الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 859
- بتاريخ: 19 - 12 - 1949
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
استمعت إلى الشاعر وهو يخاطب (الموسيقية العمياء)، وأستمع إلية أخرى مرة وهو يقدم إلينا الصورة النفسية الثانية، مخاطبا فيها ذات الغلالة الرقيقة النائمة تحت نافذتها المفتوحة في ليالي الصيف المقمرة. . . هناك في قصيدة (القمر العاشق) في الصفحة العاشرة من (ليالي الملاح التائه):
إذا ما طاف بالشرفة
…
ضوء القمر المضني
ورفَّ عليك مثل
…
الحلم أو إشراقة المعني
وأنت على فراش الطه
…
ر كالزنبقة الوسنى
فضمي جسمك العاري
…
وصوني ذلك الحسنى
أغار عليك من سابٍ
…
كأن لضوئه لحنا
تدق له قلوب الحور أش
…
واقا إذا غنّى
رقيق اللمس عربيدٌ
…
بكل مليحةٍ يعنى
جريءٌ أن دعاه الش
…
وق أن يقتحم الحصنا!
تحدَّر من وراء الغيم ح
…
ين رآك واستأنى
ومسَّ الأرض في رفقٍ
…
يشق رياضها الغنَّا
عجبت له، وما أعجب
…
كيف استلم الركنا؟
وكيف تسوَّر الشوك
…
وكيف تسلَّق الغصنا؟
على خديك خمر
…
صبابةٍ أفرغها دنَّا
رحيق من جني الفت
…
نة لا ينضب أو يفنى
وفي نهديك طلَّس
…
مان في حلَّهما افتنَّا
إلى كنزها المعبود
…
بات يعالج الرَّدنا!
أغار؛ أغار أن قبَّل هـ
…
ذا الثغر أو ثنَّى
ولفَّ النهد في لينٍ
…
وضم الجسد اللدنا
فإن لضوئه قلبا
…
وإن لسحره جفنا
يصيد الموجة الغدرا
…
َء من أغوارها وهنا!
وكم من ليلةٍ لمَّا
…
دعاه الشوق واستدنى
جثا الجبار بين يَديك
…
طفلاُ يشتكي الغبنا
أراد فلم ينل ثغرا
…
ورام فلم يصب حضنا
موتك ذراعه رسما
…
وأنت حويته فنا!
عصيت هواه فاستضرى
…
كأن بصدره جِنَّا
مضى بالنضرة الرعن
…
اء يطوي السهل والحزنْا
يثير الليل أحقادا
…
وصدر سحابة ضغنا
وعاد الطفل جبارا
…
يهز صراعه الكونا!
فردى الشرفة الحمرا
…
َء دون المخدع الأسنى
وصوني الحسن من ثورة
…
هذا العاشق المضنى
مخافة أن يضن الن
…
اس في مخدعك الظنا
فكم أقلقت من ليلٍ
…
وكم من قمر جُنَّا!
أحدثك في هذه القصيدة أول ما أتحدثك عن الموسيقى؛ الموسيقى التصويرية التي تصاحب المشهد التعبيري. ويجب أن نفرق بين لونين من الموسيقى: هما موسيقى اللفظ وموسيقى النفس. . . نفرق بينهما ما دمنا ندرس الشعر هذه الدراسة الجديدة، ونفهمه هذا الفهم الجديد، ونقومه بتقويم الأداء النفسي الذي قدمت إليك صورة وألوانه ومراميه.
شاعر الأداء اللفظي هو من يعني بالموسيقى الخارجية ليجذب سمعك، وشاعر الأداء النفسي هو من يعني بالموسيقى الداخلية ليجذب قلبك. . . وهنا مفرق الطريق بين موسيقى تستمد رنينها من اللفظ وحده لتهز منافذ الأذن ومن موسيقى تستمد رنينها من النفس لتهز مسارب العاطفة! نريد في الأداء النفسي تلك الموسيقى الداخلية، الموسيقى المعبرة تمام التعبير عن حالة شعورية خاصة، طبعت أداء الشاعر بطابع صوتي خاص، تلمسه في انسياب النفس الشعري أو تهدجه، في إسراعه أو إبطائه. . . في اندفاع النغم الشعري أو تموجه، في ارتفاعه أو انخفاضه. مثل هذه الموسيقى الداخلية تنقل إليك نقلاً أمينا كل شحنه
من تلك الشحنات الانفعالية المصبوبة في حقول التجربة، حتى لتستطيع أن تميز كل لحظة زمنية عاشها الشاعر وتركت ظلها في نفسه وحسه فلحظة الغضب مثلاً لها جوها الموسيقي الخاص، وكذلك لحظة الألم واللذة، ولحظة الدهشة واللهفة، ولحظة الأسى والحنين. . . هذا الشاعر الغاضب في موقف من مواقف الضيق والثورة، تجده هناك: في تلك الموسيقى الصاخبة النغم، ذات الرنين العاصف، ذات المسافات الصوتية الطويلة. وهذا الشاعر النشوان في موقف من مواقف الفرح والبهجة، تجده هناك في تلك الموسيقى الراقصة النغم، ذات الرنين الحالم، ذات المسافات الصوتية القصيرة. وهذا الشاعر الملتاع في موقف من مواقف الألم والحسرة، تجده هناك: في تلك الموسيقى الهادئة النغم، ذات الرنين الخافت ذات المسافات الصوتية المترجحة بين الطول والقصر. . . الطول حين يتشح التعبير بوشاح الحزن المستكن في أغوار النفس تطلقه لحظة من لحظات البث والشكاة، والقصر حين يصطبغ التعبير بصبغة اللهفة العابرة اللوعة التي تلهب الشعور ولا تقيم. وهكذا تجد الموسيقى والتصويرية الصادقة في شعر الأداء النفسي، وهكذا تجد علي طه. . . لقد كان ذلك الشاعر الذي يمثل النموذج الموسيقي الثالث بمسافاته الصوتية القصيرة في (الموسيقى العمياء)، وهو ذلك الشاعر الأخر الذي يمثل النموذج الموسيقي الثاني في (القمر العاشق). . . هو هناك الشاعر الملتاع، وهو هنا الشاعر النشوان!
ونعود إلى موسيقى اللفظ وموسيقى النفس لنقول إننا لا ننكر اثر الموسيقى الأولى في الصياغة الشعرية، ولكن الذي ننكره هو أن يقتصر عليها الشاعر ويوجه إليها كل عنايته؛ ذلك لأن الموسيقى الخارجية من شأنها أن تخاطب السمع وحده دون أن تتسلل إلى تلك القوى الخفية المتناثرة في أفاق الشعور، وإذا كان هذا الأثر يبدو ضئيلاً إذا وقف وحده في الميدان، فإنه يحتل مكانه من غير شك إذا استند إلى الموسيقى الداخلية واعتمد على قيمها الصوتية في النهوض بالأدراء. . . أن موقف الشاعر بين الموسيقى النفسية والموسيقى اللفظية، أشبه بموقف المايسترو بين النوتة الذي يضع أصولها بنفسه وبين فرقة كاملة من العازفين: هذه الألفاظ التي تنقل النغم إلى قارئ الشعر تقوم مقام العازفين الذين ينقلون النغم إلى سامع الموسيقى، كل قيمتهم تتمثل في انهم أدوات ناقلة، النوتة هي التي تمدهم بأصول الأداء الموسيقي كما يجب أن يكون، ومن وراء النوتة يقف المايسترو ليشرف على هذا
الأداء. . . أن المايسترو هنا يمثل الشاعر هناك، والنوتة الفنية تمثل الموسيقى الداخلية، ومجموعة العازفين تمثل مجموعة الألفاظ: الفضل كل الفضل للنوتة الموجهة وللقائد المشرف، وبغير هذا وتلك تبدو لك ضآلة الأدوات الناقلة إذا وقفت وحدها في الميدان. . . والأدوات الناقلة التي أعنيها بهذا التعبير هي مجموعة العازفين في الفرقة الموسيقية ومجموعة الألفاظ في الصياغة الشعرية! ولعل هذا التفسير المادي يوضح لك الفارق البعيد بين موسيقى اللفظ وموسيقى النفس، ومدى التفاوت العميق بين أثريهما كعنصري تنغيم في تلوين الانفعالات الذاتية في التعبير.
بعد هذا ننتقل بمجهر التحليل إلى زاوية أخرى من زوايا الأداء النفسي، ونعني بها زاوية (الملكة التخيلية) في شعر علي طه. . . أن أول مزية من مزايا هذه الملكة هي (التجسيم)؛ التجسيم الذي يجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كوناً يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على المس صورة تدركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي وأن تراها العيون. . . هذه القيم الشعرية النادرة تحتشد إحتشاداُ كاملاً في قصيدة (القمر العاشق). هذا القمر الذي أضفى عليه الشاعر من الصفات ما يسلكه في عداد الأحياء، هو النموذج التجسيمي للحركة الجامدة حين تنفث فيها الملكة التخيلية كل معاني الحركة المتوثبة. . . وهي حركة مادية في المقطوعة الأولى تتلوها حركة نفسية، وتتجاوب الحركتان على التعاقب فيما يرد بعد ذلك من مقطوعات. وما قيمة الأداء الذي ننشده إلا في هذا التتبع النفسي الدقيق لكل مشهد تلتقطه العين ويتملاه الخيال، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل هزة من هزات الوجود الخارجي، ويحدد مكانها من دائرة الشعور والوجدان!
هذه القصيدة تروي لنا قصة، هي قصة القمر العاشق أو قصة الخيال الفريد؛ الخيال الذي ينقله على جناحه إلى تلك الشرفة التي تمدد فيها جسد يهز (قلب الجماد). . . وتلك هي اللفتة الفنية الأولى التي تخرج بها من الفكرة الشعورية التي طافت برأس الشاعر: إنه يريد أن يرتفع بتصوير الفتنة الطاغية إلى أفق يعلو فوق مستوى الآفاق المألوفة في خيال الشعراء. إنه يريد أن يظهر سطوة الجمال الآسر في ثوب لا يكتفي بإثارة الأرض لأنه أحرى بإثارة السماء. . . وحسبه في تصوره تلك الفتنه أن يتخيل المحب المثار كوكباً من
الكواكب لا بشراً من البشر!
في المقطوعة الأولى تبدأ الحركة المادية حين يرسل المحب المفتون ضوءه إلى الشرفة، وينطلق الأداء النفسي في أثره ليسجل أول ومضه من ومضاته أو أول حركه من حركاته. . . أن العاشق هنا (مضني) يرف ضوءه رفيف (الحلم) ويشرق (إشراقة المعنى)! في كل لفظ من هذه الألفاظ سيل لا ينتهي من الإيحاءات، مصدره قطره تنبثق من هنا وقطره تنبثق من هناك، من تلك الينابيع النفسية التي تطفئ ظمأ التعبير وترطب مسالك الكلمات. . . وفي المقطوعة الثانية تسمع رجع الصدى العميق منعكساً على الصرخة التي يضعها الأداء النفسي في موضعها الطبيعي من الشعر؛ هذه الصرخة يمثلها قوله:(أغار عليك)، وهي رجع الصدى من قوله:(فضمي جسمك العاري) يتبعها قوله: (وصوني ذلك الحسن). . . هذه هي العلاقة النفسية التي تربط بين الألفاظ برباط لا ينفصم، وتنظمها ذلك التنظيم الذي يحدد لكل لفظ مكانه. سمها أن شئت هندسة ألفاظ ومناظر، ولكن لا تنس أنها قبل ذلك هندسة خواطر ومشاعر!. . . ثم ما هذا العاشق الذي (كأن لضوئه لحناً تدق له قلوب الحور)؟ أرأيت إلى أثر التجسيم في الشعر؟ أن التجسيم في الشعر أساسه (التضخم) في الطاقة الشعورية، وفرق بين التجسيم الشعري الذي يبرز خطوط الصورة وبين التهويل الشعري الذي يطمس خطوط الصورة، وإنه لذلك الفرق الذي يكون بين قوة الملكة التخيلية وبين ضعف الرؤية الشعرية! وتطالعك هذه العلاقة النفسية بين الألفاظ مرة أخرى في البيت الثالث والرابع من نفس المقطوعة. . . هذا العاشق العربيد (رقيق اللمس) حين تصغي كل مليحة لندائه وتستجيب لدعائه، ولا يعترض طريقه معترض إذا ما قر رأيه على قرار، ولكنه (جريء) في مواقف التمنع يقدم غير وجل ولا هياب، ويقتحم الحصون على من فيها أن دعاه الشوق ويستلق الأسوار!
هذه هي (الرقة) التي يحويها أول فصل من قصة المحب الصادق يعرضها علي طه أروع عرض نفسي في البيت الأول والثاني من المقطوعة الثالثة: (تحدر من وراء الغيم. . . ومس الأرض في رفق)، هل تستطيع أن تتفيأ تلك الظلال الممتدة على حواشي الألفاظ؟ ألا تحس معي في كلمة (تحدر) ومن بعدها (استأني) ذلك المعنى الذي يحس في خطوات المحب المحاذر الذي يتمهل في سيره ويترفق، خشية أن يحدث صوتاً تستيقظ على أثره
المحبوبة النائمة؟ ألا تشعر أن الكلمتين تنقلان إليك شبح عاشق يتسلل إلى مخدع حسناء في هدأة الليل ثم يرهب الضوء الذي يمزق مجت الظلام، ضوءه الغامر الذي يدفعه دفعاً إلى أن (يمس) الأرض في رفق وحذر؟! لقد طاف أولاً بالشرفة، حتى إذا رآها نائمة (مس الأرض في رفق)، وتسور الشوك، وتسلق الغصن، واستلم الركن. . . أرأيت إلى هذه الوحدة النفسية في تسلسل الخواطر وإلى هذه الوحدة الفنية في تسلسل الألفاظ؟ إنها الهندسة المطلوبة في مثل هذا الأداء!
وتمضي القصة في طريقها إلى فصل آخر أو إلى مرحلة أخرى من مراحل التجسيم الشعري. . . هنا في المقطوعة الرابعة يقدم الشاعر هذا المشهد الجديد الذي مهد له بالمشهد السابق في المقطوعة الثالثة لقد افلح العاشق المضني في الوصول إلى المخدع الموموق، وأصبح الجسد الفاتن أمام عينيه يثير مكامن الغريزة من مرقدها ويدفع بها محرقه في يديه. . . وبدأ المحب العربيد يفتن في حل طلاسم النهود، وراحت أصابعه المحمومة تعالج الردن بغية الظفر بالكنز المعبود! إنها لحظة سكر من لحظات الهوى الغلاب، لحظه يعرفها كل عاشق مفتون كهذا العاشق، حين يصب من خمر الصبابة دناناً على خدود الحسان!
وفي نهديك طلسمان في حلهما فتنا
إلى كنزهما المعبودات يعالج الردنا
وتمهل إذا بلغت المقطوعة الخامسة، تمهل لأن هنا مركزاً من مراكز التحول في خطوات الأداء النفسي؛ هذا التحول الذي يفرضه على الشاعر انتقال العدسة من وضع إلى وضع، ليلتقط الصورة من زاوية رئيسية يندفع فيها الضوء من الأمام إلى الخلف حتى يكتشف ما وراء المشهد من آفاق. . . وستتكشف لك تلك الآفاق في المقطوعة السادسة والسابعة على التحديد، أين هو مركز التحول في هذه المقطوعة؟ هو في تلك اللقطة الموحية بأن العاشق المضني قد حاول أن يقبل الثغر، وأن يلف النهد، وأن يضم الجسد. . . وأنه قد مني في محاولته تلك بالخيبة وباء بالخذلان، هناك في المقطوعة السادسة حيث تروعك وثبة الأداء في هذين البيتين:
أراد، فلم ينل ثغراً
…
ورام، فلم يصب حضنا
حوتك ذراعه رسماً
…
وأنت حويته فنا!
ولعلك قد لاحظت أن تلك الصرخة في قوله (أغار عليك) عندما بدأ المقطوعة الثانية، قد تكررت في قوله (أغار، أغار) عندما بدأ المقطوعة الخامسة. . . تكررت لأن الحركة المادية (وأرجوا أن تفرق بين الحركة المادية للفظ وبين المعنى المادي للفظ) كانت هناك حركة واحدة فغدت هنا وهي أكثر من حركه واحدة، ولا بد في شعر الأداء النفسي من أن تستجيب الهزة الداخلية للهزة الخارجية، على مدار النسبة العددية التي تحدث شيئاً من التوازن بين عالمين. . . ولهذا ترى الهزة النفسية الممثلة في تكرار التعبير عن الغيرة قد وزعت على حركات مادية؛ هي الإقدام على التقبيل، والإقدام على الضم، والإقدام على قطف الثمار الناضجة في روض النحور! ولقد كان لضوء القمر في المقطوعة الثانية لحن فأصبح لضوئه في المقطوعة الخامسة قلب، وهو لون آخر من ألوان التجسيم يدعو إليه هذا الجو الشعري الجديد، كما يدعو إليه في أن يكون لسحره ذلك الجفن الذي عناه بقوله:
يصيد الموجة العذراء من أغوارها وهنا!
وفي المقطوعة السادسة تبلغ اللفتة النفسية أوجها عندما يقول: (وكم من ليلة لما دعاه الشوق). . . أن قيمة اللفتة في أنها إشارة إلى كثرة طواف القمر العاشق بشرفة هواه، هذا الطواف الذي أورثه المضني المعبر عنه في أول بيت من أبيات القصيدة:
إذا ما طاف بالشرفة ضوء القمر الضنى!
وتأمل رهافة المبضع حين يشرح العاطفة المشبوهة في لحظات الضعف والهوان، أن كل محب جبار يغدو في مثل تلك اللحظات طفلاً جاثياً بين يدي من يحب، (طفلاً يشتكي الغبن). . . فإذا ما حيل بين الطفل وبين الدمية الحبيبة عاد جباراً من جديد (يهز صراخه الكون)! وأي صراع هو؟ إنه الصراع الذي لا يبقي ولا يذر:
مضى بالنظرة الرعناء
…
يطوي السهل والحزنا
يثير الليل أحقاداً
…
وصدر سحابه ضغنا!
