الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 861
- بتاريخ: 02 - 01 - 1950
في ذكرى مولد الرسول
على جبل النور
قضى الصادق الأمين محمد بن عبد الله خمساً وعشرين سنة في شعاب مكة وبطاحها يتيماً فقيراً ثم راعياً صغيراً، ثم تاجراً أجيراً، فلم ينعم بدفء الفراش كمن له أم، ولم يجلس أمام المعلم كمن له مال؛ وإنما تولى الله تأديبه وتهذيبه، لأنه أراد لنوره وبرهانه أن يشرقا في هذا المنزل المتواضع، ولمجده وسلطانه أن يظهرا في هذا اليتيم الوادع، ولعلمه وقرأنه أن ينزلا على هذا الأمي الحي، لتكون آيته أبهر للعيون، ودعوته أبرع للعقول، وكلمته أعلق بالأفئدة، فكمله بالخلق العظيم والحياء الوقور والصبر المطمئن واللسان الصادق والذمة الوثيقة والقلب الشجاع، ثم طهره من أرجاس الوثنية وأوزار الجاهلية، فلم يشرب الخمر، ولم يأكل الربا، ولم يلعب الميسر، ولم يشهد اللهو، ولم يعن وجهه لصنم.
ثم شاء الله لمصطفاه أن ينعم بسكينة القلب ورفاه العيش خمس عشرة سنة أخرى بعد ذلك في ظلال زوجه الغنية الوفية خديجة بنت خويلد استعداداً لأعباء الرسالة وكاره الدعوة ومجاهدة الشرك. وكان النبي الكريم في هذه الفترة الهادئة السعيدة يؤثر الوحدة ويطيل السكوت ويديم التفكير: يفكر في خلق السماوات والأرض، وينظر في أمر قريش والعرب، ويسأل نفسه: من الذي خلق الموت والحياة، وجعل الظلام والنور، ودبر أمر هذه العوالم، ونظم سير الكواكب؟ فتجيبه: إله آخر غير اللات والعزى ومناة، لا يحل في بشر، ولا يتمثل في حجر، ولا يتحيز في مكان. فيفكر محمد ويطيل التفكير، ويبحث النبي ويعمق البحث، ويتعبد المتحنث ويكثر التعبد. فإذا جاء شهر رمضان من كل سنة، هجر المهاد اللين، وفارق الزوجة الحنون، وتزود الزاد اليسير، ثم صعد إلى جبل حرّاء على 1500 متر من شمال مكة، ليستعين بالصوم والاعتكاف على استجلاء الحقيقة. وهنالك على قمة الجبل المخروطي الشاهق، وفي صمته الملهم الرائع، وفي غيابة الفضاء الرهيب، يفكر في الملكوت الدائم، ويسبح للجلال القائم، ويفنى في الوجود المطلق. فإذا جنه الليل أرسل نظره وفكره في أشعة القمر أو في أضواء النجوم، يستطلع المجهول، ويستجلي الغامض، ويرقب انبثاق النور عن الخالق، وانكشاف الستور عن الحق. حتى إذا أجهده التفكير وأرهقته الحيرة، آوى إلى الغار الموحش النابي فيستلقي على صخره سويعات ثم يستيقظ قبل أن
تغور النجوم، فيتعبد ويتجه بروحه اللطيف الصافي إلى الملأ الأعلى، حتى يتهيأ بطول الرياضة والعبادة والخلوة إلى تبليغ الرسالة، فرأى في الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان من السنة الحادية والأربعين من مولده صلوات الله عليه وهو نائم في الغار أن رجلاً جاءه بنمط من ديباج فيه كتاب وقال له: أقرأ. فأحس كأن الرجل يخنقه ثم يرسله ويقول له: أقرأ. فقال: ما أقرأ. فعاد إليه بمثل ما صنع وقال له أقرأ. فقال له: ماذا أقرأ؟ خشية أن يعود إليه بمثل ما فعل. فقال له: (أقرأ بأسم ربّك الذي خلق؛ خلق الإنسان منن علق؛ أقرأ وربُّك الأكرم؛ الذي علّم بالقلم؛ علّم الإنسان ما لم يعلم) فقرأها وانصرف الرجل عنه وقد نقشت في لوح قلبه.
وما لبث أن هبَّ من نومه فزعاً مذعوراً يدير بصره في الأرض، ويجيل طرفه في السماء. ثم تمثل له في اليقظة ما رآه في المنام فأدركه الخوف على نفسه فأنطلق مسرعاً إلى السكن الذي يسكن إليه، وإلى الصدر الذي يحنو عليه، فتلقته خديجة بالنظر المشفق والقلب العطوف، فقال لها وهو ينتفض كأن به مساً من الحمى، زملوني فزملته، حتى إذا ذهب عنه الروع وعاودته السكينة، نظر إلى زوجه نظر اللائذ العائذ وقال لها، يا خديجة، مالي؟ وحدثها بالذي رأى، فطمأنته وقالت له:(أبشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمّة. والله لا يخزيك الله أبداً. إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكلَّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق).
وفتر الوحي مدة جزع لها محمد وقلقت خديجة، ثم نزل على قلبه الروح الأمين بقول الله تعالى:(يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر) فقام بأعباء الرسالة والتبليغ ثلاث سنين في طي الخفاء، حتى أوحى الله إليه:(فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، وأنذر عشيرتك الأقربين) فعالن بالدعوة قريشاً وسفه أحلامها وعاب أصنامها، فكاشفوه بالعداء، وقصدوه بالإيذاء، وهو يتقي كيدهم بجنة صبره وعدة إيمانه، ومن وراءه عمه أبوطالب يذود عنه ويحميه، وزوجه السيدة خديجة تواسيه وتقويه. ولكن قريشاً أنذروا أبا طالب لئن لم يكف أبن أخيه عما هو فيه ليقاتِلَنَّهُ هو وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. فلما أعاد أبو طالب قولهم على سمع الرسول أجابه ذلك الجواب الذي خيَّس أنف الشيطان، وغيّر وجه الزمان، وحسم الأمر بين التوحيد والشرك، قال: والله يا عمُّ، لو وضعوا الشمس في يميني،
والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونَهُ) فلم يسع العم النبيل إلا أن يقول له: (أذهب يا أبن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيءٍ تكرهه أبداً).
عند ذلك تألبت على الرسول عناصر الشرك جمعاء، فأصيب في بدنه، وأتهم عقله، وأوذي في أهله، وعذِّب في صحبه. ثم فجعه الموتُ في عمِّه الشهم وزوجه المخلصة في يومين متقاربين من ألسنة العاشرة للرسالة، فأشتدَّ عليهما حزنه، وحرج بعدهما في مكة مقامه، فخرج منها إلى الطائف يدعو ثقيفاً إلى الله فأغروا به صبيانهم وسفهاءهم فقذفوه بالحجارة حتى أدموا قدميه، فلجأ إلى بستان يعصمه منهم، وتفيء شجرة من شجر الكرم وهو يدعو الله ويقول:(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربّي. إلى من تكلني؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي).
ولما نبت قفار مكة على الغراس الإلهي انتوى الرسول الهجرة بالمسلمين إلى المدينة، وقد أسلم فيها جماعة من الأوس والخزرج، فأحس المشركون منه هذا العزم فائتمروا به ليقتلوه. ولكنه خرج ليلة اجتماعهم على قتله هو وصديقه أبو بكر إلى طيبة، تكلؤهما عين لا تغفو وقوة لا يقام لها بسبيل. وهنالك تجلّت في الرسول مواهب الكمال الإنساني فحشد للخصومة قوى النفس وقوى الحس، فجاهد بالصدق، وجالد بالصبر، وجادل بالمنطق، وصاول بالرأي، وأثر باللسان، وقهر باليد. وتلك مزيته الظاهرة على النبيين والرسل. فكل نبي وكل رسول إنما بان شأوه على قومه في بعض المزايا، إلا الرسول العربي فقد تم فيه ما نقص في غيره من معجزات الرجولة؛ كان رسولاً في الدين، وعلماً في البلاغة، ودستوراً في السياسة، وإماماً في التشريع، وقائداً في الحرب. وبهذه المواهب التي نشأت في محمد بالفطرة، وانتقلت إلى أصحابه بالقدوة، أصبح الإسلام الذي بدأ بخديجة وعلى وأبي بكر وزيد، دين الناس ودنيا العالم؛ يقف به في آخر الغرب عقبة بن نافع على شاطئ المحيط الأطلسي ويقول وقد خوض جواده في الماء:(اللهم ربَّ محمد! لولا هذا البحر لفتحت الدنيا في سبيل إعلاء كلمتك. اللهم أشهد) ويتجه به إلى آخر الشرق قتيبة الباهلي، ويأبى إلا أن يوغل في بلاد الصين، فيقول له أحد أصحابه محذراً:(لقد أوغلت في بلاد الترك يا قتيبة والحوادث بين أجنحة الدهر تقبل وتدبر) فيجيبه قتيبة: (بثقتي بنصر الله توغلت.
وإذا انقضت المدة، لم تنفع العدة) فيرد عليه المشفق المحذر:(أسلك سبيلك حيث شئت، فهذا عزم لا يقله إلا الله).
فليت شعري يا علماء الإسلام ويا زعماء العرب، ماذا في نفوسنا وأيدينا من دين محمد وأخلاق محمد وتراث محمد؟ ألسنا نعيش اليوم مسلمين من غير إيمان، ومستقلين من غير سلطان، ومتحالفين من غير ألفة؟ وهل كان ذلك يكون لو اتخذنا من أحكام الله منهاجاً ومن وصايا رسوله علاجاً ومن حياة السابقين الأولين قدوةً؟
إن ذكرى مولد الرسول ذكرى انطلاق الإنسانية من أسر الأوهام وطغيان الحكام وسلطان الجهالة. فما أجدر القلوب الواعية الحرة على اختلاف منازعها ومشارعها أن تخشع إجلالاً لذكرى رسول التوحيد والوحدة، ونبي الحرية والديمقراطية، وداعية السلام والوئام والمحبة!
أحمد حسن الزيات
المكانة العالمية للإسلام في هذا العصر
للأستاذ محمد فريد وجدي بك
بعد أن مرت على النوع الإنساني عشرات من القرون في حالة تنازع للبقاء، ثم لطلب السيادة وبسطة السلطان، جرياً على عادات جاهلية فرضتها الحاجات الجسدية تارة والميول الهوائية تارة أخرى. وتبعت هذه التعديات تصرفات ومجريات تعسفية، أملتها على المتغلبين الغرائز الحيوانية، والطبائع الوحشية، فأصبحت رسوماً تقليدية، لا تثير عاطفة، ولا تجرح إحساساً؛ بعد أن مر هذا كلّه على النوع الإنساني، أخذ يبدو في حيز التفكير البشري رد فعل لهذا العدوان المتأصل في النفوس، ترجمت عنه بحوث خلقية، ودراسات فلسفية، منذ منتصف القرن التاسع عشر، تدل على وشك حدوث دور انتقال من هذه الحال الحيوانية التي درج عليها الأقوياء في جميع الأجيال حيال الضعفاء إلى حالة وسطى من العدل والإنصاف والرحمة؛ وكان ذلك سبباً في حدوث كتابات تدافع عن الضعفاء المقهورين، وتستدر لهم من الأقوياء المتغلبين العطف والشفقة، ولم تبخل عليهم باعتبار هذا العطف حقاً لهم يجب على سادتهم الاعتراف به.
لم تكتف هذه البحوث والدراسات بالناحية المادية لتلك الطوائف المقهورة، بل تناولت ناحيتهم الدينية والأدبية، التي يحتقرها الأقوياء ويأنفون البحث فيها، ويعتبرونها من الأضاليل الوحشية، فوجدتها لا تقل عن سواها دعوة إلى الخير، وردعاً عن الشر، ومطالبة بالإحسان والبر؛ وهي وإن كان قد أصابها التحريف فليست بأكثر من سواها التياثاً بالخرافات، ولا بأعصى منها قبولاً للإصلاح، فنشأ من كل هذه الكتابات والبحوث تلطيف لخشونة الاستعمار، فرضخ القاهرون للمقهورين بقسط من التسامح مكنهم من فتح المدارس لأبنائهم، ونشر الصحف للمطالبة بحقوقهم. واضطرت الأمم المتغلبة إلى زيادة قسطهم من الحرية فلم يلبثوا أن تطورت مطالبتهم بحقوقهم إلى ثورات مسلحة، وقلاقل متوالية، اضطرت معها أكبر الدول الاستعمارية إلى التخلي عن أكبر مستعمراتها، وتخفيف الوطأة عن سواها مراعاة لهذا التيار الجارف من الشعور بالحقوق الطبيعية. وأصبحت الأمم القوية المحافظة على الشكائم الحديدية في جهاد جهيد مع مستعمراتها، وهي تعلم أنها تحاول المحال في الإبقاء على التقاليد القديمة، وإنه سيأتي يوم وهو ليس بعيداً، ينتقل فيه سلطانها
المغتصب إلى أهل البلاد يحكمون بلادهم بأنفسهم تسليماً بالحق الطبيعي للأمم.
وقد اشتغل من ناحية أخرى رجال من المنقبين عن المدنيات القديمة، فوجد وأن للأديان كلها أصلاً واحداً وغرضاً واحداً؛ فإما أصلها فهو التسليم بوجود خالق للوجود؛ وأما غرضها فهو العمل بما شرعه سبحانه للناس من السيرة الصالحة والأخلاق الحميدة. وأما ما وقعت فيه الأديان من تعديد الآلهة، ومن الشطط في ضروب العبادات، وصنوف الخرافات، فكلها ليست من الدين في شيء؛ ولكنها من وضع رجال الأديان حرصاً على المحافظة على سلطانهم وتسخيراً للشعوب لإرادتهم.
تحت تأثير هذين العاملين، وهما ثبوت وحدة الأديان، وتعذر الاستيلاء على الأمم الضعيفة وتسخيرها بالقوة، ارتسم في الجو العالمي حقيقتان كبريان: أولاهما وجوب إيجاد تعارف سلمي بين الشعوب المختلفة، يرمي إلى تعاون بين أجناس النوع البشري، تبطل في ظله الظليل المنافسات الاستعمارية، والمنازعات بين الشعوب القوية. أخذهما التنويه بوحدة الأديان ووجوب تطهيرها مما التصق بها من الآراء البشرية، والخباليات الشعرية لتؤدي مهمتها في رفع النفوس إلى المستوى الرفيع الذي يليق بكرامتها الفطرية.
هذان الأصلان هما أخص ما دعا إليه الإسلام منذ نحو أربعة عشر قرناً. فأما عن الزمالة الإنسانية العامة، ووجوب وجود المساواة بين الناس والتعارف بين الشعوب، فقد جاء عنه في الكتاب الكريم قوله تعالى:(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير). وقد عمل المسلمون بهذه القاعدة فلم ينساحوا في الأقطار طلباً لاستغلال الأمم، ولا رغبة في تسخيرها، ولكن لمعاونتها على النهوض، وإحكام أوامر التحاب معها. وقد برت بما وعدت ورفعتها من حالتها التعسة إلى مستوى رفيع من الثقافة والمدنية، حتى أن شعوباً كانت تستدعيها لتحل بين ظهرانينا تخلصاً من نير حكوماتها الوطنية.
وأما من الناحية الدينية فإن الكتاب الكريم قد صرح بما أكتشفه العلم في القرن التاسع عشر من أن أصل الأديان واحد وأنها ما تخالفت إلا بسبب ما أدخله إليها المتسلطون عليها، إشباعاً لشهواتهم من الحكم والسيطرة. فقال تعالى عن الإسلام: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين
ولا تفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم اليه، ألله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ولولا كلمة سبقت من ربِّك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أوتوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب فلذلك فأدعو (أي لوحدة الدين فأدع)، وأستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم، وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم، والله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم (أي لا محاجة ولا خصومة)، الله يجمع بيننا واليه المصير). أي أنه شرع لكم من الدين ما نزل على أبيكم آدم، فإن دين الله لا يتغير، ولكن الأمم هي التي تولته فحرقته وصرفته عن أصله. فإياك أن تعدل عن هذا إلى سواه (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء).
وأبلغ مما مر في وجوب رد الأديان إلى وحدتها الأولى قوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورُسُلِهِ، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقاً، واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً). فقد أُمر المسلم أن يؤمن بجميع الأنبياء والرسل، وأن لا يتخير بعضهم فيؤمن بهم ويكفر بالبعض الآخر، فلا تتهم الوحدة البشرية التي يريدها الخالق لعباده، وهذا أقوى في الدلالة على هذا المبدأ في الإسلام، وهو عينه مرمى الإنسانية؛ ومردها الذي لا مصير لها غيره كما يتبينه الذين يتتبعون تطور المدركات البشرية.
وعلى هذا يكون الإسلام قد قصد بما شرعه للناس من دين عام توحيد البشرية. ووافق الطبيعة الإنسانية فيما ستؤول إليه تحت توجيه النواميس الاجتماعية؛ ويكون قد ترجم عما سيقع في مستقبل بعيد بقوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد).
محمد فريد وجدي
أعداء ثلاثة
للأستاذ محمد تيمور بك
أعداء الإنسانية كثير، وصولتها في مملكة الشر قائمة على قدم وساق، وإنها لتعبث في الأرض فساداً ما وسعها أن تعبث.
ومنذ نجمت هذه الأعداء قام في وجهها دعاة الخير، وأحلاف الفضيلة، يحدون من عدوانها على وجه الأرض، ويكفون أذاها عن الناس.
وما برحت أسماعنا تهزها أصداء الحملة على ثلاثة من هذه الأعداء، أوغلت في البغي، وأمعنت في الشر، فنهض لها قادة الأمة يشنون عليها غارة شعواء. . . تلك هي: ثالوث الفقر والجهل والمرض.
وليس ينكر أحد ما لهذا الثالوث الكريه من جسيم الخطر، فإليه مردَّ ما تعانيه الأمة من آلام شداد، وما يعتاق خطاها إلى الأمام من عقاب صعاب.
بيد أن هذه الأعداء الثلاثة على جسامة خطرها تبرز في المعسكر المادي للعيان، وتغنى في محاربتها عدَّة حازمة من وسائل الاقتصاد. فما أشبهها بالقروح الظاهرة، داؤها مكشوف، ودواؤها معروف، إذا أنت أخذت فيها بأسباب العلاج، خبيراً به، محكماً له، كان لك أن تستقبل طلائع الشفاء.
وثمة في حياتنا العامة أعداء باطنة تكمن في دخيلة النفوس، ويسري أذاها في المجتمع مسرى الدم في العروق. وهذه الأعداء المعنوية هي التي يتعذر التخلص منها إلا بجهد ورياضة ومعاناة.
ومما لا ريب فيه أن المعنويات هي الأساس في سعادة الإنسان. فكلما صلحت المعنويات أفاضت من صلاحها على الماديات.
ليست تلك المعنويات إلا الروح، وإذا قويت طاقات الروح لم تقو عقبة على أن يبقى لها سلطان.
متى توافرت للنفس عقيدة وإيمان، مضت في طريقها تشقه، حتى تروعك من أعمالها بالمعجزات.
أفي مستطاع امرئ أن يسعى في مطاولة أعداء الإنسانية في المعسكر المادي، دون أن
يكون مدفوعاً إلى ذلك بعامل نفسي قوي موصول بحب الخير؟
إن العالم يدين برفاهيته، وبشمول الخيرات فيه، لقوى نفسية اتخذت من المثل العليا رائدها في الطريق، فأحبت الخير، وعملت عليه، وبذلت جهدها له، حتى بلغت ما تريد.
المعنويات إذن هي نواة الرقي الماديّ. فإذا شئنا أن نعلي من شأن الماديات في حياتنا العامة، فعلينا أولاً أن نجند قوى النفوس للتخلص من أمراض النفوس.
ويلوح لي أن أعداء الإنسانية في المعسكر النفسي ثلاثة: الحسد، والبغض، والحقد.
وإن شئت قلت: أنه عدوٌّ واحد، يتشكل في ثلاثة أطوار من حياته، يبدأ في طور الطفولة حسداً، ثم يجتاز طور الشباب بغضاً، ثم يكون في كهولته حقداً.
