المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 862 - بتاريخ: 09 - 01 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٦٢

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 862

- بتاريخ: 09 - 01 - 1950

ص: -1

‌الوضع اللغوي وهل للمحدثين حق فيه؟

يذكرني موضوع الوضع وهل للمحدثين حق فيه بطائفة من البديهيات كان المعلمون الطيبون يكلفون بها تلاميذهم، كفضائل العلم، ومحاسن الأدب، وفوائد الثياب، فيكتبها التلاميذ على أنها واجب يؤدى، ويقرأها المعلمون على أنها جمل تصحح. والواقع أني سألت نفسي حين اقترح علي هذا الموضوع: ما الفرق بين سؤالنا هل للمحدثين حق في الوضع وسؤالنا: من الذي يملك على التراث حق الانتفاع به وحق التصرف فيه؟ الميت الذي ورَّث ثم غاص في أعماق العدم، أم الحي الذي ورث ولا يزال يضطرب في آفاق الوجود؟ أو سؤالنا: من الذي يملك أن يزيد في اللغة أو يهذب منها وهي وسيلة الفهم والإفهام؟ اللسان الذي سكت وبلى وانقطعت أسبابه بالحياة، أم اللسان الذي لا يزال يتحرك ويلغو ليسمي كل وليد تضعه القريحة، ويعبر عن كل جديد تخلقه الحضارة؟

أليست الأجوبة عن هذه الأسئلة هي من نوع ذلك الكلام الذي كان يمتحن به عبقريات الأطفال في سنيهم الأولى؟

إذن ما الذي سوغ أن يكون مثل هذا الموضوع من الموضوعات التي أقرها المجمع لتلقى في المؤتمر؟ سوغه أن الحق في الوضع اللغوي على وضوح الرأي فيه، كان عقبة من العقبات التي أقامها المجمع لنفسه بنفسه وذلك إن المجمع وهو وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة وقوالبها الموروثة أن يزيد عليها وينقص منها ويغير فيها، ولكنه يعطل مختاراً هذه القدرة التي لم يؤتها غيره باستشارته القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقره. واستشارة الماضين في شؤون الباقين مع تبدل الأحوال وتغير الأوضاع وتقدم العلوم وتفاوت العقول واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة. فلو أن معالي رئيس المجمع استشارهم مثلاً فيما ينقل من كتب أر سطو لقال له ابن فارس وهو من رجال القرن الرابع:(زعم الناس أن علو ما كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجددت منذ زمان قريب، وترجمت وأصبحت منقولة من لغة إلى لغة؛ وليس ما قالوا ببعيد، وإن كانت تلك العلوم بحمد الله وحسن توفيقه مرفوضة عندنا).

ولو أن معالي وزير المعارف استشارهم مثلاً في البعثات التي يبعث بها في طلب العلم إلى أوربا وأمريكا لقال له الشيخ محمد عليش مفتي المالكية في أواخر القرن الثالث عشر في

ص: 1

رسالته التي رد بها على عالم من علماء الجزائر أفتى بجواز لبس القبعة للطلاب المسلمين الذين يطلبون العلم في فرنسا ما نصه: (تقرر في شريعة الإسلام أن السفر لأرض العدو للتجارة جرحة في الشهادة ومخل بالعدالة فضلاً عن توطنها وطلب العلم بها. والمقرر في شريعة المسلمين أن المطلوب تعلمه من أقسام العلم، العلوم الشرعية وآلاتها وهي علوم العربية، وما زاد على ذلك لا يطلب تعلمه بل ينهى عنه. ومن المعلوم أن النصارى لا يعلمون شيئاً من العلوم الشرعية، ولا من آلاتها بالكلية، وأن غالب علومهم راجع إلى الحياكة والقبانة والحجامة وهي من أخس الحرف بين المسلمين، وقد تقرر في شريعتهم أنها تخل بالعدالة).

عرض المجمع الموقر لمسألة التعريب وهي مسالة حلها الشعر القديم والقرآن الكريم والسنة الصحيحة والدول المتعاقبة والطبيعة التي تنشئ الأمم بالتوالد والتجنس، والحضارة التي تسد عوزها بالأخذ والاقتباس؛ ولكن المجمع رأى مع كل أولئك أن يستفتي فيه المتقدمين فقالوا:

- لا يملك التعريب إلا من يملك الوضع

- ومن الذي يملك الوضع؟

- يملكه العرب الذين يعتد بعربيتهم

- ومن هم العرب الذين يعتد بعربيتهم؟

- هم قوم محصورون في حدود معينة من المكان والزمان لا يتعدونها؛ حدودهم المكانية شبه جزيرة العرب على تفاوت بينهم في درجات الفصاحة. وحدودهم الزمانية آخر المائة الثانية لعرب الأمصار، وآخر المائة الرابعة لأعراب البوادي. هؤلاء الذين تنزل عليهم وحي اللغة، وألهموا سر الوضع، فكلامهم حجة، وأقوالهم حكمة، وصوابهم قاعدة، وخطأهم شذوذ، وضرورتهم مقبولة. .

- أذن من نكون نحن؟

- طبقة مولدة فقدت أهلية الأصل فلا ترتجل، وأضاعت مزية الفرع فلا تشتق. إنما تتكلمون ما تحفظون. فإذا وقع لكم ما لم يقع للعرب الخلّص من الأعيان والمعاني فعبروا عنه بأي لسان تشاءون ولا شأن لنا به.

ص: 2

ولقد كان لنا أيها السادة غُنية عن هذه الفتوى بحكم الرسول صلوات الله عليه حين سمع أن منافقاً نال من عروبة سلمان الفارسي فدخل المسجد مغضباً وقال: (يا أيها الناس، إن الرب واحد، والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي). ونحن بحمد الله نتكلم العربية ونحرص عليها ونتعصب لها ونريد أن نهذب منها ونزيد فيها.

وكان بحسبنا في تزييف قول ابن فارس: (ليس لنا اليوم أن نخترع ولا أن نقول غير ما قالوه، ولا أن نقيس قياساً لم يقيسوه) قول فيلسوف العربية ابن جني: (ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب)، ولكن القدماء رووا قول الرسول؛ ووعوا قول ابن جني، وسمعوا كثيراً من نحو ذلك، ثم ظلوا متبلدين يهابون الوضع ولا يقطعون فيه برأي. وإذا حاولنا أن نعلل هذا اليبلد وتلك الهيبة كان أول ما يخطر في الذهن تلك القداسة التي أسبغوها على اللغة العربية لصلتها الوثيقة بالدين، فهي لغة القرآن والحديث، وأداة التحدي والإعجاز، ولسان الدعوة والخلافة، فالعناية بها عناية بكلام الله، والتعصب لها تعصب للغة الرسول، ولذلك وضعوا النحو والصرف، ورسموا النقط والشكل، واستنبطوا المعاني والبيان، وقطعوا بوادي الحجاز ونجد وتهامة ليسمعوا المناطق المختلفة، ويجمعوا الألفاظ الغريبة، فأخذوا أكثر ما أخذوا عن قبائل قيس وتميم وأسد، وتحاموا الأخذ عن الأعراب الضاربين على التخوم الموبوءة، وعن العرب المتصلين بالأجانب في التجارة.

فعلوا ذلك ليدرءوا عن العربية شبهة العجمة، ويبرئوها من تهمة الدخيل، وظنوا أنهم استطاعوا ذلك فقالوا: ليس في كتاب الله من لغة العجم، يتأولون بذلك قول الله تعالى (إنا جعلناه قرآناً عربياً) وقد جهدوا جهدهم في التماس الأصول العربية لجميع الكلمات الأعجمية، فجاءوا من ذلك بما لا يتفق مع فضلهم، كقولهم في الخندريس مثلاً، وهي تعريب خندروس باليونانية: (الخندريس: الخمر القديمة، واشتقاقه من الخدرسة ولم تفسر، أو من الخدر لأن شارب الخمر ربما أصيب به، أو من الخرس لأنه في حال السكر يصير كالأخرس!

وقد حاول مثل هذه المحاولة فقيد المجمع المرحوم الأب انستاس ماري الكرملي فكتب طائفة من الفصول في مجلته (لغة العرب) بعنوان (العربية مفتاح اللغات) رد فيها كثيراً

ص: 3

من الكلمات الإفرنجية إلى أصول عربية كقوله مثلاً: إن كلمة الفرنسية ومعناها الأحمق، مأخوذة من الكلمة العربية بأقل العي العربي المشهور، ويقول إن القاف في العربية تكون كافاً في اللاتينية وسيناً في الفرنسية؛ فإذا رددناها إلى اللاتينية وجردناها من الزوائد كانت باكول أو باقل. وقد افتعل عليه أدباء الشام والعراق طرفاً من مثل ذلك فزعموا أنه يقول إن (جرسون) أصلها العربي جار الصحون، خففت الراء والصاد ثم حذفت الحاء لعسر النطق بها.

ولقد غلا الأقدمون في تقديس اللغة العربية حتى أدعو أن واضعها الأول هو الله سبحانه، محتجين بقوله تعالى:(وعلم آدم الأسماء كلها) وهي حجة لا تنهض بدعواهم إلا إذا ثبت أن الأسماء التي علمها الله آدم كانت عربية. والذين فندوا هذا الرأي وقالوا إن اللغة اصطلاح لا توقيف، أكبروا هذه اللغة عن أن يضعها الأعراب والأوشاب والعامة، فتوهموا لها واضعاً لم يسموه ولم يعرفوه، وإنما تخيلوه منقطعاً في خيمته للوضع، كما ينقطع الناسك في صومعته للعبادة، فيذهب إليه الناس كما يذهبون اليوم إلى القصاب والبدال، يسألونه ما اسم هذا الشيء، وما لفظ هذا المعنى، فيجيبهم عما سألوا فيحفظونه وينشرونه. قال صاحب الخصائص:(إن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملها وتفصيلها؛ وعلم أنه لابد من رفض ما شنع تأليفه نحو هع وقج فنفاه عن نفسه).

وقال صاحب المثل السائر: (حضر عندي رجل من علماء اليهود بالديار المصرية، فجرى ذكر اللغات وأن اللغة العربية هي سيدة اللغات، فقال اليهودي: وكيف لا تكون كذلك وإن واضعها تصرف في جميع اللغات السالفة فاختصر ما اختصر وخفف ما خفف؛ فمن ذلك اسم الجمل، فإنه عندنا في اللسان العبراني (كوميل) فجاء واضع اللغة العربية وحذف من الكلمة الثقل المستبشع وقال (جمل) ولقد صدق في الذي ذكره).

هذه القداسة أيها السادة التي كسبتها العربية من القرآن والحديث، أكسبتها هي أيضاً العرب وجزيرة العرب في تلك الحقبة المحدودة. مصداق ذلك أن علماء المصرين البصرة والكوفة لم يدعوا في البوادي العربية بقعة ولا صخرة ولا نبتة ولا حشرة ولا وجهاً من وجوه الأرض، ولا ظاهرة من ظواهر السماء، إلا عرَّفوها ووصفوها وسجلوها، ورووا ما قيل

ص: 4

فيها من الشعر، وقصوا ما جرى عليها من الوقائع؛ ولم يتركوا من مناطق البدو ووسائل حياتهم ومظاهر اجتماعهم ومختلف عاداتهم لفظة ولا لهجة ولا حالة ولا أداة ولا لعبة إلا جمعوها ودونوها، حتى الكلمة الغريبة والعبارة المهجورة والصيغة المماتة، فإجتمع لهم من كل أولئك سجل محيط شامل فرضوه بفضل هذه القداسة على جميع المتكلمين بالعربية في العصور الأربعة والقارات الثلاث، فظلوا على رغم ما بلغوه من السلطان والعمران والمدنية والعلم والأدب والفن يستعملون أمثال البدوي وصوره وأخيلته ومجازاته وتشبيهاته وكناياته، فيقولون مثلاً: جاءوا على بكرة أبيهم، وألق دلوك في الدلاء، وقلب له ظهر المجن، وضرب إليه أكباد الإبل، وركب إليه أكتاف الشدائد، واقتعد ظهور المكاره، وأنبت حبل الرجاء، وضل رائد الأمل، وهو شديد الشكيمة، وله غرر المكارم وحجولها، وإن حلمه أثبت من ثبير، وأوقر من رضوى، وأوسع من الدهناء. ولو ذهبت أستقصي هذه الأوضاع وتلك التراكيب لما أبقيت في المعجم إلا المصطلحات التي فرضها الدين، والمعربات التي أقحمتها الحضارة.

ثم اعتقدوا أن اللغة قد كملت في عهد الرواية كما كمل الدين في عهد الرسالة، فختم الرواة السجل، وأغلق علماء اللغة باب الوضع، كما أغلق فقهاء السنة باب الاجتهاد، وتركوا الأمة العربية التي امتد ملكها من الهند والصين شرقاً إلى جبال ببرانس غرباً، تتعامل خارج البرصة، وتتجاوز حدود المعجم، كأنهم نسوا أن اللغة لا يمكن أن تثبت ثبوت الدين، ولا أن تستقل استقلال الحي، لأنها ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرساً وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء:

ترتب أيها السادة على إغلاق باب الوضع، وتخصيص حكم القياس، وتقييد حق التعريب، وإنكار وجود المولد، وطرد الأمة العربية بأسرها خارج الحدود، أن حدث أمران خطيران كان لهما أقبح الأثر وأبلغ الضرر في كيان اللغة وحياة الأدب.

الأمر الأول طغيان اللغة العامية طغياناً جارفاً حصر اللغة الفصحى في طبقات العلماء

ص: 5

والأدباء والكتاب والشعراء، يكتبون بها للملوك، ويؤلفون فيها للخاصة؛ وسيطر على حياة الأمة في شؤونها العامة وأغراضها المختلفة؛ لأن العامية حرة تنبو على القيد، وطبيعية تنفر من الصنعة؛ فهي تقبل من كل إنسان، وتستمد من كل لغة، وتصوغ على كل قياس، وبذلك اتسعت دائرتها لكل ما استحدثته الحضارة من المفردات المولدة والمقتبسة في البيت والحديقة والسوق والمصنع والحقل. والناس في سبيل التفاهم يؤثرون السهل، ويستعملون الشائع، ويتناولون القريب. وتخلف اللغة عن مسايرة الزمن وملاءمة الحياة معناه الجمود. والنهاية المحتومة لجمود اللغة اندراسها بتغلب لهجاتها العامية عليها وحلولها محلها، إذ تكون بسبب مرونتها وتجددها، أدق تصويراً لأحوال المجتمع، وأوفى أداء لأغراض الناس. وهذا ما حدث للغة اليونانية القديمة حين خلفتها اليونانية الحديثة، وللاتينية حين ورثتها الفرنسية والإيطالية والأسبانية. وهذا ما يحدث حتماً للعربية الفصحى لولا أنها لغة القرآن. واللغات السامية كما يقول (رينان) مدينة ببقائها للدين، فلولا اليهودية ما بقيت العبرية، ولولا المسيحية ما عاشت السريانية، ولولا الإسلام ما حفظت العربية.

والأمر الآخر حرمان الفصحى كل ما وضعه المولدون من الألفاظ، وما اقتبسوه من الكلمات؛ لأن اللغويين الذين أقاموا أنفسهم على أسرار اللغة مقام الكهنة على أسرار الدين، أبو أن يعترفوا بهذه الثروة اللفظية الضخمة لصدورها عمن لا يملك الوضع والتعريب بزعمهم، فحرموا اللغة مورداً ثراً كان يقيها الجفاف والذبول، ويؤتيها النماء والخصب. ولولا أن العلماء والمترجمين - وجلهم من غير العرب - تجاهلوا أوامر اللغويين في الوضع والتعريب لما استطاعوا أن ينقلوا إلى العربية علوم الأولين من فرس ويونان وهنود ويهود، ولما قال أبو الريحان البيروني في العربية:(وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة، وسرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة. والهجو بالعربية أحب إلى من المدح بالفارسية).

وقد أدى احتقار اللغويين للغة المولدين إلى احتقار الأدباء لأدب العامة. فكما أن أولئك لم يدونوا في معجماتهم الكلام المولد، لم يدون هؤلاء في مؤلفاتهم الأدب الشعبي. ولو أنهم دونوا أحسن ما دار على الألسنة في جميع الطبقات والبيئات من الأمثال والحكم والمجازات والكنايات والطرف لوفروا للغة الفصحى وللأدب العالي مورداً لا ينضب ومادة

ص: 6

لا تنفد. فإن العامة كانوا تسعة أعشار الأمة العربية وهي في أوج سلطانها، وأكثرهم أعقاب أمم مختلفة الجنسية والعقلية والعقيدة، دخلوا أو عاشوا في كنفه، واتخذوا العربية العامية لغة لهم أودعوها معانيهم وتصوراتهم، وأفضوا إليها بأسرار لغاتهم؛ فكانت أمثالهم تسير، وأقاصيصهم تحكى، ومصطلحاتهم تنقل، ومواضعاتهم تذيع. فإذا كانت الفصحى نهراً تجمع من أمطار، فإن العامية بحر تجمع من أنهار. والنهر إذا أخلفه الغيث غاضت منابعه وجفت مجارية، ولكن البحر إذا اخلفه رافد هنا أمدته روافد هناك.