وأستعرض مواكب الألفاظ في هذا الأداء النفسي. . . إستعرضها في (النظرة الرعناء)، وفي الليل الذي (أثير أحقاداً) وفي السحاب الذي ألهب (صدره) ضغنا وعداء. . . وأستعرضها في المقطوعة الثامنة، في (ردى الشرفة الحمراء)، و (صوني الحسن من الثورة)، و (مخافة أن يظن الناس)! وكما طالعتك الملكة التخيلية في مطلع القصيدة فهي
تطالعك في هذا الختام:
فكم أقلقت من ليلٍ
…
وكم من قمر جُنَّا!
ولا تتهم الشاعر بضعف الرؤية الشعرية عندما يقول: (وكم من قمر). . . أنا معك في أن السماء لا تحوي غير قمر واحد، ولكن لا تنس أن في الأرض أقماراً أخرى من المحبين، أقماراً أرضية يصيبها الوجد اللافح بألوان من الجنون!!
(يتبع)
أنور المعداوي
صور من الحياة
قسوة!
للأستاذ كامل محمود حبيب
طلع إلى الحياة طفلاً ضئيلاً يعاني الضوى من سغب، ويشكو الهزال من شظف، ويقاسي الهم من ضياع؛ يقيم على الطوى، ويغض بالضنى، ويشرق بالضيق، وتعلم من أبيه - أول ما تعلم أن المال هو الغاية العظمى، وأنه هو الهدف الأسمى. ورأى أباه وهو رجل ريفي فظ الطبع غليظ القلب شحيح النفس، ينهره في جفوة أن طوعت له نفسه أن يسأله قرشاً، ويرده في غيظ أن طلب إليه حاجة. ثم شعر بابيه وهو يقذفه إلى المدرسة هناك في المدينة ثم ينطوي عنه كأنما نسي أن له في المدينة ابنا ينظر حواليه في حيرة وقلق فيرى أبناء الناس يعيشون في دنيا غير دنياه، ويرفلون في طفولة غير طفولته، وينعمون بعيش غير عيشه، فأنضم على شجن انهمر في قلبه الغض وهو ما يزال لدى الأفق الشرقي من الحياة، انضم إلى شجن عارم فوّار لأنه لا يجد القرش؛ وهو نعيم الحياة ولين العيش ونور العين وبهجة القلب وسرور النفس. وأحس في حاجته إلى المال خشية أورثته الاستخذاء، وضعه علمته الذل، وصغاراً وسمه بالهوان، فأخذ حب المال يتدفق في قلبه جارفاً يصرفه عن إنسانيته ورجولته وكرامته جميعاً؛ والسنون تنطوي، حتى تخرج من مدرسة التجارة المتوسطة، وعين موظفاً ببنك مصر.
وظن رفاقه أن راتبه كفيل بأن يهيئ له حياة كريمة طيبة تخلع عنه ثياب رثه زريه، وتنفض عنه عفر الحاجة وغبار المسكنة وتنسق ما تشعث من حاجاته ومن خواطره، ولكن الأيام راحت تنطوي في غير ريث ولا مهل، وهو في زيه القديم البالي لم يبد علية اثر النعمة ولا سمات الخفض لأنه لا يهدف إلى غاية سوى أن يجمع المال ويكدسه فيحرص عليه فلا ينفقه ولا يبذره. وتقزز زملاءه في البنك من هذا المظهر الوضيع ومن اللباس القذر ومن الوجه الأغبر ومن الشعر المشعث، وأنفوا أن يندس في زمرتهم فتى تشغله الكزازة عن الكرامة ويصرفه الشح عن الترفع فأجمعوا أمرهم على أن ينشروا الخبر على عيني المدير؛ وثار المدير لما سمع فما تلبث أن جذبه من البنك ليقذف به في مخزن الحبوب ليتوارى هناك خلف سحابه كثيفة من الغبار الثائر، وليتيه في ضجة العمل
الصاخب بين الحمال والعامل. وانطلق الفتى إلى عمله الجديد هادئاً لا يستشعر الحيف ولا يحس الجور.
وجاء أبوه - ذات مرة - يحدثه حديث الزواج، فدفعه عنه في رفق ودعه في هوادة، وهو يقول (دع عنك، يا أبي، هذا الحديث. فإن تكاليف العروس وحاجات الزوجة ورغبات الولد أشياء تبهظ الغني وتثقل كاهل الثري. فما بالي وأنا - كما تعلم - موظف صغير أحس الإرهاق والضيق وأشعر براتبي ينوء بأعبائي وأنا عزب. . .) فقال الأب في هدوء (لا بأس عليك أن تعللت بالضيق أو تذرعت بالحاجة ولكن الزوجة المنتظرة فتاة من ذوي قرابتك، ريفية المنشأ والمربى، تقنع بالضئيل وترضى بالتافه، لم يبهرها زخرف الحياة ولا خطفها ألق الحضارة. ثم هي يتيمة، مات أبواها منذ سنة واحدة فورثت عنه كذا وكذا من الأفدنة. . .) فهمس كأنما يتحدث إلى نفسه وقد بدا في نبرات صوته أن أسهل وانقاد (أنها ثروة. . . ثروة طائلة، تكفل لي حياة ناعمة) وأجاب الأب (إنك - ولا ريب - ستجد إلى جانبها راحة القلب وهدوء النفس ورغد العيش. فقال الفتى (ولكني أعجز عن أن أدفع المهر) فقال له أبوه (أما المهر فسأحمل عنك بعضه ليكون ديناً عليك تسدده بعد سنة من زواجك، أي بعد سنة من استيلائك على ثروة الزوجة المنتظرة) وانفرجت أسارير الفتى وتبسط في الحديث، وأقبل إلى أبيه يسأله (أو أستطيع أن أنزع ثروة زوجي من يد أخيها الأكبر؟) فأجابه الأب في ثقة واطمئنان (ومن ذا عساه يمنعك من أن تقوم على شأن زوجك؟) وفي ضحى اليوم التالي انطلق الفتى وأبوه إلى القرية. . . إلى دار العروس. وتحدثا إلى أخيها الأكبر، وهو - إذ ذاك - الوصي على مالها، فما تعسر عليها وما تمنع، فما لبثت الفتاة أن سميت إلى الفتى، وخرج الفتى من دار الفتاة وهو يتوثب فرحاً وسروراً ويتألق بهجة وأملاً.
ورأى الوصي الفتى يسر إلى أبيه بأمر فأحس بما يحس به الثري يقهق جيبه حين يسمع همسات اللص تطوف حواليه فتفزعه عن الأمان والقرار. ولكنه رجل ذو حيله وخداع وذو مكر ودهاء فأسر في نفسه أمراً.
وراح الوصي يعد الجهاز؛ ينفق عن سعة ويبذل في سخاء، يستفرغ الجهد ويستنفذ الوسع، والفتى يرى ويبسم لأنه يستشف آثار البذخ والإسراف فيخيل إليه أن الرجل يكلف نفسه
فوق طاقتها ليرضى هو ولترضى الزوجة، فاطمأنت نفسه وسكنت نوازعه، ثم انطلق ليهيأ لنفسه حاجاتها ويعد للعرس طلباته، يغرق في الأنفاق ويفرط في العطاء حتى كاد أن ينفذ وفره، وفي رأيه أنه يوشك أن يعوض ما فقده وأن يسترد ما أنفق.
وانطوى شهر العسل، والفتى يمرح في بحبوحة من النعيم فيها الصفاء والدعة، ويرشف رضاب حياة سعيدة طبية فيها الهدوء والطمأنينة. انطوى شهر العسل، ثم آفاق الفتى فإذا يده صفر إلا من راتبه، وإذا مال زوجته بين يدي أخيها الأكبر لم ينزل له عن شبر واحد. وأحس الفتى بالألم يخز قلبه وخزات عنيفة قاسية لأنه أضاع ما ادخر في سنوات، ولكن صبابة من الأمل كانت تعاوده - بين الفينة والفينة - فيطمئن لها قلبه وتسكن ثائرته
وحين أحس الفتى الضيق والعنت، انطلق إلى شقيق زوجته يطلب إليه أن ينزل له عن مال زوجته. غير أن الرجل ربت على كتف الفتى في هدوء وهو يقول (إنك فتى صغير السن، لا تستطيع أن تشرف على أطيان زوجك) وأحس الفتى أن الرجل يسخر من غفلته في غير رفق ويهزأ من طويته في غير لين، فهم يريد أن يثور في وجهه ولكن الرجل عاجله بقوله (أتذكر، يا أخي، أن جهاز العروس قد كلفها نيفاً وألف جنيه، وهذا دين على زوجتك أنتظر وفاءه؟ فأطيانها بين يدي رهينة حتى تفي أنت بدينها أو تفي هي. . .) وهبطت كلمات الرجل على قلب الفتى صفعات شديدة تهد من قوته وتعصف بكيانها، ولكن لم يستطع أن يفعل شيئاً، فأنفلت من لدن الرجل وقد ارتاع واستطار لبه.
وبدا للفتى إنه خسر في شهر واحد كد سنوات طواها يستمرئ ضنك العيش ويستعذب جدب الحياة ويتلذذ بالحرمان، ليكون بعد سنوات - رجلاً فيه الثراء والغنى. . . بدا له أنه أضاع ماله فاستشاط غيظاً واحتدمت الثورة في قلبه، ولكن.
وانطوت الأيام فإذا الفتى قد انتكس إلى حاله الأولى، يستمرئ ضنك العيش ويستعذب جدب الحياة ويتلذذ بالحرمان ثم راح يضرب زوجته بالجوع والعرى في خشونة وعنف، لا تأخذه شفقة ولا ينبض قلبه برحمة. والفتاة صابرة لا تتحدث بما تعاني ترفعاً منها وكبرياء، ولا تشكو قسوة الزوج آنفة منها سمواً - حيناً - على هم يضطرم في قلبها عسى أن تجد الرقة في زوجها أو تحس الرأفة من أخيها، والأيام تمر.
وضاقت نفس الزوجة بما تقاسي ونفذ صبرها، فانطلقت إلى أخيها تبثه شكواها وتسر إليه
بكربة نفسها، فما ألقى إليها السمع إلا ريثما يقول لها في فتور (وماذا أعجبك من هذا الفتى الوضيع القذر؟ لو شئت وجدت عندي الرحب والسعة)
وخرجت الفتاة من لدن أخيها الأكبر وقد حطمها الأسى وارمضها الغم، لأنها فقدت العطف من قلب زوجها، وفقدت الحنان من قلب أخيها.
وخشيت أن يجرفها تيار الحاجة إلى الهاوية فآثرت أن تستقر في دار أخيها علها تدرأ هناك غائلة السقوط والانهيار وهي تشعر بالشيطان يوسوس لها بأمر؛ وعلها تسترد ما انطبعت عليها من أنفة وإباء فهل وجدت في دار أخيها غناء عن الزوج والابن، وهما روح الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب؟
يا عجباً للنفس الإنسانية حين يطغي عليها حب الذات، ويعميها شر المال، فتنزل عن الشرف والكرامة والإنسانية جميعاً.
كامل محمود حبيب
اللغة الفلسفية عند ابن سينا
للأستاذ محمد محمود زيتون
(هذه إشارات إلى أصول وتنبيهات على جمل يستبصر بها من تيسر له، ولا ينتفع بالأصرح منها من تعسر علية.)
بهذه العبارة يفتتح ابن سينا كتابه (الإشارات)، ونريد بهذا المقال أن نتعرف على أي نحو وإلى أي غرض أشار ابن سينا ونبه في إشاراته وتنبيهاته.
وكتاب (الإشارات) يحتوي على ثلاثة فنون: المنطق والطبيعيات والإلهيات، وكما يختلف الواحد منها عن الآخرين في موضوعه وغرضه، تختلف كذلك في طريقته للوصول إلى هذا الغرض.
ولقد خلف فيلسوف الإسلام تراثاً جليلاً شغل الفكر الإنساني في كل جيل، وتدارسه العلماء والفلاسفة من بعده في الجامعات، وليس أدل على مكانته التي تبوأها من ابن خلدون:(وترى الماهر منهم - العلماء - عاكفاً على كتاب الشفاء والإشارات والنجاة)، وحلت كتب ابن سينا الفلسفية محل كتب أرسو عند فلاسفة الأجيال المتلاحقة، وأفردوه له بالبحوث الطوال.
ولا عجب إذا كتب (ماكدونالد) في الإنجليزية كتاباً عن (معاني الوهم في التفكير الإسلامي) كان لإبن سينا فيه مكان مرموق. وكتبت الآنسة (جوا شون) في الفرنسية كتابها (ثبت باللغة الفلسفية عند ابن سينا) إلى غير ذلك مما كتبه الطليان عن احتمال إطلاع (ديكارت) على آراء ابن سينا كما ذهب إلى ذلك بسبب نصوص الإشارات التي نقلها (غليوم أو فرني) عن ابن سينا إلى اللاتينية.
وأسلوب ابن سينا الفلسفي في جل كتبه - إن لم يكن في كلها - طريف فازت (الإشارات) من طرافته بأوفر نصيب، تلك الطرافة التي تتجلى في عرض المسائل عرضاً علمياً دقيقاً، ونقدها في تؤدة العلماء، وأناة الفلاسفة، مما نرى شبهاً لها في طريقة (هيجل).
والكشف عن طريقة هذه في الإشارات يستلزم النظر في ثلاث:
أولاً: معاني المفردات التي أشار ونبه بها لغة واصطلاحاً.
ثانياً: تقدير مدى إبداع ابن سينا في هذه المفردات.
ثالثاً: تحديد الظلال السيكولوجية التي تلقيها معاني هذه المفردات.
ففي البحث عن اللغة الفلسفية عند ابن سينا مزاج طريف من اللغة والفلسفة والنفس، وفي كل ميدان حاول ابن سينا وتطاول، وكان له القدح المعلى ولما كان المنطق دهليزاً إلى سائر العلوم كانت أبوابه انهاجاً، والنهج طريق بين واضح سالك مستقيم، وهو منهاج ومنهج وجمعه أنهاج ونهجات، قال تعالى (لكل جعلنا منكم شرعاً ومنهاجاً) وقال العباس (لم يمت رسول الله حتى ترككم على طريق ناهجة)
والطبيعيات والإلهيات غير المنطق في كونه يتوصل منه إلى سائر العلوم. وهي إنما تقصد بذاتها، لهذا كانت أبوابها أنماطاً، والنمط في الأصل نوع من الثياب المصبغة، ولا يقال للأبيض نمط. والنمط أيضا ضرب من البسط. والعرب يشبهون الطرق بخطوط الثياب. قال طرفة يصف الطريق الذي سارت به فيه ناقته (على لا حب كأنه ظهر برجد.) والبرجد هو الثوب المخطط خطوطاً ظاهرة. وجمع النمط أنماط ونماط. قال المتنخل: علامات كتحبير النماط. ويستعمل النمط في المتاع والعلم، فيقال نمط للضرب من الظروب والنوع من الأنواع، والمذهب والفن والطريق والطريقة.
وأذن فقد انتقل المعنى عن الحس إلى المعنوي، من الثوب إلى الطريق إلى الطريقة، كما انتقل معنى (الأسلوب) من صف النخيل إلى الطريق إلى الطريقة. والنويري في (نهاية الأرب) يقسم الباب الخاصة بكيفية العلم والعمل بأسماء الله تعالى إلى عشرة أنماط في السفر.
وهكذا دل ابن سينا بالأنماط على أبواب الطبيعيات والإلهيات كما دل بالأنهاج على أبواب المنطق.
وليس الناس سواء في سيرهم وهذه الأنهاج وتلك الأنماط، لهذا نصب الشيخ الرئيس من نفسه هادياً ومرشداً للضالين والتائهين الواهمين، فمنهم من تكفيه الإشارة، ومنهم من تاه في بيداء الوهم ممن يعوزه التنبيه أو زيادة التنبيه، ومنهم من استغرقته الجهالة فكان له من ابن سينا تبصرة أو زيادة تبصرة، ومنهم من ضلَّ ضلالاً بعيداً فكان له منه حسن الهداية؛ ومنهم من أخطأ التوفيق فكان له منه فائدة، وقد يتفق معه ابن سينا ثم يفترق عنه إلى موعد أو إلى موعد وتنبيه، إلى غير ذلك من تذكير له أو تذكرة ثم تذنيب على إشارة أو تحصيل
أو زيادة تحصيل. وبعد هذا كله لا تفونه النكتة.
نظرة في هذه المفردات ثقفنا على الصلة الوثيقة بين دلالاتها وبين علم النفس. إذ يقول مثلاً في مضلع النمط الرابع في الوجود وعلله (تنبيه: (وفي نسخة إشارة) اعلم إنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس وان. . . وأن. . . وأنت يتأنى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بطلان قول هؤلاء، لأنك ومن يستحق أن يخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات في هذا النص تنبيه على وهم باطل، والوهم في الطبيعيات والإلهيات يعارض العقل في مأخذهما، والباطل يشاكل الحق في مباحثهما. وبعد أن نبه على هذا الوهم دعا إلى التأمل في هذا الوهم لكي نعلم بطلان قول هؤلاء الواهمين.
ويقول (وهم وتنبيه: ولعل قائلاً منهم يقول: أن الإنسان مثلاً إنما هو إنسان من حيث له أعضاء من يدعون وحاجب وغير ذلك، ومن حيث هو كذلك فهو محسوس، فننبهه ونقول له. . .) فهو يعرض للوهم عرضاً أميناً غير مشوه، ثم ينقض عليه بتنبيهه إلى فساد هذا الوهم، ثم يتلوه تذنيب أي تفريع لهذه الفكرة فيقول:(تذنيب: كل حق فأنه من حيث حقيقته الذائبة التي هو بها حق فهو متفق واحد غير مشار إليه، فكيف ما ينال به كل حق وجوده) ويظل يأتي بتنبيه ثم تنبيه ثم إشارة بعد إشارة ويستأنف تنبيها آخر يرد فيه بإشارة ثم تنبيه على أوهام حتى يخلص من كل هذا بفائدة.
