المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 858 - بتاريخ: 12 - 12 - 1949 - مجلة الرسالة - جـ ٨٥٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 858

- بتاريخ: 12 - 12 - 1949

ص: -1

‌علي محمود طه شيء

شاعر الأداء النفسي

الأستاذ أنور المعداوي

- 2 -

وتبقى بعد ذلك المرحلة السادسة من هذه الدراسة، وسيكون الحديث فيها مقصورا على شعر القومية المصرية والمناسبة النفسية عند علي طه؛ وأقول المناسبة النفسية لأن علي طه كان من الشعراء الذين يستجيبون لدعاء النفس وحده في شعر المناسبات. . . صوت الشعور أولا يتلوه صوت الفن، وهذان هما الصوتان الصادقان اللذان لا تضيق برنينهما الأذن في هذا اللون من الشعر، لأنه رنين يطلقه قلب من القلوب لا بوق من الأبواق. . .

ثم المرحلة السابعة والأخيرة، وهي المرحلة التي سيحدد فيها مكان علي طه بين شعراء عصره. . ولن تخلو بعد هذا التحديد من عرض ونقد لبعض الأراء الفنية التي أطلقها بعض النقاد المعاصرين حين حاولوا أن يضعوا الشاعر وشعره في الميزان.

واترك هذا التبويب الفني لأطوف معك بجوانب الصورة الأولى من صور الأداء النفسي في هذا الشعر، وهي الصورة الوصفية في إطارها النفسي. . (الموسيقية العمياء) قصيدة تطالعها في الصفحة الثامنة بعد المائسة من (ليالي الملاح التائه)، ولقد مهد لها الشاعر بهذه الكلمة التي تنقلك إلى مكان الفن وزمانه:

كان الشاعر يتردد على (الفتيا) أحد مطاعم القاهرة الشهيرة بموسيقاها. شتاء عام 1935، وكانت تترأس الفرقة الموسيقية. به حسناء دلماتية، تعزف على القيثارة، وكانت على جانب من الرقة والجمال، فلا يخيل إلى من يراها إن القدر أصابها في عينيها، فرحمها نعمة الأبصار، فلما وقف الشاعر على حقيقة حالها، أوحى إليها جمالها الجريح بالقصيدة الآتية:

إذا ما طاف بالأرض

شعاع الكوكب الفضي

إذا ما أتت الريح

وجاش البرق بالوميض

إذا ما فتح الفجر

عيون النرجس الغض

ص: 1

بكيت لزهرة تبكي

بدمع غير مرفض

زواها الدهر لم تسعد

من الإشراق باللمح

على جفنين ظمآنين

للانداء والصبح

امهد النور: ما لليل قد

لفك في جنح؟

أضيء في خاطر الدنيا

ووار سناك في جرحي

أرى الأقدار ياحس

ناء مثوى جرحك الدامي

أريها موضع السه

م الذي سدده الرامي

انبلي مشرق الأصب

اح هذا الكوكب الظامي

دعيه يرشف الأن

وار من ينبوعها السامي

وخلي ادمع للفجر

تقبل مغرب الشمس

ولا تبكي على يومك=أو تأسى على ألامس

إليك الكون فاشتفي

جمال الكون باللمس

خذي الأزهار في كفيك

فالأشواك في نفسي

إذا ما اقبل الليل

وشاع الصمت في الوادي

خذي القيثار واستوحي

شجون سحابه الغادي

وهزي النجم إشفاقا

انجم غير وقاد!

لعل اللحن يستدني

شعاع الرحمة الهادي

إذا ما شقشق العص

فور في أعشاشه الفن

وشق الروض بالألح

ان من غصن إلى غصن

آتتك خواطري الصدا

حة الرفافة اللحن

تغنيك بأشعاري

وترعى عالم الحسن

إذا ما ذابت الان

داء فوق الورق النضر

وصب العطر في الأكم

ام إبريق من التبر

دعوت عرائس الاح

لام من عالمها السحري

تذيب اللحن في جفني

ك والأشجان في صدري

ص: 2

عرفت الحب يا حوا

ء أم ما زالا مجهولا؟

ألما تحملي قلبا

على الأشواق مجبولا؟

صفيه، صفيه، فرح

انا ومحزونا، ومخبولا!

وكيف أحس باللوع

ة عند النظرة الأولى!

ومن أدمك المحبوب؟

أو ما صورة الصبَّ!

لقد ألهمت والإلها

م يا حواء بالقلب!

هو القلب، هو الحب،

و

ما الدنيا لدى الحب

سوى المكشوفة الأس

رار والمهتوكة الحجب!

سلى القيثارة بي

ن يديك أي ملاحن غنى

وأي صبابة سالت

على أوتاره لحنا

حوى الآمال والآ

لام والفرحة والحزنا

حوى الآباد الاك

وان في لفظ وفي معنى

تعالى الحسن ياحس

ناء على إطراق محسور!

أيشكو الليل في كون

من الأنوار مغمور؟

وما جلاه من سواه

إلا توأم النور!

وما سماه إذ ناداه

غير الأعين الحور!

وقف عند المقطو

عة الأولى. . . في البيت الأول والثاني ذكر للشعاع، وفي البيت الثالث والرابع ذكر للعيون. الصلة هنا وثيقة بين الوجود الداخلي وبين الوجود الخارجي، بين الصورة التي في النفس والصورة التي في الحياة. والألفاظ هنا فقد استحالت أداة الربط والاتصال بين العالمين: عالم المشاهد الخفية وعالم المشاهد المرئية. . . إن الشاعر هنا أمام عيون تعيش في الظلام، ثم هي بعد ذلك قد أطبقت منها الجفون، وفي هذا المشهد يتركز المصدر الإثارة، ولابد للأداء النفسي من أن تتفق ألوان الإثارة مع مصدرها الأصيل، عيون مظلمة يجب أن نثير في الخيال الشاعر معاني الضياء: في وميض البرق أو في إشعاع القمر. وجفون مطبقة يجب أن تبعث في الشعور النابض ذكرى التفتح: وفي إكمال النرجس التي

ص: 3

تبدو من وراء الحسن (عيونا). . . فتحها الفجر!

ووقفة عند المقطوعة الثانية والثالثة. . . هنا نقلة أخرى لا تبعد بنا كثيرا عن نقطة البدء الشعورية. تختلف الأدوات بعض الاختلاف وتتغير بعض التغيير، ولكننا لا نزال نستروح الاتسام الأولى تهب علينا من نفس الأفق. . . وسترى إن الوحدة الفنية هي التي رضت على الشاعر أن ينحرف بخط الاتجاه النفسي وهذا الانحراف الذي يمهد لما بعده، تبعا لهذه التعريجة الجديدة في منعطف الطريق إلى المقطوعة الرابعة. وانك لتلمس بوادر هذا الانحراف في البيت الثالث من المقطوعة الثانية، وذلك البيت الذي يبدأه الشاعر بمناجاة العيون المطفأة في وثبة ممتازة من وثبات الأداء النفسي عندما يقول:(امهد النور). . . وماثلك البوادر إلا نفحات من العزاء، العزاء المتمثل في المشاركة الوجدانية بين الطبعتين، هناك حيث تتمزج اللوعة في النفس الإنسانية بشيء من الاعتراض المهذب على حكمة القدر. . . وأي عزاء هو؟ أنه عزاء في منطق الشاعر أو في منطق الشعور وبهذا المنطق أيضاً تواجه الإنسانية قضاء السماء! إذا كان واقع الدنيا قد ضاق بالعيون المطفأة ففي خاطر الدنيا وفي خواطر الأحياء ومتسع للضياء ولأباس من أن يتواري السنا للما في أعماق الجراح، جراح القلب الإنساني حين تدميه مخالب الأيام! ترى كم يلفح شعور هذا الهتاف تلفه الثورة المذبة في قوله:(آري الأقدار يا حسناء. . . أريها موضع السهم)؟ أن الأقدار قدرات من غير شك ولكنه الأداء النفسي الذي يتغير للفض في صيغة الأمر. . . لأمر لا يخفى على البصراء!

وفي المقطوعة الرابعة تستقر النقطة للارتكاز في الوحدة الفنية حين ينتهي خط الاتجاه النفسي بعد تلك التعريجة في منعطف الطريق. . . ونقطة الارتكاز هنا محورها الاستعانة بالمعنى الحسي التي تصب في مقالبة الحركة النفسية. وأين هو المعنى الحسي هنا؟ هو في الإيحاء المعبر عنه بالاشتفاف جمال الكون عن طريق اللمس وفي الإشعاع الذي يحمله البيت السابق حين يعرض للحاضر المبلل بدموع اليوم والماضي المجلل بسواد اللمس!. . . ولا تضن إن الشاعر يقصد المعنى المادي كما يفهمه شعراء الأداء اللفضي، وكلا. فما يشتف جمال الكون عن طريق اللمس بالأصابع وإنما يشتف عن طريق اللمس بالأوتار، وهذه هي الحركة النفسية التي تفرق في الشعر بين أداء وأداء!

ص: 4

علي طه في المقطوعة الخامسة يطرق أبواب هذا المعنى الذي أشرت أليه، يطرقها الطرقة الأولى التي تعقبها بعد ذلك طرقات وتستطيع أن تسمع هذه الطرقة في البيت الثاني من هذه المقطوعة عندما يقول:(خذي القيثارة). . . أن القيثارة هنا هو السلم الطبيعي الذي ترتقي الموسيقية العمياء ألي هذا الكون لتستطيع أن تلمس عن طريق الأوتار جماله المفقود وستسمع بقية الطرقات عندا نصل إلى المقطوعة العاشرة، هناك حيث يكون القيثار معبرها إلى شتى العوالم والأكوان:

حوى الآمال والآلام والفرحة والحزنا

حوى الآباد والأكوان في لفظة وفي معنى!

شاعر الأداء اللفظي عندما يقف بك عند المعاني الجامدة المعاني التي تختنق بين الألفاظ الغارقة في لجج المادية البغيضة، ولكن شاعر الأداء النفسي هو من ينتزع من رأسك كل تهويمة ذهنية ليرددها إلى شعورها تهويمها روحيه، وهنا تجد على طه. . . لم يقف بك عند معنا (اللمس) كما يوحي به البيت الذي ورده فيه، ولكنه انتقل بك على الفور إلى مكانه المنشود من الأداء الذي يتطلع إليه النقد ولا يتطلع إلى أداء سواه. لو وقف عند المعنى المادي كما ينبأ عنه ظاهر اللفظ لبدا الأداء سخيفا في رأي الفن، وبدا العزاء تافها في رأى كل ضرير تطلب إليه أن يستعيض عن الضياء المفقود بالمس المعهود!

وفي البيت الثالث من هذه المقطوعة لون من ألوان المقابلة، ولكن أي لون هو؟ اهو لون المقابلة بين لفظ ولفظ على أتساس تلك الذاتية البينية التي يلجأ إليها عشاق الطلاء من الشعراء؟ أن المقابلة في الشعر يجب أن تكون لقاء بين موجتين صوتيتين: تندفع إحداهما من سطح الحياة الأعلى وتندفع الأخرى من قرار الشعور العميق، وعند نقطه الالتقاء بين الموجتين نستطيع آذن القاري أن نتلقى صوت الشاعر ممتزجا بصوت الحياة. . . في هذا المعرض النفسي للوحات الشعر التصورية تطالعنا هذه اللوحة:

وهزي النجم إشفاقا

لنجم غير وقاد!

ولا حاجة بي أن اقف بك عند المشاهد التعبيرية في المقطوعتين التاليتين، لأنهما تتفق في النسق والتصوير مع المقطوعات السابقة. ولك أنت أن تطبق عليهما تلك المقاييس الفنية التي قدمها إليك.

ولكن الوقفة التي يجب أن تطول فهي عند المقطوعة الثامنة والتاسعة والعاشرة. . . هنا

ص: 5

مجال (الرؤية الشعرية) التي يقسمها النقد الحديث إلى قسمين: قسم يتصل بالطبيعة النفسية وقسم يتصل بالطبيعة المادية. والرؤية الشعرية بكلا قسميها وترمز إلى مقدرة الشعر في الاستشفاف الدقيق للحقائق سواء أكانت في حدود المنظور أو خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أو فيما وراء الوعي في نطاق الاستيطان النفسي أو في نطاق التناول الحسي. فالشاعر الذي يرسم خطوط الصورة الفنية في أي ميدان من هذه الميادين، ثم نلمس في تلك الخطوط شيئا من الاهتزاز يخرج بها عن قانون النسب والأبعاد، مثل هذا الشاعر تحكم عليه بضعف الرؤية الشعرية! والشاعر الذي يتناول مفتاح الشخصية الإنسانية ليعالج به فتح المنافذ المؤدية إلى غابته من كشف مغاليق النفس، ثم ندرك أنه قد عالج المنافذ الجانبية وغفل عن المنفذ الرئيسي الذي يتدفق منه الضوء إلى كل حنية وكل ركن، مثل هذا الشاعر نحكم عليه بضعف الرؤية الشعرية!

هذه الرؤية الشعرية تجدها على خير حالاتها من القوة والنفاذ في هذه المقطوعات الثلاثة التي يجب إن تطيل عندها الوقوف. . . إن الجناح هنا قد اختار افقه النفسي الذي يكون للتحليق في أثره وصداه. وما هو هذا الأفق النفسي الذي نعنيه؟ هو ذلك المنفذ الرئيسي الذي عالجه الشاعر بمفتاح الخبرة العميقة بمسارب الطبيعة الأنثوية. . . لم يقل يا حسناء، ولكنه قال يا حواء! قالها لأنه في مجال السؤال عن اثر الحب في حياة الأنثى الخالدة، وقالها لأنه في مجال الرصد لهزات القلب من جنبي الأنثى الخالدة، وهذا هو الأداء النفسي بالنسبة إلى اللفظ الشعري، أما هذا الأداء بالنسبة إلى الجو الشعري فهو في تلك الطرقة الرائعة للباب الكبير عن أي شيء تسال المرأة وقد فقدت البصر وحرمت إلى الأبد نعمة الضياء؟ عن العاطفة الخالدة في كيانها خلود الطبع. . عن الحب! وهل هناك من أمل يبقى للعمياء غير هذا الأمل؟ أنه الضوء الوحيد الذي يمكن أن يبدد ظلام الحياة. . . والسؤال هنا ليس سؤال عن الحب وكفى، كلا. ولكنه السؤال الذي يعرف طريقه:

عرفت الحب يا حواء أم مازال مجهولا؟

وافترض الشاعر إنها قد عرفته. . . وتبعا لهذا الافتراض مستندا إلى البيت الذي يليه هتف أعماقه:

صفيه، صفيه، فرحانا، ومحزونا، ومخبولا!

ص: 6

هذا التكرار في اللفظ الأمر بنبأ عن مرارة اللهفة وحرارة الانفعال، وتنبأ عنهما هذه التقطيعات الصوتية التي نكشف لك عن لهاث القلب في هذه الضربات السريعة والمتتابعة والمنعكسة صفحة الألفاظ. . . هذا ثلاثة ألوان للوصف المنشود، أو قل إنها ثلاثة نقلات نفسية مثلا مراحل الحب الثلاث في حياة امرأة عمياء: مرحلة الفرح، ومرحلة الحزن، ومرحلة الخبل العاصف بذرات الأمل. . . مرحلة الفرح يوم إن كان الضياء يجذب كل فراشة هائمة، ومرحلة الحزن بعد أن خبا الضياء وابتعدت عن المصباح كل فراشة هائمة، ومرحلة الخبل في رحاب الظلام المقيم حين لم يبق من الفراشات غير رؤى حالمة وذكريات!

وتبلغ الرؤية الشعرية منتهاها عندما يعرج الشاعر على الجانب الآخر من الصورة المتخيلة، هناك حيث يخطر في البال أنها لم تروجه الحبيب ولكنها فيه ومادامت تفكر فيه عن طريق الخيال ولاعن طريق البصر، فسلامة الرؤيا الشعرية تدفع الشاعر إلى أن يسألها عن صورته التي في الخيال، والتي ينسق طلالها وألوانها الهام القلب:

ومن آدمك المحبوب؟

أو ما صورة الصب؟

لقد ألهمت والإلهام

يا حواء بالقلب!

