الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 860
- بتاريخ: 26 - 12 - 1949
محمود حسن زناتي
كنا ثلاثة ألفت بيننا وحدة الطبع والهوى والسن؛ فالطبع مرح فكه، والهوى درس الأدب وقرض الشعر، والسن فتية لا تجاوز السادسة عشرة. وكان طه قاعدة المثلث، ومحمود وأنا ضلعيه القائمتين، أو كان المبرد صاحب الكامل قلب الطائر، والزمخشري صاحب الكشاف، وثعلب صاحب الفصيح، جناحيه الخافقين وتلك كانت ألقابنا على الترتيب، لقب بها بعضنا بعضاً لنزعة فكرية أو فنية كان ينزعها كل منا في نظر أخويه. ووجه الشبه بيننا وبين المثلث أن وجودنا كان كوجوده، لا يتصور في الذهن ولا في الخارج إلا بأضلاعه الثلاث على أي شكل يكون وأما وجه الشبه بيننا وبين الطائر فإن حياتنا كانت كحياته، تردد إلى كل روضة، وتغريد على كل شجرة، وتحليق في كل جو. كنا نتنقل من حلقة العلم إلى درس الأدب، ومن درس الأدب إلى مجلس الشعر، ومن مجلس الشعر إلى دار الكتب، ومن دار الكتب إلى الجامعة المصرية القديمة، ومن الجامعة إلى إدارات الصحف نعرض عليها ما كنا نسميه يومئذ شعراً؛ ثم ننتهي إلى دار أحدنا فنتدارس ما حصلنا من علم، ونتذاكر ما حفظنا من أدب، ونتنادر بما سمعنا أو رأينا من سخف، فإذا أخطأنا أو نسينا لجأنا إلى ذاكرة طه العجيبة فتعيد ما وعت لا تخرم منه حرفاً؛ فنصحح أو نستكمل أو نستفيد. وإذا سئمنا أو ونينا فزعنا إلى حافظة محمود الخصيبة فيسري عن خواطرنا بمقطعات من أعذب النوادر يحكيها عن نفسه، أو يرويها عن أبيه، أو ينقلها عن حياته وزناتي محدث طليق اللسان متفنن الحديث تسمع منه النادرة عشرين مرة وكأنك لم تسمعها من قبل لجمال عرضه وجاذبية أسلوبه. ثم كان الطائر بقلبه النابض بالأمل والحب، وبجناحيه لخافقين بالخيال والنشوة، يضيق أحياناً بعشه الباغم في ركن من الرواق العباسي بالأزهر المدوي الهادر، فيخرج إلى هدوء الطبيعة يستمتع بمفاتنها في خمائل المطرية أو حدائق الجزيرة، فنتصل بالحياة العصرية، وننال من ثمار المدينة، ثم نعود إلى الأزهر فنجد الاختلاف شديداً بين حياته وحياة الناس فنقلق ونثور، ويكون مظهر هذا القلق وهذه الثورة التمرد على الأزهر المنعزل عن العالم، والسخر من الطلاب المنصرفين إلى الفقه، والعبث بالشيوخ الجاهلين بالأدب وكنا حينئذ في عهد اليفاعة حين يكون العيش كله حباً عارماً لحبيب غير مشهود ولا معهود. كان كل منا يحب أخويه حباً غلب على كل شيء. فإذا اجتمعنا عكفنا على هوى واحد هو الأدب، وإذا افترقنا نزعنا إلى هوى واحد
هو نحن الثلاثة. وكنا نعبد الجمال في أي معنى وفي أي صورة، والجمال في حياة أيفاع من طلاب الأزهر لا يرون غير الدمامة، ولا يسمعون غير الفدامة لا يمكن إلا أن يكون حلماً أو خيالاً أو مثالاً أو شيئاً من نحو ذلك، وكنا نعشق الكتب فلم ندع كتاباً في الأدب مطبوعاً ولا مخطوطاً إلا قرأناه أو قلبناه، والمكتبة العربية كانت يومئذ بالنسبة إلينا (الكتب خانة المصرية). وكان محمود أشدنا غراماً بالمكتبات والمخطوطات، فكنا حين ننصرف، طه وأنا، لدراسة الفرنسية ينصرف هو إلى مكتبة الأتراك، أو مكتبة الأزهر، أو دكاكين الوراقين، ينقب عن نوادر الكتب فيستعيرها أو ينسخها أو يشتريها، لذلك كان أعلم الناس بأسماء الكتب وسماتها وشياتها وموضوعاتها ومؤلفيها، وقد ظهر أثر ذلك حينما عمل مغيرا في دار الكتب المصرية فقد انتقد فهارس الدار نقداً قويا عنيفا كان مثار خصومة بينه وبين زملائه. ومحمود كان لا يلاين ولا يهادن إذا كان معه الحق. ولقد كان عمله في وزارة المعارف وفي وزارة الأوقاف نزعاً متصلاً بينه وبين رؤسائه، لأن الوظيفة الحكومية تقتضي صاحبها المصانعة والمهاواة والمساهلة، ومحمود كان مستقيم الطبع فلا يلتوي، شديد الإباء فلا يستكين، قوي الشكيمة فلا ينقاد، حافظ العهد فلا يغضى. من أجل ذلك طلب أن يحال إلى المعاش فأحيل قبل سنه بعشر سنين.
عرفت محموداً في درس النحو، وعرفت طه في درس الأدب، وكان بين المعرفتين شهران أو ثلاثة. كنت أحضر درس النحو الذي يلقيه الشيخ عبد الله دراز في مسجد محمد بك أبو الذهب، وكانت لي بين رفاقي شهرة بصنع الكلام الموزون المقفى، فكان هذا يطلب مدحه في باشا، وذاك بطلب تهنئة لعمدة، وذلك يريد مرثية في قريب. وعلم ذلك محمود فجاءني ذات يوم وأنا في الدرس يشكو إلي أنه صنع تاريخاً لمولود في شطر ولكنه يحتاج إلى واحد ليتم به عدد السنين 1904. فنظرت في التاريخ فأعياني أن أجد هذا الواحد، فقلت له أكتب الشطر الأول هكذا: (وبالفرد استعنت لكي أؤرخ) والفرد معناه الله ومعناه الواحد المطلوب. فضعه بين قوسين واحسبه واحداً. أما جزم المضارع فللضرورة، والضرورات ترفع المجرورات. فسر محمود بهذا الحل سروراً عظيماً وصحبني في ذلك اليوم لا نكاد نفترق حتى أثلثنا بطه في درس المرصفي، فتوثقت بيننا عرى المودة، وتصادقنا على المحبوب والمكروه، وتصافينا على القرب والبعد، ومُلِّي كل منا أخويه خمساً وأربعين سنة
تصدع فيها الشمل، وافترق الطريق، واختلفت الحظوظ، واتسعت الفروق، وثقلت الأعباء، وكثرت الأصدقاء، وتوزع القلب، وتغيرت الدنيا، واحترب العالم كله مرتين، ولكن صداقة الشباب ظلت راسخة الأصل في أعماق الفؤاد لا يعبث بها الحدثان ولا ينال منها الزمن.
كنا ثلاثة فأصبحنا اثنين: طه حسين وأنا. أما محمود زناتي فقد سبقنا إلى الغاية التي لا بد أن يبلغها كل حي. مات محمود وبكاه طه في (الأهرام) بكاء هز قلب الخلي واستدر عين الغريب. وبكاء طه على محمود بكاء على عهد مضى لن يعود، وعلى صديق قضى لن يعوض - مات محمود على فراش غير دافئ ولا وثير؛ لأنه كان وحيد أبويه، وكان أبوه وحيد جديه، فلم يكن له من عصبيته لا أخ ولا عم، وكان الله قد جعله عقيماً فلم يكن له من صلبه ابن ولا بنت. ونزل به منذ ثلاث سنين مرض فادح طال وأعضل حتى سلبه الأمل وحرمه الراحة ونقله بنو أخواله إلى ناي وهو في نهاية الشوط ونزاع الروح. وكان طيلة مرضه إذا هذى ينشد شعر الشنقيطي وكان يحفظه كله، وإذا وعى ذكر طه والزيات وتمنى لو يهادنه المرض وتعاوده الصحة فيغشى ما كان يغشى من أماكن، ويزور ما كان يزور من أصحاب! رحمك الله يا محمود وبرد بالغفران والرضوان ثراك! لقد كنت حريصاً على الوداد حين ضاع الوداد، وسخياً بالوفاء حين عز الوفاء. وأحسن الله عزاءك وأطال بقائك يا أخي طه! لقد ذكرتني أواخر الصبا وأوائل الشباب وعهداً غفل عنا الزمان فيه فنعمنا بالإخاء المحض والصفاء الخالص! ومن الذي ينسى أيها الأخ الكريم ربيعه وهو في الخريف، وشروقه وهو في الغروب؟ لقد ابتدأنا في الرواق العباسي ومعنا الشباب والأمل ومحمود، ثم انتهينا إلى مجمع فؤاد ومعنا الشيخوخة والذكرى ولا شيء!
احمد حسن الزيات
علي محمود طه شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 4 -
الإنسان صانع الأمل، ينحت تمثاله من قلبه ومن روحه، ولا يزال عاكفاً عليه يبدع في تصويره وصقله متخيلاً فيه الحياة ومرحها وجمالها، ولكن الزمن يمضي ولا يزال تمثاله طينا جامداً وحجراً أصم، حتى تخمد وقد الشباب في دم الصانع الطامح وتشعره السنون بالعجز والضعف فيفزع إلى معبد أحلامه هاتفاً بتمثاله! ولكن التمثال لا يتحرك، ولكن الحلم الجميل لا يتحقق، وهكذا نجتاح الليالي ذات المعبد وتعصف بالتمثال فيهوي حطاماً، وهنا يصرخ اليأس الإنساني ويمضي القدر في عمله!
بهذه المقدمة النثرية المحلقة في الصفحة الثانية والثمانين من (ليالي الملاح التائه) يبدأ الشاعر قصيدته (التمثال) أو قصة الأمل الإنساني في فصولها الأربعة. . . وأقدم إليك اليوم هذه القصيدة، أو هذه الصورة النفسية الثالثة:
أقبل الليل واتخذت طريقي
…
لك والنجم مؤنسي ورفيقي
وتوارى النهار خلف ستار
…
شفقي من الغمام رقيق
مد طير السماء فيه جناحا
…
كشراع في لجة من عقيق
هو مثلي، حيران يضرب في الليل ويجتاز كل واد سحيق
عاد من رحلة الحياة كما عد
…
ت وكل لوكره في الطريق!!
أبهذا التمثال هاأنذا جئت لألقاك في السكون العميق
حاملا من غرائب البر والبحر ومن كل محدث وعريق
ذاك صيدي الذي أعود به ليلا وأمضي إليه عند الشروق
جئت ألقي به على قدميك الآ
…
ن في لهفة الغريب المشوق
عاقداً منه فوق رأسك تاجاً
…
ووشاحاً لقدك الممشوق
صورة أنت من بدائع شتى
…
ومثال من كل فن رشيق
بيدي هذه جبلتك من قلبي
…
ومن رونق الشباب الأنيق
كلما شمت بارقاً من جمال
…
طرت في إثره أشق طريقي
شهد النجم كم أخذت من الروعة عنه؛ ومن صفاء البريق
شهد الطير كم سكبت أغانيه على مسمعيك سكب الرحيق
شهد الكوم كم عصرت جناه
…
وملأت الكؤوس من إبريقي
شهد البر ما تركت من الغار على معطف الربيع الوريق
شهد البحر لم أدع فيه من در
…
جدير بمفرقيك خليق
ولقد حير الطبيعة إسرا
…
ئي لها كل ليلة وطروقي
واقتحامي الضحى عليها كراع
…
أسيوي أو صائد أفريقي
أو إله مجنح يتراءى
…
في أساطير شاعر إغريقي
قلت لا تعجبي فما أنا إلا
…
شبح لج في الخفاء الوثيق
أنا يا أم صانع الأمل الضا
…
حك في صورة الغد المرموق
صغته صوغ عاشق يعشق الفن ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظرته حياة، فأعياني
…
دبيب الحياة في مخلوقي!!
كل يوم أقول: في الغد لكن
…
لست ألقاه في غد بالمفيق
ضاع عمري وما بلغت طريقي
…
وشكا القلب من عذاب وضيق
معبدي معبدي دجا الليل إلا
…
رعشة الضوء في السراج الخفوق
زأرت حولك العواصف لما
…
قهقه الرعد لا لماع البريق البروق
لطمت في الدجى نوافذك الصم
…
ودقت بكل سيلدفوق
يا لتمثالي الجميل، احتواه
…
سارب الماء كالشهيد الغريق
لم اعد ذلك القوي فأحميه
…
من الويل والبلاء المحيق
ليلتي؛ ليلتي جنيت من الآ
…
ثام حتى حملت ما لم تطيقي
فاطربي واشربي صبابة كأس
…
خمرها سال من صميم عروقي!