ولست أذكر مزايا العامية لأهتف بها وادعوا إليها، وإنما ذكرتها لأقول إن سادتنا اللغويين وأدباءنا الأولين لو أنهم أزالوا هذا السد الذي جعلوه بين اللغتين لاكتسب الفصحى من العامية السعة والمرونة والجدة، واكتسبت العامية من الفصحى السلامة والصيانة والسمو، ولكان لنا من تداخل اللغتين وتفاعلهما لغة واحدة تجمع بين محاسن هذه ومحاسن تلك. فأما مساوئ الفصحى أو عنجهيتها فتموت كما يموت الحوشى المهجور من كل لغة. وأما مساوئ العامية أو حثالتها فتبقى على الألسنة التي تستذيقها من الطبقات الدنيا وتكون هي اللغة العامية التي لابد منها في كل لغة من لغات العالم؛ ولكن بالنسبة القليلة التي لا تطغيها على الفصحى ولا تفرضها على الناس.

سادتي: ي إن حق المحدثين في الوضع مقرر بالطبيعة فلا مساغ للنزاع فيه. وإن الذين أنكروه لم ينكروه بقول يناقش ولا حجة تسمع. إنما قولهم فيه أشبه بقولهم في كتابة المصحف. فقد قالوا لابد أن نكتب القرآن بالرسم الذي كتب به في زمن عثمان، فنكتب الصلاة بالواو ونلفظها بالألف، ونكتب والسماء بنيناها بأيد بياءين ونلفظها ياء واحدة، ونكتب لشيء بألف زائدة بين الشين والياء وننطقها بدونها. ولو كان هذا الرسم موحى من الله على رسوله لآمنا به وحرصنا عليه، ولكنه من عمل قوم كانوا قريب عهد بالخط فوقع فيه الخطأ والنقص والإشكال. والغرض من كتابة القرآن أن نقرأه صحيحاً لنحفظه صحيحاً، فكيف نكتبه بالخطأ لنقرأه بالصواب، وما الحكمة في أن نقيد كتاب الله بخط لا يكتب به اليوم أي كتاب؟ وإذا احتجنا في دفع هذه الأقوال إلى غير الوجدان فلن يصح في الذهان شيء كما يقول أبو الطيب.

بقي أن نعرف من هو المحدث الذي له الحق في الوضع. أهو فرد معين أو جماعة معينة

ص: 7

كما كان يظن الأوائل، أم هو كل فرد وكل جماعة يتكلمون العربية وتدعوهم الحاجة إلى وضع اللفظ للمعنى الذي ولدوه، وللشيء الذي أوجدوه؟ إن حق الوضع حق مطلق لا يتخصص بأحد ولا يتعلق بظرف، يملكه الفرد والجماعة، وتملكه الخاصة والعامة؛ فالعلماء يضعون مصطلحات العلوم، والرياضيون يضعون مصطلحات الرياضة، والأطباء يضعون مصطلحات الطب، والفقهاء يضعون مصطلحات الفقه، كما أن الصناع يضعون لغة المصنع والورشة، والزراع يضعون لغة الحقل والحظيرة، والتجار يضعون لغة الدكان والسوق، ومجمعكم الموقر يشارك هؤلاء وأولئك في الوضع والتعريب، ويختص جميعاً بالتسجيل والتصديق. فأيما كلمة توضع لا تدخل في اللغة قبل أن يسمها بميسمه ويدخلها في معجمه؛ وبدون ذاك نقع فيما وقع الأولون فيه من تعدد الوضع في المرتجل واختلاف الصيغ في المشتق.

وإذا سمحتم أيها السادة أن أجعل لهذه الكلمة نتيجة إيجابية فإني أتقدم إلى معالي رئيس المجمع باقتراح يشمل أربعة أمور أرجو أن يأذن في عرضها عليكم لتمحصوها وتصدروا قراركم فيها:

1 -

فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة وهي الارتجال والاشتقاق والتجوز.

2 -

رد الاعتبار إلى المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة.

3 -

إطلاق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، فإن توقف القياس على السماع يبطل معناه.

4 -

إطلاق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبناءين وغيرهم من كل ذي حرفة.

فإذا أقررتم هذا الاقتراح أيها السادة دفعتم معرة العدم والعقم عن هذه اللغة الكريمة التي سمعناها في القرن الخامس تصف ناقة طرفة فتسمى أعضائها عضواً عضواً، وتنعت أوضاعها وضعاً وضعاً، في 34 بيتاً من معلقته؛ ثم نراها في القرن العشرين تقف أمام سيارة فورد بكماء بلهاء، تشير ولا تسمى، وتجمجم ولا تبين. وأني أشكر لكم يا سادتي حسن التفاتكم وكرم إصغائكم؛ والله يهدينا الطريق ويلهمنا التوفيق.

ص: 8

أحمد حسن الزيات

ص: 9

‌ترجمة النشاشيبي بقلمه

لما أصدر صديقنا الأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي جريدته (البرهان)

في طرابلس الشام سنة 1911 واطلع عليها المرحوم إسعاف

النشاشيبي، وكان يومئذ في طور اليفاعة، راسلها بالأخبار وواصلها

بالمقالات، ولم يكن الأستاذ صاحب البرهان يعرف من أمره شيئاً،

فكتب إليه يشكره ويسأله التعريف بأمره، فأجابه عن سؤاله بكتاب

مسهب مؤرخ في جمادى الأولى سنة 1330 وصف فيه أمره ما كان

يحسن طي ذكره في ذلك الحين؛ أما اليوم وقد أصبحوا جميعاً في ذمة

التاريخ فلا ضير إذا نشرناه تفصيلا لما احملنا من أمره رحمه الله.

سيدي وأستاذي

اقبل يدك الطاهرة، وأتضرع إلى الله أن يشد أزرك، ويكون ردءك، ويبلغك ما تسمو إليه نفسك ويطيل بقاءك، فإن ببقائك بقاء الفضل والعلم والآداب. وبعد فقد جاءني كتاب الأستاذ أعزه الله وقرأته فأنست من كرم أخلاق صاحبه، وحدبه علي، وشغل باله من أجلي، ما شدهني وحيرني، وما استعبدني للأستاذ واسترقني. فلله أنت يا مولاي، ولله أدبك؛ يأمرني الأستاذ أن أفرش له دخيلتي، وأوضح له أسباب شقاوتي. فإنه رآني بكتبي إليه وبمقالاتي جميعها شقياً بائساً، حرج الصدر، ضيق النفس، مضطرباً. وهاأنا أسرد على سيدي قصتي، وعلة غصتي، مجملاً ذلك إجمالاً، إذ أمر التفصيل يطول.

فاسمع حديثي فإنه عجب

يضحك من شرحه وينتحب

إن سبب شقائي أدبي وأبي وأمي والمال. ذهبت منذ 11 سنة إلى بيروت، ودخلت مدرسة فيها، وأقمت أربعة أعوام. ثم جئت والدي وقلت له إني لم أظفر في هذه المدرسة بما تمنيته. فابعث بي إلى فرنسا أو سويسرا كي أتم ما ابتدأت به، وكي أتحلى بالعلم والفضل. فأكون فخراً لك. فاستحقر هذا الوالد مطلبي وأنكره. وأبى أن يوصلني إلى أمنيتي، وأراد أن أرى الدنيا بعينه وأنا لا أريد غلا أن أراها بعيني. وبغى أن أذر العلم وأدير أعماله وقراه. وبغيت أن أكمل تحصيلي، حتى إذا كمل اهتممت بأشغاله. وقلت له أن غلاماً

ص: 10

صغيراً عمره (17) سنة ليس من العدل ولا العقل أن تميله عن الدرس وتقسره على العمل. فلم يحفل بقولي ولا بمطلبي. وأخذ يضغط علي ويشد. ويريد أن يخلقني بأخلاقه. وأنا كلما ازداد ضغطه ازداد عنادي وإصراري على رأيي. فأنا ووالدي منذ سبع سنين في نضال وجدال، وشغب وصخب، بسبب هذا المشكل الذي لم يحل حتى يومنا هذا. ولوالدي بمقاومتي في أمر العلم والأدب غير ذلك الضغط فصول مضحكة جداً منها أنه يذهب إلى الجرائد التي تنشر في القدس ويافا فيتضرع إلى أصحابها ألا ينشروا لي شيئاً. ومنها أن وكيل (الأهرام) جاءه سنة يطلب منه قيمة اشتراكه، فدفعها له وقال له اقطعوا الجريدة. فسأله الوكيل لماذا؟ قال لأنكم تنشرون لولدي كل ما يبعث به إليكم. ومنها أن فريقاً ممن ظلم اليراع في سوريا وفلسطين يجد خير طريق لنيل الشهرة أن يطعن في ويسبني. فإذا قرأ والدي ذلك يركض إلي ويقول: أنظر إلى نتيجة العلم والأدب! ما نالنا منه إلا السب والشتم. ومن العجب أن الرجل متعلم متنور مطلع، وهو من الفذاذ في هذا اللواء، وممن يسعون في نشر العلم ويحضون الناس عليه، وينفقون في خدمته ما ينفقون. يريد أن ترتقي أولاد سواه ولا يريد أن يرتقي ولده الوحيد، وجناه في هذا العالم! وإذا لامه بسبب ذلك أحد يقول له إن العلم طريق للمال، فإذا نال المرء المال وجب أن يلهو به عن سواه. وإني كتبت لولدي من القرى والأملاك ما كتبت فيجب أن ينبذ ما هو فيه ويعكف على الشيء المفيد. وقد بينت لوالدي وللناس أن طلب العلم لا يعيقني عن غدارة أشغالي. وإن من يضيف إلى المجد المالي والمجد العلمي والأدبي لن يكون مجنوناً. وإن والدي يجب أن يحمد الله الذي شغلني بهذا ولم يشغلني بعشق الفتاة الفلانية الاسرائيلية أو المسيحية، والانغماس في الشهوات كما شغل سواي من أبناء السراة الأغنياء من عائلتي وغيرها الذين يعرفهم هو واحداً واحداً. كنت مع هذا الرجل في مشكلة واحدة فأبى الشقاء إلا أن يعقبها بأختها. فأراد والدي منذ ثلاث سنين أن يتزوج امرأة أخرى (وهو فوق الستين)، فجاءني وقال لي: ليس لي من ولد سواك، وإني أخاف الحوادث (يعني يخاف أن أفطس) فأريد أن أتزوج. فقلت له: تزوج أربعين امرأة. فهذا مما يسرني. لكن ارفع ضغطك وشدتك عني. فقد كدت تقتلني. فلما تزوج أكبرت أمي عمله، وأبت أن تسكن معه. فغادرت إكراماً لها دار أبي واستأجرت بيتاً حقيراً أو كوخاً. وسكناه معاً. فأسخط هذا العمل أبي، وأجبرني على أن

ص: 11

أعود وإياها فأبت وأبيت حذراً من الشقاق والصياح الذي يقع بين الضرائر (وسيدي سيد العارفين بأحوال المرأة والعائلة الإسلامية واضطراباتها). فازدادت حينئذ الشدة والمحنة حتى آثرت الانتحار (كنا في مشكلة واحدة فصرنا في اثنتين؛ والآن يأتي ذكر الثالثة). ولم يمض على ذلك سنة أو أقل حتى بدا لوالدي أن يطلب مني (وكالة عامة مطلقة) في المحكمة الشرعية بأملاكي جميعها (وأملاكي هو الذي كتبها لي، وأصل المال من الوالدة) فقلت: هذه هي الطامة الكبرى، ورفضت طلبه. عندئذ ازداد الضغط وازداد طغيان الوالد؛ فتذبذبت بين أمرين إما الانتحار، وإما السفر إلى أوربا ومغادرة هذه البلاد. فبعت قطعة أرض لي بثمن قليل ليوصلني إلى جنيف، ويكفيني سنة واحدة ثم قلت: يخلق الله مالا تعلمون. فلما علم بما أتيت عمل ما عمل

وكان ما كان مما لست أذكره

فظن شراً ولا تسأل عن الخبر

فتركته حينئذ وقطعت كل علاقة به واجتزأت بعشر ليرات أنفقها علي وعلى أمي. وقلت لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. وقد أحدث الله نصف أمر: فأنتخب والدي مبعوثاً، استفادت القدس بانتخاب والدي لأنها لن تجد خيراً منه على ما أظن، واستفدت أنا لأنه تركني فاسترحت قليلاً وتنفست. والحمد لله على كل حال. وهنا نكتة جميلة أذكرها لسيدي: لما فض مجلس المبعوثان اجتمع روحي بك الخالدي في ناد في الأستانة. فقال له أحد أصحابه: إنا نجد في الجرائد ذكر إسعاف النشاشيبي من القدس كثيراً ونطالع له ما نطالع، وأظنه يصلح للنيابة. فتبسم روحي من قوله، وقال إن إسعافا لم يجز له حتى الآن أن ينتخب المنتخب الثانوي فضلاً عن أن ينتخب مبعوثاً. هذا صحيح لكن إكراماً لذلك الرجل فقد أرسلت والدي للمبعوثان بالنيابة عني. . . هذه قصتي مع والدي أورسيل والد (ابن الزيات) الأديب الوزير، وهي مجملة كثيراً. ولو أردت التفصيل لطال الأمر جداً. ولا يظن سيدي أن والدي استأثر بهذه الخلائق الغريبة (وإن كان قد سبق بها غيره) فآباء الأسر (الشريفة) الماجدة في هذه الطبائع سواء. و (كل تراه من أبيه شاكياً) غير أن ألم كل واحد من الأبناء بمقدار شعوره وإحساسه وعقله.

يقول سيدي: الآن فهمنا قصتك فما السبب في الميل إلى (البرهان) إذ لكل شيء في الكون سبب. فأجيب إن للأستاذ المغربي استيلاء على نفس (إسعاف) غريب لم يستوله أحد سواه

ص: 12

والله. وقد كنت أطالع أقواله كلها على كرهي لقراءة أقوال المعاصرين. وأذكر أني أطلعت له في جريدة طرابلسية على فصل من كتابه (أحسن القصص) منذ تسعة أشهر أو أكثر أو أقل. وقد كنت قرأت التاريخ النبوي في كتب جمة، فلم أملك نفسي عن قراءة ذلك الفصل من أوله إلى آخره. ولقد وطنت النفس يوم سافرت إلى سوريا منذ سنتين على أن لا أحج إلى طرابلس لأرى فخرها. فحال دون ذلك مرض عراني وأنا في دمشق. وقد احتفي بي علماء دمشق وعلماء بيروت حين زيارتها احتفاء عظيماً إنساني أني أنا إسعاف، ذلك الغلام الصغير الحقير. ومن الذين غمروني بإحسانهم وأكرموا مثواي الأستاذ البيطار والقاسمي وكرد علي والشرتوني والبستاني وغيرهم، أكرموني وهم يعلمون كما علم الأستاذ أني أمي جاهل. لكن اتبعوا قول أديب خراسان في ذلك الزمان:

لا تعجبن من عراقي رأيت له

بحراً من العلم أو كنزاً من الأدب

واعجب لمن ببلاد الجهل منشأه

إن كان يفرق بين الرأس والذنب

علم سيدي ميلي إليه قبل إنشاء جريدته؛ فلما صدر (البرهان) وجاءني دون طلب مني، ورأيته ينظر إلى الحالة السياسية كما أنظرها أنا - ارتحت إليه أي ارتياح، وأنشأت تلك الكلمة ثم أردت أن أخدم (البرهان) بما يجب علي فعاق الذي عاق:

أهم بأمر الحزم لو أستطيعه

وقد حيل بين العير والنزوان

وكيف لا أجنح إلى خدمة أفضل جريدة في سوريا لأكبر كاتب سوري، وأنا أرى مثل جريدة المفيد (وهي كما يعلم سيدي ويعلم أصحابها) سخيفة لسخفاء، عامية لعوام، يقدم لها المنتدى الأدبي في الأستانة (500) ليرة عثمانية. كما أخبرني رئيس المنتدى نفسه يوم جاء القدس. وقد بينت له قدر الجريدة وقدر أصحابها فحوقل واسترجع. أنا يا سيدي لم أعتد مساعدة الجرائد ولا خدمتها، ولست مشتركاً غلا بالبرهان وفي جريدة أخرى بيروتية كان صاحبها وكيلي أيام كنت في بيروت. وأما باقي الجرائد التي تأتيني وهي قليلة فهي تقدمة من أصحابها. بيد أني أود مساعدة (البرهان) وخدمته لأني أهوى صاحبه. وأكبر دليل على أني أهواه أني أطلعته على ما لم أطلع عليه أحداً، وخاطبته في رسائلي بحرية عظيمة بما لم أخاطب به أصحاب (الجريدة) و (الأهرام) وغيرهم؛ بل لم يكن لي معهم علاقة، ولم أكن مشتركاً في جرائدهم ولم تكن تأتيني.