يمد المرء عينه إلى ما حوله فإذا هو حاسد، ولا يلبث أن يسلمه الحسد إلى إبغاض لمن يحسده، وما هي إلا أن يحقد عليه، فيطوي النفس على إيذاء له، وإيقاع به.
ذلك العدو المثلث هو حجر الزاوية في مأساة البشرية، وليس ميدانه مقصوراً على الفرد وحده، ولكنه يتعداه إلى الجماعات على اختلافها، بل أنه يتخطاها إلى الدول على تفاوتها، والى الأجناس على ما بينها من تباين.
ولكي يناهض الإنسان هذا العدو الصميم، عليه أن يواجهه في معسكره الأول، أعني نفس الفرد. فإذا انكشفت عن الفرد عداوته، لم ينبسط لها ظل في الجماعات والدول والأجناس.
ولا تحسبن النفس الواحدة من الضآلة بحيث يتيسر علاجها على كل طالب، فإن هذه النفس عالم زاخر يحتاج إلى تنظيم وتدبير وسياسة لا تقل عن تنظيم الممالك وتدبير الأمم وسياسة الدول.
متى اشتملت نفس بهذه العداوة المثلثة عانت حالة من الضعف والمرض، وهذه الحالة لا تصيب النفس بدافع الحرمان وحده، فكم من نفوس حسدت فأبغضت فحقدت، لغير مسوِّغ من حاجة ملجئة، أو ضرورة داعية.
مرجع هذه العلّة النفسية إلى بذرة الأنانية، تلك التي تجعل النفس في بوتقة من القلق والاضطراب، يهيجها ما تراه حولها من خير ينصرف دونها إلى سائر الناس. فهذه النفس لا تسكن ولا تقر إلا إن وقفت بمرصد، لتردّ عن السبيل خطوات الساعين إلى الغايات.
كيف نكافح هذا العدو المثلث؟
كيف نهوّن من بطشه إن عزّ علينا أن نستأصل شافته؟
كيف السبيل إلى أن نوفر للنفس حظها من الصحة والعافية، فيجتمع لها من القوة والثقة ما تعتصم به من شر ذلك المرض الوبيل؟
لا جدوى لمختلف العقاقير والأدواء في علاج أمراض النفوس، فالسبيل في شفائها مرهون بترويضها على إيثار الخير، وحب الغير. . .
ليس في مقدورنا أن نروض أنفسنا على الخير الشامل دفعة واحدة، فالنفس حرون، وإن النفس لأمارة بالسوء، ولابد لها من مدارجة وملاينة، حتى تأبى الجماح، وتخفض الجناح.
ليأخذ المرء بادئ بدء بحبّ أقرب الناس اليه، وفي ذلك الميدان يتسنى له أن يقنع النفس بالحدِّ من الأنانية، فيهب من يشاركهم في العيش فضل سعيه، وموفور إخلاصه. ثم يخطو بخيره درجة أخرى، فيضم إلى أهله من يجدهم من حوله أعواناً وإخواناً. ولن يستعصي عليه بعد ذلك أن ينزل عن أنانيته طوعاً لمن لا صلة بينه وبينهم إلا صلة الإنسان للإنسان.
وبذلك التدرج في ترويض النفس على التخلص من الأثرة والأنانية، تتأصل تلك النزعة الإنسانية من الحب والخير. وفي هذا كسب للبشرية عظيم!
أذكر - فيما أذكر - قصة فتى فنان الروح، كان بالريحان ولوعاً، فأراد أن يستنبت وردة مثالية لا عهد بها لأحد، فقضى أعواماً يزاول تجاربه لجمع خصائص الورود الزكية في وردته المنشودة. وكانت تصاحبه فتاة رعناء، يطوي لها قلبه على حب فوّار، فأغدق عليها عطفه، واحتمل رعونتها في مصابرة ومطاولة، وأعانه حبه لصاحبته على أن يضل ساعياً لخيرها، لا يبالي أنانية نفسه وحقها عليه. وبينما كان الفتى مسترسلاً في تجارب الورود، كانت الفتاة تفكر في حسن معاملته لها، وصبره على أذاها. فأخذت تحاسب نفسها على ما كان منها، ورجعت تتودد إلى فتاها في دماثة خلق؛ ولين جانب. . .
ويوماً جاس الفتى مغتماً، يتحسر لإخفاقه في استنبات الوردة المثالية؛ فجاءته الفتاة مترفقة به، تسأله: فيم تفكر؟
فأبتسم لها ابتسامة يأس. فقالت له، وهي تلاطفه:
ألا يكفيك أن أكون وردتك المثالية التي نجحت في خلقها خلقاً جديداً؟
فإذا أردنا أن تكون الحياة روحاً وريحاناً، فلنحرص على أن نستنبت في نفوسنا تلك الورود المثالية التي يضوع منها عطر المحبة والإخاء!
محمود تيمور
كلمات مرسلة
للدكتور محمد يوسف موسى
نحن - العرب أو المسلمين عامة - نعيش على هامش الحياة ننفعل بما يكون من أحداثها، دون أن تكون قوة في إيجاد هذه الأحداث. وبعبارة أخرى، نحن مادة قابلة لما يريد الغير من صور لا قوة تفعل وتفرض على الغير ما تريد صور في هذه الحياة من كل أو بعض نواحيها. ونجد مصداق هذا القول الذي نقوله فيما نحن عليه من نظم: في التعليم، والبرلمان، والقانون، والسياسة وفي سيرة ممثلينا في البلاد العربية.
ونظن الأمر تكفي فيه الإشارة والتلميح، ولا يحتاج لشيء من الإيضاح. فتلك حقيقة لا ريب فيها وهي نكبة على الأمة. إذ ليس معنى هذا إلا فقداننا الثقة بنا كأمة أو جنس، وفقداننا الشعور بأن لنا شخصية مستقلة، بها نتميز عن غيرنا ونستمدها من ديننا والخير من تقاليدنا وحضارتنا، وبها يجب أن نعتز في غير كبرياء فارغ.
ليس من ضير على أيةأمةأن تأخذ عن غيرها بعض ما تراه خيراً من نظمها وتقاليدها، وتضمه إلى ما تحرص عليه من التقاليد الخاصة بها، ولكن من الشر كل الشر، أن تذهب الأمة تلتمس لها نظاماً في التعليم أو القانون أو الحكم من أمم مختلفة، فيجيء هذا النظام مِزقاً متهافتة ليس له وحدة حقيقية تضم أطرافه، وليس له هدف مُوحد يسير إليه، وليس له من فضل إلا أنه مأخوذ عن أمم ترى أنها تقدمتنا في الحضارة؛ وهو - مع هذا كله - لا يتفق وديننا، ولا يتفق مع ما هو خير من عاداتنا وتقاليدنا.
لقد آن الوقت الذي يجب أن نضع من جديد في الميزان تقاليدنا وحضارتنا كي نرى منها ما به نصلح في هذا العصر، فنبقى عليه ونعتصم به ونعتز؛ وما كان منها خيراً لزمن غير زماننا، فلا نأسى على أطراحه واتخاذ بديل منه من هنا أو هناك.
وآن الوقت الذي يجب فيه أن نتساءل في جد: هل الإسلام هو الدين الحق الذي رضيه الله لنا كما يقول القرآن؟ وهل نحن كما يذكر القرآن حقاً خير أمة أخرجت للناس؟ فإذا وصلنا إلى اليقين بأن هذا وذاك حق، وذلك ما لا ريب فيه، يجب أخيراً أن نتساءل عن السبب الذي من أجله لا يستخلفنا الله في الأرض كما استخلف الذين من قبلنا ولا يمكن لنا ديننا الذي ارتضاه لنا، ولا يبدلنا من بعد خوفنا أمناً كما جاء في سورة النور من القرآن.
هذه آية كريمة تتضمن وعداً كريماً صادقاً من الله، ومن أوفى بعهده من الله؟ وقد صدق الله وعده في فجر الإسلام وبعده في أزمان مختلفة، لأجدادنا الذين آمنوا به حقاً بقلوبهم لا بألسنتهم وحدها، إيماناً واجهوا من أجله الموت راضين سعداء، فلماذا لا يتحقق لنا كل هذا الذي وعد الله به مرة أخرى في هذا العصر إن حصلنا ما يجب أن يكون منا من أسباب؟
إن ارتباط المسبب بالسبب أمر ضروري لا شك فيه. وقد أخطأ الغزالي خطأ بليغاً، لا زلنا نعاني حتى اليوم من أثره السيئ، على العقل والفلسفة والصالح العام للمسلمين، وذلك حين حاول باسم الدين هدم القول بارتباط المسببات بأسبابها ارتباطاً ضرورياً لا عادياً.
نقول أخطأ الغزالي خطأ بليغاً، إذ كان من صنيعه أن وقر في نفوس عامة المسلمين - بعد أن قرر ما قرر وهو حجة الإسلام - أن المرء قد ينجح في حياته وهو لم يتخذ للنجاح أسبابه الضرورية، سواء أكان زارعاً أو صانعاً أو تاجراً أو رجل سياسة ودولة!
وكان من هذاأيضاً أن أخذ كثير، حتى من المثقفين، يتساءلون عن العلة التي لم يحقق الله للمسلمين هذه الأيام مظاهر القوة والسيادة، ما به يؤكد أننا حقاً خيرأمة أخرجت للناس وأن الإسلام خير الأديان. عن هذا يتساءلون، وينسون أن أي مسبب لا بد أن يكون له سبب، وإن خرق ذلك لن يكون إلا معجزة وقد مضى زمن المعجزات، يتساءلون عن هذا، وينسون إننا لسنا مؤمنين ولا مسلمين حقاً.
نعم! لنقل هذا صراحة، فلسنا من الأيمان بالقدر الذي به يحقق الله ما وعد لعباده المؤمنين. وأدنى هذا القدر أن نؤمن بالله وحده، وألا نرجوا أو نخاف غيره، وأن نتذكر أينما كنا من العالم أننا مسلمون، وأن نعمل دائماً عمل المؤمنين المسلمين.
هذا هو جماع السبب الذي به نكون أهلاً لنصرة الله لنا، وذلك ما ليس متحقق فينا بكل أسف. ولنكثف في هذا المقام بالقليل من الأمثلة، أو الواقعات التي شهدتها بنفسي وشهدها معي كثير من الإخوان المصريين المسلمين.
1 -
دعيت أكثر من مرة لحفلات استقبال أقامتها هذه أو تلك من الدور الرسمية التي تمثل البلاد الإسلامية في باريس؛ فكان يجري في هذه الحفلات ما لا يذكرنا قط أننا في دار تمثل دولة من دول الإسلام. وحسبي أن أذكر أن من ضروريات هذه الحفلات أن تسيل الخمر كأنها الماء، وألا يتعفف عن شربها إلا القليل جداً ممن عصم الله، وأن يكون ذلك كله على
مشهد من الأجانب الذين يعجبون أن يحدث هذا من ممثلي الأمة الإسلامية.
ثم ذلك لا يحدث في الأيام العادية فقط، بل حدث أحياناً في رمضان، شهر الصوم، وأثناء النهار! بينما دعيت مرة في رمضان أيضاً لحفلة استقبال أقامتها وزارة التربية الوطنية بباريس، فكان مما عني به القوم أن بدء الحفلة كان بعد غروب الشمس بقليل! تلك مفارقة، وأي مفارقة!
2 -
حاولت إدارة رسمية تشرف هناك على طلاب البعثات عقد صلات بين الطلاب وأساتذتهم الأجانب، فلم تر إلا أن تقيم حفلة راقصة فيها كانت الخمر أصنافاً وألواناً، وذلك في وسط من الفوضى عجيب، حتى اضطر بعض هؤلاء الأساتذة إلى الانصراف في عجب بالغ وألم شديد.
وهذان مثالان، ولو شئنا لأتينا بأخرى، ولكن المقام لا يسمح وحيز الكتابة محدود. على أني، مع هذا، أضيف أيضاً هذه الكلمة التي نرى منها أننا نبتعد كل يوم عن الإسلام.
يكون من بعض من جعل الله إليهم الأمر في الأمة الإسلامية في مصر أو غيرها من بلاد الشرق الإسلامي، الحدث الجلل من الأحداث، الحدث الذي هو ظلم سافر، ظلم يتناقض صراحة وأمر الله ورسوله، ومع هذا لا نجد كلمة اعتراض من واحد من الأمة. أي والله، لا نجد أحداً يعترض، حتى ممن يجب عليهم - بحكم مناصبهم الرسمية ومكانتهم من الأمة - الذود عن الدين والشريعة وحمايتها من العدوان.
ثم، مع هذا كله، نعجب من أننا في ذلة وهوان، بينما الغربي في عزة واستعلاء! ومتناسين قوله تعالى:(إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)! ومتناسينأيضاًقوله في موضع آخر من القرآن: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فيالأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً). ففي هاتين الآيتين الكريمتين بين الله الأسباب التي يكون عنها النصر والعزة، وبين أن بين هذه الأسباب ومسبباتها رابطة لا انفصام لها، تلك سنة الله في خلقه.
هذا، وهناك ناحية أخرى أحب أن أتناولها في هذه الكلمات. لقد لمست طوال الأعوام التي قضيتها في فرنسا، وفي الفترات القصيرة التي عشتها في ألمانيا وإنجلترا وأسبانيا، أن
القوم هناك بعد الحرب يجتازون دوراً خطيراً من ناحية العقيدة والدين.
إن كثيراً من الشباب في أوروبا، وبخاصة شباب الجامعة، صاروا يعترفون بعجزهم عن فهم الديانة المسيحية وما فيها من أسرار تعجز العقل. وأن كثيراً من هؤلاء، بلغ بهم التفكير الجاد في هذه المشكلة؛ أن صاروا يتلمسون لأنفسهم عقيدة أخرى يفهمها العقل ويطمئن لها القلب؛ عقيدة تتفق وهذا العصر الذي نعيش فيه، العصر الذي لا سبيل فيه للأيمان بما يعجز العقل عن إدراكه.
رأيتهم يطلبون دنيا فيه للقلب هوى، وللعقل رضى، وفيه من الروحية ومن المادية؛ دين لا يرفض الدنيا، بل يأخذ منها ويعمل في الوقت الآخر نفسه للآخرة. وإن منهم من فكر حقاً في الإسلام ومن أطلعني على الأزمة متى يحسها ويجد لها قلبه وعقله مساً أليماً. ولكن هؤلاء وأولئك لا يجرؤن، مع هذا، على اليسير بعيداً فيما يفكرون فيه، إذ لا يجدون الوسيلة الصحيحة لمعرفة الإسلام ولا يطمئنون مع ذلك إلى هذا اليد مع ما يرون من سوء حالة المسلمين.
علينا أذاً، أن نقرّب هذا الدين، وأن نجلوه للطالبين: عقيدة وأخلاقاً ونظاماً اجتماعياً، في كتاب قريب التناول نترجمه للغات جميعاً في الغرب والشرق، ثم نوزعه في أقطار الأرض كلها. بهذا وحده يستطيع أن يعرف الإسلام من يريد، وبهذا نكون أدينا واجباً لهؤلاء الحائرين وما أكثرهم، وللإنسانية كلها، لأن أكثر ما كتبه غير المسلمين عن الإسلام تعوزه الدقة أو الأنصاف.
إني لأعرف ما يتطلب هذا العمل الضخم من جهود ومال، ولكني أعتقد أنه مع الإرادة الطيبة تستطيع أن تصل منه إلى ما تريد إن شاء الله الذي يوفق للخير ويعين عليه. وعندنا من رجال الأزهر والجامعة من يحتاج إليهم هذا العمل تأليفاً وترجمة ولنا من ذوي النعمة الطويلة واليسار العريض من لا تؤودهم التكاليف المالية.
ولعل فضيلة أستاذنا الأكبر شيخ الجامع الأزهر ينشرح صدره لهذا العمل فيتقدم الجميع في الدعوة له وإعداد العدة لتنفيذه؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
محمد يوسف موسى
إلى الطائف.
. .
مسرحية شعرية
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
النبي العربي في طريقه إلى (الطائف)، وفي صحبته مولاه زيد ابن حارثة - كما يروي المقريزي وابن الأثير المؤرخ وكان الشهر يناير من سنة 620 ميلادية، والثلج الأبيض الناصع يجلل ذرا جبل غزوان، وهو أبرد مكان في الحجاز. وقد شهد هذا العام وفاة اثنين من أعز أنصار النبي: عمه أبى طالب الذي كان يدفع عنه أذى المشركين، وزوجه خديجة أم المؤمنين التي وقفت بجانبه أربعة وعشرين عاماً وستة أشهر. ولم يبق له من أوفى الأوفياء إلا مولاه وربيبه زيد بن حارثة.
زيد:
يا نبي الهدى تلوح لعيني
…
قمة كللت ببيض الثلوج
هي في الطائف الذي يتحلى
…
بالروابي، ويزدهي بالمروج
قمة أشرفت على السهل والحز
…
ن كإشراف شاهقات البروج
قد خرجنا بها إلى الله نبغي
…
نصرة في سبيل هذا الخروج
إن في الواحة الخصيبة مأوى
…
للمطايا، وراحة للحدوج
محمد:
هيا بنا إلى أشراف ثقيف في (الطائف) ندعوهم إلى الله!
زيد:
الله جارك حين تنتقل
…
والله جارك حين ترتحل
يا ضارباً في الصبر أمثلة
…
بك في الشدائد يضرب المثل
هان الطريق فسر عليه كما
…
سارت على أشواكه الرسل!
هذا سبيلك غير ذي عوج
…
حاشاك ما ضلت بك السبل
المشركون عليه ترصدنا
…
منهم لحاظ الكيد والمقل
الله جارك لا تخف أحداً
…
والله حسبك أيها البطل
هذي (ثقيف) وتلك أربعها
…
فلعلها بهداك تمتثل. .
طال الطريق على غوايتها
…
ومضت بها آباؤها الأول
فلعلها تهفو إليك كما
…
تهفو إلى أعطانها الإبل!
وهنا يعرج النبي على جماعة من أشراف ثقيف ويدعوهم إلى الإسلام فيجيبه واحدٌ منهم:
رجل من ثقيف: -
يا راحلاً من بطن مكة يبتغي
…
في ذلك الوادي الخصيب فكاكاً
هل جئت تنشر في ثقيف دعوة
…
أم جئت ترصد بينها الأملاكا؟!
دعها وما ألفتهُ من آبائها
…
واترك لها الأزهار والأشواكا!
هي رحلة لا ترج منها نصرة
…
أجهدت في وعث الطريق خطاكا
لو كان ربك مرسلاً أحداً لنا
…
أفما رأى من مرسليه سواكا؟؟
وهنا تذهب الجماعة في قهقهة مدوية وترسل ضحكاتها عالية، فيقوم آخر منهم ويقول:
رجل آخر من ثقيف:
إن كنت تحمل حقاً
…
رسالة قدسية
فأنت أعظم قدراً
…
من أن نرد التحية
وإن تخرصت كذباً
…
على إلاه البرية
فأنت أهون شأناً
…
من خوضنا في القضية
وتستمر الجماعة الضالة الهازئة في ضحكاتها، وهم يسبون النبي ويرمونه بالحجارة ويصيحون به. فيقوم واحد منهم، ويتجه إلى جماعة من العبيد والسفهاء يغريهم به قائلاً.
ثقفيٌّ ثالث: -
ما بثقيف حاجة
…
إلى الدعاوى والكذب
أيقصد المغلوب في
…
مكة بيننا الغلب؟
عجيبة منه
…
تثير في نفوسنا العجب!
ما للفتى وللرسا
…
لات لدينا والكتب
سيفسد الأمر علي
…
كم بالحديث والخطب
فما لنا في دينه
…
شأن ولا لنا أرب
الخير كل الخير في
…
رمان (وج) والعنب
نعتصر الخمرة من
…
هـ في أباريق الذهب
وهنا يكرر الفتيان والسفهاء هذا البيت الخير، ثم يستمرون في عربدتهم وسخفهم، حتى يلجئوا النبي إلى حائط، وقد أدموا رجليه. . . فحين يرجع عنه السفهاء ويصيبه بعض الاطمئنان يتجه إلى ربه قائلاً.