إنه يسال هنا عن (آدم) وانه ليتخير للفظ ويعنيه. . . لآته يسال الرجل الخالد المستقر في أعماق الأنثى الخالدة أو في أعماق (حواء)! وما الدنيا في منظار القلب وما الدنيا في منظار الحب:

سوى المكشوفة الأسرار والمهتوكة الحجب!!

أداء نفسي. . . أداء غفل عنه الشعر أغفلته موازين النقد! ومن هذه الأداء تلك الصبابة المستعرة بين جوانح وقد (سالت) ألحانا على الأوتار، وتلك الأوتار التي حوت الآباد والأكوان: في (لفظ وفي معنى)! الصورة الشعرية ليست من صنع تهاويل الخيال، ولكنها الصورة التي يرسمها واقع الشعور عند من يدركون اثر الموسيقى الرفيعة في خلق تلك العوالم غير منظورة، العوالم التي ترقى إليها الأرواح في جولة تفارق فيها الأجسام ومرة أخرى تهزك سلامة الرؤيا الشعرية!

وعندما يهتف الشاعر في المقطوعة الأخيرة: (تعالى الحسن يا حسناء) فثق أنه منطق

ص: 7

الأداء النفسي ولا منطق سواه. . . وهو هو المنطق نفسه حين ينعت هذا الحسن بأنه (توأم) النور، وبأنه إذا انتسب فإنما ينتسب إلى تلك العيون التي فقدت حورها عند الموسيقية العمياء وعند كل أنثى حرمت نعمة الضياء، وليس من شك في أن هناك رنين يرتاح إليه السمع في مثل قوله: وما جلاه من سواه وما سماه إذ ناداه. . . تلك هي (الذاتية الغنائية) التي سيكون لها في فصل من فصول هذه الدراسة ميزان مقام.

(يتبع)

أنور المتداوى

ص: 8

‌صور من الحياة:

حماقة أب

الأستاذ كامل محمود حبيب

أتذكر - يا صاحبي - يوم أن جذبك أبوك من خضم الأزهر وأنت فتى في ريع الشباب فارع القوام قوي البنية وثيق الأركان جذبك بعد أن عشت في رحابه سنوات تضطرب في متاهات العلم فلا تستقر، وتضل في مضلات المدينة فلا تهتدي، وتضع لقسوة الشيخ فلا تشمخ، وتفزع عن حلقة الدرس فلا تطمئن. لقد كان يعتز بك لأنك ابنه الأصغر فأرسلك إلى الأزهر عسى أن يراك - بعد حين - شيخا، كعمك، تتألق في الجبهة والقفطان وتزهو في العمة واللحية، فتكون قبسا من نور العلم في القرية، والنفحة في ضياء الهدى في المجلس، وموعظة طيبة في ضلال الجهل. ولكن بدا له أن يجذبك من الأزهر قبل أن تبلغ الغاية للتزوج بفتاة في مثل سنك فيها الثراء والجمال، وفي أهلها الجاه والسلطان وفي ذويها العز والمنعة فصحبته إلى القرية والخيال الحلو ويتوثق في رأسك، وان أهابك ليكاد ينشق من شدة الفرح وهو يتألق على جبينك وان خواطرك للتنزي مرحا جامحا ترتسم سماته على قسمات وجهك، وان ذهنك ليضطرب في آفاق جميلة من النشوة واللذة. وأحسست في أعماق نفسك - وأنت في طريقك إلى القرية - انك اليوم تفر من قسوة الشيخ وعنت الدرس، وتنأى عن خشونة العيش وجفوة الغربة لتعيش إلى جانب أمك تستشعر العطف والحنان، وانك ستفر - غدا - من سطوة أبيك وهو غليظ الكبد جافي الطبع جامد الكف لتصير رجلا. . .

وجاءت الزوجة تحمل إليك متعة القلب ولذة النفس، وتزف إليك سعة العيش وسعادة الحياة، وتنزع عنك ذل الحاجة لأبيك، وتلبس ثوب الرجولة الباكرة، وتحطم أغلالا من الإسار كبلك بها أبوك زمانا، فأصبحت حر اليدين واللسان، طليق الآخذ والعطاء، ولا يقيدك غل من سلطان أبيك، ولا تمسك ربقة من جفوته، فاطمأنت نفسك وهدأت نوازعك. ومرت السنون.

وانطلقت في فورة الشباب إلى الغيط نجد المتعة في العمل وتحس السعادة في الجهد، ولا تشغلك اللذة الوضيعة ولا بصرفك اللهو الرخيص، وأنت من بيت فيه الصلاح والدين وفيه

ص: 9

الترفع والكبرياء، ففاض جيبك بآمال وفهقت دارك بالنعمة وطفح قلبك بالرضا. وجذبك أسعار المال عن أن تلتفت إلى وراء، ساعة من الزمان لترى اخوتك يتقسمون تراث أبيك وهو ضئيل لا يسمن الجوع ولا يغني من العرى. وجمدت مشاعرك فيما بضطت كفك لواحد منم بقرش ولاحق قلبك على طفل من أبناءهم، فعشت عمرا من عمرك منطويا على نفسك ولا تزيح عن اهلك غمة ولا تفرج كربة ولا تمسح لوعة ، على حين انك تنعم بوفرة الثراء وتسع لكثرة المال. وهم يجدون ضيق اليد وكثرة العيال.

وابتسمت لك الحياة مرة أخرى فإذا أنت أب، فاشرق النور في قلبك لدى مطلع الصبا، وانفرجت أساريرك، فآخذت تربيه على نسق من الفساد يطم على العقل دلالا، وتنشاه على نهج من الضلال يعبث بالرأي رحمة به، وتصوغه في قالب من الغي يعطف بالأدب عطفا عليه، والى جانب زوجك تدلل الصبي وتغريه وتدفعه إلى أن يتردى في الجهل والبلج في العناية فأنطلق على سننه يغتمر في لجة من الحمق والسفاهة. وأنت - يا صاحبي تنظر فلا تردعه عن غواية ولا ترده عن نبوة.

وتراءى لك إن الصبي يخطو إلى الشباب في غير ريث، ويسير إلى الفتوة في غير مهل، فأشفقت عليه من عصا المعلم إن تقضقض عضمه، وظننت به على ظلام المدرسة أن تهد من قوته فامسكته إلى جانبك يرتشف من غفلتك ويتفيأ من حمقك، فسقط في مهاوي الجهل يعاشر البهيمة في الغيض ويهفو إلى رفاق السوء في القرية. فاخذ بأسباب اللهو الوضيع وارتدع في حماءه الرذيلة، وأنت في عمى عنه، والناس من حواليك يتهامسون بحديث ابنك الوحيد وهو ينفق عن سعة ويبذل في سخاء، ويسف في الطيش ويسف في رعونة. يتهامسون ولا يجرؤ واحد على أن ينفظ أمامك حالة خشية أن ينالك عنت الحديث أو تؤذيك قسوة الخبر، فانضمت الشفاه على عبارات السخط والكراهية وسكتت الألسن عن كلمات المقت والازدراء. وذهبت أن تصحب وحيدك - بين الفينة والفينة - إلى الحقل تبصره بالعمل وتثقفه بالفلاحة وتعلمه حاجات الغيط وتزوده بالنصيحة. علك تجد العون والمساعدة أن وهي جلدك أو انحطت قوتك، فكان يلقى السمع إلى حديثك وذهنه هناك. . . يتلمس اللذة الجارفة من لذات الشباب، ويفتش عن سلوه العارمة من أسباب الطيش، فخيل إليك أن الشباب اصبح رجلا يستطيع إن ينهض بالعمل وان يصرف الأمر، فألقيت إليه

ص: 10

بزمامك ودفعته فأندفع. . . اندفع إلى الهاوية.

واطمأنت نفسك حين جاء الشاب يقص عليك - أول مرة قصة الغيط ومافية، ينشر أمامك نواحي العمل، ويبحث معك فنون الزراعة، فتسهلت له في السؤال وتيسرت له في القول، وأحس هو منك الغفلة والضعف، فأنطلق في سبيله ويبعثر في مالك في غير رفق ولا هوادة وركنت أنت إلى الراحة وسكنت إلى العبادة ولا يحز بك أمر ولا يرهقك طلب. وسوست لك زوجك وللمرأة لسان ناعم أملس كجلد الأفعى، ولها الحديث الطري وينسرب في مسالك القلب مثلما يسري سم الثعبان، فما لبثت إن نزلت عن كل مالك ومالها لوحيدك الطائش. وغاب عنك انك بمالك بين يدي لوثة الشباب وتقذف بمال زوجك إلى هوة الضياع.

أحس الفتى أنه اصبح رب هذا البيت، فأراد أن يمكر بك فيحول بينك وبين خلجان الريبة في قلبك ونزوات الضنة في نفسك، فحباك بالمال - بادي ذي بدئ - واسبغ عليك من فيض غلاتك وخصك بالطيب من الطعام وبالغالي من اللباس، وأنت في مكانك لا ترم. فشكرت له عقله الراجح وحمدت له عطفه الوثاق، وسعدت ببره السابغ. ليتك - يا صاحبي - نظرة بعين الرجل العاقل المجرب إلى زلات ابنك الفتى وهو ينحط إلى الدرك الأسفل من الرذيلة في غير وعي أو عقل. أنه الآن يتملقك ليزدل على عينك ستارا كثيفا من الخديعة لا تستشف من وراءه ما يخبئ لك القدر من الضيق والعنت.

ومرت الأيام تصفعك بالشيخوخة الباكرة من طول ما ركنت إلى الراحة، وتقذفك بالزمان من طول ما خاصمت الحركة فذوي عودك وانطوى بشرك ورانت عليك سحابة من الكابة والحزن.

يا لقلبي، لقد اغترك الثراء عن أن تكسب العيش بالكد وصرفك الولد عم أن تقوم علا شانك بالجهد، فقضيت سنوات من عمري على كرسي وثير في ناحية من دارك الأنيقة بين رفاق الود وأخوان الصفاء، فمري الأداء في مفاصلك ويطحنك في غلطة ويعقدك في عجز. فنضرت حواليك فإذا أخوك الأكبر - وهو يكبرك بسنوات وسنوات - يسير بقدميه المسافات الطويلة بالقوة والنشاط لا يصيبه النصب ولا الإرهاق، لأنه عاش عمره يصارع أمواج الحياة ويكافح شدائد الدنيا يظفر بقوته وقوة عياله. تمنيت لو انك عشت مثله فقيرا لا

ص: 11

تجد القوة ألا بالثمن الغالي. . . بعرق الجبين.

ويل لك - يا صاحبي - لقد كفرت خواطرك بالنعمة التي سعدت بها زمانا. والتي رفعتك فوق أقرانك وسمت بك على أترابك! فماذا يخبئ لك القدر جزاء ما كفرت؟

وجاءك - بعد أيام - الخبر الأسود يقسم ظهرك ويهد ركنك ويعطف بصبابة من الأمل كنت تترجاها. جاءك الخبر الأسود يقول: أن البنك العقاري قد استولى على كل ما تملك أنت وزوجك وفاء دين ابنك الداعر الغوي. وإن ابنك قد فر من القرية خشية أن يصمه عار الفقر والذل والسؤال!

الآن، فقدت المال والابن معا، أحوج ما تكون إليهما فأصابك الندم على إن ألقيت بابنك في اللجة من الجهل تجرفه في غير هوادة ولا رفق وعلى أن ألقيت بثروتك بين يدي غر أهوج يبددها في سنوات، ثم يطير عنك. . .

والآن، ماذا يختلج في فؤادك - يا صاحبي - وأنت لقي في الناحية من الدار تتعاورك الهموم وتتناهبك الأسقام، وتنوب تحت أثقال ثلاثة من الأفاقة والشيخوخة الواحدة. . .

كامل محمود حبيب

ص: 12

‌من المفسرين في عصر الحروب الصليبية:

القرطبي

الأستاذ أحمد أحمد بدوي

محمد بن أحمد بن أبى بكر بن فرح، من اشهر مفسري ذلك العصر، وقد بقي لنا تفسيره كاملا.

ولد بقرطبة من بلاد الأندلس، وتلقى بها ثقافة وسعة في الفقه والنحو والقراءات، وسمع من أبى العباس أحمد بن عمر القرطبي بعض كتابه: المفهم في شرح مسلم، ودرس البلاغة وعلوم القران واللغة، ثم وفد إلى مصر، كما وفد غيره من علماء الأندلس، وكانت بلادهم في ذلك الحين تتخطفها الفرنجة، ولست ادري متى قدم إلى مصر. واستقر في الصعيد، بمنية ابن خصيب (المنيا)، يقضي وقته بين العبادة والتاليف. ويقول مؤرخوه عنه: أنه كان من عباد الله الصالحين، والعلماء الورعين الزاهدين قال عنه الذهبي: إمام متفنن، متبحر في العلم، له تصانيف مفيدة تدل على إمامته وكثرة اطلاعه. وفور فضله وقال عنه صاحب شذرات الذهب: كان إماما علما من الغواصين على معاني الحديث، حسن التصنيف، جيد النقل.

وترك القرطبي مؤلفات شتى، أهمها كتابه في التفسير الذي سماه (جامع أحكام القرآن، والمبين لما تضمن من السنة وآي الفرقان) وتقوم دار الكتب بطبعه، وتقدر إنها ستتمه في عشرين جزءا. وهو لا يقف في تفسير القرآن عند حد ما روي من ذلك عن الرسول والسلف الصالح، بل يتخذ ما أوتيه من أدوات العلم وسيلة يستعين بها على فهمه، وإن كان يعد معرفة ما اثر من ذلك ضروريا فهم كتاب الله. وهنا يحسن بنا أن نوضح الرأي الذي اختاره لنفسه في كتابه، فقد عقد بابا لما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرأي، والجرأة على ذلك (ج ص27 طبع دار الكتب) وفي هذا الباب أورد ما روي عن عائشة أنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسفر من كتاب الله إلا آيا بعدد، وعلمه إياهن جبريل. وقد رأى في ذلك ما رآه ابن عطية، من أن معنى الحديث في مغيبات القرآن وتفسير مجمله، ونحو هذا مما لا سبيل إليه إلا يتوقف من الله تعالى. ومن جملة مغيباته ما لم يعلمه الله به، كوقت قيام الساعة ونحوها. ثم نقل ما رواه الترمذي عن ابن عباس عن

ص: 13

النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال: اتقوا الحديث علي إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. ومن قال في القران برأيه فليتبوأ مقعده من النار. وروي أيضاً عن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال في القران برأيه فأصاب فقد اخط. وفي تفسير هذين الحديثين نقل عن ابن ألا نباري أن حديث ابن عباس فسر تفسيرين: أحدهما: من قال في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرض لسخط الله. والتفسير الآخر، وهو اثبت القولين وأصحهما معنى: من قال في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره، فليتبوأ مقعده من النار، إما حديث جندب، فقد حمله بعضهم على أن الرأي معنى به الهوى، فالمعنى من قال في القرآن قولا يوافق هواه، ولم يأخذه عن أئمة السلف فأصاب، فقد اخطأ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف اصله ولا يقف على مذاهب أهل الإثر والنقل فيه. ونقل عن ابن عطية إن معناه أن يسال الرجل عن معنى من كتاب الله، فيتسور (أي يتهجم) عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلم كالنحو والأصول؛ وليس يدخل في هذا الحديث إن يفسر اللغويين لغته، والنحويون، نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلا لمجرد رأيه. قال القرطبي: هذا صحيح، وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإن من قال فيه بما صح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطئ أن من استنبط معناه بحمله على الأصول المحكمة المتفق على

معناه فهو ممدوح.

قال القرطبي: وقال بعض العلماء: (إن التفسير موقوف على السماع) وهذا فاسد. . . لأن النهي عن تفسير القرءان لا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع، وترك الاستنباط، أو المراد به أمر آخر، وباطل أن يكون المراد آلا يتكلم أحد في القرءان إلا بما سمعه، فإن الصحابة قد قرءوا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما النهي يحمل على أحد وجهين، أحدهما أن يكون له في الشيء رأي، وأليه ميل من طبعه وهواه، فتأول القرءان على وفق رأيه وهواه، ليحتج على تصحيح غرضه. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة، لتغرير

ص: 14

الناس ودعوتهم إلى مذاهبهم الباطله، فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم، في أمور يعلمون قطعا أنها غير مراد.

الوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيها يتعلق بغرائب القرآن، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم ظاهر التفسير، وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لابد منه في ظاهر التفسير أولا، ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط. والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل أحكام الظاهر؛ إلا ترى إن قوله تعالى:(وآتينا ثمود الناقة مبصرة، فظلموا بها)، معناه آية مبصرة، فظلموا أنفسهم بقتلها. فالناظر إلى ظاهر العربية يظن إن المراد به أن الناقة كانت مبصرة، ولا يدري بما ظلموا. . فهذا من الحذف والإضمار. وأمثال هذا في القرآن كثير؛ وماعدا هذين الوجهين فلا يتطرق النهي أليه.

وترى من هذا نموذجا لمناقشاته من ناحية، وأنه ليس من هؤلاء الذين يقفون عند حد النقل عن السالفين، يعمل فكره في الاستدلال والاستنباط، لا لمجرد الهوى، ولكن اعتمادا على قوانين العلوم، ووقوفا عند حدودها، واخذ عن السلف ما يرى ضرورة الأخذ به. من تفسير المجمل وحل الشكل.

وبدأ القرطبي تفسيره بعدة أبواب رآها قبل الدخول في التفسير، وأوضح لنا الخطة التي انتهجها في كتابه بقوله:(وبعد، فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجمع علوم الشرع الذي استقله بلسانه ولفرض، ونزله به أمين السماء إلى أمين الأرض، رأيت أن اشتغل به مدى عمري، واستفرغ فيه منتي بأن اكتب فيه تعليقا وجيزا، يتضمن نكتا من التفسير واللغات، والأعراب والقراءات، والرد على أهل الزيغ والضلالات، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيها، ومبينا ما أشكال منها بأقاويل السلف، ومن تبعهم من الخلف. . . وشرطي في هذا الكتاب إضافة الأقوال إلى قائليها، والأحاديث إلى مصنفيها، فإنه يقال: (من بركة العلم أن يضاف القول إلى قائله). . . وأضربت عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين، إلا ما لابد منه، ولا غناء عنه للتبيين، وأعتضت

ص: 15

من ذلك بتبيين آي الأحكام بمسائل تسفر عن معناها، وترشد الطالب إلى مقتضاها، فضمنت كل أية تتضمن حكما أو حكمين فما زاد، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير والغريب والحكم، فإن لم تتضمن حكما تذكرت ما فيها من التفسير والتأويل، وهكذا إلى آخر الكتاب.

وصدر المؤلف كتابه بعدة أبواب: منها واحد ذكر فيه جملا من فضائل القرآن،، والترغيب فيه، وفضل طالبه وقارئه ومستمعه والعامل به، وباب لكيفية التلاوة، وما يكره منها وما يحرم، وآخر في فضل تفسير القرآن وأهله، وباب شرح فيه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن هذا القران انزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر من. واعرض أقوال العلماء في ذلك، وصلته بالقراءات، وعقد بابا لجمع القران، وسبب كتابة عثمان للمصاحف، وترتيل سورة القران وآياته، وشكله، ولفظه، وتحزيبه، وعدد حروفه، وكلماته، وآيه، ثم عرض لمعنى السورة والآية، والحرف، وهل ورد في القران كلمات خارجة عن لغات العرب أولا ثم ذكر بابا في أعجاز القرآن، ووحه هذا الأعجاز.

وينقل القرطبي عن ابن عطية الذي لخص تفاسير من سبقه، ممن يرون ضرورة معرفة آراء السلف، واقتدى في ذلك القرطبي.

ولم يكتف المفسر بالفصل الذي عقده في تفسير الجامع - لبيان فضائل القران وفضل قارئه ومستمعه، بل الف في ذلك كتاب خاصا، دعاه التذكار في افضل الأذكار، وقد رأى أن يجمع في هذا الكتاب أربعين حديثا ترتبط بهذا الموضوع، وقد وضعه القرطبي على طريقة كتاب التبيان في آداب جملة القرآن للتوزي، ولكن التذكار أتم منه واكثر علما.

وللقرطبي مؤلفات أخرى، منها كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، وهو كتاب ضخم، قال مؤلفه في مقدمته وبعد فإني رأيت إن اكتب كتابا وجيزا، يكون تذكرة لنفسي، وعملا صالحا بعد موتي، في ذكر الآخرة وأحوال الموتى، وذكر النشر والحشر، والجنة والنار، والفتن والأشرار، نقلته من كتب الآمة، وتقاة أعلام هذه الآمة، حسب ما رويته أو ما رايته وبوبته بابا، بابا وجعلت عقب كل باب فصلا أو فصولا يذكر فيها ما يحتاج إليه من بيان غريب أو فقه في حديث أو إيضاح شكل، لتكمل فائدته وتعظم منفعته.

وله غير ذلك كتاب شرح أسماء الله الحسنى، وكتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة، ورد

ص: 16

ذل السؤال بالكتب والشفاعة، قال عنه ابن فرحان في الدبياج المذهب: لم لقف على تأليف احسن منه في بابه. وله أرجوزة جميع فيها أسماء النبي، وله تأليف وتعليق غير هذه.

وكانت وفاته بالمنية سنة 671، وترك ولده شهاب الدين أحمد الذي روى عن والده بالإجازة.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم

ص: 17

‌الخطر اليهودي

بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء

البروتوكولات الأول:

(1)

سنكون صرحاء، ونناقش دلاله كل تأمل، ونصل إلى شروح وافيه بمقارنه واستنباط. وعلى هذا سنعرض فكرة سياستنا وسياسة الجوييم (وهذا هو التعريف اليهودي لكل الأجانب

(2)

يجب أن يلاحظ أن ذوى الجبلات الفاسدة من الناس اكثر عددا من ذوى الجبلات النبيلة. وإذن فخير النتائج ما ينتزع بالعنف والإرهاب كل إنسان يسعى إلى القوه. وكل يود إن يصير دكتاتورا على أن يكون ذلك في استطاعته. وما أندر من لا ينزعون إلى إهدار مصالح غيرهم توصلا إلى أغراضهم الشخصية.

(3)

ماذا كبح الوحوش المفترسة التي نسميها الناس عن الافتراس؟ وماذا حكمها حتى ألان؟ لقد خضعوا في الطور الأول من الأحياء الاجتماعية للقوة الوحشية العمياء، ثم خضعوا للقانون، وما القانون في الحقيقة ألا هذه القوة ذاتها مقنعة فحسب، وهذا يتأدى بي إلى تقرير أن قانون الطبيعة هو: الحق يكمن في القوة.

(4)

إن الحرية السياسية ليست حقيقة بل فكرة. ويجب أن يعرف الإنسان كيف يسخر هذه الفكرة عندما تكون ضرورية، فيتخذها طعما لجذب العامة إلى صفه، إذا كان قد قرر إن ينتزع سلطة منافس له. وتكون المشكلة يسيرة إذا كان هذا المنافس موبوء بأفكار الحرية التي تسمى مذهب التحررية ومن اجل هذه الفكرة يتخلى عن بعض سلطته.

(5)

وبهذا سيصير انتصار فكرتنا واضحا، فإن أزمة الحكومة المتروكة خضوعا لقانون الحياة ستقبض عليها يد جديدة، وما على الحكومة الجديدة إلا أن تحل محل القديمة التي أضعفتها لأن قوة الجمهور العمياء لا تستطيع البقاء يوما بلا قائد.

(6)

لقد طغت سلطة الذهب على الحكام المتحررين. ولقد مضى زمن كانت الديانة هي الحاكمة. وإن فكرة الحرية لا يمكن أن تتحقق؛ إذ ما من أحد يستطيع استعمالها استعمالا سديدا.

(7)

يكفي أن يعطى الشعب الحكم الذاتي فترة وجيزة، لكي يصير هذا الشعب رعاعا بلا

ص: 18

تمييز. ومنذ تلك اللحظة تبدأ المنازعات والاختلافات التي سرعان ما تتفاقم فتصير معارك اجتماعية، وتندلع النيران في الدول، ويزول آثرها كل زوال.

(8)

وسواء أنهكت الدولة الهزاهز الداخلية أم أسلمتها الحروب الأهلية إلى عدو خارجي، فإنها في كلتا الحالين تعتبر قد خربت نهائيا كل الخراب - وستقع في قبضتنا. وسيمد الاستبداد المالي - والمال كله في أيدينا - إلى الدولة عودا لا مفر لها من التعلق به، لأنها - إذا لم تفعل ذلك - ستغرق في اللجة لا محالة.

(9)

ومن تخالجه - تأثرا ببواعث التحررية - الإشارة إلى أن بحوثا من هذا النمط منافية للأخلاق - فسأسأله هذا السؤال: لماذا لا يكون منافيا للأخلاق لدى دولة يتهددها عدوان: أحدهما خارجي والآخر داخلي - أن تستخدم وسائل دفاعية ضد الأول تختلف عن وسائلها ضد الآخر، وأن تضع خطط دفاع سرية، وأن تهاجمه في الليل أو بقوات اعظم؟ ولما يكون منافيا للأخلاق لدى الدولة أن تستخدم هذه الوسائل ضد من يحطم أسس حياتها وسعادتها؟

(10)

هل يستطيع عقل منطقي سليم أن يأمل في أن يحكم الغوغاء حكما ناجحا باستعمال المناقشات والمجادلة، مع أنه يمكن مناقضة مثل هذه المناقشات والمجادلات بمناقشات أخرى، وربما تكون المناقشات الأخرى مضحكة غير إنها تعرض في صورة تجعلها اكثر أغراء لتلك الفئة العاجزة من الجمهور عن التفكير العميق، والهائمة وراء عواطفها التافهة وعاداتها وعرفها ونظرياتها العاطفية.

(11)

إن الجمهور الغر الغبي، ومن ارتفعوا في بينه - لينغمسون في خلافات حزبية تعوق كل إمكان للاتفاق ولو على المناقشات الصحيحة، وان كل قرار للجمهور يتوقف على مجرد فرصة، أو أغلبية ملفقة تجيز لجهلها بالأسرار السياسية حلولا سخيفة، فتبذر بذور الفوضى في الحكومة.

(12)

إن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شئ. والحاكم المقيد بالأخلاق ليس بسياسي بارع، وهو لذلك غير راسخ على عرشه.

(13)

لابد لطالب الحكم من الالتجاء إلى المكر والرياء؛ فإن الشمائل الإنسانية العظيمة من الإخلاص والأمانة تصير رذائل في السياسة. إنها لتبلغ في زعزعة العرش اعظم مما يبلغه

ص: 19

ألد الخصوم. هذه الصفات لابد أن تكون خصال البلاد الأممية (غير اليهودية)، ولكنا غير مضطرين إلى أن نقتدي بهم الدوام.

(14)

إن حقنا يكمن في القوة. وكلمة (الحق) فكرة مجردة قائمة على غير أساس، فهي كلمة لا تدل على اكثر من (اعطني ما أريد لتمكنني من أن أبرهن لك بهذا على أني أقوى منك).

(15)

أين يبدأ الحق وأين ينتهي؟ أيما دولة يساء تنظيم قوتها، وترتد فيها هيبة القانون وشخصية الحاكم بتراء من جراء الاعتداءات التحررية المستمرة، فإني اتخذ لنفسي فيها خطا جديدا للهجوم مستفيدا بحق القوة لتحطيم كيان القواعد والنظم القائمة، والإمساك بالقوانين، وإعادة تنظيم الهيئات جميعا، وبذلك أصير دكتاتوريا على أولئك الذين تخلوا بمحض رغبتهم على قوتهم، وانعموا بها علينا.

(16)

وفي هذه الأحوال الحاضرة المضطربة لقوى المجتمع، ستكون قوتنا اشد من أي قوة أخرى، ألانها ستكون خافية حتى اللحظة التي تبلغ فيها مبلغا لا تستطيع معه أن تنسفها أي خطة ماكرة.

(17)

ومن خلال الفساد الحالي الذي نلجأ إليه مكرهين، ستظهر فائدة حكم حازم بعيدة إلى بناء الحياة الطبيعية نظامه الذي حطمته نزعة التحررية.

(18)

إن الغاية تزكي الوسيلة، وعلينا - ونحن نضع خططنا أن لا نلتفت إلى ما هو خير وإخلافي بقدر ما نلتفت إلى واهو ضروري ومفيد.

(19)

إن بين أيدينا خطة موضحا عليها خط استراتيجي. وما كنا لننحرف عن هذا الخط إلا كنا ماضين في تحطيم عمل قرون.

(20)

إن من يريد إنقاذ خطة عمل تناسبه يجب أن يستحضر في ذهنه حقارة الجمهور، وتقلبه، وحاجته إلى الاستقرار، وعجزه عن أن يفهم ويقدر ظروف عيشته وسعادته. وعليه أن يفهم أن قوة الجمهور عمياء هواء من العقل المميز، وأنها تعير سمعها ذات اليمين وذات الشمال. إذا قاد الأعمى أعنى مثله فكلاهما سيسقطان معا في الهاوية. وأفراد الجمهور الذين امتازوا من بين الهيئات - ولو كانوا عباقرة - لا يستطيعون أن يتقدموا هيئاتهم كزعماء دون أن يحطموا الآمة.

(21)

ما من أحد يستطيع أن يقرا الكلمات المركبة من الحروف الأساسية الآمن نشى

ص: 20

للسلطة الاتقراطيه. أن الشعب المتروك لنفسه، أي للمتازين من الهيئات، لتحطمه الخلافات الحزينة التي من الشره على القوة والأمجاد، وتخلق الهزاهز والاضطرابات.

(22)

أفي مقدور الجمهور أن يميز بهدوء ودون ما تحاسد؛ كي يدير أمور الدولة التي يجب ألا تقحم معها الأهواء الشخصية؟ أو يستطيع أن يكون وقاية ضد عدو أجنبي؟ هذا محال. أن خطة مجزاة أجزاء كثيرة بعدد ما في أفراد الجمهور عن عقول - خطة ضائعة القيمة، فهي لذلك غير معقولة ولا قابلة للتنفيذ. الاتقراطي وحده هو الذي يستطيع أن يرسم بوضوح خططا واسعة، وان يعهد بجزء معين منها لكل عضو في بنية الآلة الحكومية. ومن ثم تستنتج أن ما يحقق سعادة البلاد أن تكون حكومتها في قبضة شخص واحد مسؤول. وبغير الاستبداد المطلق لا يمكن أن توجد حضارةلأنالحضارة لا يمكن أن تكون رائجة إلا تحت حماية الحاكم كائنا من كان، لا بين أيدي الجماهير.

(23)

إن الجمهور بربري، وتصرفاته في كل مناسبة على هذا النحو، فما إن يضمن الرعاع الحرية حتى يحولوها سريعا إلى فوضى، والفوضى في ذاتها قمة البربرية.

(24)

وحسبكم فانظروا إلى هذه الحيوانات المخمورة التي بلدها الشراب، وان كان لينتظر لها من وراء الحرية منافع لا حصر لها! أفنسمح لا نفسنا وأبناء جنسنا بمثل ما يفعلون؟

ومن المسيحيين أناس قد أضلهم الخمر، وانقلب شبانهم مجانين بالكلاسيكيات، والمجون المبكر الذي أغراهم به وكلائنا، ومعلمونا، وخدمنا وقهرماناتنا في البيوتات الغنية، وكتبتنا، ومن إليهم، ونساؤنا في أماكن لهوهم - واليهن أضيف من يسمين (نساء المجتمع) - والراغبات من زميلاتهم في الفساد والترف. يجب أن يكون شعارنا (كل وسائل القوة والخديعة)

(25)

إن القوة الخالصة وحدها هي المنتصرة في السياسة، وبخاصة إذا كانت محجبة بالألمعية اللازمة لرجال الدولة.

(26)

يجب أن يكون العنف هو الأساس. ويتحتم أن يكون ماكرا خداعا حكم تلك الحكومات التي تأبى أن توطأ تيجانها تحت أقدام وكلاء قوة جديدة. إن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى الهدف الأخير. ومن اجل ذلك يتحتمأنلا نتردد لحظة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة إذ ما كانت تخدمنا في تحقيق غايتنا.