مر نور الضحى على آدمي
…
مطرق في اختلاجة المصعوق
في يديه حطامه الأمل الذا
…
هب في ميعه الصبا المرموق
واجما أطبق الأسى شفتيه
…
غير صوت عبر الحياة طليق
صاح بالشمس: لا يرعك عذابي
…
فاسكبي النار في دمي وأريقي
نارك المشتهاة أندى على القلب
…
وأحنى من الفؤاد الشفيق
فخذي الجسم حفنة من رماد
…
وخذي الروح سعلة من حريق
جن قلبي فما يرى دمه القاني
…
على خنجر القضاء الرقيق
في القصيدة الشعرية، وفي اللوحة التصويرية، وفي القطعة الموسيقية، وفي كل عمل يمت إلى الفن بسبب من الأسباب، يحسن بالفنان، بل يجب عليه، أن يكون له هدف. . . هذا الهدف لا بد له من تصميم، ولا بد له من خط سير، ولا بد له من خطوات تتبع خط السير وتعمل في حدود التصميم. ذلك لأن الفن في كل صورة من صوره يجب أن يعتمد أول ما يعتمد على تلك الملكية التي نسميها (ملكة التنظيم)، وكل فن يخلو من عمل هذه الملكة التي تربط بين الظواهر، وتوفق بين الخواطر، وتنسق المشاهد ذلك التنسيق الذي يضع كل شيء في مكانه، كل فن يخلو من هذه الملكة لا يعد فناً، بل هو فوضى فكرية أساسها وجدان مضطرب، وذهن مهوش، ومقاييس معقدة أو مزلزلة. وأبلغ دليل على تلك الفوضى الفكرية في بعض ما نشاهده من آثار تنسب ظلماً إلى الفن، هو تلك الحركة السريالية التي هبطت إلى ميدان الشعر كما هبطت إلى غيره من الميادين فعبثت بكل الأنظمة والمقاييس التي تطبع بطابع التسلسل والوضوح والدقة والوحدة والنظام. . . مثل هذه الحركة في الفن ليس لها هدف ولا تصميم ولا خط سير، وإنما هي أخلاط من الصور وأشتات من الأحاسيس لا يربط بينها رابط ولا تحدها حدود، وشبيه بتلك الحركة في جنايتها هي معايير الذوق وموازين الجمال كل حركة أخرى تمضي بالفن إلى غير غاية، هناك حيث تفتقر بعض الأذهان إلى تلك الملكة التنظيمية التي تلائم بين الجزئيات وتوائم بين الكليات، وتفصل ثوب التخيل على جسم الفكرة بحيث لا ينقص منه طرف من الأطراف ولا يزيد.
نريد من الفنان سواء كان شاعراً أو مصوراً أو موسيقياً أن يخلق نموذجه الفني على هدى تصميم برسم أصوله وقواعده قبل أن يبدأ عمله وقبل أن يمضي فيه وقبل أن ينتهي منه. . . نريد أن يكون بين يديه هذا التصميم يأمره بالوقوف عند هذا المشهد وبالتقاط الصور من هذه الزاوية، وبتركيز الانفعال في هذا الموطن من مواطن الإثارة. عندئذ نوجد نظاماً، وإذا ما أوجدنا النظام فقد خلقنا الجمال، وإذا ما خلقنا الجمال فقد أقمنا بناء الفن. هذا التصميم الذي ندعو إليه ينظم هيكله العام أصول الأداء النفسي في الشعر والتصوير والموسيقى.
هناك حيث تتوقف قيمة الفنان على مدى خبرته بتلوين الألفاظ والأجواء في الميدان الأول، وتوزيع الضلال والأضواء في الميدان الثاني، وتوجيه الأنغام والأصوات في الميدان الأخير. ولا بد للأداء النفسي في الشعر من هذا (التصميم الداخلي)، لا بد من جمع أدوات العمل الفني وترتيبها في ذلك المستودع العميق، مستودع النفس، قبل أن ندفع بها إلى حيز الوجود كائناً حياً مكتمل الخلقة متناسق الأعضاء إننا ننكر ذلك الشعر الذي تكون فيه القصيدة أشبه بتيه تنطمس فيه معالم الطرق وتنمحي الجهات، أو أشبه بمولود خرج إلى الحياة قبل موعده فخرج وهو ناقص النمو مشوه القسمات.
هذه كلمة نمهد بها لتلك القصيدة التي يعرض فيها الشاعر قصة الأمل الإنساني كما تعرفها الأيام في دنيا الأحياء، وإنها لتمثل خير تمثيل ذلك التصميم الداخلي الذي ندعو إليه، أو ذلك التصميم النفسي الذي يقود الإخراج الفني تلك القيادة التي يندر أن يفلت فيها الزمام. . .
في المقطوعة الأولى التي تنتظم عشرة أبيات من الشعر، يقدم الشاعر أول فصل من فصول القصة. إنه في طريقه إلى التمثال، تمثال الأمل الذي نحته من قلبه وروحه، إنه يريد أن ينفرد به ليناجيه، وفي الليل حين تنام الكائنات. . . تستيقظ الذكريات! ليس النهار بالوقت الذي تطيب فيه المناجاة. إن المناجاة تنفر من الضوء وتستنكر الضوضاء، لأن مهدها الظلام الشامل ولأن موطنها السكون العميق. . . من يفطن إلى هذا المعنى، إنه شاعر الأداء النفسي، إنه على طه! لو كان من شعراء الأداء اللفظي لخاطب التمثال من مذياع اللفظ لا مذياع النفس، حيث لا يفرق المذياع الأول بين الوقت المناسب وغير المناسب لفنون الخطاب. . . مذياع النفس حين تنطلق الدافقة الصوتية في وقتتها المعلوم، ومنظار النفس حين تشق الرؤية الشعرية طريقها ولو كان بين الغيوم:
مد طير المساء فيه جناحا
…
كشراع في لجة من عقيق
ليست الألفاظ في مثل هذه الصورة مما يقذف به قذفاً لتستقر في أي موضع يقدر لها أن تستقر فيه، ولكنها مفاتيح، مفاتيح (غرف نفسية) يتصل بعضها ببعض حيث تشف الجدران فلا حاجة بك إلى معالجة الأبواب. . . إن (الستار الشفقي) غرفة و (طير المساء ذا الجناح الممدود) غرفة أخرى، و (الشراع الذي في لجة من عقيق) غرفة ثالثة، وأداة الاتصال بين
هذه الغرف الثلاث هي وحدة اللون بين الستار واللجة، ووحدة الشبه بين الجناح والشراع، ووحدة اللمسة الفنية في البيت الرابع الذي يعد الممر الطبيعي المفضي إلى (البهو) الكبير. . . وأين هو البهو الكبير الذي ينتهي إليه السالكون بعد طوافهم في الغرف الثلاث؟ هو في تلك اللمحة النفسية المعبر عنها في البيت الخامس بكلمة واحدة، هي ذلك (الوكر) الذي يفزع إليه كل طائر أجهدته رحلة الحياة:
عاد من رحلة الحياة كما عد
…
ت، وكل لوكره في الطريق
وفي المقطوعة الثانية ينثر لشاعر بين يدي القارئ مجموعة هداياه، وهي المجموعة التي نثرها يوما تحت قدمي تمثاله عسى أن يتحرك، ولكن الحلم الجميل لم يتحقق! إنها مجموعة من الغرائب حوت كل محدث وعريق، مجموعة أحلام وأوهام لم تبعث في التمثال ما كان ينشده الشاعر من حياة، ولكنها بعثت في الشعر النفسي كل ما ينشده الأداء النفسي من لمعات. . . لقد أخذ من النجم، وأخذ من الطير، وأخذ من الكرم، وأخذ من البر، وأخذ من البحر، واستعار من حلى الطبيعة ما زين به الرأس والمفرقين والقوام. وهنا تبدو دقة التصميم الداخلي بالنسبة إلى الوحدة الجزئية موزعة على الأبيات، أما الوحدة الكلية الموزعة على الهيكل العام للقصيدة فهي في التقاء المعاني الشعرية المتداخلة على مدار المقطوعات الأربع ولا تنس هذا الأداء النفسي في قوله:(ذاك صيدي) و (جبلتك من قلبي) و (سكبت أغانيه) و (معطف الربيع الوريق). إن الأداء النفسي في اختيار الألفاظ ينكر الصنعة ويضيق بالارتجال!
وكما يرسل المصباح شعاعا من هنا وشعاعاً من هناك لتلتقي هذه الأشعة وتتجمع في (بؤرة) بعينها تتركز فيها الطاقة الضوئية يرسل شاعر الأداء النفسي معانيه من شتى الجوانب والجهات لتلتقي هذه المعاني وتتجمع في (صورة) بعينها تتركز فيها الطاقة الشعورية. وكذلك تجد علي طه. . . فبعد أن عدد تلك الجولات المرهقة في وحلة الحياة، وبعد أن طاف بكل مجلى من مجالي الطبيعة، وبعد أن حلق بأحلام الشباب وأمانيه في كل أفق؛ بعد أن سجل كل تلك المعاني النفسية المتفرقة، عاد ليؤلف بينها وليخرج منها (الصورة الكبرى) التي تعرف موقعها في الإطار والجدار:
قلت لا تعجبي فما أنا إلا
…
شبح لج في الخفاء الوثيق
أنا يا أم صانع الأمل الضا
…
حك في صورة الغد المرموق!
وما تلك الأم التي يخاطبها الشاعر في هذا المجال؟ إنها الطبيعة. . . الطبيعة التي (حيرها إسراؤه) في ليالي الشوق والهيام، و (اقتحامه عليها الضحى) اقتحام الرعاة والصائدين، أو اقتحام تلك الآلهة المجنحة في أساطير الأولين!
وأعود بالذاكرة إلى شاعر آخر يتفق مع شاعرنا في هذا الفناء المطلق في هوى الطبيعة، الفناء الذي يربط بينها وبينه بتلك الخيوط الوجدانية التي تربط بين وفاء البنوة وحنان الأمومة. إنه الشاعر الإنكليزي (بيرن) في (تشايلد هارولد). . . لقد عشق كلاهما الطبيعة، وهام بها كما يهيم (الابن) البار بخير (أم) تسقيه من ثديها رحيق الحياة! وهاهو ذا (بيرن) يشير إلى هذا المعنى الكبير عندما يقول:(إن الطبيعة الحبيبة رغم اختلاف صورها ما زالت خير أم، فدعني أنقل عن قلبها العاري كل فكرة ملهمة، أنا أبر أطفالها بها وإن لم أكن إلى قلبها أحب البنين)!
لقد سجدت أفكار الشاعرين في محراب واحد، والتقت منهما الخواطر في صلاة واحدة، وهتفا في صوت واحد مولين وجهيهما شطر الطبيعة: أماه. . . وكلاهما صادق في حبه مخلص في هواه! وفي ميدان هذا الحب المتغلغل بين الجوانح يتفقان، ولكنهما في ميدان التعبير عنه والإشادة به يفترقان، تبعا لما بين (الصدق الفني)(والصدق الشعوري) من فروق، وسنعود إلى توضيح تلك الفروق في فصل مقبل من فصول هذه الدراسة النفسية. . . وسترى أن الطبيعة في شعر علي طه لم تكن خير أم فحسب، واكنها كانت أيضا خير أستاذ، وحسبك أن تستمع إليه في الصفحة الأربعين بعد المائة من (الملاح التائه) حيث يقول:
وأنا الشاعر الذي أفتن بالحسن وأذكت يد الحياة افتتانه
معهدي هذه المروج وأستاذي ربيع الطبيعة ألفيناه!
ونترك جو الطبيعة الأم إلى جو آخر؛ جو الأمل اليائس حين يعود إليه الشاعر من جديد ليطلق صرخته الخالدة، صرخة الفنان لخالق ينظر إلى صنع خياله فتصدمه الحقيقة البشعة، حين تنهار صروح الوهم الجميل تحت ضربات القدر أو تحت معاول الرياح. . . وستلمس أن الروافد الشعرية ما زالت تتصل بالنهر الأول وتسير في نفس الاتجاه محاذية
لمجراه، وسمها إن شئت ذلك الامتداد الأخير لخط الاتجاه النفسي في الصورة الرئيسية؛ تلك التي تتشابك في داخلها بقية الخطوط الأخرى لتمضي بعد ذلك مجتمعة في خط واحد كبير:
صغته صوغ عاشق يعشق الفن ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظرته حياة، فأعياني دبيب الحياة في مخلوقي!!
ولقد طالت المقطوعة الثانية حتى بلغت سبعة عشر بيتا من الشعر. إنها أطول المقطوعات وأحفلها بتنوع السبحات والرؤى والأطياف. . . ولو رحت تتقصى أثر التصميم الداخلي في بناء العمل الفني لانتهيت إلى أن هذه المقطوعة يجب أن تطول؛ ذلك لأنها بمكان القلب الذي ينظم حركات النبض في مختلف الشرايين الشعرية في المقطوعات الثلاث!
ولا تنتظم المقطوعة الثالثة من الشعر غير سبعة أبيات، لأن النفس الإنسانية تمر هنا بلحظة من لحظات الهزيمة التي تترك في أعماقها ذلك الخور المتخلف عن آثار اليأس والقنوط، وفي غمرة هذا الشعور المظلم لا يتسع المجال لغير الزفرة المحرقة التي تغنى فيها فور العواطف عن وفرة الصور وتعدد اللمحات. . . ولعلك تحس لفح هذه الزفرة في تهدج النفس الشعري عندما يهتف الشاعر في البيت الأول من هذه المقطوعة:
معبدي! معبدي! دجا من الليل إلا
…
رعشة الضوء في السراج الخفوق
أو في ذلك البيت الذي يمهد به لما يليه:
ليلتي! ليلتي جنيت من الآ
…
ثام حتى حملت ما لم تطيقي!