هذا، ولأن دلت التنبيهات والإشارات على الجانب النقدي من أفكار ابن سينا في (الإشارات) فإن تلك الفوائد التي يأتي بها بين الفينة والأخرى تدل على الجانب الإيجابي أو البنائي في فلسفته.
ويقول (هداية): إذا فرضنا جسماً يصدر عنه فعل، فإنما يصدر عنه إذا صار شخصه ذلك الشخص المعين، فلو كان. . .) والبارز في هذا النوع أنه جدل لم يبلغ حد البرهان بالمعنى الصحيح، إذ البراهين عند ابن رشد أنواع هي: البرهاني، الجدلي، الخطابي، المغالطي، كما هو مفصل بكتاب (مناهج الأدلة).
ويقول (مقدمة: المعنى الحسي إلى مثله يتجه (هكذا) الإرادة الحسية والمعنى العقلي إلى مثله يتجه الإرادة العقلية، وكل معنى يحمل على كثير غير محصول فهو عقلي) يأتي ابن سينا بهذه المقدمة لإثبات النفوس الفلكية، ويأتي بعدها بإشارة إلى النفس الفلكية ذات إرادة
عقلية، وهذه الفكرة الأخيرة ولا شك في حاجة إلى تلك المقدمة التي هي بمثابة مدخل لها. وبعد الفراغ من تبيان امتناع كون القوى الجسمانية غير متناهية التحريك بالقسر يأتي بمقدمة لبيان امتناع كونها غير متناهية التحريك بالطبع أيضا، ويتلو هذه المقدمة مقدمتان بعدهما يشير وينبه ما شاءت له الإشارات والتنبيهات.
ويقول: هداية وتحصيل: فقد بان لك. . . فيكون كذا. . . وقد علمت أن. . . فنكون كذا. . . وقد علمت. . . فيجب إذن أن يكون. . . وأن يكون. . .) ولا شك في أن هذه الهداية محصورة في قوله (بان لك) و (علمت) ولا شك أيضا في أن التحصيل يمثله قوله (فيكون) و (يجب أن يكون) وهما بمثابة نتيجة منطقية مترتبة على ما سبق تبيان وعلم. ثم هو يأتي بعد هذا بزيادة وتحصيل، فيقول: وليس يجوز كذا. . . ويلزم كذا فيجل أن يكون كذا ويعقب بزيادة تحصيل فيقول (فمن الضروري إذن أن يكون. . .) أي أن النتيجة صارت من القوة بحيث صارت ضرورية (أو من الضروري) على حد تعبيره. وثمت نوع غير التنبيه بجعل غير اليقظان كالنائم يقظان، ذلك هو التبصرة، وفيه يجعل غير البصير كالأعمى يرتد بصيراً، والفرق بين التبصرة والتنبيه أن البحث في تلك أوضح مما في ذاك. وعند المبالغة في حث الغافل عن إدراك شيء حاضر أمام عينية إنما يكون باتهامه بالعمى أكثر من اتهامه بالنوم، والحث بهذا النوع - على البحث كفيل بأن يصير الأعمى بصيراً ولا سيما في الموضوع الذي نحن بصدده، وهو بيان أن النفس غير البدن، وغير حالة فيه، وذلك موضوع تبصرة من تلك التبصرات السينية. ثم هو يستعمل اصطلاحاً وهو اشد من سابقه واقوى مفعولاً فيقول: زيادة تبصرة: تأمل أيضاً أن القوى القائمة بالأبدان يكلها تكرر الأفاعيل لا سيما القوية منها. وخصوصاً إذا. . . ويزيد هذه التبصرة مرتين بعد هذا.
وهنا نشعر بأن ابن سينا قد انتقل من ميدان الإلهيات إلى ميدان البيولوجيا فيذكرنا بقوانين (التنبيه) وشتى الاستجابات المترتبة على التنبيه وكيف يتم ما يسمى في هذا العلم باسم (التوتر) و (فترة العصيان) ونقف قليلاً حيال هذا الجلال الفلسفي لنرى كيف أن ابن سينا يلقي من الضوء الفلسفي إلى المشكلة بقدر ما تسمح به وأهميتها، فهولا يتفلسف لأنه يريد أن يتفلسف، وإنما التفلسف عنده غالي ثمين أو كما يقول الطفرائي: (غالي بنفعي عرفاني
بقيمتها) ولأن (شرف العقل من شرف موضوع تعقله) كما يقول أرسطو.
وقفة أخرى عند براعة ابن سينا في إقامة القواعد والأصول لعلم النفس التعليمي. فقد كان بهذا سباقاً إلى وضع تصميم لفن (التربية العلمية) إذ ينبه الغفلان بإشارة، ويبصر الأعمى على ضوء الفلسفة، فيستبصر كلاهما على هدى من المعرفة، فلا يعود يخبط أو يتوهم.
وابن سينا لا ينبه بإشارة حيثما اتفق، ولا يبصر الأعمى كيفما كانت التبصرة، وإنما كل شيء عنده بمقدار، كما ينبه كلا بحسب طاقته، فالعبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة، والأعمى يعوزه كشف الغشاوة عن باصرتية، ولا أظن بعد التبصرة زيادة لمستزيد بعد تحصيل الفائدة التي لا ورائها.
وإذا عرفنا أن الإشارة لغة هي الإيماء والتلويح بالكف والعين والحاجب وأن التبصرة لا تكون إلا بهتك الحجب ورفع ما للغياهب من ضغوط، أمكننا أن ندرك إلى أي حد بلغ ابن سينا في براعته التعليمية. فها هو ذا ينتقل من الإشارة بالكف أو الإصبع يتطلبها كل ذهن بليد - إلى إيماء بالعين - يلازم العامة من الناس - إلى التخاطب بلغة العيون حين تأهبت القلوب وتعطلت لغة الكلام. قال لقلب
نسر الهوى إلا إشارة حاجب
…
هناك وألا أن تشير الأصابع
ويربى عليه شوقي إذ يقول
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
…
عيني في لغة الهوى عيناك
وفي انتقال الإشارة هكذا من الكف إلى العين إلى الحاجب مسايرة لاستعداد المرسل إليه، وارتقاء به أو على الأصح منه عن الطريق الحسي الوضع إلى عالم المعاني والأفكار، والفكر قوة كما يقول ومن القلب إلى القلب رسول.
هذا ما تنطوي علية الإشارات والتنبيهات وزيادات التنبيهات والتبصرات وزيادة التبصرات، وما تتطلبه طبيعة كل ذهن من هذه الاصطلاحات (والرجل نفسه يقول في فاتحة الإشارات) وأنا أعيد وصيتي واكرر التماسي أن يضن بما تشمل عليه هذه الأجزاء كل الظن على من لا يوجد فيه ما اشترطه في آخر هذه الإشارة) ولعل هذا مصدر الوحي للغزالي في كتابه (إلجام العوام عن علم الكلام).
وبعد أن يستفيض ابن سينا في بحث ما، يعقب بالتذكير فهو أجمع لمقاصد الفصول المتعلقة
بهذا البحث، والغرض منه هنا إنما هو (إعادة تصوير الجميع معاً) كما يقول الطوسي.
ويستعمل أيضا (متذكرة وتنبيه) فيقول (أليس قد بان لك كذا - وكذا) وهذا الاستفهام الاستنكاري معناه حث الذهن على استرجاع ما قد غاب عنه، وهذه وسيلة لها خطرها في تحقيق النشاط الذهني الذي لا يقل عن التبصير شاناً. بل هو أمس بالحياة النفسية أو الذهنية منه بالحسيات وما يليها.
وانه ليدل قبيل النمط الرابع على (موعد وتنبيه) فيعني به في النمط السادس ويستخدم (النكتة) وهي في اصطلاحه ذكر لمثال من تلك الأمثلة التي تكشف عن الغامض وتجلوه.
وهكذا يمنح ابن سينا ألفاظه حياة لها أطوراها، وبذلك ثار على المعاني الجامدة التي كادت تودي بحياة اللغة والمعاني جميعاً. وليست بدعه ابن سينا في هذا المجال قاصرة على نقل المعنى من الأصل إلى المجاز - فذاك عمل هين لين للأدباء والشعراء - وإنما الإبداع الحق في جعل اللفظ يحمل معنى نفسياً أي في منحه روحاً يتحرك بها ويفعل، وهذه ناحية أقفرت منها اللغة العربية وخلت منها ألفاظها.
وأمعن من ذلك في البراعة ما استجده ابن سينا في كلمة (الوهم) والأصل أنه الطريق الواسع، أو الواضح الذي يرد الموارد ويصدر المصادر، وهو أيضا الجمل العظيم والرجل العظيم. وإذ يقول ابن خلدون (تاهوا في بيداء الوهم) معناه أن الوهم كالبيداء في سعتها على سبيل تشبيه المضاف إليه بالمضاف، وقال لبيد:
ثم اصدر ناهماً في وارد
…
صادر وهم صداه كالمثل
وتقدم (الوهم) في سلم التطور والارتقاء حتى صار سراً نفسياً تترجم عنه خطوات القلب وجمعه أوهام. قال الشاعر: (فلأيا عرفت الدار بعد توهم) والتوهم - بمعنى التفرس - مرحلة انتقال من المادية إلى اللامادية.
ثم اصطبغ الوهم بصبغه معرفية فاعتبره (المختار من قبل التصور وقال لأحمد فكري بصدد كلامه عن العلم) وهو دقيق وبحر عميق، وبالمطالعة حقيقي، ولطالبي العلم يليق، وهو بحث يتناول عند الحكماء: اليقين والشك والوهم والتقليد والجهل) وصرح الغزالي بأنه يسر تحديد العلم بعبارة محررة جامعه للجنس والفصل الذاتيين فإن ذلك متعسر في أكثر المدركات الحسية فكيف لا يعسر في الادراكات الخفية. والشك - عند صاحب دستور
العلماء - هو تساوي طرفي الخبر: وقوعه ولا وقوعه. وقد يذكر الشك ويراد به الظن، كما قالوا أفعال القلوب تسمى أفعال الشك واليقين. وإن لم يتساو الطرفان فاراجح ظن، والمرجوع وهم، ويقول الزبيدي (هو مرجوع طرفي المتردد فيه)
وانتقل الوهم بعد ذلك نقلة واسعة، اخذ فيها صبغة تشريحية ظهر بعدها بطابع سيكولوجي متميز، (فقالوا هو قوة جسمانية للإنسان محلها آخر التجويف الأوسط من الدفاع من شأنها إدراك المعاني الجزائية المتعلقة بالمحسوسات كشجاعة زيد وسخاوتة، وهذه القوة هي التي تحكم في الشاة بأن الذئب مهروب عنه، وأن الولد معطوف عليه، وهذه القوة حاكمة على القوى الجسمانية كأنها مستخدمة إياها استخدام العقل القوى العقلية بأسرها).
هذا ما انتهى إليه الجرجاني وتابعه في غيره، ونستطيع أن نعبر عن قصدهم بالوهم هنا بأنه (غريزة) من شأنا أن تكون قوة فطرية هدفها حماية الكائن.
غير أن الفارابي يرى أن (الوهم هو القوة التي من المحسوس ما لا يحس مثل القوة التي في الشاة إذا تشبح صورة الذئب في حاسة الشاة تشبحت عداوته ورداءته فيها إذ كانت الحاسة لا تدرك ذلك).
أما الغزالي في تقسيمه العلوم فيقول (والعلم الذي يتولى النظر فيما هو بريء عن المادة في الوهم لا في الوجود هو الرياض) ويقول أيضا (الحواس الباطنة خمسة: الحس المشترك، والقوة المتصورة، والقوة المتخيلة، والقوة الوهمية، والقوة الذاكرة. . . وأما الوهمية فهي التي تدرك من المحسوس ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عداوة الذئب، وليس ذلك بالعين بل بقوة أخرى وهي للبهائم مثل العقل للإنسان).
وأخيراً ليس الوهم خلعة صوفية فقالوا إن الوهم (الوهم محتد عزرائيل من محمد (ص): خلق الله وهم محمد من نور اسمه الكامل. وخلق عزرائيل من نور وهم محمد. فلما خلق الله وهم هذا الإنسان من نور الكمال أظهره في الوجود بلباس القمر، فأقوى شيء يوجد في الإنسان القوة الواهمة فإنها تغلب العقل والفكر والمصورة والمدركة وأقوى الملائكة عزرائيل لأنه خلق منه وقالوا (إن الله تعالى جعل الوهم مرآة نفسه ومجلى قدسه، ليس شيء في العالم أسرع إدراكا منه، ثم اعلم أن الله لما خلق الوهم قال له: أقسمت ألا أنجلي لأهل التقليد إلا فيك، ولا أظهر إلا في مخافيك وأفرد أبو الحارث المحاسبي كتاباً في
(التوهم) كما استقصى مكدونالد (معنى الوهم في التفكير الإسلامي).
ولو أن فريقاً من المتفلسفين أقاموا (معرضاً للأوهام) وعرض فيه كل فيلسوف وهمه لتميز ابن سينا بوهمه ماذا هو عقل في صورة حيوان، يقول:(والإدراك قسمان حيواني وأنساني، والإدراك الحيواني إما في الظاهر وإما في الباطن فالإدراك الظاهر بالحواس الخمس والمشاعر والإدراك الباطن من الحيوان بالوهم، وحوله كل حس من الحواس الظاهرة يتأثر من المحسوس مثل كيفيته) ويقول أيضا (ثم في الحيوان قوة تسمى بالمتوهمة والظانة وهي تحكم على الشيء بأنه كذا أو ليس كذا بالجزم وبها يهرب الحيوان عن المحذور، ويقصد المختار، وهي غير المتصورة وغير المتخيلة أيضا) وأخذت مدموازيل جواشون تستعرض في ثبتها الفلسفي كل معاني الوهم والتوهم والوهميان كما وردت في كتب ابن سينا ولا سيما في كتاب والإشارات ومنجاة والشفاء.
ويأبى الرازي إلا أن يجعل هذا الوهم مصدر الغلط في الإنسان: (إن العقل لا يعرض له الغلط إلا من قبل هذه القوة المسماة بالوهم، وذلك سبب انطلاق لفظ الوهم الرأي الباطل مجازاً، تسمية المسبب باسم السبب، فظهر أن تسمية الرأي الباطل بالوهم أولى من تسميته بالخيال، فإن سبب الرأي الباطل ليس هو الخيال بل الوهم) ويقول في موضع آخر (يريد الشيخ بالوهم في هذا الكتاب المذهب الباطل أو السؤال الباطل، وذلك لأن العقل قد يعرض له الغلط من قبل معارضة الوهم إياه فتسمية الرأي الباطل بالوهم تسمية المسبب باسم المسبب مجازاً. . .)
وعلى ذلك فإن ابن سينا في إشاراته إلى الوهم قصد به كقوة وكباطل، ولكل مرماه في اللغة الفلسفية التي ابتدعها ابن سينا، وحدد نطاقها. ولعل في مقالي هذا ما يقنع المتفلسفين بان تراث ابن سينا يتطلب في فهمه وتقديره إحاطة واسعة بشتى ضروب العلم والعرفان التي طرقها فيلسوف الإسلام وجالينوس العرب، وأجاد فيها وأفاد. وهنا فقط تكون الفلسفة حقاً وصدقاً هي علم العلوم).
محمد محمود زيتون
تاريخ الدولة الرسولية باليمن وعلاقاتها بمصر
1229 -
1454م
626 -
858 هـ
للأستاذ احمد مختار العيادي
اختلف المؤرخون حول نسب بني رسول، فنسبهم البعض إلى تركماني، ونسبهم البعض الآخر إلى اصل عربي. ومن القائلين بالرأي الثاني المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي الذي عاش في كنف تلك الدولة قي القرن الثامن الهجري، إذ قال (ونسبهم من يعرفهم إلى غسان ومن لا يعرفهم إلى التركمان).
ورسول هذا الذي تسمت باسم هذه الدولة، هو محمد بن هارون الذي أدناه الخليفة العباسي المستنجد واختصه برسالته إلى الشام ومصر وانطلق عليه اسم رسول وشهر به وترك اسمه الحقيقي حتى جهل. ثم حدث أن انتقل رسول هذا مع أولاده وأسرته إلى مصر إبان قيام الدولة الأيوبية، فأرسلهم السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بصحبة أخيه الملك المعظم توران شاه عند فتحه اليمن. ودخل توران شاه اليمن سنة 1172م (569 هـ) ثم لم يلبث أن عاد إلى مصر سنة 1175م (571 هـ) وصار يحكم اليمن عن طريق نوابه حتى مات سنة 1180م. وحكم اليمن بعد توران شاه عدة من أبناء البيت الأيوبي مات أحدهم مقتولاً وآخر مسموماً.
ولما تولى السلطان العادل الأول الأيوبي ملك مصر، أرسل حفيده الملك المسعود صلاح الدين يوسف بن الكامل - المعروف بأقسيس - إلى اليمن سنة 1215م (621 هـ) وكتب إلى أولاد علي بن رسول والأمراء المصريين باليمن يأمرهم بطاعته. ولقد قويت مكانة بني رسول وعظم نفوذهم في عهد الملك المسعود حتى اشتد خوف بني أيوب على ملك اليمن منهم، واضطر الملك المسعود أن يسجن اثنين من أبناء علي بن رسول سنة 1227م ولكنه أبقى على الإبن الثالث نور الدين عمر وجعله أتايكه.
وفي سنة 1228م (625 هـ) عاد الملك المسعود إلى مصر بعد أن قلد أمور اليمن إلى أتايكه نور الدين عمر وجعله نائبه بها. وتوفى الملك المسعود في مكة أثناء عودته إلى مصر سنة
1229 م (636 هـ) فقام نور الدين عمر يحكم اليمن قياماً كلياً، واضمن الاستقلال بملكها، وأخذ يولي في المدن والحصون من يرتضيه ويثق به، ويعزل ويقتل من يخشاه أو يخالفه، ولكنه مع ذلك اظهر أنه نائب للمسعود ولم يغير سكة ولا خطبة).
