المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 863 - بتاريخ: 16 - 01 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٦٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 863

- بتاريخ: 16 - 01 - 1950

ص: -1

‌علي محمود طه

شاعر الأداء النفسي

للأستاذ أنور المعداوي

- 5 -

تحدثت إليك في الصورة النفسية الأولى وأعني بها (الموسيقى العمياء) عن خط الاتجاه النفسي ومكانه من الوحدة الفنية، وعن أدوات الربط بين الوجود الداخلي والوجود الخارجي أو بين عالمي المشاهد المرئية؛ وعن أصول الرؤية الشعرية ومصادرها في شعر الأداء النفسي، وتحدثت إليك في الصورة الثانية وأعني بها (القمر العاشق) عن الموسيقى الداخلية وقيمها في شهر هذا الأداء، وعن الحركة النفسيةوالحركة المادية. وعن التجسيم الشعري كأثر من أثار الملكة التخيلية. وتحدثت إليك في الصورة الثالثة وأعني بها (التمثال) عن العلاقة النفسية بين الألفاظ، وعن التصميم الداخلي كدعامة من دعائم الملكة التنظيمية. وعندما عرضت للملكة الأولى - أقصد التخيلية - قلت إن أول مزية من مزايا هذه الملكة هي التجسيم، التجسيم الذي يجعل من الحركة الجامدة حركة حية، ومن الكون المادي الصامت كونا يموج بالمشاعر والأحاسيس، ومن الصورة التي تعز على اللمس صورة تدركها الحواس، حتى لتوشك أن تنالها الأيدي وأن تراها العيون. وكانت هذه المزية الأولى مطبقة على قصيدة (القمر العاشق). . . أما المزية الثانية فنطبقها على هذه القصيدة الجديدة (حانة الشعراء)، وقبل هذا التطبيق نقدم الصورة النفسية الرابعة، هناك في الصفحة السادسة عشرة من (زهر وخمر):

هي حانة شتى عجائبها

معروشة الزهر والقصب

في ظلة باتت تداعبها

أنفاس ليل مقمر السحب

وزهت بمصباح جوانبها

صافي الزجاجة راقص اللهب

(باخوش) فيها وهو صاحبها

لم يخل حين أفاق من عجب

قد ظنها والسحر قالبها

شيدت من الياقوت الذهب

إبريقه حلى من الدرر

يزهي به قدح من الماس

ص: 1

وكان ما حوليه من صور

متحركات ذات أنفاس

تركت مواضعها من الأطر

ومشت له في شبه أعراس

منهن عازفة على وتر

متفجر بأرق إحساس

وغريرة حوراء كالقمر

تحنو على شفتيه بالكأس

او تلك حانته؟ فوا عجبا!

أم صنع أحلام وأهواء؟

ومن الخيال أهل واقتربا

(فينوس) خارجة من الماء!

في موكب يتمثل الطربا

ويميل من سحر وإغراء

وبكل ناحية فتى وثبا

متعلقاً بذراع حسناء

يتوهجون صبابة وصبا

يتمثلون غريب أزياء

حمر الثياب تخال أنهمو

يفدون من حانوت قصاب

جلسوا نشاوى مثلما قدموا

يترقبون منافذ الباب

يتهامسون وهمسهم نغم

يسري على رنات أكواب

إن تسأل الخمار قال همو

عشاق فن أهل آداب

لولا دخان التبغ خلتهمو

أنصاف آلهة وأرباب

من كل مرسل شعره حلقا

وكأنها قطع من الحلك

غليونه يستشرف الأفقا

ويكاد يحرق قبة الفلك

أمسى يبعثر حوله ورقا

فكأنه في وسط معترك

فإذا أتاه وحيه انطلقا

يجري اليراع في كف مرتبك

ويقول شعراً كيفما اتفقا

يغري ذوات الثكل بالضحك

باخوس يروي عن غرائبهم

شتى أحاديث وأنباء

قصص تداول عن صواحبهم

وعن الصبايا فتنة الرائي

وعن الخطيئة في مذهبهم

بدأت بآدم أمبحواء

والملهمات إلى جوانبهم

يكثرن من غمز وإيماء

وتلفتوا لما بدا شبح

فنانة دلفت من الباب

سمراء بالأزهار تتشح!

ألقت غلالتها بإعجاب

ص: 2

ومشت تراقصهم فما لمحوا

إلا خطى روح وأعصاب

وسرى بسر رحيقه القدح

في صوت شاجي اللحن مطراب

وشدا بجو الحانة الفرح

لإلهة فرت من الغاب

هي رقصة وكأنها حلم

وإذا (بفينوس) تمد يداً

الكأس فيها وهي تضطرم

قلب يهز نداؤه الأبدا:

زنجية في الفن تحتكم؟

قد ضاع فن الخالدين سدى!

فأجابت السمراء تبتسم:

الفن روحا كان؟ أم جسداً؟

يا أيها الشعراء ويحكم

الليل ولى والنهار بدا!

هذه المزية الثانية من مزايا الملكة التخيلية هي الرمزية. . . . وما دمنا نقسم الأداء في الشعر إلى قسمين: أداء لفضي وأداء نفسي، وننسب الموسيقى في الشعر إلى نوعين: موسيقى اللفظ وموسيقى النفس، فإننا نفرق أيضاً بين لونين من الرمزية: هما الرمزية اللفظية والرمزية النفسية. وما دمنا ننكر القسم الأول من الأداء، ولا نقيم كبير وزن للنوع الأول من الموسيقى، فإننا نستهجن أيضاً ذلك اللون الأول من الرمزية. إن الفارق بين الرمزية اللفضية والرمزية النفسية هو الفارق بين الرمزية المصنوعة والرمزية المطبوعة! إننا ننشد الوضوح في الفن لأنه ركن من أركان الجمال فيه وطريق من طرق الإحساس بهذا الجمال. . . والشعر فن من الفنون الجميلة لا مراء، فإذا أخفينا هذا العنصر الفعال الذي يسلكه في عداد تلك الموضوع: إذا أخفيناه وراء ستار من التعقيد والغموض والتعمية والإبهام فقد تلاشى أول بريق أخاذ يمكن إن تتملاه العين في هذا الفن، ونعني به الجمال! نريد في شعر الأداء النفسي تلك الرمزية المطبوعة؛ الرمزية التي تلف الفكرة العامة أو الموضوع العام بوشاحها الرقيق الذي لا يحجب الضوء ولا تضيع من ورائه المعالم. . . . وكل رمزية في واقع الأمر نقاب يلقي على الوجه الجميل، ولكن هناك وجهاً يحول النقاب الكثيف بين جماله وبين العيون، ووجهاً آخر يكسبه النقاب الشفيف فوق جماله ألواناً وبين الفنون. وهكذا تجد الفارق الدقيق بين الرمزية اللفظية والرمزية النفسية!

إن الرمزية في جوهرها ما هي إلا وسيلة من وسائل التعبير تستحيل معها المدركات الحسية إلى مدركات نفسية. . . إنها الجسر الذي تعبره الألفاظ والأخيلة والمعاني لتلتقي في

ص: 3

بقعة فكرية بعينها تنطمس فيها الماديات لتحل محلها المعنويات. وهي في الشعر بعد ذلك ألوان: رمزية مماثلة تقع مت الصورة الوصفية المحدودة موقع الإطار، ورمزية كلية تشمل الهيكل العام أو الموضوع العام للقصيدة. أما رمزية اللفظ فهي رمزية الشطحات التعبيرية، أما رمزية الصورة فهي رمزية الشطحات التخيلية، وكلتاهما تمثلان ذلك النقاب الكثيف الذي يلقي ظلاله المبهمه الداكنة على وجه الفن ويحيل الومضة الفكرية ظلاما تتخبط فيه الأذواق وتضطرب المقاييس في تحديد مداه. هناك لفظ يدفعك إلى أن تبذل في استجلاء مراميه كثيراً من العناء، لأنه يمتح من نبع شعوري معقد يتدفق من وجود داخلي معقد، وهناك صورة تجهد فكرك إذا حاولت أن توفق بين خطوطها المتنافرة، لأنها مرسومة بريشة الحركة اللاواعية، أو لأنها من صنع المخيلة المحلقة في آفاق ذهنية لا تعكس منها غير مظاهر الضباب! وهكذا تجد الرمزية المصنوعة حين تردها إلى شطحات التعبير والتخيل في نطاق الصور والألفاظ، ولا كذلك الرمزية المطبوعة لأنها حركة استبطان نفسي قبل كل شئ، استبطان تبدأ مرحلته لأولى بجمع المادة الأولية ظاهرة حسية في مجالها المادي وتبدأ مرحلته الثانية بفحص هذه المادة الأولية فحصاً يرجعها إلى مصادرها من النفس والحياة، وتبدأ مرحلته الثالثة بعملية المقابلة والموازنة بين الطابع الحسي للظاهرة المادية وبين الطابع النفسي للفكرة الفنية. وفي هذه المرحلة الأخيرة يتم التوافق الدقيق الكامل بين عالمي الماديات والمعنويات!

هذه الرمزية المطبوعة التي نعنيها بهذه الكلمات هي الرمزية التي يرفل فيها اللفظ في أثوابه النفسية البسيطة التي لا تختلف وكل ما يمثلها في الشعر من الموضوع: والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في والتي تخطر فيها الصورة الوصفية في مواكبها البيانية مغمورة بأضواء الحركة الواعية التي تعمل في وضح النهار، هذه هي الرمزية التي يبقى فيها الرمز بعد ذلك مقصوراً على الفكرة العامة للقصيدة أو مقصوراً على الموضوع: عندئذ تكون الرمزية في الشعر عملا فنياً جديراً بالنظر فيه والاطمئنانإليه، وكذلك كل عمل فني يخلو من الشعوذة اللفظية والشعوذة الفكرية! بل إننا لنخطو إلى ابعد من ذلك خطوة أخرى حين نطالب بان تكون تلك الرمزية الموضوعية أشبه بالخريطة الجغرافية التي تتضح فيها مواقع المرتفعات والمنخفضات، عن طريق (الإيماء) إلى هذه وتلك بما يتعارف عليه من

ص: 4

ألوان. . . هنا في مثل هذه الخريطة (ألوان مادية) تومئ أو ترمز للجبال والوديان والأنهار؛ وهناك في مثل تلك الرمزية (ألوان نفسية) تومئ هي الأخرى أو ترمز للظواهر والخواطر والمدركات.

بعد هذا نستطيع أن نطبق المقدمة التحليلية تطبيقاً نقديا على (جانة الشعراء) في غير جهد ولا عناء. إنك لن تصادف لفظاً واحدا يرهقك بطول الجري وراء معناه، ولكنها الألفاظ العادية تسير في مجراها الطبيعي وتمضي في طريقها المرسوم، دون إن تحوجك إلى السؤال تلو السؤال: ماذا يقصد الشاعر، وإلى أي معنى يهدف، والى أي وجهة نفسية يطلق لفكره العنان! ولن تصادف صورة واحدة تكدح ذهنك في سبيل الربط بين أجزائها المتناثرة أو التنسيق بين ظلالها المتداخلة وأضوائها المتشابكة ولكنها الصور المنتظمة الواضحة التي تخلو من انحراف اللقطة والتواء التعبير وشطح الخيال، إنك لن تصادف غير شئ واحد هو أن القصيدة في بنائها العام قد رمز بها إلى معنى عام معنى مهد له الشاعر بالأسس التخيلية في المقطوعات الأولى ليقيم الطابق الأخير في المقطوعة الأخيرة، وهو الطابق الذي تصعد إليه الرمزية النفسية في آخر خطوة من خطواتها لتستقر فيه!

هذه الأسس التخيلية هي (الحانة) في المقطوعة الأولى ثم (باخوس) إله الخمر في الأساطير الإغريقية القديمة، ثم (فينوس) في المقطوعة الثانية وهي إلهة الجمال في الأساطير الإغريقية أيضاً ثم جماعة (الشعراء) في المقطوعة الثالثة، ثم تلك (الراقصة السمراء) في المقطوعة الرابعة. وسترى أن الشاعر قد أخضع الملكة التخيلية لجو الأسطورة الإغريقية بالذات ليصل من وراء ذلك إلى تحقيق غرضين رئيسين هما على التحقيق دعامتا الرمزية الموضوعية. أو لهما هو أن يتخذ من هذه الأسس التخيلية الأربعة في مجال واحد، وثانيهما هو أن يتخذ من هذه الأسس معابره إلى الهدف الاخير، ونعني به المعنى الذي رمز إليه بموضوع القصيدة. لقد تمثل علي طه أول ما تمثل مشهد الحانة، ثم تخيل أن يكون صاحبها هو (باخوس) ليخلق نوعا من الصلة الإيجابية بين مكان الخمر وإله الخمر، ثم تخير أن يأتي بجماعة الشعراء ليوجد نوعا آخر من الصلة الإيجابية بين الفن وأصحاب الفن، ثم تعمد أن يجمع بين (فينوس) ربة الجمال وبين الزنجية الراقصة لينشئ نوعا من الصلة العكسية أو السلبية بين مقام الآلهة ومقام البشر!

ص: 5

نعم لقد تعمد أن يجمع بين السمراء والبيضاء أو بين ساكنة الأرضو ساكنة السماء وتدخل الزنجية الراقصة إلى الحانة ثم تلقي بغلالها لترقص أمام أهل الفن ويقبلون عليها في حركة تنم على العجب والإعجاب وتضج الحانة برنين الكؤوس وترتفع الأصوات بالغناء وتحتج (فينوس) وهي تمد بكأس يضطرم فيها الحب اضطرام قلبها الثائر وشعورها المهتاج. أهل الفن يشغلون عن ربة الجمال والدلال والسحر، بهذه الزنجية ذات القوام الداكن والبشرة القاتمة؟؟ ياضيعة الفن عند قوم من السكارى لا يميزون وهذه هي اللفتة الأولى مصورة في هذه الأبيات.

هي رقصة وكأنها حلم

وإذا بفينوس تمديدا

الكأس فيها وهي تضطرم

قلب يهز نداؤه الأبدا.

زنجية في الفن تحتكم

قد ضاع فن الخالدين سدى!

وتبتسم السمراء ابتسامة تحمل ألف معنى إلى (فينوس)

ثم تهتف في ثقة واعتداد:

فأجابت السمراء تبتسم

الفن روحا كان أم جسدا؟

ياأيها الشعراء ويحكم

الليل ولى والنهار بدا!

وهذه هي اللفتة الثانية. . . وهاتين اللفتتين الرائعتين يقيم علي طه المعبرين الكبيرين للرمزية النفسية أو الرمزية الموضوعية! ترى هل أدركت المعنى العام الذي يرمز إليه الشاعر في هذه الكلمات؟ لقد أراد هنا أن يعرض لك عن طريق الرمز قصة النزاع الخالد أو قصة الخصومة الخالدة بين أرستقراطية الفن وديمقراطية الفن فأتى (بفينوس) لتمثل النزعة الأولى وأتى بالزنجية الراقصة لتمثل النزعة الثانية، ثم انطق هذه برأي في حقيقة الفن وانطق تلك برأي آخر، ليطلعك على مدى التفاوت بين نظرتين. نظرة الأرستقراطيين إلى الفن ونظرة الديمقراطيين إليه! أو نظرة تلك الفئة المترفعة التي تريد للفن أن يعتصم بالأبراج العاجية ونظرة هذه الفئة المتواضعة التي تريد له أن يأوي إلى الأبراج الخشبية ليكون قريباً من الناس. . . وهي طريقة يبلغ فيها التوفيق مداه حين يصرخ الشاعر على لسان الزنجية الراقصة: ليس الفن جسدا يلتصق بالأرض ولكنه روح توزن بما فيها من صفاء!!

ص: 6

بعد هذا تنتقل إلى ظلال الأداء النفسي منعكسة على الألفاظ ولا أريد أن اقف بك طويلا عند الصور الوصفية المتناثرة هنا وهناك، حسبي أن أشير إليها إشارات عابرة، وحسبك أن ترجع إلى الفصول النقدية السابقة لتقوم بعملية التطبيق. . . أمامك هذه (الظلة التي تداعبها أنفاس الليل)، ثم هذه (الصور المتحركات التي تركت مكانها من الأطر) ثم هذه (الغريرة الحوراء التي تحنو على شفتي باخوس بالكاس)، ثم هؤلاء الفتيان (الذين يتوهجون صبابة وصبا) في موكب فينوس. وعندما تبلغ أول بيت من المقطوعة الثالثة ستصدمك هذه الصورة:

يمر الثياب تخال أنهمو

يفدون من حانون قصاب

إنها الصدمة الوحيدة في القصيدة، ومعذرة إذا قلت لك إن الشاعر هنا قد خانه التوفيق، وليس هناك ما يصدم ناقد الشعر مثل ضعف الرؤية الشعرية وبخاصة إذاجاء هذا الضعف من شاعر يبلغ الأوج في قوة هذه الرؤية في كثير من شعرة وهو علي طه. . . ترى هل أمكنك أن تنفذ إلى موقع الضعف في هذه الرؤية الشعرية؟ إنه في تلك الصلة الواهية بين حمرة الثياب وبين حانوت القصاب، لأن واقع الحياة يؤكد لك أن حوانيت القصابين لا تلطخ ثياب الوافدين منها بقطرات من الدم ينتقل فيها اللون من حال إلى حال!

ونمضي في عرض صور الأداء النفسي الممتاز فتقدم إليك (هذا الهمس المنغم الذي يسري على رنات الأكواب)، ثم هؤلاء الشعراء الذين كأنهم (أنصاف آلهة لولا دخان التبغ)، ثم هذه (الحلق المرسلة من شعرهم وكأنها قطع من الحلك). . . هنا تنبع الرؤية الشعرية من أعماق الحركة الواعية، لأن الشاعر لم يغفل عن السمات المعروفة لطريقة إرسال الشعر على هيئة حلقات عند شعراء الإغريق ما دام دفع بالملكة التخيلية إلى جو الأسطورة الإغريقية. ثم هذه الإشارة الطريفة في هذا (الغليون الذي يستشرف الأفق ويكاد يحرق قبة الفلك)؛ إنها إشارة إلى خيلاء الشاعر ممثلة في تصوير الحركة المادية التي تنم عن الشموخ والاستعلاء! ثم هذه الصور الوصفية الثلاث في الأبيات الثلاثة التالية، إنها لمسات موفقة تبرز لك أحوال الشعراء عندما يهبط عليهم الوحي، في رأي خمار مخمور!