ومرة أخرى تهزك العلاقة النفسية بين الألفاظ في البيت الثاني والثالث والرابع من هذه المقطوعة: لقد (زأرت العواصف) و (قهقه الرعد) و (التمع البرق) و (تدفق السيل) و (احتوى التمثال الجميل سارب الماء). . .
ومن وراء هذا كله يقف الأداء النفسي على قدميه ليثب وثبته الأخيرة حين يصف التمثال (بالشهيد الغريق)!!
وتتفق المقطوعة الأخيرة مع المقطوعة السابقة اتفاق قيم ومقاييس، ولكنها تصور ختام المعركة بين الوهم والحقيقة أو بين الخيال والواقع. وويح أبناء الخيال من كل معركة تنشب داخل النفس ويكتوي بنارها القلب وتمتلئ بغبارها العين، وتنجلي حين تنجلي عن
صرعى ظنون وعن شهداء آمال! شهداء (يمر عليهم نور الضحى) فلا يمر إلا على كل آدمي مصعوق) (أطبق الأسى شفتيه) إلا من أنات. . . تنطلق (عبر الحياة) لتصيح بالشمس في لهفة الضارع المستجير:
نارك المشتهاة أندى على القلب
…
وأحنى من الفؤاد الشقيق الشفيق
فخذي الجفن حفنة من رماد
…
وخذي الروح شعلة من حريق
(يتبع)
أنور المعداوي
بودلير وفن الشعر
للأستاذ عبد الفتاح الديدى
يرتكن الأساس الوضعي للنقد الأدبي عند كتاب الغرب إلى أمرين: نظرية في الجمال ونظرية في الخيال. فهاتان النظريتان بمثابة العمود الفقري عند الغربيين في كل نقد أدبي، ويكونان المحور الأصلي الذي تدور حوله الأقوال وتنبعث منه الأحكام. وبتوالي الأيام نشأت في نفوسنا عادة البدء بالسؤال عن هذين الجانبين عند الإطلاع على مؤلف في الأصول النقدية أو عند الوقوف على استعراض أدبي للمذاهب. وإذا كنت أحاول التقديم بهذه الملاحظة فلأنني أحب أن أوجه أنظار النقاد في مصر إلى أن عملهم لن يكون ذا قيمة أو اعتبار ما دام منحصراً في تلك الدائرة المقفلة دائرة التعليق الخالص.
فهكذا عودنا نقاد الغرب واستطعنا بذلك أن ندرك الأغوار البعيدة التي تسند كلامهم الظاهر وتتعهد أفكارهم الجادية. فإذا ما ساق إليك أحدهم حكما في إحدى مشكلات الفن، قدم له تحليلا وافرا عن النظرية الفلسفية التي يبني عليها آرائه، والبحث النفسي الذي يعتمد عليه في تفسير ما يبديه من الاعتراضات والتوضيحات. فلا يخلو - والأمر كذلك - بحث نقدي من فكرة في الجمال وفكرة في الخيال.
أما فكرة الجمال فمن شأنها أن تربط بين مفهوم الذوق عند الفنان وبين مفهومه عند عامة الناس. إلى جانب أنها تحدد البعد الذي يستند إليه الناقد في تحديد القيمة الأدبية من جانب الشكل والتنغيم. وبذلك تصبح فكرة الجمال موضع الاتفاق الشعوري بين الناس، وملتقى الاحساسات الغامضة في الاستحسان والاستهجان. ثم نلاحظ شيئا آخر وهو أن نظرية الجمال عند الناقد تبرر مسلكه في الاعتراض، وتؤيد مذهبه في المآخذ التي يبديها عند مراجعة الأعمال الأدبية. فأول ما يخطر على ذهن القارئ عندما يقرأ مقالا في النقد الأدبي هو التساؤل عن السبب الذي يجعلك في موقف بالذات لا تكون في سواه، أو الدافع الذي يحملك على إعلان رأيك خاليا من المسوغات أو المبررات. فالفكرة الجمالية عند الناقد من هذه الناحية تغنيه - في الوقت نفسه - عن الشرح والتعليل في كل لحظة من اللحظات التي تمر به وهو بصدد التفنيد والمؤاخذة والوزن.
أما فكرة الخيال فتنفذ إلى أعماق النفس البشرية كما تفسر لنا شيئين على جانب عظيم من
الأهمية بالنسبة إلى العمل الأدبي. أما الشيء الأول فهو الكشف عن مقومات العمل الأدبي كما هي مطبوعة في نفسية الفنان المبدع، والإعلان عن قيمة الخلق الفني بطريقة من الطرق الخاصة التي انفردت بها مدرسة وتحدد بها اتجاه. كذلك يعين التفسير السيكلوجي للخيال الفني المبدع على تقييد الأديب بطريقة معينة في التعبير عن الأزمات التي تمر به والأهواء التي تنتابه. فالفنان محصور - في هذا النطاق الضيق الذي يهيئه خياله - بآفاق مدارك خاصة. وعلاوة على هذا نستطيع أن نجد في غضون كلامنا عن الخيال ما يبرز لنل ملامح التصور الذهني في العقلية المبدعة، وما يرينا تلك الصلة التي تربط بين خيال الفنان وبين عناصر الطبيعة الخارجية من ناحية التكوين والملاحظة والالتفات.
وعلى الرغم من أننا لا نستطيع أن نرتفع بالاتجاه النقدي عند بودلير إلى حد الحكم على عمله بأنه مذهب متكامل، يمكننا - مع ذلك - أن نجد لديه أساسين من الجمال والخيال اللذين يكفيان لدعم أقواله. فمن ناحية الجمال نشاهد عنده تفصيلا دقيقا لبعض الأمور التي تكون شبكة مترابطة، وتقيم بنيانا متماسكا إلى حد بعيد. فهو أولا يخص الجمال بصفة تعبر عن شخصيته أجمل تعبير، وتوضح طابعه الروحي في الإعداد الشعري والتقويم النقدي سواء بسواء. إذ يقول أن الجمال لا يمكن أن يكون مطلقا وأبديا، ويلزمه الارتباط بالحياة اليومية والأشياء العامة حتى يتمثل ويصير حقيقة من الحقائق. فالجمال الخالص أسطورة من الأساطير لا يعرفها العمل الأدبي إلا إذا كانت متعلقة بالجزئيات الحاصلة في مجرى أمورنا العادية.
وبذلك ينتهي الجمال إلى أن يكون عملا نسبيا في كل الأحوال ما دام الاختلاف قائما في نماذج الحياة تتأثر بالزمان والمكان. وفي رأي بودلير أن هؤلاء الشعراء الذين يطلبون الجمال المطلق، وينشدون البدعة الخالدة ليسوا إلا شيعة من المفتونين. فكل زمن وكل جماعة - كما يقول - لها تعبيرها الخاص عن الجمال في نظرها. ولا بد للشاعر أن يسعى حثيثا كيما يحقق مثلا للجمال في نفسه يلائم أوضاع العصر ويساير ركب الزمن ويفي بما للبيئة عليه من الآثار والأفضال.
ومن أهم خصائص الجمال في العمل الأدبي لديه أن يلفت النظر ويثير الدهشة بأي شكل من الأشكال. فلا بد من تحقيق هذه اللفتة وتلك الدهشة بأن يعمد الأديب إلى القواعد النقدية
والأصول المدرسية فيخرج عليها، وأن يفارق سنة الاتباع الحرفي لأحكام الرقباء مهما كانوا. ويقول إنه من أجل المحافظة على الفرحة التي تثيرها الدهشة في النفس، والإبقاء على النشوة التي تحدثها الجدة والغرابة في الوجدان، ينبغي أن يظل الكاتب حريصا على التنويع والابتكار في النماذج المعروضة والأحاسيس المجتلاة. ذلك لأنه إذا ضاع التنوع في أعمال الأديب اختلطت النماذج واعتجنت الوحدات وصارت على هيئة رتيبة خالية من الشخصية والحياة، شبيهة بالانقفال والعدم. ويؤكد بودلير دائما هذه الحقيقة: وهي أن الجميل دائما خارق للعادة وخارج على المألوف وغير موافق لما أتى به الغير في نفس المجال.
أما نظريته في الارتباط فهي وثيقة الارتباط بمنحاه الشعري وشديدة الالتصاق بروحه في الفن والتأليف. فبودلير واحد من أولئك الحالمين الذين نشدوا اللذة في استقصاء المجهول، وبحثوا عن المتعة بعيدا عن الحياة الواقعية الكالحة. فأبعد شيء عن فهم بودلير هو القول بالرسالة الاجتماعية والأخلاقية التي يؤديها فن من الفنون والشعر خاصة. وذلك طبيعي ولازم جدا ما دمنا نجد في الانفعال الشعري فسحة من أجل الانطلاق إلى حيث تستطيع النفس أن ترضي شهوتها في البزوغ، وتبعا لما نصادفه أمام وهج الإحساس الفني من اللفحات التي تهبنا كل عوامل الشرود والانبثاق. ففي مقابل الطبيعة التي يلمس بشاعتها، والواقع الماثل الذي يحس بقبحه ودمامته، يضع بودلير عالم الخيال. وهناك يفضل بودلير مظاهر التشوه والمرض على مظاهر الصحة والانسجام، ويضع نتاج الوهم في مرتبة من التقدير والاهتمام أعلى من مرتبة الحقائق الواردة من عالم الحياة.
فالخيال بالنسبة إلى الفنان يعلو على أية موهبة أخرى ويفوق كل ملكات الدماغ. وإذا كان هناك ما يؤيد هذا القول فإننا نكتفي بأن نعرف معرفة أكيدة أن عالم الفنان من خلقه، وأن الدنيا عنده وليدة وهمه وتصوره، حتى نقدر ما لهذه الوظيفة العقلية من أهمية بالغة. فالعالم الظاهري الموجود عبارة عن المجال الذي ينشط فيه الفنان كيما ينتقي آلاته وأدواته، ويختار النماذج والصور اللازمة بالنسبة إليه. ولا يتم ذلك إلا على نحو معين هو الذي يكشف عن مقومات الشخصية التي تقوم بالانتقاء، والذاتية التي تستتر وراء عملية الاختيار. فالمجال الحيوي لنفسية الفنان هو الأشياء الخارجية.
ولا ترجع أهمية الخيال عند بودلير إلى هذا فحسب، وإنما ترجع أيضا إلى اعتقاد بودلير في نوع من الواقعية الداخلية أو من الانطواء الذاتي. وإذا صح ذلك لعب الخيال دوراً كبيراً في أعمال الفنان تبعا للارتباط الحاصل فيما بين التكييف الداخلي ووسائل النقل؛ أعني فيما بين القدرة على التهيئة والإعداد وبين الحواس المختلفة. فالهدف الذي يسعى الفن إلى تحقيقه ذاتي إلى أقصى درجة، والمرمى الذي يبغي النفاذ إليه فردي بحكم الضرورة، ولا يكاد الفنان خاصة من بين كل الناس يفارق نفسه. فالفنان يمتاز أولا وقبل كل شيء بأنه صاحب خيال أو متخيل، يقبس النار من روحه ليضئ بها الأشياء، ويعكس المشاعر على باطنه لتعود فتنير الحياة. فالخيال الخصب عند الفنان هو الذي يوحي إليه بترجمة المظاهر الطبيعية في صورة أشعار منظومة وترانيم حية، وفعل الخيال إنما يظهر حقيقة في عملية الاختيار بين الأشياء التي يتجاوب معها، والأحداث التي ينفعل لها، والمظاهر التي يتأثر بها.
وبناء على هذه الأنظار المتتالية في الخيال والجمال، آمن بودلير بضرورة الفصل بين المهمة التي يقوم بها الشعر والمهمات الأخرى التي تقوم بها علوم الأخلاق والفلسفة. فالشعر لا يعرف شيئاً عن هذه الخدمات التي يزعم بعض أصحاب المدارس الفنية أنها تقوم على يديه وتتأدى به وتخلص عن طريقه. وإذا أخذنا الشعر على أنه أداة اجتماعية لرفع المستوى العام في الأخلاق أو ترقية المنحى الشائع في التفكير، فقد كل ما له من صبغة الذاتية، وصار محكوما عليه بالموت بين أكفان التقليد الزائف، وعلى صحائف الخطابة الجوفاء. وهذا الحكم مبني في نظر بودلير على أساس أن الفن بنقص قدره حينما يخضع لما تمليه عليه الطبيعة الخارجية وعند ما ينحى بازاء مشاهد الحياة.
فالدور الذي يقوم به الفنان لا يعتمد على النقل والتقليد وإنما يعتمد على معارضة الأشياء الموجودة وإنكارها إنكاراً يتمثل في إقحام الذات عند الكتابة النثرية أو الشعرية كلما أمكن. فأول عمل من أعمال الفنان هو إسقاط الطبيعة في الخارج وإحلال النفس الإنسانية محلها. وإذا أمكن هذا أصبح من العسير أن نخضع الشعر للقيود البرانية، وخرجت عن نطاق العمل الأدبي كل محاولة من قبيل الإصلاح والإرشاد والتعليم. وعلى هذا النحو يكون للشعر غرض واحد؛ وهذا الغرض الواحد هو نفسه. وفي صورته العليا أو على نحوه
الأمثل تغيب عن الشعر كل نزعة سياسة وتختفي مظاهر البحث الفلسفي حتى يبقى في النهاية جوهرة الفردي العميق.