ولم يعلن نور الدين عمر استقلاله بملك اليمن وخروجه عن طاعة سلطان مصر إلا في سنة 1232 م حينما ضرب السكة باسمه وأمر الخطباء أن يخطبوا له في سائر أقطار اليمن. ولم يكتف نور الدين بذلك بل أخذ يتقرب من الخلافة العباسية ببغداد ملتمساً منها تشريفه بخلعة السلطنة أي الاعتراف به سلطاناً شرعياً على اليمن. وقد أرسل له الخليفة العباسي المستنصر بالله التشريفة الخليفية والتقليد عن طريق الحجاز سنة 1233 م ولكنها نهبت في الطريق ولم يصل منها شيء إلى اليمن. واضطر الخليفة العباسي أن يرسل غيرها في العام التالي عن طريق البحر - طريق البصرة والخليج الفارسي والمحيط الهندي؛ وعند وصولها اليمن سنة 1234م ارتقى رسول الخليفة منبر مدينة جند وقال: (يا نور الدين! إن العزيز يقرئك السلام ويقول قد تصدقت عليك باليمن ووليتك إياه؛ ثم ألبسه الخلعه الشريفة على المنبر. ولم يكتف السلطان نور الدين بملك اليمن بل حاول السيطرة على الحجاز وانتزاعه من أيدي المصريين، فأخرج الجيوش المصرية من مكة المشرفة مرة بعد أخرى واستعمال عدة من قوادها ونخص بالذكر القائد المصري مبارز الدين علي بن برطاس الذي استسلم لنور الدين ودخل في خدمته سنة 1241 م (639 هـ) وبذا امتد نفوذ بني رسول من مكة إلى حضرموت.
ويروى الخزرجي أن عهد ذلك السلطان انتهى في ذي القعدة سنة 647 هـ (1250 م) عندما اغتاله بعض مماليكه وقتلوه في قصر الجند، كما يروى أن هذا السلطان (استكثر من المماليك البحرية حتى بلغت عدتهم ألف فارس وقيل ثمانمائة، وكانوا يحسنون من الفروسية والرمي ما لا يحسنه المماليك في مصر. وكان معه من المماليك الصغار قريب منهم في العدد خارجاً عن حلقته وعساكر أمرائه). ويلاحظ من رواية الخزرجي أن وفاة السلطان نور الدين عمر كانت في نفس السنة التي توفي فيها السلطان الصالح نجم الدين أيوب في مصر، وهذا يدل على أن فرقة المماليك البحرية التي أسسها نور الدين عمر باليمن تكونت في نفس الوقت الذي تكونت في نفس الوقت الذي تكونت فيه فرقة المماليك البحرية
الصالحية التي أسسها السلطان أيوب. وهذا يدل ضمناً على وجود اتصال وثيق بين مصر واليمن، كما يدل أيضا على بطلان الزعم القائل بان لفظ بحرية يرجع إلى بحر النيل وذلك بعد أن ثبت فعلاً وجود فرقة من المماليك البحرية بعيدة عن مصر والنيل.
ومهما يكن من شيء فقد استطاع قتلة السلطان نور الدين أن يجذبوا بقية المماليك إلى جانبهم وان ينادوا بابن أخ السلطان القتيل يدعى فخر الدين، سلطاناً على اليمن، ويسيروا معه نحو العاصمة زبيد لاحتلالها، ولكن الدار الشمس ابنة السلطان المتوفى استطاعت أن تدافع عن المدينة ببسالة ريثما يجيء أخوها الملك المظفر بن نور الدين الذي كان مقيماُ بحصن المهجم، والذي حينما علم بوفاة أبيه وأطماع ابن عمه في ملك اليمن أسرع من فوره نحو زبيد في فبراير سنة 1250م، وصار كلما مر بقبيلة من العرب استخدم خيلها ورجالها حتى تجمع له جيش قوي أوقع الرعب في صفوف أعدائه. وعلى أثر ذلك اجتمع رؤساء المماليك وأعيانهم وهم غالبية جيش الأمير فخر الدين وكتبوا إلى الملك المظفر يطلبون منه الأمان، مأمنهم على أن يسلموه ابن عمه وجماعة المماليك الذين قتلوا أباه. فأجابوه إلى طلبه ودخل المظفر مدينة زبيد في موكب عظيم في مارس سنة 1250 م. واستطاع السلطان المظفر في ظرف ثلاث سنوات أن يستعيد جمع ممتلكات والده التي استقلت عقب مصرعه وأهمها صنعاء والدملوءة وتعز، كما استطاع أن يقضي ثورة على شرفاء الزيدية ومن انضم إليهم من المماليك في صنعاء سنة 1260م.
وتروي المصادر المعاصرة أنه في سنة 1262 م (659 هـ) سار السلطان المظفر بجيش كبير إلى مكة لأداء فريضة الحج. وهناك (طلعت أعلامه الشريفة وأعلام سلطان مصر، فقال له أحد الأمراء: هلاَّ أطلعت أعلامك يا مولانا السلطان قبل أعلام المصريين؟ فقال له السلطان المظفر: أتراني أؤخر أعلام ملك كسر التتر بالأمس وأقدم أعلامي لحضوري). وهذه العبارة إن دلت على شيء فإنما تدل على مقدار النفوذ الذي اكتسبته مصر في أنحاء العالم الإسلامي عقب انتصار سلطانها الملك سيف الدين قطز على المغول في واقعة عين جالوت بفلسطين سنة 1260 م.
وكيفما كان الأمر، أجمعت المصادر المعاصرة على أن السلطان المظفر كان حاكماً قوياً موفقاً ولقد لقبه الخزرجي بلقب خليفة في آخر حكمه. وتوفي السلطان المظفر سنة 1294
م وخلفه على عرش اليمن ابنه الأشرف عمر ثم ابنه المؤيد داود سنة 1297 م.
وفي عهد السلطان المؤيد (سنة 1318 م) أعيد تنظيم الجيش اليمني على نظام الجيش المصري، فيروي الخزرجي أن الأمير علاء الدين كشدغدي (رتب عساكر السلطان المنصورة على ترتيب العساكر المصرية وجعل لها جناحاً للميمنة وجناحاً للميسرة وجعل خلف السلطان عصاب كثيرة، وركب المماليك بالنفخ وجعل منهم طائفة طبردارية، وركب السلطان بهذا الزي). ويجدر بنا أن نلاحظ بصدد تاريخ هذا التنظيم أنه يوافق عهد سلطنة الناصر محمد في مصر أي في الوقت الذي تبلورت فيه النظم الملوكية في مصر وبلغت ذروة الازدهار، فلا عجب إن صارت مصر في ذلك الوقت قبلة أنظار الدول الإسلامية الأخرى وموضع محاكاتها.
وتوفي السلطان المؤيد سنة 1321 م وخلفه ابنه المجاهد الذي سرعان ما قبض على عمه المنصور بن المظفر وسجنه في قلعة تعز وأعلن نفسه سلطاناً سنة 1322 م. غير أن مماليك السلطان المجاهد تمكنوا من تسلق حصن تعز خفية وأطلقوا سراح أستاذهم المجاهد وقبضوا على المعارضين لسلطته وعلى رأسهم الملك المنصور الذي حل محل ابن أخيه في السجن.
وكان السلطان المجاهد يخشى قوة المماليك البحرية، ويخاف خطرهم ولذا (دارت بينه وبينهم عهود وذمم وكتب لهم ميثاقاً بالأمان والوفاء ونادى لهم بذلك في الأسواق ومجامع الناس). غير أن المماليك البحرية سرعان ما قلبوا له ظهر المجن وثاروا عليه سنة 1332 م وهاجموا مدينتي تعز وجند، وعاثوا فيها فساداً كما هاجموا مدينة زبيد واحتلوها، ولما علم السلطان بما فعله المماليك، أمر بقطع أعطياتهم حتى (تعبوا وباع الكثير منهم عدته وثيابه، وجاهروا السلطان القبيح). ولم يكتف السلطان بذلك بل أمر بإباحة قتل المماليك ونهبهم، ووزع قواته على مختلف الطرقات لحراستها وحفظها من عبثهم. ولم يستطع السلطان كبح جماح المماليك إلا في سنة 1334 م حينما أوقع بهم الأشراف والأكراد هزيمة منكرة في وادي جاحف بالقرب من المهجم، حيث قتل كثير من أعيان المماليك نذكر منهم أزبك الصاربي، ولطيناً المجموري، وأيلة السراجي. واحتل السلطان مدينة زبيد وخطب له على منابرها سنة 335 م.
ويروى الخزرجي في حوادث سنة 725 هـ (1325 م) من عهد السلطان المجاهد أن جيشاً مصرياً يبلغ عدده ألفي فارس، وصل إلى اليمن في شهر رجب (يونيو) من تلك السنة وعليه الأمير سيف الدين بيبرس والأمير جمال الدين طيلان، ومعهم اثنان وعشرون ألف جمل تحمل عددهم، فأستقبلهم السلطان في زبيد، فلما دنو منه ترجلوا وقبلوا الأرض بين يديه وساروا في خدمته ساعة، وألبسوه خلعة فاخرة وعمامة بعدبتين. وبعد أن أقاموا في زبيد عدة أيام صحبوا السلطان إلى تعز. ويضيف الخزرجي أن المصريين عاثوا في المدينة فساداً، فكانوا لا يجدون طعاماً إلا أخذوه بثمن بخس وانتهبوا بيوتاً كثيرة، وضربوا كثيراً من الناس حتى قتلوهم، وقطعوا جميع الزرع في مدينة تعز وضواحيها، وارتفعت أسعار الحاجيات وضاقت البلاد على أهلها.
ولم يرحل الجيش المصري عن اليمن متوجهاً إلى الشام ألا في شهر يوليو (شعبان) من نفس السنة، وقد فرح أهل اليمن برحيلهم.
وتوفي السلطان المجاهد سنة 1363 م وخلفه ابنه الأفضل العباسي الذي تخلل عهده عدة ثورات قام بها الأشراف والمماليك وبعض أخوته. وبالرغم من أن أجزاء كثيرة من الدولة الرسولية استقلت في عهد السلطان الأشرف بن الأفضل سنة 1379 م، فإن نفوذ ذلك السلطان ظل قوياً وظلت وفود الدولة المجاورة مثل الهند والحبشة تفد إلية وتخطب وده وتقدم له مختلف الهدايا. وبعد موت السلطان الأشرف سنة 1400 م صار تولية السلاطين وغزلهم يحدث في فترات قصيرة تتخللها عدة ثورات للمماليك وتخص بالذكر المماليك المصريين المقيمين باليمن والمعروفين هناك باسم (المماليك الغرباء).
وانتهى الأمر باستيلاء بني طاهر على اليمن سنة 1454 م فانتهت بذلك دولة بني رسول.
من كل ما تقدم ترى أن هناك أوجه شبه عديدة بين الدولة الرسولية في اليمن ودولة المماليك في مصر. فلقد عاصرت كل منهما الأخرى تقريباً إذ قامت الدولة الرسولية سنة 1229 م أحد وعشرين سنة قبيل قيام الدولة المملوكية، وظلت تلك الدولة زمناً وعاصرت الدولة المملوكية بمصر حتى سنة 1454 م. وكان سلاطين الدولتين في بادئ الأمر أتباعاً لسلاطين الأيوبيين ثم تمكنوا بقوة نفوذهم وضعف أسيادهم أن يستأثروا بالملك لأنفسهم. واعتمدت كلتا الدولتين على فرق من المماليك ولا سيما المماليك البحرية الذين لعبوا درواً
خطيراً في تاريخ كلا البلدين. هذا وقد عرف عن سلاطين الدولتين بصفة عامه ميلهم الشديد نحو الفنون والآداب وبناء المدارس والمساجد والقصور. وهناك وجه شبه أخير تتلمسه في تقرب سلاطين الدولتين للخلافة العباسية ببغداد لأن اعترافها بهم سوف يقوي من نفوذهم الأدبي ويكسبهم صفة شرعية للحكم. وقد ظلت الدولة الرسولية على ولائها واحترامها لخلافة بغداد حتى بعد أن قضى المغول عليها وقتلوا الخليفة المستعصم سنة 1258 م (656 هـ) إذ ظل اسم الخليفة المقتول يدعى له سائر منابر اليمن حتى أواخر القرن الثامن الهجري. وفي ذلك يقول الخزرجي (في سنة 640 هـ مات الخليفة المستنصر وتولى الخلافة بعده ولده المستعصم بالله أمير المؤمنين أبو احمد، وهو الذي يدعى له سائر المنابر إلى وقتنا هذا من سنة ثمان وتسعين وسبعمائة).
أحمد مختار العبادي
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ محمد سيد كيلاني
الدور الأول
1850 -
1882
3
1 -
أغراضه
بقيت أغراض الشعر في هذا الدور كما كانت علية من قبل. فكان باب المدح يحتل معظم ديوان الشاعر، فالشاعر في هذا العصر مداح ليس إلا، يعيش ليمدح هذا وذاك، وينظم القصائد الطوال في الإشادة بمناقب هذا الأمير أو ذاك الوزير، راجياً صلة أو وظيفة أو ترقية أو علاوة. فإن رأيت شيئاً غير المدح فهو قليل لا يكاد يذكر. وكانت قصائد المدح تبدأ غالباً بغزل متكلف مصطنع.
وكانوا يبدءون قصائد الرثاء بالتحدث عن الموت الذي يسطو على الناس فيختار الجياد منهم. ويشيرون إلى هلاك الملوك وفناء العظماء. ويذكرون استحالة البقاء وأن الموت غاية كل حي، وطريق تسير فيه السادة والعبيد، والأغنياء والفقراء، والصعاليك والأمراء. ثم ينتقلون من هذا إلى ذكر مناقب الفقيد والتنويه بمزاياه وصفاته. ثم يختم الرثاء بإشارة موجزة إلى ما أعد للفقيد في الجنة من نعيم مقيم وحور عين. ومثال ذلك قول الليثي في رثاء عبد الله فكري:
ومن بان في الفراديس ناعم
…
يظل ظليل دوحه يتهدل
يغازل ولدانا وحورا على صفا
…
وفي حسنها من لطفه يتغزل
تبارك من قد خاره لجواره
…
وخيره في أنعم تتذلل
وإذا رثى الشاعر زوجته أو ابنه أو بنته أو أباه وصف أدوار المرض التي تقلب فيها الميت وأشار إلى الطبيب وما قام به من علاج، ومثال ذلك قول صالح مجدي يرثى زوجته:
ولا كان (بدر) جاء يحيي مواتها
…
بطب عسيف كان فيه أذاها
فإن انصباب الماء من فوق رأسها
…
على رغم أنفي كان فيه بلاها
وفي الأخذ منها للدماء مدامعي
…
روت كل أرض لا يقاس فضاها
وفي الخردل الموضوع من فوق ساقها
…
شواظ بقلب فيه شيد حمامها
وهكذا قص علينا الشاعر ما حدث لزوجته إبان مرضها، مستمداً القول من الواقع لا من الخيال. وهذه طريقه جديدة في الرثاء لم تعرف من قبل.
ومنذ عصر سعيد بدأ الشعراء يصفون بعض المخترعات الحديثة كالسفن البخارية وآلات الري والأسلاك البرقية والسكك الحديدية والكباري والقطر وغير ذلك مما ظهر وقتئذ. ولكن الشعر الذي قيل في هذا الغرض كان قليلاً جداّ.
وكان بعض الشعراء في هذا الدور إذا وصف حفلة من الحفلات أو مشهدا من المشاهد انغمس في الواقعية إلى أبعد حد، وحرص على أن يسجل في شعره كل صغيرة وكبيرة مما تراه عينه ومثال ذلك قول عبد الله فكري حينما عاد من مؤتمر المستشرقين:
مولاي قد سرنا بأمرك نبتغي
…
لرضاك ما تسمو به الأقدار
ومنها:
ثم امتطينا للسويد ركائباً
…
لا الركض يجهدها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها
…
كالماء ساعد جريه التيار
سرنا بهن على العشي فأصبحت
…
في (استكهلم) وقد بدا الإسفار
ولقيت صاحب تاجها في قصره
…
والوفد ثم بصحبني نظار
فدنا وصافح باليمين مردداً
…
شكر الخديو يزينه التكرار
فشرعت مقتصدا ًأجاوبه بما
…
أرضاه لا قل ولا إكثار
وهذه الطريقة الواقعية التي أغرم بها بعض الشعراء في ذلك العصر قد جعلت قصائدهم شبيهة بالتقارير التي يدون فيها كل شيء مع مراعاة الترتيب الزماني والمكاني.
وفي عصر سعيد كثر إقبال الشعراء على نظم الأناشيد العسكرية الحماسية وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وأخذ بعضهم يصف القلاع والحصون ويذكر البنادق والمدافع.
وفي عهد إسماعيل تأثر الشعراء بالحياة الاجتماعية الجديدة فذكروا القصور والبساتين والشوارع والميادين ومصالح الحكومة ودواوينها. وأخذوا يشيرون إلى إضاءة المدينة
بمصابيح الغاز وتوصيل المياه إلى المنازل وغير ذلك من مظاهر الحضارة والعمران. وفي أواخر هذا العصر بدأ الشعر السياسي في الظهور. ورأينا قصائد قليلة تنظم في نقد المجتمع وفي الشكوى من تغلغل النفوذ الأجنبي.
وحينما تولى توفيق ارتفعت أصوات الشعراء مطالبين بالإصلاح ورفع المظالم التي حاقت بالشعب. وهكذا اصبح الشعراء ينظرون إلى الصالح العام بعد أن كانوا ينظرون إلى صالح أنفسهم. ولكن يجب أن نقول بأن النظرة الذاتية كانت غالبة فتأمل في قول الساعاتي حين يمدح إسماعيل صديق فيقول:
وحسبك بالإجماع منا فصادح
…
بحمدك غريد وآخر باغم
وقد أجمع الناس واتفقت كلمة المؤرخين من مصريين وأجانب على أن إسماعيل صديق كان مثالاً للظلم والقسوة وعلى أنه هو الذي جر البلاد إلى الخراب والدمار وأرهق الفلاحين وأثقل كاهلهم بالضرائب الفادحة. ولكن الساعاتي لم ير بأساً في الكذب ولم يجد ضيراً من الافتراء. فهو في نظير مصلحة يرجوها أو عطاء يؤمله قد صور الناس مجمعين على التغني بفضائل إسماعيل والإشادة بمناقبه. على أن هذه النظرة الذاتية والتضحية بمصلحة المجتمع في سبيل مصلحة الشاعر قد لازمت الشعراء المصريين حتى هذه الأيام.