ص: 13

الآن مل الأستاذ وضجر من حوادث إسعاف أو حوادث تلماك وصاح: من أين جاءنا هذا القرد يسرد علينا مالاً يهمنا ومالاً يعنينا. حسبنا الله ونعم الوكيل على إسعاف وعلى فلسطين التي أخرجت هذا الولد. ولكن إذا علم أني ولد (والولد لا يعاتب) خف سخطه علي وربما خطر في باله بعد قراءة ما قرأ أن ينشئ مقالتين: (المقالة الأولى) الآباء والأبناء وعدم إتباع الآباء هذه القاعدة (لا تقسروا أولادكم الخ) و (الثانية) في أولاد السراة الأغنياء الذين أنعم الله عليهم فانغمسوا في الشهوات، وأعرضوا عن العلم والأدب مع أنهم أقدر الناس على تحصيلهما بما توفرت لهم الأسباب. فإذا عزم سيدي على كتابة ذلك فأتضرع إليه ألا يشير إلي وألا يجري لي ذكراً، فإن ذلك يضرني، كما أرجو ألا يطلع على هذا الكتاب سوى الأستاذ فإن فيه أسراراً عائلية كتمها واجب.

ولدكم إسعاف النشاشيبي

ص: 14

‌الحرية في المذهب الوجودي

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

الحرية في المذهب الوجودي من أهم وأخطر نظرياته. ولعلنا نستطيع أن نصفها بأنها العمود الفقري الذي تدور حوله كل فلسفات الوجوديين مهما اختلفوا بصدد المشكلات الأخرى. والفلسفة الوجودية إذ تنادي بهذه الفكرة إنما تريد أن تدع للإنسان فرصة التفكير في نفسه والرجوع إلى ذاته والاحتكام إلى رأيه الخاص في كل مشكلة تعرض له وفي كل موقف يتخذه بمناسبة من المناسبات. فمرد الإنسان إلى ذاته دائماً عند إتيان الأفعال وإبراز الحركات في الفلسفة الوجودية. ومن هنا تمحى كل آلية ويبقى الإنسان محافظاً على جدته وبكارته الأولى.

فالحرية بهذا المعنى تؤكد البدء دائماً، وبالتالي هي الجسر الدائم من اللاوجود إلى الوجود، من الإمكان إلى الواقع الحي. وننبه هنا بهذه المناسبة إلى شيء في غاية الأهمية، وهو أن الوجود الإنساني في حد ذاته لا يعد وجوداً ولا ينظر إليه بوصفه واقعاً، وإنما هو إمكان مطلق، فمجرد وجودي أنا إمكانية فحسب لا تتحول ولا تصير وجوداً ولا تتجسم في هيئة واقع إلا بعد أن أتحرك وبعد أن آتي جملة من الأفعال. فهذه الحركات وتلك الأفعال هي التي يتوقف عليها الوجود الإنساني الذي يكون حاصلاً بالفعل. وما دام من المستحيل على كل إنسان أن يأتي أفعاله من غير ارتكان إلى نوع الاختيار أو قل ما دام كل عمل يصدر عن الإنسان هو تصرف مبني على فكرة خاصة، كان للحرية أكبر مقام في نفس الإنسان وأخطر أثر في حياته. وواضح أن قيمتها لا ترجع إلى أنها طريقة في العمل ووسيلة إلى التأدية فقط، وإنما ترجع إلى ضرورتها بالنسبة إلى الحياة بأكملها. فالحياة لا يمكن إلا أن تكون فعلاً، والوجود هو وجود العمل والحركة. إذ ما قيمة إنسان حي مغطى بالتراب في باطن الأرض ما دام لا يقوى على العمل وإصدار الحركات وإتيان الأفعال؟ أو قل إذا افترضنا وجود إنسان مغمض العينين، ساكن الجسم، لا يصحو ولا يتحرك، ولا يؤذي ولا يطمع، ولا يمرض ولا يموت، ولا يتمنى ولا يطلب. . إلى آخر هذه الصفات الإنسانية؛ فهل يمكن أن نطلق كلمة الإنسان على هذا المخلوق؟ لا بطبيعة الحال، لأن الوجود وجود خصائص معينة وارتباطات قائمة وأفعال ظاهرة وحوادث في الخارج وليس مجرد وجود

ص: 15

لأشياء وحاجات، فالوجود وجود أفعال، والأفعال لا تحدث بغير اختبار، والاختيار قائم على إرادة حرة. . وبذلك ندرك خطورة الحرية في حياة الإنسان.

فالحرية على هذا النحو هي الفيصل بين وجود الإنسان وغير الإنسان؛ بل إن الحرية هي الإنسان في رأي سارتر. وإذا شئنا أن نبدأ بتحليل أولي لهذه الفكرة عنده فلا بد من الرجوع إليها في تفرقة وضعها (هيدجر) أولاً ثم توسع فيها جان بول سارتر بعد ذلك في كتابه المسمى بالوجود والعدم. ففي هذا الكتاب - وهو بمثابة الإنجيل في الوجودية المعاصرة - يذهب سارتر إلى أن هناك نوعين من الوجود: وجود الإنسان وهو الوجود لذاته، ووجود الأشياء وهو الوجود في ذاته.

والوجود لذاته - أي وجود الإنسان - هو الوحيد الذي يمتاز بين قسمي الوجود حسب تفرقة سارتر في خاصية التفريغ والانقسام على نفسه بحيث يصبر بعضه مقدماً أو معطى أو حاضراً بالنسبة إلى بعضه الآخر. فوجود الإنسان يتكون عادة من فرعين ويحدث بين هذين الفرعين نوع من الإحالة المتبادلة وشيء من التكيف الظاهر. أما الوجود في ذاته فلا يعرف الانقسام ولا يحدث فيه تجويف ولا يصيبه الفراغ. ولذلك نلاحظ أنه على الرغم من أنه كان يكون طبيعياً جداً ظهور العدم في طيات الوجود في ذاته، لا نكاد نجد له أثراً هناك ولا نكاد نعثر على شيء منه لديه، وتفسير ذلك تبعاً لنظرة سارتر خاصة أن وجود الأشياء لا يعرف الزمن أولاً ولا يدرك معنى الحرية ثانياً، أما الإنسان فهو وحده الذي يستطيع أن يحس بالحرية وأن يشعر بمدلولها ويفهم المراد منها.

وإذا تساءلنا عن السر الذي يجعل الإنسان من بين نوعي الوجود قادراً على استيعاب فكرة الحرية والتأثر بها فإننا نجده في هذه الظاهرة البسيطة والغريبة في آن معاً وهي أن الإنسان وحده من بين نوعي الوجود يحتوي على ما نسميه في الفلسفة بالعدم؛ بل عن العدم يضرب في بطن الوجود الإنساني بحيث يستفرق كيانه باجمعه، ويختلط بحياته على نحو يشعرنا بالرابطة الأصلية بين كل منهما. فالوجود بالنسبة إلى الإنسان خاصة عبارة عن إعدام كل ملامح (الوجود في ذاته) فيه، والتخلص من آثار الشيئية التي تداخل تركيبه. وعملية الإعدام هذه إنما تأتي من جانبين أو تحصل من جهتين: أولهما أن الإنسان يحاول دائماً ألا يجعل المكان الأسمى في نفسه للأشياء الجامدة التي يتركب منها ويسعى جهده من

ص: 16

أجل السيطرة عليها وتسييرها حسب إرادته ومشيئته، ولا يكون عبداً لها، خاضعاً لما تقتضيه ظواهرها، اعني بذلك أن الإنسان مكون من مادة؛ ولولا أن هذه المادة قد داخلت تركيب الإنسان لصارت في نطاق القسم الثاني، قسم الأشياء في ذواتها، ولذلك يحاول الإنسان ألا يجعل لها الأولية في تكوينه وأن يعدمها إعداماً ليخرج في النهاية بوجوده المعروف لدى البشر. وثانيهما أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحس بالوجود؛ وبالتالي هو الكائن الوحيد الذي يدرك معنى العدم، لأن العدم على خلاف ما نظن أو يبدو لنا من أول وهلة لا يعرفه إلا الموجود الذي يشعر بأنه موجود، لم يكن هناك عدم قبل الوجود، بل الوجود هو الذي كان، فكان العدم، فنحن نعرف العدم لأننا وجدنا ولو لم نوجد لما عرفنا دلالته ولا أحسسنا بماهيته، إذا فالوجود هو الأصل في الإحساس بالعدم والاهتمام بأمره، ولا عدم إلا بالوجود، وما دام المعدوم معدوماً فلا وجود هنالك، ولا عدم أيضاً بناء على ذلك، فالمعدوم لا يلم باسم العدم ولا يدل العدم عنده على شيء، فالإنسان يوجد، وساعة يوجد ينفذ إليه العدم ويخترق الصفوف نحوه ويبزغ أمامه في عقله وفي شعوره، ومن هنا نستطيع أن نقول عن العدم أنه وليد الوجود وإنه ناشئ عن حدوث ظاهرة الحياة.

والعدم النفسي هو الذي يهمنا إذا تكلمنا عن الوجود الإنساني لأننا لا نستطيع أن نتكلم عن العدم الحقيقي ما دام لم يدخل حتى الآن في تجربة واحد من البشر. وإذا شئنا تحديد مظاهره فإننا نستطيع أن نلمسها من ثلاث نواح:

أولاً: من ناحية إعدام الماضي

ثانياً: من ناحية إعدام الممكنات

ثالثاً: من ناحية العدم الذي يفصل بين الوجود وما هو عليه وبين الوجود وما يصير إليه، ومن هذه الإعدام الثلاثة سننتهي إلى الحرية وسنجد ثغرة ندخل منها إلى مفهوم الحرية كما ترد على لسان الملحدين الوجوديين خصوصاً.

فمن الناحية الأولى نلاحظ أن وجودنا في الحاضر لا معنى له إلا من حيث ارتباطه بسلسلة من الأفعال والحركات التي سبق إتيانها في حياتنا والتي سبق إلحاقها بتاريخنا الخاص، والعمل في الحاضر إنما هو عمل من أجل إبعاد الحاضر وزحزحته عن مكانه وإسقاطه من دائرة الوجود. ولذلك نستطيع أن نحكم على كل فعل من الأفعال بأنه متوقف على انعدام ما

ص: 17

سبق فعله وانتهاء مرحلة من مراحل الحياة أنتهاءاً كلياً. فالحاضر متوقف على أنقضاء الماضي. ويعتمد على الفراغ الذي يحدثه استبعاد جانب من الجوانب. ولكنك مع ذلك تحكم حريتك في كل لحظة زمنية تمر بك وفي كل فترة تنقضي عليك، ولا مناص من استخدام الحرية في كل فعل من الأفعال التي تعلن انقفال الماضي وتشييع أحداثه وحاجته، فأنت في كل لحظة تريد أن ترفع الماضي من طريقك لتضع جديداً وكلما أتيت على محاولة من هذا القبيل، لإحلال الجديد محل القديم، اضطررت اضطراراً إلى استعمال الحرية. وإلا فكيف يمكنك أن تأتي فعلاً من الأفعال؟ إن الإنسان بطبيعة تكوينه مضطر أن يكون حراً كما يقول سارتر، بل أنه لا يملك الحرية في ألا يكون حراً. وإذا تمثلت الحرية المقضي على الإنسان بها أو التي حملها الإنسان في شيء من الأشياء فإنما تتمثل في الأفعال التي يأتيها والأعمال التي يندفع نحوها من أجل تحقيقها.

وترجع أهمية الماضي بالذات في تقرير فكرة الحرية هاهنا إلى أنه الأصل الذي يؤدي بدوره إلى نوع من الالتزام. فكما أن إعدام الماضي يتمثل في قضاء فترة، يتمثل كذلك في تحطيم اللوازم ورفع الضوابط وإزالة القيود. فالماضي ضروري من أجل سير الحاضر ومن أجل تهيئة الحرية بإيجاد نوع من الالتزام الذي لا توجد حرية بغيره ولا تتوفر إرادة بدونه. فالقيد أو الالتزام ضروري لإيجاد الحرية لأن الحرية ستتضح من الوقوف وجهاً لوجه بازاء هذا القيد وذاك الالتزام والعمل على رفعه ومحوه وإزالته بالثورة عليه. يقول سيمون في تعليقه على هذه النقطة من فلسفة سارتر: ينبغي أن تنبعث الحرية الصحيحة في الفعل وفي التاريخ وهي لا توجد ما دامت محتواة في المشروع الذاتي للحكم والتأمل أيضاً، إنها تفرض التزاماً إذاً، ولكن الفعل ليس حراً تماماً إلا إذا كان ثورة على قوى العالم. . فالالتزام شرط ضروري للتصرف الإنساني الحر، بيد أنه ليس شرطاً كافياً إن الشرط الكافي هو الثورة التي هي روح للحرية.

والإنسان بازاء فعل من الفعال (وهذا يتبع النقطة الثانية) يتخذ أسلوباً خاصاً به وينتحي منحى لا يشاركه فيه سواه. قد يكون هذا متماشياً مع ظروفه وتابعاً لما تقتضيه مناسباته ولكنه مع ذلك يقحم حريته إقحاماً ويدخل إرادته إدخالاً يتمثل في عملية الاختيار: ويتخلل عملية الاختيار صعوبات كثيرة تشكك في أمره وتشعرنا بضعف مركز الحرية إذا قيس

ص: 18

إليها. ولكن شيئاً ما لا يجعلنا نؤمن بالحرية الإنسانية في عملية الاختيار قدر ما تجعلنا هذه الصعوبات نفسها نؤمن بها. لأن الحرية إنما تعرف بالحيلولة بينها وبين الوجود وبالعقبات التي تصادفها وبالموانع التي تبطل عملها أكثر مما تعرف بالانسياب المطلق والإرادة البريئة والاستقلال التام. إن الشعب المستعبد هو الذي يتحدث عن الحرية، والعبد وحده، من بين خلق الله، تجول بذهنه فكرة العمل الفردي البعيد عن المؤثرات والرغبات الأخرى. ويقول سارتر نفسه في مقال له بعنوان جمهورية الصمت في الجزء الثالث من كتابه (المناسبات) الذي ظهر أخيراً: لم نكن قط أكثر حرية مما كنا تحت ظلال الاحتلال الألماني حيث فقدنا كل حقوقنا وبالتالي فقدنا حق الكلام، فقد كانوا يشتموننا في وجوهنا كل يوم، وكان ينبغي علينا أن نسكت. وكانوا ينفوننا جماعات جماعات كالعمال والمعتقلين السياسيين. وكنا نجد في كل مكان، على الحوائط وفي الصحف وفوق شاشة السينما، تلك الوجوه القذرة الباهتة التي حاول مستعمرونا أن يعطوها لنا عن أنفسنا. وبسبب هذا كله كنا أحراراً.

أرأيت إذا إلى هذه الحرية الغريبة عند سارتر. إنها تتوقف كما ترى على الحوائل والموانع أكثر مما تتوقف على الأنفكاك والطلاقة. إنها حرية تنبئ على الوضع القائم ولا تجنح إلى الخيال. وتنبع من صميم الوجود الحاضر المتمثل في الظواهر المحيطة والأشياء المجتمعة. لقد سبق أن قلنا عن المعدوم أنه لا يعرف العدم وأن الميت لا يدري قط معنى الموت؛ أما الحي فهو عالم تماماً بالموت ومدرك تماماً لمدلوله، وكذلك هنا نستطيع أن نقول عن الحرية أنها لا يعرفها إلا العبيد والمأسورون والمحاطون بالقيود والحواجز.

وهذه الحرية، بالإضافة إلى ذلك، قائمة على أساس اختيار غاية من الغايات وانتقاء هدف من الأهداف، وبكلامنا في هذا العنصر وتوضيحنا لهذا المعنى سنقرر أولا كيفية استكمال ما قصدناه في النقطة الثانية، وسنبدأ ثانياً بالحقائق والشروح التي تتضمنها النقطة الثالثة. فأنا حين أختار غاية دون غيرها من الغايات آتي على فعل واضح كل الوضوح بالنسبة إلي وهو أنني قد آثرت شيئاً على سواه. وينبغي أن نلاحظ هنا الفارق الكبير الموجود بين عملية الاختيار وبين عملية الانتقاء. فهذا الأخير عبارة عن تفضيل شيء بحكم فائدته المرجوة ونفعه المنتظر، وبحكم امتيازه من ناحية القيمة الكامنة فيه واللذة التي تعود من

ص: 19

ورائه على صاحب الشأن. أما الاختيار فلا ينصب على الأفضل وإنما ينصب على الأوفق مهما كانت درجة انحطاطه وسخافته ومهما بلغ من التفاهة في أنظار الناس الاختيار بريء من الغرض وخال من المنفعة وقد يكون من ورائه ضرر أي ضرر. ولذلك نباعد بينه وبين التفضيل والانتقاء؛ ونذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن الاختيار أكثر التصاقاً بالحرية ما دام ينبني على أخطار أكثر وعلى مآزق أشد وعلى مجال أضيق. ثم إنني في الاختيار بغير انتظار لمنفعة وبدون أمل في كسب أنشد غاية من الغايات وألغي ما عداها. فأحس بأنني حددت من وجودي مرة واحدة بلا مقابل وانصرفت إلى جانب واحد أعيشه وأجلب ممكناته. وفي الوقت نفسه أعدمت بيدي سواها من الغايات حيث لا ضمين لي على حسن الاختيار ولا شفيع لي عندما تؤدى إلي أدنى وضع وأخس درجة.

