء فيه كأنما غادره أمس. . رحل عند إغفاءة النهار في أحضان الليل، ورجع في يقظة الليل على ترانيم الفجر! فإن صور الليلة التي غادر فيها موطنه ما زالت مرتسمة في صفحة مخيلته، وما زالت ظلالها الحية عالقة في ذهنه. وإنه ليتذكر أمه وهي تتشنج لتعبر عن عاطفتها الحبيسة، وتضطرب شفتاها كورقتين ذابلتين، وتشرق عيناها بالدموع وهو بين ذراعيها مخنوق بالعبرة، ذاهل الفكر، مسلوب الإرادة. وكان الطريق - إذ ذاك - متوشحا رداء الغروب كأنه يحس بلوعة القلوب الواجفة!. .
واليوم يرجع إلىأهله، ونفسه مفعمة بالحزن الكظيم، وبمشاعر لا يتبينها في منظار ضميره، وفي عين وجدانه. ولكنه يضرب برجليه في تراب الطريق الحائل اللون، ويتعثر
بحجارته الصغيرة السوداء، وعيناه تحدقان بالبيوت القاتمة على الجانبين كأنها تنتظره!. . .
وامتلأت خياشيمه برائحة كان ينفر منها أشد النفور، ويضيق بها أعظم الضيق، ومع ذلك فقد كان يلقاها مكرها حين يخرج من بيته، ويمر بها - مسوقا إليه ا - حين يعود إليه. ولكن اليوم يحس إحساسا قويا عنيفا بأنها تعطر نفسه التي أفسدتها الغربة، ودمرها الجفاف!
ما أجمل هذا الطريق! وما أبدع ما سطر من ذكريات في سفر السنين، قليلها حلو سائغ، وسائرها مغرق في المرارة! فهو لا يكاد يذكر أنه قطعه مرة وهو خالي النفس من الألم، صافي الفكر من الهواجس والظنون، فكثيراً ما كانت تمتلئ نفسه بالألم ويحس في الضيق يدب في مفاصله، فيهرع إلىبيته يلوذ به من الهجير ويتقي تحت سقفه لوافح الألم وسموم الهواجس والظنون.
وقطع بعضا من الطريق وهو يتلفت. كل شيء كما خلفه قبل خمسة عشر عاماً كأنما السنون تمر على جوانبه مر النسيم! وتمنى لو يدلف إلىبعض البيوت ليرى سكانها أتغيروا مثلما تغير وعضهم الدهر بناجذيه كما عضه هو؟. . ولا شك أنهم سينكرونه أشد الإنكار لما أصابه من شحوب مخيف، وكبر بالغ، حتى كأنه قطع خمسين حجة، وأفضت به السن إلىكهولة واهية!. فالشيب تسلل إلىشعره كما تتسلل الخيوط البيض من الفجر في لمة الليل الفاحم والسنون اللافحة بسمومها أذوت نظارته، وسيلته المرح، وأهدته كآبة لاذعة، ووجوماً ثقيلا.
ووصل إلىبيته، وأطل على باحتة من العتبة العالية، وألقى نظرة واجمة على الداخل. على الجدران المسودة من لفح الدخان، والأرض المهشمة البلاط، وأبواب الغرف الضيقة المظلمة الأغوار؛ ولمح في تطواف عينيه كتلة بشرية جالسة القرفصاء، ساندة رأسها على ذراعيها المتشابكتين.
وعرفها فتحركت في أرجاء نفسه اللواذع. وجاشت لواعج وجدانه فناداها: - أماه!. . أماه!
فارتفع رأس المرأة فجاءة، ونظرت عينان صغيرتان حائرتان، وأرتجفت شفتان ذابلتان، واختلجت أسارير وجه معروق.
أماه! لفظ جميل سرى في جسدها كالتيار الكهربائي. . لقد أطال عهد سماعها به، فلما
سمعته ترددت في أعماق نفسها أصداء بعيدة، صادرة من ماضي سحيق، واعترتها رعشة. ودار في خلدها أنها تعرف صاحب هذا الصوت.
وتقدم المغترب خطوات ثقالا، فلمحت الأم شبحا يقبل عليها فنظرت بجهد إلىوجهه، فلاح لها من بين أهداب عينها وجه شاحب هزيل. فتمتمت قائلة وهي لا تصدق ما رأت عيناها.
- عبد الرحمن!؟
وألقى الرجل جسمه في أحضان أمه كالطفل الخائف من الأشباح!، وخضلت الدموع الشفاه المحمومة التي طفقت تعبر عن حنانها بالقبل النهمة، وتفصح عن شوقها بالهمهمات.