وقلت المدائح النبوية في هذا الدور حتى أننا لا نجد للشعراء في هذا الباب شيئاً ذا قيمه اللهم إلا قصيدة بديعة للساعاتي ضمنها مائه وخمسين نوعاً من أنواع البديع.
وظهرت في عهد إسماعيل الأناشيد المدرسية التي يلقيها الطلبة في الحفلات، وفي هذه الأناشيد إشادة بقيمة العلم ومنافعه للأمم والشعوب والترغيب في الجد والاجتهاد والاستعداد ليوم الامتحان الذي يكرم المرء فيه أو يهان كما كانوا يقولون.
وفي هذا العصر أكثر الشعراء من نظم التواريخ وذلك لكثرة ما أقيم من المعاهد والمدارس والمصانع والقلاع والحصون والقصور والمساجد، وقد أرخ الشعراء حفلات أنجال إسماعيل في شعر كثير.
وحينما شبت الحرب بين الإنجليز والعرابيين انضم إلى الحركة العرابية شعراء كثيرون في القاهرة والأرياف وأخذ هؤلاء الشعراء ينظمون القصائد الحماسية في الحض على الجهاد والتحريض على الكفاح وفي هجاء الإنجليز وكل من يتعاون معهم. ومن هؤلاء
الشعراء محمد النجار وله قصيدة جاء فيها (والخطاب لعرابي):
فازحف بجيشك يا مظفر ضاربا
…
في الإنجليز وقاتلاُ سيمورا
واقطع بسيفك أمة قد أمروا
…
أنثى عليهم إذ عدمن ذكورا
ومنها في هجاء الإنجليز:
قوم تربوا في الثلوج فطبعهم
…
يهوى البرود ولا يطيق حرورا
كتبوا لسيدة لهم أن جهزي
…
غنماً لعيد المسلمين كثيرا
يا إنجليز ومن ينادي ميتاً
…
يخطي وكيف أخاطب المقبورا
ولأحمد عبد الغني قصيدة مطلعها:
لعمرك ليس ذا وقت التصابي
…
ولا وقت السماع على الشراب
ولا وقت الجلوس على القهاوي
…
ولا وقت التغافل والتغابي
ولا وقت التشبب في سليمى
…
ولا وقت التشاغل بالرباب
إلى أن قال:
ولكن ذا زمان الجد وافى
…
وذا وقت الفتوة والشباب
ووقت الاتحاد مع التصافي
…
وعقد عرى الإخاء والانتساب
ووقت ليس فيه يليق إلا ال
…
إقامة بالقلاع وبالطوابي
ووقت فيه الاستعداد فرض
…
لتنفيذ الأوامر من عرابي
وامتازت هذه القائد بظهور العاطفة الوطنية فيها ظهوراً لم يعرف من قبل. ولو طال أمد الحرب بين المصريين والبريطانيين لاستفاد الشعر كثيراً. ولكن الحرب انتهت في مدة وجيزة، لذلك انطفأت هذه الجذوة بانتهاء الحرب.
ولما قضي على الحركة العرابية اخذ الشعراء الخديو ينظمون القصائد في مدحه، وقد مزجوا هذا المدح بالتحريض على التنكيل بالعرابين وأطلقوا عليهم اسم (العصاة) و (البغاة). ومن أشهر ما نظم في هذا الغرض قصيدة لمصطفى صبحي باشا دعاها (صدق المقال في مثالب البغاة الجهال) قال إنه ذكر فيها (دسائس الأشقياء الملحدين، ومفاسد الأغبياء المتمردين وكيف قابلوا الإحسان بالكفران والنعمة بالطغيان من مبدأ أمرهم ليوم سفرهم) وطلعها:
تبين عقبي غيه كل معتدي
…
وأمسى العرابي وهو بالذل مرتدي
يعض بنان المستكين ندامة
…
ويقرع بالدلال سن المهند
وعقيب إخماد الحركة العرابية أقبل الشعراء الذين كانوا قد انظموا إليها على نظم القصائد في الاعتذار مما فرط منهم والتنصل مما عزي إليهم من تهمة الاشتراك في حركة العصيان.
وانتشر في هذا العصر الفخر الكاذب. فترى الشاعر يفخر بنفسه ويسند إليها من صفات ما ليس منها. ومثال ذلك قول الساعاتي:
ماذا تريد الحادثات من امرئ
…
من جنده الأمراء والشعراء
فأي الشعراء هؤلاء الذين كانوا من جنده؟ ومن هم الأمراء الذين كانوا من عسكرة؟ وتأمل قولة:
أنا ذلك الصل الذي عن نابه
…
تلو المنون وتلوي الرقطاء
وفمي هو القوس الأبد مقولي ال
…
وتر الشديد وأسهمي الإنشاء
فكر ينظم في البديع فرائداً
…
من دونها ما يلفظ الدأماء
ولا شك في أن هذا بعد عن الحقيقة وكذب وافتراء، وتقليد أعمى لبعض القدماء.
وأكثر الشعراء. فإذا نظم أحدهم قصيدة وصفها بالجودة والانفراد في الحسن، ومثال ذلك قول صالح مجدي:
امولاي هابكرا تتيه بحسنها
…
وتفعل بالألباب فعل مدام
وهذا الشاعر يختم قصائده في الغالب بمثل هذا الفخل الكاذبين. هذا ما يمكن أن يقال عن أغراض الشعر في هذا الدور.
(يتبع)
محمد سيد كيلاني
روح ومادة
للأستاذ ثروت أباظة
صديقي رجل أرضى مغرق في أرضيته. . . نحرص عليه فهو من أنجب محبيها، ويحرص عليها فهي في عينه طريق اللقمة إلى جوفه، واللذة إلى جسده، والقرش إلى جيبه. . . وتفكيره لا يذهب به إلى أكثر من لقمه ولذة وقرش، وحياته أو الحياة كلها في راسخ عقيدته هي هؤلاء الأرضيات الثلاث؛ فالأرض إذن هي الحياة، فهو متمسك بها تمسكه بالحياة، حريص عليها حرصه عليها، فما يمتد له خلفها شدف ولا يلوح له بعدها غاية. . . هو صديق لأن طرق الحياة كثيراً ما ترمي بالند إلى غيره نده. فنحن مختلفان مزاجاً، مفترقان رأيا، مجتمعان في صداقة أشبه ما تكون بتلك القائمة بين الشيوعية والديمقراطية، ولكننا لا نشبه هاتين الجبهتين في سوء الطوية وسواد السريرة. . . وصديقي متبجح. . . فهو لا يخزى مطلقاً أن يعرض آراءه ويدافع عنها وكأنها مثل العالم الرفيعة، بل هو يريد أن يسير على هداه الأغبر، فهو ما يزال يندد بأفكاري الصبيانية الصغيرة في سخرية تواتيه على سليقة.
لنا مكان يجمعنا فكأننا كلنا أصحابه، لا يدور فيه غير النقاش، ولا نقاش يدور به إلا وهو محتدم ولا انتهاء لنا إلا بافتراق الرأي وتباين الفكرة وصفاء النفس. وان أحدا منا لا يحاول أبداً أن يقنع أو يقتنع؛ وإنما نلقي بأقوالنا لمجرد إلقائها، فإذا جاء صديقي هذا كنا جميعاً على جانب وكان هو في الجانب الآخر متمسكاً بأرضيته لا يحيد عنها ولا تتخلى عنه.
وكان أن جاء وأحد الصحاب يتكلم في الأدب، فقعد يستمع وطال الحديث ودار النقاش وهو صامت لا يمد إليه لساناً. . . فسأله أحد الجالسين:
- خيراً. . . تصمت لأول مرة في حياتك. . . فما خبرك!
- أو رأيتني عمرك أتكلم في الأدب؟
- أو شرف هذا؟
-. . . إنما هي حقيقة
- حقيقة مخجلة!
- هذا رأيك
- ورأي لك إنسان
- وما الإنسان في عقيدتك؟
- هو تلك الروح السامية التي وهب الله لها العقل لتفهم، والقلب تسري به العواطف رفيعة، وهو الشعور الرهيف والحس الدقيق الذوق.
- الفن والأدب العالي وسائر ما تعرف به أنت وصحبك هؤلاء ليقنع كل منكم الآخر أنه، فنان وتستتلون أن المخلوق غير الفنان حيوان، وأنكم أنتم وحدكم الصفوة المختارة والرهط. . .
لم أطلق السكوت بعد أن أشار إلينا بسخريته الصفيقة فقلت له:
- من قال ذا. . . وما شأنك والفنان حتى تعرض به. . .
- ما شأني. . . أماسونيةً هي! ماذا تريدني أن أكون حتى أتكلم عن الفن. . . هل حتم عليَّ أن أملأ صفحة مما تملأ حتى أصبح فناناً.
- من قال إن الفنان صفحة
- فما هو إذن
- هو الذي علمه الأدب أن يقول من هو لا ما هو. الفنان هو ذلك الإنسان الذي يحس باللفظ على لسانه وفي عقله؛ وهو ذلك الرؤوف الشفيق، هو ذلك القلب الخافق والشعور الرهيف. إن في المخلوق ناحيتين: ناحية تنتظم العقل والقلب والحس، وأخرى تحوي المعدة وما يتلوها مما وهب الله للحيوان، فمن نظر إلى عقله وقلبه وحسه كان إنسانا، والإنسان فنان لأنه يغلب الشعور على المادية. ومن نظر إلى معدته كان حيواناً، لأنه يبحث دائماً عما يسكت به نهمه.
- الله. . . شرَّع أنت شرَّع. . . على أنني حتى إذا طبقت قولك هذا على نفسي وجدتني إنساناً فأنا أغلب العقل دائماً. . .
- يخيل إليك أنك تغلبه. . . وأنت دائماً تقول إنك تغلب العقل على شعورك وعاطفتك، وهذا كذب لأنك إذا كنت تنظر إلى نفسك دائماً وتفعل فأنت إنما تغلب أنانيتك لا عقلك.
- وما تراني فاعلاً إذا نظرت إلى نفسي بعاطفتي وحسي. أتراني أجد عاطفتي تكرهني. اللهم إنكم جميعاً تعلمون أن أحب خلق الله إلى نفسك هي نفسك.
- نعم نعلم ذاك، ولكننا نرضيها بعمل الخير لغيرنا ويحب الخير للناس. والنفس الإنسانة هي تلك. . . ليست والله لقمة وقرشاً هي حب وعاطفة.
- تتكلم وكأنك جاهل أحمق. . . ألم تقرأ آخر ما كتب علماء النفس. . . ألم يقولوا أن كل الأعمال مردها إلى الغريزة فأين من هذا الشعور والعاطفة. . . فالحب الذي تقول عنه ما هو إلا غريزة.
- هو ذاك ونحن نعلمه قبل أن تسمع به أنت. . . غير أننا نعرف أيضا كيف نهذب هذه الغريزة ونرقى بها. . .
- أرني بربك. . . هذب غريزتي ولك الأجر والثواب عند الله.
- هذا إليك. أنظر إلى الأمور بقلبك وشورك وعقلك تهذب غريزتك وتصبح إنساناً. . . الإنسان هو من يستطيع أن يغلف هذه الغريزة. وعمل الفنون في كل العالم هو أن يضربوا حول الغريزة سياجاً من الوميض يعميهم عنها فيرتفعوا بإنسانيتهم.
- تدعوني إلى أن أغش نفسي.
- بل إلى أن تعيش إنساناً لا حيواناً. . . أدعوك إلى أن تغلب ما ميزك به الله على الحيوان فإذا أنت رفيع النظرة دقيق الحس
- والحقيقة؟
- تدركها وترتفع عنها.
- وعقلي؟
- تدرك به هذه الحقيقة وتسمو به وتصرفه إلى الأهداف السامية من الحياة.
ارتج على الصديق فعالجه أحد الجالسين
- لا تناقش فالله ما قصد واحد منا إلى إقناعك. . . إنها يا بني نفسك وليس لنا معها حيله. . . والله أن كنت قد اقتنعت فأنك ستكابر. والجو على أسوأ أحواله ورؤوسنا مصدوعة. . . فقم إلى جسدك فليس لنا من الفراغ ما نضيعه معك أكثر من هذا.
سكت الأرضي على مضض وما لبث أن استأذن وقام. . . قام لأول مرة مهزوماً على غير اقتناع. . . يحمل في صدره سخيمة الهزيمة ونحن نعلم ولكننا لم تملك أنفسنا أن نشفق عليه.
إنها نفوس إنسانة.
ثروت أباظه
الخطر اليهودي
بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء
للأستاذ محمد خليفة التونسي
البروتوكول الثاني
يلزم لغرضنا ألا تعقب الحروب أي تغييرات إقليمية، فبدون التعديلات الإقليمية ستستحيل الحروب إلى سباق اقتصادي. ومن ثم تتبين الأمم تفوقها في المساعدة التي سنقدمها وأطراد الأمور هكذا سيضع الجانبين كليهما تحت رحمة وكلائنا الدوليين ذوي ملايين العيون الذين لهم على الإطلاق وسائل غير محدودة، وعندئذ ستكتسح حقوقنا الدولية كل قوانين العالم، وسنحكم البلاد بالأسلوب ذاته الذي تحكم به الحكومات الفردية رعاياها.
إننا سنختار من بين العامة رؤساء للإدارات لهم ميول العبيد ولن يكونوا مدريين على فن الحكم، ولذلك سيكون من اليسير أن يمسخوا قطع شطرنج في لعبتنا، بأيدي مستشارينا العلماء الحكماء خصيصاً على حكم العالم منذ الطفولة الباكره. وهؤلاء الرجال - كما هو معلوم لكم قبل - قد درسوا على الحكم من خططنا السياسية، ومن تجربة التاريخ، ومن ملاحظة الأحداث الجارية. والأمميون لا ينتفعون بالملاحظات التاريخية المستمرة بل يتبعون نسقاً نظرياً من غير تفكير فيما يمكن أن تكون نتائجه، ومن أجل ذلك لسنا في حاجة إلى أن نرعى للأمميين قدراً.
ودعوهم يتمتعوا بأنفسهم حتى يأتي الوقت؛ أو دعوهم يعيشوا في أحلامهم بملاه جديدة، أو على ذكرياتهم للأفراح الماضية دعوهم يعتقدوا أن هذه القوانين النظرية التي أوحينا بها إليهم لها القدر الأسمى من أجلهم، وبتقييد أبصارهم إلى هذا الموضوع، وبمساعدة صحافتنا - ننمي باطراد ثقتهم العمياء بهذه القوانين. وسنختال الطبقات المتعلمة أمام أنفسها بعلمها، وستأخذ جزافاً في مزاولة المعرفة التي حصلت من العلم الذي قدمه إليها وكلائنا بغية توجيه أذهانها في الاتجاه الذي نرضاه.
لا تتصور أن تصريحاتنا كلمات جوفاء. ولاحظوا هنا أن نجاح دارون وماركس ونيتشه قد دبرناه من قبل. وسيكون واضحاً لنا على التأكيد الأثر غير الأخلاقي لاتجاهات هذه العلوم
في الفكر الأممي. يتحتم علينا - كي نتجنب الأخطاء في سياستنا وعملنا الإداري - أن ندرس ونستحضر في الذهن هذا الخطر الحالي من الرأي وهو أخلاق الأمم وميولها.
إن نجاح نظريتنا في موافقتها لأمزجة الأمم التي نتصل بها، وهي لا يمكن أن تكون ناجحة إذا كانت ممارستها العملية غير مؤسسة على تجربة الماضي متصلة بملاحظات الحاضر.
والصحافة التي في أيدي الحكومات القائمة قوة عظيمة، بها تحصل على توجيه عقول الناس، فالصحافة تبين مطالب الجمهور الحيوية، وتعلن المسالمين، وتولد الضجر أحيانا في الغوغاء. وفي الصحافة تحقيق مولد حرية الكلام، غير أن الحكومات لم تعرف كيف تستعمل هذه القوة بالطريقة المناسبة، فسقطت في أيدينا. ومن خلال الصحافة أحرزناً نفوذاً وإن ظللنا نحن من وراء الستار. وبفضل الصحافة كدسنا الذهب، ولو أن ذلك كلفنا أنهارا من الدم: فقد كلفنا مفاداته بكثير من بني جنسنا ولكن كل فدية من جانبنا تقوم بآلاف من الامميين عند الله.
تعقيب على المترجم
أما كارل ماركس فهو صاحب مذهب (المادية الثنائية) وتترجم أحياناً (بالمادية الجدلية) تجوزاً، وخلاصة مذهبه أن المادة أزلية متحركة بذاتها منطوية على كل العناصر التي تخلق منها الحياة والعقل وما إليها حسب الطبيعة الكامنة فيها، ومن قوانينها اجتماع الأضداد وتنازعها حتى يغلب أحدهما الآخر، والمغالبة باقية أبدا، وكل صفة من الكيف تنشأ عن صفة في الكم. وهكذا نشأت الحياة والعقل وما إليهما من الأشياء التي تعد غير مادية في العرف، ومؤدى ذلك أن لاشيء في الوجود إلا المادة، فليس ثمت إله ولا أرواح غير المادة، ومن ثم تبطل الديانات جميعاً. وهذه هي نهاية المذهب الذي أخرجه عقل ماركس اليهودي المتنصر، ومن وراء ذلك الشيوعية التي أساسها إنكار الروحانيات وإنكار الامتيازات فلا فرق بين رجل ورجل ولا بين رجل وإمرة. ولا قيمة لشيء لا يقوم، المال با فلا قيمة للفنون ولا الفلسفات ونحوها، ولا سعى إلى هدف غير سد حاجات الإنسانية البدنية، ولا حكم لشيء غير البدن وحاجاته الغليظة. . .