فحسب النقطة الثانية نواجه الغايات فنعدمها إلا واحدة وفي هذه الفعلة نحن نحصر أنفسنا في نطاق واحد ونعدم ما عداه فتكون الحرية عند الاختيار متوقفة على العدم المتمثل في عملية الإعدام هذه أي ذلك العدم الذي ينزل بساحة الغايات الأخرى التي لم تقع عليها الخيار. أما حسب النقطة الثالثة فنذهب بعيداً لننظر في العدم الذي يحول بيني وبين تحقيق الغاية التي أخترتها، إن الدافع والفعل والغاية تكون لدى سارتر شيئاً واحداً متصلاً وتعد في نظره كلاً ملتحماً. وهذا عادي جداً في نظر الفيلسوف الذي لا يعترف بالتجزئة في الشيء ما دام من الممكن استكماله في الزمن. إن الزمن حقيقة. يعمل الفيلسوف حسابها ولا يخشى من الحكم عليه بأنه ينظر في أمور لا وجود لها. لقد كان أر سطو مهتماً خصوصاً بالبحث في العلة الغائية ولم يخش تقول القائلين ومزاعم الناقدين الوضعيين من أبناء هذا العصر الحاضر. وكان يريد ألا ينظر إلى الوسائل إلا من خلال الغاية ولا يتطلع إلى الأجزاء إلا من نوافذ الكل المكتمل وإذا كان هذا دأبه فلا بد من الشعور بأن المستقبل على الرغم من أنه في جوف العدم، يحتوي على حقيقة وجودية هامة هي حقيقة الغاية التي نعمل على تحقيقها بالوسائل المختلفة والأدوات المتباينة. فالغاية ليست بمفردها ولا تقوم بمعزل عن الفعل والحافز في فكرة الحرية تبعاً للنظرة الوجودية الفلسفية. ولكن لا يعني ذلك أن الغاية موجودة وجوداً واقعياً؛ إذ أن العدم يفصل بينها وبين الوجود الوقتي في اللحظة الحاضرة. فالحرية عند سارتر تتعلق بالغاية، والغاية بعيدة عن الواقع بقدر ما يبطلها العدم أو بقدر ما

ص: 20

يرفضها الوجود؛ وإذا تحققت صارت واقعاً وتمت الحرية. ولهذا تتصف الحرية بالخلق وتتصف بالامعقولية في آن معاً لاستحالة الوقوف على المستقبل بصورة أكيدة ولصعوبة التعرف الموثوق به على منبع الإمكانيات المتدفقة في الوجود الثر.

وهكذا ننتهي من التخطيط المتافيزيقي لفكرة الحرية حسبما تمثلت في فلسفة سارتر خاصة وعند إضرابه من الوجوديين المحدثين. ولكن لهذه الفكرة في المذهب الوجودي تخطيط آخر من الجانب الأخلاقي البحت سنحاول أن نبحثه في مناسبة قادمة. وكل ما نتمناه هو أن نعطي صورة واضحة عن هذه الأصول الفلسفية لدى الغربيين حتى نستكمل مقوماتنا الروحية وحتى نضع الدليل الدامغ على أننا نستطيع أن نناقش ونستطيع أن نؤمن مهما كانت درجة الخطورة في الأفكار المنقولة من شمس الأصيل في حضارة الغرب.

عبد الفتاح الديري

ص: 21

‌جان دارك

(1412 - 1431)

سيظل اسم جان دارك مقروناً بالإعجاب والدهشة إلى الأبد، لأن هذه الفتاة البسيطة أنفذت في حياتها القصيرة عملاً جليلاً يعد من معجزات الدهر. وهي بذاتها وحدة من عناصر العظمة، وقائدة حيث نسي معنى القيادة، وإلهام في جيل إنعدم فيه الإيمان، ومنقذة لبلادها من وهدت الضياع.

وجان دارك رمز خالد للمحاربين الفرنسيين الذين عملوا معها على خلاص بلادهم من يد الأنجليز، وهي للفرنسيين الوطن الذي له يحيون ومن أجله يموتون، وهي في نظر الإنجليز ليست أقل من ذلك. ويقترن الاحترام المطبوع في نفس كل إنسان لجان دارك بالعار الذي لطخ الإنجليز به التاريخ بإحراق هذه الشهيدة القديسة ولا سيما إذا علمنا أن سبب إعدامها هو تخليص وطنها. ولتعجب عندما تعلم أن تسليمها إلى يد معذبيها كان بواسطة مواطنيها من أجل ثلاثين قطعة فضية بيعت بها.

وتتلخص قصة هذه البطلة في أن فرنسا كانت تحت حكم الإنجليز، وكان الملك في عهدها معتوهاً يطلق عليه الفرنسيون (ملك البورج) تهكماً وسخرية؛ لأن منطقة البورج هي كل ما بقيت له مما ورثه عن آبائه العظام. وكان حال الأمن في فرنسا على أسوأ ما يكون. فإلى جانب اعتداء جيش الاحتلال كان نهب قطاع الطرق وسلب اللصوص. وتعطلت الأعمال في نصف الأراضي الفرنسية بما عليها من كنائس جميلة البناء وقرى مستقرة بزرعها وصناعاتها بينما كان ولي العهد محاطاً ببطانته السيئة يحيا حياة فراغ وكسل وإهمال.

ومن هذه الصورة التي رسمتها لك قامت لنجدة فرنسا فتاة قروية لا شأن لها إلا رعاية أغنام أبيها وقطعانه، أو تطريز أقمشة للكنيسة بمساعدة أمها. وكان قلبها ملآن بالورع والتقوى تتخيل وهي أمام القداس أنها ترى الضوء المعكوس على زجاج نوافذ كنيسة دومرمي كأنه نصر مزدهر للأيمان والوحي اللذين لم تستطع أن تفهم كنههما بأكثر من أنهما هبة من الله القدير. وكانت عذراء دومرمي تستمع إلى قصص الحرب وأهوالها في أبناء وطنها وسلب أراضي بلادها، وقوى أثر هذه القصص في نفسها فملأها قوة وحماسة. وتحول إيمانها الذي أكسبتها الكنيسة إياه إلى ما يشبه الوحي المنزل عليها من السماء.

ص: 22

وتخيلت أنها ترى قديسون يزهون في لباسهم الأبيض الناصع ينادونها أن خلصي فرنسا، بل لقد أفزعتها يوماً أصوات تحدثها وهي منفردة في حديقة دارها (يا ابنة الله، إلى الأمام وأنا معك). أنصتت لهذه الأصوات وهي مأخوذة خائفة، وأصبحت تحيا في عالمين أحدهما بيئتها والثاني السماء والقديسون والملائكة. واعتقدت أن الله يوحي إليها. وهكذا رسخت هذه العقيدة في نفسها إلى آخر يوم في حياتها.

ومن هذا الأيمان الغامض الذي لا يمكن تفسيره بانت معجزتها. ولسنا إزاء الحقائق التي حصلت على يدها بقادرين على إنكارها، فإنها قلبت التاريخ رأساً على عقب. ولم تبلغ هذه العذراء سوى ستة عشر سنة عندما نهضت لخلاص فرنسا وتثبيت عرش ملك مزعزع وطرد الإنجليز ومنح بلادها روحاً جديدة جعلتها بين مصاف الدول الكبرى. وبدأت مخاطراتها العظيمة مسلحة بالأيمان بالله، ولم يستطع أحد إرجاعها عن عزمها بل لم يجد غضب أبيها ولا إغراؤها ولا السخرية منها بل ولا حرمان الكنيسة شيئاً لردعها عن تصميمها، وصرح لها أبوها بأنه يفضل إغراقها في نهر الميز على أن يراها تعتلي صهوة جواد بجانب الجند. وعندما قابلت حاكم المدينة وطلبت إليه تقديمها إلى ولي العهد لتبليغه رسالتها طردها مشيعاً إياها بالسخرية، وعندما اجتمع الحاكم بعمها وقسيس الكنيسة تداولوا في شأنها فلم يسع القديس إلا أن يطلب إلى الله أن يبعد عنها الأرواح الشريرة.

ولكن لله حكمة: يختار أبسط الأشياء ليحير به الألباب. وفي النهاية تم النصر لجان إزاء إصرارها، فإن حاكم فاكولير أرسلها مع جنديين إلى البلاط في شبنومرتدية ملابس الفرسان، وسافرت مع رفيقيها أحد عشر يوماً في طريق غير مأمونة، فكانوا ينامون النهار ويسيرون الليل اجتناباً لمصادمة الفرق الإنجليزية الجوالة، ويخوضون الأنهار حتى لا يدخلوا المدن. وكانت تتمتم وهي سائرة (مهد الله السبيل إلي فإني خلقت لهذا) حتى بلغوا البلاط حيث كان يقضي الملك شارل السابع أيامه وسط المهرجين والمنافقين.

وكانت جان ترى أن الملك الطيب هو الذي يكرس حياته لأسعاد بلاده ومع ذلك أرادت أن تثبت عرش شارل السابع وهو مجرد من كل فضيلة لأن تثبيته تثبيت للملكية وهي أساس نظام الحكم في فرنسا.

أرادت أن يخلص أمر فرنسا ليد ولي العهد ليسير بها إلى المجد عن طريق جديدة غير

ص: 23

التي سلكها أبوه، وأن يبدأ هذه الطريق بتتويجه ملكاً أمام جميع الفرنسيين - وبعد انتظار يومين مثلت بين يديه. ومما لاشك فيه أن هذه المقابلة كانت مثاراً للغرابة والتسلية. وسارت العذراء القروية التي كانت تجهل كل من قابلتهم في البلاط إلى حيث الملك وركعت أمامه وقالت مشيرة إلى ولي العهد بارك الله في حياتك، فابتسم ولي العهد وقال لها: لست أنا الملك ها هو جلالته. فأجابته، أيها الأمير الرقيق، انك هو وليس غيرك، أرسلني إليك ملك السماوات لأبشرك أنك ستتوج ملكاً في ريمس. ثم همست في أذن الملك شارل بكلمات عدها فيما بعد برهاناً ساطعاً على ولائها وصدق إلهامها.

كان الملك في أول الأمر تحت تأثير عاملين: أحدهما نوع من الهيبة من هذه الفتاة الغريبة التي جاءته وفيها قوة مقدسة؛ والعامل الآخر هو السخرية والتهكم اللذان قابل بهما كل فرد مطالبها الغريبة. ولكن الأمر انتهى بانحياز الملك إليها وأعلن أن جلالته اقتنع بقداسة الفتاة وأنه قرر الانتفاع بها.

وكان الجيش الإنجليزي محاصراً لأورليان وساداً الطريق إلى ريمس؛ فكان أول أوامر الفتاة طرد الفصائل الإنجليزية من خطوطها ورفع الحصار. وأعطيت علماً أبيض ذهبياً مرسوماً عليه صورة المسيح فكانت طوال أوقات انتصاراتها تحمل هذا العلم، وأتى إليها بسيف لم تستخدمه مطلقاً من وراء محراب تصورت أنه أوحى إليها به؛ فكنت تراها صورة مقدسة في لباسها الأبيض تجتاز على جوادها الطرق منتصرة كأنها رسالة الله إلى وطنها.

وتقرر تنصيبها قائدة على رأس الجيوش الملكية. وفي أبريل من سنة 1429 سارت بجيشها إلى أورليان حيث طلبت من الإنجليز - بأمر الله القاهر - مفاتيح المدن التي استولوا عليها عنوة واقتداراً ورجت منهم الخروج من البلاد، وأعلنت في حالة عدم تصديقها (أنها ستقيم ثورة في البلاد لم تعرفها فرنسا منذ آلاف السنين).

وسخر منها المغتصبون وأجابوا على طلبها بأن الأجدر بها الرجوع إلى مهنتها: حلب الأبقار ورعاية الأغنام. ولكن كان في هذه الراعية إلى جانب إيمانها الثابت برسالتها صفة القيادة، وكانت أكثر من مساعديها من القواد عرفاناً بالواجب الملقى على الجيش، فأندفع الجنود والمتطوعون متأثرين بروحها فيهم إلى الحصون الإنجليزية واستولوا عليها وارتد

ص: 24

الأعداء هاربين وقد انكسرت قوتهم، وأزيل الحصار الذي لزم لإقامته سبعة أشهر في ثمانية أيام؛ وأصبحت جان دومرمي بطلة أورليان.

أذيعت أخبار هذا النصر في كافة أرجاء فرنسا، وكانت لغرابتها غير مصدقة بل قوبلت في البلاط بنوع من الخوف والريبة. ولما طلبت جان إلى ولي العهد أن يتبع الانتصار بالسير إلى ريمس أجاب بأن في الوقت متسعاً لهذا فردت عليه قائلة: تنبأت أني (سوف لا أعيش غير سنة واحدة فأستغل وجودي) ولقد صدقت النبوءة فإنها لم تعش غير عام واحد وأي عام!! ففي طريقها إلى ريمس سلمت مدينة تروس بمجرد ظهورها أمام أبوابها ثم سقطت شالون. ولما كانت هذه المدينة لا تبعد إلا قليلاً عن دومرمي سار إليها جيرانها ليتأكدوا من صحة كل ما سمعوه عن عذرائهم.

ولم تستمر الغزوة أكثر من ستة أسابيع امتاز كل يوم فيها بالنصر المبين، وركب شارل إلى ريميس حيث توج ملكاً في كنيستها، رمز فرنسا الروحي - وركعت جان المنصورة أمامه صائحة وعيناها مغرورقتان بالدموع:(لقد تم ما أراده الله).

ولو قدر لقصتها أن تنتهي إلى هذا الحد؟ ولكن القدر فرض عليها أن لا تكون خاتمة بطولتها في كنيسة ريمس بل في كنيسة روان بعد سلسلة أثيمة من الغدر والهزيمة والفزع إذ حكم عليها بالموت الشنيع. وتفصيل الخبر أن جان قررت العودة إلى قريتها وفي يدها المكافأة الوحيدة التي طلبتها وهي إعفاء قريتها من الضرائب ولا تجد سجلات ضرائب مدن وقرى فرنسا أمام قرية دومرمي إثباتاً لدفع الضرائب مدة ثلاثمائة وستين سنة.

إذن نجحت جان في عملها. وحركت نشوة النصر في نفوس قواد الجيش رغبة في التوغل. وترددت جان لأول مرة منذ خروجها من قريتها في قبول هذه الرغبة وتهيبت التوغل المطلوب فلقد أتمت ما أملاه عليها وحيها وهو لا يطرق صوته أذنها الآن، إلا أنها واصلت الغزوات معتزمة تخليص باريس. وسلمت لها سواسون وكذلك شاتوفيري. ومن الغريب المدهش أن الملك شارل الخبيث الذي قامت جان بهذه الأعمال من أجله عقد اتفاقاً سرياً مع أعدائه خان فيه جيشه؛ ففي الوقت الذي كاد يتم فيه تخليص باريس استدعى قواده وترك جان وحيدة في غير معين.

حتى هذه اللحظة لم يستطع أعداء فرنسا هزيمة جان إلا إن إهمال الملك إياها غير من

ص: 25

حظها فقد هبط ميزان الإخلاص لها ولكنها ظلت برغم هذا الغدر موالية للبلاط. ذهبت إلى كنيسة سانت دنيز وألقت عن نفسها لباسها الحربي وتركته على هيكل الكنيسة واندمجت في البلاط مدة قصيرة مخلصة له فلما رأت أن لا محل لها به هجرته.

لا بل إنها مدت يد المساعدة من جديد إلى هذا المخلوق المسكين الذي أهملها وهي توجته وذلك في كامبين حيث حلت به ورطة كادت تفقده حياته فأسرعت إليه وألفت فصيلة للسعي إلى تخليصه. وفي أثناء هجوم غير منظم أحاط بها الأعداء فسقطت عن جوادها وقبض عليها ثم بيعت إلى الإنجليز مقابل دراهم معدودة.

لم يمد أحد يده لنجدتها. نعم إن سكان المدن الذين خلصتهم بكوا من أجلها ولكن فرنسا الرسمية لم تحرك ساكناً بينما أشعلت باريس المشاعل وأخذ أهلها يغنون فرحين لأن جان قيدت بالسلاسل وأودعت قفصاً من حديد، وفي روان أخرجوها من قفصها وشدوها إلى عمود يحرسها الجند ليلاً ونهاراً يتجسسون عليها، ثم واجهوها في كنيسة صغيرة في معقل روان بقضاة عينوا لمحاكمتها.

وليس هناك إنجليزي واحد لا تخجله هذه الصفحة من تاريخ إنجلترا. ولو عذرنا الإنجليز فيما فعلوه بجان لأنها عدوة لهم يرون فيها ساحرة ذات دهاء وخبث وقوة وإصرار فما الذي نقوله عن مواطنيها أنفسهم الذين تخلوا عنها وباعوها ثم قعدوا ساكنين لا يتحركون يشاهدون أدق فصل من فصول مآسي التاريخ كما يشاهد المتفرج قصة بسيطة على مسرح التمثيل؟

وكان لا بد من محاكمة جان دارك بتهم وضعوها لها وأحاط بها القضاة كما تحيط الذئاب الكاسرة بالحمل الوديع مصممة على الفتك به. هددوها بالتعذيب وأمطروها وابلاً من الأسئلة ولكنها رغم كل ذلك بقيت على إنكارها للتهم التي كيلت لها.