وفي المقطوعة الرابعة تروعك هاتان التحليقتان من تحليقات الخيال:

قصص تداول عن صواحبهم

وعن الصبايا فتنة الرائي

ص: 7

وعن الخطيئة في مذاهبهم

بدأت بأدمأمبحوراء!

ثم هاتان الصورتان من صور الوصف:

ومشت تراقصهم فما لمحوا

الاخطى روح وأعصاب

وسرى بسر رحيقه القدح

في صوت شاجي اللحن مطراب

ثم هاتان الوثبتان من وثاب الأداء:

هي رقصة وكأنها حلم

وإذا بفينوس تمديداً

الكأس فيها وهي تضطرم

قلب يهز نداؤه الأبد!

ولا تنس هذا التوزيع الإيقاعي في هذه الموسيقى الراقصة التي تتلاءم كل الملائمة مع الجو الشعري للقصيدة. . . إننا مرة أخرى في أفاق الذاتية الغنائية

(يتبع)

أنور المعداوي

ص: 8

‌مذهب في الحياة

للأستاذ رفيق فاخوري

لا أحسد الناس على

ما جمعوا وثمروا

اكثر ما في حوزة

الخزان عار أكبر

ولست بالراغب في

جاه وصيت ينشر

قد رخص المجد فقل=لأهله: لا تبطروا

حتى المرؤات وشا - رات المعالي متجراً

تعطي بلا من لمن

ضيع مالا أذكر!

ياشرف الأنفس صر - ت عرضا ًيزور

يامعدن الفخار أنت

خزف لا جوهر

قد أعوز القوم سرا - ج والنهار مبصرا!

فعد عن دار أخو

الخطوة فيها الأحقر

وقل: على الربع سلا - م، فالمقام منكر

سواى في جاه عريض

أو غني يفكر

ثروة نفسي ياقصير - العقل أشيا أخر

كتيب تنظم فيه

درر أو تنثر

فيه جمال الكون

مطوياً وفيه عبر

وقطعة من الجنا - ن قد وشاها عبقر

ظلالها مقيل رو - حى إن عناها البشر

أحنى علي منهم=طائرها المثرثر

وجدول في عين

كل ظامئ مصور

وذات دل وجهها

فيه بيان يؤثر

حسبك منها - وأماني النفس شتى! - منظر

خط على مبسمها:

بعض الحلال مسكر

ونغمة تطلقها

حنجرة أو وتر

ص: 9

سامعها يطولفي

ثيابه ويقصر؟!

أي صب سربت

في أذنه لا ينعر؟!

إذا الزمان مال

بالحر وصال البقر

وعز في بنيه من

قد طاب فيه عنصر

وعمت الأدناس

حتى يئس المطهر

فليس يغني عنك

إعراض ولا تذمر

الداء في صدرك

قتال فكيف تصبر؟!

زم المطايا لفلا - ة ليس فيها بشر

وله أيضاً

لم أبك إلا على عهد شقيت به

في البحث عن صاحب يدني مسراتي

لو كنت أنفقت عمري في معاشرة

أفعى لأتقنت أبواب المداراة

لكن من أشتكى أخفى حقيقتهم

عني وجملهم ثوب المراءاة

ممثلون شهدنا في ملاعبهم

مصارع الصدق شتى والصدقات

هذي البراقع لو شفت لأضحكنا

ما تحتها من صغار النفس مرات

ولو تحدث عنها ناطق مرضت

ولا آذاننا من غثاثات الجهالات

لا أصلح الله بعد اليوم تجربتي

ولا أقال على مسعاي زلاتي

فقد ذوى الأخضر الأملود من عمري

وطاح عهد التصافي والمودات

حمص

رفيق فاخوري

ص: 10

‌رابعة العدوية

للآنسة دعد الكيالي

زهرة بيضاء منداة بقطرات المناجاة والصلاة والخشوع، نبعة فياضة من نبعات الحب الإلهي الخالد الأكيد، شمعة قدسية احترقت بدموع العشق الروحاني النقي الطاهر، قديسة عابدة متهجدة في هياكل الليالي مسبحة في ظلال الأنهار، عذراء بتول انتصرت على الآلام المادية ومسخت عملاق الشهوات الجبار فإذا به قزم لا حول له ولا طول، نغمة صوفية غريبة ذات طابع جليل رائع، شخصية حلوة جذابة أقلم ما يقال فيها أنها نسيج وحدها بين الشخصيات النسوية.

تلكم هي شاعرتنا المتصوفة الكبيرة (رابعة العدوية) وإليكم ترجمة حياتها:

هناك في مدينة البصرة العراقية حيث يلتقي الأخوان دجلة والفرات، أجل في تلكم المدينة المتضوعة بخمائل النخيل رمز الصحراء المتصوفة وتمثالها ولدت سيدتنا العظيمة (رابعة) وكان هذا في أواخر الربع الثاني من القرن الأول الهجري، ذلك العصر الذهبي الذي كان للمرأة العربية فيه شأن قبيل أن ينال الوهن الفارسي والترف الروماني من حرية أبنه الصحراء الحرة الساذجة التي تختلط بالرجل ذلك الاختلاط النبيل المحصن العزة والكرامة.

كانت شاعرتنا المتصوفة مولاة لآل عتيك، توفي عنها أبواها وهي لما تزل رطبة العود، غضه السن فخلفهما على رعايتها رجل فظ غليظ كان يرهقها بالأعمال الكثيرة، ويعاملها بمنتهى الظلم والقسوة. فكانت المسكينة تحتمل كل هذا بصدر رحب وتحتسب عند الله ما تلاقيه من العذاب والآلام. ثم ماذا؟ ثم يبيعها سيدها من رجل آخر لا يقل عنه جوراً واستبداداً فتتقبل المسكينة قضاء الله المحتوم بسكينة ووقار، وتنطوي على نفسها وتتلقى التعب والنصب بالبسمة الراضية وتقوم بما وكل إليها سيدها من الأعمال خير قيام.

وذات يوم بينما كانت تسعى لشأن من شئونها في أحد شوارع البصرة ورماها بعضهم بنظرة سوء فأشاحت بوجهها عنه فزلت قدماها وكسرت ذراعها فأغمى عليها. وأخيراً نهضت وقد انطوت نفسها على الحسرة والألم؛ وبصوت متهدج من الخشوع أخذت تقول (رباه قد انكسرت ذراعي وأنا أعاني الألم واليتم، وسوف أتحمل كل ذلك واصبر عليه. ولكن عذاباً أشد من هذا العذاب يؤلم روحي ويفكك أوصال الصبر في نفسي منشؤه ريب

ص: 11

يدور بخلدي. وهل أنت راض عني يا إلهي؟ هذا ما أتوق إلى معرفته) وما كادت تتم نجواها هذه حتى سمعت هاتفاً من وراء الغيب يتساقط في أذنيها هذه العبارة: لك يارابعة عند الله مرتبة تغبطك الملائكة من اجلها) فشاع في نفسها السرور، وانتشت من فرط الطرب فقفلت راجعة إلى بيت سيدها والأحلام السماوية تداعب أوتار قلبها بأناملها السحرية.

وفي ذات مرة أرق سيدها فسمع في جوف الليل صوتاً راعشاً اكسب الدار جواً مهيباً رائعا فاهتز له قلبه. وطفق يبحث عن مصدره، وكم كان عجبه شديداً عندما اطل من ثقب الباب فرأى رابعة تصلي بحرارة وإخلاص بالغين؛ وبصوت عميق معبر سمعها تقول:(ربي إنك تعلم أن اشد ما أتوق إليه هو عبادتك وتأدية مالك من حقوق؛ ولكنني أسيرة لا املك حريتي الشخصية، فلا سبيل إلى تحقيق هذه الغاية فلتعذرني يا إلهي؛ وعلى أثر ذلك دبت الحمية في صدر الرجل. وفي اليوم التالي أعتقها فكادت تترقص من عظم السرور. وأقامت وحدها في منزل متواضع وقامت بأود نفسها من كسب يدها فعملت بالحديث النبوي الشريف: (لا تكونوا كلا على الناس).

ومما لا شك فيه أن شاعرتنا كانت ملمة بمبادئ القراءة والكتابة وهي بعد عند مولاها فلما أن حصلت على حريتها نمت هذه المبادئ ورعرعتها.

وكأننا بها وهي متنقلة بين مساجد البصرة العلمية الزاهرة تنهل من موردها العذب وتعل من نميرها السلسال فلا تمضي مدة طويلة حتى تغدو عالمة العصر وأديبة الجيل.

وقد كانت على فقرها محببة إلى القلوب يجلها أكابر العلماء ويستفتونها في دقائق التصوف والفقه ويتناقشون معها ويناظرونها فيصبح بيتها على حقارته محاجة المتصوفين وقبلة العلماء والفضلاء فيدعونها عن جدارة واستحقاق بتاج الرجال. ولقد كان بينها وبين بعضهم صداقة متينة حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الصبر عن لقائها فيقول: (مروا بنا إلى المؤدبة فإنني لا أجد من استريح إليه إذا فارقتها).

وسئلت يوماً: (أتحبين الله كثيراُ؟) فقالت: (بلا ريب) فقيل لها: ألا تعدين الشيطان عدواً لك؟ فقالت: (إن محبة الله قد ملأت أرجاء قلبي فليس فيه متسع إلى القلق والاضطراب من عداوة الشيطان).

ص: 12

ومن وصاياها: (اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم) وكانت تقول: (محب الله لا يسكن حنينه وأنينه حتى يسكن مع محبوبة). وحقاً لقد كانت رابعة هكذا بكاءة لا تنقطع لها عبرة حتى أن موضع سجودها كان كهيئة المستنقع من دموعها. وتحدثنا الرواية أن كان يغشى عليها لمجرد ذكر النار.

كانت ذات إرادة حديدية بالية؛ أهانت الدنيا واحتقرتها، وأرادت الحرمان وفضلته، وأحبت الوحدة وتعشقتها.

كانت تنام على حصيرة بالية؛ وكان موضع الوسادة قطعة الآجر، وكانت تشرب من إناء مكسور وتطوي ليلها تصلي لله وتناجيه حتى إذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة ولكنها ما كانت تلبث غير قليل حتى تعب من مرقدها فزعة تغلب النعاس وتتحدى النوم قائلة:(يا نفس كم ذا تنامين؟ يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور). كان من عادتها أن تصوم سبعة أيام وتنقطع إلى العبادة والزهد ليالي لا تفتر أثنأها عن مناجاة النفس بهذا الخطاب (إلى متى تعذبين نفسك يا رابعة وتحملينها مشقة وهي مشقة ليس بعدها مشقة!) وهي في ذلك ذات مرة إذا برجل يدق عليها الباب وفي يده صحن من الطعام يتركه لدينها ثم ينصرف. أما هي فتأخذ الصحن وتضعه في زاوية من الغرفة وتتشغل بإصلاح القنديل. وإنها لذلك إذا بهزة تدخل فتأكل الطعام الذي في الصحن. وطالما تعود رابعة فترى الصحن خاوياً فتقول في نفسها: (لا بأس. أفطر على الماء) ولكنها عندما تذهب لتعود بالماء ينطفئ القنديل فلا تطيق احتمالاً وتقول: (اللهم لهم هذا العذاب)؟ فتسمع هاتفاً يقول: (لو شئت يا رابعة وهبنا لك جميع. ما في الدنيا ومحونا ما في قلبك من ثار العشق لأن قلبنا مشغولاً بحب الله لا يشغل بحب الدنيا) فتذرف رابعة دموع الندم وتعزم على ألا تعود للتذمر مما هي فيه.

والجميل الطريف في رابعة أن زهدها ما كان عجزاً منها عن اللذات وقصر باع في نيل الغنى فقد خطبها كثير من الأغنياء والفضلاء منهم الحسن البصري المشهور أمره فردته كما ردت غيره وبعثت إليه بهذه الأبيات:

راحتي يا اخوتي في خلوتي

وحبيبي دائماً في حضرتي

لم أجد لي عن هواه عوضاً

وهواه في البرايا محنتي

ص: 13

حيثما كنت أشاهد حسنه

فهو محرابي إليه قبلتي

إن أمت وجداً وما ثم رضاً

واعنائى في الورى واشقوتي

يا طبيب القلب يا كل المنى

جد بوصل منك يشفي مهجتي

يا سروري يا حياتي دائماً

نشأتي منك وأيضاً نشوتي

قد هجرت الخلق جمعاً أرتجي

منك وصلا فهو أقصى منيتي

وكثيرون هم الأغنياء الذين كانوا يعرضون عليها الدور الفاخرة المترفة الغارقة بالحرير. وكثير منهم أولئك الذين كانوا يلحون عليها بقبول الدنانير الكثيرة فكانت ترفض هذا كله وتفر منه فرار السليم من الأجرب. فمن ذلك أن رجلاً أتاها يوماً بأربعين ديناراً ورجاها أن تتقبلها قائلاً: (تستعينين بها على بعض حوائجك). فبكت ثم رفعت رأسها إلى السماء فقالت: (هو يعلم أني أستحي أن أسأله الدنيا وهو يملكها، فكيف أريد أن أحدها ممن لا يملكها؟).

وأجمل من هذا وأروع أنها كانت تعبد الله بعاطفة حب تنزهت عن الغرض المادي وسمت فوق مخاوف الجنس البشري ومطامعه وفي ذلك تقول: (إلهي إذا كنت أعبدك رهبة من النار فاحرقني بنار جهنم. وإن كنت أعبدك رغبة في الجنة فاحرمني منها. وأما إذا كنت أعبدك إلهي من أجل محبتك فلا تحرمني من جمالك الأزلي).

أما شعرها فهو في الذروة من شعر التصوف. وحسبها فخراً أن أحدهم قال: (كانت رابعة السابقة إلى قواعد الحب والحرمان في هيكل التصوف الإسلامي وان الذي فاض به بعد ذلك الأدب الصوفي من شعر ونثر في باب الحب والحزن فهو نفحة من نفحات السيدة رابعة العدوية أمام العاشقين والمحزونين في الإسلام).

هذا والمعترفون للسيدة بالفضل في ميدان الأدب الصوفي كثيرون. والآن يحسن بنا أن نورد نخبة من شعرها الوجداني المعبر:

لقد أعرضت شاعرتنا عن كل شيء لتقبل على الله وحده. وزهدت في كل أمر لتأنس بقربه ورضاه. لم يكن في قلبها متسع لأي شأن من الشؤون، ذلك لأنها أحبت الله بكل ما في قلب المرأة من العاطفة المتأججة العميقة، وبكل ما في روحها من الأشواق اللاهبه البعيدة. فجاء شعرها عاطفياً مؤثراً فياضاً بالشجن. ومن ذلك قولها:

ص: 14

إني جعلتك في الفؤاد محدثي

وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وتقول أيضاً:

حبيب ليس يعدله حبيب

وما لسواه في قلبي نصيب

حبيب غاب عن بصري وشخصي

ولكن عن فؤادي لا يغيب

وتطالع رابعة سفر أيامها وتتلف معددة ما أتته من الأعمال فترى في نفسها التقصير، وترى أن زادها من الأعمال الفاضلة أقل من القليل؛ ثم تذكر الله ولذة رضاه وسبيل لقائه الطويل المحفوف بالدموع والآلام والمشاق فتخطر لها فكرة العذاب فتهتف بلوعة وحسرة:(إلهي أتحرق بالنار قلباً يحبك؟!) ويضنيها التفكير فتتناول القلم وبيد مرتجفة من الانفعال تكسب على القرطاس ما يعتلج في قلبها الذاكي من المواجد والآلام فتستوي لديها هذه النفاثة الرائعة:

وزادي قليل ما أراه مبلغي

أللزاد أبكي أم لطول مسافتي؟

أتحرقني بالنار يا غاية المنى؟

فأين رجائي فيك أين مخافتي؟

وتحدثنا الرواية أن رابعة بعد أن بلغت الثمانين من العمر أصبحت وكأنها الحلال البالي، تتحامل على نفسها من شدة الإعياء. وإذا مشت تكاد تسقط من فرط الكلال وعندما اقتربت منيتها أوصت صديقتها المخلصة عبدة بنت أبي شوال بأن تكفنها بعباءة صوفية صحبتها شطراً من حياتها وشهدت قيامها في الأسحار وتهجدها في الليالي وتبللت بدموع الخشوع.

فلما جاءها القدر المحتوم سنة خمس وثلاثين ومائة هجرية كفنت بعباءتها الحبيبة وخمار صوفي كانت تلبسه ثم دفنت في جبل الطور شرقي القدس.

وهكذا كف قلب رابعة العامر بالحب الإلهي الخالد عن الخفقان ولكن بعد أن وقع أجمل الألحان وأسمى الأنغام.

رعد الكيالي

ص: 15

‌أرجواش المنصوري

للأستاذ عطية الشيخ

مهداة إلى أبطال الفلوجة

خاتمة قرن:

نحن الآن في السنة الأخيرة من القرن السابع الهجري، قرن المصائب والآلام على العالم الإسلامي، فقد اجتاح فيه التتار ممالك آسيا الإسلامية، وقوضوا بغداد، وختموا الخلافة الإسلامية أفجع خاتمة. ولولا أن الله قيض لهم من جيش مصر الباسل حاجزاً دفعهم عن بلاد الشام، لما أوقفهم عن تخريب أفريقية الإسلامية إلا ساحل بحر الظلمات، وقد جعلوا (تبريز) المدينة الإسلامية الفاضلة عاصمة لهم، استعداداً للقصاص من المصريين، إذا لاحت الفرصة، وواتت الأحوال.

الخونة الثلاثة:

وقد لاحت الفرصة للتتار، عندما فر ثلاثة من كبار أمراء مصر، وقواد جيشها، من القاهرة إلى تبريز، واحتموا بقازان، ملك التتار وحفيد هولا كوخان، فأكرم وفادتهم وأحسن لقياهم، وأخذ يفتلهم في الذروة والغارب، حتى أطلعوه على العورات، وهوّنوا عليه أمر المصريين، وذكروه بدماء آبائه وأجداده، التي سفكها المصريون في عين جالوت، وبينوا له ما بين سلطان مصر وشعبه من جفاء، بسبب وزيره المستبد بالرعية، المحتجن للارزاق، المضطهد للنابهين والأمراء والعظماء، وقد لحق بهؤلاء الخونة الثلاثة أشياعهم وأذنابهم، والناقمون على السلطان (المنصور لا جين) نقمتهم، وزينوا لملك التتار ما زينوا، وحسنوا ما حسنوا، حتى صح عزم قازان على مهاجمة مصر والشام، وما بقى من بلاد الإسلام وهكذا باع الخونة الثلاثة:(قبجق وبكتمر والألبكي) بلادهم، وظاهروا على قومهم وأهليهم وحاربوا سلطانهم.

