الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 857
- بتاريخ: 05 - 12 - 1949
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
الشاعر الذي أقدمه إليك في هذه الصفحات، كان أشبه بكتاب مفتوح. أستطيعأن أقول لك وأنا مطمئن، إنني قد قرأته كله. . . شعره على ضوء حياته، وحياته على ضوء شعره، ناحيتان تؤلفان هذا الكتاب الذي قرأته، وعشت بي سطوره، وخرجت من هذه السطور بآراء عرضتها على الذاكرة فما اعترضت وعلى الضمير فما أنكر، وعلى موازين النقد فما اختلفت مع أصوله كما أفهمها ومناهجه.
درست حياة علي طه النفسية، ودرست آثاره الفنية. . . درستهما على طريقتي التي أومن بها وأدعو إليها كلما حاولت أن أكتب عن أصحاب المواهب أو كلما حاول غيري أن يكتب عنهم: مفتاح الشخصية الإنسانية أولاً، ومفتاح الشخصية الأدبية ثانياً والربط بعد ذلك بين الشخصيتين لننفذ إلى أعماق الحقيقة في الحياة والفن ومدى التجاوب بينهما منعكساً على صفحة الشعور المعبر عنه في كلمات.
يستطيع الذين لم يعرفوا علي طه ولم يطلعوا على دخائل نفسه وآفاق حياته، يستطيع هؤلاء إذا لم ينزعوا عن الألفاظ أثوابها النفسية، أو يجردوا الأخيلة من ضلالها المعنوية، أو يفرقوا بين الصور وبين وشائج اللحم والدم. . . يستطيعون إذا لم يلجئوا إلى شيء من هذا كله أن يعرفوه حق المعرفة من خلال شعره! لقد كان شعره مرآة صادقة لهذا الوجود الذي أحاط به، لأنه كان إنساناً صادقاً في صحبته لتلك المرآة. . . لم يحاول يوماً أن يقف أمامها بوجه غير وجهه، ولم يحاول يوماً أن يلقاها بملامح لونّها المساحيق أو اختفت حقيقتها وراء الأقنعة! ما أكثر الذين تخدعك مراياهم من أصحاب الفن حين تفتش فيها عن وجوههم. . . هؤلاء لو قدر ما لي يوماً أن أكتب عنهم لكشفت عن أثر المساحيق في تشويه معاني الحق والخير والجمال، وفي خداع الذين يريدون أن يستخلصوا من السطور وحدها رأياً وعقيدة! هنا أستطيع أن أقول لهم مثلاً إن فلاناً الكاتب أو الشاعر أو القصاص، قد قدم إليكم صورته من خلال فنه كما تريد المثالية في عالمكم لا كما تريد الواقعية في عالمه. . . إياكم أن تدرسوه من صورته المقروءة، بل ادرسوه من صورته المنظورة، ثم
قارنوا بينهما لتضموا أيديكم على مدى التفاوت أو التوافق بين الصورتين! تلك هي الأمانة العلمية في الدراسة النقدية، كلما حاول كاتب التراجم أو دارس الشخصيات أن يسلط أضواءه على الأثر الفني مرتبطاً بحياة صاحبه!
علي طه لم يكن واحداً من أصحاب المساحيق، ولكنه كان شاعراً يريد أن يجد نفسه وأن يجد الناس؛ ومن هنا لم يكذب أبداً على المرآة. . . مرآته الصافية التي تعرضه أمام ناظرتك بسماته التي لا تكلف فيها ولا رياء! أنه يمثل الوضوح في الفن، وقيمة الوضوح في الفن هو أنه. . . هو أنه يتيح للدارسين أن يطمئنوا إلى مواقع أقلامهم كلما قطعوا مرحلة من مراحل الطريق. . . لا غموض في المقدمات يدعو إلى الشك في النتائج، ولا ضباب على سطح المنظار يحول دون الرؤية إذا التمستها العيون وليس معنى هذا أن شعر علي طه يريح دارسيه ومقوميه، كلا، فما كانت هذه الحياة العريضة ولا أقول الطويلة، ما كانت هذه الحياة في ألوانها المختلفة وطعومها المتباينة، إلا ميداناً رحيب الجنبات لفن يرهق أنفاس السائرين في فجاجة ودروبه. . . إن علي طه لم يكن طاقة محدودة تسبر غورها في بضع لمسات أو لمحات ولكنه كان طاقة تشعر بينك وبين نفسك بمداها الذي تتعدد فيه الزوايا وتكثر الأبعاد!.
هذه حياته قد خبرتها، وهذه دواوينه قد قرأتها، فهل تحسب أن هناك شيئاً من الإجهاد لملكتي الناقدة إذا ما وضعت صوره الفنية في أماكنها الدقيقة التي تتسع لها ولا تزيد؟ كلا. . . لأنها كما قلت لك واضحة في منظاري كل الوضوح، ثابتة في مقاييسي كل الثبات. ولكن الإجهاد في الإحاطة الكاملة بهذا الأفق الممتد إلى أبعد حدود النظر. . . إن الظلال والأضواء على وضوحها تتشابك لكثرتها وتتداخل، ولا بد من الاحتشاد كل الاحتشاد لتفرق بين ظل وظل وتوفق بين ضوء وضوء، وتجمع بين المؤتلف منها في مكان وبين المختلف منها في مكان آخر!. . لقد كان علي طه موزع الطاقة بين فنون شعره كما كان موزع القلب والفكر بين فنون حياته؛ فالصورة الوصفية في إطارها الحسي، والصورة الوصفية في إطارها النفسي، تلتقيان وتمتزجان في شعر المرأة وشعر الغزل والطبيعة والرثاء والقومية والمناسبة، حتى يصعب عليك أن تستخلص كل لون من ألوان هاتين الصورتين، لتضعه في خانته المحدّدة التي تقدمه إليك من وراء عنوان!
ولعل القارئ يلاحظ أنني قد فرقت بين شعر المرأة وشعر الغزل، وجعلت لكل منهما سمته الخاصة وطابعه المتميز. . . ذلك لأن هناك لونين من الشعر يجب التفرقة بينهما في هذا المجال: لون يعبر عن مكان المرأة من الشعور الإنساني عند الرجل حين يصور المشاركة الوجدانية بين عاطفتين: وهو ما أسميه بشعر الغزل. ولون يعبر عن مكان المرأة من الغريزة الإنسانية عند الرجل حين يعرض لنزوات الجسد بين طبيعتين: وهو ما أدعوه بشعر المرأة. ولكل من اللونين في شعر علي طه نصيب أي نصيب!
على مدار الأداء النفسي سأدرس هذا الشعر، وعلى أساس هذا الأداء يجب أن يدرس كل شعر عند القدامى والمحدثين. أنه في رأيي المحك الذي يظهر لك الشخصية الشعرية في ثوبها الطبيعي ويكشف لك عن الفن الشعري في معدنه الأصيل. . . ودعك من الساجدين في محراب الأداء اللفظي؛ أولئك الذين يزنون الألفاظ بضخامة هياكلها الخارجية: إنهم يذكرونني بذلك الصنف من الناس يحترم الرجل لضخامة مظهره. . . غير ملتفت إلى ضآلة مخبرة!
ولقد حدثتك في عدد مضى من (الرسالة) عن دعائم الأداء النفسي في الشعر. . . وقلت لك عنها فيما قلت: إنها تتمثل في الصدق الشعوري أولاً، وفي الصدق الفني ثانياً، وأخيراً في روافد هذين النهرين الرئيسين، ونعني بهما اللفظ والجو الموسيقي. ولا بد من رجعة إلى بعض الذي قلت بالأمس، حتى تستطيع أن تجمع بين خطوط المشكلة الكبرى وبين التطبيق عليها عن طريق الصورة أو عن طريق المثال. . .
(الصدق الشعوري) هو ذلك التجاوب بين (الوجود الخارجي) المثير للانفعال وبين (الوجود الداخلي) الذي ينصهر فيه هذا الانفعال، أو هو تلك الشرارة العاطفية التي تندلع من التقاء تيارين. أحدهما نفسي متدفق من أعماق النفس، والأخر حسي منطلق من آفاق الحياة. أو هو ذلك التوافق بين التجربة الشعورية وبين مصدر الإثارة العقلية في مجال الرصد الأمين للحركة الطائشةفي ثنايا الفكر والوجدان. . . هذا هو الصدق الشعوري وميدانه الإحساس، أما (الصدق الفني) فميدانه التعبير؛ التعبير عن دوافع هذا الإحساس تعبيراً خاصاً يبرزه في صورته التي تهز منافذ النفس قبل أن تهز منافذ السمع، وهذه هي التجربة الكبرى التي تختلف حولها القيم الفنية للشعر في معرض التفرقة بين أداء وأداء!
هناك شاعر يملك الصدق في الشعور ولا يملك الصدق في الفن لأنه لم يؤت القدرة على أن يلبس مشاعره ذلك الثوب الملائم من التعبير، أو يسكن أحاسيسه ذلك البناء المناسب من الألفاظ، ولا مناص عندئذ من الإخفاق في إظهار الطاقتين معاً: الشعرية والشعورية. . . وهنا يأتي دور الأخير من الأداء النفسي في الشعر، وهو الدور الذي يعتمد على اللفظ ذو الدلالة الفنية لا المادية، اللفظ ذو الظلال الموحية لا الظلال الجامدة، اللفظ الذي يتخطى مرحلة إشعاع المعنى الجزئي الواحد إلى مرحلة إشعاع المعاني الكلية المتداخلة!
هذا هو مكان اللفظ من الأداء؛ أما الجو فنقصد به ذلك الأفق الشعري الذي بصدقه إلى مكان الفن وزمانه، ويحقق لك تلك المشاركة الروحية بينك وبين الشاعر، ويحدث لك نفس الهزات الداخلية التي تلقاها وهو حالة فناء شعوري كامل مع (الوجود الخارجي). . .
ويبقى بعد ذلك عنصر التنغيم في مشكلة الأداء وهو عنصر له خطره البعيد وأثره الملحوظ في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير. وهنا يبدو الارتباط كاملاً بين العناصر الثلاثة، لأن (الحقل الشعري) ممثلاً في عنصري الأجواء والألفاظ لا غنى له مجال عن عنصر (الموسيقى التصويرية) التي تصاحب (المشهد التعبيري) في كل نقلة من تنقلات الشعور، وكل وثبة من وثبات الخيال!
ويظهر أثر الربط بين هذه القيم في مشكلة الأداء النفسي حين نلتمس ذلك التناسق بين فنون الشعر المختلفة. . . أن لكل فن من هذه الفنون طابعه الخاص المتميز في مجال التصوير الفني عن طريق اللفظ والجو والموسيقى؛ فمن أسباب الإخلال بالأداء النفسي أن نتخير اللفظ الهامس، والجو الهادئ والموسيقى الحالمة مثلاً في شعر الملاحم، وأن نعكس القضية من وضع إلى وضع فنتخير اللفظ الهادر، والجو الصاخب، والموسيقى العاصفة مثلاً في شعر الغزل والرثاء.
قلت هذا عن دعائم الأداء النفسي ثم زدت عليه هذه الفقرات: حسبنا أن نقول إن الشعراء المحدثين قد خطوا بفهمهم أصول الفن الشعري خطوات جديدة، ووثبوا بالأداء النفسي وثبات أقل ما يقال فيها إنها ردت للألفاظ قيمها التعبيرية حين ردتها إلى محاريبها النفسية فغدت وهي صلوات شعور ووجدان. ويستطيع النقد الحديث أن يقول أنه قد وجد ضالته في هذا الشعر الذي وجد نفسه. . . وإذا قلنا الشعر العربي الحديث، فإنما نعني ذلك الشعر
الذي بدأت مرحلته الأولى بتلك المدرسة من بعض شعراء الشيوخ وعلى رأسهم شوقي، وبدأت مرحلته الثانية بتلك المدرسة الأخرى من بعض الشعراء الشباب وعلى رأسهم إيليا أبو ماضي، وفي شعر هذين الشاعرين تبدو ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً منها في شعر الآخرين!
من هذه الفقرات يتضح لك أنني قد جعلت أبا ماضي على رأس مدرسة الأداء النفسي عند شعراء العرب. . . ولقد أصدرت هذا الرأي بالأمس وما زلت أؤيده حتى اليوم، حتى هذه اللحظة التي أدرس فيها شاعراً ممتازاً من شعراء هذه المدرسة النفسية هو علي طه. ولكن بقيت من وراء هذا كله حقيقة، وهي أن أبا ماضي يقف في الطليعة على أساس هذا الأداء في مجموعه. . . أريد أن أقول لك إن هناك صوراً من صور هذا الأداء في شعر علي طه تعلو فوق مستوى نظائرها في شعر أبا ماضي، سواء أكانت تلك الصور وصفية في إطارها النفسي أم كانت وصفية في إطارها الحسي. ولك أن تقول والدليل بين يديك من شعر الشاعرين إن فرائد علي طه خير من فرائد أبا ماضي، ولكن النتيجة الأخيرة هي أن أبا ماضي في مجموعه خير من علي طه في مجموعه، على أساس النسبة العددية التي كلما قدمت لك عشر قصائد من شعر الأداء النفسي عند أبا ماضي، قدمت إليك في مقابلها سبعاً من شعر هذا الأداء عند علي طه. . . فإذا قلنا بعد ذلك إن ومضات الأداء النفسي أكثر لمعاناً في شعر إيليا منها في شعر الآخرين، فيجب أن يفهم أن المقصود بكثرة اللمعان هنا في هذا التعبير هو تلك الكثرة التي أشرت إليها في مجال النسبة العددية، وفي النماذج التي سأقدمها من شعر علي طه في هذه الدراسة المطولة ما شئت من إقامة الدليل!
وأمضي في هذه الدراسة محدداً جوانبها مقسماً مراحلها، إذ لابد لكل دراسة كاملة من جوانب تحدد ومراحل تقسم. . . لابد من تصميم فني ككل تصميم يوضع عند رسم الخطوط الرئيسية في أي عمل من الأعمال الأدبية.
هناك مرحلة أولى سأتناول فيها بالنقد والتحليل أول صورة من صور الأداء النفسي في شعر علي طه، وأعني بها الصورة الوصفية في إطارها النفسي. . . وهي تمثل الشعر الذي تلمع فيه الومضة الفكرية مغمورة بأضواء الذاتية الوجدانية؛ هناك حيث يتعزى الفكر الإنساني بين جدران النزوة والنزعة والغريزة والعاطفة.
وهناك مرحلة ثانية سأتناول فيها الصورة الأخرى من صور هذا الأداء، وأعني بها الصورة الوصفية في إطارها الحسي. . . وهي تمثل الشعر الذي ينتقل بالماديات إلى نطاق المعنويات؛ هناك حيث تستحيل الحركة الحسية في بوتقة اللفظ إلى موجة صوتية معبرة عن الوجود الداخلي. ومن ألوان الصورة الأولى عالم الطبيعة الإنسانية الخاصة، وعالم النموذج النفسي العام، وعالم النظرة الكونية في محيط الفكرة السابحة في أجواء المجهول. ومن ألوان الصورة الثانية عالم الطبيعة المادية الخاصة، وعالم النموذج البشرى العام، وعالم النظرة الواقعية في محيط الرؤية الشعرية.
بعد هذا سأنتقل إلى المرحلة الثالثة من مراحل هذه الدراسة وهي مرحلة تطبيق هذه الألوان من الأداء النفسي على حياة علي طه الشخصية. سأحاول أن أرد كل ظاهرة فكرية أو نفسية أو خلقية إلى مصادرها من الجو الطبيعي الذي تنفس فيه. . أعني أنني سأنتقل من مرحلة الأداء النفسي بمعناه الاصطلاحي في أصول النقد، إلى مرحلة الأداء النفسي بمعناه الوجودي في واقع الحياة، وهو المعنى الذي أشرت إليه من قبل حين قلت إن شعر علي طه كان مرآة صادقة لجوانب حياته.
أما المرحلة الرابعة فستخصص للحديث عن المرأة في شعر علي طه. . . هل فهمها كما يجب أن تفهم؟ هل نظر إليها كما يجب أن ينظر؟ هل شرح الطبيعة الأنثوية كما يجب أن تشرح؟ هل التقى مع شعراء المرأة هنا وهناك، في حدود الجسد حين يتخذ معبراً إلى الغريزة أو حين يتخذ معبراً إلى الإحساس بالجمال؟. . . هذا فصل خاص سأحاول فيه أن أنتزع الحقيقة الفنية من أغوار الحقيقة الوجودية.
وإذا ما انتهيت من هذه المرحلة الرابعة مضيت إلى المرحلة الخامسة، وهي أثر الثقافة الغربية في شعر علي طه. . . أثرها في الأخيلة التي تغلب عليها الواقعية حيناً، والرمزية حيناً آخر، والرومانتيكية في كثير من الأحيان. ثم أثر الآفاق الغربية في إمداد ملكته الشاعرة بتلك الخامات من المشاهد والخواطر والأحاسيس. .
يتبع
أنور المعداوي
صور من الحياة:
ركن يتداعى
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
لما كتبت القسم الأول من هذه الصورة أسرع إليّ صديق من ذوي الجاه والشأن في وزارة الأوقاف، وحدثني حديثاً فيه الشفقة والعطف، وفيه الرجولة والإنسانية، وطلب إلي مشكوراً أن يعين صاحب هذه الصورة على بلواه بطريقة لا يحس الرجل فيها غضاضة الحاجة ولا ذل السؤال.
آه، ما أسمي رجولتك يا من تهزك الأريحية الجياشة فتمد يدك الرايقة لتمسح على أتراح رجل ضعضعته نكبات الزمن، ولتخفف من آلام إنسان فجعته الأيام في خفضه وسعادته! إنك ولا ريب روح السماء ونسيم الجنة، فدعني أشكر عطفك ورقتك بالسان صديقي الذي دهمته القارعة فاجتاحت قوته وحيلته ورزقه.