وفي النهاية أخبروها أنها لو وقعت على ورقة تقر فيها أنها مذنبة قاتلة لا يحكمون عليها بالقتل، فأجابتهم متحدية أنها لا تخضع لأمرهم ولو رأت النار مهيأة لها - وأخيراً بعد أن ذاقت جان مر العذاب أخذت المسكينة تستعطف قضاتها معلنة إليهم أنها امرأة ضعيفة كسر قلبها طول العذاب والتهديد بالنيران. ولم يجد استعطافها شيئاً أكثر من زيادة التعذيب فخضعت لهم بدافع حب الحياة وتأثرت بصياح الشعب فيها (هل تودين الموت يا جان؟ ألا

ص: 26

تنجين نفسك؟).

ووقف كوشون وفي يده ورقتان مخطوطتان عليهما جملتان أحدهما السجن المؤبد إذا خضعت لما طلب إليها؛ والثانية إحراقها لو ظلت على إنكارها. فلما قدمها إليها للتوقيع على أحدهما وقعت على الأولى وخط كاتب الجلسة وهو جيلبرت مانشون على هامش الورقة هذه الكلمات (وفي آخر الحكم قالت جان تحت تأثير الخوف من الإحراق بأن عليها إطاعة أوامر الكنيسة).

حصلوا على مبتغاهم فأرسلوها موثقة إلى سجنها. فلما رأت نفسها وحيدة عاودتها شجاعتها فأعلنت أنها لم ترتكب أي جرم وإن كل ما قالته كان خوفاً من النيران؛ إلا أن صراخها ذهب هباء وتقرر إحراق العذراء البريئة التي كانوا يخشونها في قلوبهم.

وتبع الجنود الإنجليز العربة التي حملتها إلى السوق القديمة في روان حيث أعدت لها النيران، وصفت الكراسي على الأفريز جلس عليها الأساقفة لمشاهدة حفلة إحراقها وخطت إليهم طالبة صليباً إلا أن أحداً منهم لم يجرؤ على إعطائها إياه.

وأوقدت النار، وتطلعت جان لآخر مرة إلى العالم الذي ملأته نصراً وإعجاباً فظهرت وعليها مسحة نبيلة هي قوة مقدسة من وراء العالم وتخيلت أنها تسمع الأصوات التي اعتادت سماعها تكلمها من قلب النيران وصاحت (قد كنت أضنني مخدوعة) وهذه هي آخر جملة فاهت بها - وجمع أسقف وينشستر رفات جسدها المحروق ونثره في نهر السين وحلقت روحها العظيمة فطمست عار الذين حولها وقسوتهم. وترى اليوم تمثال جان دارك الذهبي مواجهاً لأسقفية وينشستر في كاتدرائيتها وستظل إلى الأبد رمز المثابرة والوفاء والشجاعة النادرة وطهارة القلب - وإذا كانت قلوبنا تتفطر حسرة على نهاية هذه البطلة المحزنة إلا أن هذه النهاية تتوج من غير شك قصتها العجيبة.

عبد الرحمن فهمي

ص: 27

‌الشعر المصري في مائة عام

للأستاذ سيد كيلاني

الدور الأول 1850 - 1882

3 -

أساليبه وألفاظه

كانت أساليب الشعر في هذا الدور ضعيفة ركيكة مبتذلة، وتراكيبه سقيمة تكاد تكون عامية، وذلك نتيجة لانحطاط الشعر في الأجيال السابقة، وبعد الشعراء عن دراسة آثار الفحول الذين ظهروا في عصور الرقي والازدهار. ومن أمثلة هذا الضعف قول صالح مجدي:

وأختص كلاً بقانون فترجمه

بسرعة وبيان واضح الكلم

فقوله (بسرعة) مما يجري على ألسنة العامة.

وقول عبد الله فكري:

وفي علم مولاي الكريم خلائقي

قديماً وحسبي شاهداً مخلصاً براً

فعبارة (وفي علم) سوقية محضة.

وقال الليثي:

فإن مصاباً حل قد حل وانقضى

ونحن بما يأتي نسأم ونشغل

فصدر هذا البيت مما تنطق به الدهماء.

وقول أبى النصر:

ومني عليكم كل يوم تحية

وسائراً أحبابي الكرام ذوي المجد

كذا جملة الأخوان شرقاً ومغرباً

متى سألوا عني ولو أخلفوا وعدي

وهذا من كلام الأميين. والأمثلة على ذلك كثيرة يتبينها كل من رجع إلى دواوين هؤلاء الشعراء.

وترى كثيراً من تراكيب شعراء ذلك الدور مضطربة، حتى أنك تجد مشقة في قراءتها. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:

كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى

وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا

فالاضطراب ظاهر في قوله (توجه وجهة) وفي قوله (الكبرى وكبر، والكبرا) ولا شك في

ص: 28

أن الإنسان يتعثر في تلاوة هذا البيت ويمل من ترديد الكلمات المتشابهة في اللفظ.

وقول صالح مجدي:

سمت روضة الأنس الجمالية التي

بها الصدر إسماعيل ذو الدولة اعتنى

والاضطراب في البيت كله ظاهر لا يحتاج إلى بيان.

وقول أبو النصر:

هو الشهم إسماعيل إن رمت وصفه

تجده بجيد المجد واسطة العقد

فعبارة (تجده بجيد المجد) ينفر منها الذوق وهي من أثقل التراكيب على اللسان.

وقوله:

نرجوه إنجاز اصلاح الشؤون عسى

يصفو به الملك دانيه وشاسعه

والضعف في صدر البيت أظهر من أن يدل عليه.

وقول محمد سعيد:

وأقبل عيد العود بعد انتظاره

بيمن له العلياء بالأنس تفتر

وقد اشترك شعراء هذا الدور في استخدام كلمات معينة. ومثال ذلك كلمة (شهم) التي وردت في معظم قصائد المدح. قال رفاعة:

في كفه سيفان سيف عناية

والشهم إبراهيم سيف ثاني

وقال إبراهيم مرزوق:

ويبيد العدى بسطوة شهم

لا يباريه هاصر في جلاد

وقال أبو النصر:

هو الشهم إسماعيل إن رمت وصفه

تجده بحيد المجد واسطة العقد

وقال علي فهمي:

والخديوي المليك أول شهم

بخطا حاضر المخاطر أنذر

وهكذا لم يجد الشعراء أمامهم غير هذه الكلمة مع أن اللغة العربية غنية بالمترادفات.

واشترك معظمهم في استخدام تعابير خاصة، مثل (وكيف لا).

قال الليثي:

وكيف لا وخديو مصر ألبسها

ثوباً من الطول مأموناً من القصر

ص: 29

وقال:

وكيف لا والخديو فيك قد سطعت

أنوار آلائه الغر الجسيمات

وقال علي فهمي:

وكيف لا تتحلى بالمدامع أف

واه روت عنه أيام الحياة حلى

وقال محمد سعيد:

وكيف لا وهو لما أن تداركها

بالعدل لاشك صار الآن محييها

وقال صالح مجدي:

وكيف لا ومقالاتي أدلتها

غنية فيك عن نص بتصديق

وعبارة (وكيف لا) كانت تستخدم بكثرة في النثر في ذلك الدور فانتقلت منه إلى الشعر وجرت على ألسنة الشعراء على نحو ما بينا. وغني عن البيان أن نقول إنها ليست من التعابير الشعرية.

وكانوا يكررون عبارة معينة في جملة أبيات. ومثال ذلك قول محمد النجار:

واليوم ترفل في ملابسها التي

حسنت ويبسم ثغرها المتضوع

ثم كرر قوله (واليوم) في سبعة أبيات:

وقال أحمد عبد الغني:

ولا وقت الجلوس على القهاوي

ولا وقت التغافل والتغابي

ثم ردد عبارة (ولا وقت) في سبعة أبيات.

وقال سليم رحمي:

حيث البرنسات والنظار قد شرفت

أقدارها بمقام منه محمود

ثم أتى بكلمة (حيث) في خمسة أبيات.

وقال إبراهيم مرزوق:

أبني أما الصبر عنك فما أمر

لكن رضيت بما به المولى أمر

ثم ذكر عبارة (أبني) في خمسة أبيات

وهذا النوع من التكرار مقصود. وقد أتى الشاعر به طوعاً واختياراً لأمر في نفسه. ولكن هناك نوع آخر من التكرار قد اضطر إليه شعراء هذا الدور اضطراراً، وأرغموا على

ص: 30

الوقوع فيه، وذلك لإفلاسهم وخلو جعبتهم من المادة اللغوية. ومثال ذلك قول عبد الله فكري:

مشير صدق بحزم الرأي قد عرفت

أفكاره بين باديها وخافيها

لا تنثني عن صواب الرأي رغبته

لرهبة كائناً ما كان داعيها

فذكر في البيت الأول (حزم الرأي) وفي البيت الثاني (صواب الرأي) فالظاهر أن الرجل لم يجد أمامه في هذا المقام غير كلمة (رأي). وقد جاء بهذه الكلمة في مطلع القصيدة فقال:

رأى الخليفة فيه رأي حكمته

وللملوك صواب في مرائيها

رآه أجدر أن يرعى رعيته

وأن يقوم بما يرجوه راجيها

فهو بهذا قد استخدم كلمة واحدة في ثلاثة أبيات. وفضلاً عن ذلك فإنه أتى بالفعل (رأى) وهو مشتق من الرأي وذكر كلمة (مرائي) وهي من نفس المادة. وكل هذا في قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتاً.

وقال أبو النصر:

فهو المليك الذي عمت مآثره

وفائض الجود من جدواه إمداد

المفرد العلم الأسمى علا شرفاً

وفاض بحرفكم ترجوه وراد

كالغيث جاد بما يغني الأنام بلا

من، فجدواه إنجاز وإيجاد

فاستخدم كلمتي (فائض) و (فاض) وهما من مادة واحدة. وكرر كلمة (جدوى) وأتى بالفعل (جاد) وهو من كلمة (الجود) المذكورة في البيت الأول وهذا ضعف لغوي لا يحتاج إلى بيان.

واستخدم بعضهم كثيراً من الكلمات الفرنسية والتركية. ومثال ذلك قول صالح مجدي:

وعند صياح الديك قام مودعاً

فقمنا وودعنا وقلنا له (مرسي)

وقوله في وصف إحدى القلاع:

فكم بسنيون ثابت الأصل محكم

يلوح بهاتيك الحصون المهمة

وقوله:

منه طوبجية تبيت الأعادي

من تعدى نيرانها في عديد

وكبورجية لها كل فخر

في جميع البقاع بين الجنود

وقوله:

ص: 31

والدودكجي مع الترنبيت ناغا

هـ البروجي وزال عنا صدود

وبعذب الألحان غنى المويسي

قي فتاقت إلى غناه الكبود

وبذكر السعيد دندن فإشتا

ق إلى مدحه البليغ المجيد

وأجابت (بجوق يشا) في دعائها

للخديو رعية وجنود

وقوله:

وإذا الأوجيان حلوا بأرض

لعدو ضاقت عليه الحدود

وقوله:

والدراغون في الميادين تزهو

كزهور الرياض وهي أسود

واستخدموا كلمة (تياتر) الفرنسية فقال سلامة النجاري:

(تياترها) يبدي تواريخ من مضى

بحسن بيان لا يرام مناله

وأوردوا في شعرهم كلمة (بال) ومعناها الرقص. وبدلاً من أن يقولوا (مرقص) قالوا (ملعب بال).

قال رفاعة الطهطاوي:

وملعب (بال) بالحسان منعم

عيون غوانيه تغازل بالفتك

واستخدم رفاعة كلمة (سنيور) بدلاً من السيد وذلك في قوله:

وكم من فتاة فيه سكرى بلا طلا

يراقصها (السنيور) لطفاً مع السبك

واستخدموا كلمة (فابريقة) وفوريقة. وأطلقوا على السفن البخارية اسم (أبور البحر) وعلى القطار اسم (أبور البر) واستعملوا (بريد كهربائي) للتلغراف.

قال رفاعة:

وبريد كهربائي

وحيه لمحة أعين

وأطلقوا على آلة تنقية المياه ورفعها إلى المنازل اسم (وابور المياه) قال رفاعة:

ووابورات مياه

كجبال النار تدخن

وأرادوا أن يضعوا اسماً يدل على توصيل المياه إلى المنازل. فاهتدى صالح مجدي إلى كلمة (تقاسيم) قال:

وأما تقاسيم المياه فنفعها

عميم ومنها للعباد مراحم

ص: 32

وقد تخلص الليثي من هذا المأزق بقوله بعد أن ذكر بعض مظاهر الحضارة:

وسائل النيل يجري في شوارعها

له على كل باب أم تذليل

فاستخدم عبارة (سائل النيل) وبهذا حل الإشكال. وأطلقوا على القضبان التي يسير عليها القطار اسم (أخاديد الحديد) و (طرق الحديد) قال صالح مجدي:

أما أخاديد الحديد فإنها

قد انتشرت للقطر فيها مغانم

وبصنعها سكك الحديد مديدها

أضحى لوافر نفعها ما أقصره

وقال علي فهمي رفاعة:

علمت بذا طرق الحديد فأطرقال

وأبور رأساً جد في ارعاده

وقال أبو النصر:

وأمد بالطرق الحديد صعيده

والسلك في أخباره كل المنى

وأراد بالسلك (التلغراف).

ويلاحظ أن كثيراً من هذه الكلمات كان يستخدم في النثر. ولم يجد الشعراء بداً من استخدامها في الشعر بيد أن بعضهم رأى أنها تفسد النظم فتعصب ضدها ولم يذكر منها شيئاً في قصائده. ومن هؤلاء الساعاتي. وكان صالح مجدي وسلامة النجاري أكثر الشعراء إيراداً لمثل هذه الكلمات.

وكان من شعراء هذا الدور من يستخدم بعض الكلمات العامية. ومثال ذلك قول أحمد عبد الغني:

ولا وقت الجلوس على القهاوي

ولا وقت التغافل والتغابي

والصواب أن يقول (المقاهي).

وقد حافظوا على ما ورثوه من الأجيال المتقدمة من الحرص على الصناعة اللفظية واستخدام البديع بأنواعه المختلفة ولاسيما الجناس والطباق، وقد شاعت في هذا الدور التورية باسم الخديو (توفيق) ومثال ذلك قول الساعاتي:

بلغت (بتوفيق) العزيز مآربي

فبالغت في حسن الثناء تشكرا

وقول عبد الله فكري يمدح إسماعيل وشير إلى قانون الوراثة:

نهضت (بتوفيق) العلي ولم يزل

بعينك عون الله في حيثما تسري

ص: 33

وقوله:

أمر أمير المؤمنين أعاره

نظراً وأنظار الكبار كبار

فسرى به في مصر من (توفيقه)

نور ومن بركاته أسرار

هذا ما يمكن أن يقال عن أساليب الشعر وألفاظه في ذلك الدور.

محمد سيد كيلاني

ص: 34

‌الخطر اليهودي

بروتوكولات شيوخ صهيون العلماء

للأستاذ محمد خليفة التونسي

البروتوكول الثالث:

أستطيع اليوم أن أوكد لكم أننا على قيد خطوات من هدفنا، فلم تبق إلا مسافة قصيرة حتى تتم الأفعى الرمزية - شعار شعبنا - دورتها. وحينما تغلق هذه الدائرة ستكون كل دول أوربا محصورة داخلها بأغلال لا تنكسر.

إن كل الموازين البنائية القائمة ستنهار سريعاً؛ لأننا على الدوام نفقدها توازنها لكي نبليها بسرعة أكثر، ونفسد تأثيرها.

لقد حسب الأمويون (غير اليهود) أن هذه الموازين قد صنعت ولها من القوة ما يكفي، وتوقعوا منها أن تزن بدقة، ولكن القوامين على الموازين - أي رؤساء الدول كما يقال - مكبوحين بأذنابهم الذين لا فائدة لهم منهم، مغمورون بعيداً - كما هو شأنهم - بقوة أذنابهم المطلقة على تدبير المكايد (والدسائس) بفضل المخاوف السائدة في القصور.

وإذ أن الحاكم لم تكن له منافذ إلى قلوب رعيته - لم يستطع أن يحصن نفسه ضد مدبري المكايد المتطلعين إلى السلطة ولقد فصلنا القوة المراقبة عن قوة الجمهور العمياء، ففقدت القوتان معاً أهميتهما، لأنهما حينما انفصلتا صارتا كأعمى فقد عصاه. ولكي نغري المتطلعين إلى القوة بأن يسيئوا استعمال حقوقهم ألقينا العداوة بين القوى فأوقفنا كل قوة ضد غيرها، بأن شجعنا ميولها التحررية نحو الاستقلال. وقد شجعنا كل مشروع في هذا الاتجاه، ووضعنا أسلحة مرعبة في أيدي كل الأحزاب، وجعلنا القوة هدف كل طموح إلى الرفعة. وأقمنا ميادين تشتجر فوقها الحروب الحزبية بلا ضوابط (ولا التزامات)، وسرعان ما ستنطلق الفوضى، وسيظهر الإفلاس في كل مكان.