وإذا نظرنا في هذه الآراء التي سردها بودلير والتي آمن بها إلى آخر حياته، وجدناها لا تخلو من اتجاه موحد أو من نظرية مستقلة. وعلى الرغم مما قد نجده في شعره من توزع بين كثير من المذاهب الشعرية ومن تأثر بما شاع وقتئذ من المدارس لا نكاد نعثر في نقده على خطوط غير أصيلة أو على سمات طفيلية. ويستطيع النقاد بعد تحليل بسيط أن يوقفوك على عناصر رومانتيكية أو على عناصر برناسية في شعر بودلير؛ أما في موقفة النقدي فلا يمكنهم إلا أن يقروا بشخصيته الناقدة التي تقف في الناحية المقابلة للرومانتيكية والتي تسخر من البارناسية وتواجه المذهب الواقعي بدون أي تراجع أو انثناء عن نزعته الفردية الواضحة وعن إيمانه الفني الخاص به دون سواه.
ومما يلاحظ في النهاية أنه لا يستطيع واحد من الناس اتباع ما جاء في كلام بودلير من الأفكار وما تخلل عباراته من الآراء النقدية. وذلك لأن بودلير لم يعمل على إتمام حلقات مفقودة كثيرة في طيات مذهبه، ولم يكن من المثابرة والانكباب بحيث يمكنه أن يأخذ شيئاً من الأشياء مأخذا جديا وأن ينظر إلى الحياة نظرة فيها عناية أو غيرة أو اهتمام. والعيب الأصيل الذي يتمثل في غياب عنصر الحيوية من النقد البودليري إنما يأتي عن هذه الروح الذاتية المفرطة التي أمتاز بها الرجل طيلة أيامه على الأرض. كان فرديا زيادة عما يلزم بالنسبة إلى ناقد يريد الخير للأدب وينشد الرفعة للفن الذي يعمل كاهنا في محرابه. وكان يشعر بالعبث والتفاهة في شئون الحياة على نحو أفقده كل اعتبار للتقدم وكل تقدير للارتقاء الذي تصيبه الأعمال العادية.
وإذا ذهبنا إلى القول بأن بودلير لم يكن قادراً على تركيز مجهوداته في عمل من الأعمال أو بذل عنايته في باب من الأبواب فليس معنى ذلك أنه كان قليل الأهمية في تاريخ النقد؛ لأن مذهبه النقدي لا يخلو من نفحة عبقرية استندت إلى فلسفة في التحليل وجمال في التفصيل وقوة من الأداء. ويقول (رينيه لالو) تأييدا لكلامنا هذا في كتابه عن مراحل الشعر الفرنسي (ص86) إن مقالتيه عن الفن الرومانتيكي والتشوفات الجمالية تثبتان ضلاعة مواهبه النقدية. وأغلب ظني أنه استفاد كثيرا من التوجيهات التي كان يصدرها في تعليقاته
عن الفنون الأخرى كالموسيقى والرسم ولكن الذي لا شك فيه أنه قد استفاد كثيراً من الاتجاه الذي سار فيه سان بيف والخطوات التي مشى في إثرها. إن الاثنين - بودلير وسان بيف - هما الناقدان المهمان في الحركة الرومانتيكية إذا نظرنا إليها محصورة في النطاق الفرنسي.
وأهم ما يمكن أن يعزى إلى بودلير في حركته النقدية هو أنه فتح الباب أمام الرمزية الصحيحة كيما تتقدم وكيما تأخذ مكانها المرموق بين المذاهب. فليس فن بودلير في النظم وحده هو الذي يضع جرثومة الرمزية وإنما يأتي في غضون كلامه النظري عن الفن الخالص ما يمكن أن ينظر إليه المؤرخ على أنه إرهاصات خالية من الزيف، وتباشير ممتلئة بالحياة، ودلائل قاطعة على الأسبقية والبدء.
وإذ نعتى هاهنا بتوكيد هذه الحقيقة فلأننا نؤمن إيمانا قويا بأن كل حركة نقدية لا تلتفت هذه اللفتة ولا تبذل عنايتها في هذا الجانب ستفقد غير قليل من أهميتها. لسبب بسيط وهو أن الأدب الخالص لا يكون إلا رمزيا للغاية، ولا يستطيعإلا أن ينصرف هذا المنصرف للتفرقة بين بعضه كفن وبين بعضه الآخر كعلم. وأول بيان كامل عن الرمزية هو ذلك الذي كتبه موريا في الملحق الأدبي للفيجارو بتاريخ 18 سبتمبر عام 1886 حيث جاء فيه أن هذا المذهب إنما يهتدي بآثار بودلير عن (المجاوبات) عادة كنمط فريد للشعر الرمزي وهذه ترجمتها:
إن الطبيعة معبد أركانه أحياء،
يدعون ألسنهم أحيانا فتنطق بالكلمات المبهمة.
ويجوس الإنسان بين غابات الرموز،
فيرمقها بنظرات أليفة.
ومثلما تختلط إرجاع الصوت من بعيد،
في وحدة مظلمة عميقة،
رحبة مثل الليل ومثل الضوء،
تتشابه الروائح والألوان والأصوات،
والمعبد ملآن بالروائح الزكية كلحم الأطفال،
الحلوة كأنغام المزمار
الخضراء كلون المراعي
وملآن بأشياء أخرى مرتشاة وغنية ومنتصرة
وله اتساع الأشياء اللانهائية،
بفضل العنبر والمسك واللبان والبخور،
الذي يذكي هيمان الروح والحواس،
أما من ناحية العمل النقدي فيذكرون أنه هاجم الشعر بنزعاته الفكرية والإصلاحية وأسبغ عليه من لدنه روح الغموض وأدخل فيه موجة التحليق. ثم أنه قد عمل على تخليص الشعر من العقبات التي عاقته عن التقدم وحرمته الحياة فترة طويلة من الزمن. وإذا كان الكثيرون من النقاد قد اكتفوا بأنهم نقاد فبودلير قد أعطانا النموذج قبل أن يعطينا الفكرة وبين لنا تفصيلا وإجمالا. . أعني نظريا وواقعيا معا، فأصبح يعد بحق من بين أكبر من أثر في الشعر والنقد الحديثين وأخطر من رسم عليهما خطوطا بارزة ستبقى إلى الأبد محتفظة باسمه وطابعه.
عبد الفتاح الديدي
الشعر المصري في مائة عام
1850 -
1950
الدور الأول
1850 -
1882
3
1 -
معانيه
ذكرنا أن المدح قد احتل الجزء الأكبر من دواوين الشعراء في ذلك العصر. ولم يكن في هذا المدح معنى مبتكر، ولا خاطر جديد، ولا فكرة مخترعة، ولا تشبيه محدث. بل ردد الشعراء المعاني القديمة التي سبقهم إليها الأقدمون. ولم يحسنوا أداء هذه المعاني كما أحسن السابقون. فتراهم إذا مدحوا ملكا شبهوه في العدل بكسرى، وذكروا عجز قيصر إلى البلوغ إلى مرتبة الممدوح فالساعاتي يقول:
رفع القواعد من دعائم دولة
…
عزت به فنظيرها لا ينظر
قد طاولت بالعدل كسرى واعتلت
…
شرفا وقصر عن مداها قيصر
وصالح مجدي يقول في سعيد:
عدل كسرى وإن سما لا يساوي
…
عشر معشار عدل هذا العميد
قيصر الروم عزمه في قصور
…
عند صدر مؤيد وسعيد
فهؤلاء الشعراء كما ترى مفلسون من المعاني لا يجدون أمامهم غير كسرى وقيصر. وإذا مدحوا الحاكم بالجود والكرم قالوا: بأن جود معن وحاتم لا يذكر بجانب كرم هذا الممدوح.
وكر عمرو لا يقاس بكر ممدوحهم، وذكاء إياس لا يساوي ذرة من ذكائه. وهم يكررون هذا في معظم قصائد المدح. فمن ذلك قول إبراهيم مرزوق في عباس الأول:
ما حلم أحنف؟ ما سماحة حاتم؟
…
ما كر عمرو؟ ما ذكاء إياس؟
وقال صالح مجدي مادحاً سعيدا:
جود معن وحاتم لا يضاهي
…
ذرة من شعاع جود مديد
كر عمرو بكره لا تقسه
…
هو في حربه مبيد الأسود
هل يجاريه في الذكاء إياس
…
وهو فيه إمام كل مجيد
ولم يكتف صالح مجدي بإسناد هذه الصفات إلى سعيد وإسماعيل، بل أسندها إلى كثير ممن مدحهم من الوزراء والأعيان.
وممدوحهم فريد ليس له مثيل. قال علي فهمي رفاعه:
راموا مراعاة النظير فلم يروا
…
مثلا له هيهات عز مثيل
وقال أبو النصر:
إلى ملك الدنيا تود انتسابها
…
لما علمت في الكون أنك أوحد
وقال الليثي:
من في المعالي وعين الله تحرسه
…
في الكون يحكيه أو من ذا ينازعه
وهكذا جال الشعراء في دائرة ضيقة محدودة. فمدائح كل منهم قصيدة معادة ومدائحهم كلهم صورة مكررة.
وكانوا لإفلاسهم وضيق خيالهم يأتون بالمعنى القليل في عدة أبيات. ومثال ذلك ما جاء في قصيدة لمحمد سعيد يهنئ بها الخديو توفيق:
تهني مصر بالبشرى
…
وتسمو في العلا قدرا
وللتوفيق توفيق
…
خديويها لها البشرى
يتيه الملك من عجب
…
بشامخ مجده كبرا
تراه حين شرفه
…
تبدى باسماً ثغرا
وأصبح وهو منشرح
…
لفرط سروره صدرا
لقطر النيل أفراح
…
تعم بأنسها القطرا
به كل الرعية في
…
حبور زادهم بشرا
وقاهرة تبسم ثغ
…
رها إذ لاح مفترا
فمعنى هذه الأبيات تافه جدا، ولا يستدعي هذا الإسهاب. فالشاعر يريد أن يقول: إن مصر تهنأ بالخديوي الذي اختال به الملك وفرحت بتوليته البلاد وأهلها. وكان في استطاعته أن يأتي بهذا المعنى في لفظ موجز، ولكن رغبته في الإطالة مع خلو جعبته من المعاني
اضطره إلى هذا الإطناب الذي لا فائدة منه. وهكذا كان يفعل شعراء هذا الدور.
وإذا رثوا شخصاً بدءوا القصائد بذكر الموت الذي يختار من الناس الجياد، ويصفي الكرام. وأسهبوا وأطنبوا بما لا يخرج عن معنى هذين البيتين:
الناس للموت كخيل الطراد
…
فالسابق السابق منها الجواد
والموت نقاد على كفه
…
جواهر يختار منها الجياد
أو يشيرون إلى كأس المنون التي تدور على البرية فيشرب منها كل إنسان. ويختمون الرثاء بذكر الحور العين وما يلقاه الميت في الجنة من مظاهر النعيم.
ومثال ذلك قول أحمد عبد الغني في رثاء عبد الله فكري:
فأحله الرحمن أعلى جنة
…
وأحله فيها وقد أعلاه
والحور والولدان قد فرحوا به
…
واستقبلوه بالسرور وتاهوا
وقول أبي النصر في رثاء أحد العلماء:
فله البشارة حيث حل بروضة
…
فيحابها للعلم طيب عاطر
والحور في دار البقا لقدومه
…
في الانتظار وبشرها متبادر
وقوله في رثاء طوسون بن سعيد:
فأنعم بروضة قبرك الفيحا وطب
…
وأنس بما قدمت من حسنات
ولسوف تمنح ما يسر من الرضا
…
ما بين حور ثم مقصورات
بشراك في دار النعيم بمشتهى
…
ما تشتهي من يانع الثمرات
وبك الحدائق تزدهي أنوارها
…
وإليك يهدى عاطر النفحات
وبجنة المأوى تفوز بما تشا
…
من فضل ربك واسع الرحمات
فمن هذا نتبين كيف أن الشعراء يشتركون معا في الوقوع على هذه المعاني. وهذا أكبر دليل على ضيق المجال أمام هؤلاء الشعراء.
وإذا وصف أحدهم اختراعا حديثاً ظهر عجزه واضطرابه. ومثال ذلك قصيدة لصالح مجدي في وصف وابور سعيد مطلعها:
أمدينة من فوق لج الماء
…
تجري بأبهج منظر وبهاء
أم هذه إرم بدت وعمادها
…
مسبوكة من فضة بيضاء
أم ذاك وابور المسرة مده
…
صدر البرية أسعد السعداء
فشبه السفينة البخارية بمدينة، ثم شبهها بإرم ذات العماد وهي مدينة كذلك. ثم هوى من بعد ذلك من شاهق فذكر (وابور المسرة) مع أن الصورة التي يتركها في الذهن (وابور المسرة) لا تضارع الصورة التي تتركها إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وذكر كلمة (بيضاء) بعد (الفضة) لغو لأن لون الفضة معروف. ثم شبهها بعد ذلك بالفلك. قال:
فكأن هذا الفلك في تعظيمه
…
فلك به تسري نجوم سماء
والذي أوحى إليه بهذا التشبيه هو الجناس بين الكلمتين. والحقيقة أن وجه الشبه معدوم بين السفينة وبين الفلك الذي هو دائرة وهمية تسير فيها النجوم. وذكر (سماء) بعد (نجوم) لغو لا طائل وراءه.