ص: 21

(27)

وفي السياسة يجب أن نعلم كيف نصادر الأملاك بلا أدنى تردد إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة. إن دواء دولتنا - المتبعة طريق الفتوح السلمية - لها الحق في أن تستبدل بأهوال الحرب الحكام الإعدام، وهي اقل ظهورا واقل تأثيرا، وإنها لضرورية لتعزيز الفزع الذي يولد الطاعة العمياء. إن العنف الحقود وحده هو العامل الرئيسي في قوة الدولة. فيجب أن نتمسك بخطة العنف والخديعة لا من اجل المنفعة فحسب بل من اجل الواجب والنصر أيضا.

(28)

إن مبادئنا في مثل قوة وسائلنا التي نعدها لتنفيذها، وسوف ننتصر، ونستعبد الحكومات جميعا تحت حكومتنا العليا لا بهذه الوسائل وحدها بل بصرامة عقائدنا أيضا، وحسبنا أن يعرف عنا إننا صارمون في كبح كل تمرد.

(29)

وكذلك كنا قديما أول من صاح في الناس (الحرية والمساواة والإخاء). كلمات ما انفكت ترددها منذ ذلك الحين ببغاوات جاهلة تجمهرت معا من كل مكان حول هذه الشعائر وقد حرمت بترداده العالم من نجاحه، والفرد من حريته الشخصية الحقيقية التي كانت قبل في حمى بحفظها من أن تخنقها السفلة.

(30)

إن أدعي الحكمة والذكاء من الآمنين لم يتبينوا كيف كانت عواقب الكلمات التي يلو كونها، ولم يلاحظوا كيف يقل الاتفاق بين بعضها وبعض وقد يناقض بعضها بعضا.

(31)

أنهم لم يروا أنه لا مساواة في الطبيعة، وأن الطبيعة نفسها قد خلقت أنماطا مختلفة غير متساوية في العقل والشخصية والطاقة. وكذلك في الخضوع لقوانين الطبيعة.

(32)

أدعياء الحكمة هؤلاء لم يكهنوا أن الرعاع قوة عمياء، وأن المتميزين المختارين من وسطهم حكاما - ميان مثلهم في السياسة، فإن المرء المقدور له أن يكون حاكما - ولو كان أحمق - يستطيع أن يحكم، ولكن المرء الغير مقدور له ذلك - ولو كان عبقريا - لن يفهم شيئا في السياسة. وكل هذا كان بعيدا عن النظر الاممين (غير اليهود)، مع إن الحكم الوراثي القائم على هذا الأساس. فقد اعتاد الأب يفقه الابن في معنى التطورات السياسية وفي مجراها بأسلوب ليس لأحد غير أعضاء الآسرة أن يعرفه، وما استطاع أحد أن يفشي الأسرار للشعب المحكوم. وفي وقت كان معنى التعليمات السياسية الحقة - كما توورثت في المالكية. من جيل إلى جيل - مفقوداً، قد أعان هذا الفقد على نجاح غرضنا.

ص: 22

(33)

إن صيحتنا (الحرية والمساواة والإخاء) قد جلبت إلى صفوفنا فرقا كاملة من زوايا العالم الأربع عن طريق وكلائنا المغفلين، وقد حملت هذه الفرق ألويتنا في نشوة، بينما كانت هذه الكلمات - مثل كثير من الديدان - تلتهم سعادة المسيحيين، وتحطم سلامهم وثباتهم ووحدتهم، مدمرة بذلك أسس الدول. وقد جلب هذا العمل النصر لنا كما سنرى بعد. إنه مكننا بين أشياء أخرى - من لعب دور الآس في أوراق اللعب الغالبة، أي محق الامتيازات، وبتعبير آخر، محق كيان الأرستقراطية الأممية التي كانت الحماية الوحيدة للأمم والبلاد ضدنا.

(34)

ولقد أقمنا على أطلال الأرستقراطية الطبيعية والوراثية أرستقراطية من لدنا على أساس بلوتقراطي (حكم الأغنياء) أقمنا الأرستقراطية الجديدة على الثروة التي نتسلط عليها، وعلى العلم الذي يروجه علماؤنا. ولقد عاد انتصارنا أيسر في الواقع، فإننا من خلال صلاتنا بالناس الذين لا غنى لنا عنهم - كنا دائما نحرك اشد أجزاء العقل الإنساني إحساسا، أي تستثير مرض فرائسنا من اجل المنافع، وشرهم ونهمهم والحاجات المادية للإنساني، وكل واحد من هذه الأمراض يستطيع مستقلا بنفسه أن يحطم الطليعة، وبذلك يضع قوة إرادة الشعب تحت رحمه أولئك الذين سيجردونه من كل قوه طليعته.

(35)

إن تجرد كلمة (الحرية) جعلها قادرة على إقناع الرعاع بأن الحكومة ليست شيئا آخر غير مدير ينوب عن المالك الذي هو اللامة، وفي المستطاع خلعها كقفازين باليين. وأن حقيقة ممثلي الأمة يمكن عزلهم قد أسلمت ممثليهم لسلطاننا، ووضعت تعيينهم عمليا في أيدينا.

محمد خليفة التونسي

(يتبع)

ص: 23

‌الشعر المصري في مائة عام

الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية

للأستاذ محمد سيد كيلاني

- 2 -

1850 -

1882

وقد طغى نفوذ الأجانب في عصر إسماعيل طغيانا كبيرا، واشتدت شوكتهم إلى حد لم يسبق له مثيل في تاريخ البلاد. وقد ألم هذا المصريين وأحزنهم. لقد أضحى الأجانب متمتمين بكل شيء، والمصريون محرومون من كل شيء. فلا عجب أن شعر المصري بأنه غريب في بلده، ذليل في وطنه. قال السيد علي أبو النصر. . .

أكرمتم الغرباء النازلين بكم

لكن فلاحكم ضاقت مزارعه

وللسيد صالح مجدي قصيدة مؤثرة صور فيها طغيان نفوذ الأجانب على المصريين. ومما جاء فيها قوله:

ومن عجب في السلم أني بموطني

أكون أسيرا في وثاق الأجانب

وأن زعيم القوم يحسب أنني

إذا أمكنتني فرصة لم أحارب

وآني أغضى عن مساو عديدة

له بعضها بخلع المناكب

واضرب صفحا عن مخاز أقلها

لدى العد لا تحصى بدفتر كاتب

أأتركها من غير نشر فينطوي

بأوطاننا فيها لواء المحارب

وهل يجعل الأعمى رئيسا وناظرا

على كل حربي له لنا في المكاتب

ومن أرضه يأتي بكل ملوث

جهول بتلقين دروس لطالب

فيمكث في مهد المعارف برهة

من الدهر مغمورا ببحر المواهب

ويغتم الأموال لا لمنافع

تعود على أبنائنا والأقارب

ولا ينثني عن مصر في أي حالة

إلى أهله إلا بملء الحقائب

وهي قصيدة رائعة حقا صور فيها الشاعر أحوال هؤلاء الأوربيين الذين كانوا يفدون إلى مصر في حالة بؤس وجوع ثم يغتنمون في مدة وجيزة مع انهم مجردون من العلم والذمة

ص: 24

والضمير. وإنما همهم النهب والسلب والحصول على المال بكل وسيلة.

وكان الخديوي إسماعيل عظيم العناية بإقامة الحفلات المدرسية التي تختم بها الامتحانات العامة في المدارس على اختلاف درجاتها وكان يحضر هذه الحفلات كبار رجال الدولة وتوزع فيها الجوائز على المتقدمين من الناجحين، ويلقي فيها الأساتذة ونوابغ الطلبة الخطب والقصائد. وكانت الوقائع المصرية وهي الصحيفة الرسمية للحكومة تهتم بنشر أنباء هذه الحفلات وما يلقى فيها من نثر ونظم فكان هذا من أكبر العوامل التي ساعدت على رواج سوق الشعر في ذلك العصر. واقبل الشعراء على نظم الأناشيد التي ينشدها الطلبة في هذه الاحتفالات. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:

العلم تشريف وشان

لأهله في كل آن

والفخر يوم الامتحان

يبقى على طول الزمن

العلم أسنى ما يرام

ويبتغي منه المرام

ويقتفي نهج الكرام

فيه على أسنى

وظهرت في عصر إسماعيل حركة أحياء الكتب القديمة، ومال الناس إلى قراءة دواوين فحول الشعراء الذين نشئوا في أزهى عصور الأدب. وقد أثر هذا في الشعر تأثيرا بينا. فطفق بعض الشعراء يقلد المتنبي والبحتري والمعري وأبا تمام وأبا نؤاس وغيرهم من الأعلام. فلا عجب إن أخذت أساليب الشعر تميل نحو الارتقاء وتنفض عن كاهلها ما أصابها من الركة والضعف طوال العصر التركي

وقد أقام الخديوي إسماعيل بمناسبة زواج أبنائه حفلات رائعة لم ير المصريون لها مثيلا. وكانت أفراح الأنجال هذه موضوعا للشعراء فنظموا في ذلك القصائد والمقطوعات ووصفوا ما أقيم من الملاهي والملاعب وحفلات الرقص والغناء. قال رفاعة رافع الطهطاوي:

كواكب أفراح العزيز بأفقها

كصبح يقين قد جلا ظلمة الشك

ورنات أنغام المعازف أطربت

كأن قيام الجن تبعث بالجنك

وملعب (بال) بالحسان منعم

عيون غوانيه تغازل بالفتك

رياضة رقص في كمال منزه

عن الريب موزون على التم والتك

ص: 25

وكم من فتاة فيه سكري بلا طلى

يراقصها السنيور لطفا مع السبك

وفيه صفي البال بالرقص مغرم

يقول لذات الخال لابد لي منك

تميس كغصن البان عطفا وتنثني

تفتر عن برق تألق بالضحك

ولولا الحيا والدين والعلم والتقى

لقال حليف الزهد قد طاب لي هتكي

ومجلس انس قد تعطر روضه

وأرجاؤه فاحت بها نفحة المسك

وفي الجو تقليد النجوم منيرة

صواريخ أنواء الشهب تحكي

تلون كالحرباء بل ربما حكت

يواقيت قد مرت على حجر الحك

وحلبة سبق الجياد يزينها

(رماح أعدت للطعان بلا شك)

بتنظيم أوربا تسامى ابتهاجه

وما فاته في الحسن طنطنة الترك

وهكذا صور الشعراء تلك الأفراح وما اعد فيها من ضروب اللهو وأنواع التسلية وألوان البهجة والسرور.

ومال الناس في عصر إسماعيل إلى التنزه في الحدائق والبساتين فكانوا يخرجون إلى شواطئ النيل ويقضون أوقات الأصيل بين الروضة والجزيرة والجيزة. وساعد على ذلك إنشاء جسر قصر النيل والجسر المواجه الذي يطلق عليه الآن كوبري (الجلاء). وقد تغنى الشعراء بهذه الأماكن ولا سيما محمود سامي البارودي الذي اكثر من ذكر (روضة القياس) و (ارض الجزيرة). . .

وظهرت في ذلك العصر حياة اللهو والمرح واقبل الناس على المسارح والملاهي وصالات الرقص ومحال الغناء. وارتقى الذوق الموسيقي وتقدم فن الغناء وعظمة مكانة المغنين. وقد اقبل بعض الشعراء على نظم الأدوار الغنائية والمقطوعات التي تلقى في حفلات التمثيل. وكثرت الأزجال والمواويل والموشحات وذلك لقربها من إفهام الناس. وظهر شعر عليه مسحة من الخلاعة والمجون. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:

وهيفاء من آل الفرنج حجابها

على طالبي معروفها في الهوى سهل

تعلقتها لا في هواها مراقب

يخاف ولا فيها على عاشق بخل

إذا أبصرت من ضرب باريز قطعة

من الأصفر الإبريز زلت بها النعل

هنالك لا هجر يخاف ولا جفا

لديها ولا خلف لوعد ولا مطل

ص: 26

آتيت كما شاء التصابي رحابها

وما كان لي عهد بأمثالها قبل

فلما تعارضنا الحديث تعرضت

لوصل ومن أمثالها يطلب الوصل

فرحت بها في حيث لا عين عائن

ترانا ولا بعل هناك ولا أهل

وبت ولي سكران من خمر لحظها

وراح ثناياها ومن خدها نقل

وقمت ولم اعلم بما تحت ذيلها

وإن كان شيطاني له بيننا دخل

وقد استخدمت في عصر إسماعيل السنة الميلادية بدلا من السنة الهجرية. والظاهر أن الناس قد تعذر عليهم حفظ شهور هذه السنة فاخذ بعض الشعراء ينضمون هذه الشهور شعر حتى يسهل على الناس حفظها. . ومن ذلك عبد الله فكرى. الإفرنج خذوا ترتيبها قد جاء في النظم على ماموليه يناير وفبراير ومارث أبريل مايه يونيه ويوليه أغسطس سبتمبر فادعوا ليه ولم يكتفي بهذا بل نضمها في موالهم لأنه كما قال انسب لكونها أعجميه لا يحسن انسجامها في الشعر العربي. وقد وضع مواليا يبين فيها أيام كل الشهور قال:

فبراير النص فيه يومين وتارة يوم

وشهور سبعه تزيد يوم نملى يوم

يزيد يناير ومارث ومايه ما فيه لوم

يوليه وأغسطس وأكتوبر وديسمبر

وبقية الشهر ثلاثين في حساب القوم

ولما ازدادت الأحوال المالية سوءا في أواخر عصر إسماعيل وشدت المسالم سئم الناس حكم الخديوي وتمنوا زواله. فلما خلع فرحوا ابتهجوا. وقد عبره الشعراء عن إحساس مواطنيهم في الشعر الكثير فمن ذلك قول عبد الله فكرى من قصيده بعثه بها إلى الشيخ على الليثى.

واقرأ على الشيخ الجليل تحيه

مقرونة بالشوق والتبجيل

وقل البشارة، مصر ولى أمرها

توفقها من بعد إسماعيل

جاء القناصل باتفاق مبرم

فدعوهما لتنازل وقبول

فارتاب إسماعيل واضطربت به

أحواله ولخطب أي مهول

وأقام يبرم أمره وبحله

متعللا بالقال بعد القيل

حتى آتى أمر الخلافة معلنا

مضمونه بالمنع والتنويل

فقضى الخديوي بالحكومة لابنه

ومضى يهيئ نفسه للرحل

ص: 27

ويلاحظ أن الروح العسكري الذي ظهر في عهد سعيد قد اختفى اختفاء تاما في عصر إسماعيل ليسما بعد هزيمة الجيش المصري في الحبشة هزيمة ساحقه، وبعده أخلاق المدارس الحربية التي فتحت في أوائل عصره، وبعد تغلغل النفوذ الأوربي في المصالح ودواوين وزوال هبة الحاكم المصري. لذلك لم يتغن الشعراء بالجيوش المصرية ولا بمعداتها وأسلحتها، ولا بقدامها وبسالتها، كما فعلوا في عهد سعيد، بل خرست ألسنتهم وامسكوا عن الخوض في هذا الموضوع.

أنتهي عصر إسماعيل وجاء عصر توفيق (1879 - 1892م) فوجدوه أمامه مهمة شاقه فكان الشعب بأن المظالم والكوارث التي حلت به أيان حكم الخديوي السابق، ويرزح تحت أعباء الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهله، فلا عجب إذا تطلع الناس إلى حكم جديد ينشر العدل ويقضى على الظلم.

وقد عبر الشعراء عن ذلك فيما تضموا مدائح في الخديوي الجديد.

قال السيد علي أبو النصر يخاطب توفيقا.

نرجوه إنجاز إصلاح الشؤون عسى

يصفو به الملك دانيه وشاسعة

فأن آمالنا أمته. جازمة

بأنها لا ترى شهما يضارعها

فكن مجيبا أبي العباس دعوتها

فباب عطفك باقي البشر قارعه

ووال فضلك يا خير الولاة لمن

والى لأمرك يشقى من يراجعه

واستنتج الرأي إصلاحا فقد حجبت

شمس الهدى بسحاب فاض هامعه

وطهر الملك من علت ومنهم

تقوده للقضا جهلا مطامعه

إلى أن قال:

فان رعيت وراعيت الحقوق فما

أولاك بالمدح يتلوا الحمد بارعة

وقال السيد صالح مجدي من قصيدة يخاطب بها الخديوي توفيق

وتعمل في رد المظالم فكرة

بنور الهدى طول المدى تتوقد

وتطوى بلا ريب سجل المطامع

لها كان قبل الآن غيرك يفرد

وتصرف في نشر القناعة ما به

بحار الملاهي والشراهة تنفد

وتنسج أحكاما قضت بابتداعها

أمور نهى عنها النبي محمد

ص: 28

فنرى من هذا الشعر أن الآمة كانت تريد القضاء على المظالم وتطلب صلاحا شاملا للأداة الحكومية. وهذه الرغبات التي رددتها الشعراء تعتبر مقدمة للحركة العربية التي ظهرت فيما بعد.