وأما نتشه فقد طبق مذهب التطور الداروني في الأخلاق ونادى بمذهب القوة. فالتنازع سنة الحياة ولا يبقى إلا القوي؛ والأخلاق نوعان أخلاق السادة كالشجاعة والخداع والقسوة
ونحوها: وأخلاق العبيد كالتسامح والشفقة والإحسان ونحوها. والإنسان القوي لا يتقيد بالقانون ولا بالأخلاق وكل هذا مما يرضي اليهود ومما يسيرون عليه في حياتهم إزاء غيرهم وهذا يتفق والسياسة التي ترسمها هذه البروتوكولات.
وهذا الإنجاز المخل في توضيح مذهب هؤلاء وفي مصلحة اليهود من ترويج مذاهبهم - يشير إلى السر ولا يوضحه كل إيضاح. ولنا عودة إلى هذه الموضوعات مستقلة عن التعليقات على هذه البروتوكول أن شاء الله.
محمد خليفة التونسي
في الأيام الخوالي
بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
اشتهر الكاتب التشيكوسلوفاكي كارل كابك بكتابته اللاذعة وأسلوبه التهكمي وتحليله الدقيق في مختلف نواحي الحياة والمجتمع، فضلاً عن أنه كاتب قصص قدير وقد ظهر له أخيراً كتاب (قصص أبو قريفية) يحتوي على صور من الحياة وبعض الشخصيات التاريخية المشهورة في مختلف العصور: والقصة التالية إحدى هذه الصور،
كان يوباتر صانع السلال - وموطنه طيبة (الإغريقية) - جالساً في فناء داره يحيك سلاله، عندما أقبل عليه جاره فلاجاروس مهرولاً صائحاً من بعيد:
(يوباتر. دع سلالك وأصغ! إن أشياء مروعة تحدث!)
فسأله يوباتر وهو يهم بالوقوف (دار من التي أصابها الحريق؟)
فأجابه فيلاجاروس (أنه شيء أسوأ من الحريق. أتعرف ما الذي حدث؟ أنهم يودون أن يقدموا جنرالنا نيكوماكوس إلى المحاكمة! أن بعضهم يقول أنه متهم بالتآمر مع التسالونيين ويصرح البعض الآخر بأنه متداخل مع حزب الساخطين. هيا أسرع إننا مجتمعون في ساحة السوق!
فسأله يوباتر في خمول (وماذا أفعل هناك؟)
فأجاب فيلاجاروس (هذا شيء في غاية الأهمية. إن المكان زاخر بالخطباء. فمنهم من يقول أنه بريء أو منهم من يقول أنه مدان. تعال استمع إليهم.
قال يوباتر (تمهل لحظة حتى انتهي من هذه السلة. خبرني ما هي حقيقة التهمة الموجهة إلى نيكوماكوس.
قال الجار (أنهم لا يعرفونها على وجه الدقة. فأحدهم يقول شيئاً، والآخرون يقولون أشياء؛ وأولو الشأن لا ينبضون ببنت شفة لأن؛ التحقيق لم ينتهي بعد. بيد أن هناك أمور تحدث في ساحة السوق ينبغي أن تراها؛ فبعض الناس يصبح قائلاً أن نيكوماكوس بريء.
- رويدك! كيف يستطيعون القول بأنه بريء في حين أنهم لا يعرفون تمام المعرفة التهمة الموجهة إلية؟
- أن ذلك لا يهم. لقد سمع كل منهم شيئا؛ فهو لذلك يتحدث عنه. ألسنا جميعاً لنا حق
التكلم؟ أعتقد أن نيكوماكوس كان يحاول خيانتنا لدى التسالونين. فقد أخبرنا أحدهم بذلك. فقد قال أن أحد معارفه قد اطلع على رسالة. ولكن أحد الرجال قال إنها مؤامرة ضد نيكوماكوس وأنه يعرف عن ذلك الشيء الكثير. وهم يقولون أن الحكومة ضالعة في ذلك الأمر. أصغ إلي يابوباتر؟ والسؤال هو. . .
- فقاطعه صانع السلال قائلاً: (تمهل لحظة. . . السؤال هو: هل القوانين التي شرعناها لأنفسنا قوانين عادلة أو ظالمة؟ هل تحدث أحد عن ذلك في ساحة السوق).
- (كلا. ولكن هذا ليس بيت القصيد، إنما هو نيكوماكوس)
- (وهل قال أي واحد من الموجودين في ساحة السوق إن أولي الشأن الذين يحققون مع نيكوماكوس شر يرون ظالمون؟)
- كلا لم يتفوهوا بكلمة واحدة من ذلك.
- إذن ما الذي قالوه؟
- ماذا! ألم أخبرك؟! أنهم يتجادلون فيما إذا كان نيكوماكوس متهما أو بريئاً.
- إلي أصغ التي يا فيلاجاورس. لو فرض أن زوجتك قد تشاجرت مع القصاب لأنها تدعي أنه لم يعطها رطلاً كاملاً من اللحم. فما الذي تفعله؟.
- أساعد زوجتي
- كلا. كلا. انك تذهب لترى إذا كانت الأوزان لدى القصاب صحيحة.
- أني أعرف ذلك بغير حاجة لأن تخبرني به أيها الرجل.
- عظيم. ثم انك ترى إذا كان الميزان سليماً.
- لست أيضاً في حاجة لأن تخبرني بذلك يا يوباتر.
- أنا مسرور. وإذا كانت الأوزان والميزان سليمة فأنك سترى كم تزن قطعة اللحم وهنا سيظهر لك من هو الذي على حق: القصاب أم زوجتك. ومن العجب يا فيلاجاروس أن يكون الناس أكثر عقلاً في مسألة خاصة بقطعة من اللحم مما لو كانت مسألة عامة. إن الميزان سيبين هل نيكوماكوس مذنب أو بريء. ولكن، لا ينبغي لهم أن ينفخوا في إحدى كفتي الميزان لكي ترجح الأخرى. فلماذا أذن نصر على القول بأن أولي الشأن الذين يفحصون قضية نيكوماكوس أشخاص مشتبه في عدالتهم أو شيء من هذا القبيل؟.
- لم يقل أحد ذلك يا يوباتر.
- لقد ظننت أنكم على ألا تؤمنوا بهم. بيد أنه إذا لم يكن عندكم من الأسباب ما يجعلكم لا تؤمنون بهم، فلماذا بحق السماء تنفخون لترجيح إحدى الكفتين؟ إما أنه لا يهمكم أن يتبلج ضوء الحقيقة، وإما أنكم ترغبون في الانقسام إلى حزبين حتى تتجادلوا. ألا فليلعنكم الله. إني لا أعرف إذا كان نيكوماكوس مذنباً. ولكني أعرف أنكم جميعاً مدانون لمحاولتكم التدخل في مجرى العدالة.
عجب ما أرد أعواد السلال هذا العام. أنها تلين كالخيوط ولكنها ليست ثابتة على الإطلاق.
- نحن يا فيلاجاروس في حاجة إلى جو أكثر حرارة. بيد أن ذلك الأمر في أيدي الآلهه وليس في أيدينا.
محمد فتحي عبد الوهاب
مرثية طائر
للأستاذ محمد إبراهيم نجا
قصيدة رمزية في رثاء الصديق الكريم، والشاعر العظيم
الأستاذ علي محمود طه، فقيد الشعر العربي.
طائر كان في ذرى الأغصان
…
يتغنى بأجمل الألحان
كان يحيا كما يشاء طليقاً
…
وطروباً كما تشاء الأماني
سابحاً في الفضا حبيناً، وحيناً
…
ثاوياً في خميلة الفينان
كان ملء الوجود صوتاً ندياً
…
حافلاً بالحنان والتحنان
عاش أيامه بإحساس فنا
…
ن، وأحلام عاشق ولهان
طالما هز بالغناء قلوبا
…
عذبتها الأيام بالأشجان
وسقاها الرحيق وهي ضماء
…
تشتكي من مرارة الحومان
كان روحاً مجنحاً في سماء
…
تتحلى بأجمل الألوان
صاغه الله من ضياء وعطر
…
وصفاء ورقة وحنان
هام بالنور والظلال، ولكن
…
لم يهم بالضباب كالغربان
كلما هزه الجمال تغنى
…
بأغان تهز قلب الزمان
كان قلباً كأنه همس ناي
…
عانقته ترنيمة من كمان
يزدهيه الجمال في كل شيء
…
وهو بالحب دائم الخفقان
أسكرته الحياة بالوهم حتى
…
ليرى الغيب مائلاً للعيان
يبصر النور والوجود ظلام!
…
ويحس الربيع قبل الأوان!
ويرى الروض في القفار، ويشفي
…
هـ سراب من حرقة الضمآن!
خير ما في الحياة وهم جميل
…
في حياة المتيم الهيمان
هكذا عاش ذلك الطائر الشا
…
دي، يغني في غبطة وأمان
فهو أنس وسلوه وعزاء
…
في حياة المعذب الحيران
غير أن الزمان، وهو بكاءٌ
…
من غناءٍ وفُرقةٌ من تدان
أبصر الطائر العزيز يغني
…
في الأعالي بقلبه النشوان
فرمى قلبه بسهم رهيب
…
مستطار من قوس الرنان!
فهوى مسبل الجناح، يعاني
…
من جراح بقلبه ما يعاني
فهفت نحوه الطيور، وناحت
…
إذ رأت جرحه عميق المكان!
وانحنت فوقه، وطارت به تس
…
عى إلى عشه الجميل الحاني
وأست جرحه بوحي هواها
…
والهوى بلسم الجريح العاني
ومضت حقبة، فصار كما كا
…
نت تراه في سالف الأزمان
فاستفاض السرور في كل قلبٍ
…
وتعالى الفناء في المهرجان
جملت عشه بزهر ندى
…
أنبتته له روابي الجنان
ثم قالت له: ليهنك. رنمِّ
…
بالأغاني في ظل تلك المغاني
ثم حلق في كل أفق جميل
…
يتلقاك بالسنا الفتان
هكذا قالت الطيور، ولكن
…
رنَّ صوت الغناء في الوجدان!
رفع الطائر العزيز جناحاً
…
فارتمى عاجزاً عن الطيران!
قلَّبته فما رأت غير جسم
…
غادرته الحياة منذ ثوان!
لمحة وانطوت حياة تروَّى
…
كل حي من نبعها الريان!
والذي لم يسعه كون رحيب
…
دفنوه في حفرة بمكان!
والذي عاش في الحياة طليقاً
…
جعلوا قيده من الأكفان!
أيها الطائر العزيز وداعاً
…
بل لقاء في عالم غير فان
يا رفيقي الذي عرفت هواه
…
حين كان الشباب في الريعان
وبقلبي سقيته صفو ورودي
…
وبأصفى مما سقيت سقاني
أبعدتني عنك الحياة، وكنا
…
نتلاقى في أكثر الأحيان
فتصبرت حين قلت لنفسي:
…
عن قريب يكون يوم التداني
وطواك الفناء، فاليوم أطوي
…
ما بقلبي من أمنيات حسان!
ليت هذا الفناء لم يدع يوماً
…
شخصك المفتدى، وكان دعاني
ما له يؤثر البقاء لنفس
…
لا ترى في البقاء غير الهوان؟!
والتي ثؤثر البقاء نراها
…
غرضاً للفناء في كل آن!
كم تعرضت للفناء بنفس
…
فعداني كأنه ما رآني!
عبث هذه الحياة، وفوضى
…
ما نراه في هذه الأكوان
ولو أن الحياة تنظم شعراً
…
جعلت شعرها بلا أوزان
ولو أن الحياة ترسل نثراً
…
جعلت نثرها بغير معان
يا رفيقي تدري بأن حياتي
…
ملأت بالدموع كل دناني!
يا رفيقي تدري بأني غريب
…
بين قومي! أجل، وفي أوطاني
يا رفيقي تدري بأني وحيد
…
في حياتي إلا من الأحزان!
قد شربت الأحزان من كأس أيا
…
مي بروحي ومهجتي وكياني
وألفت النواح دهراً، فلو شئ
…
تُ غناء، بقلبي الأغاني
أنا أبكيت يا رفيقي، وأرثي
…
لشباب بكيته وبكاني!
أنا أبكيت يا رفيقي، وأبكي
…
من حياة بها الزمان رماني!
تنثر الشوك في طريقي، وأزها
…
رُ الروابي تود لو تلقاني!
تملأ الكأس من دموعي وتسقي
…
ني، وكم قلت: يا حياتي كفاني!
شهد الله أن طيفك دان
…
إن يكن صار شخصه غير دان
شهد الله أن ذكراك أقوى
…
في حياة الورى من النسيان
وأغانيك تملأ الكون سحراً
…
بصداها المنغم الرنان
عش قرير الجفون في عالم الخل
…
د وغرد في جنة الرضوان
ولعل الحياة تخلي سراحي
…
وعسى الموت أن يكون اصطفاني
إبراهيم محمد نجا
قلب يتعذب
للآنسة فدوى طوقان
(هديتي إلى صديقتي الشاعرة الرفيعة نازك الملائكة)
غاضت ينابيع المنى يا حزين
…
فمن يروّي فيك شوقَ السنين!
أذبل وجفَّ اليوم في أضلعي
…
وأرجع كما كنت، حطاماً دفين
تحت ثلوج الوحدة القاسيه
…
نبكي معاً آمالنا الذاويه
بنكي ضياع الذمم الوافيه
…
في عالم ما فيه روح أمين
أين الذي نادى ومدَّ اليدين
…
وقلبه العاني على الراحتين
ملوحاً بالأمل المشتهي
…
كيف مضى؟ فيم توارى وأين؟!
راح كأن لم يحي فينا نداه
…
بعد خمود الموت روحَ الحياة
أهكذا حين أجبنا هواه
…
يردنا للموت في لمحتين؟!
مالك؟ ما بالك واهي الوجيب
…
تراك في كف النزاع الرهيب؟
لا، لا تخف، فالموت أحنى يداً
…
مت يا صريع الغدر، مت يا كئيب
أرقدك الجاني على مهدِ
…
من زهر الآمال ممتدّ
لم تدر أن الجمر في الوردِ
…
والسم في نفح العبير الرطيب!
همت به نجماً خلوب الضياء
…
فطرتَ بي نشوان نحو السماء
مستغرقاً في سبحات الهوى
…
تبني من الوهم قصور الهواء
يا قلب يا مسكين يا ابن الخيال
…
أين القصور الدافئات الظلال
ما شدته نحت الليالي الطوال
…
مضى مع الريح، وولى هباء. . .
لم تدر أن النجم غدّار
…
لم تدر أن الضوء غرّار
يا عجباً حتى نجوم السما
…
يعلقها وحل وأكدار!
يكفيك يا قلبي ويكفيني
…
ولتصح من حلم المجانين
فهو كباقي الناس من طين
…
لا نور فيه، لا ولا نارُ
فدوى طوقان
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
هل تقدمنا في الميدان الاجتماعي؟.
جرت يوم السبت الماضي مناظرة في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية موضوعها: (لقد تقدمنا تقدماً مرضياً في الميدان الاجتماعي) أيد الرأي رجلان هما الدكتور محمد عوض محمد بك والدكتور محمد صلاح الدين بك، وعارضه سيدتان هما السيدة زاهية مرزوق والسيدة أسمى فهمي. وقد بدأ الكلام الدكتور عوض فقال إن وجود هاتين السيدتين الفاضلتين بهذا المكان الآن في هذه المناظرة دليل على التقدم الاجتماعي الذي نؤيده، فهما بنشاطهما المعروف تدلان على تقدم المرآة المصرية.
وألقت السيدة زاهية مرزوق كلمة طيبة تضمنت نظرات فاحصة في أحوال المجتمع المصري وأيدت آرائها بالإحصاء ونتيجة البحوث العلمية الاجتماعية، وقد تعرضت لعدة نواح مهملة في مجتمعنا كالأمومة والطفولة ومستوى المعيشة وانحطاط المساكن في الريف ومما قالته أن المطاعم الشعبية التي تقام في المدن تنشئ جيوشاً من الشحاذين، فما هي إلا صورة أخرى من الشحاذة إلى جانب توزيع الخبر والفول النابت أمام المساجد والأضرحة، وهذه المطاعم تلجأ اليها الأمم في حالات الضرورة للمنكوبين واللاجئين في أيام الحروب، ولكننا في مصر اتخذناها نظاماً دائماً، فبدلاً من أن نساعد الناس ونمهد لهم كي يحصلوا أرزاقهم بعملهم نهدر كرامتهم بهذه الصورة التي لا تتفق والآدمية الكريمة. وقالت السيدة زاهية إن مما زاد مستوى المعيشة انحطاط الغلاء الذي كاد يذهب بالطبقة المتوسطة التي هي ميزان المجتمع وأصبحنا مهددين بانعدام هذه الطبقة بحيث تكون البلاد طبقتين طبقة عليا وطبقة سفلى، ولا شك أن إهمال طبقات الشعب يغرس في النفوس الشعور بالظلم، فتنعدم روح التضامن، وهذا يؤدي إلى التفكك الاجتماعي.
ووقف الدكتور صلاح الدين فقال أنه يشعر بالحرج إزاء هذا لبحث القيم الذي سمعه من السيدة زاهية، ولكنه مضى في تأييد الموضوع فذكر أننا حقيقة لم نبلغ أوج التقدم ولكننا تقدمنا تقدماً مرضياً في ربع القرن الماضي، ودلل على ذلك بالمقارنة بيننا وبين بعض الأمم المتأخرة! وبأن ممثلي مصر في حلقة الدراسات الاجتماعية التي عقدت بلبنان تحت
أشراف هيئة الأمم المتحدة كانوا متفوقين بعددهم وبحوثهم وكانوا لا يقلون في مستواهم العلمي عن مندوبي أوربا وأمريكيا، وقال أن مصر تقدمت هذا التقدم رغم انشغالها بالنضال السياسي.