(كامل)
ندَّ عني صوابي يوم أن رأيتك - يا صاحبي - أول مرة، تطحنك مرارة الفجيعة في نور عينيك، وطار عني الحجا يوم أن لمست الأسى يتغلغل في أغوار قلبك فيحترم شبابك ونشاطك من أثر الصدمة القاسية، وماتت كلمات العزاء على شفتيَّ يوم أن شهدت الصبية يرفون حواليك كالأقمار رونقاً وبهاءً وينادونك:(انظر. . . انظر يا أبي)، وهم يتوثبون بهجة وسروراً لأنهم لا يحسون ما أصابك من لوعة وضيق.
وصرفتني عنك شواغل الحياة حيناً، فحز في نفسي أن لا أجد السبيل إليك وأنت تعاني حر المصيبة ووهج البلوى. على حين أني لم أنس أبداً أنك كنت لي ميعة الصبا رفيق الروح في وحدة الحياة، وأنيس القلب في وحشة العمر، ونور النفس في ظلام العيش. وأمضَّ قلبي أن أرى حالك تحول فتغيض بشاشتك وتذوي سعادتك وتجدب حياتك ويتداعى ركنك، ولكن روحي كانت دائماً تهفو إليك فتفيض لك نفسي بالهوى والود، ويطفح قلبي بالشفقة والحنان، فأنا ما زلت أذكر حديثك يوم أن قلت لي: (الآن بعد أن نزلت بي هذه الداهية الهوجاء
أجدبت حياتي وأقفرت دنياي وانسدت في وجهي سبل العيش، فما عدت ألمس روح الخصب إلا في لقياك، ولا أنشق شذا الإنسانية إلا في مجلسك، ولا أحس نسيم العزاء إلا في حديثك أنت. . . أنت أيها الرجل والصديق والأخ)
قال لي صاحبي: (وأخذت أروِّض نفسي على حياة الظلام الدامس والوحدة الممضة والشظف العاتي، فرقت مشاعري وأُرهفت حواسي، ولبست المنظار الأسود أبغض ما يكون إلي لأداري خلفه لوعة قلبي وضعف نفسي، وليكون حجاباً على أعين أولادي فلا تنفذ أبصارهم إلى علتي. وأحسست بعد حين أن الطبيعة تحبوني بعكف من لدنها علَّها تعوضني بعض ما سلبتني فأصبحت شديد الوعي أحفظ ما يلقي عليَّ لأول مرة؛ حديد السمع والشم أسمع النغمة الخافتة تصدر من مكان قصي، وأعرف القادم من وقع قدميه، وأنشق ريح الرجل فأتبينه مقبلاً أو مدبراً؛ دقيق الحس لا يخطئ حدسي مكان الجدار وهو على خطوات مني، ولا يكذب ظني موضع المنعطف ولما أبلغه بعد؛ نافذ البصيرة أستشف طويا النفوس وهي تختلج بين الضلوع، وأحس نوازع القلب وهي تخفق بين الحنايا. . . فهدأت ثورتي وسكنت جائشتي.
وجاء صغاري - ذات اليوم - يتدافعون ويسألون: أحقاً ما نسمع يا أبي، هل فقدت بصرك ووظيفتك؟ وأنا رجا أقدس المبدأ والعقيدة، وأومن بأن الطفل بريء بطبعه نقي بسليقته، فهو لا يتعلم الكذب والخداع إلا في داره، ولا يتلق اللؤم والمكر ألا من أبويه، ولا يسلك سبيل الضعة والحساسة إلا بقدر ما يجدهما في بيئته. ولقد أخذت على نفسي منذ أن صرت أباً لألا أحدث أولادي حديث الكذب والخداع أبداً. فقلت:(نعم يا أبنائي!) وشعرت إذ ذاك بقسوة الصراحة، فلقد خُيِّل إليَّ أن كلماتي تهبط على هذه الأرواح الصغيرة المرحة مثلما تهبط الصاعقة الجاسية على شيء تافه ضئيل. واستشعروا الصدمة العنيفة فاستخرطوا في بكاء مر طويل فيه الحرارة واللوعة، وفيه الشفقة والحنان. . . استخرطوا في بكاء مرّ طويل وأنا بينهم في حيرة وذهول أهدئ الروع فلا يهدأ، واسكن الثورة فلا تسكن. وجاءت كبرى بناتي وهي صبية جميلة القسمات خلابة السمات رائعة الحسن طيبة القلب رقيقة الزاج مرهفة الحواس، جاءت لتضمني إلى صدرها وهي تذرف عبرات حرى تتدفق مدراراً على وجهي، وتصرخ في غير وعي صرخات مفزعة:(أبي. . . أبي) واندفعت
تصرخ في لوثة وجنون، وحار قلبي لما رأيت، وتراءى لي أنني أشهد مأتماً هو مأتمي، وهؤلاء الصبية يشيعون أباهم إلى رمسه، فنازعتني نفسي إلى أن أستسلم لضعفي فأشاطرهم البكاء وأشاركهم النواح عسى أن أسري عن نفسي أو أخفف من شجو أولادي.
(آه، يا صاحبي، لقد كان مشهداً رهيباً مرعباً، كاد يعصف بصبري وإيماني، فسولت لي خواطري أن أفر من داري لأقذف بنفسي في اليم، أو أقدّ قلبي بسكين، أو ألقي بروحي في هاوية مالها من قرار. ولكني خشيت أن أفجع أولادي مرتين، وفي القلب إيمان وأمل؛ فسكت علي أسى يتأجج، وكتمت شجوني على حزن يتوهج، وأطرقت وأنا أربت على كتف هذا، وأضم ذاك إلى صدري، وأقبل تلك في شوق وحنان.
(وعجب الصغار من صمتي وأخذتهم روعة عطفي فهدأت الثورة، وفي النظرات ذهول وحنان. وانطلقنا جميعاً في موكب الحياة؛ ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه. أما أنا فما ظفرت من ميراث أبي بشيء لأن أخي الأكبر كان قد عبث بتجارة أبي وعاث في حساباته فبعثر المال كله بطريقة شيطانية وضيعة.
(انطلقنا جميعاً في موكب الحياة ولزوجتي في القرية خمسة أفدنه هي الأمل الباسم في ظلمة الحياة، هي الشعاع الدقيق ينفث في القلب الراحة ويبعث في النفس الطمأنينة. وحدثتني نفسي بأن أهجر المدينة إلى القرية خشية أن تعصف بنا طلبات المدينة أو أن ترهقنا حاجات الحضارة. ووجدت في الخاطرة منفذاً ففزعنا إلى هناك عند أول زفرات الهاجرة.
(وفي القرية وجدت الراحة التي تعصف بالنشاط، والخمول الذي يقتل الفكر، والوحدة التي تورث الفناء، والهدوء الذي يثير الأعصاب، والفراغ الذي يشغل البال، والجهل الذي يسخر من الثقافة. فكنت أقضي يومي وحيداً على مصطبة إلى جانب الباب في فيء شجرة، أفتقد الصاحب وأفتقر إلى السمير، فطالت أيامي وقد أفعمها الملل والضيق، ومن حولي أولادي تصرفهم المتعة وتشغلهم الخضرة وتسعدهم الحرية.
(ثم هبت أول نسمات الخريف تحمل معها المشكلة الكبرى. . . مشكلة الصبية تناديهم المدرسة. وأقبلت زوجتي تحدني حديثهم في رفق ولين، فألقيت السمع إلى كلامها غير أني لم أجد الرأي: ترى هل يعيش الصغار وحدهم في المدينة يقاسون الوحدة والضياع، وأظل هنا أحمل نفسي وهم أولادي، أم انطلق فأذر الأفدنه، وهي عدتي على الزمن القاسي
ودريئتي من الفاقة العاتية. . . أذرها يتناهبها الفلاحون وما فيهم إيمان ولا أمانة؟ ثم قر قراري فتركت الصبية يسافرون إلى القاهرة. . . تركتهم بين يدي القدر.
وجاءتني رسالاتهم تترى فأحسست كأن كل رسالة تحمل في طياتها أذى نفسي وضنى قلبي، ثم جاءت رسالة تقول: (وقضينا الليلة الماضية في حال من الفزع يفرق له الشجاع، وفي رهبة من الرعب يخشع لها الأيَّد، وفي رعدة من الذعر يرتاع لها الجليد. فلقد أحسسنا باللص يتسلق أنابيب المياه حتى أوشك أن ينقضّ علينا لولا أن ندّت من أختي صيحة مضطربة طار من هولها اللص، وتبدد من شدتها الأمان من قلوبنا، وكانت لفحات القر القاسية تلفحنا فتكاد أطرافنا تتجمد من زمهريرها، والريح رفرافة تئن أنيناً تنخلع له أفئدتنا، فلصق بعضنا ببعض مثلما يلصق أجراء بأمها في ليلة قرة تلتمس الدفء والأمان. وعصف بنا الخوف فما غمضت أجفاننا حتى انطوى الليل وبزغت الشمس. . .
لشد ما أصابني الجزع والذهول مما سمعت من كلام صغاري وهو يخز قلبي وخزات قاسية عنيفة تقضّ مضجعي وتفزعني عن القرار!.
وعند الصباح ودعت القرية لألحق بصغاري، ورضيت بالشظف لأكفل لأفراخي الأمان والهدوء.
وها أنا الآن كما ترى - يا صاحبي - أعاني عنت الحياة وضيق العيش وغلظة الأيام، أتعثر في مهاوي الضياع، تتعاوني نوبات من الألم النفساني فما يمسكني إلاّ حب الولد. . . الولد الذي أطمع أن أراه رجلاً يمسح عني أتراحي بيده الحبيبة ويزيح عني أشجاني بكلماته الرفيقة. . .
وسكت صاحبي، وسكتُّ. وتلاقت خواطرنا وعبراتنا على حرقة وأسى. . .
كامل محمود حبيب
الشعر المصري في مائة عام
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
للأستاذ محمد سيد كيلاني
- 1 -
1850 -
1882
كان حكم محمد علي بداية تحول في تاريخ مصر الحديث. ففي عهده شرعت البلاد تأخذ بأسباب النهضة والتقدم، واتصلت بأوربا وطفقت تستفيد من علومها وثقافتها.
ثم مات محمد علي وخلفه عباس الأول (1848 - 1854) وفي عهده كادت تتلاشى بوادر النهضة التي خلفها جده الكبير.
ثم جاء سعيد (1854 - 1868) وكان يمتاز بحبه للمصريين وعطفه عليهم فأدخل بعض الإصلاحات الزراعية فلهجت الألسن بالثناء عليه، ووجه عناية خاصة بالجيش فرفع مستواه، وفرض التجنيد الإجباري على جميع أفراد الشعب، وفتح باب الترقي أمام أبناء الفلاحين، واهتم بتزويد الجند بأحدث الأسلحة التي عرفت في عصره، وشيد القلاع والحصون. وقد ظهر أثر ذلك في الشعر فأخذ الشعراء يمدحون سعيداً وينوهون بشجاعته وإقدامه، ويشيدون بجيوشه وأسلحته وبقلاعه وحصونه. فمن ذلك قول السيد علي أبي النصر:
هم جنود بل أسود بأسهم
…
يتقيه كل جبار عنيد
أقسمت أسيافهم لو جردت
…
يوم حرب لم تدع شخصاً يحيد
والرمان اللدن أو مت بالظبا
…
نافذات في الترقي والوريد
كم لهم من بندق أبدى لنا
…
معجزات إذ له لن الحديد
كم لهم من مدفع آياته
…
بينات لفظها لفظ مفيد
كم توالوا فوق خيل ضمر
…
سابقات للقضا فيما يريد
لو أتت يوماً على رغم العدى
…
مرسلات غادرته كالحصيد
إذ عليها كل ليث ضيغم
…
في ملاقاة العدى برج مشيد
وقال السيد صالح مجدي مؤرخاً بناء القلاع السعيدية بجوار القناطر الخيرية:
فأسس بالتقوى حصوناً عديدة
…
بثاني جمادى بعد إبداء دعوة
ففي جانب الكبريّ لاحت بروجها
…
عليها مدار الأمن في كل لحظة
ولما علت أركانها وتجهزت
…
بما يدفع الأعداء عنها بهمة
وحصنت الأبراج منها مدافع
…
تسوق إلى المغرور أثقل كلة
تكفل من أبطال مصر بحفظها
…
رجال لهم بطش وأعظم سطوة
هكذا مدح الشعراء سعيدا. وأنت ترى أن مدح سعيد كان يقرن دائماً بذكر عساكره وجنوده؛ ومدافعه وبنادقه، ومناعة استحكاماته ومتانة قلاعه وحصونه، مع أن البلاد لم تستفد شيئاً من هذه القلاع والحصون، بل تكبدت خسائر مالية فادحة دون مقابل. ولو أن سعيداً شيد معاهد للعلم بدل تلك القلاع لأفاد البلاد فائدة محسوسة، ولكنه أهمل نشر العلوم والمعارف ولم تفتح في عهده مدرسة واحدة. لذلك أمسك الشعراء عن الخوض في هذا الباب، ولم يقرن اسم سعيد بنشر العلم والعرفان، ولم يعن الرجل بتشييد المصانع لتزويد الجيش بما يلزمه من ملابس وسلاح، بل كان يستورد من أوربا كل ما يحتاج إليه، فترتب على ذلك أن أموال البلاد أخذت تتسرب إلى الخارج ووفد على مصر كثير من الأوربيين الطامعين في الثراء وأضحى نفوذهم يزداد يوماً بعد يوم.
وفي عصر سعيد انتهت حرب القرم التي نشبت بين الدولة العلية وروسيا. وكانت مصر قد اشتركت في هذه الحرب وأبلى الجنود المصريون بلاء حسناً في ميدان القتال. وقد تغنى الشعراء المصريون بهذا النصر. فمن ذلك قول عبد الله فكري:
لقد جاء نصر الله وانشرح القلب
…
لأن بفتح القرم هان لنا الصعب
وقد ذلت الأعداء في كل جانب
…
وضاق عليهم من فسيح الفضا رحب
بحرب تشيب الطفل من فرط أهولها
…
يكاد يذوب الصخر والصارم العضب
إذا رعدت فيها المدافع أمطرت
…
كؤوس منون قصَّرت دونها السحب
وقال الساعاتي:
أسياف سطاه كم فعلت
…
وأرادت أن تعلو فعلت
والروس لها ذلت وعنت
…
في مشهد حرب (سوستبل)
ثم قام سعيد برحلة إلى بلاد الحجاز. وكانت هذه الرحلة أشبه بحملة عسكرية إذ صحبه من الجند والحاشية نحو ألفي رجل من مشاة وفرسان ومدفعية وأتباع. وفي ذلك يقول الساعاتي مخاطباً سعيدا:
ملأت قلوب العرب رعباً فما دروا
…
بعثت لهم بالكتبأمبالكتائب
تركتهم في أمرهم بين صادق
…
وآخر في تيه من الظن كاذب
تسير لهم في بحر جيش عرمرم
…
يفيض بموج الحتف من كل جانب
إذا هتفوا باسم العزيز تزلزلت
…
جبال عليها الذل ضربة لازب
فكيف إذا يممت بالشهب أرضهم
…
وزاحمت ما في أفقهم بالنجائب
وجرد عليها الأسد في قصب القنا
…
ترى الأسد في الآجام مثل الثعالب
فعصر سعيد قد امتاز في بعض فتراته بظهور الروح العسكري الوطني. وقد أثر هذا في الشعر على نحو ما بينا. وأقبل الشعراء في ذلك العصر على نظم الأناشيد العسكرية الحماسية، فنظم رفاعة رافع الطهطاوي جملة من أناشيد وطنية تذكر ما جاء في أحدها وهو:
يا جند مصر لكم فخار
…
بين الورى عالي المنار
كالشمس في وسط النهار
…
صيت لكم في الكون سار
حادي السعود به حدا
…
والطير صاح وغردا
بشرى لمصر قد بدا
…
فيها الفخار مؤبدا
بأميرها يحر الندا
…
أعني السعيد محمدا
وحذا حذوه السيد صالح مجدي فأنشأ (القصائد الوطنيات) وكذلك فعل مصطفى سلامة النجاري شاعر سعيد الخاص، ومحمود صفوت الساعاتي.
وفي عصر سعيد ظهرت في مصر بعض المخترعات الحديثة كالسفن البخارية والآلات الزراعية التي تدور بالبخار وآلات رفع الماء كما أن السكك الحديد قد أخذت تحل محل شيئاً فشيئاً محل وسائل، النقل القديمة. وكذلك انتشرت الأسلاك البرقية. فتغنى الشعراء بهذه المخترعات. قال السيد صالح مجدي يصف (وابور) سعيد:
أمدينة من فوق لج الماء
…
تجري بأبهج منظر وبهاء
أم هذه إرم بدت وعمادها
…
مسبوكة من فضة بيضاء
أم ذاك وابور المسرة مده
…
صدر البرية أسعد السعداء
وحبا النيل المبارك فازدهى
…
ببديع بهجة شكله الحسناء
فكأن هذا الفلك في تنظيمه
…
فلك به تسري نجوم سماء
وكأنه في النهر عند مسيره
…
برق يقصر عنه طرف الرائي
أو أنه ملك خطير جنده
…
ملأ من الأمواج والأهواء
فعساكر الأمواج يرسلها على
…
سفن البخار طليعة الأعداء
وهكذا أستمر الشاعر يصف هذه السفينة ويشبهها تارة بالمدينة وتارة بالفلك، وحيناً آخر بالملك.