بدأت الحركة العربية في فبراير 1881م وبلغت اوجها في سبتمبر من هذا العام. وكان الليثي هو الشاعر الوحيد الذي انبرى للدفاع عن العرابيين في حادثة قصر النيل المشهورة. فقال من قصيدة.

لما رأى جنده من شبهة عرضة

قد عارضوا واتقوا بالجزم واحتزموا

يوم العروبة إذ شوال منتصف

راموا انتصافا وكاد السلم ينحسم

أجاب سؤلهم وهو الجدير به

فقابلوا بحسن الحمد واحترموه

ومنها:

وهب لجندك ما قد كان وارعهم

بين أروع سيما طبعه الكرم

هب أنهم اخطأ لم يستخف بهم

خوف به ثورة الأحشاء تضطرم

فكان ما كان من أمر مغبته

والحمد لله لم يلمم بها ألم

أما لدي يحرك العذب الخضم لهم

ما يثلج الصدر يطربه صدورهم

ألست أول ذي حلم محامده

سارت مسير الصبى والناس قد علموا

رفقا وعطفا بالصفح الجميل اعد

عادات بر لهم في عودها عشم

فهم لملكك أنصار وهم عدد

عند الوغى ومثار النقع مرتكم

وهم سيوفك في يوم يضربه

قلب الجبان وموج الحرب يرتطم

وهم دروع رعاياك الذين لهم

في وصف معناك ما تعنوا له الأمم

حاشاك مولى أن تصغي لذي غرض

لديه سيان من يحيا وينعدم

وكان من مطالب العرابيين إنشاء مجلس نيابي. وقد أجيب هذا الطلب وافتتح الخديوي توفيق مجلس النواب الجديد في 26 ديسمبر عام 1881م وكان يوما مشهودا، وصدر دستور 1882م فقوبل بالابتهاج العام وأقيمت حفلات كثيرة لهذه المناسبة وألقيت فيها الخطب والقصائد. ومدح البارودي الخديوي توفيق بقصيدة جاء فيها:

سن المشورة وهي أكرم خطة

يجرى عليها كل راع مرشد

ص: 29

هي عصمة الدين التي أوحى بها

رب العباد إلى النبي محمد

فمن أستعان بها تأيد ملكه

ومن استهان بأمرها لم يرشد

ولكن الحركة العرابية ما لبثت أن انحرفت عن الطريق المستقيم وساعد على ذلك دسائس الدول الأوربية ولضهد العرابيون كل من خالفهم. وازدادت الحالة سوءا يوما بعد يوم، وأنتشر الرعب وعم الفزع واختل الأمن واصبح الناس عرضة للسلب والنهب والقتل. وانزوى الأتراك والجراكسة بعيدا عن الأنظار وأوضحوا في وجل جديد وخوف عظيم. وقد صور لنا هذه الحالة اصدق تصوير حسن حسني الطويراني تركي الأصل المصري المولد والنشأة، فقال:

فكم ليال أجنتنا غياهبها

والحزم أعينه في غمض ترفيق

وكم صباح ترى حر الهجير به

وما لنا من ضياء بعض تأليق

نمسي حيارى وتمسى الأرض واجفة

ونصبح والصبح في رجف وتخفيق

يعالج الحر ذوق المر يجرعه

عبئ ورشفا إلي أن مل من ريق

يمشي العزيز ذليل في مناكبها

والهام خافضة في رفعة السوق

أيام ما يعرف الإنسان يفكر

من الدنى بين مكروه ومعشوق

حيث اكفهر ظلام الظلم تتبعه

حسب المعنى بين تفتيق وترنيق

حيث الوجود تشهى أهل عدما

وود لو كان فيه غير مخلوق

يا بأسها فئة بالغي طاغية

بطيئها بضلال غير مسبوق

أذاقت الأرض بؤسا والسماء أسى

وكدرت صفو ذي قيد ومطلوق

وعممت ويلها والأوطان إذ فجرت

وخصصت أهلها للجور والضيق

لم تبقى عينا بلا سهد ولا تركت

قلبا بسهم جفاها غير مرشوق

تجمهرت وجرت في غيها وبغت

ودمرت بين تفريق وتحريق

جارت بما ارتكبت جالت لما ركبت

تاهت بما أنتهبت أغرت بتلفيق

لم يحفظ حرما لم يرحموا أمما

لم يشكروا نعما شكران مرزوق

فجردوا السيف قهرا أي منصلت

وفوقوا الغدر سهما أي تفويق

جابوا البلاد كما خانوا العباد وهمم

يستطلعوا طريقا غير مطروق

ص: 30

فكل باب ذمار غير مفتتح

وكل باب دمار غير مغلوق

كم حرموا من مباح القول واحتجزوا

كم حللوا من دم بالظلم مهروق

ولا ريب في أن الطويراني لم يعبر عن شعور الأمة ولم ينطلق بلسانها. فالمصريون من غير شك كانوا في جانب عرابي. أما الأتراك والجراكسة فكانوا من أعداء العرابيين. وقد عملوا ما استطاعوا على هزيمة الجيش المصري وتمهيد البلاد للاحتلال البريطاني. وهم في هذا مدفوعون بمصالح أنفسهم حريصون على جاههم وسلطانهم الذي يتعرض للضياع والزوال إذا انتصر العرابيون. فلا عجب أن اظهروا الفرح والسرور حينما انهزم المصريون أمام الجيوش البريطانية، وراحوا يلقبون عرابي وأصحابه بالفئة الباغية، والفرقة العاصية، والبغاة الجهال، والأشقياء الملحدين، والأغبياء المتمردين، وغير ذلك مما جادت به قرائحهم السقيمة

وانتهى الأمر بضرب مدينة الإسكندرية ضربا مروعا فحل بها الخراب والدمار، واشتعلت الحرائق وانتشر السلب والنهب وفي ضرب الإسكندرية يقول عبد الله فكري:

بوارج أمثال البروج تقاذفت

بحمد كأمثال الصواعق رجم

بواخر ترمي بالشاهقات بمثلها

سرابا كأسراب الحمام المحوم

دوارع يلقين المخاوف آمنا

بها سربها من كل حول ومرغم

يطارحن أسراب المدافع والوغى

بكل رجيح وزنه غير اخرم

وسالت شعاب الأرض بالجند زاحفا

بكل سبوح من كميت وادهم

يموج به الماذي في كل مأزق

كما زخرفت أمواج يم ميمم

وغشى ضياء الشمس اسود حالك

من النقع معقود بافم أسحم

تغيم منه الأفق والصحو سافر

لثاما ووجه الجو غير مغيم

وأرعدت الأرض في السماء وأبرقت

بصيب ودق للمنية بنهمي

وجاوب أصداء البنادق مثلها

نداء فما يبقين غير مكلم

ونازع فيه ابن الكروب ند يده

رسائل ليست للتودد تنتمي

ولما انهزم العرابيون واقبل الخديوي إلى مدينة القاهرة اخذ الشعراء ينظمون القصائد في مدح توفيق والتعريض بالعرابين، وكان من هؤلاء الشعراء من انضم إلى الحركة العربية

ص: 31

وناصرها. فلما منيت هذه الحركة بالفشل والهزيمة، شرعوا ينظمون القصائد الطوال في التبرؤ منها والاعتذار عما فرط منهم، أو نفي بتهمة الاشتراك مع العرابيين. وممن فعلوا ذلك عبد الله فكري والليثي الذي عفا عنه الخديوي وقربه أليه. وكان من الشعراء من هو من اصل غير مصري. وقد وقف هؤلاء من بدء الحركة في جانب الخديوي، فشرعوا بعد هزيمة عرابي ينظمون القصائد في هجوه وسلبه والتشهير به والطعن فيه. وكان الطوبراني الذي سبقت الإشارة إليه اكثر هؤلاء الشعراء هجاء لعرابي وأصحابه. وقصائده التي نضمها في هذا الموضوع من امتن شعره وأجوده واصدقه من حيث التعبير عن شعور البعض والكره للعرابين للحركة العرابيه. ولم يتورع بعض هؤلاء الشعراء من الكذب والافتراء على الناس وعلى التاريخ. انظر إلى مصطفى صبحي باشا حين يقول من قصيده طويلة دعاها (صدق المقال في المثالب البغاة الجهال)

ولما أتى أسطول مصر مسالما

أثرتم بريح البغي نار التعند

ومناكم بالمستحيل خطيبكم

رأدمج غشا في حماس مقلد

وأوهم زورا إن فيكم بسالة

فحاولتم بالجهل خطة اصد

وهيأنم بعض الطوابي تنمرا

وهددهم سيمور كل التهدد

فسببتم إحراقها وخرابها

وكانت حصانا بالبناء المشيد

فهو يقول إن الأسطول البريطاني جاء مسالما وأن عرابي هو الذي هدد. وهذه الدعوة باطلة فندها بعض مؤرخي الإنجليز أنفسهم. ولكن هذا الرجل لم يتروع عن اتهام العرابيين بما برأهم منه أعداؤهم من البريطانيين.

قلنا أن روح العسكري المصري الذي ظهر في عهد سعيد قد اختفى اختفاء تام في عصر إسماعيل. ثم جاء الاحتلال البريطاني وسرح الجيش المصري ثم كون جيش جديد صغير تحت أشراف البريطانيين. لذلك لم يكن من المعقول أن يمدح الشعراء توفيقا بالشجاعة والأقدام، والجرأة، والبسالة، وغير ذلك من ألقاب البطولة التي مدحوا بها سعيدا. فاخذوا يبحثون عن صفات أخرى تصلح لهذا الخديوي. وكان توفيق أول حاكم في العصر الحديث يكثر من غشيان الأضرحة والمساجد. فأنتفع الشعراء بهذا المظهر الديني واخذوا يمدحونه بالتقوى والورع: ثم خلعوا عليه الصفات التي اعتادوا خلعها على كل من يمدحونه كالجود

ص: 32

والحلم والذكاء والعدل. وقد اكثروا من مدحه بالحلم وذلك لعفوه عن كثير ممن اشتركوا في الحركة العرابية. ومدحوه بجودة الرأي وسدادة التفكير. ومثال ذلك قول الساعاتي:

مليك بحسن الرأي دبر ملكه

وقد يبلغ المأمون شهم التدبر

أذل له التدبير عزة من طغى

وحاول أن يسموا العلا فتحدرا

فالتدبير هو الذي أذل عز الطغاة ولم يكن السيف والمدفع.

وقال:

ملك الوجود بجودة الرأي الذي

قد كاد أن يحيى بها الاسكندر

بمثل هذا المدح توفيق. ولن تجد في هذه المدائح على كثرتها وإشارة إلى قوة الحربية أو ذكرا للجيش أو السلاح.

(يتبع)

محمد سيد كيلاني

ص: 33

‌لغة المسلمين

للأستاذ محمد حسن الأعظمي

جهاد عشرين عاما متواصلة لا أفاخر به ولكني أحمد الله عليه وأستزيده التوفيق منه.

قال مستر غاندي يوما: (إن من الخير لسكان الهند أن لا يلجأ إلى اللغة لأنها تكتب بأحرف القرآن، وهو كتاب المسلمين وحده. وعلينا أن نختار اللغة المحفوظة عن الأمهات فقط وهي اللغة السنسكريتية، وما كدت اطلع على هذا في صحف الهند العامة حتى أسرعت في اليوم التالي إلى الإجابة، وقلت لمستر غاندي: (إن المسلمين ليس لهم أمهات سوى أزواج نبيهم عليه افضل الصلاة والسلام، وهن أمهات المؤمنين، ولغة أولئك الأمهات هي للسان العربي المبين) ولما أذاع المستر غاندي نداء يدعوا فيه إلى توحيد اللغة بين المسلمين والهنود أجبته بأن ذلك لا يمكن إلا بأن نتعلم لغتكم السنسكريتية مع لغتنا العربية وعليكم أن تسلكوا إلى الوحدة هذه السبل نفسها ثم تكون النتيجة الحتمية لهذا. هي العودة إلى الأردية مرة أخرى، فهي مزيج من اللغتين معا إلا قليلا من الفارسية والتركية. وإذا لم تصنعوا ذلك ولن تصنعوا فماذا أنتم فاعلون إذا اصطدمتم بلغات تربو على المائتين بين العشائر الهندوكية المتناثرة في أقطار الهند؟ النتيجة الحتمية لهذا التعصب ضد العربية والأردية هي الاعتماد على اللغة الإنكليزية - لغة أعدائكم - في التفاهم والمكاتبات. وهذا هو الذي حدث فعلا. فقد تخلص هؤلاء من الاستعمار العسكري ليقعوا تحت السيطرة الروحية من نسيج هذه اللغة الأجنبية عنهم. فإن كنت في ريب من هذا أيها القارئ فادخل إحدى السفارات الهندية لدى أي الحكومات أن شئت، فأنت واجد فيها بين أفرادها سلطان اللغة الإنكليزية حاكما على قلوب الموظفين فأنفذ الكلمات في أذواقهم وحديثهم ومخاطباتهم؛ وأنها لهي عبودية الروح في غشاء رقيق من حرية الجسد.

أما أنا فقد رأيت أن أمشي على سنن الطريق مسترشدا بيقيني وبما أني واثقا من أنني فيما ادعوا إليه سألاقي النصر والفوز. وتركت الجدل الكلامي وأخذت أنشئ الجمعية العربية العامة في الهند، واتبعتها بإنشاء مدارس ليلية شبيهة بالمدارس والوحدات الليلية التي يعرف الجميع نشاطها بمصر. وكنت ومن معي من المؤمنين بفكرتي مثالا من النشاط الذي لم تكن فيه اقل من الغيورين على محاربة اللغة العربية واستبدال حروفها وإخراج ألفاظها.

ص: 34

ولكي نستبعد فكرة التعصب القبلي دعونا إليها كلغة القرآن والإسلام. أما الآثار الأدبية لهذه الحركة المباركة فقد كان منها كتاب المعجم الأعظم الجامع بين اللغتين العربية والأردية إلى جانب عشرات من الكتب المدرسية. وكانت حيدر أباد الدكن مركزا هاما إلى ذلك الحين لنشر العربية، إذا كان بحيدر أباد مائة ألف أو يزيدون من العرب أو من أصول عربية، فلقيت الدعوة تشجيعا وإقبالا رائعا. وقام على رياسة هذا النشاط أحد سلاطين المكلا العرب، وما كدنا نقطع من مراحل الزمن سنة حتى انتشرت المدارس الليلية في جميع مناطق المدينة وشكلت الفروع المختلفة في الضواحي والأقاليم المتاخمة. وأنشأت كلية اللغة العربية في العاصمة لتقوم بتعليم على أسس دراسية قيمة. ولكي يقطع هذا النشاط مدى بعيدا قررنا إلقاء محاضرات أسبوعية في حفلات متنقلة بين أحياء المدينة، وكنا نرى إقبال الجمهور المتزايد ويجعل الأمكنة تضيق بزوارها. وكانت تلك الحفلات أدبية مشجعة على مواصلة الكفاح العلمي والأدبي ثم رأينا أن تجري مسابقات دورية تمنح فيها المكافئات والجوائز. ومما يثير العجب أن عدد الفائزين في أخر مسابقة باللغو مائة من بينهم خمسة وسبعون من الفتيات. وقد جرت المسابقة في الكتابة الإنشائية وفن الخطابة والإلقاء. وحاولت أيضاًفي سبيل تيسير هذا التعليم أن ادعوا إلى استبدال خط النسخ العربي بالخط الفارسي بالأردية.

أما حيدر أباد ومراكز الهند الأخرى بعد التقسيم فهي في ستار مغلق دونيالآن - فقد وليت وجهي شطر الوطن الإسلامي الباكستاني - ولقيت فيها الدعوة مكانا خصبا. فلعلي استمد هذا الروح نحو تعليم العربية من أيمان شعب الباكستان الذي تشرف فيه الحكومة نفسها على الجمعية العامة للغة العربية. واصبح خط النسخ العربي رسميا في مكتبات الدولة وأعمالها العامة.