وأرادت الأم أن تقول ولكن لسانها خانها، فتلجلجت، وتعثرت الألفاظ على شفتيها المرتجفتين، فأمسكت رأس الرجل بيديها، ونظرت في عينه كأنها تريد أن تستنطقها، ولثمتها لثمات حرار وهي تبكي بصوت خافت.
ولم يستطع الرجل من جانبه أيضا أن يعبر عن إحساسه إلىبشيء واحد وهو: أماه. . . أماه. . . بينما ظلت الأم تحت اللفظة السحرية تسكر وتحس نشوة من عبيرها الذاكي. ولكنها لا تملك إلا اللثمات!
وأخيرا نطقت بصوت تترقرق فيه العبرة:
- أحق أن حلمي قد تحقق، وانك رجعت إلىبيتي بعد غياب طويل!؟
ومسدت بيديها شعره، والتهمته بنظراتها وهو صامت بين يديها كالتمثال. . .
قالت والعبرة لا تزال تقطر من ألفاضها:
- لقد عذبني غيابك، وفرى صبري. لقد كنت أشفق عليك من أغوال الغربة، وأخشى عليك انقطاع الأسباب بك. ويئس أهلك منك إلا أنا فقد كنت موقنة أعظم اليقين أنك سوف ترجع إلي يوما ما.
وضمته إلىصدرها كأنها تريد أن تطرد الوساوس التي تنتابها. ثم قالت: - والآن رجعت. واستجاب الله دعائي وصلواتي. فقد كانت نفسي ممتلئة بك، منتظرة إيابك، تترقبه في كل لحظة، وتتعزى بالأمل عن نكد الدنيا وغصص العيش.
وخنقتها العبرة كالكابوس، وتفرست في وجهه الشاحب المقطب المهيمن عليه الحزن والجمود، وتطلعت إلىالجهامة المرتسمة على صفحاته. فأغمض الرجل عينيه واستسلم
إلىارتياح جميل!
وجاء أهله باشين متهللين. يا عجبا! كأنه لم يعرفهم. . إن خمسة عشر عاما كفيله بأن تخلق جيلا جديدا، وتباعد بين المقترب وأهله. وتخلق برزخا واسعا بينه وبينهم!
وطوف ببصره في أرجاء المنزل، منزل الذكريات. . يا الله. ما أصلب هذا الحجر، وما أعظم جبروته! إن الكائن الإنساني تهدمه معاول الدهر، وتزعزعه نكبات الأيام؛ أم الجماد فإن الدهر يترقرق من جوانبه كما يترقرق الماء الزلال من صخرة جلمود!
ووقع بصره على غرفته الخاصة فرأى بابها موصدا، ورأته أمه يحدق فيها فقالت:
- إنها كما تركتها؛ لم تطأ عتبتها قدم، ولم تجل في أرجائها عين. فقد كانت تذكرنا بك، وتجعلك حاضرا معنا، شاهدا على ما تلقاه من جراء غيابك. لقد أوصدت بابها في اليوم الذي سافرت فيه، وظللت كلما تقع عيني على بابها المغلق أتذكرك. ويخيل إلي أنك ما زلت فيها، فتلفني الذكرى، وتتحير في عيني الدموع. . .
وجالت في خاطره فكر، ومرت في مخيلته صور وأشباح. ونهض متثاقلا كأنه يحمل على عاتقه خمسة عشر جبلا من الهموم والأحزان؛ ودفع باب غرفته فسمع لها ضريرا أقشعر له بدنه. وخيل إليهأنه يدلف إلىمقبرة! وطوف ببصره في أرجاء الغرفة المعرشة بخيوط العنكبوت، المغبرة من تراب السنين. وجلس على كرسيه المغطى بطبقة سميكة من التراب، وأسند كوعه على المكتب أمامه، وظل يحدق في سقف الغرفة المختفي وراء طبقة من الظلام، وأخرى من نسيج القدم!
وتدفقت عليه سيول من الأفكار كما تتدفق الأنوار على كهف مظلم مهجور!
ورأى نفسه يلقي على عاتقه خمس عشرة سنة من الزمن، وأكثر منها في عمر العاطفة والشعور. وقال في نفسه:
- هنا. . . وقبل خمس عشرة سنة كان يعيش شاب. . . ابتلي بحمى العاطفة!
وارتسمت على فمه ابتسامة باهتة ساخرة. . . كأنه يسخر من ذلك الشاب الثمل من الأشواق!. . وراح يستطلع ما خبأه في كوة الماضي البعيد. . .