محمد:
(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا ارحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدوٍّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة غلا بك).
وهنا يرى عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة ما حل بالرسول فتتحرك الشفقة عليه في قلبيهما، ويدعوان غلامهما النصراني وأسمه (عداس)، قائلين له:
عتبة وشيبة:
عداس خذ عنباً من بعض كرمتنا
…
وأعطه - في حنان - ذلك الرجلا!
إنا نرى الجوع يبدو من نواجذه!
…
فما تبلغ من زاد ولا أكلا
إن المروءة تأبى أن نجوعه
…
وأن يقال: غريب بيننا هزلا. . .!
ثم يذهب (عداس) إلى النبي ويضع طبق العنب بين يديه فيبدأ النبي يلتقط حبة منه قائلاً. بأسم الله. فينظر (عداس) إلى وجهه ثم يقول
عداس:
هذا كلام لم يقل
…
هـ الناس في هذا البلد
ولم أكن أسمعه
…
ولم يدر لي في خلد. . .!
هذا كلام واحد
…
يسبح الله الأحد!
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم
محمد:
ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟
عداس:
أنا من (نينوى) وديني دين
…
ينتمي للمسيح عيسى بن مريم
محمد:
أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متي؟
عداس:
يونس الصالح بن متي؟ أجبني
…
كيف تدري بأمره كيف تعلم؟
محمد:
ذلك أخي كان نبياً، وأنا نبي!
وهنا يكب (عداس) على رأس الرسول يقبلها ويقبل يديه ورجليه، فيراه سيداه عتبة وشيبة، فيقولان له حين يرجع إليهما.
عتبة وشيبة:
ويلك يا عداس ما
…
هذا بفعل طيب
ماذا الذي صنعته
…
مع الغريب الأجنبي
قبلت منه رأسه
…
وزدت تحت الركب
فما الذي أبقيته
…
لمجدنا من أدب؟
وما الذي عادلنا
…
في قومنا من أرب
عداس:
المجد لله القوي
…
والعزيز الأغلب
آمنت أن الضيف هـ
…
ذا هو فخر العرب
وأن فيه آية
…
تدل أنه النبي. . .
عتبة وشيبة في ذهول:
تدل أنه النبي؟؟ تدل أنه النبي؟؟
محمد عبد الغني حسن
إيمان عظيم
للأستاذ أنور المعداوي
امرأة أحبت كل الحب، وآمنت كل الأيمان بمن تحب. . . وكانت عاشقة برح بها العشق فأذبل منها العيون وقرح الجفون وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفده الشوق؛ وحنيناً مضطرماً يلهبه الوجد؛ وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع وتسبح الدموع!
كان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وهكذا تجسد الحب الصادق في أرفع منازله وأعمق منابعه وأنبل معانيه؛ لم تشوه من جلاله غاية، ولم تعبث بطهره غواية، ولم يرق إلى سمائه جناح في دنيا المحبين!
وما كان أعجبها قصة حب. . . بل وما كان أعجبها قصة حياة! حب لم يكن الباعث عليه شيئاً من الترهيب أو من الترغيب؛ وحياة ما أبعد الشقة فيها بين طرفين؛ وما أكثر التنافر بين بداية ونهاية. وحين يكون الحب خالصاً لوجه الحبيب فقد بلغ الذروة وأشرف على الأوج؛ وحين تكون الحياة تطرفاً في شوطها الأول فهي تطرف في شوطها الأخير، سواء أكان التطرف مصدره الاعتدال هناأمكان مصدره الانحراف هناك!
وهكذا كانت رابعة العدوية. . . وهكذا كانت عاشقة السماء. عاشت في عصر يحفل بالشذوذ ويعج بالمتناقضات، عصر أقبل فيه أناس على الرذيلة حتى ما يردعهم رادع من دين وحتى ما يزجرهم زاجر من خلق؛ فليلهم إغراق في الأثم ونهارهم إمعان في المعصية وأقبل غيرهم على الفضيلة متى ما تهدأ قلوبهم من خوف وما تسكن نفوسهم من قلق، فليلهم إيغال في التهجد ونهارهم إسراف في البكاء. وكانت البصرة في القرن الثاني للهجرة موطناً لأولئك كما كانت موطناً لهؤلاء. . . وإلى المتطرفين في الضلال والوزر سلكت رابعة أول الطريق، وإلى المتطرفين في الإيمان والزهد بلغت من هذا الطريق منتهاه.
انحدرت من صلب أبوين فقيرين؛ لم يجدا ليلة مولدها شيئاً مما يلف به كل وليد. . . وكانت مولاة لآل عتيك، وإلى بطن من بطون قيس تنتسب هذه القبيلة كما تنتسب إليها قبيلة أخرى هي بنو عدوة، ومن هنا سميت عند بعض المؤرخين برابعة القيسية وسميت عند البعض الآخر برابعة العدوية. وحين اكتملت لها الأنوثة ونضجت فيها الفتاة، فقدت العائل في شخص الأب حين مات وحرمت أسباب البقاء في البصرة حين أصابها القحط. .
فهامت على وجهها تلتمس المأوى الذي يرد عنها غائلة الجوع ويدفع مرارة الحرمان. ولكن الأمر ينتهي بها إلى أن تقع في يد من يذيقها ذل الأسر ووطأة الرق وحرقة الهوان!
وهناك، في ذلك السجن الذي لقيت بين جدرانه ألواناً من الظلم وفنوناً من الظلام، رفت روحها في سماء الحبيب أول رفة، وهمس صوتها أول همسة، وانطلقت من بين الجوانح أول مناجاة (إلهي! أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرق، ولكن غمي الكبير هو أن أعرف: أراض أنت عنيأم غير راض)؟!. . .
ويجيبها صوت لا تعرف مصدره، ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم:(لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلع المقربون في السماء إليك ويحسدونك على ما ستكونين فيه)!
وامتد أول خيط تعلقت به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!!
وكانت لحظة من لحظات الانقلاب في حياة تلك الصوفية المؤمنة، ابتدأت بالصوم والتهجد وقيام الليل، وانتهت بالتحرر من هذا الرق الذي عصف بكل بقية من أمل لولا رعاية السماء. . لقد رآها سيدها ذات ليلة ساجدة تصلي واستمع إليها مبتهلة تقول:(إلهي! أنت تعلم أن قلبي يتمنى طاعتك، ونور عيني في خدمة عتبتك، ولو كان الأمر بيدي لما انقطعت لحظة عن خدمتك، ولكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبدتك)! وانبثق في هذه المرة ضوء كما انطلق في المرة السابقة صوت، وكلاهما لا تعرف مصدره ولكن فيه الأمن للخائف والأمل لليائس والعدل للمظلوم. . . وإذا بسيدها مرتاع النفس ملتاع الضمير، يقضي الليل كله مؤرق الجفن مضطرب المضجع يريد أن ينتهي في أمرها إلى قرار. فإذا كان النهار مضى إليها يقول:(أي رابعة! لقد وهبتك الحرية، فإن شئت بقيت هنا ونحن جميعاً في خدمتك، وإن شئت رحلت أنى رغبت)!. . . وانطلقت رابعة إلى هناك، إلى حيث تقطف من رياض الحرية كل زهرة، وتعب من ينابيعها كل قطرة، وتستروح من أنسامها كل رخي طيب.
ولا ندري لم تخلت عنها يد الله فنسيت رسالة الأيمان لتتبع خطوات الشيطان؟ ولكنها لم تتخل عنها إلا إلى حين، لتعود بعد ذلك أكثر ما تكون تعلقاً به وحنيناً إليه وتهالكاً عليه. . . لقد اتخذت رابعة من مهنة العزف والغناء وسيلة لكسب العيش والسعي وراء الرزق، وهي
وسيلة لم تكن مأمونة العواقب على كل حال، لأنها دفعت بصاحبتها إلى أن تغشى مجالس فيها اللهو والعبث والمجون، وفيها المشاركة في اللذات والانغماس في الشهوات ولا مناص عندئذ من الاستجابة لفنون الأغراء شأن كل جميلة من بنات حواء، وبخاصة إذا ما كانت صاحبة مزاج شاعري كمزاج رابعة، تقوده رهافة الحس وصفاء الطبع وجموح الخيال!
كانت فنانة، وكانت إنسانة. . . وفي الفن تسطع ومضات الرؤى وتتوهج الأحلام، وفي الإنسانية تشف نبضات الهوى وتفيض منابع الإلهام؛ وبهذين السلاحين راحت رابعة تشق صفوف البشر باحثة عن حبيب! ولكن الأرضليست موطناً لهذا الحب المثالي الذي ينشده الفن خالصاً من الشوائب وتبتغيه الإنسانية مبرأ من الأهواء. . . وإذن فلا مناص من أن تولي الفنانة الإنسانة وجهها شطر السماء!
وبدأت نقطة التحول في حياة رابعة. . . إن الماضي الجميل في كنف الحبيب الأعظم لا يزال يطل بذكرياته من خلف ستائر الضباب، وإن القلب الممنى لا يزال يبحث عن قطرة ماء يمكن أن تطفئ ظمأ هواه، وإن الخيال الحائر لا يزال يرقب الأفق البعيد في لهفة المتطلع إلى ما وراء الغمام. ومرة أخرى يمتد ذلك الخيط الإلهي غير المنظور، وتتعلق به رابعة لتصعد إلى السماء متكئة على يد الله!
وكان حباً عظيماً لأنه وليد إيمان عظيم. . . وإذا ما أحبت المرأة من أعماق قلبها فلا شيء في الدنيا يصرفها عن هذا الحب، مهما اعترضت طريقها المحن وامتحنت روحها المغريات! إنها تؤمن بحبها هذا الإيمان الخالص تبذله من ذات نفسها دون أن تنتظر عليه شيئاً من الأجر أو أشياء من العوض. حسبها أن تهب قلبها لمن تحب، وحسبها أن تفني فيه وتذر له الحياة، وحسبها أن تخرج من هذا الفناء بكثير من العزاء!
وأنها لتقدم الدليل من نثرها حيث تناجيه في هدأة الليل والناس نيام: (إلهي! أنارت النجوم، ونامت العيون، وغلقت الملوك أبوابها، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك)!. . . فإذا أسفر الصبح هتف في موكب الشجن وقدة الهيام: (إلهي! هذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، فليت شعري: أقبلت مني ليلتي فأهنأ، أمرددتها علي فأشقى؟! فوعزتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتني، ولو طردتني عن بابك ما برحت عنه لما وقع في قلبي من محبتك)!. . . وإنها لتقدم الدليل من شعرها مرة أخرى حيث تقول:
أحبك حبين حب الهوى
…
وحب لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى
…
فذكر شغلت به عن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
…
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي
…
ولكن الحمد في ذا وذاكا
وتسوق بعض المصادر هذه الأبيات في موقف اللقاء بينهما وبين (ذي النون المصري) حيث تطالعنا هذه القصة: (قال سعد بن عثمان: كنت مع ذي النون المصري رحمه الله في تيه بني إسرائيل، وإذا بشخص قد أقبل، فقلت: يا أستاذ! شخص قد أتى. فقال لي: أنظر من هو، فإنه لا يضع قدمه في هذا المكان إلا صديق. فنظرت فإذا هي أمرأة، فقلت: إنها امرأة. صديقة ورب الكعبة. فابتدر إليها وسلم عليها فقالت: ما للرجال ومخاطبة النساء! فقال: أنا أخوك ذو النون ولست من أهل التهم. فقالت: مرحباً، حياك الله بالسلام. فقال لها: ما حملك على الدخول في هذا الموضع؟ فقالت: آية من كتاب الله عز وجل، قوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)؛ فقال لها: صفي لي المحبة، فقالت: سبحان الله! أنت عارفٌ بها وتتكلم بلسان المعرفة وتسألني عنها؟! فقال لها: للسائل حق الجواب. فأنشدت تقول:
أحبك حبين حب الهوى=وحب لأنك أهلٌ لذاكا
هذه نماذج من النثر والشعر تصور هذا الحب الإلهي في إطارها لخالد، وأنها لقليل من كثير. . . وأي إطار هو؟ أنه إطار اللهفة الضارعة التي تنشد الرضا عن هذا الحب ولا تنشد سواه، وتلجأ إلى كل وسيلة من الوسائل بغية الكشف عن أثر البذل والتضحية في حساب الخالق العظيم. . . وإنه لحساب لا يخطئ التقدير حين يزن بذل الباذلين وتضحية الصابرين، وأي بذل وتضحية في حياة رابعة أبلغ من أن تقص خادمتها (عبدة) من أنبائها فتقول:(كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة، فكنت أسمعها تقول إذا وثبت من مرقدها وهي فزعة: يا نفسُ، كم تنامين! وإلى كم تقومين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور)! أو أن تحدث هي عن نفسها فتقول: (إني لأضن باللقمة الطيبة أن أطعمها نفسي، وإني لأرى ذراعي قد سمن لأحزن)!. . . أو أن يقول عنها ابن منظور: (دخلت علي رابعة وهي ساجدة، فلما أحست بمكاني
رفعت رأسها فإذا موضع سجودها كهيئة المستنقع من كثرة البكاء)!
ولم تكن تعبده رغبة في جنته ولا رهبة من ناره، وإنما كانت تعبده عبادة الذين يرون وجهه:(يا الهي، إذا كنت أعبدك خوف النار فأحرقني بنارك، أو طمعاً في الجنة فحرِّم علي جنتك، وإذا كنت لا أعبدك إلا من أجلك فلا تحرمني جمال وجهك). . . ويا له من حب ذلك الذي أذبل منها العيون وقرح الجفون، وأحال ليلها سهداً متصلاً يرفدهُ الشوق، وحنيناً مضطرماً يلهب الوجد، وهياماً تكفر فيه الجنوب بالمضاجع، وتسبح الدموع.
وما أروع العقاب حين يصل المحب من نفس حبيبه إلى المكان الذي يؤثره ويرضاه، هنالك ترفع الكلفة ويفسح الطريق ويتسع العفو الإلهي لكل مقال يقتضيه مقام، ولو كان اعتراضاً مهذباً أو غير مهذب في رأي الذين لا يشعرون. . . وإذا ما اعترضت رابعة على حكم القدر فلا تثريب عليها ولا جناح، لأنها في موقف النجوى التي يطلقها القلب المفعم بصدق الحب وحرارة الولاء، أو في لحظة الهوى العارم التي يخفت فيها صوت الشعور والوجدان؛ ولن يضيق حلم الخالق العظيم بصيحة تنبعث من فجاج روح كم قدمت إلى ربها صوراً فاتنة من أدب الخطاب، روح تلك الصوفية المؤمنة التي قال عنها مالك بن دينار:(أتيتها فإذا هي تقول: كم من شهوة ذهبت لذتها وبقيت تبعتها. . . يا رب، أما كان لك عقوبة ولا أدب غير النار)؟!
لا يضيرني في رأيي من هذا العقاب الذي خطر لها يوماً أن تتوجه به إلى رحاب الخالق العظيم، لأنالعقوبة الكبرى في منطق رابعة العدوية ليست النار التي تحرق الأجساد حين يحال بينها وبين جنته، ولكنها النار التي تحرق القلوب حين يحال بينها وبين رضاه. . . وهذا هو الجحيم الذي كانت تتصوره في عالمها الفكري الذي طبع حبها بذلك الطابع الذي لا شبيه له ولا نظير.
ومع ذلك فقد ذهب بعض الغلاة إلى أن رابعة بهذا القول قد اجترأت على مقام الخالق العظيم. . . ولكنهم في غمرة هذا الغلو الحائر قد نسوا أن يذكروا هذه الحقيقة؛ وهي أن رابعة قد مكثت أربعين سنة لا ترفع رأسها حياءً من الله!!
أنور المعداوي
الطريق
للأستاذ محمد أحمد الغمراوي
(وإن صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم
عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) صدق الله العظيم
لكن المسلمين وا أسفاه قد ضلوا السبيل واتبعوا السبل - وما أكثرها - فتفرقت بهم عن سبيل الله، فحقت عليهم كلمة الله في كل ما خالفوا الله فيه. وتاريخهم الحديث فيما يقرب من قرن كله أمثلة توضيحية لهذا.
أهملوا أمره تعالى (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فعاشت دولة خلافتهم - التي كانت - لا تجدد جيشاً ولا تصنع سلاحاً حتى ثار عليها عقبان البلقان فألجئوها إلى شطلجة. ولولا أن دبت الفرقة بين أعدائها ما استردت منهم أدرنه ولجاءت الحرب الكبرى الأولى وما بيده من أوربا شيء. ولم ينتفع المسلمون بتلك العبرة فظلوا كما كانوا لا يهتمون بالجيش ولا يصنعون السلاح وإنما يعتمدون في تسليح جيوشهم على الأجنبي، إن شاء أعطى وإن شاء منع. وهو لا يعطي إلا بثمن، والثمن هو ما نعلم من احتلال الديار والتقييد بتلك المعاهدات المخزية التي لا يزالون يحاولون التحرر منها فلا يستطيعون.
والاتحاد قوة، يعلم ذلك كل أحد. وأحق الخلق بالاتحاد الضعفاء، يعلم ذلك حتى ضعاف الحيوان في الغاب. وقد جعل الله الاتحاد على المسلمين فرضاً وديناً حين أمرهم به في قوله تعالى (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) لكن المسلمون لم يعتصموا بحبل الله في الماضي وما هم بمعتصمين به في الحاضر ثم هم ليسوا بجميع. حتى في أحرج الأوقات وأحوجها إلى اجتماع القلوب وتساند القوى، كانوا ولا يزالون متفرقين. ففي الحرب الكبرى الأولى بلغ بهم التفرق أن حارب بعضهم بعضاً طمعاً في استقلال بعضهم عن بعض وفي تأسيس دولة عربية تضم شتات العرب. فكان أن انهزمت دولة الخلافة إذ ذاك في الشرق، في ديارها، على أيدي أبناءها العرب. وكان أن دخل العدو بيت المقدس بما مد له عمال المسلمين ومهد له جنودهم، فإذا به يظهر ما كان يبطن إذ أعلن أن فتح بيت المقدس خاتمة لآخر الحروب الصليبية! فيالها من خدعة خدعها الناس لا تزال ممتدة
إلى اليوم فإن من العرب من لا يزال يثق فيه كأنه وفي لهم بعهوده التي استذلهم بها وعاونوه من أجلها وما وفاؤه الذي كان إلا أن أنزل اليهود فلسطين، ونزل هو بجنوده في العراق، وأنزل إخوانه وأعوانه في لبنان والشام. أما مصر فظل محتلاً لها ولا يزال.
وليت المسلمين حين جاءت الحرب الثانية الكبرى اعتبروا بالحرب الكبرى الأولى وبما كان فيها وفي أعقابها من أحداث عملاً بقوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الأبصار) وبقول رسوله صلى الله وسلم عليه (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين). ولكنهم لم يعتبروا وسار العدو معهم وساروا معه سيرته وسيرتهم الأولى: يقول فيصدقون، ويعد فيثقون، ويخدع فينخدعون. وهاهو قد مكن لليهود في فلسطين بأكثر مما مكن لهم في أعقاب الحرب الأولى، فصارت لهم صولة وصارت لهم دولة والمسلمون من حولهم كثير، ولكنهم في تفرقهم قليل.
