الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 864
- بتاريخ: 23 - 01 - 1950
صاحب المعالي الدكتور طه حسين
من الطبيعي وقد تولى أخي طه الوزارة لصاحب الجلالة الفاروق أن تعروني هذه النشوة التي أنعم بها منذ أيام ولا أستطيع أم أعزوها إلى مصدر واحد معين.
قد يكون مصدرها ذلك الزهو الذي يدرك الأخ حين يرى أخاه قد بلغ من مناصب الدولة ما لا غاية بعده. وقد يكون مصدرها تلك الغبطة التي تعتري الأديب حين يرى أديباً نال بقلمه من السلطان والجاه ما لا مطمح وراءه. وقد يكون مصدرها ذلك الرضا الذي يغمر المواطن حين يرى رجلا من رجال الرأي والعزم يتقلد وزارة من أضخم الوزارات أثرها في المجتمع كأثر الأم في الأسرة: تهيئ الطفل بالتربية للعلم، وتجهز الشاب بالعلم للعمل، وتوجه الرجل بالعمل إلى الحياة، ولكنها على الرغم من خطرها العظيم وتبعاتها الجسام لا تزال معوَّقة عن الغاية بثقل الروتين وتشتت الهوى وانقسام الرأي؛ فلابد لها من رجل يدفعها دفعا إلى الأمام يبتر الذبول ونبذ الفضول وتقصير المطول وتبسيط المركب. وقد يكون مصدر هذه النشوة أولئك جميعاً، ولذلك صعب تحديده وأعضل وصفه.
ليس بدعا أن يتقلد الوزارة كاتب لكتابته أو شاعر لشعره، فقديما تقلدها
أمثال أبن الزيات وابن العميد في الشرق، وأمثال ابن زيدون وابن
الخطيب في الغرب. ولكن أولئك تقلدوها والشأن شأن البلاغة والأمر
أمر القلم، أما معالي الدكتور طه فقد تولاها والشأن شأن العصب،
والأمر أمر الذهب. فاختياره للوزارة إنما يرجع إلى مزايا فيه فرضته
فرضا على الحكم. وأنا أعلم الناس بهذه المزايا؛ رصدتها وهي تبزغ
في صدر الأفق ومازلت أرقبها وهي تسطع في كيد المساء. هي
مجموعة من المواهب والملكات أبرزْها براعة الذهن ولطافة الحس
وسرعة الخاطرة وقوة الذاكرة وخصوبة القريحة ونصاعة الأسلوب
وذلاقة اللسان وطواعية اللغة واتساع المعرفة. ولكن هذه الصفات على
قوتها وندرتها ما كانت لتغني هذا الغناء لولا سحر شخصيته وهي سر
عظمته. وهذه الشخصية تستمد قوتها من عذوبة روحه، وعظمتها من
سمو نفسه، وجاذبيتها من سهولة طبعه، فهي قهارة من غير قهر،
وجبارة من غير جبروت!
والشخصية توهب ولا تكسب. والرجل من غيرها كتاب من غير عنوان، ووجه من غير ملامح وطه منذ أيفع كان بارز الوجود ظاهر الطابع مستقل الرأي في درسه وفي مجلسه وفي عمله يقول ومن طبيعته أ، يفعل، ويقضي ويرى من كرامته أن ينفذ فإذا عوَّقه عن فعل ما قال أو تنفيذ ما قضى معوق من طبائع الأشياء أو من خلائق الناس، تجمعت قواه كلها على هذا المعوق لتزيله، كما تتجمع كرات الدم المدافعة على المكروب الواغل لتبيده. ومثل هذا الخلق لازم للحكم في هذا العهد الذي شُغل فيه الحاكمون بالشكل عن الموضوع وبالوسيلة عن الغاية؛ وهو لوزارة المعارف ألزم؛ لأن الجهل هو مشكلة المشكلات اليوم في مصر. فإذا لم يقيض الله لحلها رجلا كمعالي الدكتور طه عاش بالعلم وللعلم، ظل بناؤنا على غير أساس. وسعينا على غير بصيره
أحمد حسن الزيات
إلى معالي الدكتور طه حسين بل:
حبور وتحية
في موكب النصر والدنيا تموج بالبهجة، دعمي - يا سيدي - أتقدم فأنثر الزهر عند قدمي القائد المظفر تقديراً لفضله.
وفي فرحة الفوز والأرض تهتز حبوراً، دعني أشق زحمة الشعب الطروب لأرتل نشيد الروح بين يدي العبقرية السامية.
وفي نشوة الطرب والجموع الزاخرة تتدافع لدى بابك تهتف باسمك الحبيب، دعني أبلغ مجلسك لأوقع - لدى مسمعيك - لحن الخلود على قيثار قلبي، تحية للسمو والنبوغ.
فإذا بلغت مجلسك وحاولت أن أهنئك، فاضطرب لساني أو تعثر بياني، فلا تلمني - يا سيدي - لأن قلبي ينبض بالبهجة ويخفق بالسرور ويتألق بالإخلاص.
أتذكر - يا سيدي - يوم أن سكبت عبرات قلبي ولوعة فؤادي على قرطاس أبثك فيه همي حين رزئت بفقد المرحوم أمين عثمان. ثم هفت نفسي إليك فلقيتني بقولك: (مرحباً، بالرجل المخلص!)
فإن قصر القلم في التحية من رهبة الموقف، أو أرتج عليّ في التهنئة من روعة المجلس، فقل لي في هدوء الأب وعطفه (لا بأس عليك، فإنا أسمع نبضات قلبك وأشعر بخفقات فؤادك وألمس هزات روحك. . . أنت أيها الرجل المخلص!)
لا عجب، فأنت وحدك قد سموت إلى أكبر منصب في الدولة. . . سموت على جناحين من شبا اليراع وسنان القلم، على جناحين من نبوغ الأديب وعبقرية الفذ، على جناحين من إباء الشرف ونبل الكرامة.
وأنت وحدك قد ترفعت عن ترابية العقول الوضيعة وشمخت عن أرضية الأفكار السقيمة، التي سفلت فما استطاعت أن تبلغ شأوك وهو وعر، ولا أن ترقي إلى مكانك وهو سامق، فانحطت عنك فانفضت من خولك لتكون أنت وحدك العلم.
وأنت وحدك استعذبت الشدة تصرعها بقوة الايمان، واستمرأت الملمة تدهما بسيف العقيدة، لا يقعدك نقلب الدهر ولا تصرفك غير الزمن ولا يفزعك تفرق الإخوان، فكنت شديداً في الحق لا تلين، عنيفاً على الباطل لا تتساهل، صادقا في الجهاد لا تستقر.
فلما انجلت الغمة وانفرجت الكربة وبلغت الغاية عندها القلب وتسكن لها الجائشة، حام حولك أناس تعروا عن الإنسانية والرجولة والكرامة جميعاً، حاموا حولك يتمسحون في تذلل وخضوع، فلا يغرنك ما ترى من رجال. . .
وحين تقلدت منصب الوزارة، أشرق النور في قلوب تهفو إليك بالمحبة، وابتسم الأمل في أفئدة ترنو إليك بالإخلاص، وتألقت السعادة في أرواح تصبو إليك بالوفاء.
فلا تنس - يا سيدي - أنك عميد الأدب، وأن الأدباء هم تلامذتك وبطانتك وأبناؤك، وأن الأديب رجل يعيش عمره مضطربا في غمرات الشدة، ينزف نضارة العمر في الكد، ويبذل غضارة الشباب في الجهد، يعزف عن لذة الحياة ومتعة العيش إلى ضنى النفس وعناء العقل، فلا يجد العون ولا الساعد. فكن أنت موئله وعونه.
ولا تنس أن في وزارة المعارف أدباء يصيبهم الإرهاق من أثر النظام الحكومي، وتتقدمهم الأقدمية الفجة الخواوية، ويسبقهم أصحاب الملق والخضوع من ذوي النفوس الوضيعة. هؤلاء الأدباء بهم إباء يدفعهم عن الرجاء، وفيهم كرامة ترفعهم عن، التذلل وبهم شهامة تفزعهم عن التعبد، فضاع حقهم في صخب المحسوبية وانطوى أملهم في ثنايا الأغراض.
ولا تنس أن بين يديك خفافيش يقتلها النور ويحييها الظلام، وأن من خلفك ثعالب لا تفتأ تمكر وتمكر، يلذ لهم الخداع ويطيب لهم التلون. خفافيش وثعالب فيهم الخسة والضعة أذلهم الكلب للمادة واسترقهم الشره إلى المال، فعبثوا بالحق سنوات وسنوات، واستمتعوا برضاب الوزارة حيناً من الزمان، وخصوا أنفسهم بالغنيمة الباردة من أموال الدولة، لم يرعوا للمصلحة العامة إلاَّ ولا ذمة. هؤلاء هم أعداء الوطن والأمة، فارفع السوط. . . ارفع السوط يا سيدي.
ولا تنس المعلم، وهو يعيش - أبداً - تطحنه شدة الإملاق، وتعصره شدة الإرهاق.
ولا تنس - يا سيدي - آمال قوم أشرق النور في قلوبهم وهي تهفو إليك بالمحبة، وابتسم الأمل في أفئدتهم وهي ترنو إليك بالإخلاص، وتألقت السعادة في أرواحهم وهي تصبو إليك بالوفاء.
كامل محمود حبيب
علي محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 6 -
ذات مساء، وقد أوشك الليل أن ينتصف، راح يقص علي طرفاً من ذكرياته وحياته. . . وكان مسكنه في تلك اللحظة قد خلا إلا من صديقين: هو وأنا. وكان يطيب له في أوقات الصفاء أن يحملني على جناح الزمن إلى ماضيه، وأن يفتح لي في قلبه كوي أطل منها على عالمه. . . ترى أكان يحس في أعماقه أن غوائل الردى ستطوي حياة يريد أن يتركها بين يدي وديعة؟ لست أدري! كل ما أدريه أننا في تلك الليلة قد انتهينا إلى التحليق في سماء الشعر بعد أن أرهقنا الطواف حول أرض البشر. . وهناك ونحن في السماء، توقف عن الحديث ليسألني: ترى أي قصائدي النفسية أحب إليك؟ وأجبته في صدق يخلو من المجاملة: (الله والشاعر). . وسكت قليلاً ليحملني من جديد على جناح الزمن إلى ماضيه، إلى ذلك الجو النفسي الذي أملى عليه تلك القصيدة يوم أن كانت زهرة العمر تترنح تحت قطرات الندى المسكرة عند فجر الشباب. . وما أكثر تلك الأجواء النفسية التي كان يقصها علي مرتبطة بفنه، وما أكثر ما كنت أدفعه إلى ذلك دفعاً بنية المتعة والدراسة! وبهذا الرصيد النفسي المدخر أهيئ القول عن مفتاح شخصيته الإنسانية في واقع الحياة والفن، في ذلك الفصل الذي تطالعه بعد لفراغ من نقد الصور الوصفية في إطارها الحسي، وسيكون عنوانه:(حياته من شعره). . واليوم أقدم إليك الصورة النفسية الخامسة (الله والشاعر) هناك في الصفحة الثالثة والسبعين من (الملاح التائه):
لا تفرقي يا أرضي لا تفرقي
…
من شبح تحت الذجى عابر
ما هو إلا آدمي شقي
…
سموه بين الناس بالشاعر
طغى الأسى الداوي على صوته
…
يا للصدى من قلبه الناطق
مضى بيت الدهر في خفية
…
شكاية الخلق إلى الخالق
لا تعدني يا رب في محنتي
…
ما أنا إلا آدمي شقي
طردتني بالأمس من جنتي
…
فاغفر لهذا الغاضب المحنق!