ثم قال:
وكأنه في النهر عند مسيره
…
برق يقصر عنه طرف الرائي
ثم قال بعد ذلك بأبيات:
فإذا تصدى للسباق فدونه
…
وابور بر طار في البيداء
والاضطراب هنا ظاهر. فهذا الوابور إذا سار سيراً عاديا فهو يشبه البرق، وإذا تصدى للسباق وجرى بأقصى سرعة كان أعظم من وابور البر. فأنت ترى أن الشاعر قد انتقل من صورة رائعة في قوله (برق يقصر عنه طرف الرائي) إلى صورة ضعيفة في قوله (وابور بر طار في البيداء).
ويلاحظ أن الشاعر حينما أراد أن يصف وابور البحر وقف أمامه حائرا متسائلا عن حقيقة أمر هذا الشيء الذي يراه. أهو مدينة أم إرم ذات العماد أم وابور المسرة؟ وهذه الحيرة في إدراك كنه بعض المخترعات الحديثة قد عبر به كل من تصدى لوصفها. فقال رفاعة من قصيدة في وصف وابور البحر:
العقل في الوابور حار
…
نبغي الجواب فلا يحير
وقال عبد الله نديم في وصف القطار:
نظر الحكيم صفاته فتحيرا
…
شكلا كطود بالبخار مسيرا
ثم إنهم خلعوا على (وابور البر) الصفات عينها التي خلعوها على (وابور البحر). مثال
ذلك قول رفاعة في وابور البحر:
صب وفي الأحشاء نار
…
شوقا إلى القمر المنير
وقول عبد الله نديم في وابور البر:
دوما يحن إلى ديار أصوله
…
بحديد قلب باللهيب تسعرا
وقد يتعرض أحدهم لوصف القطار فيوازن بينه وبين وسائل المواصلات القديمة. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:
ثم امتطينا للسويد ركائبا
…
لا الركض يتعبها ولا التسيار
تسعى على عجل إلى غاياتها
…
كالماء ساعد جريه التيار
سرع الخطى لا السوط حل بجلدها
…
يوما ولا شدت بها أكوار
تذر الرياح إذا جرين وراءها
…
حسري طلائع جريهن عثار
يقول الشاعر أنه استقل في سفرة ركائب لا يدركها كد ولا إعياء. وهي تجري مسرعة دون حاجة إلى سوط أو وحال يشد عليها. وفي هذا تعريض بالناقة التي أكثر الشعراء من وصفها في العصور القديمة.
وكانوا يستوحون من اسم الممدوح بعض المعاني. ومثال ذلك قول أبي النصر يمدح سعيداً.
هم رجال أحرزوا إسعادهم
…
كيف لا والسعد في أمر السعيد
فالشاعر قد أتى في هذا البيت بإسعاد وسعد وسعيد.
وما فعل ذلك إلا لأن الممدوح يسمى سعيداً. فالجو الذي يشيع من اسم (سعيد) قد أملى على أبي النصر هذا البيت.
وقال السيد أباظة مشيراً إلى الأنباء الواردة بقدوم الخديوي إسماعيل
وما هي إسماعيل صبري لبعدها
…
ولكنها إسماعيل بالنصر آتيا
فصدر البيت قد صنع خصيصاً ليظفر الشاعر بالجناس بين (إسماعيل) و (إسماعيل).
وقال عبد الله فكري في الخديوي توفيق:
نور تلألأ في جبين موفق
…
للحق في توفيقه أسرار
والبيت كله من وحي اسم الممدوح.
وكانوا يستوحون المعاني أيضا من أسماء المدن التي يذكرونها في شعرهم. ومثال ذلك قول
محمد النجار أحمد شعراء العرابيين مندداً بمن تعاون مع الإنجليز من المصريين.
في بور سعيد وغيره قد خنتم
…
وفعلتم للإنجليز أمورا
فاستوحى من اسم بور سعيد معنى هذين البيتين.
بور لكم وسعيد طالع وقتنا
…
ولكم بذا يوم يكون عسيرا
سارا بسعد الفال شعري ناطقا
…
ولرب أشعار تكون جفورا
هذا ما يمكن أن يقال عن معاني الشعر في هذا الدور.
محمد سيد كيلاني
المشكلة اليهودية والعالم
للأستاذ عدنان الكيالى
لعل أعظم الكوارث التي حلت بالعالم العربي منذ مئات السنين هي هذه الكارثة المروعة التي حلت به بإنشاء دولة يهودية في بقعة من صميم كيانه الأساسي فهزته هزا عنيفا وخلفته حائرا مذهولا، ثم ما لبثت الشعوب العربية أن أفاقت على الحقيقة القاسية فكادت تفقد الثقة في نفسها وفي زعامتها بل وفي المثل العليا التي كانت ترسمها وتحيا في ظلها. ولعل هذه الحالة النفسية السيئة التي يكاد يتردى فيها الشعب العربي أمر من الكارثة نفسها وأثكى ولعلها من الأهداف الرئيسية التي استهدفها اليهود وأعدوا لها عدتهم وساروا بها جنبا إلى جنب مع استعداداتهم المادية المباشرة. على أننا بحمد الله ما نزال من المؤمنين بإمكانيات هذه الأمة العظيمة وبطاقتها الكبرى الكامنة فيها بانتظار زوال هذه المحنة التي تجتازها. ولا شك أن الوجوم الذي قابلت به الأمة هذه النهاية المريرة وما يبدو أنه يتلوه من توثب وتحفز دليل على ما تنطوي عليه من مواهب ومزايا، ونذير بثورة فكرية شاملة تتناول الأوضاع الراهنة من أساسها، ولعلها تكون فاتحة عهد جديد في تاريخ هذه الأمة، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.
والبحث في هذه الكارثة يدعو المرء إلى تأمل أحوال اليهود وعلاقاتهم بالعالم وسر ما يتمتعون به من نفوذ واسع في معظم أنحاء الكرة الأرضية لا يتفق مع مظاهر ضعفهم وتشردهم في أنحاء المعمورة. وإنك لتلاحظ بدهشة مدى ما يستشعره نحوهم البشر على العموم من بغضاء وكراهية لم تستطع أن تحول بينهم وبين النفوذ الواسع والسيطرة الفعلية. ولقد كانت هذه الظاهرة رفيقة لهم في كافة عصور التاريخ وفي مختلف البلدان والأقطار وفي ظل معظم الأنظمة السياسية، وذلك بفضل ما يملكونه من ثروات واسعة يجمعونها بطرق شتى تمنع سائر البشر من مجاراتهم فيها مثلهم العليا الخلقية والإنسانية والدينية. وهنا يجدر بنا أن نتساءل عن سر سكوت العالم بأسره عن بقاء هذه الثروة الهائلة في أيديهم وخصوصا في العصور التي لم تكن مصادر الثروات فيه بالشيء المستهجن العجيب. . .
ومن الواضح أن معظم سكان الكرة الأرضية يحملون لليهود أمر شعور البغضاء
والكراهية، وينظرون باستنكار واشمئزاز إلى الطرق الملتوية التي يجمعون بها الأموال الطائلة بغير حق، وهم مع ذلك يسكتون على هذا المكروه صاغرين، تارة باسم حرية العمل وحيازة المال في ظل الديمقراطية وتارة لعوامل أخرى سيأتي ذكرها. وبعض هذه الشعوب الديمقراطية، نفسها لم تتورع عن سوم العبيد في أمريكا أصناف الخسف والعذاب وحرمانهم أبسط حقوق الإنسان، وبعض هذه الشعوب نفسها فرضت أنظمة وقيودا على الهنود والشرقيين في أفريقيا الجنوبية بحيث جردوا تجريدا تاما من الحقوق الطبيعية الإنسانية بله السيطرة والنفوذ. والأمر في الظاهر بسيط التفسير فاليهود في الأمم الديمقراطية كما أسلفنا يتمتعون بموجب نظم تلك البلادبحرية العمل وحرية حيازة المال ويجمعون ثروات واسعة ما طبعواعليه من قدرة على جمع الثروة بمختلف الوسائل الشريفة وغير الشريفة، ويستغلون بالتالي هذه الثروة في فرض سيطرتهم على الصحافة ووسائل الدعاية وغير ذلك. . . وهم في البلاد الديكتاتورية يتوصلون إلى أغراضهم بجمع المال أيضا بطرق دنيئة خسيسة بحيث يتقربون بهذا المال إلى رجال الحكم والنفوذ، وبالتالي يسخرونهم في أغراضهم ودسائسهم المختلفة، ولكن أليس عجيبا أن هذا العالم بأنظمته المختلفة كثيرا ما ضاق ذرعا ببعض عناصر البشر ففرض عليهم قيودا جردتهم من أبسط حقوقهم الطبيعية رغم ضعف الأسباب والبواعث التي أدت إلى ذلك وتقاعس هذا العالم نفسه عن فرض مثل هذه القيود على اليهود؟ أما كان باستطاعة دول العالم بأسرها، لو شاءت، أن تحذو حذو هتلر فيما اتخذه من تدابير تؤدي في النهاية لو بقي له الأمر إلى خنق نفوذهم مهما بذلوا من نشاط.
فلماذا لم يتبع العالم مثل هذه الأساليب نحو اليهود وآثر أن يكبت ما يستشعره من مرارة نحو هؤلاء الطفيليين.
ليس الجواب عن هذه النقطة واضحا ميسورا. ولكن إذا خطر ببالك أن توجه السؤال إلى مسيحي متدين فسيكون جوابه بلا شك أن هذه هي إرادة الله، أو هذا هو ما أرادته التوراة. والذي يتتبع تاريخ بني إسرائيل ويلاحظ مدى ارتباط تاريخهم بتاريخ الديانات المختلفة ولا سيما الديانة المسيحية يلاحظ أن الدعاية والتهليل لبني إسرائيل يسود روحها ونصوصها بشكل عجيب. ويبدو أن اليهود كتدبير معاكس لروح البغضاء والكراهية السائدة ضدهم قد
أفلحوا في بث سمومهم في مختلف مذاهب وعقائد البشر. والمتتبع لتاريخ اليهود والمحتك بهم يعلم حق العلم أن اليهودي يهودي قبل كل شيء آخر، مهما كانت تبعيته ومهما اعتنق في الظاهر من مبادئ وعقائد؛ فهو لذلك يتوسل لخدمة بني قومه بأية وسيلة، فلا يتورع عن التظاهر باعتناق الديانة الإسلامية إذا اقتضت المصلحة ذلك، وإذا شعر أن بإمكانه بث أفكار معينة في تقاليد ذلك الدين من شأنها أن تعود على اليهود بالنفع.
وفي التاريخ الإسلامي كثير من اليهود اعتنقوا الإسلام ويظن بأنهم مسؤولون عن اختلاق كثير من الأحاديث التي يراد بها تفكيك عرى الإسلام من جهة، وبث روح العطف على اليهود إذا أمكن من جهة أخرى.
أما الماسونية والشيوعية والفوضوية وما شابه ذلك من المذاهب السياسية والاجتماعية الحديثة فلا شك عندي بأن اليهود قد قاموا بدور كبير في إيحائها ونشرها، وذلك بقصد نشر الأفكار بين الناس بضرورة التساوي بين البشر في الحقوق بحيث لا يكون فرق بين يهودي وغير يهودي الخ. . . . يضاف إلى ذلك أنهم ما داموا قد فقدوا وطنهم وتفككت عرى مقوماتهم القومية فلا بأس أن يفككوا روح القومية الوطنية أينما وجدت. وما داموا عنصرا مضطهداً فلا بأس بأن يبثوا وينشروا أفكارا من شأنها إزالة الفروق العنصرية. وما داموا موتورين لهذا العالم الظالم - حسب رأيهم - فليؤلبوا فيه الرعاع على الطبقات الخاصة وينفسوا بذلك ما يعانونه من الكبت على العالم بأسره.
وعلى الجملة فإن الفضل في سيطرة اليهود وسعة نفوذهم ليس في الحقيقة راجعا إلى ثرواتهم الواسعة، لأن هذه الثروات مكن حصرها ووقفها عند حد، ولأنه يمكن لأية دولة وضع الأنظمة والأساليب التي تكفل القضاء تجاريا واقتصاديا على فئة من الناس يهمها القضاء عليها، وإنما الخطر كل الخطر هو في أن العالم لا يستطيع أن يضع مثل هذه الأنظمة التي تؤدي إلى القضاء على اليهود ماليا. ذلك لأنه يتأثر بالعقائد الدينية والأفكار المختلفة التي ينشرها اليهود أنفسهم والتي تحول بين العالم وبين تنفيذ مثل هذه الأنظمة؛ أي أن الخطأ ناشئ مما ينشره اليهود من الأفكار والعقائد التي يسممون بها عقول البشر بحيث تكون أشبه بشبكة من الأسلحة الفتاكة تظللهم وتقيهم شر خصومهم، على حين يبقون هم - أي اليهود - على أفكارهم وعقليهم التاريخية غير متأثرين بالأفكار الجديدة التي
خلقوها هم أنفسهم. وإلى أن يتحرر العالم من هذه العقائد والأفكار اليهودية فلن تكتب له النجاة من شرور اليهود ونفوذهم وإذا أفلح اليهود في بث أفكارهم في وسط من الأوساط - وإنهم لناجحون في ذلك فعلا في معظم أنحاء العالم - أمنوا العدوان عليهم فينصرفون عندئذ بأساليبهم الجهنمية إلى جمع الثروات الواسعة فيدعمون بذلك كيانهم ويثبتونه. ولقد ساعدهم على ذلك كله ما تبرره لهم دياناتهم من إتباع لوسائل الدنيئة في الحياة.