حتى في حرب فلسطين لم يعتصم المسلمون بحبل الله بل تفرقوا. دخلوها جميعاً وقلوبهم شتى. ومع ذلك فقد وفى الله لهم بوعده وأتاهم نصره ما كانوا جميعاً، فلما دحروا اليهود وجحروهم في تل أبيب ولم يبق إلا احتلالها واستئصالها استغاث اليهود فلباهم الغرب والغرب كله في محاربة الشرق أمة واحدة. ارعد الغرب في هيئة أممه وبرق، وأوعد وأنذر، وأمر أن تقف الجيوش العربية في زحفها فوقفت، وأن تدخل الدول العربية في هدنة مع العدو المنحجر فدخلت، كأن قادة العرب إذ ذاك لم يكونوا قرءوا قط آيات القتال في القرآن، ولا طالعوا قط غزوات الرسول في السيرة الكريمة: كأنهم لم يقرءوا قط سورة القتال، ولا سورة براءة، ولا سورة الأنفال، ولا درسوا غزوة بدر، ولا آيات آخر سورة الأنفال التي نزلت في أسرى بدر، والتي كادت تنزل بالعذاب على المسلمين حين آثروا أخذ الفدية على الإثخان في الأرضبعد وقعة مكن الله للمسلمين فيها من المشركين بعد الهجرة كما مكن للعرب من اليهود بعد دخولهم فلسطين. لقد وقى الله المسلمين العذاب بعد بدر بكتاب سبق منه سبحانه:(لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). وكان هذا إنذاراً عظيماً منه سبحانه أهمله المسلمون في فلسطين فكان من نزول العذاب بإخوانهم فيها ما كان، ومع ذلك فقد أتاح الله للمسلمين الفرصة مرة أخرى حين تحركت طبيعة الغدر في اليهود لما استقووا بالسلاح المختلس في غفلة هيئة الأمم أو بأعين منها،
فحرقوا الهدنة، وشردوا عرب فلسطين، وغدروا بالجيش المصري في العيد الأكبر غدرة هي شر من غدرة اليابان بأمريكا في بيرل هاربر. فلو أن قادة المسلمين في شمال فلسطين وفوا بعهد الجامعة العربية، أو فعلوا ما يفعله أولو النجدة والحمية، أو ما تقتضيه أبسط قواعد الكيد والحرب، فهاجموا اليهود من ورائهم حين أوغلوا في الجنوب وانشغلوا بالجيش المصري من أمامهم، إذن لحصر وهم حصر الحب بين شقي الرحا، ولانتصف الله بهم للمستضعفين من رجال القرى العربية ونسائها وولدانها الذين فعل اليهود بهم الأفاعيل، ولم يرعوا فيهم عهداً ولا عقداً، ولا إلا ولا ذمة. لكن ثالثة الأثافي وعجيبة العجائبوغلطة الدهر ومعرة العمر أن قعدت جيوش المسلمين في الشمال، وتركت اليهود ينفردون بجيش المسلمين في الجنوب، تقاعساً من الحكام وتفرقاً، وتنازعاً وتحاسداً، فعصوا بذلك ربهم مرة أخرى في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون. وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا، إن الله مع الصابرين). وقد حقت كلمة الله على المتنازعين ففشلوا في فلسطين. ووفى الله بوعده للجيش الذي قاتل وثبت وحده فكانت آية الفالوجة، وكان من الممكن في سياستهم الخارجية قد ضلوا السبيل سبيل الله الذي انزل الكتاب والذي يتولى الصالحين وهم في أمورهم الداخلية أيضاً قد ضلوا الطريق لأن الذي حملهم على غير سبيل الله في الخارج لا يزال بهم بحملهم على غير سبيل الله في الداخل: هو أن في النفس وقلة ثقة بها يحمل على إكبار العدو وتقليده، وضعف في الإيمان وقلة طاعة لله يعرض لغضب الله ونقمته وزوال نعمته.
لقد وقى الله العالم الإسلامي ما نزل بالعالم الغربي في حربين كبيرتين أكلتا الأخضر واليابس، وخربتا العامر والغامر، ولم يرعو الغرب ولم يعتبر فهو لا يزال يظلم، ولا يزال يحكم طبق الهوى والمنفعة لا طبق العدل والإنصاف، ولا يزال العيش فيه عيش شهوة واستمتاع، لا عيش فضيلة ودين. والشرق هو أيضاً لا يزال في اغتراره بالغرب يظنه المثل الأعلى ولا يعتبر بما جرته عليه مدنيته المادية من وبال، ولا بما يهدده به علمه المادي من دمار، إذا وقع فلن يدع منه أو يذر. والعلة التي جرت على العالم الغربي حربيه الماضيتين هي التي توشك أن تجر عليه الثالثة ساحقة ماحقة: نسيانه الفضيلة وضلاله عن الله وقد عرف الغرب ذلك حين كان مأزوماً مهزوماً في الحرب. لكنه بعد النصر نسي ما
كان يدعوا من قبل وظن أنه إذا أغدق المال على صنائعه وأشبع البطون من الأمم التي أفقرها بطمعه وجشعه عمرت الدنيا واستقام الحال وعم السلام، ولكن هيهات! فلن يكون سلام إلا إذا رجع الغرب والشرق كلاهما إلى الله الحق السلام. ومهما يكن ما بين الغرب فالمسلمون بيدهم من الله كتابه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فليرجعوا إليه ويعملوا به ويستمسكوا به استمساك الغريق بحبل النجاة عسى الله أن ينجيهم مما يظل العالم اليوم من كارثة لا تبقى ولا تذر. فإن لم يفعلوا وركنوا إلى الغرب ومدنيته وماديته فلا يلومن إلا أنفسهم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) ويقول في مثل أهل الغرب اليوم (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا، كذلك حقاً علينا ننجي المؤمنين) وقد أعذر من أنذر. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
محمد أحمد الغمراوي
الخدمة الاجتماعية في الإسلام
للأستاذ لبيب السعيد
ألقت مصر بالها أخيراً إلى الخدمة الاجتماعية، وشرعت تستعينها في الطب لأدواء الأفراد والجماعات، وقد استجدت لهذا الفن في مصر معاهد ودراسات يلاحظ من يراقبها أنها مكبة على إنتاج الغرب في هذه الناحية تنقل منه وتترجم عنه. ولا حرج في هذا لو أنه كان مصحوباً بلفتات جادة غير بعيدة إلى أصول تلك الخدمة في ديننا وفي تاريخنا، حتى تكسب الخدمة الاجتماعية نفسها حياة قوية تمدها بها المبادئ الإسلامية الصريحة، وحتى لا يستقر في ضمير الشباب خطأ أن هذا الفن مستورد أيضاً من الخارج، وحتى نتفادى نتيجة مرجحة هي أن يتنكر لتاريخنا الاجتماعي أو لا يثق به من وقفوا على تفوق الخدمة الاجتماعية الحديثة في الغرب، وجهلوا في الوقت نفسه أو لم يفهموا ما في الإسلام من المبادئ الاجتماعية السامية.
لم يقف الإسلام عند تقرير التوحيد وبث الإيمان وتنقية العقائد وفرض العبادات وسن الأحكام، ولكنه عالج النظم الاجتماعية كلها، فأعلى شأن الكرامة الإنسانية، وأرسى القواعد للحياة البيتية الصالحة، ووصل الأرحام، وبسط يد الحنان للصغير وغمر اليتامى والضعفاء والمرضى بزاخر من الرحمة والرعاية، وسن التأسية والتسلية، وكان بتعاليمه وسير رجاله دعوة دائبة إلى تلمس القوة والجمال للنفس والعقل والبدن على السواء، وأولى الشؤون الاقتصادية عنايته المسددة وتنظيمه الراشد، ودعا إلى كل فضيلة وعادى كل رذيلة.
فعل الإسلام كل هذا بنصوص صريحة يظاهر بعضها بعضاً وتصدقها أفعال الرسول وصحبه، فاستطاع المسلمون الأولون في نور هذه النصوص والأعمال وفي كريم نهجها أن يوفوا على الغاية من النجاح الاجتماعي بقدر ما سمح لهم زمانهم.
لم يتناول التنزيل كل مبادئ الخدمة الاجتماعية بالبيان المفصل ولكن المبادئ التي وردت فيه مجملة لم تقصر عن مدى التفصيل وقد تناولت السنة بأنواعها القولية والفعلية والتقريرية بالشرح والإتمام هذه المبادئ، كما هو الشأن في كثير من أمور الدين ثم كان التطبيق الرائع لتلك المبادئ على أيدي المسلمين في عصور مختلفة، فأصبحت بعض أخلاقهم بل بعض حياتهم، وبدت في تاريخهم وضاءة، لها نورها ولونها المتميز.
ولقد نجد أسماء خدمات اجتماعية تؤدى في زماننا ولا يعرف بعضنا لها نظيراً في النظم الإسلامية، ومثل هذه الخدمات في الأغلب موجودة في هذه النظم بالروح والجوهر وإن لم توجد بالاسم والسمات العصرية. وفي الوسع إذا درسنا الأصول والنظم التي وضع الإسلام أساسها، وإذا عرفنا الأشباه، وقسنا الأمور بنظائرها وانتفعنا بما لفقهاء المسلمين من تفصيلات مبينة واستدلالات صائبة وتفريعات منطقية، في الوسع عندئذ أن نقرر أن أنفع وأحدث ما استجد من فنون الخدمة الاجتماعية هو أصيل في الإسلام كل الأصالة.
يقول القرآن في اختصار: (إنما المؤمنون أخوة)(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فتجمل كلتا الآيتين الوجيزتين أمهات مبادئ الخدمة الاجتماعية من تكافل ورفاه ورحمة ومعاونة شاملة.
ويؤكد الرسول هذا المعنى في لفظ قليل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً) فلا يبقى في معرض الخدمات التي يبذلها المؤمن للمؤمن معنى من معاني الخدمة إلا تزاحم على عقل المتفكر
ومن كلام النبوة: (ابغوني الضعفاء فإنما ترزقون بضعفائكم) فلا يبقى ضعيف سواء في حاله أو بدنه أو في نفسه إلا ويتجه إليه كل مقتف أثر النبوة بالخدمة الاجتماعية بمعناها الرحيب، يتفقد حاله ويحفظ حقوقه ويحسن إليه ما وسعه الإحسان.
والمسلمون حين يتفهمون أصول الدين تتفطن طبائعهم لهذه الخدمة ومن الأمثلة أن النبي يقول: (الدين النصيحة) فيقول بعض أصحابه: لمن؟ فيقول: (لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فيرى أحد الشراح أن نصيحة عامة المسلمين تنتظم (تعليمهم ما يجهلون من دينهم وعونهم عليه بالقول وبالفعل وستر عوراتهم وسد خلاتهم ودفع المضار عنهم، وجلب المنافع، إليهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، برفق وإخلاص والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم وتخولهم بالموعظة الحسنة وترك غشهم وحسدهم وأن يحب المرء لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة وتنشيط هممهم إلى الطاعات. . . الخ).
وسير كثير من الشخصيات الإسلامية تملأ من الناحية الاجتماعية صحائف تنطق بأنهم
كانوا خداماً اجتماعيين من الطراز الأمثل.
فعمر بن الخطاب مثلاً إذ يعلم الناس في أماكنهم ويخلف الغزاة في أهلهم، وإذ يتعاهد العجوز العمياء المقعدة فيأتيها في بيتها بما يصلحها ويخرج عنها الأذى، وإذ يسمع بكاء الطفل في الليل فيتوجه نحوه غير مرة، ويسأل أمه أن تتقي الله وتحسن إليه وإذ يكتشف الأرملة وأبناءها الجياع، فيحمل إليهم الدقيق والشحم ويطبخ لهم ويطعمهم، عمر إذ يفعل هذا خادم اجتماعي يفهم واجباته ويؤديها في غير سطحية ولا قصور.
وإذا لم تكن قامت في الإسلام بصفة مطردة ودائمة هيئات اجتماعية تقصر رسالتها على الخدمة الاجتماعية على النحو المتبع الآن فإن الإسلام جعل هذه الخدمة ضمن الواجبات الدينية العامة التي تضيق عنها الجمعيات المحدودة وإنما تقومبها الأمة كلها متكافلة متضامنة: ولهذا ليس من حق أحد أن يقول إذا سيقت له شواهد في الخدمة الاجتماعية الإسلامية مصدرها فرد أو أفراد إن الأمر مخصوص بهم.
ولو قد درست وثائق الأوقاف الإسلامية لوجدنا أفانين متى الخدمة الاجتماعية تجل عن الإحصاء وكلها تستهدف الإحسان إلى الفقراء والضعفاء، لأنها بمقتضى الفقه لا تجوز إن كانت على الأغنياء وحدهم. والكثير من اتجاهات الواقفين المسلمين هو آية إدراك اجتماعي عال. وما أجدر تلك الوثائق بدراستنا على نحو عميق لنستوعب كل غاياتها وندرك كل دلالاتها الاجتماعية.
والحق أن على المختصين أن يجلوا ما أنبهم من تاريخ الخدمة الاجتماعية في الإسلام، فيبسطوا القول في كيف كافح هذا الدين الفقر ودرأ أسبابه ومسبباته، وكيف سبق إلى جعل الزكاة من قواعده قبل عشرة قرون ونصف قرن من قانون الفقر في إنجلترا الذي جعل البر واجباً ينظمه التشريع. وكيف سبق المسلمون إلى تعيين الموظفين وإنشاء (ديوان البر والصدقات) وهو بمثابة وزارة الشؤون الاجتماعية الآن؛ و (ديوان الحبوس) الذي كان ينهض بأعمال وزارة الأوقاف، فنظم الإحسان على نحو لم تصل إليه النظم الحديثة إلا متأخراً، وكيف أن نبي الإسلام سبق إلى نظام بحث حالة السائل الذي هو أنفع ما تقرره الخدمة الاجتماعية الحديثة. وكيف يدق الإسلام ويعلو في تعريف المسكين وكيف يحفظ الوجوه عن المسألة؛ وكذلك كيف يكافح التسول أشد كفاح، ويحبب في العمل، ويعمل على
إتاحته للمتعطلين، ويرى تنشيطاً للحياة الاقتصادية عدم حبس المال عن الاستغلال، فيسوغ إقراض مال الوقف والغائب واللقطة بل مال اليتيم ومال المسجد، وكيف كان تخديم المتعطلين الغرباء من التقاليد الإسلامية الراسخة وكيف استولى المسلمون على الأمد من فضيلة إكرام الغرباء، وكيف عنوا بإقامة السبل والأحواض لسقاية العطشان، وسبقوا إلى إقامة المطاعم للفقراء، فمن كان من هؤلاء يمنعه الحياء من الجلوس إلى الموائد العامة أرسل الطعام إليه في داره.
ومن حق الدراسات الاجتماعية الحديثة أن تعي أن الإسلام في عطفه على الضعفاء يلتفت إلى الصانع لفتة بر ورحمة، فيوصي بمعاونته. وكذلك يفعل مع الأخرق فيثبت عطفاً مبصراً.
أما اليتامى فبره بهم يجول في أسمى الآفاق إذ يمنحهم عناية بالغة الرقة والحرارة. ثم هو بعد ذلك يرى أن يزول اسم اليتيم عمن بلغ الحلم. ولعل من مقاصد هذا حكمة تربوية هي إلا يظل اليتيم يتلقى عطف الناس فيعجزه في مستقبل أيامه أن يواجه الحياة من غير سناد.
والخدمة الاجتماعية التي تهدف إلى خدمة الزواج تبذل في النظم الإسلامية إلى أبعد مدى. والمسلمون يمدون يد العون لراغبي الزواج بعامة والعوانس بخاصة. وقد كان عمر بن عبد العزيز يعدل الحاجة إلى الزواج بحاجة المدين إلى سداد دينه وحاجة المسكين وحاجة اليتيم. ومن الأوقاف الإسلامية أوقاف تعنى بتجهيز العرائس الفقيرات إلى أزواجهن.
وعني الإسلام بلأيم، فدعا إلى الزواج منها، وحبب في السعي على الأرملة صيانة لها في حيائها وشرفها.
وكفل الإسلام اللقطاء، وصان لهم كل حقوقهم، وسهر على إنباتهم نباتاً حسناً.
والإسلام يمنح المدين رحمته، بأنظاره إن كان معسراً، ويحبب في التصدق عليه وبجعله من المصارف المحددة للزكاة.
وتهب النظم الإسلامية التفاتها وعطفها للذين لا أهل لهم ولا عائل، ولا طاقة لهم بعمل، فالزوايا والرباطات والخانقاهات كان يقيمها أغنياء المسلمين مثابة لهؤلاء، وقد كان بعض الرباطات (للنساء المنقطعات أو المطلقات أو العجائز الأرامل والعابدات).
وتجهيز الموتى ودفنهم من أعمال البر المقدمة عند المسلمين.
وفي ميدان الخدمة الاجتماعية الطبية، سبق الإسلام المدنية الحديثة إلى الحمل على أساليب العلاج التي لا سند لها من المعرفة، وقرر مسؤولية الطبيب الجاهل.
والنظافة عند المسلمين عبادة، بل هي فاتحة عدة عبادات لهم وهي بالضرورة من قوانين حياتهم اليومية. وقد دعت السنة إلى نظافة طرق الناس وكل مكان يرودونه أو يأوون إليه، وحفلت البلاد الإسلامية بالحمامات على نحو لافت، فمصر الفسطاط مثلاً كان بها ألف ومائة وسبعون حماماً، وبغداد كانت عدة الحمامات بها في وقت ما نحو ألفي حمام، وقرطبة كان فيها تسعمائة حمام.
ومما يصح أن يهدى إلى دراساتنا الاجتماعية أن النظم الإسلامية توقي الناس الأمراض المعدية، وأنها تولي ذوي العاهات التفاتاً خاصاً، فالعميان أجرت عليهم الأرزاق وعينت لهم من يقودهم والمقعدون خصصت لكل منهم خادماً.
ومن دلائل النضج الاجتماعي أن تظفر السجون في البلاد الإسلامية في زمان مبكر بعناية طبية فيخصص لها الأطباء.
والعناية الطبية في المحيط الإسلامي لا تقف عند الأجساد، بل تقدر الأثر البيئي وتقدر حالات النفس، قالوا في التطبيب:(وإن الأجساد الحيوانية تتغير بالأهوية المحيطة بها وبالحركة والسكون والأغذية من المأكول والمشروب والنوم واليقظة واستفراغ ما يخرج من الجسد واحتباسه من الأعراض النفسانية من الغم والحزن والهم. . . الخ).
ولقد سبقت المستشفيات الإسلامية إلى العناية بالمريض نفسانياً وهي الغاية التي تحفل بها الخدمة الاجتماعية الحديثة، سبقت تلك المستشفيات إلى ذلك على نحو متفوق، فمثلاً كان المؤرقون من المرضى بمارستان قلاوون بالقاهرة يتسلون بسماع الموسيقى والغناء والقصص ليطرحوا الهموم والأوصاب، وكان الرقص والروايات المضحكة تعرض على بعض المرضى لعلها تفيء عليهم في محنتهم المتعة والإيناس.
وتغذية المرضى وكسوتهم في المستشفيات الإسلامية كانتا تظفران بأوفى عناية.
والفقه الإسلامي لا يغفل عن أثر الاستجمام والراحة في تحقيق الصحة. فهو يتيحهما لكل عامل بل يجعلهما حقاً لا ينبغي أن يتره صاحب العمل ولو كان أجيره من دين آخر.
وقد سبق المسلمون إلى العناية بالفاقة، فكان يعطي مالاً ينفق منه ريثما يقوى على العمل،
فضلاً عن كسوته. وقد عرف المسلمون الإسعاف الطبي الاحتياطي.
وخدمة الفرد عن طريق الجماعة كانت مما عرف المسلمون. والطرق الصوفية في بعض مناهجها تستهدف تلك الخدمة.
وقد مارس المسلمون الرياضة البدنية وأعظموها. يقول ابن طباطبا مثلاً عن فوائد الصيد: (. . . ومنها أن حركة الصيد حركة رياضية تعين على الهضم وتحفظ صحة المزاج).
وقد عرفت للمسلمين ألعاب جمعية خاصة، ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه - كما يبدو من استقراء أخباره - كان رياضي السيرة.
والإسلام يتيح لأهله التسلية البريئة، ويروى عن النبي أنه قال:(الهوا والعبوا فإني أكره أن يرى في دينكم غلظة)، ولذلك عرف المسلمون ألعاباً متعددة للتسلية. على أن الإسلام في حرصه على أهله ومروءتهم ووقتهم يكره لهم بعض الألعاب كالقمار مثلاً.