حنانك اللهم لا تغضب
…
أنت الجميل الصفح جم الحنان
ما كتبت في شكواي يا لمذنب
…
ومنك يا رب (أخذت الأمان
ما أنا بالزاري ولا الحاقد
…
لكنني الشاكي شقاء البشر
أفنيت عمري في الأسى الخالد
…
فجئت أستوحيك لطف القدر
تمردت روحي عل هيكلي
…
وهيكل الجسم كما تعلم
ذاك الضعيف الرأي لم يفعل
…
إلا بما يوحي إليه الدم!
يعرق حد السيف من لحمه
…
ويحطم الصفوان بنيانه
وينخر الجرثوم في عظمه
…
ومنه ينمي القبر ديدانه!
ما هو إلا كومة من هباء
…
تمحقه اللمسة من غصبتك
فكيف يثني الروح عما تشاء
…
وكيف يقوي؟ وهي من قدرتك
روحك في روحي تبث الحياة
…
نزلت دنيايْ على فجرها
فإن جفاها ذات يوم سناه
…
لاذت بليل الموت في قبرها
ومثلما قدرت صورتها
…
فروحك الصوت وروحي الصدى
طبيعة ف الخلق ركبتها
…
وما أرى لي في بناها يدا!
لكنما روحك من جوهر
…
صاف وروحي ما صفت جوهرا
أولا، فما للخير لم يثمر
…
فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!
تقول روحي إنها ملهمه
…
فهي لما قدرته متبعه
مقوده في سيرها مرغمه
…
وإن تراءت حرة طيعه
قيدتها بالجسم في عالم
…
تضج بالشهوة فيه الجسوم
كلاهما ي حبه الآثم
…
لم يصح من سكراه وهو الملوم
تبدي به الأجسام سحر الحياة
…
في معرض يجلو غريب الفنون
نواعس الأجفان حلو الشفاه
…
شديدة الإغراء شتى الفتون
ولم أكن أول مغرى بما
…
أغرت به حواء أو آدما
إرث تمشى في دمي منهما
…
ميراثه ينتظم العالما!!
فأنت قدرت على الشقاء
…
من حيث قدرت على النعيم
وما أرى! هل في غد لي ثواء
…
بالخلد أم مثواي نار الجحيم؟
ما أثمت الروحي ولا أجرمت
…
ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصر الروح بما ألهمت
…
أوحت إلى الجسم فما قصرا!
كلاهما لم يعد تصويره
…
ما كان إلا مثلماً كونا
كم حاولا بالأمس تغييره
…
فاستكبر الطبع وما أذعنا
أمنذري أنت بيوم الحساب
…
ولائمي أنت على ما جرى؟
حماك: ما يرضيك هذا العذاب
…
لطيع لم يعص ما قدرا!!
ما كنت إلا مثلماً ركبت
…
غرائزي، ما شئت لا ما أشاء
فلتجزها اليوم بما قدمت
…
وإن تكن مما جنته براء!
وفيم تجزي، وهي لم تأثم
…
ألست أنت الصائغ الطابعا؟
ألم تسمها قبل بالميسم
…
ألم تصغ قالبها الرائعا؟
ألم تضعها عنصراً عنصراً
…
من أين؟ ما علمي؟ وأنت العليم!
جبلتها يوم جبلت الثرى
…
من عالم الذر ودنيا السديم
الخير والشر بها توأمان
…
والحب والشهوة في طبعها
حواء والشيطان لا يبرحان
…
يساقطان السحر في سمعها!
تشككت نفسي بما تنتهي
…
إليه دنياها وماذا يكون!
مضت فما آبت بما تشتهي
…
من حيرة الفكر وهجس الظنون!
أيصبح الإنسان هذا الرميم
…
والجيفة الملقاة نهب التراب؟
أيستحيل الكون هذا الهشيم
…
والظلمة الجاثم فيها الخراب
لمن إذن تبدع تلك العقول
…
أفي الردى تدرك ما فاتها؟؟
أم في غد تثوي بتلك الطلول
…
ويسحق الدهر يواقيتها؟؟
وا أسفاً للعالم البائد
…
ليس له مما يرى مهرب
على رنين المنجل الحاصد
…
مضى يغني وهو لا يطرب!
وروع الشاعر مما رآه
…
وهام في الأرض على وجهه
أين ترى يا أرض يلقي عصاه
…
وأي واد ضل في تيهه؟
حتى إذا شارف ظل الشجر
…
في روضة غناء ريا الأديم
قد ضحكت للنور فبها الزهر
…
وصفقت أوراقها للنسيم
اختار في الظل له مقعداً
…
في ربوة فاتنة ساحره
أذاب فيها الشفق المسجدا
…
وناسمتها النفحة العاطره
بينا يملي العين من سحرها
…
إذ أبصر الصل بها مطرقا
قد انتحى الأطيار في وكرها
…
فسامها من نابه موبقا
هل سمعت أذناك قصف الرعود
…
في صخب البحر وعصف الرياح
هل أبصرت عيناك ركض الجنود
…
في فزع الموت وهول الكفاح
إن كنت لم تبصر ولم تسمع
…
فقف إلى ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك والمصرع
…
ما بين نابي ذلك الأرقم!!
جريمة الغدر وسفك الدم
…
جريمة لم يخل منها مكان
يا لجة كل إليها ظمي
…
قد جاز طوفانك شم القنان!
من علم الوحش الأذى والقتال
…
من بث فيه الشر أو ألهمه.
من علم الثعبان هذا الختال
…
والحيوان الغدر من علمه؟
أيستحق الناس هذا العقاب
…
أم حانت الساعة من نقمتك؟
ما احتملوا يا رب هذا العذاب
…
إلا رجاء الغوث من رحمتك!
أما ترى منفرجات الشفاه
…
عن آخر الصيحات من رعبها؟
ما زال فيها من معاني الحياة
…
إيماءة الشكوى إلى ربها!
وهذه الأعين نهب العفاء
…
في رقدة الموت كأن لم تنم
محدقات في نواحي السماء
…
تشهدها هذا الأسى والألم!!
وهذه الأيدي تحوط الصدور
…
كأنها في موقف للصلاة
لم تنس في نزع الحياة الغرور
…
ضراعة ترسمها للإله!
ما عرفوا في صعقات الردى
…
إلاك من غوث ومن منجد
ولا سرى في الأرض منهم صدى
…
إلا ودوى باسمك الأمجد!
ليست هذه الأبيات الثمانون هي مجموع القصيدة لأنها تربى على المائتين، ولكنها قطوف متفرقة تؤلف بينها وحدة الجو النفسي بعد وحدة العمل الفني، والتقاء الوحدتين في مستودع الفكر أو في ساحة الشعور.
وكما تناولنا في الصور النفسّّية الماضية عناصر الأداة النفسي في الشعر، مطبقين هذه العناصر تطبيقاً فنياً وتوزيعياً على تلك الصور، تبعً لوضوح الصلة النفسية بين كل عنصر وكل صورة، فإننا نسلك نفس الطريق وتتبع نفس المنهج في تناولنا لهذه القصيدة الجديدة (الله والشاعر). . . وسنتحدث فيها عن هذا العنصر الفني الجديد من عناصر الأداة الذي ندعو إليه، وتعني به عنصر (الواقعية النفسية)!
ومرة أخرى سنعرض لمظهرين من مظاهر الواقعية في الشعر هما واقعية الأداء اللفظي وواقعية الأداء النفسي. . . وسواء أكانت الواقعية في منطق الدراسة المذهبية خروجاً من دائرة الرومانسية وهي دائرة الخيال والأحلام والانطواء على النفس والتهجد في محراب الطبيعة إلى دائرة الوقائع الحية والأحاسيس المجردة والأفكار الخالدة والحقائق الباقية؛ أم كانت في منطق الدراسة الفنية ألواناً مختلفة تتوزعها بضع خانات تشير أحدهما إلى واقعية في حدود مجتمع إنساني خاص، وتشير الأخرى إلى واقعية في حدود الأزلي الكبير؛ سواء أكانت هذه أم تلك فإن مرجعها آخر الأمر إلى هذين المظهرين الرئيسيين، ونعني بهما الواقعية اللفظية الواقعية النفسية!
ومرة أخرى نرفض هذه الواقعية اللفظية كما نرفض كل سمة من سمات الأداء اللفظي في الشعر؛ نرفضها لأننا إذا سلمنا بصب التجربة الفكرية في قوالب نثرية في كل فن من فنون القول، فإننا لا نعلم أبداً بصب تلك التجربة في مثل هذه القوالب في فن الشعر. . . وإذا كانت التجربة الفكرية هي عماد الواقعية الاجتماعية أو عماد الواقعية الوجودية، فإنها في كل ميدان من ميادين القول المرسل تستطيع أن نتبع من أغوار الذهن وحده، حيث تبدو الفكرة عارية من كل غلالة من الغلائل تنسج خيوطها من أعماق الهزة الوجدانية، ولكنها في الشعر لا تستطيع أن تقف وحدها غير مدثرة بتلك الغلائل التي تكشف عن تفاعل الأصداء الكونية داخل منطقة الشعور، أعني لابد من أن تمتزج التجربة الفكرية بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي تتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك. . . عندئذ لا يجوز
منطق الذهن في تعبيره النثري على منطق النفس في تعبيرها الشعري، ولا تطغى الطاقة الفكرية ذات التجريد المادي الخالص على الطاقة الشعورية ذات التصوير المعنوي الخالص؛ وهذا هو مفرق الطريق بين أداء يدور حول محور الواقعية بسلسلة من الخواطر الذهنية وبيم أداء يدور حول المحور نفسه بسلسلة من المشاعر النفسية!
نريد في شعر الأداء النفسي هذه الواقعية النفسية؛ الواقعية التي تفتش عن الحقائق الوجودية الكبرى في مجاهل الكون ومتاهات العقل، حتى إذا التقطت تلك الحقائق قذفت بها إلى ذلك المصهر الكبير مصهر النفس الإنسانية، ليخرجها لنا بعد ذلك مصبوبة في قالبها الملائم الذي تقوم بصنعه ملكة (الوعي الشعري). . . ولا بد من وجود هذه الملكة وراء كل واقعية نفسية، لأنها هي وحدها العنصر المسئول عن تنظيم كل حقيقة كونية يعرضها الفكر في ساحة الوجود الداخلي. فإذا أغفلت هذه الملكة عن عملية الإشراف الفني العام فقد تعرضت الواقعية النفسية للذبذبة في قضايا الفكر وللمغالطة في منطق العاطفة، وهما الجانبان اللذان يعبر عنهما في موازين النقد الحديثة (بالذبذبة الفكرية) و (المغالطة العاطفية)! هذه المغالطة وتلك الذبذبة مرجعها إلى غفلة الوعي الشعري على التحقيق، وهي شيء يختلف كل الاختلاف عن ضعف الرؤية الشعرية. . . إن ضعف الرؤية الشعرية يعرض الصورة الوصفة للاهتزاز الذي ينتج عنه تعذر المطابقة بين حقيقة الصورة في إطار الفن وحقيقتها في إطار الحياة، ولكن ضعف الوعي الشعري بمرض القضية الفكرية لاهتزاز من نوع آخر، تنتج عنه المغالطة المقصودة أو غير المقصودة في مجال المواءمة بين الحقائق في دائرة الواقع النفسي أو دائرة الواقع الوجودي! أما المثال على ضعف الرؤية الشعرية فقد قدمناه إليك في ذلك البيت من القصيدة السابقة ونعني بها (حانة الشعراء)؛ وهو البيت الذي ينقل إليك هذه الصورة:
حمر الثياب تخال أنهمو
…
يفدون من حانوت قصاب!