واللغة العربية مادة إجبارية في مواد التعليم الثانوي. كما خصص ركن من إذاعة اللغة العربية. وحضرات أصحاب المعالي الوزراء في باكستان وفي مقدمتهم صاحب المعالي وزير المعارف العمومية فضل الرحمن مقبولون بأنفسهم على تعلم هذه اللغة.

ولعل بعض القراء يذكر أن فخامة حاكم البنجاب السردار عبد الرب تشتر - هو الذي يرأس أكثر الحفلات العربية ويلقي فيها خطبه المرتجلة في عبارات سليمة واضحة.

ص: 35

وليس هذا كل شيء، فإن الخطوة المباركة الحقيقية هي وصولنا إلى ذلك القرار الحكيم الذي وافق عليه مؤتمر العالم الإسلامي الدائم وهو اعتبار لغة القرآن لغة عامة للمسلمين جميع، وكتابة لغات العالم الإسلامي بخط النسخ العربي. كما ألقيت اكثر خطب المؤتمر في كراتشي باللغة العربية. وإذا كنا نحن الباكستانيين قد بذلنا هذا الجهد المتواضع لتعميم العربية الفصحى وأحياء تراثها المجيد، فإني أهين بالناطقين بالضاد إلى المماليك العربية أن يجعلوا واجبهم الأول تعميم اللغة العربية الفصحى وأحياء تراثها المجيد، وأن لا يقصروها على مكاتباتهم في دواوين الحكومة، وعلى أعمدة الصحف. فعلى كل من يجيد العربية أن يخاطب بها غيره في المكتب والطريق وفي الأندية والأسواق وفي التعامل التجاري وفي التبادل الثقافي. وسيقول قائل أن الطريق شاق والمطلب عسير، فأقول لهؤلاء ليس بين العامية الدارجة والعربية الفصحى سوى تصحيح كلمات وإعراب جعل وصدق في توجيه قبل كل شيء. وما هو إلا قليل من التدريب يتلوه النصر القريب.

كثيرا ما رأيت طلاب البعثات الوافدة إلى مصر والأزهر يعودون مزودين باللغة العامية، وما هجروا أوطانهم إلا للغة العربية السليمة الفصحى!

وقد بدأنا نحصل الغرامة المفروضة من أعضاء المؤتمر الإسلامي على كل من يلجا إلى غير العربية الفصحى أثناء كلامه. ويتجه نظريالآنإلى الكعبة العلمية الإسلامية اعني (الأزهر الشريف) ليبدأ هذه الخطوة من جانبه بين أساتذة المعاهد وطلابها، فهل يتحقق أملي؟

محمد حسن الأعظمي

عميد كلية اللغة العربية في الباكستان

ص: 36

‌ركن المعتزلة

إرادة الله في مذهب المعتزلة

للدكتور البير نصري نادر

الفعل الإرادي عند الإنسان يشتمل على إدراك غاية يصل إليها وعلى مشاورة، حيث أن بواعث كثيرة تبدو أمام الإنسان، وعلى عزم؛ اعني اختيار باعث من ضمن هذه البواعث؛ وهذا الاختيار يضع حدا للمشاورة؛ وأخيرا على تنفيذ أو عمل - لكن الله الكلي الكمال لا يعرف المشاورة لأنا دليل على الضعف إذ أنها تشتمل التردد. كانت لذلك أرادته تعالى تختلف كل الاختلاف عن أرادتنا.

تعريف المعتزلة لإرادة الله:

إرادة الله في مذهب المعتزلة من الاعتبارات الذهنية التي يقولون بها مثل العلم والقدرة، والتي لا يوجد حقيقة لأن ماهية الله بسيطة وكاملة. وبناء على ذلك تكون الإرادة هي ذات الماهية اعني أنها قديمة لا متناهية وكاملة. لذلك يقول النظام والكعبي أن الله غير موصوف والإرادة على الحقيقة وأن ورد الشرع بذلك. فالمراد بكونه تعالى مريدا لأفعاله أن خالقها ومنشأها، وإن وصف بكون مريدا لأفعال العباد، فالمراد بذلك أنه أمر بها، وأن وصف يكون مريدا بالأزل فالمراد بذلك أنه عالم فقط - وهكذا ترد المعتزلة إرادة الله إلى علمه اعني إلى ماهيته. وإذ قال النجار (يعني كونه تعالى مريدا أنه غير مغلوب ولا مستكره) فإنه يكرر قول النظام على شكل أخر، لأن لا يوجد في الله ولا خارجا عنه تعالى أي مؤثر يرغمه على العمل، إذ أن علمه تعالى هو أيضاً قدرته وأرادته - ويوضح الجاحظ خصائص الفعل الإرادي بقوله: مهما أنتقى السهو على الفاعل وكان عالما بما يفعله فهو مريد، وإذا مالت نفسه إلى فعل الغير سمي ذلك ميلان إرادة ولكن في الله لا يوجد مثل هذه الميلان، لأن علمه لا متناهي وكامل، فلا يمكننا إذن التكلم عن إرادة الإلهية مثل أرادتنا - أن الله مريد بالمعنى الذي يعطيه الجاحظ لهذا اللفظ أي أنه يحقق علمه - وأيد الكعبي على كل ذلك بقوله إنما دل على الاختصاص على الإرادة في الشاهد لأن الفاعل لا يحيط علما بكل الوجوه في الفعل ولا بالغيب عنه ولا بالوقت والمقدار، فاحتاج إلى قصد وعزم وإلى

ص: 37

تخصيص وقت دون وقت، ومقدار دون مقدار. والباري تعالى عالم بالغيب مطلع على سرائره وأحكامه فكان علمه بها على المقدرة عليها كافيا عن الإرادة والقصد إلى التخصيص، وأنه لما علم أنه كل حادث يوقت وشكل وقدرة فلا يكون إلا ما علم، فأي حاجة له إلى القصد والإرادة؟ وننتهي من هذا كله إلى أن إرادة الله هي علمه اعني ذاته.

إرادة الله وخلق العالم:

تقول المعتزلة إن خلق العالم متعلق بإرادة الله، وهذه الإرادة هي من صفات الأعمال. لكن بعض معتزلة فرع البصرة مثل بشر ابن المعتمر ومعمر كانوا يقولون أن هذه الصفة حادثة لأن موضوعها - وهو العالم المخلوق - حادث. بينما البعض الأخر كان يقول أن هذه الصفة أزلية.

حيث أنها تتعلق بماهية الله وهي أزلية - ولكن جميع المعتزلة متفقون على أن هذه الإرادة - أزلية كانت أم حادثة - سابقة على خلق العالم. فعليه يكون العالم أما أزليا وأما حادثا -

لنتعقب أقوال المعتزلة في هذا الموضوع الدقيق. يقول أبو الهذيل إن خلق الشيء الذي هو تكوينه بعد أن لم يكن هو غيره وهو أرادته تعالى له وقوله: كن - والخلق مع المخلوق في حاله وليس بجائز أن يخلق الله شيئا لا يريد ولا يقول له: كن. ويضيف أبو الهذيل على ذلك قائلا بأن خلق العرض وخلق الجوهر هو غيرهما. ويقول أخيرا أن الخلق الذي هو إرادة وقول لا في مكان من هذا القول يتضح أن الخلق هو بداية الوجود الذي يمنحه الله لشيء كان غير موجود. ثم أن هذا الخلق يتميز تماما مع الشيء الذي كان في حالة العدم قبل خلقه - فيكون الخلق متعلقا بإرادة الله التي تتحقق في وقت ما ويصبح هذا الوقت بداية الوجود - من الضروري أن نبين أن أبا الهذيل كان يؤكد الفرق الموجود بين إرادة الله لخلق الشيء وبين هذا الشيء المخلوق الذي هو موضوع الإرادة. إن هذه الإرادة في زعمه (وهي منبع الخليفة) لا توجد في محل. وسبب ذلك أن الله لا يشغل محلا لأن غير مادي، فعليه لا يمكن أن تكون أرادته في مكان لأن المادة فقط تشغل حيزا. ولكن موضوع هذه الإرادة مادي وهو الخليقة. فهي تشغل مكانا معينا. ومن هنا قامت المشكلة العويصة المتعلقة بطبيعة العالم المخلوق وطبعه لله: إنهما لطبيعتان مختلفتان كل الاختلاف ومتميزتان تمام التمييز: الواحدة منهما وهي الطبيعة الإلهية تمنح الوجود فقط للأخرى التي

ص: 38

هي الطبيعة المادية - وماهية العالم المخلوق خلاف ماهية الله.

ويقول النظام من جانبه أن الخلق متعلق بإرادة الله، والخلق هو منح الوجود اعني تكوين - وهكذا يميز النظام إرادة الله عن موضوع هذه الإرادة وهو العالم المخلوق. ولكن النظام لا يقول أن هذه الإرادة متميزة عن ماهية الله. وبناء على ذلك تكون هذه الإرادة قائمة منذ الأزل. فمسالة خلق العالم مرتبطة ارتباطا وثيقا بمسالة إرادة الله.

المعتزلة والمذهب الحلولي:

إن المعتزلة مجمعة على تمييز إرادة الله عن موضوع هذه الإرادة. وهكذا يقررون موقفهم ضد المذهب الحلولي. وإلاشعري يؤكد موقف المعتزلة هذا كلما ذكر أحد رؤسائهم مثل معمر وبشر ابن المعتمر والمر دار والجبائي. فنجد مثلا في مقالاته هذا القول: يزعم المعمر أن خلق الشيء غيره. وإن الخلق قبل المخلوق وهو الإرادة من الله للشيء - وكذلك كان يزعم المردار. وهذه كلها أقوال واضحة تنفي المعتزلة بمقتضاها كل مذهب حلولي أو كل ما يؤدي إلى الاعتقاد بوحدة الوجود.

إرادة الله والشرع:

كما أن المعتزلة تقول أن الخلق متعلق بإرادة الله كذلك يقولون أن الشرع (القانون الخلقي) متعلق بهذه الإرادة أيضا. إذا هم قالوا إن الإرادة توافق الأمر فإنهم يميزون أيضاً هذه الإرادة عن الشريعة التي تأمر بها. ويقول أبوالهذيل بهذا الصدد إن إرادة الله للأيمان هي غيره وغير الأمر به فعليه إذا قلنا الله يريد شيئا وجب علينا أن نميز بين أرادته تعالى وموضوع هذه الإرادة. ولإرادة الله موضوع حتما، لذلك قالت المعتزلة إن الله يريد الشريعة. لكن هل الشريعة تكتسب قيمتها الخلقية من إرادة الله أم هذه القيمة موجودة ضمنا في الشريعة نفسها؟ نكتفي هنا بقولنا إن المعتزلة كانت تزعم أن الخير خير في ذاته وأن الشر شر في ذاته وليس بموجب إرادة الله. والله يريد الخير ويأمر به لأنه خير في ذاته، وينهي عن الشر لأنه شر في ذاته. فالله لا يختار جزافا أمورا ويقول عنها أنها خير أو شر، لا بل هذه الإرادة الكلية الكمال تميل طبعا نحو الخير وتنفر طبعا من الشر.

وهكذا يكون خلق العالم متعلقا بإرادة الله، والشريعة أيضاً متعلقة بهذه الإرادة. ولكن هذه

ص: 39

الإرادة وأن مالت طبعا نحو الخير لا تختار جزافا ما هو خير وتأمر به، بل أنها تأمر بما هو خير في ذاته.

إرادة الله وهوية الإنسان:

يريد الله الخير لذاته ويأمر به ولا يمكنه أن ينتج الشر، بل إن الله ترك الإنسان حرا أن يخضع أو لا يخضع لأرادته تعالى وعي إرادة الخير. فالشر يأتي إذن من كائن حر الإرادة يمكنه أن يختار الخير أو الشر بينما الله تعالى الكلي الكمال لا يمكنه أن يريد أو يختار واهو نقص وعدم كما مطلق لأن أرادته هي علمه وعلمه هو ذاته وذاته كاملة. هكذا تميز المعتزلة إرادة الله عن إرادة الإنسان.

فرد جميع صفات الله إلى ذاته تعالى جعل المعتزلة تنظر إلى العلم والقدرة والإرادة نظرة تختلف كل الاختلاف عن هذه الصفات في الإنسان. وهذا أمر طبيعي ومنطقي يتفق تماما وتعريفهم لله تعالى إذ يقولون أنه كمال لا متناهي وكل صفة فيه مجرد زعم ومجرد اعتبار ذهني ليس إلا.

البير نصري يادر

دكتور في الآداب والفلسفة

ص: 40

‌أيها الملاح استرح

آن لك أيها الملاح التائه أن تهتدي. . .

فها هو الشاطئ الذي كنت تريده وتبغيه

رحلت أيها الصدق إلى الأبدية!

ولا زال لحنك يرن في أذن الوجود والأجيال.

كنت تريد أن تستشف الحجب لترى اللانهاية.

فها أنت فيها. فحدثنا ستسمعك القلوب النقية.

لأن الآذان البشرية أصمتها ضراخ ذبائح الفضيلة.

أيها الملاح لقد وصلت واسترحت. وتركت لنا الحيرة والعذاب!

بالأمس وعلى صفحات (الرسالة) كتبت لك.

أيها الملاح التائه يحبك قلبي.

لأنك مثله ولأنك ملؤه.

واليوم اكتب لك على صفحات رسالتك.

أيها الملاح استرح.

فقد طالت حيرتك وكثر تعبك.

وهنيئا لك. . . فاطو شراعك.

فقد آن لك أن تصل وعليك السلام.

عزت حماد منصور

مؤلف عبقرية علي طه

ص: 41

‌بين الأمير شكيب وعزت باشا

كان المغفور له الأمير شكيب ارسلان صديقا حميما لصاحب المقام الرفيع عبد العزيز عزت باشا. وقد أقاما بسويسرة سنين متقاربين متقابلين وكان يتحف صديقه من وقت إلى أخر بفكاهة أو نكتة مليحة تسلية له وللأصدقاء.

وحصل أن مرض الأمير شكيب وقام بعلاجه طبيبة الدكتور بيكل أحد مشاهير الأطباء في جنيف، وصارت بينهما وبين هذا الطبيب مودة، فنظم الأمير بعد شفائه قصيدة ثناء على الدكتور لاهتمامه به ونجاجه، وقد ضمنها أشياء أخرى من باب تسليه دفعها اصدقه رفعة الباشا ليترجم للدكتور مضمونها. وقد فعل.

ولقد ضمني ورفعة الباشا مجلس قص علينا فهي ما كان للأمير شكيب من حسن المحاضرة وجميل العاشرة؛ ومن بين ما عرضه علينا من آثار تلك القصيدة التي حوت مع أفاكه على حد قوله تحميداً وتوحيداً، فرأيت تسلية إقواء الرسالة بها إذا راقت لصاحبها الأستاذ الجليل والسلام.

أحمد نجيب برادة

قصيدة الأمير شكيب ارسلان

سيدي لا عدمته

أريد أن أسليك وأن افكهك من وقت إلى أخر. فإن اللذات لعقلية اهادور لا ينكر. فهذا آبيات نظمتها لتطربك، فيها نكات وملح، وفيها مواعظ وحكم، وفيها تحميد وتوحيد، والله المستعان.