وقال يذكر قنطرة سعيد:
لله ما أبهى وأبهج قنطرة
…
سمح السعيد بها فزانت كوثره
وبصنعها سكك الحديد مد يدها
…
أضحى لوافر نفعها ما أقصره
وكأنها والموج تحت رصيفها
…
ملك ينظم بالشهامة عسكره
وكتائب العربات تلثم أرضها
…
وتجوز وهي بأمنها مستبشرة
ثم جاء الخديو إسماعيل (1863 - 1879) وكان عهده حافلاً بجلائل الأعمال، فوجد الشعراء أمامهم مجال القول ذا سعة فقالوا. فلما حصل الخديو إسماعيل على نظام الوراثة الذي يقضي بحصر العرش في أكبر أبنائه (1866) تسابق الشعراء إلى مدحه وتهنئته. وكان عباس الأول قد سعى من قبل في سبيل الحصول على هذا الحق ففشل. وفي ذلك يقول عبد الله فكري:
ومهدت مد الله في عمرك إرثه
…
لأبنائك الطهر الجحا جحة الغر
وقبلك كم مدت لما نلت شأوه
…
يد ثم ردت غير ظافر الظفرة
وما كان يسمو لأمر يبالغ
…
مداه ولا كل الجوارح كالصقر
وقال صالح مجدي:
وشيد أركان الوراثة فازدهت
…
بذلك أوطان وسرت أناسم
وقال من قصيدة أخرى:
وفي آلك الصيد الكماة تقررت
…
وراثة تخليد رفعت لها ذكراً
وما تكاد تشيد مدرسة أو يبنى معهد أو يقام مصنع حتى يبادر الشعراء في تأريخ هذا شعراً. ومثال ذلك قول السيد صالح مجدي في أحد مصانع السكر الذي أقامها إسماعيل:
وشاد بها فوريكة السكر التي
…
بها الصدر إسماعيل دو الدولة اعتنى
سمعت روضة الأنس الجمالية التي
…
غدا ثغرها بالسوق للناس محسناً
فيا سكر الأحواز ما زلت سامياً
…
إلى أن تسامى عنك سكر مصرنا
واهتم إسماعيل بتحسين مدينة القاهرة فشيد كثيراً من القصور الفخمة، وغرس الحدائق والبساتين، ومهد الشوارع والميادين. قال السيد صالح مجدي: (انتهزت فرصة عرضت لي في يوم من أيام المواسم الوقتية، للتنزه بالمدينة المحروسة المعزبة، بقصد رياضة ذهن أعيته كثرة الأشغال، وفهم أسقمه تراكم الأعمال، فرأيت عن يميني وشمالي وخلفي وأمامي، في جميع البقاع التي سعيت إليها بأقدامي، من التحسينات الفائقة المصرية والتنظيمات الرائقة المصرية، ما توهمت به من يقضتي أني في منام، وأن ما يبدو لناظري إنما هو من قبيل الأحلام. ومكثت على هذه الوتيرة، برهة من الزمن يسيرة، أتقلب من الدهشة في كل واد، وارمق تلك التحسينات بعين الفؤاد. فلما أفقت مما أنا فيه بعد إمكان النظر، وقفت عقب ذلك على جلية الخبر، نطق لساني بالثناء الجميل، على ولي النعم عزيز مصر إسماعيل، وقلت مصرحاً بوصف بعض مخترعاته العجيبة.
ثغور التهاني للعزيز بواسم
…
وأيامه بيض الليالي مواسم
وأفنان أدواح غردت
…
بمصر عليها للأنام حمائم
فأما المباني فهي في حسن نظمها
…
بروج لأفلاك السماء تزاحم
وفي الأرض للأبصار تبدو كوكب
…
من الغاز للبدر المنير تنادم
وأما تقسيم المياه فنفعها
…
عميم وفيها للعباد مراحم
ومنها بساتين القصور تفتحت
…
من الورد بعد الري فيها كمائم
وأما الميادين التي قد تجددت
…
ولاحت عليها للفخار علائم
فأشرفها السامي يذكر (محمد
…
علي) الذي هابت لقاه الضراغم
ومنها الذي في عابدين قصوره
…
لها السعد طول الدهر في مصر خادم
ومنها الذي في الأزبكية زانه
…
بهاء وحلى ما حواه مناظم
وكيف وللتفريح فيه ملاعب
…
بهن سرور للبرية دائم
وقصور ولي المهد فيه كأنه
…
بما حوله فوق المجرة قائم
وفيه سرايات وفيه حدائق
…
وفيه لإحياء الفنون معالم
وهكذا استمر الشاعر يذكر القصور والبساتين، والشوارع والطرقات والحدائق والمتنزهات، وكل ما ظهر من معالم الحضارة وآثار العمران كالسكك الحديدية والترع والقناطر والكباري قال:
وأما أخاديد الحديد فإنها
…
قد انتشرت في القطر منها مغانم
وراجت بها بعد الكساد تجارة
…
لها اليمن في ظل الأمان مسالم
وقد غرست في جانبيها بحكمة
…
لتوصيل أخبار البرايا قوائم
ثم انتقل إلى ذكر دواوين الحكومة ومصالحها ومجلس الأحكام والمجلس المخصوص والمطبعة الأميرية ومصلحة التفتيش والدائرة السنية ودائرة الأنجال ومجلس النواب، قال:
وعن مجلس النواب حدث فإنه
…
منوط بما فيه لمصر الغنائم
وذكر القانون القاضي بإلغاء السخرة فقال:
ولم يبق للتسخير في بر مصر
…
وجود وزالت قبل ذاك مغارم
ولما ارتبكت الأحوال المالية في مصر أخذ الشعراء يتناولون الحالة السياسية بالنقد والتجريح. ومن هنا بدأ الشعر السياسي في الظهور. قال صالح مجدي معرضاً بالخديو:
رمى بلادكم في قعر هاوية
…
من الديون على مرغوب جوسيار
وأنفق المال لامناً ولا كرما
…
على بغي وقواد وأشرار
والمرء يقنع في الدنيا بواحدة
…
من النسا وهو لم يقنع بمليار
ويكتفي ببناء واحد له
…
تسعون قصراً بأخشاب وأحجار
فاستيقظوا لا أقال الله عثرتكم
…
من غفلة ألبستكم ملبس العار
ولا شك في أن الشاعر قد تحامل كثيراً وبعد عن الصواب. فبعد أن أشاد بالأعمال الجليلة التي قامت في عصر إسماعيل، وبعد أن تغنى بمظاهر الحضارة والعمران التي ازدانت بها مصر في أيام ذلك العاهل العظيم، رجع يردد بعض التهم التي اخترعها نفر من الأوربيين
الذين قاوم إسماعيل نفوذهم الذي أرادوا فرضه على البلاد. ولسنا هنا بصدد مناقشة ما ورد في هذا الشعر وإظهار ما فيه من رأي فاسد فقد أغنتنا كتب التاريخ عن ذلك.
وقد ترتب على ارتباك الأحوال المالية فساد كبير في الأداة الحكومية فانتشرت الرشوة وعمت الفوضى.
وقد ظهر أثر ذلك في الشعر، فنظم محمود سامي البارودي قصيدة رائعة في ذم الحكام وحض الناس على طلب العدل في الأحكام. ومما جاء فيها قوله:
لكننا غرض للشر في زمن
…
أهل العقول به في طاعة الخمل
قامت به رجال السوء طائفة
…
أدهى على النفس من بؤس على ثكل
من كل وغد يكاد الدست يدفعه
…
بغضاً ويلفظه الديوان من ملل
ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت
…
قواعد الملك حتى ظل في خلل
ومنها يخاطب المصريين ويحضهم على الثورة في وجه الظلم والاستبداد. قال:
فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم
…
ولا تزول غواشيكم من الكسل
ومنها:
فأي عار جلبتم بالخمول على
…
ما شاده السيف من فخر على زحل
ومنها:
فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا
…
شكالة الريث فالدنيا مع العجل
وقلدوا أمركم شهماً أخا ثقة
…
يكون ردأ لكم في الحادث الجلل
ومنها:
وطالبوا بحقوق أصبحت غرضاً
…
لكلب منتزع سهماً ومختتل
ولا تخافوا نكالا فيه منشأ كم
…
فالحوت في اليم لا يخشى من البلل
وقد حذا حذو البارودي كثير من شعراء ذلك العصر الذين كانوا من غير شك ينطقون بلسان الأمة ويعبرون عما يجول في خواطر أفراد الشعب.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني
مشكلات الفلسفة:
فكرة الله
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
(ليس كمثله شيء) قرآن مجيد
كتب الكثيرون في هذا الموضوع، وتناولوه من نواحيه المتعددة بحيث لم تبق لنا بقية نحكيها ولا فضلة نذكرها. وإذا كنت أمسك بالقلم الآن لأخط هذه الكلمات فليس ذلك عن تحد لهؤلاء الذين لفكرة الله قبل الآن، بالبحث والدرس، وإنما أفعل هذا عن إيمان بأنني سوف أنظر إلى الموضوع نظرة عكسية، وأنني سأنصرف إلى جانب غير الذي اهتموا به، وبذلوا عنايتهم من أجله. وأحب أن أرفع الخوف عن القارئ من إثارة هذا الموضوع مرة أخرى، وأود أن أزيل عن نفسه كل حرج أو إشفاق من مواجهة مسألة الألوهية مواجهة صريحة فأنبئه مسرعاً بأنني سأبحث مشكلة الإنسان ذاته. وستجد نفسك قادراً بعد توضيح بسيط على أن ترفع هذا العنوان لتضع بدلاً منه عنوان آخر يتصل بالإنسان ومشاعره فوق الأرض وباحساساته في الحياة. إذ أنني أومن نماماً بأن فكرة الله، كما حملها إلينا تاريخ الفلسفة، لا تصور الله ولا تقرِّب مفهومه من أذهاننا، وإنما تعطينا فكرة صحيحة عن الإنسان نفسه من حيث مطامعه وشهواته وخواطره وآرائه ومخاوفه وملاذه.
فكرة الله عند الفلاسفة والمفكرين هي كتاب حافل بأحاسيس البشر وتاريخ ثابت لانفعالات الناس ومجلد مشحون بالعواطف والمشاعر عند ما تطورت على مر العصور. والحقيقة الإنسانية تتكشف، أكثر ما تتكشف، من مراجعة هذا السجل الحاشد ومن تأمل هذه الخطرات الوافرة. فليس يفيدك تأمل الأفعال العادية التي تأتيها الجماعات أو النظر في أمور معاشهم والمخالطة لهم في الحياة العامة بقدر ما يفيدك التفكير في هذه الصور التي يعرضها عليك المفكرون عند تدبرهم لصفات الله وتحقيقهم لمشكلة وجوده.
وقديماً تنبه إكسانوفان لهذه الحقيقة على نحو بسيط عندما قال إن الإنسان يصور نفسه في آلهته، وإن هذه الأرباب من صنع الناس وابتكارهم. ولم يكن أمام إكسانوفان الفيلسوف اليوناني عندئذ غير هذه الآلهة التي صوَّرها الشعراء السابقون على عصره كأمثلة يقدمها
لنا تدليلاً على هذه الحقيقة. أما نحن فنستطيع أن نجد كثيراً من البراهين، على ما نذهب إليه، من آراء الفلاسفة واعتقاداتهم في الله منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا. فإذا ما أخذنا إله أرسطو على سبيل المثال وجدنا أنفسنا بازاء كائن أبدي يوصف بأنه جوهر وأنه فعل محض وأنه يحرك ولا يتحرك. وهذه الصفات هي الوجه الآخر لما نلاحظه في حياتنا الأرضية من سمات الأشياء وخصائصها. فأبدية الله إنما تنشأ عن رغبتنا نحن البشر في تصور موضوع، ونتيجة لأطماعنا التي لا حد لها في معاش يستمر إلى ما لا نهاية. إذ أننا نحس في قرارة أنفسنا بأننا عاجزون أمام مظاهر الطبيعة وعوامل الفناء التي تعمل بكل قوتها على إنهاء الحياة المتمثلة في الأفراد، وعلى إبطال ما يبدو أننا نستمتع به من مناعم الوجود ولابد والأمر كذلك من تصور موضوعية أخرى غير إنسانية توصف بهذا الوصف الذي حرمتنا إياه الحياة وتتعلق بها تلك الكيفيات التي نحلم بتطبيقها على شئوننا الخاصة. فالوجود الأبدي الخالد هو الوجه الآخر لهذه الحياة التي نستشعر بأنها قد وُجدَت منذ زمن قريب ولا نعرف مبدأها على وجه ثابت، وهو الوضع المقابل لهذه المظاهر المتغيرة والأعراض الزائلة والحركة الدائمة.
ولا نستطيع أن نفسر صفات الله عند أرسطو إلا على ضوء هذه الحقيقة التي نعلنها إعلاناً صريحاً ونؤكدها توكيداً قاطعاً هنا فإلهه كما نعلم عبارة عن فكر خالص يتأمل ذاته ولا يمكن أن يكون هناك شيء آخر سوى ذاته كموضوع لتأمله ما دام شرف التفكير متوقفاً على شرف المادة، وما دام من الصعب أن نُقر برفعة العمليات العقلية من غير الوثوق برفعة الأشياء التي تكون محل اهتمامه. بل إن لذته القصوى إنما تكمن في هذه الحالة التي يستطيع بها أن يدور حول نفسه وأن يكون هو ذاته لذاته موضوعاً لا يفرغ من تأمله ولايني عن التفكير فيه. وهو لهذا السبب مشغول عن الحياة، لاه عما يجري فوق الأرض، مهمل لأحداث الكون. فهذا الإله، إن يصح أنه إله، وليد اختراعٍ عبقري ولا يمكن أن يصدر عن تصور آخر غير تصور الإنسان الذي يكلف بالبحث ويولع بالنظر العقلي الخالص. لقد كانت الحياة بمتاعبها ومضايقاتها تثير جانب الخيال قبل كل شيء في عقل أرسطو وتدفعه دفعاً إلى افتراض وجود كائن يخلو من هذه الشواغل الوقتية وينصرف عن الحياة العادية إلى العمل الفكري المجرد. أو يمكن أن نقول إن الحياة الفكرية بما كان لها
من مقام في نفس الشعب اليوناني القديم استطاعت أن تدفع بأرسطو دفعاً إلى مذهبه الغريب وتصوره الشاذ. ومن ناحية ثالثة نلاحظ أنه من السهل جداً تصور إله على هذا النحو إذ تكرر وقوعنا في الأزمات وتعددت في سبيلنا العقبات دون أن ينقذنا منقذ وبغير أن يعيننا معين، مهما رجوناه والتجأنا إليه ودعوناه مخلصين. فالإنسان يتصور الإله محباً للخير عادة ويفترض أنه يعمل جاهداً في سبيل السعادة والهناء. ولا شيء غير ذلك. فإذا حصل أن أتجه الإنسان اتجاهاً سليماً، وأن سعى مسعى كريماً ثم ناله من وراء ذلك سوء وأصابه من جرَّائه نكر ارتد إلى رشده وعاود تفكيره وجعل ينظر مرة أخرى في شأن الإله العلي القدير. وهو في تلك الحالة إما أن ينكر وجود الإله، وإما أن يؤمن بأنه موجود ولكن لا تربطه صلة بالعالم الأرضي ولا يشغل باله من أمره شيء ولا يحتل في ذهنه أية مكانة. وهذا الموقف الأخير هو الذي ركن إليه أرسطو كما شاهدناه في كلامه عن صفات الإله.
ولو قمنا باستعراض هذه الفكرة فكرة الإله لدى الفلاسفة جميعاً لانتهينا إلى النتيجة التي أعلناها من قبل والتي قلنا فيها إن الإنسان قد عكس خيالاته وأسقط أحلامه وأمانيه على النحو الذي اعتقدناه حسب ميولنا الفلسفية واتجاهاتنا الدينية. والإنسان معذور بطبيعة الحال عندما يفعل ذلك ويقدم على عمله بالشكل الذي وصفناه. ويمكن أن نضع سببين معقولين لحدوث هذه الظاهرة في تاريخ الفكر.
أعتقد بأنه لا حيلة للإنسان أولاً بازاء الصفات التي ينسبها إلى الإله مادام لا يملك غير الصفات التي توجد بين يديه وتتوفر لديه. إن الصفات والكيفيات التي يدركها العقل الآدمي معروفة ومنتهية ولا يمكن الخروج عن نطاقها وابتكار سواها مما لا تعرفه الحواس ولا تتصوره العقول. إذا شرَعَت مثلاً في عدِّ ألوان الأشياء وأحجامها وهيئتها فلن تستمر طويلاً بل سريعاً ما سوف تحس بأنك قد انتهيت من الحسابات والتقدير. وإذا أردت أن تُعمِل عقلك في مسألة ما أو شئت أن تخضع لتفكيرك أمراً من الأمور فلن تزيد - إذا اهتممت بوصفه - حرفاً واحداً على هذه الكيفيات والشبات.
أما السبب الثاني في حدوث هذه الظاهرة فأحسبه ناشئاً عن طبيعتنا نحن البشر في صبغ كل شيء بميولنا، وعجزنا عن التخلص من أهوائنا وعدم قدرتنا على التفكير تفكيراً بريئاً من دوافعنا الباطنية مستقلاً عن شخصياتنا. إن الأشياء في ذواتها لا وجود لها قط في حياة
الإنسان، والمعرفة الموضوعية التي تتعلق بالأشياء الخارجية لم تعرف الحياة يوماً من الأيام، ومهما تحدث العلماء عن علم نقي خال من آثار الإنسان وأهواء البشر فلن يجدي شيء من هذا الادعاء في تخفيف أو محو ما تلقيه الذاتية من ظلال على معامل التجربة، وسوف تبقى نتائج الطبيعة خاضعة للمزاج والإرادة إلى أقصى درجة.