وأما ضعف الوعي الشعري فنقدم عليه مثالا آخر من شعر ابن الرومي عندما يقول:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد!
ولعلك تدرك أن هذا التفسير العجيب قد حفل بالمغالطة العاطفية من جهة وبالذبذبة الفكرية من جهة أخرى، وأنه بهذين المظهرين من مظاهر ضعف الوعي اشعري قد قضى على
الواقعية النفسية بصورة واضحة، لأن القضية الفكرية معتمدة على الصلة الواهية بين صروف الدهر وبكاء الطفل، قضية تخلو من منطق الواقع سواء أكان هذا المنطق في معرض الحقيقة النفسية أم كان في معرض الحقيقة الوجودية
ولا تظن بعد هذا أننا نضيق بالواقعية الاجتماعية في الشعر سواء أكانت في حدود مجتمع إنساني خاص أم في حدود مجتمع إنساني عام، وأننا لا نقبل غير هذه الواقعية التي تستمد مقومات بقائها من حقائق الوجود الأزلي الكبير؛ كلا، فكل واقعية تحمل في أحشائها توأمي التجربة الفكرية والشعورية مكتملي أسباب الحياة بنسب متقاربة أو متشابهة فهي واقعية نفسية تقبل في الشعر وتستساغ، وإن كنا نفضل بعد ذلك هذا اللون الأخير لأنه المرآة التي تنعكس على صفحتها كل نزعة إنسانية خالدة، أو لأنها الصفحة الأخيرة التي تلخص في سفر الحقائق الكونية كل ما سبقها من صفحات.
هذه الواقعية النفسية الوجودية التي تسير فيها لفتة الفكر جنباً إلى جنب مع خفقة القلب، هي التي تطالعنا من قصيدة (الله والشاعر) في أزهى حلة من حلل التصوير الفني في الشعر العرب الحديث. . . وهي واقعية تمثل القسط المشترك من الحقائق الكبرى المتبادلة تبادلاً كونياً بين الله والإنسان، وهي حقائق أشبه بالرواسب الفكرية والنفسية المتخلفة في قرار الذهن البشري منذ أقدم العصور؛ منذ أن بدأ الركب الإنساني يفكر في واقع هذا السير الطويل في طريق الحياة، ويناقش علة وجوده وغاية بقائه وما بعد فنائه، حيث ينتظره الجزاء الحق أو غير الحق ممثلا في عالمي الثواب والعقاب. . . ونقول الجزاء الحق أو غير الحق، ما دامت هناك صيحتان تؤمن إحداهما بأن الإنسان لا يملك أمام القوة العليا شيئاً من أمر نفسه ولا من أمر دنياه؛ وإنما هو يُدفع فيندفع ويوجه فيتجه ويسير فيسير، وأنه تبعاً لهذه القدرة المسلوبة والحرية المفقودة لا يجزى على سيئاته على سيئاته إذا أساء، فإن جزي عليها فهو جزاء غير عادل! إيمان بهذا كله تفصح عنه هذه الصيحة التي قابلها صيحة أخرى عمادها إيمان آخر، هو أن الإنسان يملك أمام القوة العليا كثيراً من أمر نفسه ومن أمر دنياه؛ فهو قابض على الزمام لا يفتله إلا برغبته، مبصر للطريق لا ينحرف عنه إلا بإرادته، عليم بالحقائق لا يحيد عنها إلا بمحض هواه، فهو مخير تركت له الحرية فإذا أساء فهمها فعلية أن يتقبل ما أعد له من جزاء، وإنه لجزاء يتسم بالحق ويتصف بالعدل
ويقترن بالإنصاف!
وإذا أنت بحثت عن مكان علي طه بين أصحاب الصيحتين الخالدتين فإن مكانه هناك مع الفريق الأول. . . هو معهم في اتفاق النظرة واتجاه الفكرة ولكنه يفترق عنهم في احتفاظه بإيمانه الذي لا تزعزعه كل هذه العواصف والأعاصير. أنه يتناول هذه القضية الوجودية الكبرى من زاويتين: الأولى ليدافع عن الكيان الإنساني أمام سطوة القدر وحكمة القضاء، مستخدماً في دفاعه منطق الشاعر الفيلسوف الذي يعرض المقدمات عرضاً شعريا ترتضيه النفس ليخرج منها بنتائج فلسفية يرتضيها الفكر. والثانية ليعبر عن حيرته البالغة وحيرة القافلة الإنسانية حين تتخبط في صحراء الوجود تلتمس الظل الظليل في رحاب الواحة الإلهية، فراراً من وطأة القيظ ولفح الهجير! وهو بعد ذلك متأرجح بين البث والشكاة، وبين الأنين والحنين، وبين الثورة المهذبة والخضوع العميق. . . وهو آخر الأمر معذب لا يدري أين يستقر ولا إلى أي وجهة تمضي به قدماه: خطوة يأس تقذف به إلى الخلف وخطوة أمل تدفع به إلى الأمام، ولكنه في غمرة هذه التيارات النفسية المتباينة ضارع مبتهل لا يشك أبداً في رحمة الله!
وفي كل هذه الأجواء التي صعد إليها بجناح الشعر تمتزج التجربة الفكرية كما قلت لك بالتجربة الشعورية ذلك الامتزاج الذي نتعادل فيه النسب الفنية هنا وهناك؛ وإذا أنت في قصيدة (الله والشاعر) تلتقي بالحركة العقلية أو لا تتبعها الحركة الوجدانية، كما التقيت من قبل بالحركة المادية أو لا تعقبها الحركة النفسية في قصيدة (القمر العاشق) وهذا هو جوهر التفرقة بين عنصري الحركة الأولين في مرحلة التجسيم الشعري ومرحلة الواقعية الوجودية!
ولابد في الواقعية النفسية بعد هذا كله من تلك (اللافتات) الفكرية الضخمة التي تعترض طريق السائر في دروب هذا اللون من الشعر، وهي اللافتات التي تشير إلى (مراكز التجمع) الشعورية بعد كل نقله من نقلات العمل الفني. . . ونرى لزاماً علينا أن نعرض بعض النماذج من هذه اللافتات الفكرية التي تنظم أوضاعها ملكة الوعي الشعري في كثير من الدقة والإتقان. وإليك النموذج الأول الذي يمهد به الشاعر لدفاعه الثائر عن موقف الإنسانية المخذولة في ساحة الخالق العظيم:
لا تعدني يا رب في محنتي
…
ما أنا إلا آدمي شقي
طردتني بالأمس من جنتي
…
فاغفر لهذا الغاضب المحنق!
ويمضي الشاعر بعد ذلك في دفاعه بعد أن طلب المغفرة، مقدماً دليله الأول على أن هذا التمرد الروحي لا دخل للطبيعة الإنسانية في إثارته، ولكنه من وحي الدم الفائر في مرجل النفس منذ الأزل حيث قدر لها أن تكون:
تمردت روحي على هيكلي
…
وهيكل الجسم كما تعلم
ذاك الضعيف الرأي لم يفعل
…
إلا بما يوحي إليه الدم!
ثم ينتقل من مرحلة الدفاع المهذب إلى مرحلة الاتهام المهذب الذي يتوارى خلف ركام الضعف أو خلف مظاهر الخضوع:
ما هو إلا كومة من هباء
…
تمحقه اللمسة من غضبتك
فكيف يثني الروح عما تشاء
…
وكيف يقوى؟ وهي من قدرتك!
وعند ما يفرغ من هذا الاتهام المحجب يعمد إلى الاتهام السافر الذي يخفف من حدته وضع الاعتراض موضع السؤال، وكأنه لا ينشد العتاب وإنما ينشد الجواب.
لكنما روحك من جوهر
…
صاف وروحي ما صفت جوهراً
أولا؟ فما للخير لم يثمر
…
فيها؟ وما للشر قد أثمرا!!
ومرة أخرى يود أن يبرئ نفسه من كل ذنب، وأن يدرأ عنها كل خطيئة، ولا ضير من هذا المنطق الذي يرد ظواهر الإغراء إلى مصادرها من نفس الإنسان الأول الذي خلف لأبنائه هذا الميراث الخالد على مدار القرون:
ولم أكن أول مغرى بما
…
أغرت به حواء أو آدما
إرث تمشي في دمي منهما
…
ميراثه ينتظم العالما!!
وحين يقص عليك قصة الثعبان الذي يكمن للطير بين أكداس الزهر ليطمس معالم الحياة بألوان من السم الزعاف، فلكي يطرق أبواب المعنى الكبير لمشكلة الوجود والعدم أو مشكلة البقاء والفناء:
إن كنت لم تبصر ولم تسمع
…
فقف إلى ميدانها الأعظم
ما بين ميلادك والمصرع
…
ما بين نابي ذلك الأرقم!!
هذه اللافتات الفكرية ونظائرها مما تحفل به قصيدة (الله والشاعر) يعرض لها الدكتور طه حسين بك في الجزء الثالث من (حديث الأربعاء) حيث (يقول: فأما معرفتي لشاعرنا المهندس قد أرضتني فلأن شخصيته الفنية محببة إلى حقاً، فيها الروح وعذوبة النفس، وفيها هذه الحيرة العميقة، الطويلة العريضة التي لا حد لها، كأنها محيط لم يوجد على الأرض. . . ولقد صحبت الملاح التائه في قصيدة (الله والشاعر) فأحسست كل هذا الذي صورته لك آنفاً، ورأيت رجلا لا هو بالشك المطمئن إلى الشك، ولا هو بالمستيقن المطمئن إلى اليقين، ولا هو بالمنكر المستريح إلى الإنكار، وإنما هو رجل مضطرب حقاً، مضطرب أشد الاضطراب يؤمن بالقضاء والقدر، ثم يثور بالقضاء والقدر، يرضى أحكام الله ثم يجادل فيها، يشكو ثم يستسلم، ويستسلم ثم يشكو، رجل حائر دائر هائم لا يستطيع أن يستقر. وأكبر الظن أنه لو استقر لكان أشقى الناس؛ فهو سعيد بحيرته، مغتبط بهيامه؛ مبتهج بهذا التيه الذي دفعته إليه نفس طموح جدا لأنها نفس شاعر، عاجزة جداً لأنها نفس إنسان)!