واليهودية دين عجيب في العالم، أو هو الدين الوحيد الذي يعتقد أتباعه أنه بأنه خاص بهم ووقف عليهم، وإن الله خلقهم لسيادة هذا البشر وتسخيره في سبيل أغراضهم ومصالحهم؛ فهم لذلك لا يرحبون بأن يدخل في دينهم أحد لأنهم لا يحبون أن يشاركهم في المغانم التي وعدهم الله بها. والمسلم مثلا مهما بلغ به التعصب الديني يرحب بأن يشاركه في هذه السعادة - حسب اعتقاده - كل البشر لأنه يؤمن بأن الدين إنما أنزل لخير البشر أجمعين. وكذلك الحال بالمسيحي فإنه لاعتقاده بأن المسيحية دين نزل ليسعد ويهدي البشر عامة فهو يتوق إلى إشراك غيره من البشر في هذه السعادة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ومتى أصبح غير المسيحي مسيحيا فقد أصبحت له نفس الحقوق الأخرى التي يتمتع بها المسيحيون ويسعدون بإشراكه فيها. وهذا لعمري أقل ما ينتظر من دين سماوي محترم. ومن هنا ينشأ خلاف أساسي بين اليهود من جهة وبين سائر البشر - مسلمين ومسيحيين - من جهة أخرى؛ فإن بني البشر جميعا مهما اختلفت مذاهبهم السياسية وغاياتهم الدنيوية لا يستطيعون أن يتجردوا من إنسانيتهم تجردا تاما، ولا بد لتسكين هذه الحوافز الإنسانية من اعتناقهم لمذاهب دينية تهدف في النهاية إلى اشترك العالم بأسره في السعادة والخلاص. هذا ما يؤمن به المسلم ويعتقده المسيحي وما يحبه كل البشر بعضهم لبعض عدا اليهود الذين كما أسلفنا يعتقدون في إله يصطفيهم دون البشر ويقصر عليهم المغانم والامتيازات، وهو إذ يبسط عليهم كل هذا النعيم المنتظر يمنعهم بحرمان غيرهم منه.
وبعد فإن شعباً يحمل هذه العقيدة وينظر إلى البشر هذه النظرة لا يمكن أن ينسجم مع سائر البشر في حال من الأحوال. وإنك لتقابل رجلا من المسلمين مغالين في تعصبهم ولكنهم كلما غالوا في تمسكهم بشعائر الدين شعرت بتمكن العواطف الإنسانية منهم وتمنيهم على الله أن ينتشر الإسلام فيشمل كافة البشر ليظللهم أجمعين بالسعادة والاطمئنان. وهذا هو
الحال مع المسيحيين وسائر أهل المذاهب والمعتقدات الدينية؛ فالمبشر المسيحي المغالي في عقيدته الدينية إنما يجوب الأرض ويطوف بها رغبة منه في إسعاد أكبر عدد من البشر وهدايته - من وجهة نظره - فهو من هذه الوجهة إنسان كمل الإنسانية. وهذا هو عكس الحال مع اليهود تماما؛ فكلما كان اليهودي أكثر رغبة في إقصاء غير اليهودي كان أكثر تدينا وأكثر إيمانا بوجوب تسخير بني البشر لليهود. ويعتقد اليهود أنهم كلما أمعنوا في ذلك كان عملهم أدعى لمرضاة الله عنهم. ولو تصفح القارئ كتابهم المقدس لوجد على ذلك أدلة كثيرة، ففي محاصرتهم لأريحا عند خروجهم من مصر إلى فلسطين يأمرهم الرب أن لا يبقوا على ولد صغير وامرأة عجوز من أعدائهم بل يذبحونهم جميعا، فتأمل. . ومن قبل يأمرهم قبل مغادرتهم مصر أن يسرقوا ما تصل إليه أيديهم من حلي النساء المصريات، أي أن الله تبارك وتعالى يحلل لهم أموال ودماء غيرهم من البشر وغير ذلك وذلك كثير. بيد أنني لأعجب من اعتناق اليهود لمثل هذه العقيدة بقدر ما أعجب من أن كثيرين من غير اليهود وممن يفرض بأنهم مثقفون متنورون يؤمنون بأن الله عز وجل يمكن أن ينزل مثل هذه الأوامر لا لغاية ردعية أو عبرة معقولة وإنما ليمتع شعبه المختار بسفك دماء بني البشر الآخرين. وكيف بالله يسوغ عقل جواز الجمع بين مثل هذه الروح الشريرة وبين الروح النبيلة السامية التي تتجلى في دعوة السيد المسيح عليه السلام إلى نشر السلام والوئام والحب بين بني البشر أجمعين.
ولست أشك لحظة في أن الدرس اليهودي تناول كل مرافق حياة البشر رغبة منهم في أن يخففوا من غلواء مقاومة البشر لهم وقد نجحوا في ذلك نجاحا ملموسا، فأينما رأيت اضطهادهم يزداد في بقعة من الأرض رأيت عقائد جديدة تنتشر في تلك البقعة من شأنها أن تؤدي إلى التخفيف من هذا الشعور نحوهم؛ ففي روسيا انتشرت المبادئ الشيوعية التي لا تعتبر العنصر أو الدين مقياسا للتمييز بين الناس، وكأنما جاءت هذه العقيدة علاجا للتخفيف من الشعور المر الذي كان الروس يحملونه لليهود. وفي القرون الوسطى حينما انكشفت للناس أعمال اليهود القذرة من ربا واستغلال واحتكار انتشرت إلى جانب ذلك الروح المسيحية المتدينة بين الفرسان ومختلف طبقات الشعب في ولا شك أن المتمسكين بشكليات الدين وحرفيته من المسيحيين لا يستطيعون أن يتحرروا من العطف على الشعب
الذي تدور كل حوادث التوراة حوله. وكأنما لم يوجد البشر هذا العالم إلا ليستمتع ببحث شؤون هذا الشعب المصطفى وتتبع مراحل تقربه من الله أو ابتعاده عنه. وكأنما لا يستطيع الله أن يرسل أنبياء وهادين إلا من هذا الشعب المختار. ولا شك عندي في أن تقوى أهل القرون الوسطى والهالة التي يرونها تحيط بني إسرائيل في كتبهم المقدسة هي التي حالت بينهم وبين استئصال شأفة اليهود والقضاء عليهم في أوربا خلال تلك القرون. فهذه الهالة التي تحيطها كثير من الكتب المقدسة في العالم باليهود، وهذه الروح التي تبثها مختلف العقائد السياسية الحديثة من ديمقراطية وشيوعية وفوضوية والتي تشترك جميعها في عدم اعتبار الدين والعنصر أساسا للتمييز بين البشر؛ هذه العقائد في نظري هي المسؤولة الأولى عن الإبقاء على اليهود وإحاطتهم بضروب الحماية المختلفة وتركهم يعيثون في الأرض فسادا برغم ما عهده العالم بأسره فيهم من منافاة للطبائع والغرائز الإنسانية. وإني أعتقد مخلصا بأن العالم لن يصيب الراحة والهدوء ولن يسود السلم والاستقرار ما دام اليهود عنصراً فعالا فيه، وما دام بين الناس من لا يزالون ينخدعون بهم وينظرون إليهم نظرتهم لسائر أبناء البشر الآخرين. ولا مفر للبشر من اتباع أحد وجهين لا ثالث لهما لوضع حد لمفاسد اليهود وشرورهم، فأما أن ينبذوهم نبذا تاما ويقصوهم عن مراكز العمران في العالم يحصروهم في بقاع نائية حصرا لا مجال لهم معه إلى بث سمومهم في الناس. وإما أن يصدقوا النية في تغيير عقلية اليهود ومعتقداتهم بأخذ الأجيال الناشئة منهم وتربيتها تربية بعيدة كل البعد عن معتقدات آبائهم وأجدادهم بحيث يهدون إلى دين جديد كالإسلام أو المسيحية أو الكونفوشية أو البوذية أو أي عقيدة أخرى ويهذبون ويوجهون توجيها جديداً يتفق مع الخلق الكريم والمثل الإنسانية العليا لتصبح نفوسهم مثل نفوس سائر البشر. ولن يكون ذلك إلا بتفريقهم مجموعات بين الأمم بحيث ينسون لغتهم وتاريخهم ودينهم ويندمجون اندماجا تاما في الأمم التي يعيشون بينها ابتغاء حياة أسعد وأشرف لهم ولغيرهم من البشر. أما البريطانيون الذين أخذوا على أنفسهم تأسيس دولة لليهود في فلسطين فإنهم إذا لم يسارعوا إلى تدارك الأمر فسيكوون قريبا بنار ما جنوا ويحرقون معهم أجيالا من البشر وبقاعا من الأرض كانت قبلهم آمنة ومطمئنة البصرة.
عدنان الكيالى
قلبي.
. .
للأستاذ حسن كامل الصيرفي
أُنفضي عنه نَداهُ
…
واُنشقيهِ فهو زهره
غسلتها في سكون السّحر المفتون قطره
نفضَ الفجرُ عليها سحرهُ، والصبحُ بشره
وعلاها في الضحى النُّو
…
رُ فنالت منه سرَّه
وبدتْ عند الأِصيل الأُرجوانيِّ كخمرة
عطف الليلُ إليها
…
فمضى يفتح صدْرَهْ
ورأى الشاعرُ فيها
…
مصدراً يلهم شعْرَهْ
فاقطفيها إنها قلبي. . . فما أروح عطره!
أرهفي السمع إليه
…
إنه البلبل يشدو
ساهر الليل ولكن
…
هو لا يضنيه سهدُ
أو تدرين الذي ينشد؟ لا تدرين بعدُ!
ملأ الجوَّ أغاريد فهذا الجوُّ عبدُ
ينقل الأنغام كالوحي، أميناً، فهي عهدُ
لم يضيعه ولكن
…
سامع الأنغام صلدُ
كلهم للنوم عبدا
…
نٌ، وللأوهام جندُ
فاسمعيه أنت فالبلبل قلبي بات يشدو!
املئي فهو كأسٌ
…
لمستها يد ربي
جمعت فيه الأماني
…
خضراً من كل صوب
وهو من صنع يد الأحلام في ليلة حبِّ
وهو أنقى من رؤى الشاعر في ساعة قربِ
انتشت منه العذارى
…
وهو أسطورة غيب
كان مملوءاً ولكن
…
جف من إدمان شربي
فاملئيه خمرة معصو
…
رة من كرم حبي
واشربيها فهي روحي
…
واحفظيه فهو قلبي
أترين الجدول الجا
…
ري في عطف الحليم
سكبت فيه اليالي
…
من أشعات المجوم
أدمعا مازجن أنداء من الفجر الوسيم
كوثر الفردوس أوحا
…
هـ إلى دنيا الهموم
فجرى يبعث فيها
…
من تهاويل النعيم
راحة الله التي حطت على الكون الأليم
انهلي منه فما تعدله خمرُ الكرومِ
إنه قلبي على شطَّيهِ أطيافُ رسومي. . .
وإذا مرَّت بك الأيام تطوي الصفحات
وتلاشت من فم الدنيا معاني البسماِت
وتلاشت إِثْرهَا عندك
…
أحْلىَ الذكرياِت
بَقِيَ العطرُ الذي استروحته من زهراتي
والصدى العذب الذي اسْتَطرَبْتِه من أغنياتي
وجلالُ النشوة الحُلْوة من كأس حياتي
وخريرُ الجدولِ الحا
…
لم في هذا السباِت
فأعادت لك أحلا
…
م الليالي الخالدات
حسن كامل الصيرفي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
افتتاح مؤتمر المجمع اللغوي:
احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية يوم الاثنين الماضي بافتتاح دورة المؤتمر السادس عشر، وقد جرى على أن تكون جلسة الافتتاح حفلا يدعو إليه جمهرة من رجال العلم والأدب، وقد امتلأ المكان بهؤلاء إلى جانب أعضاء المجمع من مصريين وأجانب شرقيين وغربيين. افتتح الجلسة معالي رئيس المجمع بكلمة وجيزة رحب فيها بالعضوين الجديدين، وذكر من توفي من الأعضاء بالثناء والترحم. وبعد ذلك ألقى المراقب الإداري للمجمع كلمة معالي وزير المعارف التي حيا بها الأعضاء وأشاد بما يبذلون من الجهد في النهوض باللغة العربية، ومما جاء في هذه الكلمة قول معالي الوزير: وقد يطرق مسامعكم حينا بعد حين، دعوة يصيح بها صائح من وراء الجدران السامقة، يريد أن يحملكم على شيء من التسامح والرفق في علاج بعض مشكلات اللغة، بتقبل بعض العامية في معاجم الفصحى، أو بمحاولة تفصيح بعض الكلمات الأعجمية، ولست أشك - وأنتم بالمكان الرفيع بين أهل العلم والفن والأدب - أنكم حين تستمعون لمثل هذه الدعوة ستضعونها تحت مجهر البحث والتحقيق، لتلائموا بين حق اللغة في وجوب حياطتها والمحافظة على سلامتها، وبين مقتضيات التطور الطبيعي في التعبير بهذه اللغة عن حاجات الحياة دون أن يكون لذلك أثر في سلامتها وفي خصائصها، فأنتم هنا حماة الفصحى وأنتم سدنة معبدها المقدس.