فهناك حدث لا شك فيه وهو أننا نعتمد على أنفسنا اعتماداً كبيراً في استقصائنا للمعلومات عن العالم الخارجي وتصورنا للأشياء التي لا تدخل في نطاق التجارب العادية بالنسبة إلى الإنسان. ومن ثم وجب أن تصطبغ كل مادة لتفكيرنا، وكل موضوع أعمالنا، بقوانا الذهنية في التخيل والإدراك وبنوازعنا النفسية في الهوى والجنوح. أو قل أنه ما من شيء من الأشياء يستطيع أن يتقرر في الذهن وأن يتحقق في دائرة معارف الإنسان من غير أن يمر بالنفس التي تعده الإعداد الكافي وتنقحه التنقيح الواجب. ولا تَغرنَّك ادعاءات الرجال الذين يشتغلون بالعلم في هذا الباب لأنأقوالهم لا تصدق ولا تستحق الاحترام إلا من جهة واحدة حينما ننظر إليها على أنها ضرب من الحلم أو التمني البريء. وكذلك الأمر في مسألة الإلة؛ فنحن حيارى وسط مظاهر الحياة وبين جدران الطبيعة التي تظلنا من كل جانب، ونبدو أمام أنفسنا كالتائهين الذين يتطلعون إلى السحب القاتمة عسى أن تبرق، وإلى الآفاق المدلهمة عسى أن تضيء. ومهما تبدت لنا دلائل الإعجاز من حولنا أو تكشفت لأعيننا حقائق الباطن المستور فإننا لا نكاد نخلص من الحيرة ولا ننتهي من الشك ولا نقف عند حدٍّ من حدود الإرجاف والتخمين. وذلك لرغبتنا في برهان من الواقع المحسوس وميلنا إلى الوقوف على كل ما يمكن أن يكون هنالك سافراً مفضوحاً. ولكن الحقيقة لا تتكشف والباطن لا يبين والقلق لا ينتهي. . . فلنفكر إذا ولنُعمِل عقولنا ولنوجد نحن المشكلة ولنضعها في الصحائف والكتب على النحو الذي نريد. وهكذا انتهينا إلى تصور الله وتخيله، وشبهناه وقربناه، فكانت آراؤنا من قبيل الأمنية، وكانت أفكارنا ضرباً من الأحلام، ولا يستطيع واحد من الناس أن يزعم أن الإله الذي قدره هو نفسه الإله المشرف على نظام الكون والمدبر لأمور الناس. ولا يملك واحد من الناس القدرة على إثبات التطابق بين الإله الذي وصفه والإله الموجود فعلياً. فالله هو الله؛ أما آلهتنا التي نصفها فهي من قبيل المحاولات التي يجوز أن تتجه اتجاهاً صحيحاً، ويجوز في الوقت نفسه ألا يكون لها أي
سند من الواقع أو أي تقريب معقول.
فالآلهة التي نتحدث عنها والتي نصف أفعالها إنما هي صدى لحياتنا العملية بما فيها من نقص واضطراب. فالله يشفي المرض لأننا نمرض، ولو لم يكن المرض من لوازم حياتنا المعيشية لما تصورنا الله قادراً على شفاء الناس من الأمراض. والله هو السبب في المكاسب والخيرات، وهوالذي يهدي إلى سبيلهم ويطعمهم ويسقيهم. وبعبارة موجزة: يأتي الله كل الأعمال الوظيفية التي لا تعدو أن تكون ضمن المطالب العادية. وكلما فكرنا في الله وصفاته لم نستطع أن نخرج به عن هذا الحيز الضيق وعن هذا النطاق المحصور، لماذا؟ لأن الأرض مسرح لها ولأن حياة الناس ملأ بهذه الأشياء التي ترضيهم أحياناً وتسوءهم أكثر الأحيان.
فالله الذي نعترف به ونقر بوجوده ونسلم بسلطانه أسير حياتنا الدنيوية ويمكن وصفه بأنه إله إنساني - إن صح التعبير - مرَّ بالعقول قبل أن تؤمن به الصدور، وامتحنه الخيال قبل أن تسلم به الروح، واستأثرت به المصلحة قبل أن ينفذ إلى عالم الضمائر. ولذلك نستطيع أن نجد فيه مشكلتنا نحن أنفسنا لا مشكلة الله، ونستطيع أن نلمس فيه ضعفنا بارزاً وأن نجد عنده آلامنا واضحة وأن نصادف على وجهه مسحة الهم البشري.
قال سارتر عندما كتب عن قصة ضياء أغسطس لفولكنيه: (تصير القصص الجيدة بُعِد قليل شبيهة تماماً بالظاهرات الطبيعية. إننا ننسى أن لها مؤلفاً وننظر إليها نظرتنا إلى الأحجار والأشجار لأنها هنالك، ولأنها موجودة.) ونستطيع القول عن الذين يتحدثون عن صفات الله إن كلامهم يصير بمضي الزمن حقيقة راسخة في نفوسنا وننظر إلى أحكامهم على أنها أمور مقطوع بها وننسى غالباً هؤلاء الذين صدرت عنهم وبدرت منهم في ظرف من الظروف. والغريب في هذه المسألة هو أننا نأخذ كلامهم مأخذ الجد ونخضع أنظارهم للبحث والنقد ونجعل منها بعد حين موضوعاً للجدل والنقاش. هذا مع أننا نستطيع من أول الأمر أن نريح أنفسنا بأن نفرق بين هؤلاء وبين الوقائع الصحيحة، وبين ما نريده نحن وبين ما هو حاصل بالفعل.
فالإنسان لا يملك إلا أن يفكر وأن يقدح ذهنه في مسائل الكون التي تشغل باله وتقلل من راحته وهدوئه. وهذا طبيعي ومقبول منه إذا لم يأت بعد ذلك ليصف لنا أشياء، لم يطلع
عليها ولم تتكشف له، وصف المشاهد الخبير. وحتى هذا العمل الوصفي معقول ومقبول، على ألا يأتي بعد ذلك إنسان فيتحدث عنها كما لو كان يتحدث عن الحقائق المقررة.
ونعود ثانية لنقول إن الله أرفع شأناً وأسمى مقاماً من أن نخضعه لأحكامنا ومن أن يتحدد بأهوائنا ويتوقف شكله على أمورنا المعيشية. وأي وصف نلصقه به وأية كيفية نلحقها بذاته لا تخرج عن كونها تخميناً لا يرتفع إلى درجة اليقين ولا يوثق به الوثوق الكامل. أما إذا أخذنا مسألة الصفات على حقيقتها ونظرنا فيها على أنها مشكلتنا نحن البشر فأغلب الظن أننا سنبلغ أمراً علة قدر كبير من الأهمية من ناحية التحليل الخاص بالعواطف الإنسانية والتسجيل الدقيق لخواطر الناس والاحساسات التي تعم بني آدم فوق الأرض. وذلك لأننا أقرب إلى أنفسنا عندما نتحدث عن الله منا إلى الله، وأشد ارتباطاً بقلوبنا وأوضاعنا في تلك الآونة منا إلى ملكوت السماء، وأكثر حباً لمصالحنا وأهوائنا من لهدى الله ورضوانه.
أيها الإنسان! ثب لرشدك وعد إلى نفسك وانفض غبار النفاق عن جبينك لتعلم أن الرب أعظم من أن يلحقه وصف، وأرفع من أن تبلغه كيفية، وأسمى من أن يلابس المقادير ومجريات الأمور على أرض دنستها بريائك، ووسدتها بلحم آبائك.
عبد الفتاح الديدي
أهل العلم والحكم
في ريف فلسطين
للأستاذ أحمد سامح الخالدي
(تتمة)
وقد بنى على هذا الدير الملك المعظم عيسى بن الملك العادل الايذي قلعة حصينة وأنفق عليها الأموال الجمة وأحكمها غاية الأحكام. فلما كان في سنة 615هـ وخرج الإفرنج من وراء البحر طالبين للبيت المقدس أمر بخرابها حتى تركها كأمس الدابر والتحق (سور) البيت المقدس بها في الخراب فهما إلى هذه الغاية خراب (القرن السابع). معجم البلدان (ج6 - 67).
وهناك طوران آخران أولهما الجبل المشرف على نابلس ولهذا يحجه السامرة. والثاني طور زيتا أو (جبل الزيتون) وهو مشرف على المسجد الأقصى، وبينهما وادي جهنم، وفيه صلى عمر بن الخطاب. وفي الأنس الجليل ج1 - 258 أن أمالخير بنت إسماعيل العدوية البصرية الصالحة المشهورة (من أعيان عصرها في القرن الثاني) وقبرها على رأس جبل طور زيتا شرقي البيت المقدس، بجوار مصعد موسى عليه السلام، وهو في زاوية ينزل إليها من درج.
ويقول في ج2 - 410 عن أبي هريرة: أقسم ربنا بالتين والزيتون، والزيتون طور زيتا. والتين مسجد دمشق. وعن صفية زوج الرسول أنها قدمت القدس فصلت به، وصعدت إلى طور زيتا فصلت وقامت على طرف الجبل وقالت (من ها هنا يتفرق الناس يوم القيامة إلى الجنة والنار) ومن هذا الجبل صعد عيسى عليه السلام، وعلى رأسه كنيسة من بناء هيلانة في وسطها قبة. ولما فتح صلاح الدين القدس سنة (583هـ) وقف أرض طور زيتا على الوالي الصالح ولي الدينأبي العباس أحمد الهكاري، سوية بينهما وعلى ذريتهما، وقبر مريم عليها السلام في كنيسة في داخل جبل طور تسمى الجسمانية وهو مكان مشهور مقصود للزيارة من المسلمين والنصارى والكنيسة من بناء هيلانة أمقسطنطين.
أما الوديان والعيون فيذكر منها وادي النمل بين بيت جبرين وعسقلان، ولا يذكر وادي
النسور وهو بظاهر القدس من جهة الغرب يسير فيهالآن القطار الصاعد من الرملة إلى القدس وقد دفن فيه القطب الكبير بدر الدين ابن محمد من أولاد سيدنا علي ابنأبيطالب عليه السلام توفي (605هـ) وأولاده (بشرفات) وكانت تعرف (بشفرات) فلما أنتقل إليها الأشراف أولادأبيالوفا غيروا اسمها.
وقد ذكر من العيون، عين البقر وهي قرب عكا، يزورها المسلمون والنصارى واليهود، وعليها مشهد ينسب إلى علي ابنأبي طالب عليه السلام (معجم البلدان 6 - 253). وعين جالوت، وهي بليدة لطيفة بين بيسان ونابلس استولى عليها الصليبيون، واستنقذها منهم صلاح الدين سنة (579هـ) معجم 6 - 254. ولم يذكر ياقوت أن التتار هزموا بها، لأن الموقعة كانت بعد وفاته. أما عين سلوان فهي في ربض بيت المقدس تحتها عين عذبة تسقي جناناً عظيمة وقفها عثمان ابن عفان على ضعفاء البلد (المجذومين).
(ولا يزال منهم نفر بها).
أما الحصون والقلاع فيذكر منها (الجيب) ويقول هي حصنان يقال لهما الجيب الفوقاني والجيب التحتاني بين بيت المقدس ونابلس وهما متقاربان (معجم البلدان 3 - 186) وتقع الجيب إلى عين السالك من رام الله إلى القدس.
ومنها حصن العنب، وهو من أرض بيت المقدس واسمه الآن قرية (العنب) أو (أبو غوش) وأبو غوش هي عائلة إقطاعية تسكن هذه القرية، وكانت في العهد العثماني تجبى من زوار بيت المقدس جعلا مقابل خفر الطريق، وفيها عين ماء ذكرها الرحالة ناصر خسروي الذي زار بيت المقدس في سنة (483هـ) وفيها أكثر من دير.
ويذكر حيفا فيقول إنها حصن على ساحل بحر الشام قرب يافا، لم يزل بأيدي المسلمين إلى أن تغلب عليه كندفري الذي ملك بيت المقدس سنة (494هـ) وبقي في أيديهم إلى أن فتحه صلاح الدين سنة (573هـ) وخربه.
وفي تأريخ دمشق ذكر لإبراهيم بن محمد بن عبد الرزاق أبو الطاهر الحافظ الحيفي من أهل قصر (حيفه) سمع بأطرابلس (طرابلس) وحدث بصور سنة (486هـ). (معجم بلدان ج3 - ص382). ثم يقول تحت أسم (قصر حيفا) موضع بين حيفا وقيسارية ينسب إليه أبو محمد عبد لله القيسراني القصري سكن حلب وكان مفتيها. تفقه بالعراق بالمدرسة
النظامية (أسسها نظام الملك سنة 59هـ) علىأبيالحسن الهراس، وأبي بكر الشباشيالخ وارتحل إلى دمشق وعمل بها حلقة المناظرة وانتقل إلى حلب فبنى له ابن العجمي بها مدرسة درس بها إلى أن مات سنة (544هـ؟). (معجم البلدان 7 - 100). ويعلق ياقوت على (قصر حيفه) بالهاء، وأنا أحسبه المذكور قبله أي حيفا فيعتبرهما مكاناً واحداً.
ومن الحصون الأخرى الخروبة وهو بسواحل بحر الشام مشرف على عكا، وقد جاء ذكره أكثر من مرة في حروب صلاح الدين للصليبين حول عكا. ومنها الداروم، قال ابن الكلي قال الشرقي نزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ويقال لتلك الناحية الداروم، فجعل الله فيهم السواد والأدمة، وأعمر بلادهم وسماءهم وجرت الشمس والنجوم من فوقهم ورفع عنهم الطاعون، والداروم قلعة بعد غزة للقاصد إلى مصر والواقف فيها يرى البحر إلا أن بينها وبين البحر مقدار فرسخ وقد خربها صلاح الدين لما ملك الساحل سنة 584هـ وينسب إليها الخمر. قال إسماعيل بن يسار:
يا ربع رامه بالعلياء من ريم
…
هل ترجعنّ إذا حييت تسليمي
ما بال حي غدت بزل المطي بهم
…
تحدي لفرقتهم سيراً بتقحيم
كأنني يوم ساروا شارب ثملت
…
فؤاده قهوة من خمر داروم
إنيّ وجدّك ما عودي بذي نَحور
…
عند الحفاظ ولا حوضي بمهدم.
وغزاها المسلمون في سنة ثلاث عشرة وملكوها فقال زياد بن حنظله:
ولقد شفي نفسي وأبرأ سقمها
…
شد الخيول على جموع الروم
يضربن سيدهم ولم يمهلهم
…
وقتلن فلهم إلى داروم.
ويقال لها الدارون أيضاً، وينسب إليها على هذا اللفظ أبو بكر الداروني روى بن عبد العزيز العطار عن شقيق البلخي روى عنه أبو بكر الدينوري بالبيت المقدس سنة (308هـ). (معجم البلدان 4 - 13)
ومن الحصون السحيلة وهو أسم قلعة حصينة قبلي بيت المقدس والطرون (اللطرون) وهو حصن بيت المقدس والرملة، فتحه صلاح الدين سنة (583هـ)، وفيه عين ماء، وهو قرب باب الواد ويعتبر من الحصون المسيطرة على طريق يافا ببيت المقدس. ومن الحصون الشهيرة عثليت (عتليث) وهو في سواحل الشام (جنوبي حيفا) ويعرف بالحصن
الأحمر، فتحه صلاح الدين سنة 583هـ (معجم البلدان 6 - 122)
ومنها أيضاً عفراء وهو حصن قرب بيت المقدس ويعتبر ياقوت (العفولة) بلده ويقول أنها فلسطين من نواحي فلسطين (معجم البلدان 6 - 405) أما الأنس الجليل فيقول أنها كانت من احسن الحصون، وفيها من العدد والأموال الشيء الكثير، وأن الإفرنج كانوا يتجمعون بها. وفتحها صلاح الدين سنة 583هـ (الأنس الجليل ج1 - 288). ومن الحصون في الساحل حيفا ويافا، (فافون) ويقول عنها ياقوت أنه قرب الرملة، وقيل أنه من عمل قيسارية، ومنها أبو القاسم القوقاني أمام مسجد الجامع بقيسارية روى عنه سلامة المجدلي، ومنها شبل أبو قاسم الصوبني القاقوني سمع بدمشق وروى عنه أبو الفتيان الدهشاني. (معجم البلدان 7 - 416). وكانت قاقون على طريق القوافل الواردة من الجنوب مارة بالرملة ، فجلجولية، فقلنسوة فقاقون، فاللجون فمرج بني عامر فبيسان فدمشق، أو من اللجون جنوبا. وقد جاء ذكرها في حملة نابليون في أواخر القرن الثامن عشر.
وإلى الجنوب من قاقون (قلنسوة) وقد ذكرها ياقوت وقال عنها إنها حصن قرب الرملة وقد قتل بها عاصم بنأبي بكر بن عبد العزيز بن مروان، وعمر أبن أبي بكر وعبد الملك وأبان ومسلمة بنو عاصم وعمرو بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان ويزيد ومروان وأبان وعبد العزيز والأصع بنو عامر بن سهيل بن عبد العزيز، حملوا من مصر إلى هذا الموضع وقتلوا فيه مع غيرهم من بني أمية (معجم البلدان 7 - 152)
ومن الحصون، (كرمل)، وهو حصن على الجبل المشرف على حيفا، وكان قديماً في الإسلام يعرف بمسجد سعد الدولة. وكِرْمل قرية في آخر حدود الجليل من ناحية فلسطين (معجم البلدان ج7 - 244) والكرمل هواسم الجبل الذي بني عليه الحصن.