في قصر قازان:

قازان على عرشه ضاحك السن مستبشر، ومن حوله الخونة الثلاثة، وقد دخل قائده بولاي مع الرسول، راجياً أن يكون استدعاؤه لحرب جديدة تروي نفسه المتعطشة للدماء، وتقر

ص: 16

عينيه المغوليتين بمصارع الهيجاء، وتشنف أذنيه الوحشيتين بصليل السيوف وصهيل الخيول وانين المكلومين، وتملأ جيوبه من سلب المهزومبن، وأموال المغلوبين؛ وقد شاع الفرح في وجهه عندما سمع مقالة الملك له:(يا بولاي، أنت قائدي المغوار، وداهية التتار، وتعلم مالي ولك قبل المصريين من دخول وثارات، تنادي بها دماء آبائي وآبائك المسفوكة بسيوفهم، المطلولة برماحهم، فقد دسنا الدنيا وداسونا، وأذللنا الشعوب وأذلونا، ولم يكفهم رد غاراتنا، حتى هاجمونا في عقر دارنا، غزونا في بلادنا، وما تزال سيوفهم تقطر بدمائنا، وقد آن الأوان لنأخذ بالثأر، ونكيل بالصاع صاعين، ونرد لهم الدين) ثم اشتد غضب قازان وتطاير الشرر من عينيه، وصاح صيحة منكرة، كاد من هولها يخشى على كل من في المنزل:(يا بولاي، اجمع فرسان التتار، وأبطال التركمان، ورماة المغول، ولا تدع ضارباً بسيف، ولا طاعناُ برمح ولا رامياً بسهم إلا جيشه) ثم سكت قليلا وقال:

(يا بولاي الحرب خدعة، والواقعة يجب أن تكون فاصلة، والعدو صعب المراس، تعود أكل لحومنا، واستمرأ شرب دمائنا، فاستعن في هذه الواقعية بجميع أعداء المصريين، من صليبين وروم وأرمن، واضرب المصريين ضربة تنسى العالم هزائمنا المتوالية أمامهم، وتحسم الأمر بيننا وبينهم.)

أجاب بولاي بالسمع والطاعة، وسجد للملك وقبل الأرض بين يديه، ثم قام وهم بالانصراف، فاستدعاه الملك ثانياً وقال له: يابولاي، لا تعبا بالوقت، فإنا لا اطلب العجلة وإنما أطلب النصر، فلا تتحرك بالجيش إلا إذاتم استعدادك، وصار النصر منك على طرف التمام، واقطع على المصريين الأخبار حتى تفاجئهم غير مستعدين).

الشام في فزع:

تم استعداد بولاي وتحرك جيشه نحو الشرق، ووصلت الأنباء بذلك بلاد الشام، بعد أن كشف السر، وعرف عزم التتار، فجفل أهل الشام، وتفرقوا في السواحل، وتشتتوا من الفرات إلى غزة. . . وعظم خوف الناس وصياحهم على الإسلام وأهله) ولولا أن سلطان مصر بعد أن بلغه الخبر أخذ يبعث البعوث لطمأنة خواطرهم، ما بقي منهم في الشام أحد؛ لأن أهوال التتار في البلاد المغلوبة معروفة للخاص والعام، وهم وشيكو عهد بمذابح بغداد وفظائع هولاكو خان في العراقين، لم يرحم شيخاً ولا طفلاُ ولا امرأة، ولا عف عن منكر،

ص: 17

ولم يبق من البلاد التي اجتاحها إلا ما تبقى النيران من الهشيم، والسيول الطائحة من الجحيم.

في أرباص حمص:

وتحرك المصريون إلى بلاد الشام ليحموها من الطغاة الطارئين، ومرت الجيوش المصرية على دمشق، متجهة صوب الشمال، وابتهل الناس لها بالدعاء، والتقى الجمعان قرب حمص، وحمل المصريون على التتار حملة صادقة، فقتلوا منهم نحو خمسة آلاف دون أن يقتل منهم إلا قليل. وفكر التتار في الفرار، وزلزلو زلزالا شديداً.

بعد أن لاح النصر:

ما أعجب شان الحروب، وما أكثر التشابه بين حوادث التاريخ، وما أشبه واقعة حمص بغزوة أحد، فإن المصريين بعد أن لاح لهم النصر، ابتلوا بتخاذل مفاجئ، (واتكل بعضهم على بعض. . فانهزمت الميمنة أولا ثم تبعها جميع العساكر، أمعنوا في الهزيمة، حتى رمى الجند خوذهم وسلاحهم. . . واخذوا يغيرون ازيائهم، ويحلقون شعورهم تنكراً من العامة الذين كانوا يوبخونهم ويشتمونهم كلما مروا عليهم منهزمين أمام التتار)

أحزان دمشق:

بلغت كسرت المصريين دمشق (فخرجت المخدرات حاسرات لا يعرفن أين يذهبن، وأطفالهن بأيديهن، ومن استطاع النجاة بنفسه، فر تاركاً أهله وولده. وتشاور جماعة من عظمائها في الخروج إلى التتار طلباً للصلح قبل أن يدخلوا دمشق عنوة، وكان ممن يرى هذا الرأي، قاضي القضاة ابن جماعة، وشيخ الإسلام ابن تيميه ثم وصل خمسة من كبار التتار إلى دمشق ومعهم فرمان بالأمان، قرء على باب الجامع الأموي، فاطمأن الناس، وسكت عنهم الفزع، وزاح الهلع، وانتظروا الغيث من هذا البزق الخلب.

إذا دخلوا قرية:

تدفقت جموع التتار على دمشق يتقدمها الخونة الثلاثة واستسلم لهم بلد عز عليهم أيام الظاهر بيبرس مناطه، فهل وفى الملوك بعهدهم؟ وهل أغنى الفرمان عن الدمشقين شيئا؟ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة. وكذلك فعل التتار، وهم أولى

ص: 18

من غيرهم بقبيح الفعال عند من لم يكن بينهم وبينه ثأر، فما بالك وقد تمكنوا من بلد تقطعت على أبوابه في الماضي القريب أوصالهم، وأريقت دمائهم، وزينت أسواره بالرماح المشرعة عليها رؤوس قتلاهم؟ لقد عاثوا في دمشق وما حولها من القرى، (المساجد تشرب فيها الخمور، وتهتك الستور، وتفتض البكور، ويقتل المجاورون، ويؤسر الخطباء والمؤذنون، بل على قبر خليل الرحمن، وفي حرم بيت المقدس، هتكت النسوان، وعلقت الصلبان)

هاتان الطائفتان:

والطائفتان هم أهل الدنيا من علماء الدين والمتصوفة، ما خطبهم؟! فردوا على النفاق، فواتّهم بلاغته، وعنت لهم فصاحته، لا يجاوز العلم حناجرهم، ولا التصوف ألسنتهم، طرفت الدنيا أعينهم، وبدا الترف في ملبسهم ومسكنهم ومأكلهم، واستعبدتهم الشهوات، فكانوا أنكى على الإسلام في كل عصوره من الأعداء المغيرين. ومن العجب العاجب أن الحجج والبراهين والأدلة تتدفق على أقلامهم وألسنتهم، فمنذ عهد قريب أفتوا للمسلمين بأن هولاكو أولى بالملك من الخفاء العباسيين، (لأن الملك يدوم على الكفر، ولا يدوم على الظلم) وهم الآنما كاد المقام يستقر بالتتار في دمشق حتى إذا عوا على جميع المسجد أن يدعى لقازان الكافر التتري في الجمع والأعياد بالدعاء الآتي: (مولانا السلطان الأعظم، سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود قازان) فهل تعجب بعد ذلك إذا سمعت ممن خلفهم في العصر الحديث، عبد الله نابليون، ومحمد هتلر، وسيف الإسلام موسوليني! أما إمام المتصوفة الشيخ الحريري، فقد سار ابناه (الحن والبن) في ركاب التتار، يأكلون من فضلاتهم ويوطدون لهم المقام في بلادهم، ويمكنونهم من رقاب ذويهم، وما أحسن قول الجوزي أحمد شعراء ذلك العصر:

بُلينا بقوم كالكلاب أخسة

علينا بغارات المخاوف قد شنوا

هم الجن حقاً ليس في ذاك ريبة

ومع ذا فقد والاهمُ الحن والبنُّ

وقول الوداعي:

أتى الشام مع قازان شيخ مسلك

على يده تاب الورى وتزهدوا

فخلوا عن الأموال والأهل جملةٌ

فما منهمُ إلا فقير مجردُ

ص: 19

ولا يفوتنك جمال التورية في البيتين لأخيرين.

حاج الحرمين:

ما أكثر ما خدع المسلمون بالألقاب؛ فاستغلها للتمكن منهم أعداؤهم، وهاجم أولاء التتار يكافئون قبجق أحد الخونة الثلاثة بأن يولوه من قبلهم على الشام، ويتركوا معه جيوشهم بقيادة بولاي، ليفتح ما بقي بالخديعة كلما أغنت عن الحرب، استبقاء للجيوش، حتى دخل مصر قبل الكلال، وضياع الوقت في الحصار والنضال، وأخذ قبجق الخائن، يرسل إلى البلاد المنيعة طالباً التسليم، يوقع على كتبه:(سلطان الشاتم، حاج الحرمين، سيف الدين، قبجق) فيالمهازل الحجاج وسيوف الدين!

بطل مصري:

علمت جميع مدن الشام الحصينة أن لا طاقة لها بالصمود أمام التتار، بعد أن سلمت دمشق، وثبتت بها قدم التتار، ودُعي لسطانهم في المساجد، وسار في ركابه الحِن والبنّ، وأرتد الجيش المصري إلى ما رواء غزة. لهذا أذعن بلد إثر بلد، واستسلم حصن بعد حصن، وظن التتار أنه قضي الأمر، ولم يبق عليهم إلا الاتجاه إلى مصر، ليدخلوها آمنين، ولكن أيصح ذلك وما زال (أرْجَواش المنصوري المصري) في أقرب المواطن إليهم، معتصماً بقلعة دمشق، ويأبى مع البقية الباقية من المصريين التسليم؟ لقد استهانوا به أول الأمر لأن دمشق نفسها في أيديهم، ويكفي أن يقطعوا عنه الميرة والذخيرة، ليتقدم بنفسه طالباً التسليم، ولكن خاب ظنهم، ورأوه بنقض عليهم من القلعة، الفينة بعد الفينة، ليستخلص من أيديهم، ما يقيم أوده، ويعينه على قتالهم. آنئذ لجأ العدو إلى الخديعة والليان، فتوجه الثلاثة الخونة يتزعمون قبجق إلى القلعة، وهم زملاء سابقون في السلاح لأرَجواش؛ فنادوه ونصخوه بالتسليم. ولما رفض في إباء وشمم وبخوه ما شاءهم البذاء، واتهموه بخيانة المسلمين وإهدار دمائهم! وقالوا له:(دم المسلمين في عنقك إن لم تسلمها).

لا تعجب أيها القارئ الكريم، فما زال الباطل يتطاول على الحق، وتقلب السياسة الأمور، حتى يأذن الله وينكشف للناس ما كانوا عنه غافلين، ويندمون على جهلهم حين لا ينفع الندم. أتدرى بماذا أجاب أرجواش الخونة الثلاثة!

ص: 20

لقد قال لهم: (دم المسلمين في أعناقكم أنتم الذين خرجتم على بلادكم، وتوجهتم إلى قازان، وحسنتم له المجيء إلى دمشق وغيرها من بلاد الإسلام) وسكت عند ذلك، وكان يستطيع أن يوسعهم سباً، ولكن من يحسن العمل داماً لا يُحسن القول، وأبطال النضال يغنيهم الحسام عن الكلام، وقديماً قال قائد عربي لم يُفتح عليه بكلام حين وقف للخطبة:

إذأ لم أكن فيكم خطيباً فإنني

بسيفي إذا جد الوغى لخطيب

وقال الرشيد ملك العرب لنقفوز ملك الروم رداً على تهديده:

(الجواب ما ترى لا ما تسمع).

في قلعة دمشق:

تهيأ أرجوش للحصار والقتال وأجمع أمره على الموت دون التسليم، وشد

أزره من معه من أبناء مصر وأبطال النيل، وصح عزم الجميع على ألا يدخل القلعة تتري وفيهم عرق ينبض، وتوالت وثباتهم من القلعة على دمشق لأخذ ما يحتاجون. . .

ومن تكن الأسد الضواري جدوده

يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا

وترادفت رسل قازان إلى أرجواش بالوعد مرة وبالوعيد والتهديد مرة أخرى، وطال الأخذ والرد، وخطباء المساجد عون على المنابر لسطان الإسلام والمسلمين قازان، وكل شيء حول أرجواش يدعو إلى التسليم، ولكنه هو ومن معه لا يزدادون إلا عزماً وتصميماً وثباتاً ويقيناً.

أغنى عن أمة:

نسى التتار أمر الهجوم على مصر، واستحوذ الخوف عليهم من قلعة دمشق. إنها شوكة في جبينهم وهلاك مشرق عليهم، ولا مقلم لهم في نفسها ما لم يقتحموها على من فيها، وقد يئسوا من جدوى السياسة والخداع، وبات لا يطرف عينهم نعاس، ولا يغشى جفونهم الكرى، ولا يذوقون النوم إلا غراراً، خوفا من هجمات من بالقلعة، وكانت تزداد وتشتد، كلما أمل التتار الإذعان والتسليم، فجاءوا جميعاً وأطبقوا على القلعة من جهاتها الأربع، وهجموا عليها هجمة رجل واحد بخيلهم ورجلهم. ولا يحسن أحد كالتتار مثل هذا الهجوم الخاطف. رمت المجانيق بأحجارها، وهجمت الخيول بفرسانها، وأسرعت المشاة بعجلاتها

ص: 21

ودباباتها، كأنما ثار بكان، أو أشعلت نيران، أو طغى طوفان، وأظلم الجو من الغبار المتطاير، والعثير السائر، وما هي إلا ساعات حتى انجلت الموقعة، عن القعلة الرهيبة سليمة حصينة كعملاق جبار يعبث بشسع نعلة أطفال، أو كالهرم الخالد تتدهدى عليه حبات الرمال، بل كثلان تغدو وتروح عليه النمال. ثم انجلت الموقعة عن بحار من دم التتار، وأكوام من أشلائهم وتلال من رءوسهم، أما أرجواش وصحبه قهم في قلعتهم سالمون، وبالنصر فرحون مستبشرون (فلله درَّهم ما كان أثبت جأشهم وأقوى جنانهم.)

احكمي يا مصر:

لقد كانت الموقعة هائلة، وكان وقعها في نفوس التتار أهول، فلم يطيقوا في الشام كلها بعد ذلك بقاء، وولوا الأدبار بمن بقي معهم إلى بلادهم هاربين، وفي إثرهم قبجث الخائن وصحبه، ونزل أرجواش من القلعة واستولى على دمشق، وأعاد الخطبة لسلطان مصر وزينت البلاد ابتهاجاً بهذا النصر، وطار الحمام الزاجل بالنبأ إلى قلعة صلاح الدين بالقاهرة، فعاد جيش مصر إلى الشام، وهناك أمام قلعة دمشق انحنى قائد الجيش المصري العائد (سلاَّر) لحماة مصر والشام، وأبطال قلعة دمشق؛ تمجيداً وتعظيماً (وفرح أهل الشام قاطبة، وعلموا أن في عسكر الإسلام القوة والمنعة، ولله الحمد)

يأبكم المفتون:

أتدر بماذا ينعت العلماء والمتصوفة أرجواش؟ أنهم يصفونه بالغفلة والجنون، ويكثرون التندر عليه والتهكم منه ويسوقون في ذلك حكايات كثيرة برهاناً على صدقهم. وهاك حكاية واحدة لا شك أنها في وضعهم، وما أقدرهم على الكذب، وإنما اخترت هذه الحكاية دون غيرها لأنها من رواية عالم هو الصفدي عن متصوف هو عبد الغني الفقير، قال سامحه الله:

(لما مات الملك المنصور قلاوون - أستاذ أرجواش - قال لي:

أحضر لي مقرئين، يقرءون ختمة للسلطان، فأحضرت إليه جماعة جعلوا يقرءون القراءة العادية، فأحضر أرجواش سيفاً وقال:

كيف تقرءون للسلطان هذه القراءة! أقرءوا عالياً، فضجوا بالقراءة جهدهم، فلما فرغوا منها

ص: 22

قلت: (يا خونْد) أي يا سيد فرغت الختمة، فقال: يقرءون أخرى، فقرءوها وقفزوا كثيراً ليفرغوا، فلا انتهوا أعلمته وطبت لهم أجرهم، فقال: ويلك! السماء ثلاثة والأرض ثلاثة، والأيام ثلاثة، والمعادن ثلاثة، وكل ما في الدنيا ثلاثة! يقرءون. فذهبت إليهم وأخبرتهم بالخبر، وقلت: احمدوا الله تعالى على أنه ما علم أن هذه الأشياء سبعة سبعة. فلما فرغوا عن الثلاثة، وقد هلكوا من صراخهم طلبت أجرهم، فقال: اكتب عليهم حجة أن ثواب هذه الختمات لمولانا السلطان دون غيره، ففعلت ذلك وجئت إليه بالحجة، فقال: هذا جيد وصرف لهم أجرتهم.) ويعقب المؤرخون على ذلك بقولهم:

حكي عن أرجواش حكايات كثيرة، تدل على تغفل كبير، وتلحقه بعقلاء المجانين، وإن مصر لتصيح وقد مرَّ على أرجواشن نحو سبعة قرون: ألا ليتكم أيها المؤرخون والعلماء والمتصوفون في مثل غفلة أرجواش وشجاعته وأياديه على بلاده.

عطية الشيخ

مفتش المعارف بالمنيا

ص: 23

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة لتوجيهية (2):

غاية الأخلاق عند أرسطو

للأستاذ كمال دسوقي

قلت لك في حديثي الأول أنه بتعمل وتكلف كبيرين نستطيع أن تقتطع نظرية الخير والسعاد لأرسطو لدراستها وتعمقها: فإن هذه النظرية جزء من أخلاقه، والأخلاق جزء من مذهبه، والمذهب في جملته صورة للفيلسوف وعصره وبيئته.