لقد مسخ الثرثارون المفلوتون المجالس البرلمانية والإدارية مجالس للجدل. والصحفيون الجسورون وكتاب الرسائل الجريئون يهجمون هجوماً متوالياً على القوى الادارية، وسوف يهيئ سوء استعمال القوة دون شك تفتت كل الأحزاب، وسيخر كل شيء صريعاً تحت

ص: 35

ضربات الشعب الهائج.

إن الناس مستعبدون، في عرق جباههم، للفقر بأسلوب أفظع من قوانين رق الأرض، فمن هذا الرق يستطيعون أن يحرروا أنفسهم بوسيلة أو بأخرى، على حين أنه لا شيء يحررهم من طغيان الفقر المطبق. لقد حرصنا أن نقحم حقوقاً للهيئات خيالية محضة، فإن كل ما يسمى (حقوق البشر) لا وجود له إلا في المثل التي لا يمكن تطبيقها عملياً. ماذا يفيد عاملاً أجيراً قد حنى العمل الشاق ظهره، وضاق بقضائه - أن يظفر ثرثارة بحق نشر أي نوع من التفاهات؟ ماذا ينفع الدستور العمال الأجراء إذا هم لم يظفروا منه بفائدة غير الفضلات التي نطرحها عليهم من موائدنا جزاء أصواتهم لانتخاب وكلائنا؟

إن الحقوق الشعبية سخرية من الفقير، فإن ضرورات العمل اليومي تمنعه أن يظفر بأي فائدة على شاكلة هذه الحقوق، وكل عملها أن تنأى به عن الأجور المحددة المستمرة، وتجعله يعتمد على الإضرابات والمخدومين والزملاء. وتحت حمايتنا أباد الشعب الأرستقراطية التي عضدت الناس وحمتهم من أجل منفعتهم الخاصة، وهذه المنفعة لن تفصل عن سعادة الشعب. والآن بعد أن حطم الناس امتيازات الأرستقراطية - يقعون تحت نير الماكرين من المستغلين والأغنياء المحدثين.

إننا نقصد أن نتظاهر كما لو كنا محرري العامل، جئنا لنحرره من هذا الظلم، حينما ننصحه أن يلتحق بطبقات جيوشنا من الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين، ونحن، على الدوام نحتضن الشيوعية، ونعززها متظاهرين بأننا نساعد العامل طوعاً لمبدأ الإخاء والمصلحة العامة للإنسانية، وهذا ما تبشر به الماسونية الاجتماعية (غير اليهودية). وإن الأرستقراطية الذين من حقهم مقاسمة الطبقات العاملة عملها قد أفادهم في هذه الحال نفسها أن هذه الطبقات طيبة الغذاء، جيدة الصحة، قوية الأجسام. وفائدتنا نحن في عكس ذلك، أي في ذبول الأميين (غير اليهود)، فإن قوتنا تكمن في أن يبقى العامل في فقر ومرض دائمين، لأننا بذلك نبقيه عبداً لارادتنا، ولن يجد فيمن يحيطون به قوة ولا عزماً للوقوف ضدنا. إن الجوع سيخول رأس المال حقوقاً على العامل أكثر مما تستطيع سلطة الحاكم الشرعية أن تخول الأرستقراطية من الحقوق.

إننا نحكم الطوائف باستغلال مشاعر الحسد والبغضاء التي يؤججها الضيق والفقر، وهذه

ص: 36

المشاعر هي وسائلنا التي نجتاح بها جانباً أولئك الذين يصدوننا عن سبيلنا.

وحين يأتي تتويج حاكمنا العالمي سنعتصم بهذه الوسائل كيما نحطم كل شيء قد يثبت أنه عقبة في طريقنا.

لم يعد الأمويون (غير اليهود) قادرين بعد على التفكير دون مساعدتنا في مسائل العلم. وهذا هو السبب في أنهم لا يدركون الضرورة الحيوية لأشياء خاصة سنمسك عن الإشارة إليها حتى تأتي ساعتنا، تلك أن الحق الوحيد بين كل العلوم وأعظمها قدراً هو ما يجب أن يعلم في المدارس، وذلك هو علم حياة الإنسان وعلم الأحوال الاجتماعية، وكلاهما يلتزمان تقسيم العمل، ومن ثم تصنيف الناس فئات وطبقات. وإنه لحتم أن كل إنسان سيعرف أن المساواة الحق لا يمكن أن تكون؛ ومنشأ ذلك اختلاف الطبائع لأنواع العمل المتباينة؛ وأولئك الذين يعملون بأسلوب يضر فئة كاملة تقع عليهم مسؤولية أمام القانون تختلف عن مسؤولية من يقترفون جريمة تؤثر في شرفهم الشخصي فحسب. إن علم الأحوال الاجتماعية الصحيح الذي لا نفشي إلى الأمويين (غير اليهود) أسراره - سيقنع العالم أن الحرف والأشغال يجب أن تحصر في فئات خاصة كي لا تسبب متاعب إنسانية تنجم عن تعليم لا يجاري العمل الذي يدعي الأفراد إلى القيام به. وإذا ما درس الناس هذا العلم فسوف يخضعون بمحض إرادتهم للقوى الحاكمة وهيئات الحكومة التي نظمتها. والجمهور في ظل الأحوال الحاضرة للعلم، والمنهج الذي سمحنا لهم بانتهاجه - يؤمنون عن عمى بالكلمات المطبوعة، والأوهام الخاطئة التي أوصينا إليهم بها كما يجب، وهي تنقل البغضاء إلى كل الطبقات التي تظن أنها أعلى مما تكون لأنها لا تفهم كفاية كل طائفة. وهذه البغضاء ستصير أشد مضاء حيث تكون الأزمات الاقتصادية مستحكمة، لأنها حينئذ ستعطل الأسواق والإنتاج. وستخلق أزمة اقتصادية عالمية بكل الوسائل الممكنة التي في متناولنا، وبمساعدة الذهب الذي هو كله في أيدينا. وسنقذف إلى الشوارع بجموع جرارة من العمال في أوربا دفعة واحدة، وستقذف هذه الكتل بأنفسها إلينا في ابتهاج، وتسفك دماء أولئك الذين من أجل غفلتها، تحمل لهم البغضاء منذ الطفولة، وستكون قادرة على نهب مالهم من ممتلكات.

ولن تستطيع أن تضرنا، لأن لحظة الهجوم ستكون معروفة لدينا، وسنتخذ كل الاحتياطات لحماية مصالحنا.

ص: 37

لقد أقنعنا الأمويين أن مذهب التحررية سيؤدي بهم إلى مملكة العقل. وسيكون استبدادنا من هذه الطبيعة، لأنه سيكون في موضع يمكنه من أن يقمع كل الثورات؛ وأن يستأصل بالعنف اللازم كل فكرة تحررية من كل الهيئات.

حينما لاحظ الجمهور أنه قد أعطى كل أنواع الحقوق باسم الحرية تصور نفسه أنه السيد، وحاول أن يفرض القوة. والجمهور ككل أعمى سواه - قد صادف بالضرورة عقبات لا تحصى، وإذا لم يرغب في الرجوع إلى المنهج السابق - وضع قوته تحت أقدامنا. اذكروا الثورة الفرنسية التي نسميها (العظمى)؛ إن أسرار تنظيمها التمهيدي معروفة لنا معرفة جيدة، لأنها من عمل أيدينا. ومنذ ذلك الحين ونحن نقود الأمم قدماً من خيبة إلى خيبة، فكان من ذلك أن نبذونا، من أجل الملك الطاغية من دم صهيون، وهو الذي نعده لحكم العالم.

إننا اليوم كقوة دولية - فوق المتناول، فلو أن حكومة أممية (غير يهودية) هاجمتنا لقامت بنصرنا أخريات.

إن المسيحيين من الناس، في خستهم الفاحشة، ليساعدوننا على استقلالنا وحريتنا حين يخرون أمام القوة ساجدين، وحين لا يرثون للضعف، ولا يرحمون في معالجة الأخطاء، ويتساهلون في الجرائم، وحين يرفضون أن يتبينوا متناقضات الحرية، وحين يكونون صابرين إلى درجة الاستشهاد في تحمل قسوة الاستبداد الفاجر.

إنهم ليتحملون على أيدي دكتاتوريهم الحاليين من رؤساء الوزراء والوزراء إساءات كانوا يقتلون من أجل أصغرها عشرين ملكاً. فكيف بيان حال هذه المسائل؟ ولماذا تكون الجماعات غير منطقية هكذا في نظرها إلى الحوادث؟ السبب أن المستبدين يقنعون الناس على أيدي وكلائهم بأنهم إن أساءوا استعمال قوتهم ونكبوا الدولة فما أجريت هذه الملكية إلا لعلة سامية، أي لبلوغ النجاح من أجل الشعب، ومن أجل الإخاء والوحدة والمساواة الدولية.

ومن المؤكد أنهم يقولون إن هذا الاتحاد لا يمكن بلوغه إلا تحت حكمنا فحسب، ولهذا نرى الشعب يتهم البريء والمجرم، مقتنعاً بأنه يستطيع دائماً أن يفعل ما يشاء، ومن أجل هذه الحالة العقلية يحطم الرعاع كل تماسك، ويخلقون الفوضى في كل شعبة وكل ركن. إن كلمة الحرية تزج بالمجتمع في عراك مع كل القوى حتى قوة الطبيعة وقوة الله. ولذلك كان

ص: 38

السبب في أنه - حين نستحوذ على القوة - يجب علينا أن نمحق كلمة (الحرية) من قاموس الإنسانية كأنها رمز القوة والوحشية التي تمسخ الشعب حيوانات متعطشة إلى الدماء. ولكن يجب أن ترتكز في عقولنا أن هذه الحيوانات تستغرق في النوم حينما تشبع من الدم، وحينئذٍ يكون من اليسير أن نسحرها ونستعبدها. إنها إن لم تعط الدم فلن تنام، بل سيقاتل بعضها بعضاً.

محمد خليفة التونسي

-

ص: 39

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية:

غاية الأخلاق عند أر سطو

للأستاذ كمال دسوقي

ما اسعد طلاب المسابقة بمقرراتهم هذا العام! فكلها - أو معظمها - من الكتب العامة، الهامة في الوقت نفسه، في عداد المراجع الفلسفية: الدراسات حولها كثيرة، والشروح والكتابات وافية غزيرة، وما على الطالب إلا أن يلقي بنفسه في لجتها ليستوعبها.

والكتب التحريرية - التي هي مجالنا في هذه المقالات حتى يوم الامتحان - من عيون الكتب الفلسفية كل في ناحيته، الأخلاق والعقائد، فضلاً عن أن كليهما لأحد مشاهير الفلاسفة عند اليونان وعند العرب، إن لم نقل أنه لأشهر فيلسوف يوناني وعربي على الإطلاق.

ولنبدأ أولاً بار سطو في (أخلاقه) النيقوماخية.

نتناول الفيلسوف أولاً، ثم نعمد إلى تحليل الكتاب، خصوصاً الجزء المقرر منه.

والمراجع العربية التي يمكن أن تفيد في الإحاطة بحياة الفيلسوف اليوناني ومذهبه - إذ يجب ألا تنقطع نظرية الخير من الأخلاق الأرسطية، ولا الأخلاق ذاتها من جملة المذهب الأرستطالي - أقول هذه المراجع العربية كثيرة، وإن كان يجب قراءتها بحذر وحيطة، والبدء باستيعاب النص المطلوب دراسته، ثم التنقيب بالشروح والتواليف الواردة حوله، وأخيراً وضعه في مكانه من الهيكل العام لفلسفة أر سطو؛ حتى لا يكون لهذه الكتب التفسيرية خطرها ومصادراتها على فكر الدارس، ألا يكون له رأيه ووجهة نظره الخاصة. وهو أهم ما يجب أن يحرص عليه طالب المسابقة.

ذلك - أيها الطالب النجيب - أن المسابقة سبق، ولا يحوز قصب السبق إلا الباسل المغوار الذي يجول بين الآراء ويصول، ثم لا يعدم - حين لا يكون له رأي خاص مستقل - ألا يفرق بين مختلف الآراء، فمهد نفسك لهذه الغاية النبيلة وهذا الفوز الكريم، ففي السباق يقاس بالأنف، وليس في الحياة أجمل من لذة النصر. .

أبدأ بقراءة النص المطلوب إليك دراسته، ثم أعد قراءته مرة ومرات، فسترى أنك في كل مرة تعيد القراءة تكشف من أمره جديداً، وتفهم أكثر من ذي قبل، (واستعن) واستعن على

ص: 40

فهم أر سطو بالتعليقات التي ذيل بها المترجم الفرنسي صفحات ترجمته، وهي المنقولة بين يديك إلى العربية، وأحمد معي - في هذا المقام - هذا الجهد الرائع المخلص الذي بذله - وما يزال يبذله - إمام الجيل وأبو الفلسفة أستاذنا لطفي السيد باشا في إخراج تراث أر سطو الفلسفي إلى العربية هذا الإخراج الجبار، الذي تعرضه دار الكتب المصرية في أجمل ثوب وأكمل صورة، فتجمع لها عظمة المادة والصورة، كما ترى في الكتاب الذي تقلب صفحاته، وهو واحد من جملة أسفار بعضها في ضعف حجمه، هي أهم ما لأر سطو من كتب: فإلى جانب الكتاب الثاني في الأخلاق المتمم لهذا، ثم كتاب الطبيعة، وكتاب الكون والفساد، وتحت الطبع الآن كتاب السياسة الكبير، كان الرجل - أطال الله بقاءه - يعمل فيه وهو وزير للخارجية يضطلع بمذكرات المفاوضات ونيابة رياسة مجلس الوزراء في عهد وزارة صدقي باشا ولورد استانسجيت، أفترون إخلاصاً للعلم واستغراقاً فيه أروع وأبلغ من هذا؟ أليس لكم في ذلك أسوة حسنة؟

ربما يؤخذ على هذا العمل العلمي الجبار مأخذ واحد، وهو أنه - على إخلاصه وأمانة النقل وحسن الأداء فيه - قد ظهرت ترجمتان فرنسيتان أدق من تلك التي نقل هو عنها. وما ذنب الكاتب الذي كان يترجم منذ 1920 ألا يتنبأ بما سيظهر بعدئذ من الترجمات لبعض كتب متفرقة؟ وهل ينبغي - انتظاراً للأحسن والأكمل - أن نقف عاجزين لا ننقل إلى لغتنا تراث الفكر الغربي وأر سطوا خصوصاً؟ إن ترجمة كتب أر سطو التي قام بها معالي لطفي باشا عمل جليل لا يحدث مرة في كل قرن، فلا ضير عليه أن يقال فيه ما يقال - فللعامل أن يعمل وينتج، وللعاجز أن يقف جامداً، ثم لا يملك إلا أن ينقد فالهدم أيسر من التأسيس والبناء.

ويشاء الله إنصافاً لصاحب هذه المهمة الجليلة أن يقفي على آثار المترجم الفرنسي بصاحبه المصري فيما ولى كلاهما من أمور الأستاذية وشئون الحياة، ليتشابها في معرض المقارنة في كل شيء كلاهما أستاذ لكرسي الفلسفة الإغريقية في جامعته هذا في الكوليج دي فرانس وذاك في الجامعة المصرية: وكلاهما ناقل أر سطو ومترجمه إلى لغته؛ هذا في الفرنسية وذاك في العربية، وكلاهما آخر الأمر وزير لخارجية بلاده: هذا في فرنسا وذاك في مصر؛ كما قلت في تقديم محاضرة ألقاها بكلية الآداب وهو وزير للخارجية.

ص: 41

فلتطمئنوا إذن إلى الترجمة العربية التي بين يديكم ترجمة معتمدة، وتعريب ثقة، وإن كان على الطالب المجتهد والباحث المخلص، أن يكمل موقفه دائماً بالرجوع إلى الأصل في اللغة الأوربية التي يجيدها - ولديكم في الإنجليزية والفرنسية ترجمات كثيرة متداولة، فأرجعوا إليها؛ فإذا كان لا بد لقارئ أر سطو أن يرجع إلى لغة ثانوية حين لا يجيد اليونانية - وقل من يجيدها حتى من كبار المؤلفين في أر سطو أنفسهم - فلتكن أقرب درجةً أو درجتين من الأصل، ففي كل تقريب أو تقرُّب من الأصل حسن (للفهم واختصار) لعقم الترجمة - أعني أنَّ من يقرأ أخلاق أر سطو - مثلاً، فهي موضوعنا هنا - في ترجمة سانتهيليز الفرنسية يكون في الدرجة الثانية، والذي يقرأها في العربية أقل درجة، أما قارئها في اليونانية ففي الدرجة الأولى - وأين هو إلا أن يمتَّ إلى اليونانية بسبب أقوى من مجرد الدراسة؟

ونعود إلى ما كنا بصدده قبل أن نستطرد هذا الاستطراد الضروري.

فإذْ قد فرغت من قراءة النص وهضمه واستيعابه في الكتاب المقرر، والصفحات المعينة؛ فأعمد إلى ترك الكتاب جانباً، وتناول بعضاً من الكتب التفسيرية في المذاهب الأخلاقية عامة، وفي مذهب أر سطو - وخصوصاً الأخلاق الأرستطالية - خاصة.