ومن القلاع التي اشتهرت في الحروب الصليبية قلعة (كوكب) وهي على الجبل المطل على مدينة طبرية. ويقول ياقوت أنها حصينة رصينة تشرف على الأردن افتتحها صلاح الدين فيما افتتحه من البلاد ثم خربت بعد ذلك.
وقد جاء ذكرها في الأنس الجليل (1 - 316) وقال إن السلطان صلاح الدين حاصرها سنة 584هـ وقاتل أهلها أشد حصار وهدم غالب بنائها وملكها وعرض القلعة على جماعته فلم يقبلوها فولاها تايماز النجمي على كره منه.
أما المواقع فاشهرها أجنادين وحطين، وقد ذكرهما ياقوت فقال عن الأولى (أجنادَين) وقد تكسر الدال وتفتح النون بلفظ الجمع، وأكثر أصحاب الحديث يقولون أنه بلفظ التثنية، ومن المحصلين من يقوله بلفظ الجمع، وهو موضع معروف بالشام من نواحي فلسطين. وفي كتابأبي حذيفة العبدري أن أجنادين من الرملة من كوره بيت جبرين كانت به وقعة بين المسلمين والروم المشهورة. . . وقالت العلماء بأخبار الفتوح شهد يوم أجنادين مائة ألف من الروم سرب هرقل أكثرهم وتجمع الباقي من النواحي وهرقل يومئذ بحمص فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً ثم هزموا وتفرقوا وقتل المسلمين منها خلقاً واستشهد من المسلمين عبد الله أبن الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بنعبد مناف وعكرمة أبنأبيجهل والحارث أبن هشام. وأبلى خالد أبن الوليد يومئذ بلاء مشهوراً وانتهى خبر الواقعة إلى هرقل فهرب من حمص إلى إنطاكية وكانت سنة ثلاث عشرة قبل وفاةأبيبكر بنحو شهر فقال زياد ابن حنظله:
ونحن تركنا أرطئون مطرداً
…
إلى المسجد الأقصى وفيه حسور
عشية أجنادين لما تتابعوا
…
وقامت عليهم بالعراء نسور
عطفنا له تحت العجاج بطعنة
…
لها نشج نائي الشهيق غزير
فطمنا به الروم العريضة بعده
…
عن الشام أدنى ما هناك شطير
فولت جموع الروم تتبع إثره
…
تكاد من الذعر الشديد تطير
رغودر صرعى في المكر كثيرة
…
وعاد إليه الفل وهو حسير
وقال كثير بن عبد الرحمن:
إلى خير أحياء البرية كلها
…
لذي رُحُم أو خلة متأسن
له عهد ود لم يكدر بريبة
…
وقوال معروف حديث ومزمن
وليس أمرؤ من لم ينل ذاك كامرئ
…
بدا نصحه فاستوجب الرفد محسن
فإن لم تكن بالشام دهري مقيمة
…
فإن بأجنادين كني ومسكني
منازل صدق لم تغير رسومها
…
وأخرى بميافارقين فموزن
(معجم البلدان ج1 126).
وأما (حطين) فكانت فيها الموقعة الفاصلة بين صلاح الدين والإفرنج سنة (583هـ) وهي
قرية بين طبرية وعكا، بالقرب منها قرية يقال خيارة، وذكر الحافظان أن حطين بين أرسوف وقيسارية، وهو غير الذي عند طبرية وإلا فهو غلط منهما.
ونسب الحافظان إليها أبا محمد هياج الحطيني الزاهد نزيل مكة سمع من كثيرين منهم أبا أحمد القيسراني. وسمع منه جماعة من الحفاظ منهم محمد بن طاهر المقدس وأبو القاسم هبة الله الشيرازي كما نسب إليها جعفر محمد بن أبيعلي الحطيني وغيرهم وكان زاهداً فقيهاً مدرساً يفطر كل ثلاثة أيام ويعتمر كل يوم ثلاث عُمر، ويلقي على المستقيدين عدة دروس، ولم يدخر شيئاً. وكان يزور رسول الله كل سنة حافياً، ويزور ابن عباس بالطائف، واستشهد في مكة في وقع وقعت بين أهل السنة والشيعة، فحمله أميرها محمد بنأبيهاشم فضربه ضرباً شديداً على كبر السن ثم حمل إلى منزله فعاش بعد الضرب أياماً ثم مات سنة (472هـ)(معجم البلدان 3 - 298). (وشذرات الذهب 3 - 342) وقد وصف لنا ياقوت بعض مواقع فلسطين منها النواقير، والغور، والجعارة. أما النواقير وهي معروفة الآنبالناقورة ففرجة في جبل بين عكة وصور على ساحل بحر الشام. قيل إن الإسكندر أراد السير على طريق الساحل إلى مصر ومنها إلى العراق فقيل له ن هذا الجبل يحول بينك وبين الساحل فنقر ذلك الجبل وأصلح الطريق فيه فلذلك سمي بالنواقير. (معجم البلدان 8 - 420) وقال عن الغور أنه منخفض عنأرضدمشق والبيت المقدس وفيه نهر الأردن وبلاد وقرى كثيرة وعلى طرفه طبرية وبحيرتحا ومنها مأخذ مياهها. وأشهر بلاده بيسان بعد طبرية وهو وخيم شديد الحر، غير طيب الماء، وأكثر ما يزرع فيه قصب السكر. ومن قراه أريحا، وفي طرفه الغربي (الجنوبي) البحرية المنتنة وفي طرفه الشرقي (الشمالي) بحيرة طبرية (معجم البلدان 6 - 312).
ويصف لنا ياقوت الريف الفلسطيني بين رفح وغزة فيقول إن بينهما ثمانية عشر ميلاً. وعلى ثلاثة من رفح من جنب غزة شجر جميز مصطف من جانبي الطريق عن اليمين والشمال نحو ألف شجرة متصلة أغصان بعضها ببعض مسيرة نحو ميلين، وهناك منقطع رمل الجفار ويقع المسافرون في الجلَد. وما زال المسافر بين غزة وخان يونس يرى أشجار الجميز الباسقة هذه.
أما الجفار وهي ما يعرف بالنجب الآن (أو قضاء بئر السبع بالاصطلاح الإداري) فهي بين
فلسطين ومصر أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي متصلة برمال تيه بني إسرائيل وكلها رمال سائلة بيض في غربيها منعطف نحو الشام بحر الشام وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم (البحر الحمر) وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها ولا شرب لسكانها إلا منها رأيتها مراراً. ويزعمون أنها كانت كورة جليلة في أيام الفراعنة إلى المائة الرابعة من الهجرة، فيها قرى ومزارع، أما الآنففيها نخل كثير ورطب طيب جيد وهو ملك لقوم متفرقين في قرى مصر يأتونه في أيام لقاحه فيلقحونه، وأيام إدراكه فيجتنوه، وينزلون بينه بأهليهم في بيوت من سعف النخل والحلفاء. وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل وهي (رفح والقس والزعفا والعريش والواردة وقطية) في كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكين يشتري منها كل ما يحتاج المسافر إليه. . .
قال أبو الحسن المهلبي في كتابه الذي ألفه للعزيز وكان موته سنة (386هـ) وأعيان مدن الجفار العريش ورفح والواردة، والنخل في جميع الجفار كثير وكذلك الكروم وشجر الرمان، وأهلها بادية متحضرون ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها كثير منهم، يزرعون في الرمل زرعاً ضعيفاً يؤدون فيه العشر، وكذلك يؤخذ من ثمارهم.
ويقطع في وقت السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المُرغ (الفر) يصيدون منه ما شاء الله يأكلونه طرياً ويقتنونه مملوحاً. ويقطع أيضاً إليهم من بلد الروم على البحر في وقت من السنة جارح كثير فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق، وقلما يقدرون على البازي. وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهةما لبواشقهم. . .
وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الحراس لأنه لا يقدر أحد منهم أن يعدو على أحد، لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئاً من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل، ثم قفا ذلك مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه. وذكر بعضهم أنهم يعرفون أثر وطء الشباب من الشيخ والأبيض من الأسود والمرأة من الرجل والعاتق من الثيب؛ فإن كان هذا حقاً فهو من أعجب العجائب. (معجم البلدان 3 - 113).
أحمد سامح الخالدي
من فلسفة الحياة:
(لذة) الألم!. .
قليلون جداً أولئك الذين يجدون في الألم لذة وفي الشقاء متعة. . . لأن الناس اعتادوا أن يملوا قلوبهم سروراً ونفوسهم مرحاً بما راق لهم من وسائل اللهو والعبث أو المال والبني ن!! أما أن يكون الألم (متعة) وفي الشقاء (لذة). . . فذلك مالم يعهدوا، وذلك ما لم تدركه أو يبلغه تفكيرهم. كنت أرى جمال العالم وأحس بروعة الوجود وإبداع الخالق خلال القطرات التي تذرفها عيناي. . . وكنت أجد نفسي في أمتع ساعاتها وأروع لحظاتها يوم يفعم قلبي ألماً وتملأ نفسي تعاسة، فينطلق لساني من معقله ويفك قلمي من قيوده، ويبدآن يتعاونان: قلم ولسان. . . ولسان وقلم. . فأصنع في ساعة الألم أضعاف ما أصنع في أجمل ساعات السرور!
كنتأبحث عن الألم في كل مكان. . . وهو مني جد قريب، في نفسي، في مأكلي ومشربي، في ملبسي ومسكني، في فؤادي وأحاسيسي ومشاعري. . . ولكني كنت لا أكتفي بذلك وإنما أطمع دوماً في مزيد. . . فأروح أبحث عنه في كل زاوية. وفي كل ركن وفي كل مكان!
حقاً لقد كان الألم ضالتي المنشودة. . وكانت الدموع مناي، فلم أكن أطيق عنهما صبراً حتى أصبحا زميلين لي رفيقين لأحاسيسي ومشاعري!
كنت إذا ما رأيت (مشهداً) يبعث على الألم والحسرة نقمت على (البشرية) الجشعة المتغطرسة المتمثلة في هؤلاء (السادة) الذين يمتصون الدماء ويحيلون عرق الكادحين إلى ذهب يعبثون به على (الموائد الخضر) والليالي الحمر. . . وبتناء ما بدا لهم من الحدائق والقصور. . . ثم أرثي لحال (البشرية) - البشرية التعسة المعذبة المتمثلة في هؤلاء الأبرياء الذين يفنون أنفسهم في سبيل المجتمع ويحيلون دماءهم حجارة يؤسسون بها صرح الأمة ثم لا ينالون أخيراً. . . بعض ما يستحقون!
أحب الألم يا صاحبي. . . حب الجبان للحياة. . . والأناني لنفسه. . . ولكنك لن تراني يوماً أتألم، فذلك سر خفي بيني وبين نفسي. . . وإنما ستراني دائماً وأبداً ضاحكاً مسروراً، مرحاً مبتهجاً بالحياة. . . لا تفارق الابتسامة شفتي. . . وإنما ستردد حنجرتي ضحكاتي الرنانة المعهودة!
وما أعظم الألم. . . وأمتعه!
وما أقل من يدرك قيمته قيمته الحقا التي تزكي النفس وتطهر الروح من أدران الآم والأنانية والجشع والأطماع ثم تضفي على الباحث عنه عن الألم ثوب ملاك طاهر ومسوح نبي كريم!
ليتني أتألم دائماً. . . ليرتبط قلبي بالمجموع. . . ويتصل بالوجود بأواصر الرحمة القوية ورباط الحنان المتين. . .
بذلك أكون على اتصال دائم بالإنسانية المعذبة وأبنائها الأشقياء. . . وبذلك نكون شركاء في السراء والضراء. . . حتى يحب أحدنا لأخيه ما يحب لنفسه. . .
ابن الشراة
-
نهاية شاعر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
سل الشاطئ الوسنان والطير والزهرا
…
أحقاً فقدتِ اللحن والعطر والخمرا؟
أحقاً ثوى في نشوة الحلم شاعر
…
على النيل كم غنى وكم رتل شعرا؟
أحقاً هوى من ذروة الأيك صادح
…
وكانت به الأفنان حالمة سكرى؟
سل الشاطئ الوسنان والموج ضاحك
…
تداعبه الأنسام ناعمة المسرى
وليلَ الندامى والكؤوس وكرمة
…
معرّشة الأطراف والواحة الخضرا
وعُرساً جلته الفاتنات وزوَّقت
…
مواكبه الدنيا فتاهت به كبرا
وشهباً أطلت تسكب النور فوقه
…
وتنثر من أكمامها الماس والدرا
وطيراً كأحلام العذارى تلاغطت
…
وما اتخذت إلا برفرفة وكرا
وغيداً ثقال الخطو زهواً وفتنة
…
ودنيا من الآمال تستقبل البشرى:
أحقاً تثور العاصفات فتنطفي
…
شموع ولم تبلغ طلائعها الفجرا؟
فيا لك عرساً مرّ كالطيف مسرعاً
…
وغاب عن الآفاق إلا رُؤى الذكرى
طوته أعاصير الخطوب وأصحرت
…
به وهو لمّا يمسح الطل والعطرا
سل الشاطئ الوسنان أولاً فخله
…
وأحلامه والذكريات وما مرّا
فقد يرجع الملاح نشوان باسماً
…
وقد ودع الأمواج والتيه والبحرا
مُنًى. . . يا لها نكباء جنَّ جنونها
…
فهبت على النوتي محمومة كدْرا
وأهوت على القلع المهوّم فأنطوي
…
من الأفق والمجداف قد شارف العبر
ولم تدر أن الزورق السمح مثقل
…
بآمال قلب جازت العدّ والحصرا!
عروس القوافي غام ليلك وامّحت
…
مساحب أذيال وريع الهوى ذعرا
وقد أصبح الريحان حولك ذاوياً
…
ينوح أخاه الآس والزنبق النضرا
وغاب (عليٌّ) والنشيد وشعلة
…
من الفكر في ظلماء قد سميت قبرا
وعاد الخيال العبقري قصيدة
…
من الصمت تستوحي المجاهل والقفرا
كأن لم يكن بالأمس ترجيع مطرب
…
ونغمة عود يسحر اللب والفكرا
عليٌّ. ودنيا الشعر بعدك راعها
…
من الهول أن تستنطق الشوك والصخرا
دعتك لليل الحائرين ويأسهم
…
وللأمل المكلوم والمقلة الحسرى
وللعاشق اللهفان والشوق عارم
…
وللقلب يصلي من تباريحه جمرا
وللأرغن النشوان يستشرف الربى
…
ويسكب في أفيائها اللحن والسحرا
وللشرق تدعوه لكل جديدة
…
وللغرب توليه المجنَّحة الغُرّا
شدوت على النيل الخصيب محلقاً
…
ولحت على باريس تصطحب (النسرا)
وطوَّفت في الغرب البعيد فلم تدع
…
هنالك سهلاً يستجيب ولا وعرا
ورافقت عيد (الكرنفال) مهموماً
…
مع الليل و (الجندول) قد واكب النهرا
وسامرت (لوجانو) تداعب غيدها
…
وغنيت (فينسيا) وشُطآنها الخضرا
وناجيت (كومو) والعرائس تلتقي
…
عليها تذيع الحب والوصل والهجرا
وودعتها صديان إلا تعلة
…
تسرِّي بها نفسك الألم المرا
ترانيم توحي الذكريات نشيدها
…
وتمرح كالأنسام عابقة نشرا
فقالوا: أديب هام بالغرب واجتوى
…
ربوعاً غذته الروح والدم والنجرا
وأغرته آفاق وغيد ونهزة
…
من العمر لم يبرح بها واجداً مغرى!