وعبء الخدمة الاجتماعية الجليل الذي تتصدى اليوم بعض السيدات لحمله حملته المرأة المسلمة منذ قديم، فقد كانت تتعهد المريض والجريح بالمداواة والعناية والعون، وفي الحرب كانت تصنع للمحاربين طعامهم وتحرس رحالهم.
هذه إشارة عابرة لا يتحمل المقام تعزيزها بالنصوص والأسانيد، ولكنها حرية أن تنبه إلى ذلك التراث الفخم الذي يعيبنا ألا نوليه دراسة باحثة صابرة وأن ندعه صامتاً لا ينطق به لسان ولا قلم، والذي لا تعدو الاتجاهات الغربية الحديثة أن تكون ضرباً على بعض قوالبه.
ليت حماستنا لديننا وتاريخنا تتوقد. . . وليت إمامتنا للعالم تتجدد.
لبيب السعيد
إيمان قلب
للأستاذ كامل محمود حبيب
(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٌ منهم، ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم نفسهم وظنواأن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا أن الله هو التواب الرحيم). (قرآن كريم)
اندفع الجيش اللجب يوفض إلى غايته - إلى بلاد الروم - يطوي فجاج البيداء في صبر، ويقتحم فيافي الصحراء في جلد؛ يغذ السير لا يهاب الموت ولا يخشى الردى. ومن أمامه: الشقة بعيدة، والمسلك وعر، والعدو ذو قوة وذو عدد. ومن بين يديه: القيظ تتوقد سمائمه فتدمغ الجلد، والسوافي تهب عاصفة فتسفع الوجه وتقذى العين، والضيق يطحن الصبر ويعبث بالقوة، ومن خلفه، في المدينة ظلال وارفة يهفو إليها القلب وتصبو إليها النفس. ثم طال بالناس السفر وامتد الطريق، فاجتمعت عليهم فنون ثلاثة من العسرة: عسرة الظهر وعسرة الزاد وعسرة الماء، فاشتدت بالمسلمين الحال وغشيتهم المحنة: فكان النفر يأخذون التمرة الواحدة يلوكها الواحد منهم حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه ليشرب عليها جرعة من ماء حتى تأتي على آخرهم فلا يبقى على التمرة إلا النواة، وكان القيظ اللافح يصيبهم فيحسون لذع الحِرَّة في حلوقهم فيخيل إليهم أن الرقاب توشك أن تنقطع من شدة العطش، فلا يجد الواحد منهم مفزعاً إلا أن ينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده. ولكن الإيمان كان يفعم القلوب فيدفعها إلى ميدان الجهاد في حماسة لا تعرف الخور، وفي جرأة لا ينسرب إليها الضعف، وفي بسالة لا تؤمن بالتردد. واندفع الجيش يوفض إلى غايته.
وانطوت الأيام والجيش في سبيله، يجالد الشدة بالأيمان، ويصارع الغير بالعقيدة، ويكافح الخطب بالصبر؛ وهو لا يحس أن أناساً بهم صَعر إلى الثمار والظلال قد أبطأت بهم النية عن الجيش فتخلفوا عن الجهاد في غير شك ولا ارتياب، وهم نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم ولا يغمزون في إيمانهم. . . نفر صدق من بينهم كعب بن مالك بن أبى كعب أخو بني سلمة، وهو فتى أيّد جلد، فارع القوام وثيق الأركان، تتألق على جبينه سمات القوة
والفتوة، ويتوثب من إهابه النشاط والشباب، لم يقعد به عن الجهاد نفاق ولا صرفته شهوة الدعة، ولكنه رأى أصحاب النبي (ص) يتهيئون للغزو فطفق يغدو لكي يتجهز معهم فيرجع - آخر النهار - ولم يقض شيئاً، وإنه على ذلك لقادر. ولم يزل يتمادى به الأمل حتى شمَّر الناس بالجد. . .
وأفاق كعب من غفوة الأمل فإذا الناس قد أسرعوا وتفرَّط الغزو، وهو في مكانه لم يقدر له أن يهم فيرتجل فيدرك الركب. لشد ما أحزنه أن يضرب في أرجاء المدينة فلا يرى له أسوة إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق، مطعوناً عليه في الدين؛ أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء!
وعاش الرجل زماناً غريباً في داره، يضل في غاشية من خواطره السود، ويضطرب في لجة من الندم، لا يجد الراحة ولا الأمان ولا يلمس الهدوء ولا الاستقرار. وهو يعجب - أشد العجب - كيف وسوس له الشيطان فتردى في هاوية مالها من قرار، وإنه لذو قوة وإيمان لا تعوزه الراحلة ولا يفتقر إلى الزاد، وإنه لمن أصحاب بيعة العقبة الكبرى، سبق إلى الإسلام عن عقيدة ثابتة وجاهد الكفار عن إيمان عميق.
وتناهى إلى الرجل خبر عودة النبي (ص) قافلاً من غزوة تبوك فتعاورته الأوهام وساورته الهموم واغتمر في لجة من الحيرة والارتباك، وخشي الرجل أن يلقى النبي (ص) وقد جللته الزلة ودنسته الخطيئة وأشفق على نفسه أن يبدوا أمام المسلمين وهو يتعثر في ذنبه فيعجزه أن يتلمس العذر أو أن يجيد الدفاع، فحضره بثه وطفق يقلب الرأي يريد أن يزور كلاماً يجد فيه الخلاص أو ينمق حديثاً يدرأ به غضب الرسول (ص). غير أنه أيقن - بعد لأي - أنه لن ينجو إلا بحديث فيه الصدق والإخلاص والصراحة جميعاً.
وصبح رسول الله (ص) قادماً فأسرع إليه المتخلفون يعتذرون بالكذب ويحلفون بالباطل، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم النبي (ص) علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله.
وأقبل كعب بن مالك فسلم فتبسم النبي (ص) تبسم المغضب ثم قال (تعال) فجاء الرجل يمشي على مهل والحياء يوشك أن يبعثر نفسه والخجل يكاد يبدد فؤاده. . . جاء يمشي حتى جلس بين يديه فقال له (ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟) فقال كعب (يا رسول
الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني، والله، لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه إني لأرجو فيه عقبى الله، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك). قال رسول الله (ص)(أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك).
ورأى رجال من بني سلمة ما كان فثاروا واتبعوا الرجل يؤنبونه على ما كان منه، وحاولوا أن يرغموه على أن يرجع إلى النبي (ص) فيعتذر إليه بما اعتذر به إليه المتخلفون غير أن إيمان الرجل دفعه عن أن يتردى في الهاوية مرة أخرى، فمضى. . .
ونهى النبي (ص) عن كلام كعب بن مالك - وعن كلام رجلين آخرين لقيا مثل ما لقي كعب، هما: مرارة بن ربيعة وهلال ابن أمية - فخاصم الناس الرجل وتغيروا له، فأحس كأن في نظراتهم سهاماً من المقت والكراهية تتناوشه كلما مر بهم وكأن الأرض وقد تنكرت له حين عافه الأهل واجتنبه الرفيق فما هي بالأرض التي عرف. وكان كعب شاباً فتياً فما قعد ولا استكان، فراح يشهد الصلاة في مكابرة ويطوف بالأسواق في إصرار، ولكن واحداً من المسلمين لم يكلمه؛ ثم يأتي مجلس رسول الله (ص) فيسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فما يظفر منه برد السلام.
وطالت عليه جفوة المسلمين فأحس مس الضيق في قلبه، فأنطلق إلى دار أبى قتادة، وهو ابن عمه وأحب الناس إليه، فتسور عليه جداره وسلم عليه فما رد السلام، فقال له يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟) فسكت. فعاد فناشده، فسكت. فعاد فناشده، فقال له (الله ورسوله أعلم!) ففاضت عينا الرجل وتولى يضرب في الأرض وقد أمضه الحزن وأرهقه الأسى، يتخبط في ظلمات من الضيق والألم، فما راعه إلا نبطي من الشام يدفع إليه كتاباً في سرقة من حرير من ملك غسان يقول فيه (أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).
لقد قرأ كعب كتاب الملك فما وسوست له نفسه بريبة، ولا اختلج قلبه بشك، ولا خطفه بريق الأمل ولا سيطرت عليه روعة السلطان. هذا القلب أفعمه الإيمان الحق فسما بالرجل على النوازع الأرضية، وغمرته العقيدة الصادقة فسخر من بهرج الحياة وزيف الدنيا،
وأشرق فيه نور السماء فترفع على رب التاج والصولجان. لقد كان الرجل سماوياً يعيش بين دقات النور الإلهي ينعم بأفراح الجنة وهي تتألق في قلبه ويسعد باللذة الروحانية وهي تتدفق بين جوانحه؛ فأعرض عن حديث الملك الغساني لأنه حديث أرضى فيه التراب والطين معاً.
يا للقلب الكبير! لقد تساقطت كلمات الكتاب على قلب الرجل شواظاً من نار فيه المهانة والاحتقار وفيه الرزء والبلاء، لأن رجلاً طوعت له نفسه أن يغمز إيمان كعب بن مالك وأن يعبث بعقيدته. وأحس كعب في كلمات الملك الغساني معاني السخرية الجامحة والامتهان المرير فنشر الكتاب أمامه - مرة أخرى - فبدت له كلماته تتلوى كأنها حيات توشك أن تنفث فيه سمومها فتعصف به فأصابه الذعر والفزع، فأنطلق إلى التنور يسجره بالصحيفة خشية أن يصيبه الأذى، ثم هام على وجهه أياماً يرسل الدمع في حسرة ولوعة لا ترقأ عبرته ولا تجف.
ومضى أربعون يوماً منذ أن جلس كعب أمام النبي (ص) يحدثه حديث الصدق والإخلاص والصراحة، ثم أرسل النبي (ص) رسوله خزيمة ابن ثابت إلى الرجل يأمره بأن يعتزل امرأته فما تلبث ولا تعوق ولا جادل. ولكنه أحس العنت والبلاء، هذه - ولا ريب - قاصمة الظهر، إن الرسول (ص) لا يأمر الرجل بأن يعتزل زوجته إلا أن يكون كافراً وهي مسلمة، وشمل الرجل حزن عميق حين رأى النبي (ص) يوشك أن ينزع عنه حلة الإيمان ليجلله العار والضعة، فاستسلم إلى البكاء عسى أن يكفر عن ذنبه أو ينفس عن أشجانه.
وقسا الرجل على نفسه - مرة أخرى - فابتنى خيمة على ظهر جبل سلع يخلو فيها إلى نفسه وإلى همومه، ويقضي هناك عمره يبتغي التوبة مما فرط منه، وقد ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه.
وصلى كعب صلاة الفجر صباح خمسين ليلة في خيمته التي ابتنى فما فرغ من الصلاة حتى سمع صوت صارخ أوفىعلى سلع ينادي بأعلى صوته يا كعب بن مالك: بشر، فخر الرجل ساجداً حين تبين له أن قد جاء فرج من الله. . . خر ساجداً والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً. وجاء البشير فكساه كعب ثوبيه ببشارته، وهو - إذ ذاك - لا يملك
غيرهما، ثم استعار ثوبين فلبسهما، وانطلق يتأمم رسول الله (ص)، فتلقاه الناس فوجاً بعد فوج يهنئونه بالتوبة حتى دخل المسجد فسلم على رسول الله (ص) فرد عليه السلام وهو يبرق وجهه من السرور ويقول (أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك) فخر الرجل ساجداً شكراً لله، والعبرات تتزاحم في محجريه فرحاً وسروراً.
كامل محبوب حبيب
تهويمة صوفية
للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان
إلى الصوت الحنون المتواجد الذي ينبعث مع كل فجر هاتفاً:
(سبحان فالق الإصباح!) فيهز أعماقي ويغرق روحي في نشوة
سماوية.
أي لحن مسلسل رقراق
…
راح ينساب في مدى الآفاق
أيقظ الكون حين منبثق الفجر
…
على غمرة من الأشواق
وإذا الحب ملء هذا الوجود الرح
…
ب يسري في روعة وانطلاق
وإذا الكائنات يغرقها الوجد
…
الإلهي في سني الإشراق!.
السموات من حنين ووجد
…
مخبتات خلف الغيوم الرقاق
والجبال الشماء تشخص نحو الله
…
سكرى، في لهفة المشتاق
وندى الفجر في الرياض الحوالي
…
أدمع الشوق رقرقت في المآفي
كل ما في الوجود من روعة اسم
…
الله في نشوة وفي استغراق!
أي لحن مخلد سرمدي
…
من لحون الآزال والآباد!.
أي لحن قد صير الكون
…
أغرودة حب رخيمة الإنشاد
يا لهذا النشيد تنطلق الأر
…
واح فيه من ربقة الأجساد
يا لهذا النشيد أوغل في
…
أعماق ذاتي محطماً أصفادي
يا لقيدي الأرضي يسحقه الل
…
حن ويذروه حفنة من رماد
وإذا الروح في تجرده يسمو
…
مشعاً كالكوكب الوقاد
عانق اللحن مصعداً وتوارى
…
يتخطى شواسع الأبعاد
غارقاً في صفائه، قد تغشت
…
هـ غواشي غيبوبة وامتداد!
كلما رن في السكون صد
…
ى تسبيحة الله رائع الترديد
وسرت في الأثير أنغامها
…
الطهر وأوغلن في الفضاء البعيد
أهطعت أنفس وذابت قلوب
…
يزدهيها الفناء في المعبود!
وتسامى الشعور يلهب فيها
…
خلجات الإيمان والتمجيد
يا لهذا الصفاء، يا لتجلي الله،
…
يا روعة الجلال الفريد!
لكأني بالكون يهتف: يا رب!
…
ويمضي مستغرقاً في الشرود
لكأني أحس وشك اتصالي
…
لكأني أشم عطر الخلود!
أنا يا رب قطرة منك تاهت
…
فوق أرض الشقاء والتنكيد
فمتى أهتدي إلى منبعي الأسم
…
ى وأفنى في فيضه المنشود
ضاق روحي بالأرض، بالأسر، بالقيد
…
فحرر روحي وفك قيودي
ضمني، ضمني إليك، فقد طا
…
ل انفصالي وطال بي تشريدي
فدوى عبد الفتاح طوقان
عمر بن شبة
للدكتور جواد علي
هذا مؤرخ من مدينة البصرة، صاحب مؤلفات عديدة، كانت مورداً لعدد غير قليل من مشاهير المؤرخين. رضي عنه أكثر رجال الحديث، فقالوا عنه أنه كان صدوقاً صادق اللهجة غير مدخول الرواية. ساهم في علم الحديث كما ساهم في علم الفقه. وأضاف إلى ذلك نظم الشعر، وهو أمر صعب اجتماعه مع العلم بالحديث والفقه. ولكنه لم يستعمل شعره في الأغراض التي كانت تحط من قدر العالم، كالابتذال، والمجون، فعد من طبقات الشعراء، ولم يثر شعره عليه الشكوك. ولم يخفض من منزلته ومكانته بين أصحاب الصرامة والجد من العلماء.
والصفة الغالبة على صاحبنا رواية الأخبار، لذلك تجد اسمه في اكثر كتب الأخبار القديمة والتاريخ. له فيها مقام وحظوة، هذا البلاذري يأخذ منه ويدون أقواله في مواضع متعددة من كتابه (أنساب الشراف) ويقول (حدثني عمر بن شبة) وقد كان معاصراً له وزميلاً. وهذا الطبري يأخذ منه وينقل من كتبه وقد كان في جملة الذين أخذوا إجازتهم منه. وقد ذكر اسمه في نحو من (200) موضع من كتابه تاريخ الرسل والملوك. وأشار إلى اسم كتاب من كتب (عمر) التي نقل منها وهو (كتاب البصرة) فقال (وحدثني عمر مرة أخرى في كتابه الذي سماه كتاب أهل البصرة فقال. . .) وقد نقل من كتبه الأخرى غير أنه لم يشر كعادته إليها، حيث يهمل أسماء الكتب مكتفياً بالسند.
كان (عمر بن شبة) مولى لبني نمير، ولد سنة 173 للهجرة. ونشأ في البصرة، وله في القبيلة التي انتمى إليها مؤلف قيل له (كتاب أخبار بني نمير) وله مؤلفات أخرى في الأخبار والتاريخ والأدب بلغت (22) مؤلفاً في وصف بعض المدن الإسلامية الكبيرة وفي مقدمتها البصرة، والكوفة، والمدينة، ومكة، ألف في كل واحدة من هذه المدن كتاباً وفي أمراءها كتاباً آخر ولم يسجل له ابن النديم كتاباً في تاريخ بغداد، عاصمة الخلافة ومقر الملك، والمشائخ والعلم، ولعله كان قد ألف فيها كتاباً لم تعه ذاكرة ابن النديم لأننا نجد له في الطبري أخباراً في تأسيس مدينة بغداد تدل على أنه كان قد خصص لها كتاباً ولم يسجل له ابن النديم اسم كتاب في تاريخ مدينة (سامراء) عاصمة الخلافة العباسية الأخرى،
وقد عاش فشها، ونال جوائزها، والظاهر أنها كانت غاضبة عليه فلم تستطع ضبط نفسها، أو أنها أشفقت عليه، فقبضت على روحه، وهو فيها، وأدخلت جسمه في جوفها، سنة اثنتين وستين ومائتين، ولكن بعد عمر طويل مديد، بعد تسعين سنة من حياة شاقة متعبة. فأراحته من الحياة، ومن حر البصرة الذي يشوي ذلك الجسم الذابل، فيجعله يرقص رقصة (الرومبا). وأنعمت عليه بتربة جافة لطيفة يستقي فيها إلى يوم يبعثون.
ولعمر كتب في الشعر والشعراء، وفي الأغاني، وله كتاب في أخبار الخليفة المنصور وفي أخبار محمد وإبراهيم بن عبد الله بن حسن. وقد نقل منه الطبري في أخباره عن خلافة أبي جعفر وأعتمد عليه في أخبار خروج محمد بن عبد الله ومقتله، ومعاملة المنصور للطالبيين. وقد دون عمر صور بعض الوثائق وذكر بعض أساليب الخليفة في استدراج خصومه، فقال (كان أبو جعفر يكتب إلى محمد عن ألسن قواده بدعوته إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول لو التقينا مال إلي القواد كلهم.)
وقد سجل عدداً من هذه الرسائل والكتب التي بعث بها المنصور. أخذها من مظانها، ومن الأشخاص الذين كانوا أصحاب علم بها. ومن السجلات الرسمية التي كانت في قصور الخلفاء، وعند أمناء القصور، ولذلك كان عمل عمر بن شبة من هذه الجهة عملاً رائعاً بالنسبة إلى طريقة الاستعانة بالنصوص والوثائق لتدوين التاريخ.
وفي جملة كتب عمر بن شبة التي ذكرها ابن النديم (كتاب أشعار الشراة) و (كتاب النسب) و (كتاب التاريخ) و (كتاب السلطان) و (كتاب مقتل عثمان) ونجد نتفاً من هذا الكتاب الأخير في ثنايا تأريخ الطبري، في حوادث مقتل الخليفة عثمان بن عفان. يظهر منها أن ابن شبة كان قد أخذ كتابه من كتاب آخر لمؤلف اقدم منه هو علي بن محمد المدائني المتوفى سنة 225 للهجرة. وهو من مشاهير المؤرخين وقد ألف كتباً كثيرة ذكر أكثرها ابن النديم. وذكر قسماً منها مؤرخون آخرون. استعان بها جماعة من علماء الأخبار والتاريخ. وقد كان للمدائني مؤلف في مقتل الخليفة عثمان ابن عفان قال له ابن النديم (كتاب مقتل عثمان بن عفان). يظهر من تأريخ الطبري أن ابن شبة رواه عنه وعن طريق ابن شبة نقل الطبري منه. وأن كتاب عمر إنما بني عليه.
ونجد في الصفحات التي دونها الطبري عن خروج علي بن أبيطالب إلى البصرة ومعركة
الجمل أخباراً مصدرها عمر بن شبة، يظهر منها أن هذا المؤرخ كان قد ألف كتاباً في معركة الجمل، أو أنه روى للطبري كتاب شيخه المدائني وهو كتابه الذي قيل له (كتاب الجمل). ويظهر أيضاً أن عمر بن شبة قد استفاد من كتب المدائني في تأليف كتبه. وأنه كان لتوجيهه أثر كبير في طريقة عمر في التاريخ.