وأهم ما أشير به عليك في المكتبة العربية - ويؤسفني ألا يسمح وقتك وسلامة لغتك أن تقرأ عن أر سطو في الإنجليزية أو الفرنسية - هذه الكتب هي في درجة من الجودة لا بأس بها؛ بل إن بعضها ممتاز حقاً؛ فاستعرضها في يقظة وحذر.

أبداً أولاً بما جاء في كتابك المدرسي المقرر عن أر سطو - فاقرأه واستظهره، وفي ذلك فائدة مزدوجة، وأساس عام قوي متين؛ وإطار سوف تفرغ فيه معلوماتك وتحصيلك.

اقرأ بعد هذا عن أر سطو في كتاب كقصة الفلسفة اليونانية للأستاذين أحمد أمين بك وزكي نجيب محمود - ففيه عرض مختلف بعض الشيء لنفس المعلومات تقريباً - ولكن في أسلوب هو إلى الأدب أميل - والفلسفة تتطلب الدقة وإحكام التعبير، وإنما أشير بهذا الكتاب لأنه يهيئ لك انسياق الفكر، وانطلاق اللفظ، ليتصرف قلمك فيما حصلت بحرية وجرأة وشخصية - ومثل هذا الكتاب يحقق لك هذه الفائدة (ص112 - 277).

وثمة كتاب في العربية قائم برأسه موضوعه أر سطو، للدكتور عبد الرحمن بدوي، وهو

ص: 42

منهج لدراسة أر سطو أولى منه دراسةً كاملة أو مادة وافية، وتطبيق لهذا المنهج على بعض أجزاء الكتب الأرسطية يتكون من مذهب متكامل تقريباً، والجزء القليل الذي أورده عن (الأخلاق)(ص 255 - 264من الطبعة الثانية) كفيل بأن يثير بعض المشاكل في نظرية الأخلاق، وأن يوجهك إلى كثير من الاعتراضات.

إلا أن مرجعك الأهم الذي يجب أن تتلمذ له وتعول عليه هو كتاب: تاريخ الفلسفة اليونانية للأستاذ يوسف كرم - فهو كتاب قيم حقاً، تعتز به المكتبة العربية في الفلسفة، لما يتميز به من الإخلاص والوضوح والدقة في الأسلوب العلمي - وأر سطو فيه على درجة من الوفاء وحسن العرض قلَّ من يظفر بهما في مرجع عربي آخر.

وفي ربط نظرية الأخلاق الأرسطية بالنظريات الحديثة الأخرى؛ ارجع إلى كتاب المدخل إلى الفلسفة للعلامة أوزفلد كيلبه الذي ترجمه الأستاذ أبو العلا عنيفي إلى العربية - ففي فصول من هذا الكتاب تجد عرضاً واضحاً ومناقشات لكثير من وجهات النظر الحديثة في هذا الباب، وفيه ذكر بعض الفلاسفة الأخلاقيين من الإنجليز والألمان والهولنديين ومذاهبهم، يجب أن تلمَّ به وتقارنه بمذهب أر سطو لتربط مذهبه بما قبله وما بعده.

ولستُ في حاجة إلى أن أوجهك لما في مقدمتي المترجمين المصري والفرنسي لكتاب أر سطو - الذي بين يديك - من فائدة، الأولى في التعريف بأر سطو وكتبه، والثانية في عرض المذاهب الأخلاقية وتاريخها وفلاسفتها - على عادة سانتهيليز في كل ما ترجم لأر سطو، فما أحسب إلا أنك قد أقبلت على قراءة التصدير والمقدمة فأتيت عليهما قبل أن تشرع في دراسة الجزء المقرر من الكتاب.

فإذا وقفت على ما أشرت به عليك من هذه القراءات، فموعدي معك في الحديث عن أر سطو ونظريته في الخير والسعادة المقالُ التالي.

كمال دسوقي

ص: 43

‌أنات

الأستاذ عمر النص

// لا تراعي. . . تلك دنياي التي مات سناها

وامحت ألوانها الغر ورثت صفحاتها

تلك دنياي التي أبدعت بالأمس رؤاها

وسألت النور لا يبرح ما عاش فضاها

تلك دنياي التي عشت على وهم رقاها

خنقتها يقظة الجرح وسالت دماها

فإذ بالحلم المبدع قد جف وشاها. .

وإذا اليأس الذي حاذرت قد كان طواها!

عبثاً أسأل أن تحيا. . فقد حمَّ رداها. .

لطمتها قبضة الدهر وقالت: لن تراها!

تعبت روحي. . فمن يملأ بالرفعة حسي؟

من ترى يصغي إذا رتلت أناتي وهمسي

حين تغذى العين بالدمع. . فما تكتم يأسي

حين يأوى الطير للوكر ويطوي كل نبس

أرمق الأفق. . وفي عيني أسترجع أمسي

وتضل العين في الأفق وينأى بي هجسي!

عجباً. . تنكرني الأرض. . فمن يألف نفسي

أنا ضمآن فهل في الناس من يملأ كأسي

ليتني أستطيع أن أمحو بالأدمع بؤسي

إن أك الفجر الذي مر. . فلم تشرق شمسي؟!

تعبت روحي. . فما أبصر في الأرض طريقاً

سرب الوهم على الأفق. . فلم ألف صديقاً

الصبا ضاع مع القلب وقد كان رفيقاً

ص: 44

والرؤى جفت فما ألمح فيهن بريقاً. .!

أيها الآل على الرمل. . لقد زدت خفوتاً

أنت أغريت بي الشوق وفجرت العروقا

كلما خلتك ماء. . ردني الرمل مشوقا

عجباً أيتها الأرض لقد زدت عقوقاً. .

كلما قلت طفا اليأس جرى اليأس عميقاً

قدر أركن أن نام. . وأخشى أن يفيقا!

تعبت روحي. . فمن يحمل للروح عزائي؟

أنا ناي في فم الأيام قد جف غنائي

أنا شيخ لم يدع منه القضا غير ذماء

أثقلته وطأة الداء وبرحاء العياء

يقحم الدهر. . فيلقيه مدمى الكبرياء!

عجباً. . واليأس لا يرحم دائي. . ما بقائي. .؟

أنا لولا بارق الأمس تناسيت رجائي

وخنقت الشكوى فيَّ وأهرقت إنائي!

ويك يا نفس. . أما طال على الأرض ئوائي؟

لم أحيا. . والعذاب المرُّ ما زال غذائي؟!

لا تراعي. . فزمان الأنس قد مرَّ وحيا. .

وانطوى أمس. . فلم يترك سوى الذكرة ريَّا

عبثاً يسألني الدهر. . فما كنت نسيَّا. .

أنا أهواك وإن عشت مع اليأس مليا

أنا أهواك وإن لم يبق شيء في يديا

لا تراعي. . أنا ما زلت كما كنت وفيا!

فإذا أقبل الموت. . فلن أوقر عيا. .

سوف أسترجع في البال هواناً القدسيا

ص: 45

وأرى الجفن وقد أقبل أسوان شجيا. .

يطبق الهدب عليه. . ثم. . لا أبصر شياً!

عمر النص

ص: 46

‌أستاذنا محمود زناتي

للأستاذ محمود رمزي نظيم

قضيت وما في القضاء عجب

وللموت في كل نفس سبب

أرى الروح خير هبات الآل

هـ ومنها الحياة التي تستحب

وحسبك أن فناء الجسو

م خلود لأرواحنا يرتقب

وقفت أناجيك في الذاهب

ين وفي القلب قد شب وقد اللهب

يقولون محمود مات وما

أقام له صحبه ما وجب

إذا ما رثاه (إمام البيان)

وأثنى عليه (عميد الأدب)

وهذا يشار له بالبنان

وذلك في الكون فخر العرب

فكل فتى شاعر قد رثاه

وكل فتى ناثر قد كتب

وكان (الزناتي) عطر الندى

وكان مثار الحديث العجب

رزين وقور حمته الكرا

مة في ثوبها ونماه الحسب

تجلى بحلم يزين الرجا

ل ويصدف عن نزوات الغضب

أديب تخصص في الإطلا

ع وحصل بالفضل من قد ذهب

وأصبح مرجع أم اللغا

ت وقد صيرته (لسان العرب)

أمين على العلم يلقى ألحدي

ث كأن الحديث (شذور الذهب)

وقد كان يطرب للمنشد

ين وفيما يقول جماع الطرب

فيا مسمعي هل نسيت وهل

أعدت إلى فضله ما وهب

هو الآن تحت ظلال النع

يم وقد ضمه الخلد بعد النصب

فيا رب هذا حبيب النبي

وكل محب مع من أحب

أبو الوفاء محمود رمزي نظيم

ص: 47

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

نبضات قلب

هو قلب صديقي الشاب الأديب الطالب بإحدى كليات الجامعة وهو من البراعم الأدبية التي يرجى من نضجها ثمرات، كما ترى من رسالته هذه التي كتبها إلي، قال:

أكتب إليك وأطيل، لأن على شفتي بسمات تريد أن تنطلق بين يديك، ولأن بين جفني عبرات تريد أن تنسكب على راحتيك ولأن بين ضلوعي تختنق كلمات، وتحتبس أنات. .

وأسألك أن تقرأ كتابي على مهل. . على فراغ بال وهدوء حال. وقد يبدو الأمر في أوله تافهاً، وقد يبدو مسلياً، وقد لا يبدو تافهاً ولا مسلياً. . تعروه مسحة الجد تخضبه آية الصرامة وإن الموجة لتملأ عرض البحر إذا وقع فيه حجر، ومعظم النار من مستصغر الشرر. وهاأنذا أنثر مكنوني قبل أن يستشري فيستعصي، عساك تطب له بمبضعك. وأظن أنه لا يخفى عليك الآن أنها أعراض حب - يا طبيب النفوس - ولكنها أعراض اختلطت علي حتى حسبتني منها معافى. . فسرت في طريقي لا أحنف عن الجادة، حتى ارتطمت بصخرة الحق الصليبية، فرجعت أدراجي، تولول في جانبي الحيرة، وتفهق في حشاي الظنون. وليس الحب علي بغريب. . بل إن عهدي به لقريب، وأوشك أن أقول ما قال أبو الطيب:

أبنت الدهر عندي كل بنت

فكيف وصلت أنت من الزحام

ألا ترى معي أن الحب حمى! وأنه من بنات الدهر! ويالهن من بنات!!

هذه هي البسمات التي تريد أن تنطلق بين يديك. ودونك العبرات.

ويبسط لي الصديق قصته مع فتاة تزامله في الكلية وتصادفه في بعض الأوقات بقطار الضاحية التي يسكنها، ويقول أنه جلس مرة في القطار متعباً لا يكاد يتبين من بجانبه، ولما وصل البيت وخلع ثيابه وقعت منها على الأرض ورقة التقطها فوجد فيها:(أحبك. أحبك. أحبك - أنا) ثم يقول: (ابتسمت وأيم الحق، وعاثت أناملي بالورقة الدقيقة الرقيقة، فصارت لقى على صفحة الإهمال. . ولم أكن أدري أن هذه الورقة الصغيرة ستثأر لعرضها الممزق وشرفها المهان. فقد انسربت مادتها إلى واعيتي الباطنة، وأخذت تفرخ وتتكاثر حتى

ص: 48

أصبحت عالماً من الحب له أربعة جدران أحدها (أحبك) والثاني (أحبك) والرابع (أنا). أي طيف هذا؟ ومن التي تحبني؟ حقاً إنها قاسية. .

وفي الكلية وجدت طيفاً كأنه يحوم ليقع، على عينيه نظرات تتكسر، وفي جوهره فتنة تستيقظ، كأنني كنت معه على ميعاد، وكفكف قلبي من كبريائه، واندلعت في جوانحي الحيرة. أهي (أنا)؟! آه يا قلبي أتريد أن تعرف السر؟ إنك إن سألت الزميلة فمن يدري، لعلها تصدمك متذرعة بالعفة والاستقامة. إلى أن قال (وأنا في غمرة هذا اللج المختلط أسألك أن تشخص الداء أو تنير الطريق، أترى الورقة الدقيقة الرقيقة قد انتقمت لكبريائها حين فركتها بأناملي؟ ولي رجاء يا صديقي، إن عرضت لهذا القلب في أدبك وفنك، ألا تذكر اسم صاحبه، فإن له أسرة تحب التقاليد وإن هذا الأمر لم يعرفه - غير الله - سواي وسواك).

وأنا لن أطب لهذا الصديق الملتاع، وما أنا طبيب نفوس كما قال ولا شيء من هذا، ولعلي ألقاه قريباً فأتندر عليه. . على أني ألاحظ أن قصته تبدأ، ولا بد أن تنكشف الأمور فيما بعد. وعلى أي حال فإني أدعه الآن في هذا اللج المزيج من القلق والحيرة والألم الذي يستعذب في الهوى. . لأخلص إلى موضوع عام.

هؤلاء الطالبات في الجامعة، أمرهن محير، فلا هن سافرات ولاهن محجبات. تراهن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وتراهن في غير أوقات الدرس منزويات ينطوي بعضهن على بعض يسئن الظن بالطلاب ويؤولن كل حركة وكل كلمة بما يتفق وسوء الظن وقد يكن على حق في بعض ذلك فإن كثيراً من الطلاب تعد حالة الاختلاط جديدة عليهم. والطالب يرى من بعيد ويخال. وتنشأ هنا وهناك أحلام ووساوس. وفي مثل هذه الظروف يتوهم الحب أو ينشأ ولكنه لا يكون دائماً ثابت الأساس لأنه لا يدوم مع التجربة والتعرف. وما زلت أنا أذكر الفتاة التي كنت أسمع عنها ولا أراها فكونت لها صورة في نفسي وأحببتها فلما رأيت الفتاة لم أجد فيها شيئاً من ملامح الصورة، فأعرضت عنها وعكفت على صورتي! ولعل أكثر حوادث الحب ما يقع على بعد، فلو انتفى البعد في مائة من الحالات فقد يثبت واحد من المائة فقط. ولو تم ذلك لفقد الأدب ثلاثة أرباع أشعار الغزل.

ص: 49

فلم الأسبوع

هو فلم (ليلة العيد) وقد عرض أخيراً بسينما الكورسال. وضع قصته أنور وجدي، وأخرجه حلمي رفلة. ومثل أهم الأدوار إسماعيل يس وشكوكو وشادية وحسن فايق ولولا صدقي واشترك معهم آخرون.

وليس في الفلم من اسمه (ليلة العيد) غير أن أول منظر فيه أراجيح وصبيان يتواثبون ويرفعون أصواتهم بكلام فيه لفظ العيد ويعقب ذلك منظر مسرح كأنما ذهب الناس إليه ليلة العيد. . ويلعب على خشبه المسرح ياسمينه (شادية) وشوشو (شكوكو) وسوسو (إسماعيل ياسين) وينزل الستار فيهرع صاحب المسرح إلى ياسمينه ويبدي لها إعجابه ثم يغازلها، فتشعر بجرأته في المغازلة فتصده في عنف ويقبل أخواها سوسو وشوشو، فيعتديان عليه بالضرب، ثم يفصل صاحب المسرح الاخوة الثلاثة من العمل بمسرحه. ثم يرون إعلاناً عن حاجة أحد المسارح إلى مغنية صغيرة جميلة، فتذهب ياسمينه إلى مقابلة مدير هذا المسرح فتخطئ شقته وتدخل شقة أخرى بجوارها فلا تجد فيها أحداً، ثم تدخل الشقة فتاة (لولا صدقي) ومعهما ثلاثة رجال هم أخوتها، ويدور بينها وبينهم حدث يفهم منه أنها اصطادت شاباً غنياً (ابن باشا) وأنه يوشك أن يحضر، ثم يقبل الشاب وينهمك مع الفتاة في مبادلة الغرام، ويفاجئه الأخوة الثلاثة، ويضطرونه إلى دفع ألفي جنيه وإلى التوقيع على تعهد بزواج الفتاة. ويجلس الجميع للعب الورق، وتسمع ياسمينه كل ذلك وتراه وهي بحيث لا يرونها، وتتسلل تحت منضدة اللعب، وتتمكن من أخذ ألف جنيه سرقها أحد الأخوة من الشاب ودسها من تحت المنضدة قاصداً دفعها إلى أخته فتلقفتها يد ياسمينه. ويشعرون بها فتجري منهم وتنظر من النافذة، ثم تقفز إلى نافذة أخرى فإذا هي في شقة مدير المسرح الأستاذ حمودة الذي يراها ويدهش منها، ثم يعلم أنها مغنية أتت للعمل بالمسرح فيرحب بها ويتفقان على أن تحضر إلى المسرح ومعها أخواها، ثم تقبل زوجته فتفر ياسمينه من النافذة. . وتذهب إلى أخويها، ويتفقون على الاحتفاظ بالألفي جنيه في ثنية اللحاف، ثم يذهبون إلى الأستاذ حمودة بالمسرح، ويعملون بهذا المسرح الجديد، ونرى الشاب ابن الباشا يتردد على ياسمينه، وقد دب عليها مرة في منزلها. وهو يقول لها أنه يريد أن يتزوجها ولكن والده الباشا يريد أن يزوجه تلك الفتاة التي تعهد بزواجها.