فقرات من نقد طوي كتبه الدكتور عن الشاعر، أما بقية هذا النقد فسنضعه تحت المجهر في فصل مقبل من فصوب هذه الدراسة
وسيكون عنوانه: (علي طه في ميزان النقاد المعاصرين)
(يتبع)
أنور المعداوي
الحب دوحة الأدب
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
لا يستهوي الشعراء في الحياة شيء قدر ما يستهويهم الجمال ولا تجذبهم إلا نظاهر السحر في الكون، ولا تلفت أنظارهم سوى ملامح الغموض بين مجالي الطبيعة. هكذا هم دائماً، وهكذا كانوا في كل العصور الماضية على نحو ما ترينا النصوص والآثار التي تركوها لنا. وأعجب من هذا أنهم يمتازون بحب الجانب الذي أغفله الناس جميعاً ويهتمون بالنواحي التي لا تشغل الكثيرين ولا تهم الغالبية العظمى من الأحياء. فتجدهم مثلاً يلتذون من الصمت المطبق حيث تنفرد النفس بذاتها وتأخذ في اجترار أفكارها وتحرص على الانسجام الداخلي الخالص. أو ترى بعضهم يتغذى بمشاهدة الغرابة والظلمة كما تتغذى الديدان، في باطن الأرض، بالطين والجذور. وعلى هذا النحو نستطيع أن نؤكد اتجاها لم يكن بالعادي في حياة الشعراء والأدباء من بين مخلوقات الله، وأن نسجل عليهم ضربا من الهواية الشاذة التي لا يحياها ولا يقبل عليها سوى من ألفت روحه الانزواء والعزلة واعتادت نفسه الغربة والوحشة وعانى قلبه خفقات اليأس والحرمان.
والحب من الظاهرات العادية التي تحصل في حياة كل إنسان؛ ولكنها عند الشاعر تأخذ رسالة أخرى وتتسم بطابع معين وتتشرب بمشرب خاص. وأستطيع أن أكشف لك عن الفارق الذي يميز حب الشاعر من حب الآخرين عن طريق حقيقة نعرفها عن الأديب، وهي أنه إنسان فردي أو إنسان لا يشترك في الحياة العامة إلا بقدر حتى يملك الوقت الكافي لتسطير مشاعره وتحبير آرائه. فالأديب - وهذا هو ما ينبغي له - لا يعمل إلا حيث يصير الزمن في خدمته ولا يقبل على الكتابة والتأليف إلا عندما يفارق الناس. ومهمة الأديب بطبيعتها تلزمه نوعاً من الحياة لا يشاركه فيها غيره ممن تقتضي أعمالهم مخالطة الناس والانصراف إلى قضاء الأمور تحت أنظار العامة. وبعبارة موجزة نقول عن الأديب أنه يحكم عمله يأخذ برأي نيتشه في ضرورة المحافظة على ما بنينه وبين الناس من أبعاد. فهو انعزالي بالضرورة ويستحيل أن يحيا كما يحيا سواه بين مظاهر المجتمع البغيضة وتحت رحمة الأوضاع القاسية. ومن هنا يحاول الشاعر أن يوجد لنفسه عالماً خاضاً وأن يخلق لذاته دنياً من الأوهام التي يسلط عليها ذكاءه وقدرته على الكذب والتخيل
حتى تتحول بمضي الأيام إلى واقع ملموس. وتصطبغ كل خطوة في هذا العالم أو كل حركة تصدر عنه بشيء من الرهبة والقداسة وتأخذ ألواناً قوية في عقله بحيث تصير موضع احترامه ومهابته
وهنا أهمس في أذن القارئ سراً لعله لا يعرفه حتى الآن. فأنا أرجو منه أن يشك كثيراً في حوادث الغرام التي اعتاد الشعراء أن يقصوها على ألسنتهم بمناسبة وبغير مناسبة. إن حياة الشاعر أو الأديب عموماً تكون من الفراغ والتفاهة من ناحية الوقائع الجارية بحيث تخلو من أية صفات الجرأة التي تصورها القصائد. وإذا حصل شيء من الأشياء العادية في حياته فإنه - مهما بلغت بساطته - يصير ذا أهمية لديه ويحسبه النعيم المقيم والفردوس الخالد تبعاً لما يعانيه من النقص في التجارب ومن الفقر في العلاقات. مثله في ذلك كمثل الطفل حين تهدي إليه لعبة فاخرة عند حلول المواسم والأعياد أو كمثل الجائع الذي تطعمه طعاما لذيذاً بعد أن ظل أياما طوالا غير قادر على امتلاك ما يسد رمقه أو يشفي نهمه. فالشاعر عندما يسبغ على الحادثة الطفيفة في حياته معاني القداسة وعندما يلقي على الأفعال العادية لديه ظلا من الروعة والبهاء؛ أو قل عندما يحاول أن يضفي على الذكرى البسيطة ضرباً من الانكشاف والبروز فهو يأتي ذلك بسبب ما نرى الآن فيه - كما قلنا - من التجربة القليلة والاختبار الشخصي الضئيل. ويجيء علماء النفس بعد ذلك ليقولوا عن الشعراء أو العباقرة إن من خصائصهم الكذب ومن طبيعتهم المبالغة في التصوير والتهويل عند سرد الوقائع. ولا يأتي هذا من المرض النفسي في الحقيقة - كما نرى نحن في تفسيرنا لهذه الظاهرة - وإنما يأتي من تلك الظاهرة التي أتينا عليها، وهي أن الأديب بحكم وجوده الخالي من الأحداث الجسام والأفعال العظام قد عوض نفسه بما يحكيه من صنوف الحكايات التي تري كبرياءه وتريح غروره.
فالأديب إذا - أو الشاعر - بحكم ما يعانيه في الحياة من انزواء وبطبيعة ما تلزمه به أصول معيشته من الفردية والبقاء المستور قد امتلأت نفسه بحب الذكريات التي مرت به على الرغم مما فيها من هزال وما تتصف به من قلة الشأن. بينما قد لا يذكر سواه، من الناس الذين خاضوا في تجاربه هذه مئات المرات، شيئاً مر بهم لأنهم اعتادوا في كل الأحوال وفرة وكثرة وسمنة في كل الجوانب، ولو أنه صادف كل ما يصادفه الماجن
العابث في أيامه الخوالي من متعة وانبساط في ملاقاة الغيد الأماليد وعشرة الغواني الملاح لما أحس في هذه الحركات بروزاً ولا وجد فيها غرابة ولا شعر بأنها موضوع للكلام والحديث
ولكن من الضروري في هذا المقام أن ننبه إلى شيء قد يفوت القارئ، وهو أن هذه الرغبة في الكذب وذلك الجنوح إلى التهويل والمبالغة لا يكونان عند الناقد الواعي محل شك وسوء ظن، لأن التجربة التي مر بها الشاعر كما وقعت في نفسه ومثلما ألقيت في روعه لا تختلف كثيراً عما يصوره لنا في وثائقه الأدبية. والصدق كل الصدق في الاتجاه الأدبي إنما يأتي من الوفاء عند تصوير الإحساس وعند محاولة الكشف عن سذاجته الأصلية بإزاء أحداث الوجود، فالشاعر لا يكذب عندما يغالي في سرد القصص ورواية التاريخ مهما خرج عن الحدود الحرفية لما جريات الأمور بمجرد العود إلى تذكرها من جديد، بل يصف وصفاً ممتازاً لطبيعته النفسية عند إسقاطه لمشاعره الخاصة على الواقع الخارجي الكالح. ونحن - من وجهة النظر النقدية الخالصة - لا نطالب الشاعر بأن يكون راوية أو مؤرخاً بقدر ما نطالبه بأن يكون مصوراً يأخذ بقواعد الفن حسبما تنزل الأشياء من نفسه وعلى نحو ما تصادف المظاهر من هواه
وننتهي من هذا كله إلى أن الفنان حينما يكذب يكون مضطراً تحت تأثير الفراغ الذي يجده في معاشه والتفاهة التي يلقاها طيلة أيامه والشذوذ الذي يتسم بن مزاجه. وإذا شئنا أن نتحرى الدقة في هذا الوصف فعلينا بأن نلاحظ مثلا كيف يفعل الشاعر؛ إذ يضطر بدافع من رغبة الناس في تصيد الملامح الخاصة بالعبقرية بين الأفراد، إلى أن يبدو في ملامح شاذة وإلى أن يظهر في الخارج ببعض الحركات والشيات التي تعبر عن جوه الداخلي ومما لا شك فيه أن دماغ الشاعر أو الأديب محتوية على الكثير مما يثبت نبوغه وجدارته، ولكن هذا النبوغ وهذه الجدارة لا يظهران للملأ على لافتة من اللافتات التي تعلن عما يكمن في ذاته وعما يختفي بين جوانحه، فيتجه بعضهم إلى التدخين مثلاً وقت الكتابة والتأليف حتى يشعر بالتكبير على هيئة الغيوم التي تتلبد في الهواء من حوله وحتى يشعر في عملية أخذ النفس ورد السيجارة - من حين إلى حين - بحركة تجسم عمله الذهني ومجهوده العقلي وتمثل اجتهاده في تصيد الأفكار ونظم الكلام.
فالعمل الفكري هو أبعد شيء عن الظهور وأرغب شيء عن روح الادعاء والرغبة في الإعلان. وهذا هو ما يبعث الغيظ في نفس الأديب، خصوصاً وأنه، من بين الناس جميعاً، يمتاز ببعض الهوس في طلب الشهرة وغير قليل من الغرور والتعالي بالنسبة إلى الآخرين. ولذلك يضطر إلى شيء من الذهاب بالنفس في الخيلاء إلى حد قد يبدو غريباً أمام الذين لا يعلمون شيئاً الأوار الذي يلهب صدره ويشعل كيانه من الداخل.
ومن هنا نريد أن نكون حريصين عندما نأخذ في دراسة الآثار التي تركها الأدباء والشعراء بخصوص المسائل القلبية والمشاعر المتصلة بالوجدان والعواطف التي تفرزها خيالاتهم وأوهامهم وإذا كانت من طبيعة الشاعر أن يجعل موضوع الحب محلا ً لعنايته واهتمامه، وأو إذا كان يتجه هذا الاتجاه بالفطرة فلسبب بسيط وهو أنه يعلم تمام العلم بنوع من البديهة أن الحب، من بين المظاهر الإنسانية جميعها، لا يكون موضع اشتراك ولا يحصل بطبيعته أمام أنظار الناس. ولذلك يسهل عليه تزوير قصصه والعبث بحكاياته والمداراة علة عيوبه فيه. فالحب تجربة فردية إلى أقصى درجة ولا يتم جوه إلا إذا خلصت الحياة لاثنين بالذات من بين الآدميين. ولذلك كان يستهوي الشعراء دائماً من هذه الناحية أيضاً، ويصير موضوعاً ممتازاً من موضوعات الاستغلال المعنوي والتعبير الذاتي.
فالحب يستهوي الشعراء ويكاد يكون موضوعاً لديهم جميعاً باستثناء القليلين لسببين تكلمنا عنهما حتى الآن وأعني بهما ما في الحب من طبيعة السحر والغموض والامتلاء بالأسرار ثم ما في الحب من مجال فسيح الإشباع رغبة الفنان عندما يحاول إعطاء حياته نوعاً من الأهمية وعندما يطمع في تغطية بعض الفراغ الذي يحيط به من كل جانب.