وكان في جملة مشايخ عمر جماعة من جهابذة الأدباء، مثل عبد الملك بن قريب الأصمعي المتوفى بين سنتي 215و217 للهجرة. من كبار علماء البصرة ومن المقربين للخلفاء، وصاحب علم غزير في اللغة والأدب والنحو والأخبار. ومثل محمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 231 أو 232 للهجرة. كما أخذ من جماعة من كبار رجال الحديث. وقد روي عنه عدد من مشاهير رجال الأدب والأخبار مثل أحمد بن يحيى ثعلب العالم النحوي الشهير. وأحمد بن يحيى البلاذري، والطبري، وغيرهم فضلاً عن عدد آخر نقل من كتب هذا المؤرخ الذي يمثل طريقة أهل البصرة في رواية الأخبار. أما أحمد بن عمر بن شبة أبوطاهر فقد كان شاعراً ظريفاً مجيداً راوية ولكنه لم يكن مؤلفاً ومؤرخاً على شاكلة أبيه. لقد ورث كتب أبيه، ولكنه باعها إلى علي بن يحيى أبي الحسن، وقد ضاعت مع الأسف ولم يبق منها غير القليل.
الدكتور جواد علي
أبو بكر الرازي
للأستاذ قدري حافظ طوقان
(لقد خصصت جامعة برنسيون في أمريكا أفخم ناحية في
أجمل أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين - الرازي
-)
الرازي حجة الطب في أوربا حتى القرن السابع عشر للميلاد. ويعده معاصروه طبيب المسلمين غير مدافع. ظهر في منتصف القرن التاسع للميلاد وأشتهر في الطب والكيمياء والجمع بينهما. وهو بنظر المؤرخين من أعظم أطباء القرون الوسطى كما يعتبره غير واحد أنه أبوالطب العربي. قال عنه صاحب الفهرست، (. . . كان الرازي أوحد دهره وفريد عصره، قد جمع المعرفة بعلوم القدماء، سيما الطب. . .) وسماه ابنأبيأصيبعة بجالينوس العرب.
ولقد عرف الخليفة العباسي عضد الدولة مقامه، ورأى أنه يستغل مواهبه ونبوغه، فاستشاره عند بناء البيمارستان العضدي في بغداد في الموضع الذي يجب أن يبنى فيه، وقد سار الرازي في تعيين المكان على طريقة مبتكرة يتحدث بها الأطباء هي محل إعجابهم وتقديرهم. وضع الرازي قطعاً من اللحم في أنحاء مختلفة من بغداد ولاحظ سرعة سير التعفن، وبذلك تحقق من المكان الصحي المناسب لبناء المستشفى، وأراد عضد الدولة أن يكون في هذا المستشفى جماعة من أفاضل الأطباء وأعيانهم فأمر أن يحضروا قائمة بأسماء الأطباء المشهورين فكانوا يزيدون على المائة فاختار منهم خمسين بحسب ما وصل إلى علمه من مهارتهم وبراعتهم في صناعة الطب، فكان الرازي منهم؛ ثم اقتصر من هؤلاء على عشرة فكان الرازي منهم، ثم اختار من العشرة ثلاثة فكان أحدهم، ثم أنه ميز فيما بينهم فبان له أن الرازي أفضلهم فجعله مديراً للبيمارستان العضدي.
وكذلك اعترف بفضله الغربيون وعلماء أمريكا وجامعاتها. ومما يدل على تقديرهم للطب العربي ورجاله اهتمام جامعة برنستون بالحضارة الإسلامية؛ فقد خصصت أفخم ناحية في أبنيتها لمآثر علم من أعلام الحضارة الخالدين - الرازي - كما أنشأت داراً لتدريس العلوم
العربية والبحث عن المخطوطات وإخراجها ونقلها إلى الإنكليزية ليتمكن العالم من الوقوف على آثار التراث الإسلامي في تقدم الطب وازدهار العمران.
كان الرازي منتجاً إلى أبعد حدود الإنتاج، فقد وضع من المؤلفات ما يزيد على المائتين والعشرين ضاع معضمها أثناء الانقلابات السياسية في الدول العربية ولم يبق منها إلا القليل في بعض مكتبات أوربا.
ألَّف الرازي كتباً قيمة جداً في الطب، وقد أحدث بعضها أثراً كبيراً في تقدمه وفي طرق المداواة. وقد امتازت بما تجمعه من علوم اليونان والهنود إلى آرائه وبحوثه المبتكرة وملاحظات تدل على النضج والنبوغ كما تمتاز بالأمانة العلمية، إذ نسب كل شيء نقله إلى قائله وأرجعه إلى مصدره. لقد سلك الرازي (كما يتجلى من كتبه) في تجاربه مسلكاً علمياً خالصاً، وهذا ما جعل لبحوثه في الكيمياء قيمة دفعت بعض الباحثين إلى القول:(إن الرازي مؤسس الكيمياء الحديثة في الشرق والغرب معاً).
وضع الرازي كتاباً نفيساً هو كتاب (سر الأسرار) ضمنه المنهاج الذي يسير عليه في إجراء تجاربه، فكان يبدأ بوصف المواد التي يشتغل بها ثم يصف الأدوات والآلات التي يستعملها. وبعد ذلك يصف الطريقة التي يتبعها في تحضير المركبات. وصف الرازي في كتابه هذا وغيره ما يزيد على عشرين جهازاً - منها المعدني - وصفاً حالفه فيه التوفيق على غرار ما نراه الآن في الكتب الحديثة التي تتعلق بالمختبرات والتجارب. وفوق ذلك كان يشرح كيفية تركيب الأجهزة المعقدة ويدعم شروحه بالتعليمات التفصيلية الواضحة. ولسنا بحاجة إلى القول أن هذا التنظيم الذي يتبعه الرازي هو تنظيم يقوم على أساس علمي يقرب من التنظيم الذي يسير عليه علماء هذا العصر في المختبرات. والرازي من أوائل الذين طبقوا معلوماتهم في الكيمياء على الطب، ومن الذين ينسبون الشفاء إلى إثارة تفاعل كيميائي في جسم المريض.
ويتجلى فضل الرازي على الكيمياء بصورة واضحة في تقسيمه المواد الكيميائية المعروفة في زمنه إلى أربعة أقسام أساسية وهي: المواد المعدنية، والمواد النباتية، والمواد الحيوانية، والمواد المشتقة. ثم قسم المعدنيات لكثرتها واختلاف خواصها إلى ست طوائف. ولا يخفى ما في هذا التقسيم من بحث وتجربة وهو يدل على (المام تام بخواص هذه المواد
وتفاعلاتها بعضها مع بعض. . .) واستحضر الرازي بعض الحوامض ولا تزال الطرق التي اتبعها في ذلك متبعة إلى الآن. واستخرج الكحول باستقطار مواد نشوية وسكرية مختمرة. واشتغل الرازي في حساب الكثافات النوعية للسوائل (واستعمل كذلك ميزاناً خاصاً سماه الميزان الطبيعي).
وجاء الرازي بفكرة جديدة تعارض الفلسفة القديمة الموروثة وهي (أن الجسم يحوي في ذاته مبدأ الحركة) وهي تشبه ما ذهب إليه (ليبنتز) في القرن السابع عشر. ويعلق (دي بور) على هذا فيقول: (. . . ولو أن رأي الرازي هذا وجد من يؤمن به ويتم بناءه لكان نظرية مثمرة في العلم الطبيعي. . .).
والرازي يعظم صناعة الطب وما يتصل بها من دراسات. ولعل هذا من عوامل اهتمامه بالكيمياء. وهو ما يمتاز على الأطباء الذين عاصروه والذين أتوا بعده في كونه لمس أثر النواحي النفسية في العلاج والتطبيب. فهو يرى (. . . أن مزاج الجسم تابع لأخلاق النفس) ذلك لأنللنفس الشأن الأول فيما بينها وبين البدن من صلة، فنجد أنه أوجب على طبيب الجسم أن يكون طبيباً للروح. فمن أقواله التي وردت في كتبه:(. . . على الطبيب ان يوهم مريضه بالصحة ويرجيه بها وإن لم يثق بذلك، فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس. . .).
وللرازي مؤلفات قيمة في الطب، ولعل كتاب الحاوي من أعظمها وأجلها. وهو يتكون من قسمين: يبحث الأول في الأقرباذين، والثاني في ملاحظات سريرية تتعلق بدراسة سير المرض مع العلاج المستعمل وتطور حالة المريض ونتيجة العلاج وقد عدد (ماكس مايرهوف) للرازي 33 ملاحظة سريرية في أكثرها متاع وطرافة. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية واعتمد عليه كبار علماء أوربا وأخذوا عنه الشيء الكثير وبقي مرجعهم في مدارسهم وجامعاتهم إلى منتصف القرن الرابع عشر للميلاد. وله كتب أخرى جليلة دفعت بالطب خطوات إلى الأمام، منها كتاب المنصوري الذي يحوي على وصف دقيق لتشريح أعضاء الجسم كلها. وهو أول كتاب عربي وصل إلينا في هذا البحث. ترجم إلى اللاتينية وكانت له أهمية كبرى في أوربا وبقي معمولاً به عند الأطباء وفي الجامعات حتى القرن السابع عشر للميلاد. وله أيضاً كتاب في الأمراض التي تعتري جسم الإنسان وكيفية
معالجتها بالأدوية المختلفة والأغذية المتنوعة وقد أجاد فيه إجادة أثارت دهشة أطباء الغرب. وبقي هذا الكتاب عدة قرون دستوراً يرجع إليه علماء أوربا في الموضوعات والبحوث الطبية. وله كتاب الأسرار في الكيمياء ترجمة (كريمونا) في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد، وكان الكتاب المعول عليه والمدرسي في أوربا مدة طويلة. وقد رجع إليه (باكون) واستشهد بمحتوياته.
وكذلك للرازي كتاب نفيس في الحصبة والجدري هو من روائع الطب الإسلامي عرض فيه للمرة الأولى تفاصيل هذه الأمراض وأعراضها والتفرقة بينها. وقد أدخل فيه ملاحظات وآراء لم يسبق إليها، ترجمه الأوربيون إلى اللاتينية وغيرها من اللغات. وله كتب عديدة وردت في كتاب طبقات الأطباء لا يتسع المجال لذكرها. ولكن من الطريف أن نذكر أن أحدها كتاب موضوعه (كتاب من لا يحضره الطبيب) ويعرف بطب الفقراء وقد شرح فيه كيفية معالجة المرض في غياب الطبيب والأدوية الموجودة في كل مكان.
وأعترف الغربيون بمآثره وابتكاراته في أمراض النساء والولادة والمسائل الرمدية. وكذلك له جهود في الأمراض التناسلية وجراحة العيون. وفوق ذلك قال بالعدوى الوراثية.
وأختم الكلام عن الرازي بالقول الشائع المعروف:
(كان الطب معدوماً فأحياه جالينوس، وكان الطب متفرقاً فجمعه الرازي) والرازي في الواقع لم يقف عند الجمع بل أضاف إضافات مهمة دفعت بالبحوث الطبية والكيماوية خطوات إلى الأمام.
قدري حافظ طوقان
نور وصحراء
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
سارٍ على البْيدِ، هزَّ الكون مَسراهُ
…
صلى عليه، وحَيَّا نورَه الله
الله أكبر! لا خطوٌ ولا قدَّمٌ
…
لكن شعاعٌ بقُدس الوحي تيَّاهُ
شَقْ الصحارى فحَّيتْه سباسِبُها
…
وأوشكتْ برياض الخُلْد تلْقاهُ
ترعْرَعَتْ قَفْرةً، واخضوْضَرتْ جبلاً
…
وبثَّ فيها ضحى الدنيا مُحيَّاهُ
وزَمزَمتْ. . فهي تَرتيلٌ، ومسْبَحَةُ
…
ودعوةٌ بأمانِ الله تَرعاهُ
لم يبق في صدرها حادٍ ولا نغَمٌ
…
إلا بما يسْحَرَ الأيامَ غَنَّاهُ
ما لِلْخيام اسْتَطَارَتْ في مَرابِعِها
…
مَحْرُورةً مِنْ عذاب الشوق تهْواهُ
ومالها رَفْرفتْ والريحُ تجْذِبُها
…
طيراً إلى الفجرِ يَهديه جَناحاهُ؟
وما لكلِّ ثرىً نَسَّتْه عُزلتَه
…
ملاعبُ الجِنِّ، لم تهدأ ثناياهُ؟
همسٌ عَلَى الذَّرة الصغرى، وهيْنَمَةٌ
…
على سفوح الذرىَ، والكلُّ أشباهُ
تنَبَّهت غفلةٌ، واستيقظتْ سنةٌ
…
وهبَّ نعسانُ ليلُ الدَّهر غشَّاهُ
وفي ضمير الفلَا ما شئتَ من لهفٍ
…
تكادُ تمتدُّ للأنوار كفاهُ
تبارك الله! كل الأرض ناضرةٌ
…
وكلها مُهَجٌ تهفو لِمرآهُ
تَلفَّت الغيبُ، والتفَّت عنايتُه
…
بمن تحمَّل سر الغيب جَنباهُ
مُحمدٌ، وصلاة الله يا لَفمٍ
…
صلىَّ! =وقلب على التوحيد ناجاهُ!
حقيقتان هما حقٌ ولو قدَرَتْ
…
نفسي لما شربتُ في الحبِّ إلاَّهُ
هاجت على وحيهِ العُلويَّ شِرْذِمةٌ
…
مُحيرونَ على أصنامهم تاهوا
مِنْ كلِّ عاتِ من الأعرابِ، صَوْلَتُهُ
…
يَدرِي تَعَفُّرَها بالترْبِ (عُزَّاهُ)
راموا خُطاهُ. . . فكان الغارُ، وارتَجَزَتْ
…
حمامتاهُ، وراغَ البِيدَ مأواهُ
وشدَّ أنوَالَهُ شيخٌ له نَسَبٌ
…
بالوَهمِ. . . آخرُ ما يبنيه ينساهُ
بَنى مِن الضعفِ حِصناً لو تساقُ له
…
شمُّ المقادير، لاندكَّتْ لِرؤْياهُ
العنكبوتُ! وما أدراكَ ما صَنَعتْ
…
يداه. . بأساً شعوبُ الأرض تُخْشاهُ
ألْقَى بفارسِهِمْ والخيلُ تعشَقُهُ
…
في موْكب صهواتُ الخيل تأباهُ
غاصتْ قوائمها في الرمل من خَجَلٍ
…
ولعنةٍ أوشكت للرمل تَنعاهُ
يا فارسَ الشرك! لا فاتتكَ خيبَتهُ
…
بَشَّرْ سِلاحَك أنَّ اللهَ أرْداهُ
وقُل لِقومِكَ، لا سرَّا ولا علناً
…
تألَّق النورُ، حتّى عزَّ مَرْقاهُ!
سَرى (مُحَمَّدُ) تطوي الشمسَ رايَتُهُ
…
في عَسكرٍ قبلَ هذا ما سَمِعناهُ. .
يَمشي وصاحِبُهُ (الصِّدِّيقُ) وحدهُما
…
في مَهْمَةٍ يقرعُ الأيامَ لُقْياهُ
عقيدةٌ جَنبَها الإيمانُ، يَمْلَؤُها
…
صَفْواً، وتملأ بالبُشرى حناياهُ
ويَخطِفان الثَرى نَصراً إلى بَلَدٍ
…
لا خيَّبَ اللهُ مَنْ يَسْعَى لمَغْناهُ!
يَمشي، فتحسَبُه الأقدارَ جاريةً
…
لها من الغيب ما للغَيْب ترْضاهُ
مُبَشَّرٌ بضُحى للْكَوْنِ، يُنقِذُهُ
…
من ظلْمةٍ لَيْلُها لَجَّتْ خطاياهُ
ظلمٌ، وشِركٌ، وقومٌ عاكِفون على
…
ربٍّ، من الصخرِ مِسكين عَرَفْناهُ
. . صخرٌ ذليلٌ يعافُ الوحْشُ جِيرَتَهُ
…
ودُودَةُ الأرض لا ترضَى بمثْواهُ!
أتى إليهم بِبَحرٍ لا ضفافَ لهُ
…
مِن الضَّياءِ، يَرُوعُ الشمسَ ضَحْواهُ
سِرٌّ من اللهِ ذابَ العقلُ، وانكفَاَت
…
أطوارُهُ الشُّمُّ في أغوار مَعْناهُ
وحي من الله، فرقانٌ، هُدى زَمَنٍ
…
سيفٌ يَفُلُّ حديد الدهر حدّاهُ
ربَّاه مهما رجتْ أيامُنا فلها
…
في كلِّ حرفٍ به نور نُلَقَّاهُ
بحق من سار بالإعجاز يُبلِغُهُ
…
للخافِقَينِ، ومنْ للحقِّ أنشأهُ
بحقِّ هذا الذي غَنَّتْ بهجرَتِهِ
…
كلُّ العوالِمِ أرواحٌ وأفواهُ،
تُعطي سرائرنا لمحاً ننم به
…
إنَّ الطريقَ زحامُ الشرِّ لوَّاهُ!
وتنفخُ النيلَ هدياً في مسالِكِه
…
فإنما في مدار الشمس نجواهُ
وتهلك الحفنةُ الفوضى مطامعها
…
فإنهم كخشاش الأرض تأباه
ليس الوجود لهم مأوى ولا سكنٌ
…
ولن يكون لهم فوق الثرى جاهُ
عاثوا فعذَّبَهم جيشَ لمصر مَضَى
…
يَسقيهِمُ الموتَ لا يُبقي أشِدَّاهُ
ما زالَ في البِيد مِنْ آثامِهمْ صَخبٌ
…
واللاّجِئُونَ هُم في التِّيهِ شكواهُ
ربّاه فاجعلْ تُرابَ الشرقِ مَهلكَةً
…
لِكلِّ باغٍ عَوت بالقيد كَفّاهُ
ربّاه واسكُب غنائي في جوانحه
…
ناراً ونوراً أذانُ البعثِ ناداهُ
ملَّت رباباتيَ التغريدَ في زمنٍ
…
تَعْشَى على خطفة الإلهامَ عيناهُ
إلاّ (محمدٌ)!. . فالأوتارُ إن بليت=عادت به أُرْغُناً بالسحر غَنّاهُ!!
محمود حسين إسماعيل
من رجال الحديث في عصر الحروب الصليبية
ابن عساكر
للأستاذ أحمد أحمد بدوي
أبو القاسم علي ابن الحسن بن هبة الله، ولا أعلم كيف جاءته هذه الكنية، فإن مؤرخيه لا يعرفون أحداً من أجداده يسمى عساكر، ولكنه اشتهر بذلك في التاريخ.
ولد بدمشق في أوائل عصر الحروب الصليبية، أول المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، (سبتمبر سنة 1105)، وتلقى ثقافته الأولى في الفقه والحديث بدمشق، فأخذ فيها عن جماعة، منهم والده، وأخوه ضياء الدين، ثم رحل إلى العراق سنة عشرين وخمسمائة، وأقام بها خمس سنين، يتلقى العلم بالمدرسة النظامية، فأكمل دراسته في الفقه، وعلق مسائل الخلاف، كما درس النحو والعربية هناك، ولم يكتف في الحديث بما وصل إليه بل رحل في طلبه إلى أمهات مدن العراق، وخراسان، والجزيرة، والشام، والحجاز، فمضى في رحلته إلى الشرق، حتى وصل إلى مرو الشهجان، كما سمع بالكوفة ومكة، والمدينة، وأكثر من الأخذ عن العلماء حتى صارت عدة شيوخه ألفاً وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة، وكان موضع إعجاب أساتذته وتقديرهم. قال أحد أساتذته عنه: ما كنا نسمي الشيخ أبا القاسم ببغداد إلا شعلة من نار من توقده، وذكائه، وحسن إدراكه، وقال عنه البغداديون: قدم علينا من دمشق ثلاثة ما رأينا مثلهم: الشيخ يوسف الدمشقي، والصائن أبو الحسن هبة الله بن الحسن، وأخوه أبو القاسم، وكذلك قدره الخراسانيون.