ومن ثم، فإنه لكي تفهم الجزء المطلوب إليك دراسته حق لفهم، يجب أن تضعه في مكانه من الهيكل العام لفلسفة الأرسطية يجب أن تلم بحياة الفيلسوف، وتصنيف كتبه وترتيبها، ثم مذهبه في المنطق والطبيعة وما وراء الطبيعة ثم الأخلاق والسياسة، إلماماً تستطيع معه أن تبين مبلغ الانسجام في عناصر المذهب الأرسطي كله في صلته بالبئة اليونانية.

ليس تاريخ حياة الفيلسوف ذا أهمية إلا بمقدار ما يلقى من ضوء على جوانب فلسفته وما يكشف عن بواعث آرائه وفكره. وسترى أرسطوا في أخلاقه - كما هو في كل نواحي فلسفته، رجلا واقعياً تجريبياً تقوم آراؤه على منطق المشاهدة. ونتائج الملاحظة، في عصر مشبع بالخيال الأفلاطوني، والمثالية المتطرفة والأدب والفن. . . وذلك لما تيسر له من التربية الصحيحة في البلاط المقدوني حيث الترف والتفرغ للعلم وجمع النماذج والإحصاءات. . . هذه التربية التي لم تستطع العشرون سنة التي قضاها في أكاديمية أفلاطون أن تغير من أثرها القوي، فما يزال يختلف مع أستاذه حتى يتخرج عليه - أو يتوفى هذه عنه - أبعد ما يكونان في منهج، كل منهما وفلسفته:

يختلف المنهج عند أرسطو عنه عند أفلاطون، فإن هذا الأخير يسير على طريقة أستاذه سقراط في الحوار والجدل (الديالكتيك) الذي أدخله لأول مرة في اليونان زينون الإيلي في دفاعه عن وحدة أستاذه برميتدس وسكونه بحججه المشهورة، والذي عد أفلاطون إمامه وعمدته حتى أثر به في الأدب اليوناني خمسين سنة كما يقول المؤرخون.

أما أسلوب أرسطو فاسلوب عملي رصين، تذهب به الدقة والتحديد في اللفاظ والمصطلحات إلى حد الغموض أحياناً، ولكنها لا تؤدي به إلى استطراد أو إيجاز يخل أحدهما بمدلول القول. قد يكون هذا التقسيم لكتبه إلى أبوابها وفصولها وفقراتها بهذه

ص: 24

البراعة والأحكام من عمل الشراح الكثيرين الذين تتلمذوت على أرسطو تسعة عشر قرنا أو تزيد (حتى بعد عصر النهضة الأوربية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر)، ولكن مما لا شك فيه أن هؤلاء الأتباع والمفسرين ما كانوا ليصلوا إلى تصنيفها بهذه الدقة والسهولة والنظام، لو لم تكن هي مرتبة في فكر صاحبها وفي كتاباته بهذه الصورة.

وإنك لتلمس لأرسطو منهجاً خاصا في دراسة موضوعات كتبه مما تقرأ في موضوع الأخلاق الذي أنت بسبيله: فإنه إذ يحدد لك منذ البدء غاية دراسته التي يهدف إليها تحديداً واضحاً بالأمثلة يسرد لك كل ما قيل حول هذه الدراسة من آراء. وهنا يقال إن أرسطو كانت معلوماته أوسع ما في زمانه، وأنه في مرحلة دراسته الطويلة التي قاربت الأربعين سنة قد استوعب كافة النظريات في العلم والفلسفة التي ظهرت، فهو يورد لك طرفاً منها فيستبعد الخاطئ بعد نقده، ويستبقي الصواب بعد إنصافه وحمده، فيتقصى مشاكله ويزيد عليه بما يوءدي إلى النتيجة السليمة والحل الواقعي الصحيح. . والأخلاق لها عند أرسطو منهج يستقيه من مشاهدة واقع الحياة وملاحظة أمور الناس؛ وهو المنهج العلمي الصحيح لهذا العلم في عصرنا الحديث كما يقول به فلاسفة الإنجليز من الاخلاقيين. فعلى الأخلاق في نظرهم أن تعرض لدراسة ما هو كائن فعلاً لا كما يجب أن يكون.

وللأخلاق مكانها من فلسفة أرسطو، فإن لأرسطو في هذا الفن كتابين آخرين غير الأخلاق النيقوماخية المنسوب إلى نيقوماخوس ابن أرسطو من زوجته الثانية أربليس، الذي خلد في شخصه أسم أبيه هو، وخلد هذا في كتاب الأخلاق الذي أهداه إليه. أما الكتابان الآخران في الأخلاق، فأحدهما يسمى الأخلاق إلى أوديموس، وهو أسبق من أخلاق نيقوماخوس وأقل دقة وأحكاماً. والثاني يسمى الأخلاق الكبرى. وفيه يلخص أرسطو في مقالتين اثنتين ما سبق أن أورده في الكتابين آنفي الذكر.

والمكان الذي أريدك أن تضع فيه الأخلاق الأرسطية بهذا المعنى وفي مصادرها هذه أحب أن تنظر إليه من ثلاثة وجوه: مكان دراسة الأخلاق من مراحل حياة أرسطو ذاتها، في أي مرحلة هي؛ وهذه المصادر ذاتها أين يأتي ترتيبها في جملة مؤلفات أرسطو حسب تنصيف المؤرخين لها؛ ثم أخيراً الأخلاق كعلم وفن أين موقعها من العلوم الأخرى.

أما من حيث مكان الدراسة الأخلاقية من حياة أرسطو فتستيطع أن تقول إنها تأتي في دور

ص: 25

الأستاذية من هذه الحياة - خصوصاً الكتاب الذي بيد أيدينا. وذلك لما تحمل هذه الكتب من أسماء تظن بها أن تجعل أرسطو من أصحابها في موقف الأب أو الأستاذ - من ناحية، ومن ناحية أُخرى لرسوخ قلمه وثبات فكره فيما يتعلق بدراستها، فإن حياة أرسطو يمتدُّ الطلب فيها (طلب العلم) حتى الثمانة والثلاثين، والرحلة والسفر وتثقيف الاسكندر حتى الخمسين، ثم يأتي دور اللوقيون والأستاذية والتأليف حتى الثالثة والستين، كما تجدون من تصفح تاريخ حياته.

أما موضع مصادر الأخلاق الارسطية بقية كتبه ولوحة مؤلفاته، فيأتي - حسب تصنيف أندرونيقوس الردوسي لجملة كتابات أرسطو - في المجموعة الرابعة، إذ تشمل المجموعة الأولى الكتب المنطقية بوصف المنطق مدخل العلوم ومقدمتها، أو الإبساغوجى كما يسميه مناطق العرب؛ وبوصفه علم العقل أو الآلة أو الأورغانون كما يقول أرسطو نفسه. ولابد من تقديم العلم الذي يفحص الأداة الفكرية قبل فحص الأفكار التي تمخضت عنها هذه الأداة ذاتها؛ ثم تأتي في المقام الثاني كتب الطبيعة، ومنها طبيعيات كبرى تبحث المبادئ العامة المشتركة في جميع الأشياء والطبائع؛ وطبيعيات صغرى تعرض لدراسة أمور جزئية بعينها، والمجموعة الثالثة يسميها الشارح ما بعد الطبيعة: أي التي تأتي في الدور والترتيب بعد كتب الطبيعة وسماها البعض ما وراء الطبيعة، باعتبار ما تعرض له من أمور لا تمت إلى الطبيعة ولا إلى الحس بسبب، بل هي إلى الأمور الكلية المجردة والمبدأ الأول وعلة العلل أقرب والحرف في أسم هذا العلم يحتمل التأويلين. وعلى كل حال فإن فلاسفة العرب يسمون هذا العلم الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي.

وبعد هذه العلوم النظرية بأقسامها الثلاثة تأتي العلوم العلمية والفنية؛ فالمجموعة الرابعة مختصة بكتب الأخلاق وكتب السياسة والخامسة خاصة بكتب الأدب والشعر والفن. فإن أرسطو قد كتب حتى في هذه الشئون، وما تدرس في تاريخآداب اللغات من أقسام القصة وأنواع الشعر والخطابة وغيرها أنت مدين به لأرسطو - هذا المارد الجبار الذي بم يدع علماً ولا فناً إلا سبق في الكتابة فيه؛ والذي يعيش الفكر الإنساني عالة عليه مهما جدد أو تقدم.

ولن يعسر عليك - بعد إذ وقفت على تصنيف كتب أرسطو أن تبين موضع الأخلاق في

ص: 26

لوحة العلوم وقائمة المعارف عنده، لما هنالك من تقارب كبير بين تقسيم العلوم عنده وتصنيف الشراح لكتبه. فإن العلم ينقسم عند أرسطو - باعتباره الغاية التي يؤدي أليها - غلى نظري وعملي.

فالنظري غايته العلم والمعرفة لذاتها ابتغاء الوصول إلى الحقيقة. فإن تعلق العلم والمعرفة بموجود هو مادة وحس وحركة فهو العلم الطبيعي، وإن تعلق بموجودات مجردة عن هذه ولكنها كم ومقدار فهو العلم الرياضي. وإن كانت مطلقة التجريد عن ذلك كله فالعلم الإلهي أو الميتافيزيقا.

أما العلم العملي فليس الغرض منه مجرد الوقوف على الحقيقة أو الحق وبالإنجليزية أعني العلم للعلم والمعرفة لذاتها كالعلم النظري، بل يتجاوز ذلك إلى العمل والتدبير. فموضوعة الخير وبالإنجليزية فإن كان الخير الذي تنشده يتعلق بالإنسان وحده وفي ذاته فذلك علم الأخلاق. وإن تعلق بأسرته ومن يعاملهم من أهله فذلك تدبير المنزل؛ وإن أمتد ليتناول تدبير أمور المملكة أو الدولة جميعاً من حيث هي مجموعة فذلك علم السياسة.

رأيت إذن أين يضع أرسطو علم الأخلاق من لوحة علومه؟ هو أول العلوم العملية التي تدبر أمر الإنسان بما هو إنسان. فإن شئت بعد هذا أن ترجع معي إلى هذا التصنيف الذي توسع به فلاسفة العرب ونقله منهم الفارابي وابن سينا وغيرهم، فلاحظ ما يأتي:

(1)

لم يدخل أرسطو في هذا التصنيف علم المنطق لأنه اعتبره مدخلا ومقدمة كما قلنا. وإنما أحل محله العلم الرياضي بعد أن قدم عليه الطبيعي، وأن لم يؤلف هو في الرياضة كتباً مستقلة.

(2)

أن العلوم النظرية تتدرج حسب نزوعها إلى التجريد - فالميتافيزيقا أرقاها، ولهذا يسميها العرب العلم الأول (الطبيعيات) والأوسط (الرياضيات) والأعلى (الإلهيات).

(3)

والعلوم العلمية تتدرج من الوحدة إلى الكثرة ومن تدبير شئون القرد إلى تدبير شئون الدولة.

(4)

والعلم النظري أشرف من العملي لأنه يراد به كمال العقل الإنساني.

(5)

كما أن العلم العملي أشرف من الفني لأنه يدبر أمر الإنسان ويتعلق به بينما يعمل الفن في الأشياء والمحسوسات.

ص: 27

وذلك بعض ما تجد في فلسفة أرسطو في ترتيب وانتظام ومذهبية.

وإنك بعد هذا لجدير بأن تقوم على قراءة أرسطو وتحليله معي بأفق أوسع وفهم جديد، حين تلتقي مرة ثالثة في الحديث المقبل إن شاء الله.

كمال دسوقي

ص: 28

‌الشعر المصري في مائة عام

للأستاذ سيد كيلاني

الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية

من 1882 - 1919

- 6 -

احتل الإنجليز البلاد المصرية في عام 1882م فبدأ بذلك عهد جديد أخلد المصريون فيه إلى الهدوء والسكينة، وأخذت الحالة المالية تتحسن يوما بعد يوم، فعم الرخاء واستتب الأمن وانتشرت الطمأنينة وساد العدل وسارت البلاد في طريق التحضر بخطى واسعة. وأقبل المصريون على التعلم فكثرت المدارس والمطابع والصحف والمجلات. وراجت سوق الكتب، وجد الناس في طبع الكتب القديمة وترجمة روائع الأدب الغربي، وشعر الجميع بعجز اللغة العربية وقصورها عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة. ففكروا في إصلاحها واختلفوا في طريقة الإصلاح. وقد ظهر أثر تلك الحركة عند الشعراء، فنظم حافظ إبراهيم قصيدة على لسان اللغة العربية قال فيها:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

ثم أخذ الروح الوطني في الظهور والنمو حتى جاء مصطفى كامل فالتف حوله الشبان والشيوخ، وازدهرت الصحف الوطنية وجدت في مهاجمة المحتلين. وساهم الشعراء في تلك الحركة فنظموا القصائد الحماسية في تحريض الوطنيين على الجهاد والكفاح، وفي هجاء الإنجليز وكل من يتعاون معهم من المصريين، وكان لورد كرومر - وهو أول معتمد بريطاني في مصر - قد وضع في يديه مقاليد الحكم يصرف الأمور كيف يشاء وفقا لمصلحة المستعمر التي لم تكن متفقة مع ما يصبو إليه المصريون من الرغبة في الاستقلال والتمتع بالحكم النيابي، ونشر التعليم بجميع أنواعه بين أبناء البلاد والظفر بحرية الصحافة والخطابة وغيها من أنواع الحريات. لذلك أضحت سياسة لورد كرومر التي لم تتمش مع هذه الرغبات الوطنية موضعاً لهجوم شديد، ونقد عنيف من الكتاب والشعراء. ونظمت في عصر ذلك الرجل كثير من القصائد الفياضة بالعواصف الوطنية

ص: 29

الصادقة.

وفي عام 1906 وقعت حادثة دنشواي المشهورة فهاجمت الخواطر واشتد الحنق على المحتلين. وأخذ ينظمون القصائد في البكاء على ما أصاب تلك القرية والتشهير بالإنجليز. فلشوقي قصيدة مطلعها:

يا دنشواي على رباك سلام

ذهبت بأنس ربوعك الأيام

ولحافظ إبراهيم قصيدة جاء فيها:

ليت شعري أتلك محكمة التفت - يش عادت أم عهد نيرون عادا

كيف يحلو من القوى التشفي

بضعيف ألقى إليه القيادا

إنها مثلة تشف عن الغي

ظ ولسنا لغيظكم أندادا

وقال إسماعيل صبري من قصيدة ينوه بعفو الخديوي عباس عن المسجونين من أهل دنشواي:

وأقلت عثرة قرية حكم الهوى

في أهلها وقضى القضاة الأخرق

إن أن فيها بائس مما به

وأرن جاوبه هناك مطوق

وارحمتي لجناتهم ماذا جنوا؟

وقضاتهم ما عاقهم أن يتقوا

وفي عام 1907 عزل لورد كرومر من منصبه ففرح بذلك الوطنيون فرحا عظيما، وقد عبر الشعراء عن ذلك الفرح.

قال شوقي من قصيدة طويلة:

لما رحلت عن البلاد تشهدت

فكأنك الداء العياء رحيلا

وقال الكاشف:

وتنفس الصعداء شعب حامل

هما يضيق به الفضاء الأرحب

والذي لا شك فيه أن الأحوال المالية قد تحسنت كثيراً في عهد كرومر، واستتب الأمن، وساد العدل وانتشرت الطمأنينة وعم الرخاء. وفي ذلك يقول حافظ

سنطري أياديك التي قد افضتها

علينا فلسنا أمة تجحد اليدا

أمنا، فلم يسلك بنا الخوف مسلكا

ونمنا، فلم يطرق لنا الذعر مرقدا

وكنت رحيم القلب تحمي ضعيفنا

وتدفع عنا حادث الدهر إن عدا

ص: 30

على أن المصريين قد اختلفوا في الحكم على كرومر. فمن نظر إلى نمو الموارد المالية على يديه وتقدم حركة العمران مدحه وأثنى عليه. ومن نظر إلى الأحوال السياسية وتخلف الشعب المصري عن غيره من الشعوب الناهضة في ميدان السياسة والعلم، وتمتع الأجانب بجل خيرات مصر، وانتشار الشركات الأوربية في طول البلاد وعرضها، وإمعانها في النهب والسلب من نظر إلى هذه الأحوال قدحه ونهى عليه. وفي ذلك يقول حافظ:

تشعبت الآراء فيك فقائل

أفاد الغنى أهل البلاد وأسعدا

وكانت له في المصلحين سياسة

ترخص فيها تارة وتشددا

يناديك قد أزريت بالعلم والحجا

ولم تبق للتعليم يالورد معهدا

وأنك أحصبت البلاد تعمدا

وأجدبت في مصر العقول تعمدا

قضيت على أم اللغات وإنه

قضاء علينا أو سبيل إلى الردى

ووافيت والقطران في ظل راية

فما زلت بالسودان حتى تمردا

فطاح كما طاحت (مصوع) بعده

وضاعت مساعينا بأطماعكم سدى

ففي هذه القصيدة نتبين رأي حافظ في كرومر، ثم رأى المناصرين لسياسة هذا العميد، ثم رأى الناقمين على هذه السياسة وهم من الحزب الوطني. والملاحظ هنا أن قصيدة حافظ في وداع كرومر كانت هادئة. والسر في ذلك أن حافظا كان تلميذا لمحمد عبده الذي كان صديقاً حميماً لكرومر يستنجد به ضد الخديوي عباس. أما قصيدة شوقي فقد بلغت الغاية في العنف. ذلك لأن شوقي كان شاعر الخديوي الذي كانت بينه وبين كرومر عداوة شديدة. وللكاشف قصيدة لا تقل روعة وعنفا عن قصيدة شوقي وطلعها:

أعيى عزائمك القضاء الأغلب

وطوى صحيفتك الزمان القلب

ومنها:

أنسيت محنة مصر في سودانها

أيام هام الجيش فيه يعذب

أهملته حتى إذا فتكوا به

أمسى فؤادك جمرة تلتهب

ومنها. وفيه إشارة إلى إتقافية الحكم الثنائي في السودان بين مصر وبريطانيا:

غافلتهم حينا فلم يتلفتوا

إلا ونابك فيهم والمخلب

لولا خضوع وزارة هيابة

لم يستقم لك في السياسة مضرب

ص: 31

أما رأي المناصرين لسياسة كرومر والمحبذين لها، فقد حمل لواءه الشاعر أحمد نسيم الذي ستؤجر للتغني بمناقب الإنجليز وفضائلهم وله قصيدة مدح بها لورد كرومر وودعه ينما رحل عن البلاد، ومطلعها:

يا منقذ النيل لا ينسى لك النيل

يداً لها من فم الإصلاح تقبيل

إنا نودع فيك العرف أجمعه

وما لنا غير حسن الصبر تعليل

ومنها:

جعلت مصر بلاد أمطرت ذهبا

فتربها بمذاب التبر مبلول

خلفتها ويد الإسعاد تكنفها

داراً عليها من النعمى سرابيل

حللت فيها وغل الجور مقعدها

ذلا وفارقتها والجور مغلول

وكنت ملجأها أيام نكبتها

وللحوادث بابن النيل تنكيل

سست العباد بأمر ليس ينقصه

ناه تحقق أن الأمر مفعول

وقد رفعت من الإصلاح ألوية

لها رواق على الأصقاع مسدول

وقمت بالأمر حتى مالنا طلب

يرجى وأنت أمام الله مسؤول

وكان مصطفى فهمي رئيس النظار وقتئذ فد أقام حفلة تكريم للورد كرومر بمناسبة سفره إلى بلاده. وفي هذه الحفلة خطب رئيس النظار فأطرى كرومر وأثنى عليه. فهب الشعراء ينعون على مصطفى فهمي ما فهل، ويتناولونه بالنقد والتجريح. ثم خطب لورد كرومر في هذه الحفلة فأهان المصريين ورماهم بالتعصب ونكران الجميل، وعرض بالخديوي إسماعيل تعريضاً شديداً. وكان الأمير حسين كامل (السلطان حسين) حاظراً فسمع ما قيل في أبيه من الشتائم والسباب وقد ظهر أثر ما حدث في هذه الحفلة عند شوقي حيث يقول:

أوسعتنا يوم الوداع إهانة

أدب لعمرك لا يصيب مثيلا

هلا بدا لك أن تجامل بعد ما

صاغ الرئيس لك الثنا إكليلا

انظر إلى أدب الرئيس ولطفه

تجد الرئيس مهذبا ونبيلا

في ملعب للمضحكات مشيد

مثلت فيه المبكيات فصولا

شهد (الحسين) عليه لعن أصوله

وتصدر (الأعمى) به تطفيلا

والحسين هو حسين كامل. والأعمى هو الشيخ عبد الكريم سليمان أحمد علماء الأزهر. وقد

ص: 32

كان علماء الأزهر يميلون إلى كرومر لما عرف عنه من صداقته لأستاذهم الشيخ محمد عبده. وقد اهتم شوقي في هذه القصيدة بالدفاع عن جد الخديوي عباس إرضاء للخديوي من ناحية، ومن ناحية أخرى وفاء للخديوي إسماعيل الذي ولد ببابه كما قال:

أأخون إسماعيل في أبنائه

ولقد ولدت بباب إسماعيلا

سيد كيلاني

ص: 33

‌أصداء

للأستاذ كامل محمود حبيب

إلى إخواني الذي حبوني بالمحبة والثقة على حين قد شطت

الدار وبعد المزار

(كامل)

قرأت في العدد 680 من الرسالة الغراء رسالة من الأستاذ محمود الطاهر الصافي برمل الإسكندرية إلى يقول فيها (. . . وبعد فإني أعلم أنك كنت صديقاً لإمام الأدب وحجة اللغة، عبقرينا الرافعي - لهذا رأى أن اللغة العربية حقاً عليك تؤديه بعمل تنشر به للرافعي ذكراً جديداً، تلفت إلى أدبه (الباعث لأمة). وأقترح أن يكون هذا العمل كما يأتي:

أولاً: - جمع ما أثنى به الكتاب والعظماء على الرافعي، وهو شيء كثير يؤلف مجلداً ضخماً أو أكثر، وما رأيت أحداً أثنى عليه بمثله وفيه أبلغ القول وأجمله.

ثانياً: - جمع كل ما عرف له من شعر ونثر، والمبالغة في هذا الجمع حتى لا يلفت مما أثر عنه شيء.

ثالثاً: - السعي لإنشاء كرسي لأدبه في الجامعة، فما هو بأقل من شوقي، ولا منزلته بأقل من منزلته؛ بل له ميزة لم يشاركه فيها أحد، وهي إلزام نفسه بالا يكتب - وما أدراك ما كتابته إلا في مثل الشرق والإنسانية العليا).

هذا كلام قرأت فيه الروح الوثابة الطاهرة والغيرة الجياشة النقية، والعقل الحصيف والقلم الرصين. وقرأت فيه نداء حاراً قوياً يدفع إلى غاية سامية رفيعة. فشكرت لصاحبه غيرته على الأدب الرفيع أن تنطمس معالمه في ثنايا الزمن، وأثنيت على إشفاقه على حقبة من تاريخ العقل المبدع أن تلتف في مطاوي النسيان، وحمدت له الثقة الغالية التي حباني بها حين اختارني من بين صحاب الرافعي لأضطلع بهذا العمل الجليل، وهو عمل ينشط له القلب وتهفوا إليه الروح.

هذا وإن ما قيل في الرافعي - بعد وفاته - ينشطر إلى قسمين: ما قيل في الربوع المصرية، وأكثره بين أيدينا لا ينقصه إلا أشياء ضئيلة: لا يحتاج جمعها إلى عناء ولا

ص: 34

يتطلب العثور عليها كبير جهد أما ما قيل عنه في الأقطار العربية، فهو كثير متناثر لم أجمع منه إلا شذرات يسيرة وقعت لي عن غير قصد ولا تعمد، لهذا فإنا أتقدم إلى إخواني الأدباء. . . في مصر والأقطار العربية - ممن كانوا يعنون بأدب الرافعي ويحتفظون بآثار، أن يتفضلوا فيرسلوا إلى كل ما وقع تحت أيديهم من كلمات قيلت في الرافعي بعد وفاته، سواء أكانت شعراً أو نثراً.

أما الاقتراح الثاني، فهذا عمل اضطلع به كبير من أدباء الشباب هو الأستاذ محمد سعيد العريان، وهو قد عاشر الرافعي زماناً طويلاً وتغلغل إلى حياته الخاصة، ولصق به سنوات وسنوات يأخذ منه ويعطي، ويجلس إليه في خلوته، ويراه في مجلس قراءته وفي محراب كتابته. واستطاع بعد ذلك، أن يكتب بقلم الخبير المطلع - كتاب (حياة الرافعي) وهو سفر جليل فذ يتحدث عن حياة الأديب الكبير في صراحة وحق. ولقد قطع الأستاذ سعيد في هذا العمل شوطاً بعيداً. وأظنه نشر كل مؤلفات الرافعي سوى (حديث القمر) و (تحت راية القرآن) و (على السفود) و (ديوان الرافعي) وما كان لي أن أقتات على حق صديق عزيز على نفسي هو الأستاذ سعيد العريان.

أما الاقتراح الثالث، فإنا ارفع الكاتب الأديب عن أن يجحد التيارات الأدبية والسياسية التي لا تتورع عن أن تجرف مثل هذا المشروع بين أمواجها المتضاربة. ولا ريب في أن الكاتب الذكي يعلم أن معارك الرافعي العنيفة مازال يرن صداها في آذان جماعة من ذوي السلطان والجاه والكلمة في السياسة والأدب. ورغم ذلك فإنا لن أقعد عن أن أبذل جهد الطاقة على صفحات الرسالة إن شاء الله -، في سبيل تحقيق الغاية التي ننشدها جميعاً مخلصين لوجه الوطن والأدب.

وبعد، فإني أطمع أن يرن صدى صوتي في أرجاء الأرض فيستجيب له أخواني في مصر والأقطار العربية، وأطمح أن يكون الزمن قد مسح بيده الرفيقة على قلوب ذوي السلطان والجاه والكلمة في السياسة والأدب فنسوا معارك وقتية نشبت بينهم وبين الرافعي، فلا يجدون - الآن - غضاضة في أن يعترفوا بمكانته السامية في الأدب والعلم.

(2)

وقرأت في العدد 268 من الرسالة خطاباً إلي من الأديب أحمد محمد فرغلي عثمان بأسيوط

ص: 35

قال فيه (قد أطلعت على مقالك المعنون بحماقة أب في العدد 858 من الرسالة. . . ولما انتهيت إلى قولك: (والآن ماذا يختلج في فؤادك الخ) لم ترقني خاتمته على هذا النحو؛ لأن القارئ يميل على أن يعرف نهاية القصة بأسلوب ترتاح إليه نفسه ويطمئن قلبه وتسكن عنده خلجاته، وأنت قد أبهمت مصير حياة الرجل فلم نعرف. أتخاذل أمام الحزن نهلك.) إلى آخر ما جاء في عبارته.

لا عجب - يا سيدي الأديب إن أنا ختمت قصة من الحياة بأسلوب لم يطمئن له قلبك ولم تسكن عنده خلجات نفسك، فما أنا سوى مصور يصور لوحة من الطبيعة جذبت قلبه بروعتها، وسيطرت على لبه برونقها؛ فرسمها بريشته؛ ونثر الألوان على نسق ارتضاه فنه، ووزع الظلال على طريقة اطمأن لها خياله ولكنه رسم لوحه من الطبيعة. أو أنا قاص ينشر حادثة من الحياة انفعلت لها نفسه وتأججت لها عاطفته واضطربت مشاعره، فسكبها على القرطاس في أسلوب رضي عن قوة سبكه فيه الحياة والحركة؛ ولكنه قص حادثة من الحياة. والقصة في الحياة حلقة من سلسلة الحوادث لها ما قبلها ولها ما بعدها. فما كان لي أن أرسم حدوداً ضيقة للصورة التي أكتب فتبدو في رأى العين محدودة مبتورة، وتبدو في رأى العقل في منأى عن الحياة والحركة

وإن أنا نزلت عند رأي القارئ العزيز، اضطر قلمي أن يخلق نهاية القصة بخيال يصبغها بصبغة شوهاء مصنوعة لا يستسيغها عقل ولا يقبلها رأي، وأرغمت نفسي على حوادث ملفقة لا تنبض بالحياة ولا تخفق بالحركة؛ على حين أنني أصور أناساً يعيشون بيننا وما تزال أشباحهم تتدافع على مسح الحياة لم يبلغوا النهاية بعد وهكذا يريد القارئ أن يدفعني إلى أن أفكر بعقل رجل كيوسف وهبي يوم أن كان هو الممثل الأول في مصر يوم أن كان يريح النظارة من عناء التفكير في نهاية القصة فيقذف بأبطاله جميعاً إلى النهاية المحتومة، فيقتل البعض، ويلقي بالبعض في اليم، ويقذف بالبعض في نار يضطرم أوارها. هذا نمط من القصة عفت على آثاره معالم القصة الحديثة التي تتطلب من الكاتب أن يشرك القارئ في حوادث القصة ليشعر بأنه يؤلف بعض فصول الرواية.

لقد سأل الكاتب الأديب - في كلمته القصيرة - تسعة أسئلة أثلجت جميعاً صدري، لأنني أيقنت بأن القارئ يشاركني الخاطرة ويحاورني الرأي، وهذا هو ما يهمني. أما أن حادثة

ص: 36

من الحياة تروق القارئ أولا تروقه فهذا مرجعه إلى ذوقه ورأيه وثقافته فحسب

(3)

يدفعني الحديث في هذا الموضوع إلى الوراء قليلاً. . . إلى العدد 854 من الرسالة، يوم أن كتب إلي الأخ عطية قنون بدمياط يقول:(قرأت ما كتبته بعنوان (زوجة تنهار) فأكبرت بلاغة أسلوبك. . . حتى انتهيت من القراءة إلى كلمة: (يا للقصاص). فلم تعجبني خاتمة كلمتك لأن القارئ يود أن تكون نهاية الخائنة أشد وأنكى من أن تطرد إلى الشارع. كيف واجهت الشارع؟ أحرى الذئاب وراءها؟ أممازالت حية تتمرغ في الأوحال؟. . . أم ماذا صنعت وصنع؟ إن لم يكن حقيقة فخيالاً، لتكون عبرة وعظة).

وأعجب ما في هذه الكلمة قول الأديب (لأن القارئ يود. . .) والأديب عطية نفسه يعلم تماماً أنه لا يعنيني ما يود القارئ بقدر ما يعنيني أن أعرض صورة فنية صادقة من الحياة لا أتشبث فيها بخيال ولا أزور حادثة. ونسى الكاتب الأديب أنني أستوحي الحياة فحسب فقال (إن لم يكن حقيقة فخيالاً، لتكون عبرة وعظة) فهو أنكر أن في الحياة النابضة عبرة وعظة، وأنكر أيضاً - أن في الشارع عقاباً صارماً قاسياً هو أشد وأنكى ما تنمى به فتاة كانت تعيش - يوماً ما - في كنف الزوج آمنة مطمئنة. لا يا سيدي الكاتب، أنا لا أوافقك في الرأي، وستجدني - إن شاء الله - على حق.

كامل محمود حبيب

ص: 37

‌شركات الذهب الأسود في الشرق الأوسط

للأستاذ فؤاد طرزى

عندما أعلن في شهر ديسمبر من عام 1906 أن شركتي نفط (ستاندر)(وسكوني فاكوم) وهما من الشركات المساهمة في شركة النفط العراقية تنويان المساهمة في شركة النفط العربية في المملكة العربية السعودية بعد أن عقدنا صفقة شرائية مع شركة النفط البريطانية الأردنية، استرعت مسألة أسلوب الإشراف والسيطرة على جميع نفط الشرق الأوسط انتباه الجمهور، إذ أن هذا الأسلوب الذي كان ينظر إليه غالباً على ضوء قوة سياسات النفط صار يقوم بصورة مباشرة على ضوء اعتبارات اقتصادية تتصل بالإنتاج والتوزيع.

ولذلك يبدو لنا أنه من الضروري لتقدير مجرى التطورات المستقبلية كتلك التي سبق الإعلان عنها أن نفهم أولاً كيف تمت السيطرة على نفط الشرق الأوسط ومن هي تلك الدول المشتركة في السيطرة؟ ثم نعرف ثانياً نوعية الضغط الاقتصادي الذي يدفع إلى إجراء تحول أساسي في طريقة السيطرة على إنتاج النفط وتوزيعه.

كإنتاج الشرق الأوسط جميعه من النفط حتى تاريخ منح المملكة العربية السعودية امتياز استخراج النفط في أراضيها إلى شركة النفط الأميركية العربية (ارامكو) عام 1923 خاضعاً لأشراف الجامعة المعروفة بشركة النفط العراقية، ولا تزال هذه الجماعة تقوم بهذا الأشراف سواء أكان ذلك مباشرة أم عن طريق الفروع، أو بمقاولات امتياز متنوعة، ويشمل الإشراف هذا العراق وسورية وفلسطين وشرق الأردن وسواحل الإمارات العربية ابتداء من الخليج الفارسي، ثم حول رأس شبة الجزيرة الجنوبي التي تدخل عدن ضمنها. وهي مقسمة إلى أربعة أقسام متساوية تتقاسمها شركة النفط البريطانية الإيرانية المحدودة وشركة (شل) الهولندية الملكية، وشركة النفط الفرنسية وشركة نفط الشرق الأردني وهي فرع تملكه بالتساوي شركة ستاندرد في نيوجرسي، وشركة سكوني فاكوم. ولكل منهم حصة تعادل 75 و23 بالمائة، ويملك الخمسة في المائة الباقية المسترسي. اس. كالبنكيان عن طريق شركة خاصة تدعى شركة المساهمة والاستثمار المحدودة. وقد منحت حصة المستر كالبنكيان تقديراً لخدماته في مفاوضات الحصولي على امتياز شركة لنفط التركية الأصلية التي كانت تدير الامتياز سابقاً قبل أن تحصل عليه شركة النفط العراقية. وشركة

ص: 38

النفط - البريطانية - الإيرانية منظمة مشتركة تشرف على الأملاك والمالح التي كانت تملكها شركات (دراسي) قبل الحرب العالمية الأولى. وتمتلك الحكومة البريطانية 52. 5 بالمائة من جميع ممتلكات الشركة، ولها حق تعيين مديرين عامين اثنين للشركة يتمتعان بسلطة اعتراض مطلقة على قرارات الأربعة عشر مديراً المنتخبين من قبل أصحاب الأسهم الباقين. ولا يتم اللجوء إلى هذه السلطة في الأعمال المتعلقة بإشعال الشركة التجارية، ولكنها تستخدم فقط في المسائل المتعلقة بالسياسة العليا وبالعلاقات السياسية. وعلة كل فمن المفروض عملياً أن شركة النفط البريطانية الإيرانية تعمل وفق رغبات الحكومة البريطانية بشكل لا يتعارض والعلاقات القائمة بين شركات النفط الأميركية وحكومة الولايات المتحدة الأميركية.

وتجرى معظم عمليات إنتاج شركة النفط البريطانية - الإيرانية، ما عدا بعض النشاط الوطني الأولي في المملكة المتحدة نفسها. وتمتد هذه العمليات امتداداً محدوداً في الشرق الأوسط أي في إيران والكويت ومناطق شركة النفط العراقية. . . وإن أسواقها تغطي نصف الكرة الشرقي، ولذلك فإنها معدودة في مصاف شركة ستاندرد في نيوجرسي وشركة سكوني فاكوم، وتعتبر من بين الشركات الكبرى التي تبيع النفط في أسواق العالم.

وشركة (شل) الهولندية الملكية هي نوع من أنواع الاندماج بين المصالح البريطانية والهولندية من الوجهة العالمية، إلا أنها تعتبر نفسها شركة بريطانية تخدر الأغراض الدبلوماسية والاتجاهات السياسية. وهي كشركة ستنادرد في نيوجرسي تدير صناعة النفط في قسم واسع من العالم وتسيطر بالإضافة إلى مصالحها في شركة النفط العراقية على مجموع الإنتاج في الهند الشرقية الهولندية وتأتي في المرتبة الثانية بين منتجي النفط في فنزويلا بأمريكا الجنوبية كما أن لها فرعاً يتمثل في شركة أميركية تعد من أعظم شركات النفط في الولايات المتحدة. وشركة (شل) تفوق، من حيث الأهمية، وكلاء النفط في رومانيا، وهي تملك أيضاً مراكز إنتاج لها أهميتها في أماكن أخرى في أوربة وأميركية الجنوبية؛ وإن مدى نشاطها في أسواق العالم واسع جداً، فهي كشركة ستاندرد في نيوجرسي تسيطر على معظم صناعة النفط الفنية الحديثة.