ثم هناك سبب ثالث وهو أن الحب مملوء بروح المأساة. وهذا في اعتقادي هو أهم الأسباب التي تدفع الشعراء نحو تصوير عواطفهم بإزاء من يحبون ومن يصطفون بين مخلوقات الله. قد يظن البعض أن المآسي تأتي بعد انتهاء مدة الحب وفترة التواصل ووقوع الفرقة. ولكن الشيء الصحيح في هذه الظاهرة هو أن المأساة التي هي من لوازم الحب الأصلية تملأ الشاعر بنوع من الميل وتجذبه جذباً بروائها وسحرها كما يجذب النور الأبيض فراش الليل الهائم بين أودية الظلام. فالشاعر ليس بالعالم الذي يطلب إليه ذكر الوقائع والتقيد بالأحداث، ولا يستطيع هو نفسه أن يستكفي بالحقائق يذكرها في غضون كلامه. ولذلك
نراه مشوقاً إلى الكتابة التي لا تتقيد بالأشياء المضغوطة ولا يلتفت إلى المظاهر العامة وإنما ينتهز الفرصة كيما يستبيح لنفسه أن يقول ما يشاء وأن يأتي بالمعنى الذي يحشو به الألفاظ حسب هواه. وبناء على ما تقدم نراه ساعياً في الطريق إلى استقصاء التجربة القلبية حيث يمضي ولا قيد، ويسعى ولا رقيب، ثم يحكي ولا ضابط.
ومن ناحية أخرى يريد الشاعر - تبعاً لما لا حظناه عليه من طبيعة المغالاة - أن يسكب على وجوده معنى الألم وأن يكتشف في حياته طابع الاستشهاد وأن يقحم على كيانه بعض ما يشعره بالهم والمعاناة التي هي أصل في كل خلق فني والتي يصعب على الإنسان أن يحقق فكرة المرور بالتجربة من غيرها. فالدوحة عند الفنان نوع من الحث على العمل، وباعث إلى النشاط كما يبعث الجوع واحداً من الفقراء على القيام بالأشغال في مقابل الرزق الحلال. وإذا خلت حية الفنان من الأحداث المروعة فهو ملزم بأن يفتش بنفسه عن الارتياع حتى لا يجد مجالاً لإبراز مواهبه. وهذا يشبه تماماً سعي الأجير من أجل الحصول على العمل الذي يفتح أمام قواه سبيلا للأداء وطريقا للنفاذ. فالشاعر بطبيعة موقفه مضطر إلى أن يتطفل على حياة الآخرين حتى يجد وقوداً لفنه وحتى يجد مادة لشعره. وإذا صادف من يهيئ له أن يكون هو نفسه طرفاً في القضية وأن يشترك في التجربة مشاركة ذاتية أصيلة فأغلب الظن أنه لا يتردد، إن لم يندفع الدفاع الأهوج الطائش، في أداء دوره اللازم.
ولعلنا نذكر بهذه المناسبة ما جاء في قصيدة بودلير التي يسميها (ضميمة) من أبيات تصور هذه الحقيقة وترينا خطورة الصلة بين الألم والشاعر. فهو يقول:
كن عاقلا يا ألمي وتمسك بالهدوء أكثر من ذلك،
فها هو ذا الليل الذي تعلنه قد هبط.
على هيئة جو دامس يكسو وإلى الآخرين هماً.
وحينما تذهب الكثرة الخسيسة من أبناء الفناء،
تحت سوط اللذة. . .
ذلك الجلاد الذي لا يرحم. . .
لتجمع مباكت الضمير في الحفل المدنس،
أعطني يدك يا ألمي، وابق إلى جانبي.
فالشاعر إذ يتجه إلى الحب فإنما يفعل ذلك تحت تأثير رغبته الجامحة في الحصول على الوقود الذي يشعل به نار فنه، ولكي يرضي في نفسه نزعة حامية من أجل التطلع إلى موضوع من موضوعات العمل الأدبي، وحتى يعثر في ذلك كله على الزيت الذي يستضيء به ذبالة روحه وتتفتح به جنبات فلبه وإذا شئنا أن ندرك عمله هنالك ففي مقدرتنا أن نمثله أو نشبهه بالعصفور الذي يبحث عن الأغصان في الغابة الفسيحة كيما يغني من فوقها أغنية القلب المحمل بالهموم والشعور المثقل بالمتاعب والفم الذي تخرج الأنات من شفتيه خرساء.
عبد الفتاح الريري
من رجال الفكر في تركيا:
ضياء كوك آلب
ونظرنه في القومية
بقلم عطاء الله ترزي باشي:
هو ذلك المعروف بآرائه الاجتماعية الدقيقة واطلاعه الواسع في الفسلفة العالية - العالم التركي العبقري والمفكر الإسلامي القدير محمد ضياء الملقب ب (كوك آلب)
وهو شاعر قوي الخيال عميق التصور رقيق الشعور، وكاتب اجتماعي فياض العاطفة، يسحر الإنسان برصانة أسلوبه وحصافة تفكيره وقوة تعبيره. له أبحاث قيمة في جل نواحي النشاط العلمية والفكرية، وأفكاره تنم عن فلسفة إسلامية راقية.
ولد بمدينة (دياربكر) سنة 1875 م ونشأ في بيت جل أهله علماء، فكان والده السيد محمد توفيق - مدير التحريرات - علماً جليلاً بثّ في نفس ولده روح الأمل في الحياة وثبت عزائمه للصعود في مدارج العلم والأدب، كما بذر فيه بذوراً صالحة من الفضائل حتى نبت الكثير منها فكان كوك آلب في عنفوان شبابه ومرآة صادقة تنعكس عليها المثل العليا التي اقتبس نورها من أبيه.
دخل كوك آلب المدرسة الرشيدية العسكرية وبدأ بتعلم اللغة العربية واللغة الفارسية على عمه الذي كان حجة في اللغات الشرقية. وأحب الفرنسية في صغره فاكتسب مبادئها حينذاك، كما اتصل ببعض من يعرفون اللغة الكردية حتى أتقنها، وسعى في إجادة هذه اللغة ودراستها من شتى نواحيها دراسة عميقة وقيل أنه أراد أن يضع كتاباً في قواعد هذه اللغة (نهاد سامي: تاريخ الأدب التركي المصور، ص 357، سنة 1928) مما حدا ببعض الكتاب إلى الاعتقاد الخاطئ في عنصرية هذا المصلح التركي. ومن بين هؤلاء الأستاذ محمد لطفي جمعة إذ يقول: وقد روى لي أحد الثقات. . أن كوك آلب كان كردياً. . ألف كتباً في النحو والصرف الكرديين. . .) (حياة الشرق، ص 225).
ودخل كوك آلب بعد ذلك المدرسة الإعدادية وتمكن في أثناء دراسته هناك أن يتعمق في الفلسفة الإسلامية. وبالأخص في علوم التصوف. . .
وحدث أن مات والده وهو لم يكمل دراسته بعد. فطلب من عمه أن يساعده في الذهاب إلى الأستانة لإتمام دراسته هناك؛ بيد أن عمه لم يرضَ عن سفره ورغب في بقائه معه فيزوجه ابنته. فأثرت هذه الواقعة - ووقائع أخرى جد مؤلمة - في حياة كوك آلب حتى خطر على باله أن ينتحر. وفي ذات يوم أطلق على نفسه عياراً نارياً من مسدس أصاب رأسه دون أن يقضي على حياته. ويقول الأستاذ (نهاد سامي) في كتابه السالف الذكر أن تلك الرصاصة أثرت في حياة هذا المفكر تأثيراً عكسياً لتشاؤمه الشديد بوخامة مستقبله واشمئزازه القديم من الظروف العصيبة والأحوال السيئة المحيطة به، فأزالت جميع اضطراباته الروحية التي كان يشكو منها وخلقت له جواً مفعماً بروح التفاؤل بحيث ينبغي أ، نقول إن لحظة تلك الإصابة تعد بداية تحول في حياته، فبدأت له حياة جديدة يسمو فيها كوك آلب إلى العلياء في سلم التقدم الفكري يوماً بعد يوم.
وسافر بعد ذلك إلى الأستانة والتحق بمدرسة البيطرة (الداخلية - حيث تدفع الحكومة فيها مصاريف الطلاب). وشاءت الأقدار أن ينتسب - وهو في الصف الرابع من هذه المدرسة - غلى الجمعيات السياسية، فانضم إلى الجمعية السرية التي أسسها طلاب الكلية الطبية آنذاك. ولما عُلم أمره ألقي في السجن تسعة أشهر نفي بعدها إلى بلدته الأصلية.
وظل هناك يدرس القرآن دراسة وافية، ويوسع من أفق معلوماته في العلوم الدينية، وذلك يعد أن أحاط باللغة العربية علماً وألمّ بها من جميع أطرافها إلماماً كافياً حتى عدّ علما من أعلامها.
وعلى أثر الانقلاب العثماني سنة 1908 بدأ كوك آلب ينشر المقالات الفلسفية والاجتماعية الهامة في مجلة (كنج قلملر) مما لفت أنظار المفكرين في عصره فنال استحسانهم.
وسافر بمناسبة الحروب البلقانية إلى استنبول مع هيئة الأعضاء المنتمين إلى الحزب الذي كان قد تأسس في ذلك الوقت. وبدأ هناك ينشر المقالات العلمية والاجتماعية في أمهات الصحف الاستانبولية حتى عُين مدرساً للفلسفة في مدرسة دار الفنون (أنظر إبراهيم علاء الدين في مشاهير الترك، مادة كوك آلب، طبعة سنة 1947).
وبعد الحرب العالمية الأولى نفاه الإنكليز إلى جزيرة (مالطة) وبقي فيها أسيراً ثلاث سنين غادرها بعد ذلك إلى (دياربكر) فأسس هناك مجلة (كوجوك مجموعة).
وأخيراً دعي إلى أنقرة وعين رئيساً للجنة الترجمة والنشر في وزارة المعارف. وقد شغل هذه الوظيفة إلى أن وافته المنية سنة 1924م.
لقد جمع هذا المفكر العظيم بين الأدب والفلسفة فصدرت عنه أفكار أظهر فيها تمسكه الشديد بمبادئ الدين الإسلامي الحنيف إلى جانب اعتزازه القوي بأسس القومية التي هذبها وأحسن وضعها. فإنه كان قومياً غير متعصب، يدعو إلى القومية الإنسانية بكل معنى الكلمة. فلم يكن لينظر إلى غير قومه نظرة استخفاف أو استحقار، ولا ليمس كرامة قوم من الأقوام. ولم يكن كذلك يفاخر بأمجاد قومه مفاخرة الجاهلين المتعصبين، وإنما أراد أن يعظم محاسن قومه ويهذب عقول القوميين المتحمسين لما لا ينفع، ويصقل أذهانهم وينور أفكارهم؛ فبذل جهوداً جبارة في تخطي العقبات التي تقف أمام المجتمع في تفهم معنى القومية، وسعى كثيراً إلى إبعاد المساوئ المحيطة بعقلية القومي والمضعفة للناحية الخلقية له.
فنراه يلبس القومية ثوباً آخر غير الذي ألفنا حتى اليوم فيتخذ من القومية وسيلة يتذرع بها الإنسان للوصول إلى أرقى درجات الحياة الاجتماعية وتترقب كل أمة أن تبلغ مثلها العليا التي رسمتها لها أفرادها في ظل القومية وتحت راية الدين.