أقول لبيكل مذ قد غدا

يساوره دائي المعضل

قضى بك ربي شفاء لسقمي

وربي لما شاءة يفعل

تفردت في حكماء الزمان

فأنت بحق لهم أول

وأحسنت ترقيع شيخوختي

فلله درك يابيكل

وكنت قليل الرجا في الحياة

فعادت حياتي كما أومل

وذقت لعمري لذيذ الرقاد

وهل للكرى مثل يعدل

ص: 42

وزاد اشتهائي لقضم الطعام

فقد صلح النوم والمأكل

وقد كان لي نفس ضيق

إذا بات يصعد أو يسفل

فقد رجعت رئتي حرة

يجول بها النفس الأطول

وقد كنت أمشي ببطيء عظيم

كمن قد غدا جبلا يحمل

وما كان خطوي خطوا ولكن

خطى سحبتني بها الأرجل

فها أنذا صرت أمشي سريعا

على قدر ما شئت أستعجل

وقد كنت أرجف بردا وإن

تلك النار في جانبي تشعل

فقد صرت مستغنياً عن صلاها

وأخرج ليلاً ولا أسأل

نعم قد أتاني أخيراً زكام

وهذا بكل الورى ينزل

وكان سعال ومن ذا الذي

يمر الشتاء ولا يسعل

على أنه قد مضى كله

وعاد إلى صفوه المنهل

ومهما يكن المرء مستقصيا

فلا بد من أن أنه يغفل

وينسى ولاسيما إن غدت

هناك الخطوب التي تذهل

فاستغفر الله إني نسيت

فللثوم في صحتي مدخل

وما في النبات لعمري نبات

أجل من الثوم أو أمثل

كريه الروائح لكنما

ثناه هو المسك والمندل

وأن الشرايين عند الشيوخ

لتيبس من فرط ما تذبل

فبالثوم يمكن تليينها

ومجرى الدماء به يسهل

فحييت ياثوم من بقلة

خيوط الحياة بها توصل

معيد الشباب وفيه أكله

يطول السباب ولا يأفل

وبيكل الثوم مستحسن

ومن ذا الذي فضله يجهل

فحمدا لربي على صحتي

إلا إنه وحده الموئل

عليه توكلت وهو اللطيف

الذي من يرجيه لا يخذل

ولا بد لي من معاد ولكن

معاد إلى الحق ولا يثقل

ومن حل يوماً بدار الكريم

فياليت شعري هل يهمل

ص: 43

نحب الحياة ولسنا لندري

لعل الذي بعدها افضل

ولكن عمرا طويلا يلذ

ويحلو لكل امرئ يعقل

وإنا برغم كروب الحياة

لنرغب في أنها تمهل

وإن حياة الرجال العظام

حياة لغيرهم تشمل

وإن حياة الرجال الكرام

دوام الدعاء لها يجمل

فأبقاك ربي يا سيدي

بثوب ألهنا دائماً ترفل

وأبقى ذويك جميعاً بخير

سحائبه أبداً تهطل

عملت من الخير شيئاً كثيراً

فأنعم فذا خير ما يعمل

الداعي شكيب أرسلان

ص: 44

‌الأدب وألفن في أسبوع

الأستاذ عباس خضر

محنة وتضامن

أشرت في الأسبوع الماضي إلى مقال الدكتور طه حسين بك عن المازني في الأهرام، واقتراحه فيه على وزير المعارف أن يكتب إلى رئيس الوزراء طالبا تقرير معش لأسرة المازني. وقد عاود الدكتور طه الكتابة في هذا الموضوع بمقال عنوانه (تضامن) دعا فيه - بعد أن أبدى يأسه من استجابة الحكومة - إلى أن يتضامن الأدباء (ويجمعوا أمرهم على أن ينغصوا على رئيس الوزراء ووزير المعارف أمرهما كله، وأن يؤرقوا ليلهما ويجعلوا ليلهما عسيرا، حتى يفرغا من هذه القصة، ويفرغوا منها على النحو الذي نريده لا على غيره من الأنحاء)

وقد بدا شعور الدكتور طه في ذينك المقالين صادقا نبيلا، وقد بدا هو في كتابته إنسانا هماما، وأريد أن أستطرق إلى ما أريد أن أقول بأنه واجه الأمر مواجهة عملية على ما يقتضيه واقعنا وما تجري به الأمور في حياتنا الراهنة، فقد رأى أن آسرة المازني طال بها الانتظار أكثر مما ينبغي دون أن يعمل لها شيء يكفل لها الحياة الكريمة اللائقة بها، فلم يمن بد من أن يتناول الأمر على ذلك النحو، ولكني لا أستطيع أن اكتم إحساسا دقيقا يضطرب في نفسي، وهو أن عرض هذه المسالة على الصحف يمس كرامة الآسرة، وكان ينبغي أن يوجد الباعث على التدبير المنشود لها دون إثارة علنية، فإن لم يوجد هذا الباعث لدة ولاة الأمور أو شغلهم عن الشواغل، نبهوا عليه، وكان ينبغي أن يكون هذا التنبيه نهاية الأعذار. ولكن ما تجري به الأمور في حياتنا الراهنة غير ذلك، فقد تجاوز الكاتبون نهاية الأعذار، وجاء الدكتور طه فحمل حملته الصادقة، ومع ذلك لإنزال (الرسميات) نائمة كان أحدا لم يوقظها. . . ولو استقامت الأمور لما اضطر أحد أن يكتب في ذلك، بل كان يتم كل شيء على ما يرام دون أن يعلم الناس بشيء، فجناية الدولة مركبة من الإهمال أولا، ثم من اضطرار الكتاب إلى المجاهرة.

والرسميات التي تصم إذنيها إزاء الأدباء، ذات حساسية شديد في مواطن أخرى. وليس أبناء الأدباء بأقل استحقاقا الرعاية - لو استقامت الأمور - من أبناء (الباشوات) فليس أباء

ص: 45

أولئك أقل خدمه وأثرا في مصلحة البلاد ورقبها من أباء الآخرين.

وأريد لهذا المناسبة أن أشير إلى شيء ينفع في هذا الصدد، فقد كان في وزارة المعارف لجنة تقرير الكتب للمطالعة الحرة في المدارس الثانوية،، وقد اختارت في العام الماضي كتبا كثيرة يستفاد منه مؤلفوها آلاف الجنيهات، وللآسف البالغ مداه أن المازني لم يقرر له فيها كتاب. ولندع ما فات، فوزارة المعارف تستطيع الآن أن تقرر بعض كتب المازني، فتحقق بذلك أمرين جليلين، أولهما النفع المادي للأسرة، وانتفاع الطلاب بمؤلفات الأديب الكبير، ولاشك أن هذه المؤلفات تنال إقبال الطلاب عليها، كما أن فأفئدتهم من قرائتها محققة، لما فيها من السهولة والطلاوة إلى جانب القوة والغزارة. وهي على حال ليست أقل مما قرر مهما تواضعت!

تلك هي المحنة، وما هي محنة المازني وآسرته فقط، وإنما هي محنة سائر الأدباء في مصر - وجلهم من هذا القبيل - وما ينتظر آسرهم من بعد العمر الطويل. أما التضامن فهو ما دعا إليه الدكتور طه إذ قال:(أما بعد فقد أن الأدباء فيما يعتقد أن ينظموا أمرهم، ويجمعوا كلمتهم، ويؤلفوا جماعتهم، ويضمنوا لأنفسهم أسماع الحكام وغير الحكام ما ينبغي أن يسمعوه) فهل تجد هذه الدعوى صدى عند الأدباء وخاصة كبارهم؟ لقد صار لكل طائفة فيمصر هيئة تنظم أمورها إلا الأدباء، وصار المحامين نقابة، وكذلك المهندسين والأطباء والممثلين والموسيقيين وغيرهم، أما الأدباء فهم يعيشون عيشة فردية بحتة، مع أنهم من أحوج الناس إلى النظام الجماعي لرعاية حقوقهم وتنظيم شؤونهم الأدبية والمادية؛ ولاشك أن الجماعة المنشودة يجب أن يقودها الكبار، وها نحن قد سمعنا صوت الدكتور طه حسين، وبودنا أن نسمع غيره.

مسرحية ليلة من ألف ليلة:

قدمت الفرقة المصرية هذه المسرحية على مسرح الأوبرا الملكية ابتداء من يوم الخميس الماضي، وهي مسرحية غنائية من نوع (الأوبريت) وقد سدت بها الفرقة نقصا كان ملحوظا في إنتاجها في السنوات الأخيرة، وقد جاءت الرواية حقا ليلة حالمة من ليالي ألف ليلة، أحيتها الموسيقى وشاعت فيها الأنغام وإلا لحان.

وتقع حوادثها ببغداد في عصر خليفة من العباسيين غير معين، فليس المقصود أن تكون

ص: 46

رواية تاريخية، وإنما هي أقباس من تلك العهود تتسم بسمات العاصمة العباسية، أخرج منها عمل فني للإمتاع وتغذية المشاعر

تدور الأحداث حول شخصية شحاذ (شحاتة) يتزعم أهل الحرف ببغداد، ويكسب من الشحاذة ما يكفل له أكثر من الكفاف، ويعيش مع ابنته (نجف) ومربيتها، أما زوجته أم نجف فقد اختطفه (جوان) قاطع الطريق الذي يلقاه مصادفة فيشتبكان في مشادة تنتهي بتهديد الأول للثاني، ويعلن شحاتة اعتزال الشحاذة وأنه لابد منتقم من خاطف زوجته، ونعلم مما يدور بينهما أن لجوان ولدا اختطف منه وهو صبي. ويظهر موكب الخليفة في أحد الأسواق فنراه شابا صالحا محبوبا من الرعية وله وزيران حفصويه والمعتصر. تظهر بعد ذلك نجف في منزل والدها ويهبط عليها شاب في زي بستأني، وينعقد بينهما الحب والعهد على الزواج أما شحاتة فإنه يرتكب سرقة ويساق إلى الوزير المعتصر الساخط على الخليفة، وهو وزير فاسد يعكف على الخمر والنساء، فيرى في شحاتة رجلا جريئا فيعفو عن جريمته ويصطنعه لاغتيال الخليفة ثم يضبط شحاتة وهو يحاول قتل الخليفة فيساق إلى السجن ويلتقي فيه بغريمه جوان الذي سجن لأن شحاتة دل الوزير عليه باعتباره قاطع طريق. ويقتل شحاتة جوان في السجن ويهرب من بحيلة. ويقابل المعتصر ويعرف من بعض الدلائل أنه ابن جوان الذي فقده صغيرا، فيقتله أيضا. ويقبل الخليفة بحاشيته وحراسه فيسر لقتل الوزير، ويعلم من حديث شحاتة أن له بنتا اسمها نجف وهي التي هبط عليها متخفيا في زي بستأني، فيأمر بإحضارها، كما يأمر بنفي أبيها من بغداد حتى لا يرى الناس الشحاذ صهرا للخليفة وتحضر نجف وتفاجأ بأن حبيبها البستاني ما هو إلا الخليفة بعينه وينتهي المنظر الأخير بالخليفة ونجف حبيبين على أهبة الزواج.

وحوار الرواية من زجل الأستاذ بيرم التونسي، وهو ينساب على الألسنة طبيعيا، وفيه إشراق وقوة وموسيقى، ولم أجد فيه غير لفظة واحدة قلقة استدعتها قافية الزجل في غير موضعها، وذلك حين أراد الوزير المعتصر أن يتنصل من تهمة التدبير لقتل الخليفة فوصف شحاتة بأنه رجل (قبيح) وهو يقصد أنه كاذب. ويتجه سير المسرحية مع تحريك الأقدار حتى ينال كل فاعل للشر جزاءه، ويسعد في النهاية الخليفة الصالح والفتاة البريئة. وفها نماذج بشرية يتضمن عرضها معاني إنسانية والتفاتات شعورية، وقد تجلى ذلك في

ص: 47

شعور الأب (شحاتة) نحو ابنته (نجف) فقد تحكم حبه أباها وحرصه على سعادتها في سير الحوادث إذ اضطره بهذا الدافع إلى المطاوعة في التدبير لاغتيال الخليفة، وغير ذلك من المواقف الرائعة.

وفي الرواية ما لا يثبت أمام منطق الوقع، من ذلك منظر نجف حين هبط عليها البستاني؛ فقد استقبلته كأنهما على ميعاد، مع أنه أول لقاء بينهما، ودار بينهما الحوار الغنائي غراميا حارا من أول وهله. . . وليس نفي الخليفة لصهره من المدينة بالذي يمنع أن يقال أنه تزوج بنت شحاذ. ولعله من القسوة على الرواية أن تأخذ بذلك، لطبيعتها إذ لا يقصد بها الواقعية، وهي إلى هذا (أوبريت) يمكن أن يتجاوز فيها عن مثل ذلك.

وجهد الكبير الذي اكسب الرواية حياة جديده، هو فلا الإخراج، فقد بذل فيها الأستاذ زكى طليمات كيرا من جهده وفنه، ويبدو ذلك في ناحيتين، الأولى ناحية المناظر الستة التي تسلسلت فيها الوقائع، المسجد، والسوق، ومنزل شحاته، والسجن، وقصر الخليفة، وبيت الوزير. كل ذلك مطبوع الزمان والمكان، تتوزع الأضواء مع كل منضر وعلى كل شخص كائنها تحليل نفسي وقد كان منضر الجو المحيط بنجف في منزلها وهى تحدث مربيتها عن الشمس الساطعة يمثل النهار في رابعته ونحن في الليل. . . الناحية الثانية هي ترتيب مواقف الممثلين وتحريكهم فقد وفقه في ذلك غير أنه يخيل إلي أن (الكورس) استعصى عليه في بعض الموطن لأنه خليط من غير المدربين الأكفاء. والجمال المعدوم في (بنات الكورس) بدرجه مخيفة. وقد بدا (فقر الجمال) جلين في اللائي رقصن. وقد كان الشحاذون أمام المسجد كثيرين جدا فكان هذا المنضر مبالغة لا داعي لها، على حين كان السوق غير عامر بالناس كما ينبغي، والدكانان اللذان به لا تظهر عليها سمة الدكاكين. وكان منظر (بائع الزردة) في السوق ظريفا وقد أضفى على المنظر روح السوق وحركته. مما أعده من قبيل التحليل النفسي في الإخراج ما صنعه الأستاذ زكى طليمات إذا ظهر صدا الوقائع الرئيسة على حركات الجمع المحتشد في كل المواضع التي تطلب ذلك فقد جعل بعض المتجمعين من الصبية وغيرهم يندمجون فيها يقع وتصدر منهم تصرفات مماثلة له، كأنهم ظلال أو خيالات في مرآة. وقد ظهره موقف الخليفة ماراً بالسوق على طريق مرتفع تمر عليها الجياد وتحمل الخليفة فكان منظرا جليلا، ولا شك أنة كان من الضرورة المسرحية

ص: 48

أن يقود الخيل سائسوها لينتظم سيرها على المسرح.

وقد مثل (شحاته) فؤاد شفيق فأنقذا الدور من المصير الذي كان ينتظره لو مثله يوسف وهبي. وقد تقلبت به صروف الأحداث من شحاذ إلى مستشعر للنعمة وراغب في الترف، وواقع في الشدائد فادى ذلك كله احسن أداء وبلغ الغاية في تمثيل الأب الجاني على ابنته الوحيدة، وقام عليه عنصر الفكاهة فكان ظريفا في حركاته وجرس كلامه. والذي يأتي بعده في الترتيب أحمد علام، وكان الدور ملائما له وقد أندمج فيه، واستطاع أن يمثل دور المرح والمجون كما ينبغي على خلاف ما كان في دور امرئ القيس برواية (اليوم خمر) فقد حقق هنا ما كان ينقصه هناك.

ومثلت فردوس حسن دور زوجة الوزير المعتصر التي يهملها الزوج فيسعى إلى الآن تقام منه عن طريق الاتصال بغيره، وقد أجادت في تمثيل الأغراء، وأدت دورها في الحدود التي وضعت له وكان في هذا الدور مبالغة في التهافت على رجل غير أهل لذلك، وظاهر أنه قصد الإغراق في الفكاهة وتجديد نشاط النفوس باستمرار التشويق. وقامت المطربة شهرزاد بدور نجف، والدور لم يتطلب منا كبير عناء في التمثيل، بل كان جهدها منصبا على التعبير بالغناء، فكان غناءها معبراً وظلها خفيفا، وكانت تساير طبيعة المواقف المختلفة، فتهتم في بعضها بالتعبير والتصوير بالنغم، ولم يكن ياس من التطريب في موقعه. وقد حرصت شهرزاد على زينته حتى في المواقف التي لم تكن الزينة مناسبة لها، كما ظهرت عند باب المسجد مع أبيها الشحاذ.

أما كارم محمود فقد مثل الخليفة فلم ينطبق عليه الدور، لأن كان ضعيف الشخصية فكان منظره مثلا على الجواد كمنظر الصبي يحتفل بختانه. . . وكارم مغن مجيد في التمثيل المسرحي، وليته أمكن أن يكون في غير دور الخليفة.