أما شركة النفط الفرنسية فإنها تستخدم كأداة للسياسة الوطنية الفرنسية، مع أن الحكومة

ص: 39

الفرنسية لا تملك سولا 35 % فقط من أسهمها، أما الأسهم الباقية فيمتلكها المستثمرون الفرنسيون وموزعو النفط الفرنسي، كما أن بعض شركات النفط الأجنبية التي تعمل في الأراضي الفرنسية تملك جزءاً من الاسهم، وتشبه علاقة هذه الشركة بالحكومة الفرنسية إلى درجة ما علاقة شركة النفط البريطانية - الإيرانية بالحكومة البريطانية إلا أن عملياتها أقل اتساعا لأنه لم يكن لها إنتاج حتى إلى وقت قريب ما خلاصتها في شركة النفط العراقية وبعض إنتاج لايؤبه به في فرنسة. وقد حصلت مؤخراً على بعض الحصص في فنزويلا الشرقية، وهي حصص يؤمل أن تصبح فيما بعد موارد فينا من موارد الإنتاج يضاهي ما تأخذه من شركة النفط العراقية.

وفيما يتعلق بشركتي ستاندرد في نيوجرسي وسكوني فاكوم فهما شركتان متنافستان داخل حدود الأراضي الأميركية، ولكنهما شركتان متعاونتان في المناطق البعيدة. وهاتان الشركتان من أوسع المؤسسات النفطية المعروفة، فلهما علاوة على مصالحهما المشتركة في شركة النفط العراقية، ومساهمتها المشتركة في شركة النفط العربية الاميركية، وملكيتهما لاتفاقية شراء النفط الخام من الشركة الإيرانية، منظمة تعرف بسكوتي فاكوم، تدير جميع عملياتها في شرق السويس إدارة مشتركة. وتقوم الشركتان بأعمال الإنتاج والتصفية والبيع أما جهودهما في نصف الكرة الغربي فغير متحدة بل هي على الأغلب جهود متنافسة. وتنشط المنافسة بينهما في أوروبا وأفريقيا الغربية والشمالية وقد تنعدم في أحايين أخرى.

وإن شركة ستناندرد دائماً هي الشريك الغالب، إذ أن عظمة عملياتها تتجاوز الخيال. ففي فنزويلا وحدها تنتج من النفط ما لا يقل عن ثمانية أضعاف ما ينتجه اليوم جميع المنتجين في رومانية ومع ذلك فمنتجة النفط العالمية الجبارة هذه لا تزال طفلة تحبو في الشرق الأوسط، لأن كل نشاطها محصور في حصة أقل من الثمن متمثلة في مساهمتها في شركة النفط العراقية ومحدودة بعشرة آلاف برميل يوميا من الإنتاج. وهذه الحصة تكون أقل من 5. 1 بالمائة من مجموع الإنتاج في الشرق الأوسط ومن مجموع إنتاج شركة نيوجرسي في العالم.

والشركات المذكورة داخلة في شركة النفط العراقية وذلك بموجب اتفاقية داخلية عقدت في 31 يوليه سنة 1928 وهي الاتفاقية المعروفة باتفاقية الخط الأحمر. وهذه الوثيقة تعد

ص: 40

بمثابة تعهد يوضح حقوق ومسؤوليات الشركاء الموقعين عليها من الناحية القانونية سواء بين بعضهم البعض أو بينهم وبين الشركة التي تضمهم. وإن نصوص هذه الاتفاقية التي لا يعرف عنها إلا القليل، تنص على مساهمة في النفط تبلغ ضعف المساهمة في الربح، وتضع قاعدة مؤداها أن الشريك غير القادر على استخراج حصته من النفط يخسرها دون عوض مقابل استخدام رأس المال خلال المدة التي لا يدر فيها ربحا. وتنص النصوص الصريحة التي تدعى - (الفقرات التقييدية) أو (إنكار السلطة الذاتية) والتي سحبت بموجبها الاتفاقية المعروفة - (اتفاقية الخلط الأحمر) على أن شركة النفط العراقية هي الوكيل الوحيد للشركات المؤسسة على أن لا تعمل بموجب ذلك على انفراد، بل أنها تنوب عن الجماعة في المسائل المتعلقة بالحصول على الامتيازات وأجراء عمليات الشراء وبيع النفط والتصفية المحلية. وقد وضعت هذه النصوص الشاملة لمنطقة جرى تحديدها بخط أحمر لتطبق بعد الحرب العالمية الأولى أثر سحق لإمبراطورية العثمانية.

ويتضح من فحص الفقرات التقييدية لاتفاقية الجماعة المتعلقة بمنطقة الخط الأحمر أنها تقع ضمن التقيدات الاستثنائية التي تجاوزتها المحاكم البريطانية، والتي تخلصت أحياناً من رقابة المبدأ القانوني الأميركي. وعلى كل فحينما يلاحظ أن الأطراف الموقعين على الاتفاقية يؤلفون شركات النفط الأربع الكبرى بين الشركات المالية التي تسيطر على أسواق نصف القارة الشرقي وعلى الأسواق الفرنسية العامة، يتضح أن النصوص موضوعة لاجتناب المنافسات.

ويطلب من الموقعين على الاتفاقية الحصول على تجهيزاتهم من المنطقة المحدودة بأسعار التكاليف الحقيقية تاركة فقط ميداناً ضيقاً يتحرك في التوزيع النسبي كمنطقة تصلح للمنافسة في الأسواق.

ويبدو أثر هذا النوع من اتقاء المنافسة في اتفاقية شركة النفط العراقية حين تصبح المنطقة المحدودة مورداً دائماً لتجهيز مناطق الاستهلاك الهامة.

وقد أبلغ الشركاء الأميركيون في شركة النفط العراقية شركاءهم في أواخر سنة 1946 أن من رأي مجلس الإدارة اعتبار اتفاقية الجماعة بأكملها ملغاة، وباطلة وذلك عملاً بنصوص القانون البريطاني، وأنهم وفق القانون الأميركي وحسب السياسة المتبعة ليسوا مستعدين

ص: 41

لإعادة تصديق الاتفاقية دون حذف النصوص التقييدية. ومن المعلوم أن الشركاء ماعدا كالبنيان قد اتفقوا على صيغة جديدة تحدد حقوقهم ومسؤولياتهم المقابلة بغير أدراج الفقرات التقييدية: وتنظر هذه القضية الآن في المحاكم البريطانية وينتظر الاعتراف بملكية المصالح في شركة النفط الأميركية - العربية بنتيجة الفصل في هذه القضية، لأن شركة ستاندردوسكوني فاكوم لا تملكان حرية الحصول على حصة في شركة النفط لأميركية - العربية إن كانت الفقرات التقييدية لا تزال نافذة المفعول.

وقد دخلت ثلاث شركات أميركية فردية أخرى - وهي ستاندرد في كاليفورنيا وتكساس وشركة نفط الخليج - في أعمال استثمار نفط الشرق الأوسط عن طريق شركة النفط العراقية، والشركتان الأولى والثانية ممثلتان في شركة النفط الأمريكية، وتملكان بالاشتراك امتياز استثمار النفط في جميع البلاد العربية السعودية باستثناء الأماكن المقدسة والمنطقة الجيولوجية الجدباء في الغرب. وهاتان الشركتان تملكان أيضاً، كشركة البحرين، امتياز استثمار النفط في جميع جزر أرخبيل البحرين في الخليج الفارسي، وأن شركتي (ستاندرد) في (كاليفورنيا) و (تكساس) تعتبران من بين أعظم شركات النفط الخمس في الولايات المتحدة، إذ تمتد عملياتهما في الخارج إلى الهند الشرقية الهولندية وإلى (غينيا الجديدة) التي لها فيها مصالح مركزة مشتركة في إنتاج لا يزال في طريق النمو، كما أنهما تقومان بأعمال البيع والشراء في شرق السويس، وتشاركان في السيطرة على سوق ذات أهمية في أعمال شركة تكساس في أوربة وأفريقية رغم عدم أهميتها بذاتها، وتتعهدان كذلك أعمال الإنتاج والبيع والشراء في أميركه اللاتينية.

وشركة نفط الخليج، وهي الشركة الأميركية الثالثة العاملة في الشرق الأوسط مستقلة عن شركة النفط العراقية، وهي تملك نصف امتياز شركة نفط الكويت. وأما النصف الآخر فتملكه شركة النفط البريطانية - الأردنية التي منحت امتياز استثمار جميع - نفط الكويت. وتعتبر شركة استثمار الخليج، بالإضافة إلى أعمالها في الشرق الأوسط، منتج مهم في فنزويلا، كما أن لها أسواقاً للبيع والشراء في أقسام أوربة المختلفة.

فؤاد طرزمي المحامي

ص: 42

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

حول محاضرة الأستاذ الزيات في مؤتمر المجمع

أطلع قراء (الرسالة) في الأسبوع الماضي المحاضرة النفيسة الممتعة التي ألقاها الأستاذ أحمد حسن الزيات في مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية منذ أسبوعين، وأجمل نتيجتها في اقتراح يشمل أربعة أمور:

1 -

فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة وهي الارتجال والاشتقاق والتجوز.

2 -

رد الاعتبار إلى المولد ليرتفع إلى مستوى الكلمات القديمة

3 -

إطلاق القياس في الفصحى ليشمل ما قاسه العرب وما لم يقيسوه، فإن توقف القياس على السماع بطل معناه.

4 -

إطلاق السماع من قيود الزمان والمكان ليشمل ما يسمع اليوم من طوائف المجتمع كالحدادين والنجارين والبنائين وغيرهم من كل ذي حرفة.

وقد فتح باب المناقشة في موضوع المحاضرة عقب إلقائها، فأثنى عليها معالي الأستاذ لطفي باشا رئيس المجمع، وكذلك أبدى بعض الأعضاء كالدكتور طه حسين بك والدكتور أحمد أمين بك إعجابهم بها. واقترح معالي السيد محمد رضا الشبيي أن تطبع المحاضرة وتوزع على الأعضاء قبل المناقشة حتى يمكن لكل عضو أن يبدى رأيه في ضوء ما قرأ، لأن طريقة الارتجال لا تؤتي الفائدة المرجوة من البحث والدراسة. وناقش بعض الأعضاء موضوع الاقتراح في المحاضرة مناقشة طالت بعض الوقت ولكنها لم تنته، فقرر المؤتمر أن توزع المحاضرة على الأعضاء وتحدد جلسة لمناقشتها في نهاية الفترة المخصصة لانعقاد المؤتمر.

ومما جاء في المناقشة ملاحظات أبداها الدكتور أحمد أمين بك أجملها في ثلاث فقط: قال في الأولى، إن الأستاذ رأى أن يفتح الباب على مصراعيه، وأنا أرى أن يفتح جزء من مصراع واحد ففتح الباب على مصراعيه معناه الفوضى، وأنا أجيز الحرية ولا أجيز الفوضى. وأنني أرى ألا يطلق الخلق إطلاقا، بل يقصر على من يكون مستوفياً لشروطه.

ص: 43

وقال في الثانية إني أحب أن أضيف إلى مقترح الأستاذ في الخلق مقترحاً آخر في الإعدام، فكما نبيح للأمة العربية أن تخلق ما تحتاج إليه من الألفاظ فينبغي أن نكمل الشطر الثاني من الاقتراح بأن نبيح لها أن تعدم ما لا حاجة بها إليه. النقطة الثالثة أن الأستاذ عرض في أثناء بحثه لمسألة هامة لم يدرجها في مقترحاته الأربعة، وهي مسألة كتابة القرآن، والحق أننا مجرمون أشد الإحرام في المحافظة على رسم القرآن لأننا نفترض أن من يقرأ القرآن يجب أن يكون قد حفظه أولا.

وقد رد الدكتور طه حسين بك على هذه النقط، بأنه يخالف الدكتور أحمد أمين في الحديين الحرية والفوضى، فقد تحسن الفوضى في أمور منها اللغة، فالعرب الأول لم يسيروا على نهج في لغتهم كما ساروا على هذا النهج الذي يسميه الدكتور أحمد أمين بك فوضى ولم يعرفوا مجمعاً لغوياً يحدد حرية الناس في وضع اللغة، وليس عمل المجامع إلا المحافظة على سلامة اللغة بتسجيل ما تراه يصلح اللغة ولا يفسدها ثم ندخل هذه الألفاظ في المعجم.

ورد على النقطة الثانية بقوله: لست أعرف فرداً ولا جماعة تملك سلطة الإعدام في اللغات، وإنما أعرف شيئاً واحداً يملك هذه السلطة وهو الاستعمال، ولست أدري بأي حق يباح لنا أن نلغي من المعاجم العربية كلمات بحجة أنها لا توافقنا ولا تجري بها ألسنتنا في الوقت الذي نضع فيه مجمعاً تاريخياً نسجل فيه جميع الكلمات التي استعملت في عصور العربية المختلفة؛ ومن يدري فقد تحتاج الأجيال التي تأتي بعدنا لبعض الكلمات.

أما مسألة كتابة القرآن فقد قال الدكتور طه أنه يوافق فيها الأستاذين الزيات وأحمد أمين، واقترح أن يعهد إلى فضيلة الشيخ حمروش بدراسة هذه المسألة.

وقد أثار الأستاذ العقاد نقطة أخرى، إذ قال تعقيباً على طلب السنهوري باشا تخصيص جلسة لمناقشة المقترحات الأربعة: كل هذه المقترحات عرضت على المؤتمر في دورات سابقة واتخذت فيها القرارات. فقال السنهوري باشا: يحسن أن تكتب السكرتارية هذه المقترحات وتبحث عما عسى أن يكون قد قرر في شأن كل مقترح منها وتعد في ذلك مذكرة مختصرة تعرض على المؤتمر لبحثها وقد قرر المؤتمر ذلك وشرعت إدارة المجمع في إعداد قرارات المؤتمر السابقة في موضوع المحاضرة.

والواقع أن المقترحات الأربعة لم يتخذ المجمع فيها قرارات على النحو الذي بسطه الأستاذ

ص: 44

الزيات وكل ما هنالك أن المؤتمر في العام الماضي استمع إلى محاضرة للدكتور أحمد أمين بك موضوعها (مدرسة القياس في اللغة) قرر بعد مناقشتها الأخذ بمبدأ القياس في اللغة على أن يكون الحق في ذلك لمن توافرت فيه شروط ذكرها المحاضر.

والأستاذ الزيات يرى أن الطوائف المجتمع الحق في أن يسمع ما يضعونه من ألفاظ يشعرون بحاجتهم إليها في شئون الحياة التي يمارسونها، على خلاف الدكتور أحمد أمين الذي لا يجيز الوضع إلا لعلماء اللغة. وأذكر أن المؤتمر توقف في جلسة العام الماضي التي قرر فيها الأخذ بالقياس - توقف في مسألة الارتجال - وهي التي يتضمنها اقتراح الأستاذ الزيات الأول - وخرج منها بإقرار القياس على وجه عام. وفي الملاحظة الأولى التي أبداها الدكتور أحمد أمين على مقترحات الأستاذ الزيات ما يدل على أن هذه المقترحات جديدة في مجموعها بالنسبة لما أقره المجمع من قبل، إذ قال إنها تفتح الباب على مصراعيه وأنا أرى أن يفتح جزء من مصارع واحد.

وأريد أن أقول كلمة أخيرة في موضوع هذه المحاضرة: إنها صرخة الحياة في وجه الجمود اللغوي، فحياتنا العصرية تعج بالأشياء التي لم تعترف العربية بأسمائها، وقد سمينا (الأتومبيل) سيارة ولكن بالسيارة عشرات الأجزاء لم تقر أسماءها اللغة بعد فإلى متى نستمر على حبس هذه الكلمات وأمثالها داخل الأقواس؟ وإلى متى يظل الناس يستعملون الكلام خارج الحدود المعترف بها؟

وإذا كان بين قدماء اللغويين - كما أشار إلى ذلك الأستاذ الشبيبي في تلك المناقشة - من يرى أن جوهر اللغة ليس قي مفرداتها بل في أساليبها وتراكيبها، أفلا يجدر بنا في هذه الحياة العصرية التي امتلأت بالمستحدثات أن نتقبل ما ينطق به الناس من المفردات مع صقله وتهذيبه، وحسبنا المحافظة على سلامة الجمل والتراكيب التي هي جوهر اللغة كما قالوا؟

كشكول الأسبوع

قرر مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة إنشاء معهد فاروق للدراسات الإسلامية في إسبانيا. وقد جاء في المذكرة الإيضاحية التي أعدتها وزارة المعارف، أن الغايات المنشودة من إنشاء هذا المعهد هي إذاعة الثقافة العربية بوجه عام والمصرية على الخصوص بين

ص: 45

الإسبانيين، وتعريف المصريين بإسبانيا والكشف عما بها من كنوز عربية لا تزال بعيدة عن أذهان العالم العربي وعقوله.

قررت وزارة المعارف العدول عن النظام المعمول به للحصول على كتب المطالعة الإضافية التي تختار من المؤلفات الأدبية غير المدرسية، بحيث يكون تقرير الكتاب منها لعام واحد مع الاكتفاء بشراء نسخ منه بقدر عدد أكبر فصل في الفرقة التي يقرر لها من كل مدرسة، ويكون استعمال التلاميذ له على طريقة التبادل، ويؤول في آخر السنة الدراسية إلى مكتبة المدرسة.

اقترحت لجنة ترجمة أمهات الكتب العالمية في اليونسكو، تكوين لجنة في بيروت تمثل فيها البلاد العربية والجامعة العربية واليونسكو، لتقوم بترجمة عدد من أمهات الكتب الأجنبية إلى اللغة العربية، كما تقوم بترجمة عدد من الكتب العربية القيمة إلى اللغات العالمية. وسيعرض هذا الاقتراح على الدول العربية وجامعتها لإبداء الرأي فيه.

تقرر أن تشتري وزارة المعارف من دور النشر الأهلية الكميات اللازمة من الكتب المقررة للمدارس الابتدائية، لتوزعها على تلاميذ المدارس الحرة.

أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية نتيجة مباراة التأليف المسرحي التي نظمتها العام الماضي، ففاز بالجائزة الأولى - وهي مائة وخمسون جنيها - الأستاذ محمود غنيم عن رواية (غرام يزيد).