وعاد ابن عساكر إلى الشام، وقد أصبح من كبار فقهاء الشافعية متفرداً في الحديث وعلومه، متقناً لما حفظه من الأحاديث متناً وسنداً، متثبئاً فيما يحفظ، ومحتاطاً فيما يأخذ، وكان هو وابن الوزير قد سمعا كتباً كثيرة في الحديث. حكى ولده الحافظ أبو محمد القاسم، قال: (كان أبي قد سمع كتباً كثيرة، لم يحصل منها نسخاً اعتماداً منه على نسخ رفيقه الحافظ أبى علي بن الوزير، فسمعه ليلة من الليالي، وهو يتحدث مع صاحب له في ضوء القمر في الجامع، فقال: رحلت، وما كأني رحلت، وحصلت وما كأني حصلت، كنت أحسب أن رفيقي ابن الوزير يقدم بالكتب التي سمعتها، مثل صحيح البخاري ومسلم، وكتب البيهقي وعوالي الأجزاء، فاتفقت سكناه بمرو، وإقامته بها، وكنت أمل وصول رفيق آخر يقال له
يوسفالجبائي، ووصوله رفيقنا أبا الحسن المواوي، فإنه كان يقول لي: ربما رحلت إلى دمشق، وتوجهت منها إلى بلدي بالأندلس، وما أرى أحداً منهم جاء دمشق، فلابد من الرحلة ثانياً وتحصيل الكتب الكبار، والمهمات من الأجزاء العوالي) فلم يمض إلا أيام يسيرة، حتى جاء إنسان من أصحابه إليه ودق عليه الباب وقال هذا أبو الحسن المواوي قد جاء فنزل أبي إليه وتلقاه، وأنزله في منزله، وقدم علينا بأربعة أسفاط مملوءة من الكتب المسموعات ففرح أبي بذلك فرحاً شديداً وشكر الله سبحانه على ما يسره له من وصول مسموعاته إليه من غير تعب وكفاه مئونة السفر. وأقبل على تلك الكتب فنسخ واستنسخ حتى أتى على مقصوده منها. وكان كلما حصل على جزء منها، كأنه حصل على ملك الدنيا.
وقضى أبو القاسم بعد عودته إلى دمشق، زهاء أربعين عاماً في الجمع والتصنيف والمطالعة، والتسميع حتى في نزهه وخلواته، ويحاسب نفسه على كل ساعة تمضي، بدون عمل حتى جمع في الحديث ما لم يجمعه غيره قال شيخه الخطيب أبو الفضل الطوسي:(ما نعرف من يستحق لقب الحافظ اليوم سواه) فانتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة بعلوم الحديث والتفقه فيه، وحسن التصنيف والتجويد، قال الحافظ عبد القادر الترهاوي (ما رأيت أحفظ من ابن عساكر، رأيت السلفي، وأبا العلاء الهمداني وأبا موسى المديني: ما رأيت فيهم مثل ابن عساكر)، وقال الحافظ أبو العلاء الهمداني:(أنا أعلم أنه لا يساجل الحافظ أبا القاسم في شأنه أحد)؛ وقال المنذري: (سالت شيخنا الحافظ أبا الحسن بن الفضل، عن أربعة تعاصروا، أيهم أحفظ؟ قال من؟ قلت: الحافظ ابن ناصر، وابن عساكر؟ فقال ابن عساكر، قلت الحافظ أبو موسى المديني وابن عساكر؟ فقال: ابن عساكر، فقلت: الحافظ أبو طاهر السلفي، وابن عساكر؟ فقال السلفي شيخنا)، قال الذهبي: يعني أنه ما أحب أن يصرح بتفضيل ابن عساكر، تأدباً مع شيخه، ثم أبو موسى أحفظ من السلفي، مع أن السلفي من نجوم الحديث وعلمائه؛ وانتهى الأمر بأن قال بعض الحفاظ الإثبات:(ما أرى ابن عساكر رأى مثل نفسه).
وقد عرف له سلطاناً عصره مكانته؛ أما نور الدين فقد بنى له دار الحديث بدمشق، ووكل إليه أمرها، وكان ابن عساكر يسمع نور الدين في مجالسه حديث رسول الله، ويضمر له في قلبه الحب والإعجاب، قال عنه في مقدمة كتاب (تاريخ دمشق) (ورقي خبر جمعي له
إلى حضرة الملك القمقام، الكامل العادل، الزاهد المجاهد، المرابط الهمام أبى القاسم محمود بن زنكي بن آق سنقر، ناصر الإمام، أدام الله ظل دولته على كافة الأنام، وأبقاه مسلماً من الأسواء، منصور الأعلام، منتقماً من عداة المسلمين الكفرة والطغام، معظماً لحملة الدين بإظهار الإكرام لهم والاحترام، منعماً عليهم بإدرار الإحسان إليهم والإنعام، عافياً عن ذنوب ذوي الإساءات والإجرام، بانياً للمساجد والمدارس والأسوار، ومكاتب الأيتام، راضياً بأخذ الحلال ورافضاً لاكتساب الحطام، آمراً بالمعروف زاجراً عن ارتكاب الحرام، ناصراً للملهوف وقاهراً للظالم العسوف الانتقام، قامعاً لأرباب البدع بالإبعاد لهم والإرغام، خالعاً لقلوب الكفرة بالجرأة عليهم والإقدام)
وأما صلاح الدين فكان يقدر ابن عساكر عظيم التقدير، وكان الحافظ يحضر مجالس السلطان، ثم انصرف عنها حيناً، لما كان يمتاز به صلاح الدين من ديمقراطية سوغت وجود اللغط في مجالسه. فلما تكرر من صلاح الدين الطلب له حضر، وعاتبه صلاح الدين فقال له الحافظ: (نزهت نفسي عن مجلسك فإنني رأيته كبعض مجالس السوقة، لا يستمع فيه إلى قائل، ولا يرد جواب متكلم، وقد كنا بالأمس نحضر مجلس نور الدين، فكنا كما قيل: كأنما على رؤوسنا الطير، تعلونا الهيبة والوقار، فإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع لنا. فتقدم صلاح الدين إلى أصحابه أنه لا يكون منهم ما جرت به عادتهم إذا حضر الحافظ، فلما مات حضر السلطان صلاح الدين الصلاة عليه ومشى في جنازته. وعاش ابن عساكر منصرفاً إلى فنه، لا يتطلع إلى أسباب الدنيا، معرضاً عن المناصب، بعد عرضها عليه ليس له منها سوى أستاذيته لدار الحديث، كثير الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، موجهاً همه إلى إذاعة حديث رسول الله.
وكان يدين بمذهب الأشعري، وينافح عنه؛ وألف في ذلك كتاباً سماه: تبيين كذب المفتري، فيما نسب إلى أبي الحسنالأشعري، رد به على الحسن بن علي الأهوازي الدمشقي، المتوفى سنة 446، وكان يكره مذهب الأشعري ويضعفه.
ولم يزل ابن عساكر خادماً للسنة، قائماً بأنواع العبادة: من صلاة وصيام واعتكاف، وصدقة ونشر علم، وتشييع جنازة وصلة رحم، إلى أن مات ليلة الاثنين الحادي والعشرين من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة. وقد رثاه المعجبون به بقصائد عدة، وترك ابناً هو
القاسم بهاء الدين من رجال الحديث وحفظته.
أما آثاره العلمية فعدد ضخم؛ يدلنا على ما امتاز به وقت هذا الرجل، من امتلاء بالتأليف والتصنيف؛ ورويت عنه مصنفاته وهو حي؛ وذاع بها اسمه وانتشر في أرجاء العالم الإسلامي. ويمكن تقسيمها ثلاثة أقسام بحسب، موضوعها فأغلبها مجموعات حديث ثم كتب في التاريخ. فكتاب في علم الكلام. وآخر في الأدب.
وتتألف كتبه في الحديث من مجموعات اختارها أو رواها: فله أحاديث رواها مثلاً عن جماعة من كفر سوسية، وأخرى عن جماعة من أهل حرستا. كما أنه وضع كتاباً جمع فيه بين سنن أبي داود، وجامع الترمذي والنسائي. ودعاه الإشراف على معرفة الأطراف. وكتاباً جمع فيه ما اتفق عليه شيوخ الأئمة الثقات.
وله كتب تتناول أحاديث ذات غرض واحد، مثل كتابه المستقصي في فضائل المسجد الأقصى. الذي اشتمل على ما جاء من الحديث في بيت المقدس. وكتابه فضل عاشوراء. وفضائل مقام إبراهيم، وتبيين الامتنان بالأمر بالاختتان.
أو ذات صفة خاصة كالأحاديث الخماسية الاسناد، أو السداسية أو السباعية. أو المسلسلات وقد جمعها في عشرة أجزاء.
وله أعمال في الحديث ضخمة. كما جمع عدة أنواع من الأربعينات، فاقتدى بالسلفي فيما جمعه من أربعين حديثاً سمعها في أربعين بلداً، نقلها عن أربعين شيخاً وزاد على ما أتى به من الغرابة بأن جعلها عن أربعين من الصحابة كما جمع أربعين حديثاً في الجهاد، دفعه إلى جمعها بلا ريب هذا الصراع العنيف بين المسلمين والصليبيين في عهده، وجمع أربعين حديثاً من الطوال، وأربعين في المساواة، وروى في أجزاء معينة الأحاديث التي رواها صحابي بعينه. وله كتاب كشف المغطى في فضل الموطأ.
أما كتبه التاريخية فأشهرها تاريخ مدينة دمشق، في ثمانين مجلداً، وهو من أعظم المفاخر في التاريخ، وضعه على نسق تاريخ بغداد لأبي بكر الخطيب، وأورد فيه تراجم الأعيان، والرواة، والمحدثين والحفاظ، وسائر أهل السياسة والعلم من صدر الإسلام إلى أيامه ممن سكن دمشق، أو نزلها، قال ابن عساكر في مقدمة كتابه: وهو كتاب يشتمل على ذكر من حلها من أماثل البرية، أو أجتاز بها أو بأعمالها من ذوي الفضل والمزية، من أساتها
وهداتها، وخلفائها وولاتها، وفقهائها وقضاتها، وعلمائها ورواتها، وقرائها ونحاتها، وشعرائها ورواتها، من أمنائها وأبنائها، وضعفائها وتقاتها، وذكر مالهم من ثناء ومدح، وإثبات ما فيهم من هجاء وقدح، وإيراد ما ذكروه من تعديل وجرح، وحكاية ما نقل عنهم من جد ومزح، وبعض ما وقع إلى من رواياتهم، وتعريف ما عرفت من مواليدهم ووفاتهم، وبدأت بذكر من اسمه منهم أحمد، لأن الابتداء بمنوافق اسمه اسم المصطفى. ثم ذكرتهم بعد ذلك على ترتيب الحروف، مع اعتبار الحرف الثاني والثالث تسهيلاً للوقوف، وكذلك أيضاً اعتبرت الحروف في أسماء آبائهم وأجدادهم، ولم أرتبهم على طبقات أزمانهم، أو كثرة أعدادهم، وعلى قدر علومهم في الدرجات والرتب، ولا لشرفهم في الأفعال والنسب، وزدت فيه من عرف بكنيته، ولم اقف على حقيقة تسميته. . . واتبعتهم بذكر النسوة والإماء الشواعر، المشهورات، وقدمت قبل جميع ذلك جملة من الأخبار في شرف الشام وفضله. . .
وقد أدهش العلماء به لكبره واتساعه، وقال ابن خلكان قال له شيخنا الحافظ العلامة ذكي الدين أبو محمد عبد العظيم المنذري، حافظ مصر، أدام الله به النفع، وقد جرى ذكر هذا التاريخ، وأخرج له منه مجلداً، وطال الحديث في أمره واستعظامه، (ما أظن هذا الرجل إلا عزم على وضع هذا التاريخ من يوم عقل، وشرع في الجمع من ذلك الوقت، وإلا فالعمر يقصر عن أن يجمع فيه الإنسان مثل هذا الكتاب بعد الاشتغال). ولقد قال الحق ومن وقف عليه عرف حقيقة هذا القول، ومتى يتسع للإنسان الوقت حتى يضع مثله، وهذا الذي ظهر هو الذي اختاره، وما صح له هذا إلا بعد مسودات ما يكاد ينضبط حصرها.
وعنى العلماء بهذا الكتاب، فمنهم من جعل له ذيولاً، أهمها ذيل القاسم ولد المصنف، وذيل عمر بن الحاجب، ومنهم من اختصره: كابن شامة، وابن منظور صاحب لسان العرب، وارجع إذا شئت، إلى كتاب كشف الظنون (ج1نهر294) لترى ما لهذا الكتاب من ذيول ومختصرات.
ولابن عساكر غيره، كتاب المعجم، وهو خلاصة لمشهوري الرجال، وبخاصة الشافعية، ولهذا الكتاب ذيل لمحمد ابن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 643، كما وضع معجماً في اثني عشر جزءاً ترجم فيه لأساتذته الذين سمع منهم أو أجازوا له، ومعجماً خاصاً لمن
سمع منه من النساء، وألف معجماً للصحابة، وكتاباً لمن نزل المزة وحدث بها، وآخر فيمن وافقت كنيته كنية زوجته، وتحدث في معجم عن مناقب الشبان، وفي آخر عن أسماء القرى والأمصار التي سمع بها.
وأملى سبعة مجالس في فضائل الصديق رضي الله عنه، ثم أكملها بأربعة أخرى، ثم أملى في كل واحد من الخلفاء أحد عشر مجلساً.
ووضع ابن عساكر في علم الكلام كتاباً سماه: كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري، وهو من الكتب المهمة في موضوعه، حتى قالوا: إن كل سني لا يكون عنده ذلك الكتاب، فليس من نفسه على بصيرة، وقد بينا سبب تأليفه.
أما كتابه في الأدب فيسمى بالأطراف الأدبية، وهو في أربعة مجلدات، ولعله، كما يدل عليه اسمه، مختارات جمعها، كما كان يصنع في كتب الحديث.
وكان ابن عساكر يقول في الشعر ما لا يبلغ درجة الجودة، فمما نسب إليه قوله:
أيا نفسُ؛ ويحك جاء المشيب
…
فماذا التصابي، وماذا الغزل
تولى شبابي كأن لم يكن
…
وجاء مشيبي كأن لم يزل
كأني بنفسي على غرة
…
وخطب المنون بها قد نزل
فياليت شعري ممن أكون
…
وما قدر الله لي في الأزل
ومن قوله يمجد الحديث، ويحث على أخذه شفاهاً لا نقلاً عن الكتب
ألا إن الحديث أجل علم
…
وأشرفه الأحاديث العوالي
وأنفع كل نوع منه عندي
…
وأحسنه الفوائد والأمالي
وإنك لن ترى للعلم شيئاً
…
يحققه كأفواه الرجال
فكن يا صاح ذا حرص عليه
…
وخذه عن الرجال بلا ملال
ولا تأخذه من صحف فترمى
…
من التصحيف بالداء العضال
وتجد نماذج كثيرة من شعره في كتاب جريدة القصر؛ وكتاب معجم الأدباء لياقوت.
وكان بينه وبين الحافظ أبي سعد عبد الكريم بن السمعاني رفيقه في الرحلة مودة؛ وقد روى عنه السمعاني كثيراً؛ كما روى ابن عساكر عن رفيقه؛ وكتب إليه أبو سعد كتاباً ضخماً سماه (فرط الغرام إلى ساكني الشام)؛ كما كتب هو إلى ابن السمعاني رسالة يعاتبه فيها
على تباطئه في إنفاذ حاجة له:
ما كنت أحسب حاجتي
…
مهما نأت داري مضاعة
أنسيت ثدي مودتي
…
بيني وبينك وارتضاعه
ولقد عهدتك في الوفا
…
ء أخا تميم لا قضاعه
وتتلمذ لابن عساكر جماعة كبيرة من الحفاظ كان بعضهم أسن منه. ومن أشهر تلاميذه أبو شامة المقدسي.
وقد تناول مؤرخو ابن عساكر سيرته مقرونة بأسمى آيات الإجلال والإكبار. فهذا السبكي يقول عنه في طبقاته: هو الشيخ الإمام ناصر السنة وخادمها، وقامع جند الشيطان بعساكر اجتهاده وهازمها. إمام أهل الحديث في زمانه. وختام الجهابذة الحفاظ ولا ينكر أحد منه مكين مكانه، محط رحال الطالبين، ومؤمل ذوي الهمم من الراغبين. الواحد الذي أجمعت الأمة عليه، والواصل إلى مالا تطمح الآمال إليه. والبحر الذي لا ساحل له، والحبر الذي حمل أعباء السنة كاهله. قطع الليل والنهار دائبين في دأبه. وجمع نفسه على أشتات العلوم، لا يتخذ غير العلم والعمل صاحبين وهما منتهى أربه. لا تغيب عنه شاردة، وضبطه استوت لديه الطريفة والتالدة، وإتقان ساوى به من سبقه إن لم يكن فاقه، وسعة علم أثرى بها وترك الناس كلهم بين يديه ذوي فاقة).
وقال فيه النووي: (هو حافظ الشام بل حافظ الدنيا. الإمام الثقة الثبت).
وقال ابن النجار: (هو إمام المحدثين في وقته، ومن انتهت إليه الرياسة وبه ختم هذا الشأن).
كان ابن عساكر هذا أنبه أبناء أسرته الذين عرف التاريخ منهم أخاه الفقيه المحدث هبة الله وولده القاسم وولد أخيه محمد وهما الحسن وكان محدثاً وعبد الرحمن وكان مدرساً فقيهاً محدثاً.
أحمد أحمد بدوي
في رمال التيه
للأستاذ إبراهيم الوائلي
أيّ حُلم طاف بلامس على جفن الزمان
ورحيق عاطر النفحة من كرْم الجنان
خَضَّلَ الانسامَ واشتفَّ نداه المشرقان
غير أن الحُلمَ الزفاف ولىّ غير وان
والرحيق العذب قد جف على ثغر الأماني
أترى يرجع بعد اليوم طيف قد توارى؟
وملاك من بني الإنسان ما أعظم قَدرَهُ
مسح الأرض جناحاه وأصفاها بنَظْرَهْ
وسقاها من معين الكوثر السلسل خمره
فإذا الصخرةُ ماء وإذا الشوكة زهره
وإذا الصحراء ظلٌ وينابيعُ وخضرة
غير أن الزهر قد ألوى وماء النبع غارا
جاء والأمةُ في ليل من التيهِ معمّى
لا ترى نوراً ولا تبصر في الظلماء نجماً
تَجبلُ الطين وتبني منه معبوداً أصما
وتخال الرمل درّا وترى العوسج كرْما
فأشاع النور فيها وأحال الجهل علْما
ثم أغفى بعد ما أيقظ شعباً وأنارا
مشت النسمةُ بالأمس على الآفاق تمرحْ
وسرى النور كطيف ناعم المسرى مُجنَّحْ
فانتشى الأيك على الواحة والظلُّ ترنح
وأفاق الحجر الغافي ورملُ البيد سبح
ثم عادت فإذا الصحراء للذؤبان مسرح
وإذا الواحة لا تندى ظلالاً وثمارا
مشرق التاريخ بوركت نبياً وإماما
وتقدّست كتاباً وجهاداً وسلاما
من تُرى صيّر دنياك ضباباً وقتاما؟
والينابيع سراباً والندى العذب جهاما
فإذا بالركب يطوي منك قفراً وظلاما
لا يرى في السفح ومضاً أو على القمة نارا
حُلُمٌ مرَّ وعادت خطرات الحُلْم ذكرى
نتملاّها خيالاً شاحب اللون وفكرا
هوَّم الشرق فكانت فترة التهويم شرّا
وأفاق الجيل حيث الوحش قد بيَّت غدرا
فمضى يخبط في التيه ولا يبصر فجرا
ووحوش الغاب تستشري لُهاثاً وسُعارا
رب رحماك فإن الجيل لا يدرك غايه
تائه ضل ولم تبد من الليل نهايه
يعبد الأوثان لكن في محاريب العماية
ونعوتاً حاكها الزيف على غير هدايه
وكساها كل نفاج من الناس نفاية
ثم حلاّه كما شاء رياحين وغارا!