ثم ألقى الدكتور منصور فهمي باشا كاتب سر المجمع، كلمة أجمل فيها أعمال المجمع في عام، وقد قدم لها بمقدمة اعتذر فيها من إملال هذا السرد الذي يتكرر في كل عام، فكانت هذه المقدمة بمثابة إنذار. . . ولكنه لم يطل في ذلك بل أسرع إلى التعليق خشية أن يكون ذلك السرد كالرغيف يؤكل بلا أدام، والشطيرة تؤخذ دون أن تدهن بالزبد، كما قال، وقد كان الأدام أو الزبد تصويره لجهود المجمع ببعض التشبيهات التي منها أن هذه الجهود مثل طاقة الكهرباء في فعلها وأثرها مع فارق ملحوظ هو أن الكهرباء تؤثر في الأطوال البعيدة والأعراض الممتدة في لحظة يسيره ويصل تيارها إلى غاياته في لمح البصر، أما المجرى الذي يسير فيه التفكير اللغوي فتتكون مادته من نفوس الناس التي لا تتجانس كما تتجانس
الأسلاك الموصلة، أي أن أعمال المجمع يعوقها اختلاف الناس عن سرعة السريان. . وقد سلك هذا السبيل الطويل لتبرير بطئ المجمع في أعماله! وقد أدركنا بعد ذلك أن سرد أعمال المجمع لم يكن مملا. .
وألقى الدكتور إبراهيم بيومي مدكور كلمة عن جهود المجمع في خمسة عشر عاما، أي منذ إنشاءه إلى الآن، وقد رض أهم الموضوعات التي تعرض لها المجمع وما أنجزه من الأعمال. وهو وإن لم يسلك سبيل الخيال الذي سلكه منصور باشا إلا أنه طول الكلام وعرضه في بعض المسائل الشكلية، وقد اتفق كلاهما في دفع ما يتهم به المجمع من البطيءوالتكاسل وضرب المثل بالمجمع الفرنسي في ذلك.
وألقى معالي السيد محمد رضا الشبيبي كلمة موضوعها (بعث العربية) تحدث فيها عن عصور التأخر اللغوي ومرحلة النهوض الحديث، والموضوع وإن كان مطروقا إلا أنه أتى في ثناياه بما أكسبه بعض الجدة وشيئا من القيمة. وقد قال بعد أن ذكر المجامع العلمية واللغوية واهتمام مجمع فؤاد الأول بتأليف المعاجم - قال: يجب أن نرى بين معجمنا الحديث المنشود وبين معجماتنا القديمة اختلافا بينا في المادة والجوهر، وفي كيفية التكوين والتأليف، فإن معجما يوضع لسد حاجة هذا الجيل وما يليه من أجيال لهو غير المعجمات القديمة، بل نحن نذهب أيضاً إلى أبعد من ذلك فنقول إن معجمنا الحديث يجب أن يختلف أيضاً عن هذه المعجمات الحديثة التي وضعها المعاصرون في مصر ولبنان والشام. نريد معجما يوضع على غرار أحدث المعجمات اللغوية المصنفة في اللغات الأوربية الحديثة من حيث الدقة والإتقان والاستيعاب. نريد معجما يعني واضعوه بتاريخ الكلمة وكيف تحولت مدلولاتها بتحول العصور على أن تكون عنايتهم معززة بالشواهد والنصوص المقتبسة من آداب لغتنا العربية في مختلف عصورها، على النحو المتبع في المعجم الإنجليزي المعروف بمعجم اكسفورد.
وكانت الكلمة الأخيرة للأستاذ ماسنيون وكان موضوعها (خواطر مستشرق في التضمين) وقد صاغها على طريقته لمعروفة في التعبير الرمزي، ومما استطعت أن أعيه من عبارات هذه الكلمة قوله: التضمين هو نوع من نبض الفكر لاستخلاص الجوهر من الأصول اللغوية الثلاثية المثبتة في المعجمات، وإن من فضل اللغات السامية، وبخاصة اللغة
العربية، تعدد المعاني واكتنازها في أصل لغوي واحد، واجتهاد الكاتب في أن يتعمق في هذه المعاني لإحكامها وإخضاعها لأقدم معنى يصل إليه. وهذا النوع من الهجرة العقلية في خلوات التأمل. ومن عباراته أيضاً أن المستشرقين المحدثين يشبهون وجوب الإصلاح في اللغة بالاغتراب في الزواج لأنه لا فائدة من استعمال حجاب الكلمات مع ذوي الأرحام.
قال لي صاحبي ونحن نستمع إلى الأستاذ ماسينيون: يظهر أن مذهب (السريالزم) قد وصل إلى اللغة!
فلم الأسبوع
هو فلم (بنت العمدة) الذي عرض في الأسابيع الأخيرة بسينما الكورسال، وهو من تأليف وإخراج عباس كامل، وتمثيل هاجر حمدي وكمال الشناوي وهدى شمس الدين وآخرين. وتتلخص القصة في أن الدكتور عادل (كمال الشناوي) شاب تخرج حديثا في كلية الطب ويعمل في عيادته الخاصة مكبا على عمله؛ يأوي إلى زوجته القروية (هاجر حمدي) وهي ابنة عمه العمدة، وتبدو هذه الزوجة منهمكة في أعمال البيت من طبخ وكنس وغسل وغيرها منصرفة بذلك عن العناية بنظافتها وزينتها حتى لا يكاد زوجها يشم منها غير رائحة الثوم والبصل. تقتحم عليه العيادة الرقاصة لولا (هدى شمس الدين) لعلاج خدش في ركبتها فتغريه بها حتى يندفع معها إلى آخر الشوط. ويهمل زوجته بل يضيق بها ويعما على إبعادها إلى القرية مرارا لخلو له الجو. وأخيرا تكشف الزوجة الأمر، وعندما ترى الرقاصة توشك أن تستلب منها زوجهاتهرع إليها وتهددها وتحملها على أن تتفق معها على حيلة تقومان بها. تظهر عزيزة راقصة في المرقص الذي تعمل به لولا، ويراها زوجها الدكتور عادل فيفتتن بها وهو لا يعرفها، وتصل بينهما لولا فيبثها هواه، وتمعن هي في الأغراء والدلال حتى تطلب إليه أن يتزوجها ويطلق زوجته ثم تبين له أنها هي زوجته، فيعتذر إليها ويستأنفان حياتهما سعيدين.
والفلم من أفلام هذا الموسم التي توالى ظهورها أخيرا جاعلة همها اجتذاب الجمهور بعرض الرقص والفكاهة والغناء، إلا أن به موضوعا هو تصوير الزوجات اللائى لا يعنين بمظهرهن أمام أزواجهن الذين يضطرون إلى التماس المتعة في الخارج. ولكن الموضوع لم يوجه توجيها حسناً ولم يعالج على نحو طبيعي، وقد سيقت الحوادث كما أرادها المؤلف
المخرج رغم طبيعتها، فقد جعل الأبطال يتصرفون وفق رغبته في حبك القصة، لا كما تقضي طبائع الأمور؛ فهذه الزوجة القروية الساذجة التي يتبرم بها زوجها ويمعن في احتقارها فلا تدرك تغيره ولا تشعر أن شيئا غير عادي وقع له حتى تفاجئها الحقيقة سافرة - هذه الزوجة نراها قد انقلبت بقدرة المؤلف رقاصة من طراز غربي مرة واحدة! وامتدت هذه القدرة كذلك إلى خادمها الفلاح عبد الموجود (عبد الغني السيد) الذي أحضرته من القرية، فجعلته شابا (مودرن) يغني لها وهي ترقص! وعلى أي أساس اتفقت لولا وعزيزة على تلك الحيلة؟ وكيف رضت الأولى وهي التي تعمل على استخلاص الزوج لنفسها؟ لأن عزيزة هددتها بالمسدس! كان يكفي أن تتخلى الرقاصة عن الزوج إزاء تهديد الزوجة، ولكن قدرة المؤلف المخرج فوق الطبيعة، فقد أبت إلا أن تجعلها تدبر لها لتعيد إليها زوجها. . . ولم يتعذر على المخرج أن يجعل الزوج لا يعرف زوجته وهي في دور الراقصة؛ فحسبه أن يضع على عينيها عصابة سوداء تشبه النظارة، وتتسرب القدرة الفائقة إلى عقل الزوج فتجعله - وهو الذكي المثقف - تخفى عليه شخصية زوجته لأنها لبست حلة الرقص ووضعت على عينيها منظاراً أسود!
وقد رأينا الدكتور عادل يقع سريعا في حب لولا الرقاصة مع أنه ظهر في البدء مستقيما مجدا في عمله، دون أن يتنبه ضميره فيتردد ولو قليلا فيكون هناك شيء من الصراع النفسي، ولكن الجهد منصرف بسرعة إلى مواقف الرقص فليس هناك وقت لمثل هذا التحليل.
وكان ظاهراً أن الغاية من مناظر القرويين الإضحاك بالمفارقات بين أوضاع المدينة والقرية، وما في ذلك بأس على أن يكون في حدود المعقول، ومن المقبول في ذلك منظر العريس وبيده كرنبة يأكل أوراقها ويقشر رأسها في حفلة الزفاف؛ ولكن هناك مناظر بولغ فيها إلى درجة غير مقبولة، مثل منظر عزيزة بنت العمدة وزوجة الدكتور تهبط من سيارة عامة فيحملها أحد الفلاحين ويركبها حمارا ثم يبلغ بها الحمار إلى حيث اصطف لاستقبالها تلاميذ المدرسة الإلزامية بقيادة الناظر في شكل مزر، ولست أدري أين يقع مثل هذا! ومما لا يقع أيضا أن ترقص بنت العمدة شبه عارية أمام الرجال في عرس قريبها إلا أن تكون هاجر حمدي ويكون هناك مخرج يحرص على تهيئة مواقف ترقص فيها. . . وقد تكررت
هذه التهيئة في غير موضعها. وقد أفسد هذا الاتجاه إلى الاستعراض الكثير من المواقف وأدى إلى الاضطراب والتناقض في تصوير شخصية عزيزة، فآنا لم ندر أهي فتاة قروية ساذجة أم هي هاجر حمدي (الأرتست) الرقاصة. . . فقد كانت تنقلب من الأولى إلى الثانية بدافع الرغبة الشديدة في (الاستعراض) دون التفات إلى ما ينبغي من مراعاة المنطق الطبيعي لتسلسل الحوادث. وكان التمثيل لا بأس به على العموم، فكانت هاجر حمدي موفقة في تصوير شخصية الفتاة القروية، غير أنها كانت في موقف تتكلم بلهجة قاهرية وفي آخر تنطق بلغة قروية دون داع إلى هذا الاختلاف. أما هدى شمس الدين فهي فتاة جميلة ولكن تمثيلها قليل الحظ من الحيوية والتعبير، وكذلك كمال الشناوي. وقد مثل عبد الغني السيد شخصية الخادم الفلاح عبد الموجود فأحسن كما أحسن في الغناء الريفي، ولكنه عاد في المرقص إلى غنائه العادي الذي تسمعنا إياه محطة الإذاعة ومن الشخصيات الفكاهية الظريفة محمد كامل في دور الممرض وعبد الحميد زكي في دور العمدة.
عباس خضر
البريد الأدبي
القصيدة الأسدية
اطلع زميلنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي على قصيدة صديقه الأمير شكيب المنشورة في العدد 858 والتي قالها عقب شفاءه من مرض ثقيل فأنشدنا قصيدة له في معنى قصيدة الأمير قالها في شهر أكتوبر الماضي وقد أصيب بخراج خطر قيل أنه المسمى بكف الأسد (شيربنجه) فعولج بالبنسلين وشفى. وقد أطرف بهذه القصيدة رفاقه (الشيوخ) بدمشق وأنشدها في ندوتهم مداعباً مفاكهاً وهاهي ذي:
كفكفت كفك يا أسد
…
يا أيها الخصم الألد
بالله ثم البنسلين
…
وقل هو الله أحد
وأويت من ربي ورحمته
…
إلى ركن أشد
أنشب ظفرك في لا
…
ترثى لبنت أو ولد
أو صاحب يرجو لي الإ
…
بلال من سقم الجسد
ونسيت في الآجال ما
…
حكم الإله وما وعد
هذا يعجل حتفه
…
وحياة ذا أنسا ومد
أرسلت طير الشؤم من
…
قضاً فحام وما ورد
وسللت سيف البغي منسلطاً
…
فحاك وما عضد
ورميت سهمك خلسة
…
فأصاب درعاً من زرد
إن كنت ترصد موتتي
…
فالبنسلين لك الرصد
أو إن أردت مساءتي
…
فالله ربي لم يرد
وأراك مغرى بالشيو
…
خ تسومهم برح الكمد
متهدداً متوعداً
…
لا بالصداع ولا الرمد
بل بالتصلب والحصا
…
والضغط أو ريح السدد
والفلج والرثيات أو
…
مرض المثانة والدرد
والكل سهل هين
…
في جنب تخليط الفند
هي علة الرأس لكن
…
ذكرها عم البلد
هي علة في النكر تح
…
كي الكفر بالله الصمد
هي علة قد رد صا
…
حبها إلى عمر نكد
من بعد علم لم يعد
…
يدري ولا سرد العدد
هي علة أيعيش صا
…
حبها بجد أم بدد
عدوه في الأحيا وفي
…
الأموات أجدر أن يعد
فاعجب له يمشي على الأ
…
رضين هاماً قد لحد
يا رب تلك شكيتي=فاغفر ووفق للرشد
عبد القادر المغربي
إلى الأستاذ كامل محمود حبيب:
حضرة الأستاذ الأديب العربي الألمعي؛ أحمد الله إليك والسلام عليكم ورحمة الله. وبعد فإني أعلم أنك كنت صديقا لإمام الأدب وحجة اللغة عبقرينا الرافعي. لهذا أرى أن للعربية حقا عليك تؤديه بعمل تنشر به للرافعي ذكرا جديدا وتلفت إلى أدبه (الباعث لأمة) وأقترح أن يكون هذا العمل كما يأتي.