نشرت مجلة الإذاعة المصرية أن محررها تحدث إلى المشرف على قسم المحاضرات بالإذاعة، فقال الثاني: إن الأحاديث التي تذاع تهدف إلى الغايات الكبرى التي تهدف إليها نهضتنا الاجتماعية والفكرية الحاضرة. ولما سأله المحرر عن أهم أحاديث الأسبوع أجاب بأنه حديث عن نشاط هيئة الأم. . . رحم الله هيئة الأمم وهدى إذاعتنا إلى الغايات الكبرى التي تهدف إليها. . .

سافرت الفرقة المصرية في هذا الأسبوع إلى تونس لإحياء موسم تمثيلي لمدة شهر ونصف شهر في شمال أفريقية. وقد تلقت الفرقة قبل سفرها من حكومة تونس رغبتها في أن تقدم مسرحية (الناصر) لعزيز آباطه باشا، فوافقت الفرقة، وسيقوم بدور الناصر الأستاذ حسين رياض الذي تخلف عن السفر.

ص: 46

وافق وزير المعارف على اعتماد عشرة آلاف جنيه لمشروع إنشاء الفرقة النموذجية لخريجي معهد التمثيل.

وافقتْ الحكومة الأمريكية على تخصيص 15 ألف دولار لمصر، تشتري بها ما تريد من الكتب، وذلك وفقا لتوجيه هيئة اليونسكو. وسيكون توزيع الكتب المشتراة عن طريق الإدارة العامة للثقافة بوزارة المعارف، والأولوية في للجامعات والمعاهد العالية ثم الهيئات العلمية.

فلم الأسبوع

هو فلم (بيومي أفندي) الذي يعرض بسينما أستوديو مصر تمثيل يوسف وهبي وأمينة شكيب وفاتن حمامة وسراج منير وإيفون ماضي وفاخر فاخر وغيرهم، وإخراج يوسف وهبي، والقصة والحوار له أيضاً، وهي مقتبسة وممصرة وأصلها رواية (الأب ليبونار) لجان إيكار.

بيومي أفندي مصطفى (يوسف وهبي) ساعاتي يعمل في شبه دكان على أحد المنعطفات بالحمزاوي، وهو رجل طيب مستقيم وماهر في صناعته أمين، يعرفه أحد أصحاب مصانع الساعات بسويسرا وهو يزور مصر - عن طريق صديق مصري. فما يرى براعة الرجل في إصلاح الساعات وحسن ذمته حتى يعينه وكيلا له في مصر. وبذلك ينتقل بيومي أفندي من حال إلى حال ويصبح من تجار الساعات والجواهر الأغنياء، ولكنه لم ينس زبيدة (أمينة شكيب) الخادمة التي كانت تتردد عليه في دكانه القديم، وكان يغازلها ويطلب منها أن تتزوجه، فلم تبطره النعمة ولم يغير الغنى نفسيته، فيتزوج من زبيدة دون أن يعلم أنها كانت على صلة بسيدها شوكت بك وأنها حامل في الشهر الثاني. تضع زبيدة مولوداً ذكراً، فيفرح به بيومي أفندي على أنه ولده الذي حملته أمه سبعة أشهر، ويسمى المولود (نبيل) ثم يرزق الزوجان بعد ذلك بنتا (زينات) ثم يستدعي شوكت بك بيومي أفندي ويفضي إليه بالحقيقة الهائلة وهو مشرف على الموت ويتبرع لابنه نبيل بمائة فدان. يجزع بيومي أفندي لهذا النبأ ويهم بقتل الطفل، ولكن ضميره يقنعه بأنه مخلوق بريء لا ذنب له. فيحتضن الوليد ويوطن نفسه على الكتمان.

يكبر الولدان، أما نبيل (فاخر فاخر) فشاب ماجن عاق وهو يحب ألفت (إيفون ماض) بنت

ص: 47

شكري باشا (سراج منير) صديق والده عن طريق شركة الساعات. أما زينات (فاتن حمامة) فهي بنت وديعة تتعلق بأبيها، وتحب الدكتور كمال الذي عالجها من مرضها وهو يحبها ويريد أن يتزوجها، تعارض الأم في هذا الزواج لأن الدكتور كمال يطعن أخوته في نسبه لأبيهم، وترى أن مصاهرته لا تتفق وما أصبح للأسرة من مكانة بين الطبقة الراقية ويؤيدها في ذلك ابنها نبيل وشكري باشا وابنته ألف التي تعلن أنها لا يمكن أن تتزوج من نبيل إذا تزوجت أخته من الشاب المطعون في نسبه. ولكن بيومي أفندي ينظر إلى الموضوع من زاوية أخرى تتفق وما يصطنعه مع نبيل، فكل منهما ضحية خطيئة لا يد له فيها. فيصر على تزويج ابنته له. وتتمادى الزوجة وابنها في معارضتهما وعنادهما وتطاولهما على الرجل الطيب الذي يثور عليهما أخيراً ويجابههما بما كتمه عنهما، ثم تنقاد الزوجة وابنها لبيومي أفندي ويعرفان فضله ومعروفه، وتتزوج زينات من الدكتور كمال.

القصة ذات موضوع إنساني، إذ تهدف إلى الدفاع عن ابن الخطيئة الذي جرى العرف الظالم على الاستخفاف به لأمر بعيد عن إرادته. وفي الفلم عرض وتحليل لشخصية بيومي أفندي الرجل الخير، والصانع المصري الأمين القانع بالحلال، وهنا تبرز ناحية قومية في الفلم إذ يقارن بين بيومي أفندي الساعاتي البارع صاحب الذمة النقية وبين محل (الخواجات) الذي يبيع الساعات ويصلحها بأثمان فادحة ثم لا تلبث أن تتعطل. ويعجبني في ويوسف وهبي اعتزازه بمصريته وإيمانه بالشعب المصري، وقد كان قويا في التمثيل بهذا الفلم، إذ أدى شخصية بيومي أفندي أداء باهر بغض النظر عن الملاحظات التي سيأتي ذكرها. والعيب الأكبر في هذا الرجل أنه يأتي إلا أن يكون مؤلفاً وأنه يعتمد في هذه الأيام على مجهوده في المسرحيات التي أخرجها قديما، سواء في المسرح أو السينما، وهذا الفلم نفسه أصله مسرحية طالما قدمها على المسرح حتى كلت منها خشبته. وهو يعلن باعتباره مديراً للفرقة المصرية - أنه يمد يده إلى الكتاب ويرحب بما يؤلفونه من المسرحيات، ثم يتخيل نفسه هؤلاء الكتاب ويمد يده إلى يده، ويرحب بنفسه!

وأعود بعد هذا لاستطراد إلى فلم (بيومي أفندي) فأقول أنه فلم قيم على رغم ما فيه من فجوات ومآخذ، ولعل قيمته راجعة إلى ظهوره في هذا الموسم الذي تتابعت فيه الأفلام الاستعراضية التهريجية، فهو بالنسبة إليها عمل ينتسب إلى الفن. . .

ص: 48

أول فجوة في الفيلم ناشئة من أن حادثته تستعصي على لتمصير فليس من الواقع الكثير في بيئتنا أن يصارح رجل زوجاً بسابق علاقته بزوجته وأنه أبو الولد الذي يظنه أبنه، ثم يظل الزوج على حسن علاقته بزوجته، واحتضانه للولد وإعزازه رغم استبداد الزوجة به وتطاول الولد عليه. وليس اعتراف الوالد الحقيقي الطريق الوحيد لمحاولة التكفير عن ذنبه، فإنه يمكن أن لا يهب ابنه المائة الفدان على أنها مكافأة لأمه على خدمتها السابقة، أما الاعتراف والهبة على الطريقة التي في الفلم فيها صورة تحمل قبعة عالية. . .

وقد رأيت عجباً في المحكمة الشرعية التي نظرت قضية الطعن في نسب الدكتور كمال فالمفهوم مما يتبع في مثل هذا الموقف من الإجراءات الشرعية والقانونية أنه يطلب الحكم بعد ثبوت النسب ويدافع المطعون في نسبه مدللا على نسبته، ولكنا رأينا الدكتور كمال يدافع عن نفسه بأنه ضحية بريئة لا ذنب له في وجوده! والمحكمة. . . أخذت بوجه نظره فحكمت بالبراءة! ولست أدري من أي شيء هذه البراءة. . .

ومما يؤخذ على تصوير شخصية بيومي أفندي أنه ظل عشرين عاماً. كالحمل الوديع، تأمره زوجته فيطيع، وينهره الولد الذي يتنباه فيفضي، ويرى مع هذا وذاك من النبل وكرم الخلق ألا يصارحهما بالحقيقة، ثم إذا هو ينتفض فجأة فيسحيل إلى إنسان آخر قوي يفرض إرادته. . . فكيف يظل أكثر حياته - على طولها - هادئ الطبع ضعيف الشخصية، ثم ينقلب في آخرها أسداً يزمجر ويبطش؟! يخيل لي أن يوسف وبي أجرى الأمر على هذا النحو كي يهيئ لنفسه مواقف يشبع فيها خطابة وصياحا. وقد ظللت أشاهده في دوره مندمجاً معه بشعوري حتى جاءت مواقف الصياح فأفقت وشعرت بأنني أشاهد يوسف وهبي لا بيومي أفندي. . . فأسقه لضياع التأثير الذي كان يمكن أن يستمر دون حاجة إلى هذه اللازمة التي هي عيب آخر في ممثلنا الكبير. وقد أجاد في الفكاهة والدعابة، فكان ممثلا (كوميديا) ظريفاً، ومن وسائله في ذلك ترديده بعض الأغاني القديمة، ولم يكن في هذا بأس لولا أنه أسرف فيه وأكثر منه إلى حد التكلف، وحتى ترنم ببعضها في موقف حزين مؤثر. وقد بدأ في أول الفلم وآخره على ما يتطلبه الزمن من ملائمة شخصيته للعمر فكان (الماكياج) متقنا، ولكن أمينة شكيب ظلت كما هي لم تغيرها عشرون عاماً! وقد أجادت دور المرأة الشرسة المتسلطة. وكذلك أجادت فاتن حمامة في دورها. أما إيفون ماضي فهي

ص: 49

ذات وجه معبر على رغم أنها ظهرت على الشاشة لأول مرة في هذا الفلم. وأما فاخر فلم يكن في دوره على مستواه المعروف في الإجادة، ولعل هذا راجع إلى عدم ملاءمته لدور الفتى الماجن.

عباس خضر

ص: 50

‌البريد الأدبي

إلى الأدباء المعاصرين

توفي أخيراً الشاعر علي محمود طه، وسكنت قيثارته إلى الأبد، وراح الأدباء يتسابقون إلى تحبير المقالات ونظم القصائد في تمجيد ذكراه، وإطراء شعره، فهو في كل ما سيكتبون شاعر عبقري، فقده الأدب العربي، ومؤلفاته تستحق العناية والدراسة، وفي أكثر من مكان تعد دراسات مفصلة لشعره أينوي نشرها خدمة للأدب و (قياماً) بالواجب تجاه الفقيد.

ولن يمضي عام حتى تموت الذكرى ويخمد الصوت؛ وتلتصق كلمة (كان) بالشاعر الفذ، ثم تمضي الأيام، وتكر السنوات، وينطوي عنه سوى آثاره الشعرية، وتاريخ مولده ووفاته، وربما لم يعرفوا عنه أكثر مما نعرف عن المتنبي وهو شاعرنا العملاق الذي ألقى ظله الضخم على عصور أدبنا كلها، وإن كنا نجهل سيرته جلا شبه تام.

ولكن أخلاقنا لن يعذرونا كما عذرنا قوم المتنبي، فالفرق بيننا وبنهم هو الفرق بين القنبلة الذرية والسيف. . . الفرق بين مقاعد الطيارات الوثيرة وظهور الخيل،. . . الفرق بين القرن العشرين والقرن العاشر. . . فما عذرنا؟

لا! لن نكون خدمنا شاعرية على محمود طه، بهذه القصائد الحارة التي نحييه بها؛ فهي كلها ليست إلا تعبيراً منغماً عن عواطفنا تجاهه، ولن نخدمه بدراستنا المفصلة لشعره، فالزمن طويل مديد!؛ وسيأتي آلاف يدرسون شعره الدراسة التي يستحقها. وإنما واجبنا الأكبر أن نتقصى سيرة حياته نقصياً دقيقاً نشترك فيه جميعاً - أبناء هذا العصر كله - فيحشد كل قواه كلها من أجل الأدب الذي نعزه، ونؤمن بقوة أثره في إنهاض الأمم والسمو بمداركها وأحاسيسها، وهو عمل لا يستطيع القيام به سوانا ولو جمعت العصور القادمة ذكاءها كله لما استطاعت النهوض به، ففي أيدينا نحن وحدنا المفتاح. نحن الذين عشنا مع علي محمود طه ومنا من كان من أصدقائه المقربين، وأقاربه، ومعارفه، ومنا من قابله وحادثه، ومنا من تلقى منه رسائل طويلة أحياناً قصيرة أحياناً أخر، شخصية حيناً، رسمية حيناً آخر،. . . ومنا من سمع حكاية، ومنا من قرأ عنه في الصحف وحفظ شعره، ومنا من يروي حوادث مرتبطة بشعره. كلنا يعرف شيئاً من تلك الحياة، والواجب الأدبي أن نجمع معلوماتنا في كتاب أو كتب، فهل ينام من تهيأ للقيام بهذا الواجب النبيل؟

ص: 51

الجواب الحتمي المؤكد أننا جميعاً ذاهلون. . . وأقول جميعاً وأنا أعلم أنه ليس من المستبعد أن يكون بعض الأدباء يفكر في تأليف كتاب قيم عن الشاعر، يمس حياته من بعيد ويلخصها في ثلاثين صفحة أبرز ما فيها تواريخ وسنوات وحوادث كالتخرج والسفر إلى أوربا، وطبع الكتاب الفلاني، ومرض الفالج. . . أما سائر الكتاب فعرض شعر الشاعر أغلبه إعجاب، وهو أمر يستحقه الشاعر إلا أن المؤلم أنه لا يغني عن دراسة عميقة مفصلة لحياته العملية التي لولاها لما كتب وما تغنى.

إنني أقترح، وأود لو كان لاقتراحي صدى، أن تنشط لجنة من المتحمسين لشعر على محمود طه إلى تقصي سيرة حياته بدقة وتفصيل معتمدة في ذلك على ما يلي:

الرسائل التي كتبها الشاعر طيلة حياته.

يومياته الخاصة (إن كان قد احتفظ بسجل يوميات يمكن نشر جانب منه).

أوراقه الخاصة وقصائده التي لم تنشر.

ذكريات أهله وأصدقائه المقربين، عنه.

السجلات الحكومية الرسمية وكل ما يتعلق به فيها.

وقد يلوح أول وهلة أن هذه مهمة شاقة، إلا أننا لو راجعنا سيرة حياة أدبا أوربا لرأينا أصغر أدبائهم قد نالها، فكيف نترك نحن كبار أدبائنا ينطوون تحت غبار الزمن القاسي، ولا يتركون إلا كتبهم وحدها؟ وكيف يتيسر لنا أن نفهم آثارهم إن كنا نجهل سيرهم هذا الجهل المخجل؟

لقد آن لنا أن نؤدي ما علينا من ديون تجاه عبقريتنا المطموسة. ألا يكفي أننا تركنا (أبا القاسم الشابي) يضيع ويترك خلفه سيرة مجهولة يخجلنا أننا لا نعرف عنها إلا تاريخ بدايتها وانطفائها؟! ألم يحن لنا أن نعرف عن كل شاعر تفاصيل سيرته، والظروف التي أحاطت بكل قصيدة تركها، وعلاقاته بأسرته وأصدقائه وقرائه، والحب الذي ملك عليه أحاسيسه.

ألم يحن لنا أن نقرأ الرسائل الخاصة التي يكتبها كبار أدبائنا، كما يقرأ الأوربيون رسائل شعرائهم؟

ولم يفت الأوان بعد، حتى بالنسبة لأبي القاسم الشابي الذي مات منذ ثماني عشرة سنة بعد

ص: 52

شباب قصير متعثر بالآلام العقلية والجسدية. فلو نشط متحمس واحد لشعره، واتصل بمن كان يعرفه لأنقذ ما تبقى من ذكريات عنه وبما فاز ببضع عشرة رسالة من رسائله يتحف بها القراء المتعطشين، ويرفع تهمة الكسل عن هذا العصر. . . فمن المخجل أن يكون كل ما نسلمه إلى الأجيال القادمة عن أبي القاسم الشابي حفنة من القصائد البديعة!

أيها المعاصرون! لقد آن لنا أن نفيق من نومنا الطويل، وندرك ما علينا من المسئوليات

(إنسان)

بغداد

الوعد الحق للدكتور طه حسين بك

لقد تفرد الدكتور طه حسين بك بهذا الأسلوب القصصي في عرض حياة هؤلاء الأرقاء. وأعطانا صورة رائعة من الجو النفسي والاجتماعي في مكة في فجر الإسلام. وما تعرضوا له من ألوان البلاء. وضروب الإيذاء في صبر، وجلد، وشجاعة، ما تركهم نماذج فريدة في سجل التضحية والفداء. ولقد عرض الدكتور هذه الصورة قوية، حية. مؤثرة. مثيرة. . . ولكن لا حاجة إلى إطراء فن الدكتور في هذا العرض ومقدار ما يبلغه من إشاعة الحياة في صوره. وتأثيرها. ولا إلى القول بأنها لون جديد في أدبنا الحديث نعتز به. بل خير للناقد من هذا أن يأخذ بيد القارئ حتى يبلغ به أعتاب هذا المعرض ويخلي بينه وبين طرائقه وبدائعه حتى يتهيأ له أن يأخذ لروحه وعقله ما فيه الغناء. أنظر كيف يصور الدكتور ما قاسته أسرة ياسر، من شدائد وأهوال، وكيف صبت عليها المحن صبا فلم يتزعزع إيمانها. ولا خانها صبرها. ولا تخلى عنها جلدها. ولا فقدت أمهلا في الله: (. . . أقبل أبو جهل ومعه أصحابه. فرأى الناس أنطاعاً من أدم يسع كل نطع منها رجلا وقد ملئت ماء. ورأوا ناراً مؤججة. ومكاوي قد أغمي عليها. ورأت تلك الأسرة قد شد وثاق كل منها. وألقى ثلاثتهم في جنب من الطريق كما يلقى المتاع غير ذي الخطر. فلما بلغ أبو جهل وأصحابه مكان العذاب أمر غلمانه فوضعوا بين يديه ياسراً. وزوجته. سمية وابنه عماراً. . . وألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله. فألهب أجسامهم بالسياط ثم أذاقها مس النار ثم صب عليها قرب الماء ثم عاد فيهم سيرته مرة ومرة ثم أمر بهم فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى

ص: 53

انقطعت أنفاسهم أو كادت ثم ردهم إلى الهواء. وانتظر بهم فغطوا في الأنطاع التي ملئت ماء حتى انقطعت أنفاسهم أو كادت ثم ردهم إلى الهواء وانتظر بهم حتى أفاقوا وتسمع لما ينطقون به بعد أمثاب إليهم شيء من قوة فإذا هم يذكرون الله ويثنون على محمد قال أبو جهل لسمية وقد بلغ منه الغيظ أقصاه: لتذكرن آلهتنا بخير ولتذكرن محمداً بسوء أو لتموتن. تعلمي أنك لن تري مساء هذا اليوم إلا أن تكفري بمحمد وبه. قالت سمية بصوت هادئ متقطع قليلا: بؤساً لك ولآلهتك! وهل شيء أحب إلي من الموت الذي يريحني من النظر إلى وجهك هذا القبيح! هنالك تضاحك عتبة وشيبة أبناء ربيعه وأخرج الحنق أبا جهل عن طوره فجعل يضرب بطن سمية برجله وهي تقول في صوتها الهادئ المتقطع: بؤساً لك ولآلهتك، وتجن جنون أبي جهل فيطع سمية بحربة كانت في يده فتشهق شهقة خفيفة. ثم تكون أول شهيد في الإسلام: يقول ياسر قتلتها يا عدو الله! بؤساً لك ولآلهتك. ويقول عمار: قتلتها يا عدو الله بؤساً لك ولآلهتك! ليمتلئ قلبك غيظاً وحنقاً فإن رسول الله قد ضرب لها موعداً في الجنة. قال ياسر: أشهد أن وعد الله حق. ولكن أبا جهل لم يمهله وإنما يضربه في بطنه برجله فيشهق ياسر شهقة خفيفة ثم يصبح ثاني شهيد في الإسلام. قال عتبة بن ربيعه: فينبغي أن تطلق هذا الرجل وأن تخلي بينه وبي الحرية ليواري أبويه).