وقد نظم هذا الأديب قصائد رنانة، وعقد فصولا طويلة وبحوثاً كثيرة سلك فيها مسلك المسلم في دينه والتركي في لغته وأدبه. ومن تلك المنظومات (توحيد)، (الهي)، (اذأن الترك) و (دعاء الجند وعقائده). . الخ وهي تنم على مبادئ إسلامية وتركية مشتركة.
ويحدثنا الأستاذ نهاد سامي (في كتابه تاريخ الأدب التركي السالف الذكر) أن كوك آلب نظم قصة تسمى (يولوان ولي) قصد بها إلى أن الشخص المتمسك بمبادئ دينه والمتشبع بفكرة حب القوم يكون قادراً على مسايرة أموره وتمشية أعماله ومصالحه الاجتماعية على خير ما يرام، إذ يكون ذا قوة كبيرة وصاحب قدرة خارقة يبدو فيها الإعجاز في كل لحظة بأبهى مظاهره، ويتجلى فيها السحر والبيان بأبدع صورته.
ولم يكن كوك آلب يوماً ليوقن بالقومية ما لم تكن قائمة على أساس ديني قويم إذ أنه لا يمكن في الواقع تجريد القومية عن مبادئ الدين مطلقاً. فالقومي في نظره هو من كان دينه مؤمناً واتخذ من لغة قومه وسيلة للتفاهم فاليهود عنده مثلا، وإن سكنوا في تركيا سنين
كثيرة، وتجنسوا بالجنسية التركية، لا يجوز بوجه من الوجوه أن يعدوا أتراكا أو يعتبروا منتسبين إلى القومية التركية ما داموا غير مؤمنين بما آمن به الأتراك (ويعني به المبادئ الدينية) وإنما هؤلاء وأمثالهم من غير المسلمين يطلق عليهم لفظة (وطنداش) بمعنى بني الوطن.
ويبين لنا هذا المفكر الكبير في كتابه (أسس القومية التركية) النظريات المختلفة لعلماء الاجتماع في تحديد معنى القومية، فيناقشهم فيها ويعارضهم جميعاً؛ ومن ثم يوضح لنا وجهة نظره الخاصة في ذلك. وتلكم خلاصة النظريات التي يقر بها العلماء ويدحضها الأستاذ ضياء كوك آلب:
(1)
الجنس: ادعى بعض العلماء أن الشعب بمجموعه يتكون من أفراد ينتسبون إلى جنس واحد تجمع بينهم روابط فسيولوجية لها علاقة بالصفات الاجتماعية.
غير أن كثيراً من علماء الفسلجة أثبتوا بالأدلة القاطعة عدم وجود أي تأثير للأوصاف الفسيولوجية على الفوارق البشرية مطلقاً. هذا وإن لفظة (جنس) اصطلاح في الواقع يطلق على الحيوانات فيقال هذا حصان من الجنس الفلاني.
وقد أخطأ البعض بتصنيف الجنس البشري وفقا لبعض المظاهر الخارجية كشكل عظام الجمجمة ولون الشعر والبشرة، وذلك لأنه لا يوجد في الوقت الحاضر شعب متصف بتلك الصفات جميعاً. فإننا اليوم نشاهد اختلافا بيناً حتى في صفات الأفراد المنتمين إلى عائلة واحدة.
(2)
رابطة الدم: وهذه النظرية تقول أن القومية عبارة عن علاقة بين أفراد تجمعهم رابطة الدم. . . فيدعي أصحابها أن القوم (أو الشعب) بمعناه الصحيح هو الذي حاز أفراده صفات خاصة موجودة في دمهم بحيث جعلتهم يمتازون عن سائر الأقوام بنقاء الدم وصفائه.
ولكن هذا القول مردود من أساسه، فالشعوب والأقوام حتى في الأزمنة الغابرة لم تكن كما يزعمه أصحاب هذه النظرية وذلك بسبب وقوع كثير من الحوادث التي كانت تسبب اختلاط الدماء كحالات الأسر وهروب المجرمين إلى بلاد أجنبية والهجرة والازدواج الواقع بين أفراد الأمم المختلفة. . غلى غير ذلك من الوقائع التي تثبت بطلان هذه النظرية.
(3)
الموطن: فيزعم البعض أن القومية تتميز بوجود أرض مشتركة يعيش علها أفراد
يسمون بالشعب كالشعب السويسري والشعب الإيراني.
بيد أن هذا الزعم فاسد أيضاً فإن في سويسره مثلا تسكن شعوب ثلاثة وهي الشعب الألماني والفرنسي والإيطالي، وفي إيران يسكن الفرس والترك والكرد؛ وليس من المعقول أن نعتبر هذه العناصر المختلفة قوماً واحداً ونطلق عليهم لفظة (الشعب) وذلك لاختلاف ألسنتهم. هذا ومن الصعوبة بمكان أن نعتبر أفراد الشعب الواحد - فيما لو كانوا يعيشون في مواطن متعدد منتمين إلى شعوب مختلفة. وبتعبير أدق لو جاز لنا أن نجزئ أسرة واحدة إلى جماعات (بسبب كون أفرادها يعيشون في بلاد معينة فإنه لا يصح أن نعتبر كل جماعة من هذه الجماعات شعباً يحمل اسم القطر الذي يعيش فيه.
(4)
النظرية الإسلامية: وهي تقول ان الشعب عبارة عن جماعة من الأفراد تجمعهم كلمة (الإسلام). والواقع أن هذه اللفظة تطلق على (الأمة) لا على الشعب، ذلك أن المسلمين في أرجاء العالم باعتبارهم وحدة قائمة يشكلون الأمة الإسلامية. والجماعة التي تتميز بلغتها الواحدة وحضارتها المشتركة لا يمكن أن تعد أمة وإنما تعتبر شعباً يتجلى فيه معنى القومية. فيقول التركي مثلاً إنني من الأمة الإسلامية وانتمي إلى الشعب التركي.
(5)
ويذهب البعض الآخر في تفسير القومية مذهباً فردياً فيقرون لكل فرد حق الانتساب إلى أي شعب من الشعوب حسب مشيئته. فله حق اختيار الشعب الذي يرى من الأوفق أن يحيا في ظله دون أن يمنعه من ذلك أحد.
غير أن مثل هذه الحرية المطلقة من الصعوبة أن نتلمسه عند فرد من الأفراد لأن النفس البشرية لا نأتلف إلا إذا اتحدت فيما تشعر وتحس بحب واحد ورغبة مشتركة. ويعتقد علماء النفس في الوقت الحاضر أن حياتنا الحسية هي الأصل وأن حياتنا الفكرية مرتبطة بها فهي إذا حياة تبعية. وبناء على ذلك يجب أن تكون الأفكار مع الشعور على خير وفاق.
فإذا لم ترتبط أفكار الإنسان بحواسه فإن مثل هذا الشخص يصاب غالباً بمرض نفساني يجعله شقياً في الحياة ما دام يعيش بعيداً عن بني قومه. ومثل ذلك الشخص كمثل شاب يقوم بالعبادات البدنية بصورة حسية دون أن تكون أفكاره متصلة بالمبادئ الدينية فهو لذلك لا يكون قادراً على موازنة نفسه.
وخلافاً لذلك فإن شقاء الإنسان ينقلب إلى هنا ورفاء فيسعد ذلك الشقي فيما لو عاش في
أحضان قومه، لأنه تربى وترعرع بين أناس يعطفون عليه فيميل إليهم أكثر من غيرهم. وعليه فإن من العسير جداً أن يغير الإنسان قوميته ويبدل أسلوب حياته لأنه، كما قلنا، يعيش متحسراً على حياته الماضية التي قضاها سعيداً بين أفراده، فيبتلى بما يسمى بداء الصلة!. (ضياء كوك آلب: أسس القومية التركية ص 15 - 19).
وبعد أن يناقش هذه النظريات نقاشاً دقيقاً ويرد عليها نراه يوضح لنا وجهة نظره الخاصة في تحديد معنى القومية فيستخلص المراد منها بأنها عبارة عن سمو الشعب ورقيه. والشعب في نظره ليس بمجموعة تربط أفرادها أواصر الجنسية، ولا هيئة سياسية أو جغرافية أو إدارية، وإنما هي مجموعة من الأفراد تجمع بينهم روابط الدين واللغة والأدب والأخلاق المشتركة، وبتعبير آخر اتحاد أفراد تلك الهيئة في الحضارة الواحدة - فالقومي كما يقول القروي - هو من ينطق بلساني ويدين بديني ويعني به اتحاد القوميين في اللغة والدين.
وقد وضع هذا المفكر الكبير مبادئ القومية الصحيحة في كتابه السالف الذكر مقسما إياها إلى روابط اللغة والدين والأدب والأخلاق والحقوق والاقتصاد والسياسة والفلسفة ومن ثم شرح هذه الفروع الأساسية شرحاً وافياً وقال في مبحث (الرابطة الدينية) إن التركي ورث عن ماضيه خزان جد ثمينة من مواريث الدين والأخلاق ينبغي علينا - نحن الترك. . أن نأخذها بنظر الاعتبار في سلوكنا في سبيل الرقي والحضارة. فيكفينا اليوم الرجوع إلى ماضينا لنتخذ من تراث أسلافنا مدينة عالمية عظيمة نبني عليها كيان قومنا، كما يجب ألا ننسى نصيبان من النهضة الأوربية الحديثة بخلاف الأمم غير الإسلامية، فإنها عند اتباعها المدنية في الوقت الحاضر عليها أن تبتعد عن ماضيها. . . (وللإيضاح راجع كتابه السابق الذكر).
وخلاصة الفلسفة التي يرمي إليها كوك آلب يرتكز على جعل تركيا مكونة من شعب تركي ينهض بآدابه وأخلاقه وتراث أجداده ويتمسك بالعقائد الإسلامية الصحيحة والمبادئ الدينية السليمة، كما يأخذ قسطاً وافراً من المدينة الأوربية الحاضرة.
عطا الله ترزي باشى
بغداد
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ سيد كيلاني
الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية
من 882 - 1919
- 7 -
وكان شوقي الشاعر الوحيد الذي اهتم بالدفاع عن إسماعيل.
أما بقية الشعراء فقد أهملوا ذلك إهمالاً تاماً. بل إن منهم من شاطر كرومر رأيه في ذلك الخديوي. ومن هؤلاء حافظ إبراهيم.