أولا - جمع ما أثنى به الكتاب والعظماء على الرافعي وهو شيء كثير يؤلف مجلدا ضخما أو أكثر وما رأيت أحدا يثني عليه بمثله وفيه أبلغ القول وأجمله.
ثانيا - جمع كل ما عرف له من شعر ونثر والمبالغة في هذا الجمع حتى لا يفلت مما أثر عنه شيء.
ثالثا - السعي لإنشاء كرسي لأدبه في الجامعة فما هو بأقل من شوقي، ولا منزلته بأقل من منزلته، بل له ميزة لم يشاركه فيها أحد وهي إلزامه نفسه إلا يكتب - وما أدراك ما كتابته - إلا في مثل الشرق والإنسانية العليا.
وأما بعد فإن الجو العقلي والوجداني قد تهيأ لأدب هذا العبقري والمسؤولية اليوم على عارفي أدبه فإن أفلتوا الفرصة وأضاعوا (شمس الأدب) فإن للتاريخ لعتابا ولوما. أما أملي فيك أيها الألمعي فهو أبلغ من الرجاء لأني أدعوك إلى ما تحب بل إلى ما تجاهد في سبيله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمود الطاهر الصافي
برمل الإسكندرية
رسالة النقد
نهضة العراق الأدبية القرن التاسع عشر
للأستاذ إبراهيم الوائلي
(تتمة لما نشر في العدد الماضي)
لندع هذا ونتحدث عن إعجابنا بموقف الدكتور من الرثاء عند السيد حيدر ولا سيما في رثائه لأل البيت وبخاصة الإمام الحسين، فقد وفى الدراسة هنا عمقا وتحليلا وتحدث عن العوامل النفسية والثقافية التي هيأت للشاعر هذا الجو الفسيح وكونت منه شاعراً متين التعبير قوي العاطفة مشبوب الإحساس يستطيع أن يحلق بجناحين من صدق الشعور والأداء مع الشريف الرضي ومهيار الديلمي. وأهم هذه العوامل كونه علوي النسب يتصل بالإمام الحسين، وكونه نشأ يتيما فقيراً، ثم ثقافته التي تلقاها في مدينة الحلة تحت رعاية عمه السيد مهدي الشاعر المعروف وتردد على أندية بغداد والنجف حتى ذاعت شهرته في العراق بما وهب من قلبه للألم والحسرة، ومن لسانه للتعبير الصادق، فترك سبعا
وعشرين قصيدة معظمها في مأساة الحسين وكلها من وحي الألم الدفين واللوعة المكبوتة. ومن هذه الروائع قوله في قصيدة يرثي بها الإمام الحسين ويبدؤها بالفخر والتحسر:
إن لم أقف حيث جيش الموت يزدحم
…
فلا مشت بي في طرق العلا قدم
لا بد أن أتداوى بالقنا فلقد
…
صبرت حتى فؤادي كله ألم
عندي من العزم سر لا أبوح به
…
حتى تبوح به الهندية الخذم
لا أرضعت لي العلا ابنا صفو درتها
…
إن هكذا ظل رمحي وهو منفطم
والقصيدة طويلة فيها من الملاحم تصوير البطولة في أعنف أدوارها، ومن المآسي نهاية هذه البطولة إلى القتل الشنيع، ذلك هو موقف الحسين كيف بدأ وكيف انتهى. وكل قصائد السيد حيدر في فاجعة كربلاء لا تقل أهمية عن هذه القصيدة من حيث التصوير والعاطفة.
وكنت أود من الدكتور أن يضع السيد حيدراً في مصاف شعراء المآسي أمثال (إشيل) و (اسفوكل) و (اوروبيد) قبل أن ينتظر منه آلام (فرتر) وتأملات (لامارتين) فإن المآسي توجد في كل زمان ومكان. وقد وجد السيد حيدر مأساة حقيقية علقت دماؤها بالفرات وامتد
شفقها الأحمر إلى ما وراء ذلك فأطلق لها لسان الشعر يصبغه بمشاهدها الحزينة وألوانها الحمر ويسبغ عليها من القصة حبك الأسلوب وربط الحوادث وروعة التصوير. ولا تزال - تحتل المكانة الأولى من قصائد السيد حيدر - وستبقى في مواكب عاشوراء في العراق وغير العراق.
وتحدث الدكتور عن الشيخ التميمي وسماه (أبا تمام الصغير) لأن المترجم له كان مولعا بشعر الطائي معجبا به مقتفيا أثره في البديع والتلوين اللفظي وإن لم يدرك شأوه. ولولع التميمي بالطائي رثاه بقصيدة على ما بينهما من بعد في الزمن. ودراسة الدكتور لهذا الشاعر لا تعدو ترجمة حياته العلمية والمادية مع شيء من المقارنة بينه وبين أبي تمام. ولكنها على كل حال دراسة قيمة ذات شأن في تاريخ هذا الشاعر.
وممن تحدث عنهم الدكتور البصير شاعر أثير في نسبه ومكانته السياسية والأدبية وهذا الشاعر هو عبد الباقي العمري الموصلي، ففي نسبه يتصل بالخليفة عمر ابن الخطاب، وفي مكانته السياسية كان نائبا لوالي الموصل فنائبا لوالي بغداد وهو منصب له خطره وشأنه في ذلك الوقت، وفي مكانته الأدبية كان شاعراً من الطبقة الممتازة في عصره. وكان لشعره صدى عظيم في مدن العراق وقد ساجله وقرظ شعره طائفة كبيرة من شعراء عصره منهم السيد حيدر والأخرس، وأنتج غير مؤلفاته الأخر ديوانين من الشعر أحدهما (الترياق الفاروقي في منشآت الفاروقي) وقد طبع في مصر، ويشمل هذا الديوان قصائده السياسية والاجتماعية وما قاله في المدح وفي مطارحاته مع الشعراء، ومن أبدع النماذج التي اختارها الدكتور من هذا الديوان قول الفاروقي في وصف التلغراف.
ذو نقرات تسمع الصم الدعا
…
وكم بها من عبرة لمن وعى
نهاية الإيجاز في تقريره
…
وغاية الإعجاز في تعبيره
مسافة العام مع العامين
…
يقطعها كطرفة في العين
في لحظة من مركز الخلافة
…
يسري فينتهي إلى الرصافة
وسيره في سائر الأقطار
…
ألطف من طيف الخيال الساري
إن الذي أبدعه تخييلا
…
(مستوجب ثنائي الجميلا)
أما ديوانه الثاني فهو (الباقيات الصالحات) ويشتمل على مدائحه في النبي الكريم والإمام
علي وأولاده من الأئمة الإثنى عشر، والذي يجب أن يقال: أن العمري لم يكن شيعي المذهب ولكنه يظهر في ديوانه هذا صاحب فكرة واضحة فهو يحمل إلى جانب إحساسه الديني شعوراً سياسياً يتجلى كل منهما في حملته الشعواء على بني أمية لجعلهم الخلافة وراثية بعد أن كانت انتخابية، ويتعرض لمصرع الحسين في كربلاء بأكثر من قصيدة ويحكم بكفر يزيد بن معاوية، ومما قاله في بني أمية:
واحربا يا آل حرب منكم
…
يا آل حرب منكم واحربا
لكم وفيكم وعليكم وبكم
…
ما لو شرحناه فضحنا الكتبا
ومن أشهر مدائحه في النبي (ص) قصيدته التي يقول فيها:
تخيرك الله من آدم
…
ولولاك آدم لم يخلق
كما أن له في الإمام علي قصائد مشهورة منها التي يقول في أولها:
أنت العلي الذي فوق السما رفعا
…
ببطن مكة وسط لبيت إذ وضعا
وقد شرحها أبو الثناء الآلوسي. ومن هذه القصائد قصيدة مشهورة يصف بها رحلته النهرية إلى الكوفة وهو قاصد زيارة الإمام علي ففيها إلى جانب المدح وصف رائع للسفينة التي أقلته إلى الكوفة:
بنا من بنات الماء للكوفة الغرا
…
سبوح سرت ليلا فسبحان من أسرى
تمد جناحا من قوادمه الصبا
…
تروم بأكتاف الغري لها وكرا
والغري أسم من أسماء النجف، وكان المنتظر أن لا يغفل الدكتور هذه القصيدة من بين ما اختاره للشاعر فهي من روائع الشعر.
ومن أبياته المشهورة في رثاء الحسين قول يخاطب نهر الفرات:
بعداً لشطك يا فرات فمر لا
…
تحلو فإنك لا هنى ولا مرى
أيسوغ لي منك الورود وعنك قد
…
صدر الإمام سليل ساقي الكوثر
ومن طريف ما يذكر عن وفائه لأصحابه ببيتان كتبهما على ديوان الشيخ صالح التميمي الذي سبقت الإشارة إليه وهما:
نعم، رب هذا الشعر قد كان صاحبي
…
يلائمني في فنه وألائمه
وقفت على ديوانه بعد بعده
…
(وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه)
وتحدث الدكتور عن عبد الغفار الأخرس فتناول شعره وحياته خير تناول وسايره في كل المواضيع التي نظم فيها ماعدا ناحية واحدة لا أدري لماذا أغفلها الدكتور وهي ناحية الألم والحزن والتبرم بالحياة، فالأخرس إلى جانب مجونه ولهوه وما يصوره شعره من هذا المجون واللهو كان يضيق بدنياه في كثير من اللحظات ولا سيما أن حياته المادية كانت ضنينة النبع - فيتألم ويصف ألمه، وفي ديوانه ما يكفي لتسجيل هذه الظاهرة وقد أتناول هذه الناحية عند الأخرس في فرصة أخرى.
وفي الكتابة عدا هؤلاء دراسات وافية عن السيد جعفر الحلي والسيد إبراهيم الطباطبائي أستاذ الشيخ محسن الكاظمي دفين مصر. وعن الشيخ محمد - أو الشيخ حمادي - نوح والشيخ محسن الخضري النجفي، والشاعر العاشق الشهير الشيخ عباس النجفي صاحب القصيدة النونية التي أشرنا إليها في معرض الحديث عن الحبوبي.
كما تحدث بإفاضة واستيعاب عن العالم الشهير السيد محمود الآلوسي الحسيني صاحب المؤلفات الكثيرة ومنها تفسيره الشائع في مصر والبلاد العربية والمسمى (روح المعاني). وعن الشيخ جعفر الشرقي النجفي والد الشاعر الكبير الشيخ علي الشرقي عضو مجلس الشيوخ ووزير الدولة ببغداد. ودراسات أخرى لشعراء وعلماء آخرين. وفي خاتمة الكتاب استطراد لهؤلاء الشعراء واستعراض لقيمة هذه النهضة الأدبية في العراق ومقدار ما تتسم به من مكانة بالنسبة للقرون الهجرية الأولى. ثم مقارنة بين مركز العراق الأدبي في القرن التاسع عشر وبين مركز الآداب في البلاد العربية الأخرى؛ وهنا يصرح الدكتور بأن مركز العراق الأدبي في هذا القرن يبذ البلاد العربية جميعا سوى مصر التي أنجبت البارودي وإن يكن في العراق ثلاثة من أمثاله آنذاك.
وفي الكتاب ملحق تضمن دراسة شاعرين ممن تحدث عنهم في محطة الشرق الأدنى أولهما السيد عبد المطلب وهو ابن أخ السيد حيدر الحلي السالف الذكر، والثاني أبو المحاسن الشاعر الكربلائي ووزير المعارف في وزارة جعفر باشا العسكري سنة 1923 وقد توفي بعدها بقليل. وكان الأنسب ألا يقحم هذا الشاعر الأخير مع هؤلاء الذين تقدموا لا من الناحية الشعرية بل من الناحية الزمنية.
والذي يجب أن نختم به كلمتنا عن هذا الكتاب الذي استصفاه الدكتور البصير من ينابيع
متعددة فأجراه في جدول فياض رقيق الحواشي هو القيمة التاريخية بل القيمة الأدبية والفنية. فإن هذا الكتاب قد جمع أشتاتا من صفحات الأدب كانت متفرقة هنا وهناك، وظلالا من الشعر كانت متباعدة تجهد الرائد والمتتبع، وأكثر من هذا الذي قلناه أن الكتاب لا يستغني عنه من يريد أن يؤرخ للأدب العربي الحديث تاريخا صحيحاً شاملا. فإلى الدكتور البصير شكرنا الجزيل على ما أسداه للمكتبة العربية وللأدباء والباحثين في هذا الكتاب وفي غيره من مؤلفاته الأخر.
إبراهيم الوائلي