وما علموا أن الخيال متى سما
…
طوى بجناحيه العوالم والدهرا
عليُّ. وهذا الشعر نجوى تبثها
…
نفاثات قلب عز أن يجد الصبرا
وجدتك حيناً تبعث اللحن راضياً
…
فينساب عن ثغر تبسم وافترَّا
وآونة تزجيه حسران غاضباً
…
وتنفث من أحشائك القطع الحمرا
فهل كنت في الأولى من الدهر بالغاً
…
مسارب عيش سمحة النبع والمجرى؟
وهل كنت في الأخرى على شرّ مورد
…
فأوسعت هذا العالم النظر الشزرا؟
عذرتك إذ تشكو الحياة ضنينة
…
وتعرض عنها حين تعرض مزورا
وتنسى من التاريخ أحلام شاعر
…
وتدفن في الأوهام عيشك والعمرا
وتستقبل الأيام لا بَرِماً بها
…
فإن ضقت تلقاها بما يلهب الصدرا
فما أنت إلا الشاعر الحر قد أبى
…
من الدهر ما لا يقنع الشاعر الحرا
علي وما أنسى من العمر ليلة
…
صحبتك فيها باسماً كالندى ثغرا
وسامرت فيك الأريحي خلائفاً
…
وصافيتني الطبع المهذب والبشرا
وودعت إذ ودعتك القلب لم يجد
…
على أحد أو يعرف اللؤم والغدرا
فيا لضريح ضم منك عوالما
…
ودنيا وآمالاً وما جل أن يُطرى
فقدناك لولا الخالدات ولم تكن
…
سوى روحك الخفاق يسترجع الذكرى
إليك رياض النيل والنيل مخصب
…
يفيض على الشرق اللآلئ والتبرا
عزاَء القوافي الثاكلات وأنها
…
دموع الفرات قد شاطرت مصرا
القاهرة
إبراهيم الوائلي
عودة الملاح التائه
بدنيا الفن ما للحزن شاعا
…
وما للشعر ينفطر التياعا
وما لبحوره غاضت وكانت
…
تذوب عذوبة وتشفُّ قاعا
وما لليأس يعصف بالقوافي
…
وما للوحي يرتجف ارتياعا
كثكلى روِّعت بفراق ابن
…
عليها أوقف العمر المُضاعا
وفيّ للأمومة لا يبالي
…
أخسراناً جزتهأمانتفاعا
مآتم في مغاني الشعر ويحي
…
وأي أسى عرا الوادي وذاعا
سألت فقيل (ملاح الليالي)
…
تعجل عمره وطوى الشراعا
وعاد لداره تحنو عليه
…
وتمحو الحزن والعلل والوجاعا
إذا عزّ الوفاء فلا دواء
…
يجنبنا المكائد والنزاعا
سوى الأرض الحنون فكل عان
…
سينعم حين تأويه اضجاعا
لقد عرك الحياة بجانبيها
…
ومارسها انحداراً وارتفاعا
يصيبه الاضطهاد ولا يبالي
…
ولا يرضى الخنوع أو الخداعا
إذا اعتنق المبادئ لم يخنها
…
ليمتلك القصور أو الضياعا
توغل في النفوس فصاغ دراً
…
وأبدع في نفائسه ابتداعا
وليس الشعر أوزاناً ولكن
…
سمواً في المعاني واختراعا
تسرب في شعاب الوهم عمراً
…
وكم من حالم في الوهم ضاعا
وويح المرء من عبث الأماني
…
إذا تبع المعاني واليراعا
آنسة
ق. ط. ع
مرسى الملاح
زورق حالم أغر
…
نوره يخطف البصر
بدر العمر في سفر
…
تائهاً ما له من مقر
في عباب بغير حد
أسكر البحر والعراء
…
بالأغاني وبالحداء
واحتوى الظل في المساء
…
والشعاعات في السماء
بجناحين من خيال
ساحر مشرق الصور
…
إن تغنى وإن شعر
يترك الماء حيث مر
…
جنة غضة الزهر
لم يطوف بها أحد
ساهم كله رجاء
…
يتبع الموج حيث شاء
لا لغوب ولا عناء
…
إن تبدت على الفضاء
بارقات من الجمال
ما شجى ربة البحَر
…
في الزمان الذي غبر
مثله حينما عبر
…
مائجاً هائج الذكر
يقذف الأفق بالزبد
طاف بالقطب ثم جاء
…
في زماع بلا انتهاء
وقدة الفيظ والشتاء
…
حول مجدافه دعاء
يجنح النجم حيث مال
كان لا يرهب الخطر
…
أو يبالي بما بدر
عندما تسبح الفكر
…
عندما يرقص الوتر
كل أيامه بدد
أذعن اليوم للعناء
…
واهتدى ركبة وفاء
عجباً أنه مراء
…
قاهر البحر والفناء
يسلم الأمر للكلال
آه من صولة القدر
…
آه من حسرة البشر
النبي الذي ظهر
…
فجر آياته الكبر
لم يمتع بما وجد
آه من خيبة الرجاء
…
كل آمالنا هباء
مزهر خالد الغناء
…
دون أحلامه الوضاء
ترتمي قبضة الزوال
أين يا ربة البحَر
…
أين ملاحك الأغر
أين من سحره بهر
…
أين أمسى وأين قر
بات في شاطئ الأبد
محمد محمد علي السوداني
-
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ضريبة الكفاية:
تحدث رئيس الوزراء إلى مندوب الأهرام في مسألة شغل المنصب الكبرى الخالية فكان مما أفضى به قوله: إن ملء منصب مدير الجامعة الذي خلا بتعيين الدكتور شوقي بك وزيراً للصحة يقلق بالي. . . إن الكفاياتفي البلاد تبدو قليلة بل نادرة. . . وربما كانت الأنظمة القائمة في الدولة لها نصيب من المسئولية عن هذا الحال، فالمرتبات المقررة للمناصب الرئيسية المماثلة لمنصب مدير الجامعة لا تغري الكفايات بقبول شغلها ولا بالبقاء إلى النهاية فيها.
أثار انتباهي في حديث رفعة الرئيس صراحته في تقصير الدولة نحو ذوي الكفايات من حيث المكافأة المادية التي يستحقونها، وذكرت بذلك أعضاء مجمع محمد فؤاد الأول للغة العربية.
يظن كثير من الناس أن هؤلاء الأعضاء يتناولون مرتبات كبيرة تناسب فخامة هذه العضوية ومكانتهم في عالم الأدب والثقافة ولا شك أنهم يدهشون إذا علموا أن عضو المجمع يأخذ مكافأة شهرية قدرها تسعة جنيهات وقروش. . . يضاف إليها جنيهات يشترط ألا تزود على خمسة إذا عمل العضو في اللجان المختلفة فوق جلسة المجمع العادية، واللجان ومكافآتها تكون في أثناء الدورة فقط. . . ويعامل نفس المعاملة أستاذ الجيل معالي رئيس المجمع!
ومعاملة أعضاء مجمع محمد فؤاد الأول على ذلك النحو لا نظير لها فيما تنطوي عليه من غبن. ولسنا بحاجة إلى ذكر مرتبات أعضاء البرلمان فهي معروفة، ولندع البرلمان وننظر إلى هيئة علمية كجماعة كبار العلماء، فإن أعضاءها يتناول كل منهم ستين جنيهاً في الشهر والدولة لا تقصر في إثابة كبار موظفيها على جلسات اللجان المختلفة فهل ذنب أعضاء المجمع أنهم ذوو حياء. .؟ وهل تنظر الدولة حتى يؤلفوا من بينهم (رابطة) تقدم مطالبهم وتدافع عن حقوقهم؟ إنه يطلب من المجمع أن ينجز كثيراً مما بين يديه من المهام، ولكن لا يبذل للأعضاء الجزاء المادي الذي يوازي هذه المهام فكيف ينتجون بالمجان؟
إن أعضاء مجمع محمد فؤاد الأول اختيروا من ذوي الكفايات في الآداب والعلوم والفنون، ولكي تجنى البلاد ثمرات الكفاية يجب أن تؤدي الدولة ضريبتها.
المرشحون المستقلون ومناهج التعليم:
نشرت جريدة الأهرام أن المرشحين لانتخاب مجلس النواب المستقلين اجتمعوا برياسة الأستاذ عبد الحميد عبد الحق باشا، ورأوا أن يضعوا لهم برنامجاً كبرامج الأحزاب. وعرض عليهم عبد الحميد باشا البرنامج الذي أعده ليكون عهداً على كل مرشح مستقل إذا ما نجح في الانتخاب، فوافق الجميع عليه، والذي يهمنا من هذا البرنامج هو المادة الثانية منه، ونصها:(جعل التعليم في جميع درجاته بالمجان مع تعديل البرامج تعديلاً يكفي لتخريج شبان مسلحين بالمعرفة الضرورية لاقتحام الحياة الحرة) هذا كلام طيب، فقد أصبحت مجانية التعليم من أماني البلاد في الإصلاح الداخلي، ولا ينبغي أن يشتري الكراث والبصل، كما قال الدكتور طه حسين. وحسنأيضاً أن تعدل البرامج التعديل المنشود، ولكن للمادة السابقة من برامج المرشحين المستقلين بقية هي:(وأن يضع هذا البرنامج رجال لأعمال لا موظفو وزارة المعارف)
ومعنى ذلك أن تلغى وزارة المعارف مراقباتها الفنية وتسرح رجالها، لتفسح المجال لرجال الأعمال من مديري المصانع ورؤساء (الورش) وغيرهم، كي يضعوا خطة التعليم، فتنشئ بديوانها (ورشة لتعليم اللغة العربية)،
و (معملاً لاستخراج المواد الاجتماعية) و (شركة تدير العلوم الطبيعية) وهكذا.
ولم لا وقد أخفق موظفو المعارف في وضع البرامج الكفيلة بتخريج شبان مسلحين بالمعرفة. الخ؟
ولماذا ننتظر حتى يفرغوا من تجاربهم وحتى تتطور إلى أحسن منها؟ وعلى ذلك يجب إجلاؤهم عن شؤون التعليم دون مفاوضة.
ولست أدري لم سكت برنامج المرشحين المستقلين عن الناحية الصحية مثلاً. أليست الصحة العامة على غير ما يرام؟ وكلنا يعلم حال المستشفيات وعدم العناية بالمرضى فيها، فلم إذن لا يتولى رجال الأعمال هذه الشئون بدلاً من الأطباء؟!
لا شك في أنهم يقصدون تغليب الناحية العلمية في التعليم والاستئناس بآراء من مارسوا
الأعمال الاقتصادية، ولكن ليس معنى هذا أن التعليم كله اقتصاديات وصناعات، وأن يتولى الأمر غير ذويه. ثم أريد أناأيضاً أن أتدخل فيما لست من أهله، فأسأل وما أنا من المشتغلين بالسياسة كيف يكون المستقلون مستقلين وهم يتجمعون هيئة لها لجنة تنفيذية وبرنامج؟ أليس هذا شأن الأحزاب؟ وعلى ذلك نرى حزباً جديداً هو (حزب المستقلين!)
ليلة من ألف ليلة:
يعمل الآن الأستاذ زكي طليمات في إخراج مسرحية (ليلة من ألف ليلة) لتمثلها الفرقة المصرية على مسرح الأوبرا الملكية ابتداء من أول ديسمبر الحالي. وهي مسرحية زجلية يتخللها غناء، فهي من نوع الأوبريت، كتب حوارها الأستاذ بيرم التونسي. ويرجع أصل هذه الرواية إلى رواية (قسمة) الإنجليزية التي ألفها المستر ادوارد كنبلوش ومثلت في لندن سنة 1914. وترجمت بعد ذلك إلى الفرنسية ثم ترجمها عن الفرنسية إلى العربية المرحوم خليل مطران باسم (القضاء والقدر) ومثلتها فرقة عكاشة في مسرح حديقة الأزبكية سنة 1920، وقام بالدور الأول فيها وهو دور (حسن الشحات) المرحوم محمد بهجت ثم أخرجتها الفرقة المصرية بعد ذلك باسم (حسن الشحات) وقام بالدور الأول حسين رياض. أما الرواية الزجلية فقد أجرى لها بيرم التونسي اقتباساً جديداً وكتبها بالزجل وأخرجها عزيز عيد ومثل فيها دور حسن الشحات. وأخيراً تناولها الأستاذ زكي طليمات فأضاف إليها قطعاً غنائية مندمجة في مواقفها وبه حولت إلى (أوبريت) وقد وضع ألحانها أحمد صدقي، وتغني فيها المطربة شهرزاد (في دور حسن الشحات) ويغني كذلك كارم محمود في أحد الأدوار. أما دور (حسن الشحات) فله قصة من مفاجآتها أن أعلن أن يوسف وهبي سيغني فيها. فقد عرض عليه أولاً أن يقوم بدور حسن الشحات ووافق عليه، ولكنه رأى أن الدور يحتاج جهد كبير وخاصة حفظ الزجل، وهو لا يريد أن يتعب نفسه في أدوار جديدة، فحسبه رواياته التي مثلها قديماً والتي لا تكلفه غير الاستذكار اليسير، وهو يقتصر على هذا الاجترار في النهوض بالمسرح المصري في هذا الوقت! وجعل يوسف وهبي يماطل ويتخلف عن حضور التجارب، حتى أدى ذلك إلى أزمة في الفرقة، وقدم زكي طليمات استقالته ثم عدل عنها بعد أن تم الاتفاق على أن يقوم بالدور فؤاد شفيق. وعلى ذلك صار يوسف وهبي لا علاقة له بهذه الرواية إلا أنه المدير العام للفرقة التي ستمثلها، وبهذا
الوصف وحده ينشر الإعلانات بأنه يقدم (ليلة من ألف ليلة)! وأرجو أن أتمكن من مشاهدة المسرحية والكتابة عنها في الأسبوع القادم.
فلم الأسبوع:
هو فلم (أوعى المحفظة) الذي عرض أخيراً بسينما الكورسال وهو تأليف وإخراج وتمثيل محمود إسماعيل. . واشترك معه في التمثيل شكوكو وتحية كاريوكا وحسن فائق ولولا صدقي وآخرون. وتقع حوادث الفلم في مكان واحد هو فندق (إيزيس) فبعد أن رأينا سفرت (شكوكو) يبيع دكانه بخمسمائة جنيه، إذ أغراه بذلك عبده الإوّ (محمود إسماعيل) ليشترك معه في مغامرات السرقة والاحتيال، فبعد أن رأينا ذلك سريعاً في إحدى (الحواري) انتقل العمل بالفندق حيث نزل الاثنان وقد اتخذ عبدة الإو اسم صادق بك المواردي من رجال الأعمال، وظل الثاني على اسمه (سفرت) على أن يكون تابعاً له. ويلتقيان بالفندق بفتاة تتظاهر بالغنى والحسب، ثم يتبين أنها زميلة محتالة واسمها شناكل (تحية) وتنضم إليهما في العمل، ويتفق الثلاثة على سرقة ماسة ثمينة من أمير هندي نازل بالفندق، بوساطة شناكل التي اتصلت به. ثم يسيرون في الخطة الموضوعة حتى ينكشف أمرهم، وينكشف الأمير الهندي أيضاً عن زميل لهم محتال، وما الماسة إلا شيء مزيف.
ويريد المؤلف المخرج أن يخرج بالحوادث قليلاً عن الفندق، فماذا يصنع؟ ينصب في البهو مائدة القمار ويظهر عليها فتاة أنيقة (لولا صدقي)، ويستمر المؤلف المخرج في سيره فيجعل الفتاة الأنيقة (بنت الذوات) تتعلق بسفرت (البلدي) الأمي الذي يهجم على المائدة ليلعب بنصف ريال فيسخر منه الجميع ويهم صاحب الفندق بطرده. وللمخرج المؤلف في عقد هذه المحبة حكمة، يريد كما قلت أن يخرج الحوادث من الفندق قليلاً، وهو يشعرأيضاً أن الفلم اقترب من النهاية ولم يسمع المشاهدون غناء ولم يروا رقصاً؛ ولذلك كله عقد تلك الصلة ليخرج شكوكو مع الفتاة في سيارتها حتى يصلا إلى مكان قبيلة من الأعراب حيث ترقص هناك نبوية مصطفى وتغني سعاد مكاوي، ويشاركهما شكوكو.
وقد ظهر صادق بك المواردي يحاول التقرب من الفتاة المتظاهرة بالغنى، وهي كذلك، وانتهت المحاولة إلى المحادثة والمغازلة، وطال ذلك، ثم إذا هما يظهران التعارف الفجائي، فيعرف كل منهما الآخر علة أنه زميل قديم، فعلام كان كل ذلك العناء إذن؟ ولماذا لم
يتعارفا من أول الأمر؟
وفي المنظر الأخير قبض على جميع المحتالين وسيقوا إلى السجن ماعدا سفرت مع أنه شارك في حوادث السرقة. . وللمؤلف المخرج في هذا أيضاً حكمة، وهي أن يظهر سفرت في مظهر البطل المحبوب الظافر بحب الفتاة الأنيقة بحيث يكون هذا حسن الختام! ولا شك أن القصة لا تشويق فيها ولا غاية لها، بل إن الفلم يعرض السرقة والقمار عرضاً إن لم يكن محبباً فيهما فهو غير منفر منهما. فلم إذن هي؟ المعتاد في أمثالها أن تحشى بما يسترها من نحو غناء أو رقص، ولكنا هنا لم نر إلا منظراً قصيراً جداً فيه رقصة بدوية تافهة وغناء غير مطرب، على أن هذا المنظر كان بمثابة رقعة في الفلم. ولست بحاجة للإشارة إلى فقر الفلم في المناظر فكل شيء يجري في الفندق حتى مله النظر، وانعدام الجمال حتى في الممثلات، فالفتاة التي قدمت على أنها أنيقة حسناء لا حسن فيها وفمها لا يفضل فم إسماعيل يس. . . وتحية كاريوكا لم ترقص!
والواقع أن الفلم قصد به عرض شكوكو. وشكوكو يكرر حركاته وكلماته المألوفة مثل (وحشة دي!) و (يا خرابي!) وقد أكثر من الكلمة الأخيرة أنها كانت تصلح اسماً للفلم بدل (أوعى المحفظة) إلا يكون المراد التحذير من أن ينفق شيء من المحفظة في مشاهدة الفلم. وليس هناك شيء ظريف غير حسن فائق الذي كان يمثل دور المخبر السري للفندق، وهذا الممثل يكون ظريفاً في الأدوار التي تلائم شخصيته وكان كذلك في هذا الدور، وإن كان الدور نفسه رقعة أخرى في الفلم. ومحمود إسماعيل ممثل قدير في أدوار الشر. ولكنه أحد الذين يأبون أن يقتصروا على ما يحسنون، فيعمدون إلى التأليف والإخراج ليجمعوا الفن من أطرافه!
عباس خضر
البريد الأدبي
يسطون على أدب الزيات ثم لا يخجلون!