وكان لورد كرومر قد كتب تقريراً ضمنه بعض المطاعن في الدين الإسلامي. فأغضب بجهله وقصر نظره المصريين أجمعين. وقد ذهب الشعراء على اختلاف نزعاتهم وتباين ميولهم للنيل من كرومر. فقال شوقي:
من سب دين محمد فمحمد
…
متمكن عند الإله رسولا
وقال الكاشف:
وختمت عهدك بالذي اهتزت له
…
أركان مكة واستعاذت يثرب
وقال:
وتهين دينهم وتنكر عرشهم
…
ولواءهم وتريد ألا يغضبوا
وقال أحمد نسيم - وهذا من المضحك بعد ما تقدم له من مدح في كرومر:
يا لورد هل لك في الإسلام من غرض
…
ترمي إليه بسهم منك مسنون
أنذرت مدحك لو لم ترتكب شططا
…
في أخرياتك من حين إلى حين
هجوت قومي وما فارقت أرضهم
…
حتى تجرأت أن تنحى على الدين
ألم يكن دين طه خير ما نهضت
…
به البلاد إلى علم وتمدين
فكل معتنق للدين معتقد
…
هاجت ثوائره من بعد تسكين
أنا المثال قضيت العمر مبتهجاً
…
بما أتيت بقلب فيك مفتون
رأيت أنك لست المرء تصلحنا
…
ولست فينا على مصر بمأمون
غادرتها وهي للتقرير صارخة
…
إلى الإله بقلب منك محزون
فلا رماك الحيا إلا بداجنة
…
تهمي عليك بزقوم وغسلين
ومن قرأ البيت الأخير من القصيدة، وقوله قبل ذلك في لورد كرومر:
فسر مع اليمن مصحوباً بأدعية
…
يحف ركبك تعظيم وتبجيل
لم يملك نفسه من الضحك. ولاشك في أن أحمد نسيم عبر في هذه الأبيات عن شعور كامن في نفسه وعاطفة دينية قوية أنسته ما دبجه قبل ذلك من إطراء وثناء في كرومر.
وقال حافظ إبراهيم:
وأودعت تقرير الوداع مغامزا
…
رأينا جفاء الطبع فيها مجسدا
غمزت بها دين النبي، وإننا
…
لنغضب إن أغضبت في القبر أحمدا
وقال من قصيدة يرثي فيها مصطفى كامل:
قم وامح ما خطت يمين كرومر
…
جهلا بدين الواحد القهار
وفي عام 1908 مات مصطفى كامل فحزنت لموته الأمة بأجمعها.
وبكى الشعراء لهذا المصاب الفادح.
وقد أخذ المصريون في هذا الطور (1882 - 1919) يهتمون بأبناء العالم الخارجي وازداد الاتصال بين أوربا ومصر. فلما قامت الحرب بين روسيا واليابان وانتصرت اليابان في عام 1904 ابتهج المصريون ونظم الشعراء في ذلك القصائد الطوال.
ولما انتصر الأحرار في تركيا وظفروا بالدستور اهتزت المشاعر في مصر طرباً وابتهج المصريون أجمعون، وتمنوا أن تتحقق آمالهم في الحياة النيابية كما تحققت آمال الترك. وتاقت نفوسهم إلى الظفر بالحكم الشورى الذي تمتع به الناس في تركيا. ونظمت في ذلك قصائد كثيرة رائعة تفيض بالحماس وتزحز بالعواطف الوطنية الصادقة. فقال حافظ في قصيدة:
ويا طالبي الدستور لا تسكنوا ولا
…
تبيتوا على يأس، ولا تتضجروا
أعدوا له صدر المكان، فإنني
…
أراه على أبوابكم يتخطر
ومنها:
لقد ظفر الأتراك عدلا بسؤلهم
…
ونحن على الآثار لا شك نظفر
هم لهم العام القديم مقدر
…
ونحن لنا العام الجديد مقدر
وقال شوقي:
ما بين آمالك اللائي ظفرت بها=وبين (مصر) معان أنت تدريها
وقال إسماعيل صبري:
يا مصر سيري على آثارهم وقفي
…
تلك المواقف في أسنى مجاليها
لا يؤيسنك ما قالوا وما كتبوا
…
بين البرية تضليلا وتمويها
ومنها:
يا آيه الفخر هلا تنزلين كما
…
نزلت ثم على مصر وأهليها
كيما نجر ذبولا منك جررها
…
من قبلنا الترك في أوطانهم تيها
ولما وقعت الحرب الطرابلسية الإيطالية اتجهت عواطف المصريين نحو الطرابلسيين. وللشعراء قصائد كثيرة في استهجان عمل إيطاليا وفي حض المسلمين على مؤازرة أهل طرابلس.
ولما نشبت الحرب بين الدولة العلية والدولة البلقانية تغنى الشعراء في مصر بما أحرزه الترك من انتصارات.
وفي عام 1914 م اندلعت نيران الحرب العالمية الأولى في أوربا وامتد شررها في جميع جهات العالم. وأعلنت الأحكام العرفية في مصر ونفي شوقي إلى الأندلس. وخرس الشعراء وانقطعوا عن الخوض في السياسة انقطاعاً تاماً.
وامتاز هذا الطور بظهور بعض المصلحين الاجتماعيين كقاسم أمين ومحمد عبده. وقد ساهم الشعراء بشعرهم في الدعوة إلى الإصلاح. أما فيما يتعلق بالمرأة فقد انقسم الشعراء إلى شيع وأحزاب. فمنهم من ناصر هذه الدعوة وعضدها. ومنهم من حاربها وشدد النكير على أصحابها. ومنهم من توسط بين الحرية والتقييد.
ننتقل بعد ذلك إلى الدور الثالث الذي يبدأ من عام 1919 وينتهي بعام 1950م.
الدور الثالث
1919 -
1950
كانت ثورة 1919 حداً فاصلاً بين عصرين. عصر الاحتلال ثم الحماية. وفي هذا العصر
كانت للإنجليز الكلمة العليا في كل صغيرة وكبيرة وكان الموظفون البريطانيون متمتعين بسلطان مطلق في كل مرافق البلاد ومصالحها. وقد عانى المصريون من ذلك ألما عظيما. وظهر أثر هذا في الشعر على نحو ما بينا. وكان اليأس مخيماً على الرءوس، والأمل في الخلاص من نير الاحتلال يكاد يكون مفقوداً، وقد غبر الشعراء عن هذا اليأس والقنوط في شعر كثير. فلما قامت الثورة قويت الآمال في التخلص من نير المستعمر وأخذ الشعراء يغذون الثورة بشعر حماسي رائع.
وقد ترتب على هذه الثورة أن ظفرت البلاد بقسط وافر من الحرية وتخلصت من نفوذ الموظفين البريطانيين. ثم تمتعت بعد ذلك بدستور ومجلس نيابي. فتغنى الشعراء بهذا النصر العظيم.
وبينما كان المصريون يجاهدون في سبيل الحرية كانت الشعوب الشرقية تجاهد كذلك. وكان جهاد الترك أروع جهاد. وقد أحدث انتصارهم بقيادة مصطفى كمال رنة فرح وسرور في مصر. ونهض الشعراء ونظموا القصائد الكثيرة في مدح أبطال تركيا وإطرائهم والتنويه بانتصاراتهم.
ثم حدث أن ألغيت الخلافة العثمانية وحلت محلها حكومة جمهورية. ومع أن الخلافة العثمانية أضحت عديمة الجدوى للشعوب الإسلامية منذ زمن بعيد، رأينا في مصر شعراء كثيرين يبكون بكاء مراً لزوال هذه الخلافة، وينددون بمصطفى كمال وأعوانه ويرمونهم بالكفر والإلحاد.
وبإلغاء الخلافة انقطعت كل رابطة بين مصر وتركيا وانقضى العهد الذي كان فيه الشعراء ينظمون القصائد الطوال في مدح سلاطين آل عثمان أو في تحية الأسطول العثماني أو الجيش التركي، أو غير ذلك مما رأيناه عند الشعراء إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى. وأصبح الشاعر المصري يعيش لمصر وحدها بعد أن كان مقسم العواطف بين مصر وتركيا. وبانسلاخ تركيا عن الشرق اختفى ذكرها من الشعر العربي اختفاء تاماً.
على أن هناك روابط جديدة نشأت بين مصر والدول العربية التي قامت على إنقاذ الإمبراطورية العثمانية. وكانت هذه الروابط في أول الأمر ضعيفة. ثم أخذت الشعوب العربية تتطلع إلى مصر، وأخذ المصريون يمدون أيديهم إلى هذه الشعوب. وكان لتقدم
المواصلات أثر بين في تقريب الشقة بين المصريين والعرب. وقد انتهى الأمر بقيام جامعة الدول العربية فأصبح الشاعر المصري لا يعيش لمصر وحدها بل يعيش للعالم العربي. ذلك لأن الشر الذي يقع على دول من هذه الدولة قد لا يقف عند حدودها بل ربما امتد أثره إلى مصر. ولهذا السبب دخلت مصر الحرب ضد اليهود وذلك لشعورها بالخطر العظيم الذي يمكن أن يهددها بقيام دولة يهودية في فلسطين. وقد تغنى الشعراء المصريون بالنصر الذي أحرزه الجيش المصري ضد اليهود، كما نوهوا بجهاد أبطال الفالوجة
ولا شك في أن قيام دولة يهودية في فلسطين سيدفع مصر إلى العناية بجيشها عناية لا مثيل لها من قبل في تاريخ البلاد. وسيظهر أثر ذلك ف الشعر فنرى الشعراء يكثرون من التنويه بالجيش المصري ومعداته وأسلحته وذخائره وبسالته وإقدامه.
ووقعت في مصر بين (1919، 1927م) وهو العام الذي توفي فيه سعد زغلول أحداث سياسية لا نظير لها. وكان الشعراء يسجلون في شعرهم ما يصيب البلاد من خير أو شر، وما يلحقها من فرح أو حزن.
ولما مات سعد زغلول بكته مصر قاصيها ودانيها وبكاه الشرق العربي بأجمعه، ورثاه الشعراء في قصائد طويلة. ولم يسبق أن رثي شخص في العصر الحديث بمثل ما رثي به سعد زغلول. فالقصائد التي قيلت فيه عند وفاته لا يدركها الحصر. وما لبي الشعراء ينظمون القصائد الطوال احتفالاً بأحياء ذكراه.
إلى هنا ننتهي من الكلام عن الحالة السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر في عام 1850 - 1950م.
سيد كبلاني
سلسلة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (3):
غاية الأخلاق عند أرسطو
للأستاذ كمال دسوقي
لنشرع الآن. . . على ضوء ما قدمنا - في تحليل الكتاب الأول من الأخلاق النيقوماخية المطلوب إليكم دراسته تحليلا مفصلا. وفيه يتناول أرسطو بالحديث غاية الحياة على النحو الذي قلت في المقال السابق إنه يبدأ به بحثه في كل علم وفن أعني عرض مختلف الآراء والنظريات ومناقشتها ونقدها قبل الشروع في الإدلاء بنظريته هو التي تجدونها - ويجب أن تطلعوا عليها. . . الكتاب العاشر (الأخير) من الأخلاق النيفوماخية في المجلد الثاني.
وإنما بدأ بدراسة الغاية وكل شيء في الحياة من علم أو عمل فإنما له غاية يرمي إليها، وبتحديد هذه الغاية تحديداً واضحاً منذ البدء يتضح السبيل أو الوسيلة إليها. بل إن الغاية نفسها هي التي كثيراً ما تعين الوسيلة المؤدية إليها، كالحصة في الطب، والانتصار في الحرب، والثروة في الاقتصاد. وقد تبرر الغاية الوسيلة كما في بعض المذاهب الأخلاقية المتطرفة مما يعبر عنه مبدأ مكيافيلي المعروف: الغاية تبرر الوسيلة أي تشفع لها وتستبيح في سبيل تحقيقها أية وسيلة مشروعة كانت أو غير مشروعة. فالغاية وإن كنا تصل إليها آخر الأمر - وقد لا تستطيع الوصول إليها لعدم توفر أسبابها ووسائلها. . . إنما تحدد بادئ الأمر ومن هنا لزم وجود علم (أو علوم) وفن (أو فنون) تختص بدراسة كل غاية من هذه الغايات، وتنتهي من تعرف طبيعتها إلى وصف الطريق المؤدية إليها.