وقد ردت عليه السيدة أسمى فهمي، ومما قالته أن التناحر الحزبي والخصومات السياسية شغلت القادة والرؤساء عن الإصلاح الاجتماعي، وكان من الممكن لولا ذلك أن تنهض الأمة نهوضاً اجتماعيا كبيراً في هذه الفترة، واستدلت بما أحدثه محمد علي من الأثر في حياة الأمة المصرية في وقت قصير، وبنهضة تركيا الحديثة في زمن قليل.
والواقع أن حجج المؤيدين لم تستطع أن تقف أمام الحقائق الصارخة، ولا أشك في أن ذلك يرجع إلى ضعف جانبهما لا إلى عدم احتفالهما وإعدادهما وان كان ذلك ملحوظاً أيضاً. . . وقد طغت السيدة زاهية مرزوق على الجميع وكسبت الموقف حتى إنه عندما اخذ رأي الحاضرين لم يشذ عن القول بتأخرنا الاجتماعي سوى بضعة أفراد. وقد كانت هي - على خلاف ما قال عوض بك - دليلاً على الهوة الواسعة بين عدد قليل من النساء النابغات وبين سائر النساء الجاهلات. وقل مثل ذلك في علماء حلقة الدراسات، فليس وجود طبقة من المثقفين لدينا تماثل علماء الأمم الكبيرة يستلزم تقدمنا في الناحية الاجتماعية.
الأجسام العارية والفن الهزيل:
استفاضت الشكوى أخيراً من نشر الصور العارية في الصحف وإسراف السينما في عرض أجسام الممثلات والراقصات والمواقف الحيوانية بين الذكر والأنثى. وأرسل صاحب السمو الملكي الأمير محمد علي إلى رفعة رئيس الوزراء في شأن الصور الخليعة التي تنشرها بعض الجرائد والمجلات. فكان ذلك مثار اهتمام الحكومة بالأمر، وكتب رئيس الوزراء إلى الأمير الجليل بأنه معني بدرس أوجه العلاج الحاسم لهذا المرض.
أما الناحية الخلقية في هذا الموضوع فهي ظاهرة. والذي أقصد اليه هو أن ذلك العمل إنما يراد به ستر العجز الفني واتخاذ تلك المغريات أداة للترويج والربح المادي، فالمجلات التي جعلت من صفحاتها معارض للإثارة الجنسية إنما تلجأ إلى ذلك لأن أصحابها ليسوا من ذوي الرسالات الصحفية القلميه، وبدلاً من أن يتعبوا أنفسهم في التماس القوة التحريرية والمادة الصحفية القويمة يقدمون تلك الصور، وصارت الحالة إلى حد التنافس في ذلك، فإذا
ظهرت مجلة بصورة بالغة في الإثارة حرصت الثانية على نشر صورة (أنأح) منها!
ولاشك أن الحكومة إذا منعت هذه البضاعة فأن أولئك الصحفيين يضطرون إلى كسب القارئ عن طريق الفن الصحفي المستقيم، فإذا أخفقوا في ذلك طهرت منهم الصحافة وأفسحوا للعناصر الصالحة النافعة.
وكذلك الحال في الأفلام السينمائية، فأن القائمين بها يوجهون همهم إلى جذب الجمهور بتلك الوسائل بدلا من أن يقدموا قصصاً ذات موضوعات قيمة، وقد أسرفوا في ذلك أخيراً إسرافا طغى على الناحية الفنية، فأصبح الفلم الناجح عندهم هو الذي يحتوي على تلك الأثارات دون اعتبار للقيم الإنسانية والاجتماعية التي تهدف اليها الفنون.
وإن واجب الدولة أن تحمي الفن الصحيح والذوق السليم من ذلك الانحدار البهيمي، وأعتقد أن الرقابة الحكومية لا تخدم الأخلاق، بل هي أيضا بذلك تعمل على ترقية الفن السينمائي وتصفية جوه من الدخلاء الذين لا يفهمونه إلا على هذا الوضع المذري. وهنا كما في الصحافة تطهير من أشياء القوادين وإفساح لذوي الكفايات الفنية، وعندئذ يكون التنافس في الإجادة الصحيحة وتقديم الإنتاج الجيد في ذاته.
فلم الأسبوع:
(التخت) في هذه المرة بسينما أستوديو مصر، وهو يتكون من فريد الأطرش وسامية جمال وإسماعيل يس ولولا صدقي وآخرين، فالأول مغن والثانية رقاصة والثالث مضحك والرابعة على الهامش الخ. . . ولابد من قصة تظهر فيها هذه (الكفايات) وقد جاءت القصة على وفق المراد. كنا نرى الأبطال في الأفلام الأخرى تخرج من المجتمع، لأسباب مختلفة، إلى المسارح والمراقص حيث تهيأ الفرصة لإظهار الرقاصة والمغني، أما هنا في فلم (عفريتة هانم) فتبدأ القصة على المسرح مباشرة، فالرقاصة علية (لولا صدقي) هي ابنة صاحب المسرح الاستعراضي الذي يعمل فيه المغني عصفور (فريد الأطرش)، ويملى صاحب المسرح على ابنته علية أن تغري الشاب الغني (ميمي بك) وتتصيده زوجاً لها، وتقوم بهذا الأغراء ويقع ميمي بك في شباكها فيخطبها إلى أبيها ويدفع إليه ثلاثة آلاف جنيه مهراً لها. ويظهر من خلال ذلك أن عصفور يحب علية ويرى علاقتها بميمي بك ولكنه لا ييأس. إذ يعتقد واهماً أنه تبادله الحب فيتقدم لخطبتها فيسخر منه أبوها ويطلب
منه أن يمهرها ثلاثة آلاف جنيه.
ولكن السيد عصفور مفلس طروب. . . فماذا يصنع؟ لجأ إلى حديقة يغني فيها، وإذا شيخ عجوز يظهر له ويدور بينهما حديث عن القسمة والنصيب، ثم يختفي بعد أن يتفق معه على مقابلته في غار بجبل المقطم، ويذهب عصفور ومعه صديقه بُقًّو (إسماعيل يس) إلى الغار، ويظهر الشيخ في الغار فيدفع إلى عصفور مصباحاً، ويتلاشى الشيخ، ويقلب عصفور المصباح فتخرج منه العفريتة الحسناء كهرمانة (سامية جمال) وتقول له إنها تحبه منذ ألف سنه!
وتصنع كهرمانة أعاجيب، منها أن في الحال قصراً لعصفور وصديقه بقو، وتمدهما بالمال فيشتريان المسرح المقابل للمسرح الذي كانا يعملان به، وينافسان صاحبه، وتحضر رقاصة تشبهها تماماً ليغني لها عصفور وهي ترقص، واسم هذه سمسم (سامية جمال أيضاً) وفي أثناء ذلك تغازل كهرمانه عصفور وهو يغازل سمسم. ويتضايق أبو علية من هذه المنافسة وقد تحول الناس عن مسرحه إلى المسرح الجديد، فيبعث بابنتة إلى عصفور لتحاول مصالحته وإغراءه، فتاتي إليه وهو لا يزال يحبها فيرحب بها، ويأتي معها أبوها بعد ذلك ويتودد أليه، ثم تعلن خطبة عصفور لعلية، فتغضب سمسم وكهرمانه، وتعمل الثانية بأساليبها الخارقة على إفساد هذه الخطبة ومنع الزواج، فيغضب منها عصفور ويذهب إلى المصباح ويلقي به، فيأخذه الشيخ العجوز ويضع علية فيه. . . ويذهب القصر ويعود كل شيء إلى ما كان عليه.
ويغني عصفور ويظهر له الشيخ فيقول له إنه ضيع الفرصة التي لا يمكن أن تتكرر ومع ذلك يستطيع أن يسعد بسمسم. ويستأنف عصفور عملة على مسرحه، فيعد (أوبريت) وتظهر فيها سمسم وقد عادت إليه بعد أن هجرته غاضبة. وبعد انتهاء (الأوبريت) يظهران سعيدين في الختام.
ويقال إن القصة وضعها (أبو السعود الأبياري) تعرض لمسألة القسمة والنصيب وجزاء من لم يرض بما قسم له. وهذا كلام فارغ، لأن هذه مسألة قديمة مبتذلة، على أن تطبيقها في الفلم لا هدف له، فعصفور يحب علية وكل ما يريد أن يظفر بها فكيف يؤخذ عليه سعيه لنيل أمنيته ورفضه قسمة العفاريت؟ ثم إن صرفه عن حب عليه ليس طبيعياً وإنما هو
مفتعل إذ نصحه الشيخ بحب سمسم. . . ومتى كان الحب بالنصيحة؟ وليس في القصة أي مغزى اجتماعي، بل هي بعيدة عن المجتمع العام فحوادثها تجري في بيئة (الأرتستات) تربط بينهما تلك الروابط الخرافية التي لا غاية لها سوى عرض الغناء والرقص.
والمجهود القيم (نسبياً) في هذا الفلم للمخرج (بركات) وهو الذي أجرى تقطيع القصة (السيناريو) فقد قام بعملة في الحدود المرسومة، ومما أجاد إخراجه المنظر الذي ظهرت فيه عليه وهي تحدث ميمي بك بالتليفون ويحدثها عصفور من وراء ستار إذ قالت له أنها تبدل ثيابها، فيجيء حديثها رداً على كليهما في آن، وأريد أن أسأل بعد ذلك: لماذا بدا القصر خالياً من الأثاث؟ وكيف عجزت العفريتة عن تأثيثه وهي التي أوجدته في طرفة عين. . .؟ وكيف وجد هذا القصر في القاهرة فجأة وذهب فجأة على أعين الناس؟!
وقد شاهدنا عصفوراً حين أزمع الذهاب إلى صاحب المسرح ليخطب عليه، مع أصحابه في سيارة قديمة يقودها، وهم يخترقون الشوارع في منظر غاية في التهريج السخيف، هو بغني وهم يتراقصون منظرفين، وهذا إنما هو أليق بالنسوة اللائى يركبن عربة (كارو) وينشدن (سلمى يا سلامه!) ومن أين لعصفور هذه السيارة (الملاكي) وهو يعمل بقروش في المسرح مهما كانت قديمة؟
وترى كهرمانه تعرض على عصفور أن ترقص أمامه على مسرحه الجديد، فيقول لها إن الناس لا يرون رقصها لأنه هو وحده الذي يراها، فتأتي له بسمسم، وكهرمانه تعرف أن الناس لا يرونها فكيف كانت تريد أن ترقص على المسرح؟
نخلص بعد ذلك إلى المقصود من هذا الفلم (الاستعراضي) هو الرقص والغناء، قيل إن عليه رقاصة مع أنها لم ترقص أبداً بل ظهرت على المسرح مع عصفور يغني لها وهي إلى صدره يتحسسها وتميل إلى عليه فقط! أما سامية جمال فقد رقصت ورقصت ويعتمد رقصها على رشاقة جسمها وإظهار مفاتنه، وليس وراء ذلك فن من تعبير.
أما فريد الأطرش فقد أمطر الفلم غناء. غناؤه كرقص سامية لا تعبير في كليهما، والأوبريت التي قدمها كلها تطريب فهو يقف ليغني ولا شيء وراء ذلك، فكل مواقفه (فواصل) غناء ليس إلا، وفن الأوبريت مظلوم! وهو يغني في موقف الحزن كما يغني في الفرح، ووجهه جامد في التمثيل أيضا، وان كان لا بأس به فيما عدا قصور وجهه في
التعبير، وكان دوره ملائماً لشخصيته الهادئة، فلم يستفزه منظر حبيبته في أحضان غريمه، واكتفى بأن راح يستعد لخطبتها!
أما إسماعيل يس فقد أصبح دوره في الأفلام المختلفة أن يكون صديقاً للبطل بقصد التضحيك. وهو ظريف الشخصية أينما وضع، غير أن حظه من ذلك قليل في هذا الفلم.
عباس خضر
البريد الأدبي
وفاة الأستاذ محمود حسن زناتي
قُبض إلى رحمة الله صديقنا المغفور له الأستاذ محمود حسن زناتي في صباح يوم الأربعاء الماضي في (ناي) من قرية القليوبية، وكان أخواله آل عطية قد نقلوه من القاهرة إلى ديارهم حين تبلغت به العلة واحتاج إلى رعاية الأهل وعناية القربى.
أصيب هذا الرجل الفاضل بالفالج النصفي منذ ثلاث سنوات فأنقطع عن الناس وانقطع الناس عنه وكان بطبعه ألوفا ودوداً يحب الخلطة، ويعشق الحديث، ويسأل عن صاحبه إذا غاب، ويزوره إذا حضر، وكان أشق عليه من مرضه أن ينعزل عن العالم في مسكن نابي الفراش موحش الجوانب، يظل فيه النهار، ويبيت به الليل، قلق الو ساد موجوع البدن لا ينعم فيه بحنان الولد ولا عطف القريب، ولا يطرقه عليه إلا جار كريم أو صديق قديم.
درس زناتي في الأزهر، وتتلمذ على أستاذنا العالم الناقد سيد بن علي المرصفي، وعلى شيخنا اللغوي الحجة محمد محمود الشنقيطي.
وكان أثيراً لدى الرجلين، يزورهما في البيت، ويلزمهما في الجامع، ويصحبهما في الطريق ويروي عنهما الأشعار والأخبار والطرف، ثم عين مصححاً في المطبعة الأميرية فقضى بها ردحاً من الزمن حتى انتقل القسم الأدبي منها إلى مطبعة دار الكتب فأنتقل معه. ثم أختاره المرحوم احمد زكي باشا ليكون أميناً للمكتبة الزكية التي وقفها وجعل النظر فيها لوزارة الأوقاف، وكانت يومئذ بقبة السلطان الغوري. فلما فصلت عن وزارة الأوقاف ووصلت بدار الكتب انتقل موظفاً بديوان الوزارة؛ ولكن العمل الجديد لم يرضه ولا بيئته ولا بطبيعته فطلب الإحالة على المعاش فأحيل. ومنذ يومئذ تفرغ للأدب فأخذ يزجي فراغه نظم الشعر واقتناء المخطوطات ونشر الكتب. فمن الكتب التي نقحها وعلق عليها ونشرها، مختارات ابن لشجري والمفضليات للضبي، ثم الجزء الأول من الفصول والغايات للمعري، ثم انتهى أمره إلى هذه العلة الفادحة فكابد من وصبها ما كابد حتى أختار الله له ما عنده. تغمده الله برضوانه ورحمته، وأنزله منزلة الأوفياء من فسيح جنته.
في ذمة الله يا زناتي:
أيها الراحل الكريم سلاما
…
آه لو كنت تستطيع الكلاما!
سكت الصوت سكتة، ودفنا
…
في التراب النشيد والإلهاما
أيها الناطق المحدث ماذا
…
أسكت اليوم هذه الأنغاما؟
رحم الله في الندى حديثاً
…
كان يطوي الزمان والأياما!
كنت تروية كالزلال نميراً
…
وتساقيه كاللهيب ضراما
وتقص الزمان جيلاً فجيلاً
…
وتعيد التاريخ عاماً فعاما
كنت في ندوة البيان طرازاً
…
يأسر الفاهمين والأفهاما
حطمتك الأيام حتى رأينا
…
رجلاً صار في الحياة حطاما
قم ترى الأرض لم تبدل قليلاً
…
من رحاها، ولم تغير نظاما
فالليالي - كما عهدت - الليالي
…
والندامى كما عرفت - الندامى
من يفته الحمام في هدأة اللي
…
ل ففي صحبه سيلقى الحمام. . .
أجل دائر علينا، وكأس
…
سوف نسقى منها ونروي الأواما!
أيها الراحل الذي لم يودع
…
ما ملكنا في البين إلا السلاما
حمد عبد الغني حسن
أخي الابياري
لك أنفس تحية وعليك أروح سلام.
زعمتَ أني دفعتك إلى حديث شأنك، وما رغبت فيه إلا لأنه حبيب شائق، ولبست أثواب العلماء تواضعاً، ثم بان علمك وفاض فضلك، فإذا بك تسأل سؤال العارف. أومأت إلى مذهب المعلم الأول في أنفسه الغازية والحساسة والناطقة، وأشرت إلى المتكلمين في قولهم بالامتزاج كالماء بالعود، وأخذت عن بعض الفلاسفة حكاياتهم عن النفس المدبرة للأبدان المحركة للجسوم، وحكيت قول الجنيد من الصوفية أنها من مستأثر الله تعالى.
ثم استقصيت قول أصحاب اللغة ووقفت بباب ابن فارس إن النفْس من النفس (اصل واحد يدل على خروج النسيم كيف كان من ريح أو غيرها).
قلت: (وقول القائل) نفس الله كربته (من ذاك لأن خروج النسيم روحاً وراحة).
قلت: هذا عند من يوحدون بين النفْس والروح، ويجعلون النفس من الريح. وقالوا: (ومعنى
لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن، أنها تفرج الكرب، وتنشر الغيث، وتذهب الجدب). وهذا وجه آخر للمسألة يؤول تنفيس الكرب بما تسوقه الرياح من خير، لا بما يشعر به المرء من داخل فنقلوا الظاهر إلى الباطن، وهذا أليق.
قلتَ: وقولهم (شيء نفيس) أرادوا أنه ذو نفس، بالتحريك
قلتُ: وهذا معنى طريف لست أدري أوقع القدماء عليه أم لا، وقد وقفت عنده، وتساءلت أكل متنفس نفيس؟ وفي الصحراء أحياء من نبات وحيوان ينفر العربي منها ويحط من شأنها لقلة نفعها أو مظنة ضررها. وما بالك بالثعبان الذي ينفث السم، أهو شيء نفيس؟ ولعلك زاعم أن النفث بالثاء من النفس بالسين، فيهما معان متقاربة كنفثات الشاعر، في العقد من السحر. أو قائل أن النفش بالشين من ذلك أيضاً، من التفريق والانتشار. قال الحكيم الترمذي في كتاب الرياضة (والنفس مسكنها في الرئة، ثم هي منفشة في جميع الحسد).