بالأمس سطا الساطون على أدب الزيات في لبنان، واليوم يسطون على هذا الأدب مرة أخرى في العراق. ولمن اللص العراقي الفاضل لم يكن في سطوة من اللصوص الشرفاء. ولو كان منهم لتناول قلمه وراجع ضميره وكتب كلمة يرد بها على ذلك المقال الذي زف إليه مجداً أدبياً هو بريء منه، لأنه مجد أدبي زائف، ترفع عن زيفه الغطاء! أما ذلك المقال فقد نشرته جريدة (النهضة) العراقية بعددها الصادر في 16 تشرين الثاني سنة 1949 بقلم أديب حرم نعمة الإطلاع فأندفع قلمه بغير زمام. . . هذا الأديب هو السيد خالد ياسين الهاشمي الذي راح يؤكد لقراء (النهضة) أن هناك مقالاً نشر في غضون عام 1948لأديب عراقي اسمه عبد الخالق عبد الرحمن تحت عنوان (يوم الهجرة) فيلا جريدة (النداء) العراقية وأن هناك فقرات قد نقلت بنصها وفصها من هذا المقال إلى مقال آخر كتيه الأستاذ الزيات في العدد (752) من (الرسالة) تحت عنوان (من وحي الهجرة) وهو العدد الصادر في 31 أكتوبر سنة 1949. . . أما هذه الفقرات فهي (كان يوم الهجرة تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغي على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز) و. . . (حمل محمد رسالة الله وهو فقير ضعيف، وحمل أبو جهل رسالة الشيطان وهو غني مسلط فحول مكة المشركة جبلاً من السمير سد على الرسول طريق الدعوة فكان يخطو على أرض تمور بالفتون وتفور بالعذاب وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبي لهب بالأذى والهون والمعاباة والمعارضة، وكل قرشي كان يومئذ أبا جهل وأبا لهب إلا من حفظه الله. وأفتن كفار مكة مشركو الطائف في أذى الرسول فعذبوه في نفسه وفي أهله وفي صحبه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لأن ولا تردد، وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في دار الندوة فقرر القتل، وتدخل الله بروحه في (غار الثور) فقدر النجاة). بعد هذا قال حضرة المطلع الكبير السيد خالد الهاشمي: أن هذه الفقرات وردت في مقال عبد الخالق عبد الرحمن في العام الماضي، ثم وردت بنصها وفصلها في مقال الأستاذ الكبير الزيات في هذا العام. . . ثم عقب على هذا الاكتشاف الخطير بقوله:
(ولو كان حديث الأستاذ الكبير الزيات قديم عهد بالنشر لجاز لنا اتهام الأستاذ عبد الخالق عبد الرحمن بالسطو والسرقة، ولكن هل سطا الأستاذ الكبير على مقال عبد الخالق، أم أن ذلك من توارد الخواطر)؟
ونحن نقول لحضرة المطلع الكبير إن حديث الأستاذ الزيات قديم عهد بالنشر، فقد ظهر في (الرسالة) منذ أعوام. . . ولو كان حضرته من الذين يقرئون لعلم أنه قد كتب في عدد الرسالة الممتاز الصادر في 3 مارس سنة 1941 تحت عنوان (يومان من أيام الرسول)، وقد اقتبس الأستاذ الزيات هذه الفقرات من مقاله القديم ثم ألحقها بمقاله الجديد. أما المقال القديم فيستطيع من لا يملك العدد الذي ظهر فيه أن يطلع عليه في المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة) ص262 ومعنى هذا يا حضرة المطلع الكبير أن السيد عبد الخالق عبد الرحمن لص، ولكنه ليس من اللصوص الشرفاء على كل حال، فلو كان منهم لكشف عن وجه الحق حين قرأ مقالك العظيم، ولكنه سامحه الله آثر أن يرتدي أثواب مجد زائف في طويا الظلام.
إنني أرد بهذه الكلمة على حضرة المطلع الكبير لأنه خصني بالحديث في بداية مقاله، بمناسبة تعرضي لمن سطا على أدب الزيات في لبنان. . . وإذا كان لي من نصيحة أوجهها إليه فهي أن يتعلم. . . قبل أن يتهجم!!
وللأديب العراقي الفاضل السيد توفيق نعوم الذي بعث إلي بمقال حضرة المطلع الكبير طالباً إليَّ أن أعقب عليه، خالص الشكر وعاطر التحية.
أنور المعداوي
أخي الابياري:
عرفتك نافذ البصيرة لامع البصر، فلا غرابة أن تقرأ ترجمة كتاب النفس لأرسطو ثم تكتب عنه كتابة العارف، وقد امتلأت يداه من الموضوع، فحرك القلم، وجرى بالفكر على صفحات الورق. كأنك قد ملكت العنان، حتى خيل إليك أن جمهور القراء قد عرف ما عرفت، وملك ما ملكت.
وتوقعت كما توقع الناس معي أنك سوف تكتب عن الكتاب كما رثيت الشاعر، ولكنك
آثرت التبيين، فحمدت وحمد الناس لك هذا البيان.
وقد اختلفت مذاهب القوم في النقل، أيكون ذلك عن القديم الخالد أم الجديد الحي النابض، فنقلوا عن سوفر كليس كما نقلوا عن جيته، وليس بين القوم خلاف لأن القديم والجديد متعلقان بما يكون ويفسد، ويولد ويموت، ويظهر ويزول؛ أما روائع الفكر فإنها تخرج عن دائرة الزمان وتتصف بالخلود. وكتب أرسطو خالدة على الزمان، وكتابه في النفس من أخلد آثاره وأشدها تجدداً مع تجدد الأيام.
قال في النفس كلمته، وزعم ان النفس صورة الجسم، وتناقل الشراح كلامه وزادوه تفسيراً، وتعددت المذاهب من لدن أفلاطون والمشائين إلى وليم جيمس وبرجسون، فهل حل القدماء مشكلة النفس أو كشف المحدثون عن أسرارها؟
لقد خيل إليّ وأنا أقرأ كلمتك أنك مطمئن إلى رأي المعلم الأول: ولا عجب فهو صاحب المنطق ومبدع القياس ورب الجدل. ثم قلت لنفسي: كيف استطاع اللغوي أن ينفذ إلى أسرار النفس، وكيف عرف الأديب حقيقة أمرها، وقد خفيت عن مؤثر الحكمة طالب المعرفة.
الآن عرفت السر. فأنت صاحب بيان، كهذه طائفة التي ظهرت في بلاد اليونان تعلم هذا الفن للناس يؤثرون به في العقول ويخلبون الألباب. والبيان سر يخفى على الشرح والبيان. وقد قيل بحق (إن من البيان لسحراً). وقالت العرب تصف الأديب إذا نثر، والشاعر إذا نظم الدرر: أنه حلو النفس. وقالوا أيضاً. طويل النفس وقصيرة، كما قالوا: هذا الشاعر عنبري الأنفاس.
وهل الكلام من جنس الطعوم والمشمومات حتى يوصف بهذه الأوصاف ويحمل على محمل المحسوسات؟
وأنت تعلم أن الأديب من باب المعاني وعالم الروح، فكيف يقال نفَس الأريب. أم تُراهم حين عجزوا عن التعبير نزلوا إلى التشبيه، واصرفوا عن التنزيه؟
أم النفْس بالسكون من النفَس بالفتح، فانتهت الحركة إلى السكون؟. . .
ومن غرائب اللغات وأسرارها توافق معنى النفس في اليونانية والعربية. فأصلهما في اللسانين مادي ثم أصبح من المنقول.
ولكننا نعرف النفس لأننا نشم عبيره، فكيف السبيل إلى إدراك النفس، وما معنى نفَس الأديب؟
أحمد فؤاد الاهواني
إلى الأستاذ الديدي
قرأت مقالك عن الحرية وأعجبت به لما صادف في نفسي من المجاوبة والاتفاق في الرأي. وكنت قد قرأت لك قبل ذلك مقالاً آخر عن الفلسفة الوجودية. وأحسن أن يكون من المفيد لي ولقراء الرسالة الغراء أن تعرض لموضوع الحرية مرة أخرى من وجهة نظر المذهب الوجودي أولاً، وأن تكشف بوضوح عن الرابطة التي تصل بين الحرية والجهل ثانياً حتى تتأيد نظريتك بالتحليل والتعليل الكافيين. وتفضل بتحية المعجب.
(كلية البوليس الملكية)
طاهر الكراني
ليست آخر ما نظم:
نشرت جريدة (الأهرام) الغراء في عددها الصادر صبيحة
الأحد 27111949 قصيدة عصماء من درر فقيد الشعر
المغفور له (علي محمود طه) عن محمد علي الكبير مطلعها:
من هذه الروح وهذا الجبين
…
يضيء في مصر منار السنين
وقد قدمت صحيفتنا الكبيرة هذه القصيدة بهذه المقدمة: (نظم الشاعر الكبير علي محمود طه هذه القصيدة وهو على فراش مرضه، وقد أتمها قبل موته بيوم واحد (كذا) وكان قد أعدها ليساهم مع البلاد في الاحتفال بالذكرى المئوية لوفاة منشئ مصر الحديثة ساكن الجنان: محمد علي الكبير).
غير أن الذي أعرفه وكان يجب أن تعرفه الصحيفة الكبيرة على وجه التخصيص أن هذه القصيدة ليست آخر ما نظم الفقيد الكبير (بيوم واحد). ولكنها قصيدة قديمة في حساب
السنين تبلغ من الزمن عمر ديوانه الثالث (زهر وخمر) الصادر في عام 1943
(صارو)
القصص
الأغلال أقصوصة عراقية
للأستاذ شاكر خصباك
- انظري إلى ذلك الحمال يا سعاد. . . أنه يتعقبنا على دراجته شأنه كل يوم.
قالت رفيقتي إحسان هذا وهي تشير إلى الحمال الذي اعتاد أن يستقبل أفواجنا كلما غادرنا المدرسة. فقلت في عدم اكتراث دون أن أحول إليه أنظاري: ما لنا وله؟!
فنظرت إلى زاوية عينيها وانفرجت شفتاها عن ابتسامة ماكرة. فجأة اشتد ضجيج جرس دراجته وراءنا، فالتفتت إحسان خلفها في حركة سريعة، ولكنني لبثت متجهة بأنظاري إلى الأمام دون أن تطرف عيناي. ومرت لحظة خيل إلي أنها قاربت الساعة والجرس يواصل صخبه، ثم رأيت الحمال ينطلق بعجله أمامنا فتبعته عيناي في حنق وغيظ، وتناهى إلى صوت إحسان كريهاً ثقيلاً وهي تسألني متخابثة: ألم تلاحظي شيئاً على هذا الحمال يا سعاد؟
فأجبتها في صوت حاولت أن يكون هادئاً: كلا مالي وله؟! لماذا يجب أن ألاحظ أمثاله؟
فندت عنها ضحكة مثير وأجابت بلهجة خبيثة: من الغريب أن يخفى عليك غرض تلكؤه المريب.
فهتفت في خشونة: ما هذا الكلام السخيف؟! أمكلفة أنا برصد حركات كل من يمر بي في الطريق؟! هذا شأنك دائماً. . . تشغلين نفسك بالتوافه.
فالتفتت إلي في استياء وهتفت في تحد: بل إنك تتظاهرين بعدم الفهم. إن ذلك الحمال يحبك ما في ذلك، وما حضوره ساعة انصرافنا من المدرسة إلا ليراك.
وصمتت لحظة ثم واصلت القول وهي تضحك في سخرية: إلا ليراك من دون الطالبات جميعاً!
فصحت في وجهها بلهجة ثائرة: هكذا أنت دائماً. . تحسدين غيرك من الفتيات. حسناً، إنني جميلة محبوبة وكثير من الفتيان الممتازين يعجبون بي أراقك ذلك أم لم يرقك، ولن تجديك السخرية السخيفة نفعاً.
ثم ألقيت عليها تحية الانصراف في غضب وابتعدت عنها موسعة الخطى. وحين بلغت
الدار وصفقت الباب ورائي تنفست الصعداء كأنني ألقيت عبئاً عن كاهلي. وتناولت طعام العشاء بدون شهية وذهني مشتت تائه، ولما أويت إلى الفراش واستعرضت حوادث النهار غمرتني آلام عنيفة حادة. وأغمضت عيني محاولة إبعاد صورة الحمال عن مخيلتي، لكنها ظلت تتراءى لي في بشاعة، بدوي جرس دراجته كأنني في سوق الحدادين.
استيقظت في الصباح منقبضة الصدر واهنة القوى، وتبدت لي المدرسة شبحاً مفزعاً مخيفاً. ولم أستطع طوال ساعات الدروس أن أرفع أنظاري إلى إحسان شأن من ارتكب فعلة منكرة تورده موارد الخجل. وما أن أعلن الجرس انتهاء الدروس حتى اجتاحني شعور بالضعة والهوان. وتمنيت من صميم قلبي لو أن (الفراش) سها عن دق الجرس ودعا الدرس الأخير يمتد بنا ساعات أخر. كنت أود أن أتجنب رؤية الحمال بأي ثمن كان، فقد كان يتمثل في ذهني فأحس بالاشمئزاز وتتملكني رغبة في الفرار والاختباء عن الأنظار.
حاولت أن أختفي عن عيون رفيقاتي حالما اجتزت باب المدرسة فأسرعت الخطو وأنا ألتفت حولي في خجل وحدة وعذاب. وكان الحمال يتعقبني بدراجته تارة يدنو مني وأخرى يبتعد عني. ولمحت عامر يمشي في موكب من زملائه الطلاب بطلعته البهية ولباسه الأنيق، فهممت أن أجري إليه وأحتمي به، ولكن سرعان ما تذكرت أنني لست سوى معجبة خجولة لا يعرف عنها أي شيء. فعضضت على شفتي في خيبة يمازجها الغيظ، وتابعت سيري في عجلة وارتباك وأنا أغمغم في حسرة: يا للحظ العاثر!
ذاعت قصة غرام الحمال بي وتلقفتها ألسنة زميلاتي بالتهليل والترحيب، فلا بد لألسنتهن أن تثرثر في موضوع ما. ولا يداخلني شك أن إحسان قامت بالنصيب الأوفر في نشر القصة، لا سيما وأن علاقتنا انفصمت عراها إثر ذلك اليوم. ولم يكن بوسعي أن أحتمل البسمات الغامضة التي أخذت ألمحها على شفاء زميلاتي، أو أن أطيق النظرات الساخرة التي بدأت أقرأها في عيونهن، وكم تمنيت لو تنشق بي الأرض وتبتلعني حين يعلن الجرس أوان الانصراف وتنطلق أفواجنا إلى الشارع، فتتأهب زميلاتي للتمتع بمنظر الحمال العاشق. كنت أحس أنني أوشك أن أذوب خجلاً وذله ومهانة. وكنت أضرع إلى الله أن يقع له حادث. . . حادث يعوقه عن الحضور. لكنه ظل يواظب على الحضور في الموعد المعين كل يوم كأنه المتدين يؤدي الصلاة في ميقاتها! ولم يكن باستطاعتي أن أتخذ
أي إجراء ضده لأنه لم يتحرش بي أبداً. ولكن أعصابي بلغت من التوتر ذات يوم حداً عنيفاً، فلم أشعر إلا وأنا أنفجر صائحة في وجهه حين اقترب مني بدراجته:(ألا تكف عن ملاحقتي وتنقذني من شكلك القذر ودرّاجتك الكريهة؟!) فاصفر لونه واحمر، وانسل بعجله في هدوء دون أن يتفوه بلفظ واحد! وكانت عيناه تلمعان ببريق كئيب وشفتاه ترتجفان في انفعال شديد!. . .
وأقبل اليوم التالي وإذا بالمشهد يفقد إحدى عناصره ولأول مرة، وهو دراجة الحمال! وشعرت بسرور وارتياح مشوبين بقلق خفي. وخيل إلي أنني تخلصت من مرآه نهائياً، ولكن سرعان ما تبدد ظني، إذ لمحته منزوياً وراء إحدى أعمدة الشارع فأحسست بقليل من الكدر. وكان على غير عهده، يرتدي جلباباً نظيفاً وسترة جديدة، وينتعل حذاء لماعاً، ويضع فوق رأسه طاقية مزركشة وكان وجهه نظيفاً كمن اغتسل منذ برهة وجيزة وما كاد نظره ينالني حتى انطلق يحدق في كالمأخوذ. ولم أستشعر لنظراته وقعاً شيئاً كالذي كنت أحسه من قبل، بل خالجني شعور من يقع بصره على مشهد يبعث على الشفقة والرثاء. ولكن هذا الشعور لم يدم طويلاً، فقد عاودني في الأيام التالية الإحساس بالغيظ والحنق كلما مررت به في ركنه المعهود، ولمحته منزوياً في ترقب وشوق. وكنت أصمم كل يوم على الامتناع عن ملاحظته حين مروري بموضع انتظاره، ولكن عيني كانت تنجذب إلى تلك الزاوية بالرغم مني. واسفزني هذا الحال أشد الاستفزاز فعقدت العزم على ارتداء النقاب. ومع أن فضول زميلاتي في مراقبته كان قد فتر غاية الفتور حتى لم يعدن يأبهن لأمره، لكن رغبة شديدة ألحت بإخفاء وجهي! ولا أدري كيف فشلت في قهر تلك الرغبة مع أنني كنت على رأس الطالبات الثائرات على الحجاب، بل الداعيات إلى نبذ العباءة لا البرقع فقط. وقلت لنفسي في شيء من العناد والتشفي وأنا أبارح المدرسة والبرقع يحجب وجهي لأول مرة:(لن يستطيع أن يراني بعد الآن). وصح ما توقعته، فقد مررت به وهو منزو بركنه المعهود فلم يعرني التفاتاً، ولبث يبحث عني بين الطالبات بعينين مشوقتين.
ويبدو أنني أثرت قلقه يتصرفي الجديد. إذ برز في اليوم التالي من ركنه المعهود وظهر على الرصيف وهو مسند الظهر إلى العمود الضخم. وكان يفحص أسراب الطالبات بوجه متقلص العضلات وعينين مضطربتي النظرات. وأحسست بالسرور والارتياح حين
مررت به ورأيته جاداً في البحث عني بين فئات التلميذات دون أن يعثر لي على أثر.