رب رحماك لجيل في مطاوي البيد حائر
وملايين من الناس تردت في المخاطر
من سجون. وحديد، وسياط ومجازر
وعهود مظلمات عميت فيها المصائر
وهمود قد ألفناه كسكان المقابر
وأفانين من الذل تخذناها شعارا
محنة الشرق وما أفضع ما يشكو ويلقى
من خطوب كالحات لم تذر عدلاً ورفقا
يرقص الغرب على الأشلاء مزهواً ونشقى
مثلما يندفع الموج على أجساد غرقى
قد مللنا العيش ذلاًّ يتغشانا ورقا
رب رحماك فإن الراكب قد ضل وحارا
أترى يشرق بعد اليوم فجر قد توارى؟
القاهرة
إبراهيم الوائلي
الملحمة الخالدة
للأستاذ صبحي الصالح
هجرتك - يا رسول الله - ملحمة قدسية نفخ الله فيها من روحه وصور فيها بطولتك ورضيها للمؤمنين لحناً على قيثارة الذكرى. . .
هجرتك - يا نبي الله - ملحمة واقعية لم ينسجها الخيال، بل سجدت لحوادثها القرون والأجيال. . .
هجرتك - يا خاتم الأنبياء - ملحمة خالدة في أعماق القلوب تراها بصيرة المؤمن كلما استشفت حجاب التاريخ أبرز حادثة من حوادث الدهر!
ولقد افتتح الله ملحمة هجرتك بالاضطهاد والعذاب، واختتمها بالفتح والنصر: وبين الفاتحة والخاتمة سلسلة من صور بطولتك ومواطن شجاعتك، ومشاهد نضالك وجهادك، وثل صبرك وأناتك.
ولا غرو. . . فإنك - يا سيد الخلق - المثل الأعلى للشدة في الحق، صدعت به لا تخاف لومة لائم، ولا تضيق بتهكم ساخر، ولا تتألم من عدوان سفيه، بل كنت تجد فيما يحسبه الناس ألماً متعة سامية. . . وما أندر النفوس التي تستشعر مثلك لذة الآلام!
حتى في ذلك اليوم الذي لذت فيه بحائط من حوائط ثقيف وأويت إلى الظل تشكو إلى ربك ضعف قوتك، وقلة حيلتك، وهوانك على الناس، لم تنس أن تناجي مولاك الرحيم بتلك الكلمات التي أترعت قلبك بحلاوة الإيمان حين قلت في ختام ندائك الخفي:(إن لم يك بك علي غضب فلا أبالي).
بلى يا رسول الله كنت سعيداً بآلامك الفوادح، لا تبالي ما دام الله معك يهديك، ويسمع سرك ونجواك، ويكلأك في متقلبك ومثواك.
من أجل ذلك مكر الله بالقوم الذين مكروا بك، فأرسل إليك جبريل الأمين يحذرك من الكيد، ويرسم لك الخطة، ويعين لك المتجه: أن هاجر إلى طيبة ولا تبت على فراشك، فإن القوم يأتمرون بك ليقتلوك. فخرجت من بين المؤتمر تحرسك عين الله بينما رقد على فراشك ابن عمك الشجاع الذي نشئ في حجرك، وأشرب في قلبه حبك، وود لو يموت فداك
وهاجرت وصاحبك الصديق الذي حمل إليك جميع ماله، فأدركته الشفقة على أبيه الضرير
وعلى ذويه، فسألته: ماذا أبقيت لأهلك يا أبا بكر؟ فأجابك باطمئنان: أبقيت الله ورسوله، وأويتما إلى (غار ثور) في ضمير الليل. وقفا القوم آثاركما عند مبرق النهار، وكادوا يصلون إليكما، ويقتحمون الغار عليكما، حتى خاف عليك صاحبك الوفي فقال: لو قتلت فإنما أنا فرد من الأمة وإن قتلت أنت هلكت الأمة كلها يا رسول الله. ثم قال في جزع شديد: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا. . . فهمست في أذنه همستك الخالدة التي فيها رمز الشجاعة الحق: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا. فانزل الله سكينته عليك، وأيدك بجنود لا تراها أعين الناس، وصرف القوم عن الغار، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى؛ فارتدوا خائبين.
أما أنت يا رسول الله فوصلت إلى المدينة وصول الفاتحين، وجعلت فيها المهاجرين والأنصار إخواناً، والأوس والخزرج أعواناً، وجعلت تشريع السماء حكماً بين الناس، وجعلت هؤلاء الناس الذين آمنوا بك كالملائكة الأبرار، بل أصبحوا بهديك رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار!
يومئذ حملت القرآن في يمناك تهدي به المتقين، والحسام في يسراك تدفع به كيد البغاة وعدوان الظالمين، فقضيت على الفتن الحمر، وهدأت العواصف الهوج، وجعلت الدين لله، والعبادة للرازق ذي القوة المتين.
وبدلت العرب من بعد خوفهم أمناً، ومن بعد خصامهم حباً، ومن بعد يأسهم أملاً، ومن بعد قسوتهم حناناً، ومن بعد فوضاهم نظاماً، ومن بعد جهلهم علماً. . .
ولقد كان ربك - يا إمام الأنبياء - قديراً على نصرتك وعصمتك من أذى الناس؛ لكنه أراد أن يذيقك حلاوة النصر بعد مرارة الصبر والمصابرة والكفاح والنضال، حتى يفتح أعين الذين آمنوا على سنته في خلقه، فلا يغتروا بانتسابهم إلى الإسلام من غير جهاد، أو يستسلموا إلى الوهن وهم يحسبون أنهم على ربهم يتوكلون.
وهذه السنن الاجتماعية التي تعلمها المسلمون الأولون من ملحمة هجرتك جعلت منهم أبطالاً يرون الموت في سبيل الله هو الحياة الخالدة، ويرون الحياة إذا غشيها الذل موتاً أبدياً، فحملوا أرواحهم على أكفهم، واشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون.
ثم داول الله الأيام بين الناس، فاصبح المسلمون يترنمون بملحمتك من غير أن يفقهوا أسرارها، ويرددون ذكراها من غير ان تترك فيهم آثارها، فلقد نسوا سنن الله في خلقه أو تناسوها، ولقد جهلوا شريعتهم أو تجاهلوها، فأصبحوا - على كثرتهم - غثاء كغثاء السيل، وأصبحوا يا رسول الله ينتسبون إليك انتساباً، ويحملون من دينك أسماء وألقاباً، ويعيشون على هامش الحياة أذناباً وأعقاباً.
أجل يا سيد المرسلين. . . لقد أذن ربك المنتقم الجبار للزمن العاتي أن يعبث بهم، فنزع من صدور عدوهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، فعادوا بعدك كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، وأمسوا أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين، يؤثرون حياة الهوان والعبودية على الموت في سبيل الكرامة والحرية حتى تداعت الأمم إليهم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فمزقتهم شر ممزق، وأذاقتهم عذاب الهون.
على أن ملحمة هجرتك - يا بطل الأنبياء - ما برح لها في بعض النفوس أثر، فلقد كتب الله لذكراها الخلود حتى تنفع المؤمنين بالموعظة، وتدعو بالحكمة، وتحي ميت القلوب، وتعيد مجد الدين.
ولقد أفتتح الله ملحمتك بالاضطهاد والعذاب، واختتمها بالفتح والنصر، فهل يريد التاريخ أن يعيد نفسه، وهل تبهرنا اليوم الشدائد والأهوال، لتخلق منا جيلاً جديداً، يستحق نصراً من الله وفتحاً قريباً؟
صبحي الصالح
من وحي الأيمان
موكب
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
موكب هز خاطري وجناني
…
وأثار الحنين في وجداني
ودعاني إلى البيان، فهذا
…
ذوب قلبي سكبته في بياني
مركب الحب للذي خلق الح
…
ب، وحلى به بني الإنسان
موكب الحب للرسول الذي جا
…
ء لنا بالهدى وبالفرقان
صاغه الله من سناه شعاعاً
…
باهر النور، ساحر الألوان
لم تجد مثله القلوب، ولم تن
…
ظر إلى مثله العيون الرواني
وبراه من رقة وصفاء
…
وسلام ورحمة وحنان
فهفت نحوه القلوب سراعا
…
كطيور تجد في الطيران
ثم حامت عليه، وهي ضمآء
…
فسقاها من نبعه الريان
ومضت نحوه الجموع تعاني
…
من هواها وشوقها ما تعاني
موكب حاشد الوفود رحيب
…
هو رمز لعزة الإيمان
وقلوب مرنحات من الشو
…
ق، سكارى بغير بنت الدنان
شربت خمرة (الحقيقة) واهتز
…
ت على (ذكر) مبدع الأكوان
كل من ذاقها فقد عاش ما عاش
…
بعيداً عن حرقة الضمآن
ووجوه تكاد تنطق بشراً
…
حين نالت ما تشتهيه الأماني
والدفوف التي ترن رنيناً
…
هو أشجى من رنة العيدان
هادئ الوقع في القلوب، مثير
…
حين تصغي إليه بالآذان
يملأ النفس بالخشوع فتبكي
…
بدموع لم تبدها العينان
والزغاريد وهي تأسر قلبي
…
والأغاني، وما أرق الأغاني!
موكب هزني، فغنى فؤادي
…
وشعوري بأعذب الألحان
كل لحن فيه ضراعات مشتا
…
ق، وأشواق ضارع ولهان
موكب فجر الحنين بقلبي
…
ومضى في رعاية الرحمن
ليت من جمع المواكب ليلا
…
ودعاها إليه كان دعاني
يا ديار الحبيب قلبي يناجي
…
ك وروحي ومهجتي وكياني
يا ديار الحبيب قد شفني النأ
…
ي، فقولي متى يكون التداني؟
يا ديار الحبيب هل يأذن الل
…
هـ فألقاك مرة في زماني؟
حيث أقضى شعائر الله مسرو
…
راً بما نلته من الرضوان
وأرود الصحراء وهي لروحي
…
موطن الشعر والهدى والأمان
صاعداً في الجبال، حيناً وحيناً
…
هابطاً في السهول والوديان
ذاك حلم لو نلته في حياتي
…
قلت حسبي ما نلته وكفاني
يا ديار الحبيب زرتك بالرو
…
ح، وإن كنت ثاوياً في مكاني
إبراهيم محمد نجا
الشيوعية والدين
للأستاذ إبراهيم البطراوي
يميل كثير من كتاب العالم هذه الأيام في الدول غير الشيوعية إلى المبدأ القائل (بأن الشيوعية والدين نقيضان لا يجتمعان في دولة واحدة) ويركزون معظم نقدهم وهجومهم على الماركسية في هذه النقطة بالذات لأنها كما يقول بعض مفكري الأسبان (ملتقى الحواس في أعصاب الأمم جميعاً).
ولكن الدارسين للظواهر الاجتماعية يقررون أن جميع الجهود والأموال التي أنفقت في هذه الحرب الفكرية حتى الآن قد ضاع أكثرها سدى فلم ينتفع بها الانتفاع الذي كان مقدراً. وليس هذا فقط، بل إن الفائدة لم تصل إلى حد المثل بعد. ولقد كان لهذه النتيجة وقع اليم في نفوس الكثيرين ولا سيما في هذا الوقت الذي يعاني فيه كثير من الشعوب أزمات اقتصادية متعددة، فبدءوا يعاودون النظر ويرسمون الخطط ويوحدون الجهود ليتداركوا ما فات.
والحق أن هذا المبدأ وحده غني بمواد كان يكفي أقلها عدداً وأبسطها أثراً للقضاء على فكرة الشيوعية ومحوها نهائياً من صفحة الوجود لو أنه أحسن استغلاله والانتفاع به. أما مجرد القول بمبدأ دون الأخذ به فضرب من المحال ومخادعة للنفس وتضييع للوقت لا أكثر، ولن يفهم الناس من تكرار ذلك إلا أنه إقحام للشيء في غير موضعه واستغلال للعاطفة الدينية في الخلافات السياسية؛ أما الأهداف النبيلة والغايات الشريفة والمنافع المنتظرة والأمن من شر محقق تتهددنا به الدول الشيوعية إن لم نحم أدياننا وتقاليدنا من أضدادها وهي سموم دعايتهم الخبيثة - فهذه وغيرها أشياء بعيدة كل البعد عن تفكير الرجل العادي بل وكثير من الذين يوصفون بأنهم مثقفون.
وللناس عذر في ذلك لأن نظرة جدية إلى تاريخ الأمم التي تنادي اليوم بهذا المبدأ تدفعنا إلى شيء من الشك كبير في إخلاص القائمين بهذه الدعوة وفي صدق نواياهم وخلوهم من كذب ونفاق، وإلا فأي معنى لبقاء جنود أجنبية في أرض دولة ذات مجد وذات سيادة كمصر؟
وأول ما يستشعره الباحث الذي لا يقف عند حد النظرة السطحية للأشياء - هو حاجة
الدول الفتية إلى التمسك بهذا المبدأ والاستفادة من هذا الدرس بعد تعمق وفلسفة واستقصاء مراميه فما ألقاه الشيوخ المحنكون - والبركان في أوج ميدانه واضطرابه - إلا بعد تجارب عدة حالفهم فيها التوفيق بالنسبة للأمم التي غلبوها على أمرها وكانت مستعصية عليهم، فلم يجدوا سلاحاً أفتك بالقوى وأقصم للظهور ولا أرق للأحرار من سلاح الدين والتقاليد يزلزلونها بحوريتين فتانتين اسمهما فلسفة العصر والمدنية وما هما - لو كنا نعقل - إلا الإلحاد والإباحية.
وقانون الاستعمار دائماً - على اختلاف الأزمنة والأمكنة - كما استنتجناه وشرحناه في غير هذا المكان (هو أن الثورات وليدة الفجور والإباحية التي هي معول الأديان والعقائد - وأن أصحاب المبادئ السياسية والاقتصادية لا يمكن أن تتنسم مبادئهم الحياة إلا عن طريق هذا الذي استنتجنا الآن وسميناه (قانون الهدم الاجتماعي).
ولقد فطنت الوحوش المستعمرة لهذا بدهائها وتجاربها وأفادت منه في اقتناص فرائسها وإشباع شهواتها الجامحة أيما استفادة على نحو ما قدمنا.
وأبسط تحليل لخفايا الأغراض المقنعة في فلسفتهم تلك التي تبدأ بنشر الفجور والإباحية وهدم حواجز الدين والتقاليد والعرف وخلال الحياء والشرف مجتمعة، وهذا بدوره يؤدي إلى التفكك والاضطراب والفوضى والثورات والانحلال، ثم ينتهي بالاستعمار - هو أن الفجور يفرق هلعاً من مجرد ذكر الحساب وتصور آلامه وأهواله على نحو ما وصفت الأديان؛ فبنشر مبادئ الإلحاد وبتسفيه القيم وبث المثيرات والمغريات وبتهيئة الأسباب وإزالة الحجب التي تحول بين الغرائز وبين الإشباع نجد قيامه - أي الفجور - وتحققه نتيجة طبيعية حتمية. ولابد أن يمر بالأطوار الآتية على أي حال: وهي أنه - وفكرة الثواب والعقاب ما هي - لا يقدم حتى يشك، ولا يشك حتى يكفر، وتتكرر الدورة فيشك ويكفر مرة ثانية وثالثة ولا يزال كذلك حتى يصير الكفر عادة ممتزجة بدمه ولحمه فيشك في كل شيء ويكفر بكل شيء فينتقم على كل شيء ويثور عليه، وفي الثورة يتم كل شيء وفق الخطة المرسومة بكل سهولة.
أجل! إن موات الأمم لا يحيا إلا بروح الدين والعقيدة، وإن ضعفها لا يقوم إلا بالاعتصام بروح الخلق والفضيلة، وتاريخ الأحياء - منذ كان لحياة الأمم تاريخ - لم يتحول عن هذا
المبدأ شعرة، وتاريخ الأموات - منذ كان لموت الأمم تاريخ - لا يخلو من شك وكفر وفجور واستباحة وفوضى. ولهذا رأينا شعباً صغيراً كالشعب البريطاني لا يتميز عن أقرانه في العدد ولا في القوة ولا في الثروة، ولكنه استطاع - بعد دراسته لنفسية الشعوب واستفادته من تجارب الآخرين في جميع العصور - أن ينتفع بهذا المبدأ في حالتي الإيجاب والسلب إلى أقصى ما يمكن أن يرقى إليه خيال: يحتل قارات بأسرها وشعوباً تكاد ترجح نصف المعمورة عدداً بحيث لو ملأ كل رجل فيها كفه من تراب إنجلترا لما وجدت مؤخرتهم أمامها غير مياه المانش وقد اتصلت بجليد القطب تملأ منها أكفها إن أرادت ألا تعود فارغة!
وأضننا - وقد بلغت هذه الإمبراطورية في الاتساع ما لم تبلغه أمة قبلها ولا بعدها حتى إنك لو سألت أحد أبنائها إلى أي الشعوب ينتسب لما أجابك إلا مزهواً وقد رفع رأسه عالياً (أنا ابن الأمة التي لا تغرب الشمس عن أملاكها) وعاشت برغم هذا أطول عمر عاشته أمة في التاريخ بلغ مئين السنين - أظننا وتلك أمة هذه عظمتها وهذا شأنها لا نعجب إن رأينا برلمانها - وهو ما هو - يجتمع مرات مستدعياً رجال الدين والرأي من أطراف البلاد وأقاصيها مع الساسة لأن روايةخليعة تمثل على المسرح أو الشاشة وللبلد دين وتقاليد!
وعلى هدى إنجلترا تحاول الدول التي منها امتدت جرثومة الفساد إلى سائر البقاع والتي جاوزت جميع المقاييس في التهتك والفجور والإباحية والتفنن في ذلك إلى حد جعل بعض العقلاء يلقبها بمومس العالم أو مزبلة الرذيلة، وفي اللحظة الأخيرة وجدنا هذه الدول تثوب إلى رشدها وترجع إلى الدين للمرة الأولى منذ العصور الوسطى التي يقولون، لأنه المنقذ الوحيد من الشر الذي ثار غباره في الفق. وليس ببعيد ذلك الذي صرح به الوزير الفرنسي الجديد يوم أن أشار إلى أن معظم الأزمات الاقتصادية والسياسية التي تعانيها فرنسا الآن إنما ترجع إلى الانهيار الخلقي واستشراء وباء الفسوق في تلك البلاد.
ولقد تجاوب صدى هذه الدعوة في دول أخرى مماثلة، ورأينا - ونحن نكتب هذه السطور - إيطاليا نعم إيطاليا، يقرر مجلس (شيوخها) إلغاء البغاء في جميع البلاد الإيطالية بأغلبية مشرفة!
أجل! تعود الأمم الأبية التي تريد الحياة الحرة إلى الدين منقذ الإنسانية الأمين لأنها أشرفت
على الفناء ولابد لها من ذلك طائعة أو مكرهة لأن الحياة أهم من كل اعتبار آخر.
وإن في هذه العودة وفي مناداة الشيوخ الإنجليز وأتباع الإنجليز في أحرج أوقاتهم هذه إلى التمسك بذاك المبدأ لدرساً جليلاً يلقيه أولئك الشيوخ الكبار وهم أعرف الناس بسره. فهل تنتفع به الأمم الصغيرة وتستغله - لا في الحيز الضيق الذي يريد الشيوخ القضاء عليه وهو الشيوعية وحدها - ولكن في الحيز العام الذي يشمل الشيوعية وغير الشيوعية من صور العدوان والاستعمار جميعاً.
نرجو ذلك كما نرجو أن تطغى نخوة السيادة ونزعة البقاء فينا على كل طمع أو تكاسل أو نسيان!!!
إبراهيم البطراوي