قلتُ: الثاه والسين والشين متقاربة، والحروف أصل الألفاظ والأصوات محاكاة للطبيعة أو تعبير عن المشاعر الباطنة. ترى أيكون سر المعنى في النون أو الغاء أو السين؟ أهو في حرف واحد أو في حرفين أم في ثلاثة؟ ولقد زعم قوم أن اللغة العربية ثنائية، ولعلهم على صواب. ثنائية أم ثلاثية فحرف السين جوهري في هذه اللفظة، وإننا لنجده في لغات كثيرة، وليس ذلك من قبيل الاتفاق: في اليونانية بسيشي ونحتت منها في اللغات الحديثة البسيكولوجيا أو علم النفس. وفي الإنجليزية سول وفي الفرنسية أسبريت والأصل في هذا الصوت وهو السين ما يسمعه المرء من صوت الهواء إذا كان نسيماً، فإذا أشتد أصبح صريراً والصاد تشديد السين، وقد يكون الصوت حاء ومنه الرياح والريح، ولذلك قالوا فحيح الأفاعي.
قلت: ثم جاءت النفس بالإسكان في شتى معانيها. وأخال أسبقها الروح، وهل هي إلا أنفاس؟
قلت: هذا مذهب في التوحيد بين النفس والروح. والتحقيق غير ذلك. النفس مؤنث إن أريد بها الروح، ومذكر أن أريد بها الشخص، تقول خرجت نفسه أي روحه، وعندي ثلاثة أنفس فأنثت العدد لأنه عكس المعدود.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي من صوفية القرن الثالث: (الروح نور فيه روح الحياة، والنفس ريح كدرة جنسها أرضية) فرق بين الروح والنفس، وبين الروح والريح، وقول الجنيد الذي ذكرت من أن النفس من مستأثر الله تعالى) يريد الروح لا النفس قال ابن الفارض في تائيته. . .
وإني وآياها لذات ومن وشى
…
بها وثنى عنها صفات تبدت
فذا مظهر للروح هاد لأفقها
…
شهوداً بدا في صيغة ممنوية
وذا مظهر للنفس حادى لرفقتها
…
وجودا غدا في صيفة صورية
قال ابن القهار: والذي يرجح ويغرب هو أن الإنسان له نفسان حيوانية ونفس روحانية. فالنفس الحيوانية لا تفارقه إلا بالموت. والنفس الروحانية التي هي من أمر الله فيما يفهم ويعقل فيتوجه لها الخطاب، وهي التي تفارق الإنسان عند النوم، واليها الإشارة بقوله تعالى: يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها. والدليل على أن الذي من مستأثر الله تعالى هو الروح قوله عز وجل (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) لأن الروح من الغيب لا تدركها العقول وتعجز عن معرفتها الإفهام.
وبعد فقد طال بنا النفس في الاستطراد، وكنت أطمع في جواب عن معنى نفس الأديب، لأن هذه صناعتك، فصدفت عن الجواب، ورددت السؤال بسؤال، وعدلت عن الأدب إلى الحكمة واللغة نفاساً، ولك نُفْسه إلى أمد، فلعلك لا تنفس بالجواب.
احمد فؤاد الاهواني
رسالة النقد
نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
شهد العراق في القرن التاسع عشر نهضة أدبية كبرى كان لها الصدى المدوي في وادي الرافدين، وكان لها الأثر الفعال في انبعاث الشعر المعاصر في العراق، وهذا القرن - بما فيه تبلبل سياسي والتواء في الحكم، وبما فيه من ظلم واستبداد - كان نشيطاً في حركته العلمية والأدبية. وكان اكثر نشاطاً في الناحية الشعرية. ففي بغداد والحلة والنجف والموصل كانت الحركة العلمية في نهاية المعركة مع الأحداث والخطوب التي كانت تحارب العقول والأذهان والحريات؛ لأن الأولى كانت تستمد قوتها من تاريخ حافل بالأمجاد والروائع؛ ولأن الثانية كانت تطل من دنيا الجهل والجبروت تحارب هذه الأمجاد بقوة وعنف وانتصرت الحركة العلمية في العراق بفضل أبنائه الساهرين على تأريخهم وأمجادهم، فقد كانت في القرن التاسع عشر - ولا تزال - بيوت أثيرة المكانة منيعة الجانب تجمع بين النفوذ السياسي والديني، وكان فيها إلى جانب ذلك من يعشق الأدب ويمارس الشعر. وقد حدبت هذه البيوت على الشعر والأدب تمده بالرعاية وتبذل له من التشجيع ما وسعها ذلك. ومن هذه البيوت: الشاوي والنقيب وكبة في بغداد، والقزويني في الحلة، وكاشف الغطاء والجواهري وبحر العلوم في النجف، والعمري في الموصل. وتحت رعاية هذه البيوت أستظل الشعر بنجاح وريف الظل ونبغ كثير من الشعراء الأفذاذ الذين لا يقلون في التعبير والمعاني والأخيلة عن شعراء العصر العباسي الأخير. ومن هؤلاء: الحليان السيد حيدر والسيد جعفر، والموصليان عبد الغفار الأخرس وعبد الباقي العمري، والنجفيون السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد إبراهيم الطباطبائي، والشيخ عباس والشيخ جعفر الشرقي والشيخ جواد الشبيبي وغيرهم. وقد ترك معظم هؤلاء الشعراء دواوين مطبوعة وأثاراً مخطوطة يتدارسها أدباء العراق ويعنون بها، لأنها الينبوع الذي تدفق من بين الرمال والصخور بعد فترة طويلة فسقى وأنبت وأمد نهضتها الحديثة بذخيرة قوية وافرة.
ومن المعنيين بهؤلاء الشعراء الشاعر المعروف الدكتور محمد مهدي البصير أستاذ الأدب
العربي بدار المعلمين ببغداد فقد أصدر عنهم كتاباً سماه: (نهضة العراق الأدبية في القرن التاسع عشر) تحدث فيه عن ثمانية وعشرين شاعراً بين شهير أضاف إلى حياته صفحة جديدة، وبين مغمور كشف عن حياته وشعره. وهذا الكتاب هو مجموعة أحاديث أذاعها أديبنا الكبير من دار الإذاعة العراقية ثم شاء له حرصه الأدبي والتاريخي أن يجمعها في كتاب منشور.
هؤلاء الشعراء - كما يقول الدكتور في المقدمة -: (ليسوا كل من أنجب العراق من قالة القريض في القرن المنصرم ولا أكثرهم ولا كل من أعرف منهم، ولكنهم صفوة من أعرف وخير من وصلني علمه منهم) أما دراسته لهؤلاء فليست من الدراسات التي تعتمد على الترجمة والرواية فحسب، بل هي مزيج من هذا ومن غيره. ولعل اللون الذي يطغي على هذه الدراسة هو اللون التحليلي الذي يعتمد فيه على أثر الشاعر ويستقي من شعره، ولذلك فإن للدكتور البصير أراء أستخلصها من شعر هؤلاء قد لا يقره عشاق التراجم، كما أن له آراء قد لا يوافقه عليه نقاد الأدب، ونراه في بعض الشعراء يبدو واضح الرأي والفكرة، وفي بعضهم يظهر متردداً متهيباً من الإفصاح والجهد، والسبب في ذلك يعود إلى أن الذين تحدث عنهم لم يكونوا جميعاً ممن انقطعت صلتهم بالأحياء. بل أن معظمهم ترك وراءه أسرة وأحفادا يحاسبون الأديب والناقد الحر، وأن معظمهم قد جمع بين الشعر والعلم، وبينهما وبين التقشف والزهد، فكان من البديهي أن يقع الدكتور في مأزق من جلاء الدراسة ووضوح الرأي فلم تسلم دراسته من بعض الغموض، ولم يسلم رأيه من الترجح والتردد في بعض المواطن، ونشير إلى ذلك وغيره.
يتحدث - أول ما يتحدث - عن السيد محمد سعيد الحبوبي النجفي الشاعر الشهير وصاحب الموشحات الكثر فيقارن بينه وبين الشريف الرضي وتسلم مقارنته في كثير من المواطن، في الشعر والعلم، وفي الحياة والجهاد، وفي مواطن الترفع عن التكسب بالشعر، ويغفل المقارنة بينهما في النسب، فكلا الشاعرين علويان يتصل نسبهما بالإمام علي، وقد ترتب على هذا الإغفال - مادمنا في صدد المقارنة إغفال ناحية أخرى وهي تعصب الشريف الرضي لعلويته ودفاعه عنها واعتزازه بها وتفجعه لمآسي أجداده أما الحبوبي فإنه قليل المحاولة في ذلك، فما هو السبب ولماذا؟ هذا ما كنا ننتظره من الدكتور.
ويتردد الدكتور في رأيه بين الجهر والتكتم عندما يتحدث عن غزل الحبوبي، فهو لا يستطيع أن يحكم بأن الحبوبي قد أكتوى بنار الحب وأنه أستمتع من شبابه بما يستمتع به كل شاب مترف لأن سمعتة الفقيه تأبى ذلك: ثم يقول: (أننا نظلم الحبوبي ظلماً فاحشا إذا افترضنا أن قلبه لم يكن من القلوب التي بداخلها الحب)! فالدكتور البصير لا يريد أن يظلم الحبوبي فيقول عنه أنه احب ولا يريد أن يظلمه فيقول: أنه لم يحب في الأولى يتنافى مع علمه وفقهه وفي الثانية يتنافى مع غزله الرقيق؟! هذا هو موطن الغرابة في رأي الدكتور، ولقد كان بإمكانه أن يعلن عن رأيه بوضوح ولا يتحفظ ما دام يتنقل من ديوان الحبوبي بين شعر واضح التصوير والصور، ولا أحسب ذلك عسيراً على الدكتور وهو يعتمد في دراسته على الشعر أكثر من غيره.
ثم ما المانع من أن يكون الحبوبي قد عشق وأحب ولكن في سياج من العفة والأخلاق؟ وهل كانت قلوب الفقهاء إلا كقلوب سائر البشر تحس بالجمال وتنفعل به، ولكنها كقلوب بعض البشر أيضاً لا تواكب هذا الجمال ولا تنطلق مع الحب إلى ما وراء العفة؟ وليس الحبوبي إلا واحداً من هؤلاء يحس بالجمال ويحترمه وقد يهيم به ولكن في دائرة محدودة هي النزاهة والعفة.
ثم ألبس الشيخ عباس النجفي - وقد تحدث عنه الدكتور فيمن تحدث عنهم - كان فقيهاً وكان محباً تعرض في حبه لكثير من المتاعب وتحدثت عنه القصص الغرامية كما تتحدث عن أي شاعر عاشق صدق في شعره كما صدق في حبه؟ فلماذا كان الشيخ عباس شاعراً محباً صادق الحب؟ ولماذا كان الحبوبي يظلم حين يتهم بالحب ويظلم حين يجرد منه؟.
أعتقد أن هذا التشكيك وهذا التحفظ ما كان لهما شأن عند الدكتور لو أنه عني بدراسة البيئة العراقية عناية دقيقة وربط بين هذه البيئة وبين شعر الحبوبي. ولو أنه أعطى البيئة نصيباً من الدراسة لجرد الحبوبي من تبعات الحب في مختلف أدواره، ولننظر إلى شعر الحبوبي:
قلن لي: علك يا بادي الشجن
…
ذلك الصب العراقي الوطن
مولع القلب يتسآل الدمن
لست تنفك تحي الاربعا
…
ولكم عجت ضحى في سفح ضاح؟
قلت: هل تنكرن صباً مولعاً
…
يا ذوات الأعين المرضى الصحاح
هذا نموذج ذكره للدكتور من غزل الحبوبي واستشف من ذلك أن الشاعر كان عاشقاً ولكنه تحفظ بهذا الرأي كما يقول. ولو انه أنكر على الحبوبي (تسآل الدمن) و (الأربع) و (سفح ضاح) والجناس بين (ضحى وضاح) و (الأعين المرضى الصحاح) أقول: لو أن الدكتور فعل ذلك لأنكر على الحبوبي هذا الحب وهذه المحاورة. ولنستمع إلى الدور الآتي من الموشح:
ثم قدنا شدنها بالذمم
…
وتلطفن بطيب الكلم
قلن لي: الموعد في ذي سلم
فانتظر حارسها أن يهجعا
…
ورعاة الحي أن تأوى المراح
وهزيع الليل أن ينزعا
…
وتهيج الروض أنفاس الرياح
فأين الحبوبي من ذي سلم ورعاة الحي والمراح وهو يعيش في مدينة النجف؟ كل ذلك تقليد للصور الشعرية التي نجدها في محاورات ابن أبي ربيعه، ولكنه تقليد واضح الشخصية متين الأداء. أما الانفعالات التي يثيرها الحب في نفس الشاعر المحب وتنعكس في تعبيره فأننا لا نكاد نلمحها في ثنايا هذه الأبيات على أن السيد الحبوبي رحمه الله قد هدم كل رأي يقال فيه عن الحب في موشحة أخرى وصرح بأن هذا الغول كله كان غزلاً مادياً لا ينعكس فيه أي صورة من صور الحب الصحيح:
لا تخل ويك - ومن يسمع يخل -
…
أنني بالراح مشفوف الفؤاد
أو بمهضوم الحشا ساهي المقل
…
أخجلت قامته السمر الصعاد
أو بربات خدور وكلل
…
يتفنن بقرب وبعاد
إن لي من شرفي برداً ضفا
…
هو من دون الهوى مرتهني
غير أني رميت نهج الضرفا
…
عفة النفس وفسق الألسن
ولا داعي لأن يقول الدكتور إن هذه الأبيات قد زادت (المسألة تعقيداً) بعد الذي أشرنا إليه.
حقاً إننا نجد الحب في أعنف صوره عند الشيخ عباس النجفي لأنه كان شاعراً صادق التعبير، وفي حدود ذلك الحب لم يتجاوزه إلى الذي سلم وسفح ضاح، بل وقف عنده يؤديه أحسن أداء ويصوره أحسن تصوير. وهذه قصيدته الشهيرة خير دليل على حبه الصادق العنيف:
عديني وامطلي وعدي عديني
…
وديني بالصبابة فهي ديني
ومني قبل بينك بالأماني
…
فإن منيتي في أن تبيني
سلي شهب الكواكب عن سهادي
…
وعن عد الكواكب فاسأليني
أما وهوى ملكت به فؤادي
…
وليس وراء ذلك من يمين
لأنت أعز من نفسي عليها
…
ولست أرى لنفسي من قرين
أما لنواكم أمد فيقضي
…
إذا لم تقض عندكم ديوني؟
هبوني أن لي ذنباً - ومالي
…
سوى كلفي بكم ذنب - هبوني
ألست بكم أكابد كل هول
…
وأحمل من هواكم كل هون
إذا ما الليل جن بكيت شجواً
…
وطارحت الحمام في الغصون
ولو أبقت لي الزفرات صوتاً
…
لأسكت السواجع بالحنين
بنفسي من وفيت لها وخانت
…
وأين أخو الوفاء من الخئون؟
وهي قصيدة أكثر مما ذكرناه منها وقد أشار إليها الدكتور بقوله: لا أغالي إذا قلت إني لا أعرف لجميل من معمر شيخ المحبين قصيدة أحفل منها بالعواطف الصادقة وأغنى بالأحاسيس والمشاعر الرقيقة إذا فالدكتور قد استجاب لهذه القصيدة وأنفعل بعواطف الشاعر ورافقه لحظة من الزمن أدرك خلالها أنه محب صادق الحب. فهل استجاب لغزل الحبوبي حتى استجاب لعواطفه ولكنه تحفظ برأيه؟ نقطة الخلاف بيننا وبين الدكتور هي البيئة وحدها، فالدكتور لم يتعرض لها حتى يصل منها إلى نتيجة، لذلك وقع فيما وقع فيه من الاضطراب في الرأي، إذ الواقع أن غزل الحبوبي لم يكن ليصور بيئته أدق التصوير. والواقع أن الحبوبي كان موفقاً إلى حد بعيد في الأداء اللفظي وفي التعابير الرقيقة وإن كانت من غير بيئته، ولكنه لم يكن معبراً عن عواطف وانفعالات تثير القارئ فيستشف منها ضلالاً تختفي وراء هذا التعبير، لأن الشاعر لم يكن محباً في يوم من الأيام، لا لأنه كان عالماً فقيهاً، وإنما لأنه لم يحب وكفى وإلا لصور حبه تصويراً لا يخرج به عن حدود البيئة، لتحدث عن إحساسه العاطفي قبل أن يكثر من الغزل المادي.
على أن الدكتور حين يستعرض الغزل عند السيد حيدر الحلي يقول عنه: ليس هناك أدنى شك في أن السيد حيدر لم يقع في شرك الحب ولم يخضع لسلطان الغرام في يوم من الأيام
إذا كان ما نعرفه من أخلاقه وأحواله صحيحاً. وهنا نضع أكثر من علامة استفهام لنسأل الدكتور عن السر في تفاوت الشاعرين وكون الحبوبي يظلم حين يجرد من الحب، وان الحلي لم يقع في شرك الحب؟.
ثم ما هو المانع من أن يجتمع الحب النزيه مع الأخلاق الكريمة إذا كانت الأخلاق مقياس الحب؟
وهذه أبيات للسيد حيدر نرويها كما رواها الدكتور:
سارقتها النظر المريب بمقلة
…
لم تقض من لمحاتها آرائها
ولقد دعوت وما دعوت مجيبة
…
ودعت بقلبي للهوى فأجابها
أعقيلة الحيين شقت فنولى
…
كبدا هوتك فكابدت أواصابها
ما دمية المحراب أنت بل التي
…
ننسين نساك الورى محرابها
أن هذه الأبيات خالية من الأحاسيس والعواطف في نظر الدكتور مع أن الشاعر لم يزخرف فيها ولم يتصنع. أما الغزل عند الحبوبي فإن من الظلم أن نجرده من العواطف!!
البقية في العدد القادم
إبراهيم الوائلي