وكانت الموسيقى جيدة متمشية مع الإلقاء والغناء في انسجام ممتع مصورة لجو الرواية في مواقفها المختلفة، وقد وضعها أحمد صدقي فكانت ألحانه عنصرا من عناصر النجاح في هذه (الأوبريت).

عباس خضر

ص: 49

‌البريد الأدبي

أخي الاهواني

فما الإغراب على بابي ولا من زادي. وغيرك ناسياً ذكرت، فإنا وإياك لعلي ماتة بارث من العربية، ما اكثر دقيقاته، وأدق خفيانه. ورأيت الناشئة على اللين الهين تراد، ومن الجزال الرصين تنفر. وأحسست البائنة بين وروث ووارث، وخفت الضيعة له ولنا. فرغبت في الذي أشرت غير مكثر، أخص فئة واعية واقية، تحمل الأمانة مؤداة، حتى لا تنفصم عروة، أو تنحل عقدة، فنضل ماضينا بما أنتج.

وقولتك النقل مغناي عن إسهاب، فما ظنك بمن هم همك، ومد إلى القديم يدا فارغة إلا مما خف، واتجه إليه بعقل لا يسيغ المشكل، ولا يقوى للمعي. أتراه قادرا قدرتك ومالكا ملكك.

أخوف ما أخاف أن تفاجأ غدا بجيل يلزم أحدهم بتحرير نقل قديم فيعيا به، وأن تنظر إلى هذا التراث مركوما في عيبات لا يحل وكاء، ولا يكشف عنها غطاء.

فتراني لهذا اقدر القديم قدره، وأحبب أليه، فهو دون الجديد بمظنة نسيان، وعلى حافة ترك. وما أنا عن الجديد بمرغب، فالحضارات من هذا وذاك. وما لك حيا ترى التحول فناء، والتغير يلي، وعلى أي رأي كنت، فما الجديد إلا تحول من القديم، وامتداد له، وما مضمومات ذاك الأمور من مضمومات هذا. والرأي من الرأي، والشيء للشيء تبع.

وتجرني إلى حديث أطول من ليل العليل، واعقد من ذنب ضب. فعن أي نفس أنت مدير الحديث؟ أهذه النباتية ذات التولد، أم تلك الحيوانية ذات الحركة الإرادية، أمالإنسانية ذات الأفعال الفكرية، أو أنت عند النفس مع قول الجنيد أنها من مستأثر الله تعالى، أو مع المتكلمين في القول باشتباكها بالبدن اشتباك الماء بالعود، أو مع الفلاسفة في أنها لا جسم ولا عرض متعلقة بالبدن تعلق تدبير وتحريك.

ودعاك التشابهان بنية، المختلفان حركة، إلى أعمال فكرة. واليك يساق الحديث. فالنون والفاء والسين - كما يقول ابن فارس: اصل وأحد يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح أو غيرها.

وقول القائل (نفس الله كربته) من ذاك، لأنفي خروج النسيم روحا وراحة. وإذا قيل للماء نفس، فذلك لأن قوام النفس به قولهم (شئ نفيس) أرادوا أنه ذو نفس، بالتحريك.

ص: 50

ثم جاءت (النفس) بالإسكان في شتى معانيها. وأخال اسبقها الروح، وهل هي إلا أنفاس؟

وإذا كان (النفس) بالتحريك، ما تعلم، فهو بالشمومات الصق، والعنبر أو المسك أزكى محمولا عليه وأطيبه. وما أنت بمنكر بعدها حمل (النفس) محمولا، على العنبر أو المسك، محمولا عليه. كما لست بمغيب عليك أن يصف واصف المتصل الجرية بطول النفس والمنقطعة بانقطاعها.

قدم معاوية من الشام فدخل على أبيه أبي سفيان، فقال له يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا عنهم. فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا، فصرنا اتباعا وصاروا قادة. وقد قلدوك جسيما من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه، ولو قد بلغته لتنفست فيه - يريد الاستراحة بعد بلوغ الغاية.

وبعد، فأحذر حذرك، وفهم غير فاهم، من قول القائل،

أخا النفس نفسنا وللنفس نفسها

ونفسك فاشحذها أو النفس فاسفك

إبراهيم الأبياري

إلى الأستاذ أنور المعداوي

جاء من عدد الرسالة رقم 855 في تعقيباتكم بأنكم تسلمتم رسالة من الأديب عبد الله نافع (عطبرة سودان) وفيها يرمي زميله السوداني سيد أحمد فنأوي بأنه يبعث إلى (الرسالة) بأقاصيص منسوبة إلى الإنجليزية حينا وإلى الفرنسية حينا أخر، مع أنه لا يجد هذه ولا تلك، فهذا حق؛ إذ أن تلك الأقاصيص التي تصلكم للنشر ليست من ترجمته ولا من أسلوبه. وأنا أزيح الستار عن الحقيقة فأذكر لكم أنني عثرت يوما على مجلة (قصص الشهر) الصادرة في سبتمبر سنة 1945 فرأيت فيها قصتين إحداهما للقصصي الإنجليزي فيرنيك مولتار وهي قصة (اكسير الحب) ويؤلمني أن أذكر أن هذه القصة نشرت بمجلة الرسالة بالعدد نمرة 760 بتاريخ 26 يناير سنة 1948. إمضاء الأديب الفاضل، والأخرى للكاتب الإنجليزي هانسفورد جونسون وهي قصة (الوحدة) وهذه بدورها نشرت بمجلة (الرسالة) عدد 766 الصادر بتاريخ 8 مارس سنة 1948.

والعجيب أن الأديب قناوي لم يكلف نفسه أي مشقة ولم يحدث أي تغيير في الفكرة أو في

ص: 51

الأسلوب بل كل ما فعله هو تغيير العنوان فبدل (الأعتزال)(الوحدة) وبدل (أكسير الحب)(قوة الحب) فأيقنت عند ذلك أن كل قصصه الباقية لم يترجمها إلا على هذا الأساس، وهو يظن بأن أمره سيظل مكتوماً. ولكن رسالة الأستاذ عبد الله نافع دفعتني إلى جلاء هذه الحقيقة فأني أنتهز هذه الفرصة لأقدم جزيل شكري له لأن الفضل راجع إليه

ص. م. ت

عطيرة سودان

رسائل كبار العلماء:

بين شيوخ الأزهر الإجلاء طائفة ممتازة يطلق عليها - هيئة كبار العلماء - وقد اشترط القانون لنيل عضوية هذه الهيئة الموقرة شروطا منها بل من أهمها أن يكون الراغب فيها ذا مكانة علمية سامية، ثم يتقدم بين يدي رجالها الأوائل بكتاب مستقل أو بحث خاص من تأليفه، فإن حاز الرضا قبل صاحبه عضوا به وأنزل منزلة رجالها الأدبية ومنح رواتبهم المادية. وهذا نهج لاعوج فيه ولا غبار عليه، لأن العلم يجب أن يكرم بتكريم أهله وإنزالهم المنازل اللائقة بهم. وإذا كان يجب تكريم هؤلاء العلماء الأفاضل فإن عليهم واجبات يؤدونها للعلم وأهمها نشر مؤلفاتهم القيمة ورسائلهم الفذة التي أهلهم لنيل الشرف بانتمائهم لهيئة العلماء.

إن تقديرهم الحق لا يكون إلا عن هذا الطريق. ومما يكبرهم لدى الخاصة ويعلي أقدارهم لدى المثقفين أن يرى هؤلاء وأولئك أثارهم العلمية مزدانة بها المكاتب تردد الألسن الإشادة بها والثناء عليها لما تحويه من دقائق البحث وطرائف الفكر وسعة الإدراك للموضوع ولما يشع من جنباتها وتنطق به صفحاتها من نور الحق وضياء اليقين، وأنه لمؤلم أن لا تجد هذه الرسائل طريقها إلى الحياة، ومؤلم كذلك أن تموت في مهدها وتلف في أقماطها لفة البلى والفناء.

(الأقصر)

علي إبراهيم القنديلي

ص: 52

‌الكتب

معنى النكبة

للأستاذ قسطنطين زريق

الأستاذ قسطنطين زريق عميد الجامعة السورية رجل من الرجال المشهود لهم بالقدوة والكفاية في المؤلفات الوطنية والقومية، وقد كان كتابه الأول (الوعي القومي) من الكتب القيمة التي تفخر بها المكتبة العربية. ولا ريب أننا بحاجة ماسة إلى مثل هذه الكتب. أما كتابه (معنى النكبة) فيعالج نكبة فلسطين وما انطوت عليه من دروس وعبر؛ وهو يدعو كل فرد من أفراد الأمة أن يؤدي واجبه لا أن يلقى التبعة على غيره فيقول:(لست ادعي أنني في هذه الدراسة المقتضية لمحنة العرب في فلسطين قد اخترعت البارود أو بلغة هذا العصر القنبلة الذرية، أو أني اكتشفت الدواء الشافي لعلاتنا جميعا، وإنما هي محاولة لتصفية تفكيري في هذه الأزمة الخانقة التي يترتب فيها على كل فرد من أفراد الأمة قسطه من الواجب ونصيبه من التبعة. ولا شك في أن أول شرط لحسن القيام في هذا الواجب، صحة الفكر واستواء الخطة) ويحتوي الكتاب على ثمانية أبواب هي (فداحة النكبة)، وفيها يبين لنا فداحة النكبة التي أصابت العرب في مأساة فلسطين؛ فهي نكبة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ومحنة من اشد المحن التي ابتلى بها العرب في تاريخها الطويل على مافية من محن ومآسي. سبع دول تعلن الحرب على الصهيونية في فلسطين فتقف أنأيتها عاجزة ثم تنكص على أعقابها، ثم يجد الجد فإذا النار خافتة باهتة، وإذا القنابل جوفاء فارغة لا تحدث أذى ولا تصيب مقتلا. ويمضي أستاذنا على هذا النحو فيشرح في الفصل الثاني (واجب المفكر) وما هي رسالته فيقول:(هي أن يأخذ على عاتقه قيادة الرأي وسط الاضطراب والحيرة، هي أن يلقى ضوءا على الوضع المتخبط فيظهره على حقيقته ويميز بين مختلف عناصره ووجوهه. وظيفته أن يفرق بين الأسباب والنتائج فلا يقدم الثانية على الأولى، وأن يفصل بين الأسباب البعيدة والقريبة، وبين الأصول والفروع، فيعطي لكل شيء أهميته وبقدره قدره في العملية المعقدة المتشابكة) ويتناول في الفصل الثالث (المعالجة القريبة) وأركانها خمسة في نظره. . . تقوية الإحساس بالخطر، إرادة الكفاح، التعبئة العامة، والتوحيد بين جهود الدول العربية، وإشراك القوى الشعبية والمساومة الدولية

ص: 54

الواعية وهي شروط أساسية للنجاح في رد الخطر الصهيوني وحفظ كيان العرب أما الفصل الرابع وعنوانه الحل السياسي فيتناول فيه رأيه في الحل الأساسي فيقول (أن ما أحرز الصهيونيون من نصر ليس مرده تفوق قوم على قوم، بل تميز نظام على نظام، سببه أنهم يعيشون في الحاضر والمستقبل في حين أننا لا نزال نحلم أحلام الماضي ونخدر أنفسنا بمجده الغابر. الخطر الصهيوني، بل كان خطر اعتدائي علينا لا يرده إلا كيان عربي نتحد تقدمي. وصفات هذا الكيان العربي المنشود هي الاتحاد الفعلي في السياسة الخارجية والاقتصادية والزراعية، وتدرب العقل وتنظيمه بالإقبال على العلوم الوضعية والتجريبية، وتوجيه الجهد الثقافي في الأمة إلى تحقيق أكبر قدر من هذا الانتظام العملي، وفتح للصدر واسعا لاكتساب خير ما حققته الإنسانية من قيم عقلية وروحية) ثم يشرح بعد ذلك معنى النكبة وما أفادتنا من دروس وعبر فيقول: (إن المصائب والشدائد حتى النكبات حافزا للأفراد والجماعات، وعلة من علل تنبهها، ونهضتها ولكنه ليست كذلك في جميع الأحوال؛ ففي بعضها تكون سببا للتقدم، وفي البعض الآخر تكون سببا للانهيار والتبديد والزوال، وهي محك لوضعنا الداخلي الحاضر. فإذا كانت عوامل الرجعية والآن حلال هي المسيطرة علينا فإن هذه النكبة ستزيدنا ضعفا وانحلالا. أما إذا كان لعوامل التقدم والنمو بعض القوة فإن الصدمة العنيفة التي تلقيناها خليقة أن تعزز من قوتنا ونمشي بها قدما إلى الأمام. وعلى كل عربي أن يتفحص حاله ويتبين قدره وليمتحن نفسه ومقدرته على الصمود في وجههم التعسف والإغراء، وليختبر عقيدته إزاء المحن والخطوب ليتفحص تقدميته أما الرجعية وحملاتها. عندها وعندها فقط يكون للنكبة معنى إيجابي بناء.

وأخيرا يختتم الأستاذ قسطنطين زريق كتابه بمقالين نشر أحدهما في جريدة العمل البيروتية بعنوان (صراع بين المبدأ والقوة) والثاني أذاعه من محطة الإذاعة اللبنانية (لماذا نجاهد في فلسطين) والكتاب يقع في 88 صفحة وهو من الكتب التي تفخر بها المكتبة العربية ويجدر بكل مثقف أن يقتنيه.

جمال الدين الحجازي

* * * نقص * * *

ص: 55

‌مبادئ علم النفس التعليمي

تأليف الأستاذ أحمد زكي محمد

على الرغم من أن علم النفس من العلوم الحديثة، إلا أن البحوث النفسية في مصر قد خطت خطوات واسعة في الأعوام الأخيرة. ولعل أهم من عوامل الازدهار هذه البحوث قيام الجمعيات العلمية التي ينضوي تحت لوائها المشتغلون بعلم النفس الذين أخذوا على عاتقهم النهوض بالدراسات النفسية، وتطبيقها في مختلف الميادين، ومن هذه الجمعيات: جماعة علم النفس التكاملي التي تصدر مجلة علم النفس وتعمل على نشر الكتب المفيدة. والجمعية المصرية للدراسات النفسية التي يرأسها الدكتور عبد العزيز القوصي عميد معهد التربية للمعلمين ووكيلها الأستاذ أحمد زكي مؤلف كتاب: مبادئ علم النفس التعليمي الذي نقدمه اليوم لقراء الرسالة. والمؤلف الأستاذ علم النفس بمهد التربية بالزمالك، وكتابه هذا خلاصة تجارب وخيرات طيلة خمسة عشر عاما، فلا عجب أن يكون الكتاب تحفة علمية تحبب علم النفس لكل قارئ.

وتأتي أهمية هذا الكتاب من أنه تطبيق لعلم النفس في ميدان التربية. وهذا هو أهم فروع علم النفس. ويشتمل الكتاب على القسم الأول من هذا الفرع وهو دراسة الطبيعة البشرية. بدأه المؤلف بالكلام عن صلة علم النفس بالتربية، ثم لمحة من تطور علم النفس. وقد (شرح) الطبيعة الفطرية البشرية تشريحا يبسط دراستها فحسب إذ أنها وحدة متكاملة. فتحدث عن الغرائز وأسهب في الاستعدادات الفطرية والاجتماعية، وفصل الكلام عن النشاط العقلي والوظائف العقلية المختلفة: طبيعتها واتجاهاتها. وقد أكثره الأستاذ المؤلف من أراد الأمثلة التي استقاها من الحياة الاجتماعية حتى يقرب النظريات الأذهان. وختم الكتاب الحديث عن الذكاء ومقاييسه. وهذا هو الموضوع هو عنوان أول منشورات الجمعية المصرية للدراسات النفسية لركس نايت (ترجمة الأستاذ عطية محمود هنا).

وليس من الشك في أن المكتبة العربية في الحاجة إلى مجهودات أمثال الأستاذ أحمد زكى. وأنا نأمل أن يتحفنا قربا بأجزاء الثاني الذي يبحث في التشكيل الملائم لطبيعة البشرية حتى تكمل الفائدة ويعم النفع، فإن بحوثه في مجلة علم النفس قد شغفتما به حبا، فزاد شوقنا إلى كتبه.

ص: 56

محمد محمد علي

ليسانس في الأدب

ص: 57