مررت أيام ثلاثة على ارتدائي النقاب والحمال ملازم لموضعه على الرصيف يتفحص وجوه الطالبات في قلق ولهفة وكنت قد اعتدت على النقاب بعض الشيء خلال تلك الأيام بعد أن كابدت في اليوم الأول من تطفله على وجهي أشد الضيق وأحسست أن أنفاسي تكاد تختنق. وفي ظهيرة اليوم الرابع حدث ما لم أكن أتوقعه، فما كدنا نتدفق من باب المدرسة كالسيل حتى فوجئت به فوق عجلته وقد عاد إلى زيه القديم؛ فبدى قذر الملابس عاري الرأس حافي القدمين! ومضى يخترق أفواجنا في تئن وهو يتمعن في وجوه الطالبات في اهتمام. وكان يصل إلى الرأس الشارع فيقفل راجعاً إلى باب المدرسة، ثم يعاود السير إلى رأس الشارع ثم يعود من حيث بدأ، إلى أن احتجب عن بصري. وغمرتني فوره من العواطف المتضاربة، وأنا أرقبه يروح ويجيء فوق عجلته والمرارة تفيض من قسماته. وأحسست بلذة يشوبها كدر وارتياح يعكره قلق مبهم.
ورأيته ساعة العصر وهو يتجول بين جموعنا في خيبة وقنوط والكآبة تغلف ملامحه بغشاء كالح. وكنت متجهة إلى الدار وأنا خالية الذهن من أية فكرة معينة. لكنني أحسست بغتة برغبة قوية في اقتفاء أثره. ولم أتردد في تحقيق تلك الرغبة طويلاً، إذ شرعت أتلكأ في السير حتى أصبحت في أعقاب الطالبات. وتسنى لي بذلك أن أرصد حركاته في حذر واحتراس. فما أن أيقن من خلو المدرسة من التلميذات حتى عاد أدراجه يسوق عجلته في يأس وخذلان. وبلغ دكان لكراء العجلات مترجل من عجلته وسلمها لصاحب الدكان بعد أن نقده مبلغ من المال. وسلك الشارع المؤدي إلى (ميدان الشرطة) فتبعته عن قرب والخوف والوجل يشداني إلى الوراء في حين تدفعني رغبة عارضة إلى الأمام. انتهى به المسير إلى الفسحة الممتدة أمام سوق البقالين فعرج على ناصية الشارع المجاورة لمركز الشرطة وجلس إلى نفر من الحمالين الذين اعتادوا أن يتخذوا تلك الناحية مركزاً. وتوقفت بالقرب من دكان بقال بجانب الناصية متظاهرة بالرغبة في الشراء بينما انطلقت عيناي تدوران في المكان. وناوله أحد الجالسين عدة العمل وسأله:(ألم ترها!؟) فهز رأسه في خيبة ومرارة دون أن ينطق حرفاً. فأندفع آخر ذو أنف معقوف كمنقار البومة وبنيان متين كالفيل يقهقه في سخرية لاذعة، فسأله في خشونة وهو مقطب الجبين: علام تضحك؟!
فأجابه ذو الأنف المعقوف في استخفاف: على جنونك يا حسن. ألا يدعو حالك إلى الضحك؟! أية ساعة نلقاك نجدك عابس الوجه مكتئب القسمات برم الحياة، لماذا؟! لأنك تحب تلك الفتاة. .!
فسأله بصوت أجش: وماذا في ذلك؟! أليس من حقي أن أحب؟! ألم يخلقني الله كما خلق أولئك الشبان المتأنقين الذين يحل لهم الحب؟! كلما هنالك من فرق بيننا أن الله رماني في أحضان أب معدوم فاضطررت أن أشتغل حمالاً لأكسب لقمة العيش، بينما خص أولئك الشبان بآباء أثرياء يرسلونهم إلى المدارس ويكسونهم بالحلل الغالية. . وإن لله حكمة في خلقه!
فهتف ذو الأنف المعقوف بلهجة ساخرة: كفى تفلسفاً وكفراً فنحن نعترف أن من حقك أن تحب، بل وتحب تلميذة جميلة من بنات الأثرياء! ولكن، أفتظن يا قيس أن ليلاك ستتنازل يوماً وتجود عليك بنظرة أو ابتسامة؟!
فقاطعه في انفعال: اسمع يا جاسم. لا تتدخل في شئوني. أنا أدرى منك بما أفعله.
فأستطرد ذو الأنف المعقوف بقول في تهكم: طبعاً أنت أدرى بشئونك. . . لذلك أحببت تلك الفتاة!. . . حمال يحب فتاة مثقفة غنية. . .!
وسكت برهة ثم صاح في هزء كمن تذكر أمراً: اسمع يا قيس. إنني مستعد لمراهنتك على أن ليلاك قد اختارت لها صديقاً من طلاب المدارس كما هو شأن معظم التلميذات.
وكنت أترقب النقاش بنفسي متوثبة وقلب سريع الخفقان، فتملكني الغيظ حين نطق ذو الأنف المعقوف بعبارته الأخيرة، ولكن سرعان ما اهتزت جوانب نفسي بسرور عظيم عندما شاهدت حسن يقفز إليه في جنون ويمسك بخناقه وهو يصرخ هائجاً: لا تدنس اسم هذه الفتاة بلسانك القذر. . . لا تدنسه. . . لا تدنسه. . .
فسدد إليه ذو الأنف المعقوف لكمة ألقته على الأرض، واشتبك الاثنان في معركة حامية في حين بدأ الناس يجتمعون حولهما يحاولون فض المعركة، فانسللت في طريقي ونفسي نهب لعواطف الخوف والألم والإشفاق.
أقبل الليل. .
وجلست إلى كتبي لمذاكرة دروسي. محال أن أفهم شيئاً وذهني يعج بهذه الصور. دراجته
الحزينة تخترق صفوفنا في ملل. . عيناه المتفجرتان أسى تتصفحان وجوه الطالبات في لهفة وإعياء. . ذو الأنف المعقوف وضحكاته الساخرة الكريهة. . المعركة العنيفة التي اشتبك فيها الاثنان! ويئست من استيعاب صفحة مما أقرأه فأطبقت الكتاب في ضيق وقمت إلى سريري.
اضطرب نومي بأحلام تارة أراه في صور كريهة تثير في قلبي الحنق والاشمئزاز، ويهم بالقبض على ذراعي فأنفلت من يديه مذعورة، وأركض أمامه خائفة وجلة وهو يعدو ورائي وزميلاتي يقفن على طول الطريق وهن يرمقنني هازئات. وطوراً يتمثل لي شاباً أنيقاً يرتدي السترة والبنطلون، ويغادر مدرسة البنين الثانوية المجاورة لمدرستنا في موكب من رفاقه المتأنقين، وهو يسير بينهم رافع الرأس شامخ الأنف، وأمر بالقرب منه أنا وزميلتي إحسان، فيلتفت إلي في اهتمام ويستقبلني بنظرات تفيض بالهيام. فتثير تلك النظرات في قلبي أعذب المشاعر وأحلى الأحاسيس. وحيناً أراني واقفة في أرض خضراء واسعة أتطلع إلى الأفق البعيد، وفجأة يبرز إلي وهو يمتطي صهوة جواد جميل، فينتشلني من الأرض ويردفني وراءه، ثم ينطلق بنا الجواد خبباً ونفسي تهتز نشوة وطرباً.
واستيقظت في الصباح متأخرة عن ميقات يقظتي اليومي. الصداع يلهب رأسي والضيق يكاد يكتم أنفاسي. وتناولت فطوري في غير شهية، وقصدت المدرسة وأنا منقبضة النفس حزينة المشاعر. تلقيت الدروس ضجرة متبرمة، ولما دق جرس الدرس الأخير زايلني بعض ما أحسه من ضيق وانقباض، وبادرت إلى الخروج وأنا أتوقع أن أرى حسن فوق دراجته يخترق الصفوف، ولم يكن ليزعجني التوقع تلك اللحظة، بل أحسست نحوه بشيء من الرضا والاطمئنان. ولشد ما ذهلت حين قطعت معظم الشارع دون أن يبدو له أثر. واستولى علي استغراب شديد يمازجه شعور بالاستياء والقلق، وظللت سائرة في خطي مضطربة وأنا أتلفت حولي طول الطريق، متوهمة في كل صوت عجلة تدرج ورائي. واكتسبت أذناي في تلك الدقائق قوة مدهشة، فكنت أنتبه إلى أدق صوت، بل لعلني كنت أتخيل سماع بعض أصوات وهمية. ومع ذلك فقد بلغت الدار دون أن يلوح لدراجته ظل. . .!
انتظرت فترة العصر في لهفة لا تطاق. وكنت خلال ساعات الدرس أحدق في ساعة
معصمي بين لحظة وأخرى متأففة متململة كأنني أستحث عقاربها على الإسراع. وما أن طرق سمعي رنين الجرس حتى قفزت نحو باب الصف في رعونة أثارت استغراب معلمة التاريخ التي تعهد في الرزانة والتعقل، لكنني لم أعبأ بدهشتها، وهرعت إلى الشارع ما اجتاحني موجة عارمة من المشاعر زاخرة بالمرارة والامتعاض والخذلان حينما ألفيت الشارع خالياً من دراجته، وصاحبتني تلك المشاعر الخانقة طيلة اليوم.
مضى أسبوع دون أن يبدو لحسن أثر: وكنت أثناء أيام الأسبوع أتوقع رؤيته في شغف كلما غادرت المدرسة في فرصة الصباح والمساء، وما أن يخيب ظني حتى يمتلأ كياني بأحاسيس يمتزج فيها الضيق بالأسى والثورة بالحنق. وتصارعت الأفكار والهواجس في رأسي كل منها يعزو غيابه إلى سبب. وكنت أجزم أحياناً بأنه في السجن يتحمل عقوبة المعركة. ثم أعود حيناً آخر فأعتقد أنه في المستشفى يداوي الجراح التي ألحقتها به المعركة. وحيناً ثالثاً أنقض ذينك الخاطرين ويعجزني ارتباك الخيال عن افتراض سبب معين!
وفي الليالي الثلاث الأخيرة من الأسبوع لفت نظري ظاهرة جديدة تحت نافذتي. فمن عادتي أن أفتح نافذة غرفتي المطلة على شارع عرضي وأمدِّ رأسي في الفضاء بضع دقائق لأملأ رئتيّ من هواء الليل العذب قبل أن أتهيأ للرقاد وبعد أن أفرغ من استذكار دروسي. فكان نظري يقع على شبح شخص يتحرك في تسكع. وبما أن مصباح الشارع الكهربائي بعيد عن دارنا فإن الظلام يغمر هذه البقعة فلا يسعني أن أميز شكل من يدخل في نطاقها. وخمنت للمرة الأولى والثانية والثالثة أن هذا الشخص عابر سبيل لكنني ما عتمت أن أيقنت أن تسكعه تحت نافذتي عن قصد وتعمد. وما أن رسخ في ذهني هذا الاعتقاد حتى أصبت بنوع من الهوس، فكنت أطل على الطريق في الليالي الأخيرة بين ساعة وأخرى فألحظه يتحرك تحت النافذة في نفس الموضع. وكان يتوارى عن أنظاري كلما أبرزت رأسي. وعجبت لحاله. . . من يكون؟! وماذا يعني سهره تحت النافذة؟! ولماذا يحاول الاختفاء عن عيني؟!
ولطالما ارتددت عن النافذة وتحولت إلى المرآة أتملىَّ فيها مفاتني. . . لا شك أنني رائعة الجمال. . . عينان سوداوان واسعتان. أنف صغير جميل. شعر أسود وحف ينسدل على
كتفي كالحرير. قامة شامخة مغرية بخصرها الدقيق وصدرها الناهد. ثم هذه النقرة اللطيفة التي تبدو في وجنتي كلما افترت شفتاي عن ابتسامة صغيرة وصحيح أنني سمراء، لكن لوني خمري كما يقول الشعراء.
وكانت تلك الأفكار تبعث في قلبي نشوة هادئة، لكنها لم تكن لتصرفني عن أمر هذا العاشق الجديد. فكنت أنفق الساعات وأنا أنقد تصرفاته. وكنت أحدس أحياناً كثيرة أنه حسن نفسه. لكن ميلي إلى الاعتقاد أنه إما يكون طريح المستشفى أو يكون السجن كان يضعف هذا الحدس.
مرت أيام ستة على هذا العاشق الجديد وهو مقيم على عهده، يروح ويجيء تحت نافذتي كل مساء. وبينما كنت عائدة من المدرسة عصر اليوم السابع انحرف نظري ت على سبيل المصادفة إلى عطفة مهملة بالقرب من المنزل كنت أرفع البرقع في العادة حين أتجاوزها، وإذا بي ألمح حسن قابعاً فيها. وخفق قلبي في شدة وعنف، وساد الارتباك مشاعري واضطربت حركاتي، فحولت عنه عيني سريعاً، وأوسعت خطواتي حتى كدت أهرول. ولما بلغت الدار ارتقيت السلالم وثباً واتجهت إلى مخدعي من فوري واستلقيت على الفراش وأحاسيس النشوة والفرح تجيش في صدري. وتمثل لي شبح العاشق الجديد وهو يخطو تحت النافذة في تلكؤ، فوجدتني أجزم بأنه حسن نفسه. . . بقامته الفارعة وكتفيه العريضتين وملامحه القوية الصارمة، وإن له قامةطويلة حسن العبلة وإن لم تبن قسمات وجهه.
وما أن أسدل الظلام أستاره حتى هرعت إلى النافذة فرأيت الشبح يتحرك بعيداً مختفياً عن أنظاري، فارتددت عن النافذة.
وتهافتُّ على المقعد صامتة. لكنني ما عتمت أن قفزت على قدمي وأنا أحس كأنني حبيسة وراء جدران ضخمة. وانطلقت أذرع أرض الغرفة بخطوات سريعة مضطربة وأنا أرزح تحت وطأة رغبة جارفة في الخروج إلى الشارع. وضجت بتلك الرغبة مشاعري واختنق صدري بصراخها فأدركت أنني أقاومها عبثاً. وارتديت ملابسي على عجل. وأستاذنت أمي في زيارة زميلة لغرض يتعلق بالواجب المدرسي. رددت باب الدار خلفي وقلبي يسرع في دقاته وأعصابي ثائرة ونفسي متوثبة، وانعطفت وراء المنزل وسلكت رأس الشارع الثاني،
ثم ظهرت أمام العاشق الجديد فجأة بحركة مباغتة. كان حسن نفسه بلحمه ودمه وهو منكمش تحت النافذة. ورفعت البرقع عن وجهي وأنا مفترة الثغر عن بسمة رقيقة، ولبثت بضع لحظات أحدق في وجهه بنظرات تنبض باللطف والإغراء وانتابه حالة من الذهول الشديد، فجمد في موضعه وهو متسع العينين دهشة، فاغر الفم في بلاهة وتبلد كمن لا يفهم لما يراه معنى. ثم واصلت سيري بخطوات متمهلة وأنا أتلفت ورائي بين لحظة وأخرى كأنني أدعوه إلى تعقبي. وابتعدت عنه وهو ثابت في وقفته كالتمثال، وكدت أيأس من استجابته للفتاتي ثم رأيته يتحرك فجأة في ذهول كأنه واقع تحت سلطان قوة خفية. وغاب دارنا عن أنظاري بين المنعطفات التي اجتزتها، ودخلت درباً يكاد يكون مقفراً من السابلة، وحسن لا يزال يتبعني بخطوات بطيئة مترددة، وكلما ازداد اقترابه مني اشتدت ضربات قلبي واندفع الدم في شراييني حاراً لاهباً وتضرمت في لأعماقي لذة مبهمة. ودنوت من منعطف يؤدي إلى شارع عام فتوقفت عن السير، ودرت على أعقابي بحركة بطيئة وانتصبت أمامه وجها لوجه وعلى ثغري ابتسامة رقيقة. كنت أشعر تلك اللحظة أن رأسي قد ألتهب وجسمي قد تخدر وأخذ يرتعش وطأة تيارات غريبة تمسني مس الكهرباء. أما هو فوقف صامتاً وكل جزء من أجزاء وجهه يعكس عواطف قلبه المصطخبة. ومرت لحظة صمت، ثم همهم بصوت مرتعش وشفتين مرتجفتين:(أنا عبدُك).
لا ادري ماذا حدث لي تلك اللحظة، ولكنني أذكر أنني لمحت عامر ينعطف من الشارع ويدخل الطريق، فاندفعت أصيح بحركة لا إرادية:(أنقذوني. . أنقذوني). فهرع إلي وهو يردد باهتمام: (ماذا بك يا آنسة!!. . . ماذا بك يا آنسة؟!) فأجبته بلسان متلعثم وأنا أشير إلى حسن: (إنه حاول تقبيلي). فتحول إليه مزمجراً، وراح يهدده بالويل إن لم يدعني وشأني.
ولن تمحى صورة حسن الذاهلة من ذاكرتي أبداً. فقد تحجر في موضعه، وراح ينقل أنظاره بيني وبين عامر في فزع كأنه تحت رحمة كابوس مخيف. ولم ينطق كلمة واحدة، بل ألقي علي نظرة تتدفق ألماً ومرارة وتعاسة، ثم دلف يخطو في تخاذل كأنه يرزح تحت حمل ثقيل، والتفت إلي عامر وقال بأدب:(لا أظنه سيضايقك مرة أخرى أيها الآنسة. . ليلتك سعيدة). ووقف ينظر إلي برهة كأنه ينتظر أن أقدم له شكري، لكن لساني انعقد عن
الكلام وخوى رأسي من الأفكار. فهز كتفيه وسار في طريقه. وأردت أن أستوقفه لأقول له شيئاً، لكن قوة طاغية جذبت رأسي إلى الجهة التي سلكها حسن، فاتبعه بأنظاري وأنا أحس أنني سأنفجر من شدة الغم والألم والضيق. ثم ارتد إلي طرفي مبللاً بالدمع حينما تلاشى شبحه في النور الخافت.
القاهرة
شاكر خصباك