ص: 50

ثم يحتفل الباشا بزواج ابنه ويحضر فرقة ياسمينه لتحيي الليلة، وهناك يحدث هرج ومرج، وتختلي ياسمينه بابن الباشا فتفضي إليه بحقيقة الفتاة العروس وتنقده الألفي جنيه التي كانت سرقت منه. ثم يعلن ابن الباشا أنه لن يتزوج إلا ياسمينه، فيبرز الاخوة التعهد الذي وقعه ويدفعونه إلى الباشا.

ولما تتجسم العقدة في هذا التعهد يحلها إسماعيل يس بفمه. . إذ يخطف الورقة ويبتلعها! وتكون النهاية السعيدة التي يرقص فيها الجميع ويغنون حتى يشبعوا رقصاً وغناء.

والواقع أن المقصود بحوادث القصة أن تكون خيطاً للاستعراض. . فالغناء والتهريج على المسرح الأول والثاني وفي منزل الباشا وفي الطريق وفي كل مكان. . هو المقصود وليت الخيط مع ذلك سليم أو متصل، فهو ليس واهياً فقط وإنما هو متقطع يبدو فيه مؤلف القصة مبهور الأنفاس وقد نفر منه الخيال وخاصمه السبك، فيوصل المناظر والحوادث بالقوة والعافية. . فهو يجبل الفتاة تخطئ الشقة المقصودة لتدخل شقة أخرى، والأمر إلى هنا طبيعي، ولكنه يلقي في روع أصحاب هذه الشقة أن يتركوها مفتوحة وهم غائبون. . لماذا؟ لتدخل شادية فتغني متنقلة من غرفة إلى أخرى حتى يظهر صاحب البيت ويبين. . وما دام الأمر لا يسير وفق المعقول فلا مانع أن تنقلب الفتاة إلى قطة تتسلل تحت المنضدة وتتمسح بالأرجل وتأخذ النقود وهي ثابتة الجنان لأنها واثقة من أن المؤلف والمخرج يضمنان لها الأمان ويمهدان لها سبيل القفز من النافذة! وليس بعسير بعد ذلك أن تكمل دور القطة في الشقة الأخرى. .

وليس لك أن تسأل: كيف عرف ابن الباشا منزل ياسمينه فأتى إليها به ليلاً؟ وكيف نهضت إليه دون أن يبدو عليها أي ذعر؟ ولماذا لم تفض ياسمينه إلى ابن الباشا بحقيقة من احتالوا عليه وتعطيه النقود إلا ليلة العرس وقد التقيا مراراً قبل ذلك؟ ليس لك أن تسأل عن ذلك أو غيره من كثير، لأن المؤلف يريد ذلك أو هو لا يجد غير ذلك. أما إن سألت عن الحكمة في وضع النقود في ثنية اللحاف فأنا أجيبك بأن المقصود أن يحمل شكوكو هذا اللحاف في كل منظر بعد ذلك ليبدو مضحكاً. . ولا يفوتني أن أعبر عن إعجابي بالحل الموفق الرائع الذي قام به (فم) إسماعيل ياسين الواسع. . فقد عرف المؤلف أو المخرج أو كلاهما كيف يستغل هذا الاتساع العظيم في حل المعضلة!!

ص: 51

والحقيقة أن الأبطال الثلاثة، إسماعيل وشكوكو وشادية، كانوا ظرفاء في مواقف الفلم، وإن كانت شادية ينقصها التمرين على إجادة التمثيل، وقد استخدم غناؤها مع الموسيقى استخداماً حسناً. وفي الفلم مواقع تستثير عواطف الضحك. ونتيجة ذلك أن (الاستعراض) يؤدي غرضه في هذا الفلم. وهنا الخطر! فإن عرض هذه الألوان الفارغة من أي هدف فني صحيح وفي قالب مهلهل من القصص البعيد عن معترك الحياة، وضمان النجاح المادي مع ذلك - مما يهدد فن القصة السليم في السينما.

ولست أدري أي فرق بين الشركة التي تنتج هذا النوع من الأفلام وبين (متعهدي الحفلات) الذين يقيمون الحفلات الاستعراضية، سوى أن الأولى تطبع صوراً يتكرر عرضها، وحفلات الآخرين تنتهي بانتهاء عرضها.

عباس خضر

ص: 52

‌البريد الأدبي

اقتبست ولم أسرق

قرأت في العدد 857 من مجلة الرسالة الزاهرة كلمة للأستاذ أنور المعداوي بعنوان (يسطون على أدب الزيات ثم لا يخجلون) قرأت المقال وقد اعتراني ذهول شديد إذ لم يسبق لي أن طالعت العدد المشار إليه من جريدة النهضة العراقية وذلك لوجودي خارج العراق، وقد أخذ العجب مني كل مأخذ، ونال الذهول مني كل منال، حين اتهمت بالسطو على أستاذي الكبير أحمد حسن الزيات. والحقيقة إني أحترم الأستاذ الزيات وأجل أدبه واحفظ من نثره ما لا أحفظ لغيره من كتاب عصره. ولفرط إعجابي بأسلوبه البليغ ومقالاته الرصينة حفزني ذلك إلى أن أنقل بعض فقرات من مقاله المنشور في صحيفة 262 من كتاب (وحي الرسالة) وقد حصرت هذه الفقرات بين أقواس كما يتضح لكل من اطلع على صورة مقالي المنشور في جريدة النهضة العراقية في السنة الماضية. ولعل الأديب السيد خالد ياسين الهاشمي يريد الدس فحرر هذه المقالة في جريدة النهضة بدافع غير شريف. وأخيراً أقدم كلمة عتاب متواضعة للأستاذ أنور المعداوي الذي تعجل في هجومه عليَّ من دون ذنب جنيته. وفي الختام أقدم لأستاذي الكبير الزيات إعجابي، ولمجلته الزاهرة خالص التجلة، وللأستاذ المعداوي بالغ الاحترام.

بغداد

عبد الخالق عبد الرحمن

أخي الاهواني

لن أثني مثنياً، وما بي ونى عن وفاء، أو فترة في أيفاء، أو مرود عن جزاء. لكنا أخشى الرائبة تريب أمرينا وتعدو طورها فتهرف بأنا عقدناه حواراً نستنظف به المديح.

وعذيري أنت إن أخضتك غير مخاضناً، فنفثت إليك شكاتي من أصاحيب رغبوا من كثر اللغة إلى قلها، ورضوا بنزرها دون وفرها. فما في غير المعروف المعدود مقنعهم، ولا دون ما انضمت عليه الجعبة منشود هم. ولو في حبلهم حطبنا، وعن قوسهم نزعنا لركمنا إلى الموات مواتاً، ونفضنا اليدين من ألفاظ ما ولدت إلا لتعيش، وما هي بالمتنافرة فتنبذ،

ص: 53

ولا بالمخشوشنة فتلفظ.

وما أحشد العامة لما احشد له الخاصة، ولكل مقام مقال. وبعد، فالشوط بطين، احسبنا عند المدى أو دونه بقليل فلنختم الحديث هنا، لنبدأه بعد في غير حلبة النفس.

وأراك تذكر الحكيم الترمذي ولا تنظر إلى قول ابن العربي (اختلفوا في النفس والروح، فقيل هما شيء واحد وقيل هما متقاربان. وقد يعبر عن النفس بالروح وبالعكس، وهو الحق).

ونسيبه قول من عزب عن بالي ربه (النفس جوهر بخاري لطيف يحمل قوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وتسمى بالروح الحيوانية).

وغير هذين فقولي في (التنفيس) رد للفرع إلى أصله المشتق منه، ويبهرك مسوق ابن فارس (شيء نفيس، أراد أنه ذو نفس بالتحريك). وتظنك مفسداً عليه مقيسه بخشاش الأرض وأصلالها.

وفاتك أن الحي ذا النفس نفيس، إن قيس بفاقده. ذاك أصله. واذكر علته (أراد أنه ذو نفس).

ويحضرني هنا لابن جنى في الاشتقاق الأكبر قوله (هو أن تأخذ أصلاً من الأصول الثلاثة، أي الثلاثي والرباعي والخماسي، فتعقد عليه. وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه وإن تباعد شيء من ذلك رد بلطف الصنعة والتأويل إليه).

وإن شئت على ذلك مثلاً أو مثلين فخذ (ك ل م) و (ق ول) في تقليبهما الستة. فتجد تقليب أولاهما على القوة والشدة، وتقليب ثانيتهما على الإسراع والخفة.

(والنفث) يا سائلي أصل صحيح يدل على خروج شيء من فم أو غيره. فبينه وبين (النفس) جامعة الخروج. وأحدهما أعم والآخر أخص.

(والنفش) مرده كما قلت إلى التفرقة والانتشار. أو ليس انفصال شيء عن شيء وخروجه عنه انتشاراً وتفرقاً؟

وتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني غور من العربية لا ينتصف منه. من ذاك (ج ب ل) و (ج ب ن) و (ج ب ر) فجميعها من الالتئام والتماسك. فالجبل لشدته وقوته، والجبان لأنه

ص: 54

يستمسك ويتوقف ويتجمع، والجبر في العظم وغيره لتقويته.

وأصول الثلاثي: حرف يبتدأ به، وحرف يحشى به، وحرف يوقف عليه. ومعنانا الذي ندور حوله هنا كما تقول محاكاة صوت وحرفه السين أو ما تنقلب إليه والفاء حشو، والنون ابتداء.

وبعد ألم أحدثك حديثي عن طول نفس الأديب، ألم أسق إليك ما وصى به أبو سفيان ابنه شاهداً.

وطيبه، ألم اسق إليك فيه علته، وان النفس مشموم بما يصدر عنه. وهو من الأديب نتاجه، وأنت حين تشم أنفاس العطور فتراح لأشد نشوة حين تسمع إلى قول الشاعر:

العذل والتفنيد غير صواب

مع أربع أصبحن من أصحابي

نفس الربيع وصبوة عذرية

ومدامة تجلي وشرخ شباب

إبراهيم الابياري

إلى الأستاذ كامل محمود حبيب

قد اطلعت على مقالك المعنون بحماقة آب في العدد 858 من الرسالة فخلبتني موسيقية ألفاظه وطلاوة عبارته وبراعة أسلوبه ورصانته، وسحرني ما خلعت عليه من عرائس البيان التي ترنمت فأطربتني لكن بغير لسان، وتركت في الفؤاد أثراً دونه وقع رنات المثان!

ولما انتهيت إلى قولك: (والآن ماذا يختلج في فؤادك الخ) لم ترقني خاتمته على هذا النحو؛ لأن القارئ يميل إلى أن يعرف نهاية القصة بأسلوب ترتاح إليه نفسه، ويطمئن له قلبه، وتسكن عنده خلجاته. وأنت قد أبهمت مصير حياة الرجل فلم نعرف: أتخاذل أمام الحزن فهلك تحت كلكله؟ - أم صارع أمواجه ولم يستسلم له؟ وهل رضيت زوجته بمرارة الفقر المفاجئ، وسفعات البؤس المباغت؟ أم فرت إلى بلهنية العيش ورغد الحياة في كنف أسرتها؟

وتعبيرك في آخر القصة (وتنوء تحت أثقال ثلاثة من الفاقة والشيخوخة والوحدة) يفيد أن الرجل فقد كل شيء حتى زوجته وأنت لم تنوء بها في حوادث القصة كما نوهت بفرار

ص: 55

الابن. وكيف كان أخوته إزاء حالته؟ أشمتوا به جزاء ما فعل معهم فكانوا عليه ضغثاً على إبالة؟ أم دفعوا إساءته إليهم ومقاطعته إياهم بإحسانهم إليه بمواساته؟

وهل الحامل للابن على الفرار هو خشية أن يصمه عار الفقر وذل السؤال كما قلت أم خشية أن يتساقط لحم وجهه خجلاً حينما ترنو إليه عين أبيه بعدما أفرخ الدهر بيضته وكشف سرّه؟ أظن أن الثاني أقوى تدعيماً لفكرة الفرار. كل ذلك مما يلفت الأنظار. ويثير الارتياب عند قراءة المقال!

أما اختتامه بما يدور في خلده ويختلج في فؤاده دون أن تبين على أي حال استقرت سفينة حياته لا ينقع للنفس غلة ولا يشفي منها علة. .!!

حمدي محمد فرغلي عثمان

العدد الممتاز

صدر العدد الهجري الممتاز حافلاً كشأنه بالموضوعات الحيوية الممتازة مملوءاً بالمقالات القيمة التي تكشف عن سر عظمة التشريع الإسلامي صاحب ذلك التشريع، وتبين ما تحويه الهجرة من معان سامية وآيات عالية هي قيام ذلك الدين وارتفاع بنيانه وإعزاز أهله وانتشار روح الحب والإخاء والإيثار بين أتباعه، وترفع الستار عن مواقع الزلل وبؤر الفتنة والغواية التي تردينا فيها وارتدغنا في حمأتها فتنكبنا الطريق وضللنا السبيل وعمينا عن الحق والواجب وأصبحنا في هذه الحياة نحيا حياة السوائم في مرعى اللئام. اللئام الذين أسكناهم فطردونا، وأشبعناهم فأكلونا، وكسوناهم فعرونا، وأعززناهم فأذلونا. . وإني لأتساءل في لهفة وحرقة هل يقرأ عظماؤنا ومن بيدهم مقاليد الأمور (في ذلك البلد المسكين) هذا الكلام وهل يعيرونه انتباهاً ويلقون إليه بالاً؟ وهل يدور بخاطرهم ويمر بخيالهم أننا كنا في يوم من الأيام نسيطر على هذا العالم وندير دفته ونملأه بالعدل والفضيلة ونحوطه بالعناية والرعاية؟ وهل يذكرون أن الرشيد مرت فوق رأسه سحابة فقال لها (أيتها السحابة أمطري أينما شئت فإن خراجك لي).

هل يذكرون هذا أم هم في غمرة ساهون؟

أرجو أن يذكروا هذا فتتيقظ قلوبهم وتتنبه نفوسهم وتضيء بين جوانحهم وتلك الومضات

ص: 56

التي أطفأها الزمن وذهب بنورها تقلب الليل والنهار (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) عندئذ نستطيع أن نهتف في سمع الزمن قائلين (هذه بضاعتنا ردت إلينا)

سليمان محمود عطا

معهد قنا الديني

أخطاء مطبعية:

لم يخل مقالي (إيمان عظيم) المنشور بالعدد الهجري من الرسالة من بعض أخطاء مطبعية تركت أثرها في السياق، أما هذه الأخطاء فقد رأيت أن أثبتها هنا مع التصحيح حتى لا أظلم فطنة القراء.

وردت في المقال هذه العبارة: (وفي الفن تسطع ومضات الرؤى ويتوهج الأحلام، وفي الإنسانية تشف ببضات الهوى وتفيض منابع الأحلام. . ثم: (وحسبها أن تهب قلبها لمن تحب، وحسبها أن تفنى فيه وتذر له الحياة) صحتها: (وحسبها أن تفنى فيه وتنذر له الحياة). . كما ورد هذا البيت:

فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي

ولكن الحمد في ذا وذاكا

وصحته:

فما الحمد في ذا، ولا ذاك لي

ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

بعد هذا وردت هذه العبارة، وإني لأرى ذراعي قد سمن لأحزن) وصحتها: إني لأرى ذراعي قد سمن فأحزن). . ثم: (وما أروع العقاب حين يصل المجد وصحتها: وما أروع العقاب المحب ثم أو في لحظة الهوى التي يخفت فيها صوت الشعور والوجدان) وصحتها: (لأنها في لحظة الهوى الصارم التي يخفت فيها العقل ليرتفع صوت الشعور والوجدان). . ثم: يضبر لي رأي من هذا العقاب الذي خطر لها يوماً أن تتوجه به إلى رحاب الخلق العظيم) وصحتها: لا ضير في رأيي.

أسف واعتذار:

بين يدي عدد كبير من رسائل القراء في مصر والبلاد العربية بعضها يحمل إلي أسئلة في محيط الأدب والفن تنتظر الجواب، وبعضها ينقل إلي عواطف نبيلة وتقديراً كريماً،

ص: 57

وبعضها يطلب إلي أن أكتب (قصة الدموع التي شابت). . أما أصحاب القسم الأول من هذه الرسائل فيؤسفني جد الأسف ألا أستطيع الرد على أسئلتهم في الوقت الحاضر، حيث يشغلني عن ذلك ما أقوم به الآن من دراسة مطولة لشعر المغفور له الأستاذ علي محمود طه. ومما يؤسف له مرة أخرى أن تحول بعض الظروف بيني وبين كتابة المقال الخامس من هذه الدراسة في هذا العدد، وإلى العدد المقبل إن شاء الله. . وأما أصحاب القسم الثاني من هذه الرسائل فلهم شكري خالصاً على هذه النفحات الروحية السامية التي يوجهونها إلي من حين إلى حين. . ويبقى بعد ذلك: أصحاب القسم الثالث من هذه الرسائل وإليهم أقدم أسفي للمرة الثالثة واعتذاري، أن أبطال القصة التي يطلبونها إليَّ عرضها على صفحات (الرسالة) سيفجر مداد القلم - كما سبق أن قلت - دماء جراحهم إذا ما كتبت ولكنني أعدهم بكتابتها - كما سبق أن قلت أيضاً - يوم أن تهدأ الرياح وتلتئم الجراح، وتكسر أمواج المحنة على شواطئ النسيان.

أنور المعداوي.

ص: 58