هذا لون من الألوان الدامية المريعة التي كانت مكة تذيقها أسرة ياسر وبلال وصهيب وخباب ولم تستطع برغم هذا أن تبلغ منهم ما أرادت وباءت بالهزيمة وفازوا هم بالنصر والخلود.

لقد استطاع الدكتور أن يخرج لنا من هذه الأطراف المبعثرة المشققة من الأحاديث عن هذه الشخصيات وهذا العهد كائناً حياً بكل خصائصه وسماته. فيا حبذا لو اتخذ أدباؤنا صنع الدكتور قدوة فنظفر بهذا التاريخ مجلوا ناصعاً حيا.

محمد عبد الحميد أبو زيد

ص: 54

‌القصص

أمسية الميلاد لدى الصعلوك

للكاتب الشيلي سلفادور رايسر

بقلم الأديب سليمان علي

كان يلبس بدلة سهرة أحمر اللون طويل الذيل، وعلى أذنيه الشعرواين تقوم في اتزان دقيق قبعة فخمة مريشة، وفي هذا اللباس الرسمي التاريخي كان يرقص فوق صندوق الموسيقى. وكان أمامه على الدوام حشد من النظارة، من الصغار والكبار، مجتمعين حول المعزف للتفرج عليه، معجبين بالمهارة التي يتبع بها أنغام الموسيقى المتغيرة، في نشوة من الضحك من حركاته المثيرة.

وكان لوجهه قدرة عجيبة على الحركة، ولم تنجب الطبيعة مخلوقاً أشد دهاء في تعبيراته الناطقة، وله هذه الثروة من الحركات المضحكة، وهذا الجسم الصغير العجيب المرن الذي تسكنه روح ذات حظ مماثل من المهارة والرغبة في بعث السرور والبهجة. وكانت الموسيقى، وهي حياته الهائمة، والحشد من النظارة، كلها تجلب له المتعة. فإذا جذبه طفل من ذيله مرة، لم بغضبه ذلك أكثر ما يغضب من الشمس المتوهجة على حفافي الطريق، أو من البقع التي يشحب لونها رويداً على ثوبه الأحمر الجميل. وكان سعيداً، وكان اسمه بيبي، وكان بالطبع قرداً.

وفي بعض الأحايين تتحرك خلطه السوداوي من فرط الحنين لوطنه، كما لو كانت بفعل الريح، فيسمع مرة أخرى أغنية وطنه الغاب، الصداح بالأطيار، ويرى الفهد ينساب بين الأجم، والتماسيح تزحف من الطين، وتنسم عبير الأزاهر الهائلة الذائبة التفتح في الحرارة الدائمة. وحينئذ يحرك ذراعيه الطويلتين، ويتذكر كيف كان يتسلق فوق أعالي الأشجار، أو ينزلق برشاقة على جذوعها المعمرة ألف عام، ويذكر وفي قلبه وخزة تلك الكروم التي تنتظم كلدانتلا بين أصابع الغاب الهائلة.

بيد أن هذه الأشياء ما كانت تقلقه إلا فيما ندر؛ فلقد كانت الحياة جميلة ولم يكن مستعبداً كغيره من القردة. كان يسافر في الطريق حراً مع سيده الذي كان صديقه كذلك. وإذا ما

ص: 55

شعر بحاجة إلى الرياضة، كان في وسعه دائماً أن يرقص على المعزف. وكان رقصه حقاً نوعا من العبادة، وكان القربان الذي يقدمه إلى ذكرياته عن الغابات الهائلة. ولم تكن لديه رغبة للعودة إليها إذ كان ذلك معناه فراق سيده، بيترسون الذي، كان يعبده عبادة. ولم يكن بيترسون يمتاز بشيء ولكنه كان في نظر بيبي يحتل مقام الإله، وكان ما يزال شاباً، شديد النحول، عيناه متعبتان زرقاوان، وشعره طويل يميل للصفرة، ولحيته مهملة. وكان رث الملابس، يمشي مشية بطيئة منتظمة، تلك المشية المملولة التي يمشيها من يدرك أن رحلته لن تكون لها غاية.

وكانت كل الطرق تعرف هذين الصعلوكين: الرجل الذي يحمل الصندوق، وبيبي الذي إما أن يكون قابعاً على كتفه أو دائم القفز في محاذاته، وما كانا يمكثان طويلا في مكان واحد، فكل مكان يبلغانه كان نقطة وصول ورحيل معاً. وفي الليل ينامان في جنبات الطرق تحت الأشجار، ويفضلان دائماً جوار المياه، عند نهر، أو على الأقل عند غدير صغير.

وأحياناً يكون الجو قائظاً، وأخرى يكون قاراً، وكان بيترسون لا يأبه لتقلبات الطقس، أما بيبي فكان يكره البرد، وفي الليالي العاصفة، الداوية بالرياح، كان يزحف تحت غطاء سيده الصوفي السميك الذي كان يأتي به ويرمقه من تحت بعينين قلقتين لا معتين.

وكان الرجل والقرد يفهمان بعضهما حق الفهم وكانا يتخاطبان بالإشارات البسيطة، والكلمات، والأصوات، وكانا يشعران بصلة غريبة وهما محوطان بوحدة الحقول الهائلة، ووحدة الأرض نفسها التي تفوقها كثيراً، كما يشعر الأخوان بأن كلا منهما ينتمي للآخر. وفي الظلام كان بيبي يمد يده الصغير الشعراء، يلتمس الثقة وهو يدرك أنه واجد في ملمس هذا الرجل النحيف الأبيض الأمان والحب.

كان بيترسون الإله، وبقية العالم من رجال وحيوان، وشجر وحقول وسماء، أشياء أبدعها من موسيقى معزفه. فإذا ما بدأت كان بيبي يرقص، جاعلا رجليه تتبعان النغم في دقة، يلقي بكليته إلى الحركات المعقدة التي تثيرها، ولم يكن ذلك بدافع العمل فحسب، بل بدافع من غريزته الحيوانية، بشعور مبهم لكنه عميق، نحو الإخلاص لسيده ونحو جمال العالم. وكان يرقص أحسن الرقص عندما يكون أسعد حالاً وأطيب نفساً، فيعبر بهذه الطريقة عن شكره وعن فرحه لكونه حياً يرزق.

ص: 56

وفي غسق يوم ذهبي، بلغا إحدى القرى. وكانت قرية صغيرة ذات شارع واحد يمتد على منحدر التل، وينتثر بين الأشجار بضعة منازل فحسب. بيد أنه قبل أن يضع بيترسون معزفه احتشد جمع من الأطفال حوله. وكانوا يهتفون بحبور لدى رؤيتهم بيبي، الذي كان يعابثهم بحركات وجهه، ويأتي بحركات مضحكة، وكلما ازدادوا ضحكاً ازداد سروراً. فلما صدحت الموسيقى، فخمة، مكهربة، كان في نشوة من الحيور، ومالت قبعته المريشة وهو يرقص، وأخذت ساقاه النحيفتان تتحركان بسرعة تزداد شيئاً فشيئاً.

وأخذ الحشد يزداد، وانضم إليه الآن بعض الكبار أيضاً، وكان بينهم شيخ حسن البزة يدخن غليوناً كبيراً، ويطرق برأسه مع الإيقاع الموسيقي، وكان يرمق بيبي بعطف وهو يرقص، وبيترسون وهو يدير يد المعزف كأنه رجل يبعث أسى قديماً، ولما انتهى الدور الثاني، ألقيت بضع نقود في قبعة بيترسون، ولكنها كانت قليلة، فأهل الريف في كرمهم محتاطون. وبينما هو يتأهب للذهاب أقبل الشيخ ذو الغليون وحدثه قائلا (لي حفيد صغير مريض، ولأن الليلة عيد الميلاد، فإنني أرغب أن أقدم إليه متعة فريدة، فهلا قبلت أن تأتي وتلعب له؟ أقصد بجوار فراشه لكي يستطيع أن يرى القرد وهو يرقص؟).

فأطرق بيترسون موافقاً، فلم يكن يحب استعمال الكلمات إذا استطاع إلى ذلك سبيلا. وانطلقا في الطريق معاً - حتى بلغا (فيلا) ذات سقف أحمر، تقوم بين دغل من الأشجار السامقة. ودفع الرجل باب السور، وتبعاه في الممشى المبلط الملتف حول أحواض الزهر المتلألئة حتى بلغا المنزل. ولما وصلا إلى السلم كان بيبي يهمهم بأصوات التطلع والتحمس؛ بيد أن بيترسون كان يمشي بعزم. ولكنهما ما كادا يجتازان عتبة البيت حتى وقف كالمأخوذ. فقد كان في منتصف البهو الواسع الجنبات شجرة من أشجار عيد الميلاد مشرقة بالأنوار.

ووقف بيترسون ساكناً لا يريم، وطرفه معلق بالشجرة. لم تكن شجرة حقيقية، ولكنها صنعت بمهارة من الورق المقوى والقماش، غير أنها كانت في نفس بيرسون محملة بالذكريات كأنما ينبعث من أبرها صمغ الصنوبر من مسقط رأسه، وكأنها تميل أمام الرياح العاتية في تلك الخلجات البعيدة، حيث الوجوه القديمة المحبوبة، وقد حدثته الشجرة بلغتهم، وهي تهمس في رفق عبر السنين التي تفصيل بينهم.

ص: 57

وكان بيبي يرتعش على كتفه في تعاطف. ومع أن الشجرة المقلدة لم تكن تهمه في شيء إلا أن طول الصحبة هيأ له السبيل النفاذ إلى قلب سيده، فأحس الآن بشيء غريب وحزين في أعماقه؛ لذلك تعلق بالكتف العريض وأخذ يرتعش، وأحس بحنين إلى مسقط رأسه دون أن يدرك السبب.

(هلا تفضلت وأتيت من هنا؟) كان الصوت المتكلم متقدماً في السن حاراً، وكانت صاحبته متقدمة في السن ذات حرارة أيضاً. ورمقتها بعطف وقالت ثانية (من هنا. . . هنا تماماً. . .)

وهز بيترسون نفسه وتبعها مجتازاً البهو ودخل من باب مفتوح. وكان في الغرفة التي دخلاها صبي أبيض الوجه مستلق على سرير في فتور. وأنزل بيترسون المعزف عن ظهره، وبدأ يدير الذراع. وتدفق النغم منه في قوة غير منتظرة بينما ترددت على حوائط المنزل أصداء وأصداء.

كانت نفس الموسيقى، الفالس القديم الذي تردد مراراً وتكراراً. بيد أنه كان هناك اختلاف. وكان يبدو للصعلوك أن المعزف فقد إيقاعه الميكانيكي المألوف وأنه لبى نداء عاطفته، كأنه آلة صنعت ليده بجرأة. . . فشجرة عيد الميلاد تلك بثلجها الصناعي المقلد، وهذا المنزل الفسيح المضيء، والقوم المسنون الطيبون، والغلام الصغير، جميعهم، أدركتهم الموسيقى، وكانت هنالك أيضاً، الصور التي في قلبه: الغابات الشمالية والوجوه واللغة التي كاد ينسى كيف يتكلمها.

وبينما كان يلعب كان بيبي يقفز في سعادة، وجلس الغلام المريض في سريره يصفق بيديه الضعيفتين، وأخيراً انتهى الدور، وسكت المعزف.

وكان بيترسون يهم برفعه إلى كتفه عندما وجد نفسه للمرة الثانية ذلك المساء في غيبوبة من العاطفة، قد هاجمته وأمسكت به، وقد توقف ذراعه في حركة صعوده، وعيناه محملقتان، فمن فوق رأس الشيخ كانت عينان في زرقة البحيرات الشمالية ترنوان إليه، عينان ساكنتان هادئتان، مليئتان بحنان لا يحتمل. وتقدمت امرأة طوال ذات حسن وجمال وهي تبتسم، وربتت على رأس بيبي. وقالت إن الموسيقى كانت لطيفة جداً، أفلا يمكنهم البقاء واللعب أمام ضيوفها قبيل منتصف الليل؟ ويمكنهم في نفس الوقت أن يستريحوا

ص: 58

ويأكلوا في المطبخ. وأطرق بيترسون إطراقه خرساء. وخرج دون أن يجرؤ على النظر مرة أخرى.

وبعد بضع ساعات، حينما عادوا إلى البهو كانت الشجرة متلألئة كسماء صافية بالليل. كانت مئات الشمعات تبرق على أغصانها، وحولها لفيف من الناس يتكلمون ويضحكون كانوا يتنادون بالأسماء في ثقة كأنهم بذلك ينطقون بكلمة السر التي تسمح لهم بالدخول إلى وليمة الحياة. وكان الجو المرح، مرح القلوب المؤتلفة، يندفع كالغيم المتألق فوق رؤوسهم، ولم تلمس بيترسون الومضة المتألقة، وأحس أنه مطرود كلل. وظن لحظة أنه رأى العينين الزرقاوين اللتين أثرتا فيه كل هذا التأثير، ولكنهما غابا ثانية. وأنزل المعزف باحتراس في أحد الأركان وانتظر الإذن بالعزف.

وسرعان ما أعطاه الشيخ ذو الغليون الإشارة. وصحا بيبي الذي كان ممسكاً بلحيته وهو نعسان بدافع الخوف من صوت الموسيقى وقفز على سطح المعزف ولكن لم يلق إليه أحد بالا. فقد بدأ الناس يرقصون، رقصة الفالس على إيقاع الموسيقى، التي كانت تنبعث في اضطراب من المعزف القديم، وهم يغنون بصوت أعلى من صوته المنكسر، في حبور وانشغال حتى أن أحداً منهم لم يدرك متى تنقطع عن العزف. وتراجع بيترسون إلى ركنه، وهو من ارتباكه لا يستطيع معرفة السبيل إلى الخروج.

ودوت في الغرفة أصوات أجراس كنيسة آتية من بعيد ولكنها واضحة. وسكن القوم فجأة، وأقبل الشيخ نحو بيترسون ووضع في يده حفنة من النقود، وهو يشكره بأدب. فهم بيترسون يرد عليه ثم رفع معزفه إلى كتفه، وأخذ بيبي النعسان في ذراعيه وكان على مقربة من الباب عندما أبصر العينين الزرقاوين مرة أخرى وابتسمتا له من بعيد، وابتسم الوجه جميعه في ثنيات تصاعدية حتى أصبحت بيضاء اللون. وجمدت ملامحه وهي تعبر عن أسى بالغ، وكان وراءها دموع لم تذرف. فهو الذي مضت عليه سنوات لا يعرف له سكناً يأويه، ولا طريقاً يفضله عن طريق. هو الذي لم يكن له من رفيق سوى قردة الراقص، أدرك فجأة أنه سوف يعرف الآن الوحدة الحقة. شجرة صنوبر شمالية معلق بها أنوار، عينان جميلتان، وللمرة الأولى اللوعة الكاملة للفراق. . . وأحنى رأسه، بشكل مضحك. لقد كان يقول كلمة الوداع.

ص: 59

وفي الخارج، كانت ظلال مكدسة وسكون وسماء معلق بها أنجم هائلة منداة. وأغلق الباب خلفه ووقف على رأس السلم وهو يرسل الطرف في قلب الليل. كان وحيداً، وسيكون وحيداً أبدا. دان تنتظره أنوار في نهاية الطريق، والطريق نفسه لا نهاية له.

ونزل أول سلمة، ثم وقف فجأة. لقد فتح الباب مرة أخرى، والتفت فرأى، العينين الزرقاوين، والقامة الطويلة الرقيقة، وقد تحدد قوامها وهو يومض بين إطار الليل المظلم.

وتقدمت في تردد ومدت يدها. وقالت (سامحني. لقد رأيت. . . هنالك. . . هل في الإمكان أن أمد لك يد المعونة بأي سبيل؟) وجمد بيترسون في مكانه برهة، ثم أخذ اليد الممدودة إليه في بطأ؛ ولمسها بشفتيه ثم تركها تسقط، ووقف الجسم اللامع ساكناً في فتحة الباب، والضوء يكلل شعره كأنه ألسنة اللهب الصغيرة، وانتزع نظرته بعيداً وأسرع في النزول من السلم وأغلق الباب أخيراً ولكنه لم يبطئ من خطواته، وكان يكاد يجري حين بلغ قارعة الطريق. والتفت ذارعا بيبي حول رقبته وقرعت أجراس الكنائس إيذاناً بصلاة منتصف الليل.

محمد سليمان علي

المهندس

ص: 60