إنه ليتذكر الماضي على أحسن صورة. . . كأنما الأشياء كلها وقعت بالأمس. . . يتذكر ذلك الشاب النزق البعيد الآمال، المجنون بحب المستحيل، الساري في دياجي الأحلام، العبد
الذليل لعواطفه! ويتذكر كيف أنه كان يضيق بالحياة، وتمتلئ جوانب نفسه بالثورة على كل شيء، ولأي شيء. . . وإنه ليتذكر ليلة كان القدر يخط سطراً كبيراً في صفحة وجوده. . . سطراً يحسبه كالعنوان لقصة حياته المملة التي فقدت عنصر التشويق. . . تلك الليلة التي لقيها فيها. . إنه ليتذكرها. . فتاة السابعة عشرة غضه لينة، تنطق قسمات وجهها بما يبعث في نفسه الحائرة برد الاطمئنان وقد سحرته عيناها البراقتان، وبثتا سحرهما في قلبه الضعيف الأسوار!. . وألهبتا وجدانه، فكان يهرب إليه امن جحيم واقعة لينظر إلىسواد عينيها. إلىتلك البحيرة التي تعكس أنوار مستقبله.
كانت (سناء) جارة الجنب يراها كل يوم. . . زهرة ندية فياضة بالعطر والندى. . فيتطلع إليه ا، وتصده نظرات من عينيها ذوات معان لم يعرفها وهو ابن العشرين. . . ولكنه كان يحس في قرارة نفسه بأن النظر إليه اشيء جميل جداً ورائع جداً. . وكان سحر العيون أشد من كل سحر قلبه، لا يستطيع أن يرده بإرادة ولا أن يخمده ببرود. . . وكانت عيناها البراقتان كفيلتين بإذكاء النار الخالدة في قلبه!. . . وأي شيء كان أضعف من قلبه؟!
وشعر بأنها هي الأخرى تحبه، فقد انبجس له من افترار شفتيها، وانطلاق روحها، وانبساط محياها أمل حلو في أنها تحبه، وتبادله عاطفة بعاطفة مثلها. . . وإنه لن ينسى تلك الليلة الحلوة الممتعة عندما رجع إلىالبيت فرآها تنتظره بقوامها الرشيق، وتحرك أوتار قلبه بابتسامتها، وتحدثه بعينها الحسنتي التعبير. . . وعندما اقترب منها عبق في وجهه عطر خدّر أوصاله!. . . وعندما دلف إلىبيته كانت شفتاه نديتين!. . . وكان حبه قد أينع عن ثمر حلو المساغ!
وأطلت من شفتي عبد الرحمن ابتسامة وقد وصل إلىهذا الموضع وقال في نفسه:
- هذه القمة السامقة من كل حب. ولكن لا بد للإنسان من الانحدار حين يصل إليه ا.
- لقد صدق الفرنسيون حين قالوا: (الحب يولد بالنظر، وينمو بالقبل، ويموت بالدموع). . فلا بد من الدموع.
وكأنه أحس بمرارة الدموع. . فقد كانت القبل تسكره، وتذهب باتزانه. . . فهام مع أحلامها في واد محرم. . وظل يهوم فيه حتى استفاق على صوت أبيها يزمجر ويقطع كل سبب من أسباب حبه.
هناك أدركه الإعياء، وخارت قواه. . ولاحت له الدنيا مغارة مخيفة!.
وتذكر ليلة الوداع. . حين جاءت إليهتودعه، وتلقي في مسامعه كلمات تزيد لوعة وهي المرأة الضعيفة. . . وقالت له:
- أنها ستحيا من أجله. ومن أجل شيء أعز عليها من نفسها.
واختلجت في صدر عبد الرحمن لواعج وأشجان وهو يسترجع موقفه معها، ويرى في عينيها قصة آمال محطمة، وخيبة مريرة فيقول في سره:
- الحياة رحلة مضنية! أدنى ما ينال المسافر منها التعب، وأقرب ما يطرق باب نفسه فيها الإجهاد والضيق. . ثم السأم المطبق.
وأحس بأن غرفته أصبحت سجناً مظلماً، وذكرياته أشباحا مريعة. فضاق صدره وطلع منها لعل الفضاء والنور والهواء النقي يطرد أشباح الماضي وأطيافه المقيتة!
واستقبله شاب في الخامسة عشرة، منطلق الأسارير، براق العينين، مؤتلق الشباب. فنظر إليهطويلاً كأنه يعرفه. فقالت له أمه:
- هذا جميل. . ابن سناء. . .
وارتجفت شفتاه وهو ينظر إلىوجه الشاب المتسائل وفي أرجاء نفسه سمع صوتاً ينادي:
- ولدي!. .
غائب طعمة فرمان