وما أكثر ما تتعدد الغايات وتتعقد - على خلاف بينها في درجة التعقيد. فمن الوصائل ما تحمل في طيها قيمتها بحيث تصبح هي الغاية. بمعنى أن تكون مصورة لذاتها (فقرة 2 سطر 2) كمن يتلقى العلم لذات العلم، أو يزاول نوعاً من الفنون كالرسم أو التصوير أو الشعر حباً في الفن، من غير أن تكون له غاية أخرى من حب الشهرة أو الثروة أو نحوهما. وأحياناً ما يكون العمل وسيلة لغاية مرسومة، كما في أغلب أفعالنا الإنسانية التي هي في معظمها وصولية نفعية حتى لينكر المعاصرون وجود العلم للعلم، وحي الفن للفن، إيماناً منهم بأن كل شيء لابد له من غاية تستتر وراءه وتكمن فيه. والأمر أشد عسراً حين تدرك أن من هذه الغايات ذاتها ما يكون وسيلة لغاية أسمى، فلا يقصد لذاته، وقد يكون لهذه
الغاية الثانية غاية أبعد وهكذا. ويردد أرسطو هنا ما سبق أن قال به في برهان وجود الله (العلة الأولى) من أن هذا التسلسل في الغائبة. . . كما كان في العلية. . . لا يمكن أن يكون إلى غير نهاية بل لابد أن يقف عند حد يكون هو العلة الأولى أو علة العلل التي ليس وراءها علة، والخير الأسمى الذي ليس بعده خير، والذي هو موضوع جميع الآمال على اختلاف مذاهبها إليه.
فمن الغايات إذن ما هو جزئي وما هو كلي، كما أن من العلوم التي تدرس هذه الفايات ما هو جزئي وما هو كلي. وإذا كان الخير غاية العلوم العملية على النحو الذي بينت في تقسيم العلوم عند أرسطو في المقال السابق، فيكون من الخير إذن ما هو جزئي وما هو كلي. الجزئي هو الأخص الذي يتعلق بالفروع - والكلي هو الأسمى الذي يتعلق بالأصل. وهو عند أرسطو علم السياسة الذي يتعلق بتدبير أمر الدولة أو المدينة (واسمها في اليونانية وإذا تذكرتم الملحوظة الثالثة التي ذكرت لكم في التعليق على لوحة العلوم الأرسطية في المقال السابق الخاصة بتدرج العلوم العملية في أهميتها نحو الكثرة، سهل عليكم أن تدفعوا ببطلان اعتراض المترجم الفرنسي (الفقرة التاسعة ص 71، هامش) على أرسطو في جعل علم السياسة قمة العلوم العملية. فلما كان الفرد وحدة المجتمع، والخلية الأولى في تكوينه، وكان البحث في خيره وسعادته يجب ألا يتعارض مع بحث خير الدولة وسعادتها، فقد رأى أرسطو يحق أن يخضع الأخلاق (علم تدبير الفرد) والتدبير المنزلي (تدبير الأسرة) لعلم السياسة (تدبير الدولة) حتى يكون للمجموع الهيمنة على الفرد فلا يدعه ينشد سعادته ولذاته أينما شاء ومهما تعارض مع سعادة الآخرين، وفي ذلك الفوضى والاضطراب خصوصاً وأن ما يراه هذا العلم خيراً على الجماعة فإنه يفرضه على كل أفراد هذه الجماعة باسم القانون أو العرب أو التقاليد التي يستحق من يحيد عنها جزاء من جنس عمله. ومتى كان القانون الخلقي يكفي وحده لضبط سلوك الأفراد. . . وليس للضمير سلطان على الكثير منهم - إلا أن يظاهره القانون الوضعي (أو المدني)، والقانون السماوي (أو الدين)؟ إن الفرد في نظر أرسطو حيوان اجتماعي لا وجود له منعزلا. وهي وجهة نظر الاجتماعيين وبعض علماء النفس المحدثين.
وإذ وضح أن الخير الحقيقي الأسمى للإنسان هو موضوع الأخلاق التي هي فرع من علم
سياسة الدولة، فإن أرسطو يريد أن ندرس هذا الخير من وجهة نظر عامة لا في أمثلة فردية ربما كانت نتائجها شاذة - والشاذ لا حكم له ولا يقاس عليه (فقرات 14 إلى 16) خصوصاً وأن الحكم على الأشياء الجزئية يتطلب معرفة خاصة بها كما أن الحكم بطريقة عامة كلية يتطلب خبرة أوسع وتجربة أشمل، ومن هنا جاءت عدم صلاحية الشباب. . . شباب السن الأحداث وشباب العقل الذين باتباعهم الهوى يعطلون ملكة العقل فتصدأ وتطيش ولا تصلح للتفكير السليم - نقول عدم صلاحيتهم لتعاطي هذا العلم والبحث فيه ، فليست غاية الأخلاق مجرد العلم بالخير، بل رياضته ومزاولته عملياً وقبل كل شيء (ف 18 - 20)
وفي الفصل الثاني يناقش أرسطو فكرة الخير من حيث ما ينظر الناس إليها. هم مجمعون على أن الخير الأسمى هو السعادة، والسعادة يريدون بها رغد العيش وحسن الفعل. ولما كان هذا التعريف عاماً وغير محدد، فإنه يتسع لكثير من التفريعات تختلف وجهات النظر وبتباعد الناس. ولما كانت الآراء هنا من الكثيرة والنسبية (الغني بالنسبة للفقير، والصحة للمريض.) بحيث لا تحصر فإن أرسطو يقتصر على ذكر أكثرها شيوعاً وأدناها إلى الصحة. وهنا يثير أرسطو مسألة المنهج الذي سيسير عليه في استقراء أنواع السعادة هذه. فيحمد لأفلاطون تفكيره في البدء من الأشياء الجزئية إلى المثل الكلية أو العكس مرجحاً هو طريقة الانتقال من الحالات الجزئية إلى قانونها العام، ومن الأشياء الشائعة الموجودة في الواقع بوضوح إلى ما عسى أن يكون لها من علة. وبمعنى آخر من المعلومات إلى العلة، والمسببات إلى السبب. وهذا هو منهج الاستقراء الذي لا نزال نأخذ به حتى اليوم بوصفه أصح منهج لدراسة الأخلاق.
وعلى أساس هذا المنهج القويم يصنف أرسطو السعادة عند الناس من حيث هي الحياة الهنيئة إلى حياة اللذة، فالمجد والشهرة، وأخيراً حياة الحكمة والتأمل: الأولى هي الحظ الدهماء والعامة و ' ن شاركهم فيها بعض ذوي السلطان المترفين الناعمين - وهي على أي أحوالها تجعل من أصحابها بهائم أولى منهم أناسي. والثانية (حياة المجد والشرف) أرفع شيئاً، ولكنها توهب ولا تؤخذ، يعني أنها ملك لواهبها لا لطالبها - إن شاء أعطى وإن شاء سلب - هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي ألا نطلبها لما يدل عليه السعي إليها من
تهافت وضعة ورغبة في التكمل بما ليس فينا؛ أو على الأقل التثبت والاستيقان من وجوده فينا - وكلاهما شر أقل ما يدل عليه أن ما نريد أن ننسبه لأنفسنا - أو ينسبه لنا الناس - (وهو الفضيلة) هو أولى بالسعي والاكتساب. والفضلة ذاتها لا تصلح وحدها غرضاً للحياة وإلا كانت مملة - بل شراً أحياناً (ويتناولها أرسطو في الكتاب الثاني). أما الحياة الثالثة فحياة الفكر والتأمل (وهي موضوع الكتاب الأخير من الأخلاق الأرسطية) ويعالجها أرسطو بعد أن يكون قد فرغ من تحديد الفضائل والإرادة الخلقية - لأنها أساسها.
هذا عدا حياة الثروة، والثراء لا يمكن أن يكون غاية؛ بل هو وسيلة تقصد لغيرها لا لذاتها - كما سيتضح أن اللذة هي عمل الحواس والأعضاء؛ ولا تُراد لذاتها.
ويعود أرسطو إلى تناول الخير بمعناه العام الدقيق في الفصل الثالث، فلا يجد حرجاً في أن يتعارض مع أستاذه أفلاطون في هذا الصدد ما دام يسعى للوصول إلى الحقيقة. بل هو يأخذ على نظرية المثل الأفلاطونية هنا مآخذ كثيرة ترمي في جملتها إلى إبطال نظرية الخير الكلي أو مثال الخير الأفلاطوني يمكن تلخصيها فيما يلي:
(1)
من الأمور التي تتميز فيها سلسلة من سابق ولاحق - كالأعداد - لم يستطع أصحاب المثل أنفسهم أن يقولوا يُمثل لها، لأنها تستمر إلى ما لا نهاية - وأرسطو هنا يشيد بالفيثاغوريين.
(2)
ومثل هذا يقال في ما يسميه أرسطو المقولات وهي عشرة: جوهر وتسعة أعراض؛ الجوهر سابق على الأعراض لأنه الموضوع، وهي محمولة عليه كما يقال في المنطق وما دام الجوهر سابقاً على أعراضه التسعة (الكم والكيف. والزمان والمكان، والإضافة والملك والوضع، والفعل والانفعال) فنحن بازاء خيرات كثيرة بمقدار ما يكون للجوهر الواحد من صور وأعراض، وهذه الخيرات منها ما هو سابق وما هو لاحق ولا يمكن أن يوجد بينها خير مشترك.
(3)
ولو كانت نظرية المثل الكلية صحيحة فيما يتعلق بالخير، لوجب أن يوجد علم واحد يختص بدراسة الخيرات كلها من حيث هي تتدرج تحت خير كلي، والواقع لا يؤيد ذلك، بل يقوم لكل خير جزئي علم خاص به (ف4).
(4)
وقول أفلاطون بالمثل يجعلنا بازاء ثلاثة أشياء بدلاً ممن اثنين - كما في الإنسان،
فهناك الإنسان الجزئي المسمى زيد أو عمرو - يليه الصفات المشتركة بن عامة الناس - أي الحد الكلي والماهية في الذهن - فمثال الإنسان الكامل أو الصورة المثالية المفارقة التي تنزع إلى محاكاتها ولا تبلغ إليها الكائناتُ الإنسانية الموجودة في عالم المثل.
(5)
وفي هذه الحالة لن يكون الخير الكلي - أي الخير في ذاته أو مثال الخير - أكثر حيراً من الجزئي - إذ الفق بين المثال الكلي والشيء الجزئي المشارك فيه هو أبدية المثال وأزليته - أي أنه لا أو له ولا آخر زمانياً - وليس من شأن التقدم في الزمان أو الخلود فيه أن يجعل للشيء زيادة في كم الصفة أو كيفها (ف6).
(6)
وحتى لو قيل إننا لا نقصد أن يكون لكل نوع من الخيرات مثاله؛ بل إن نوعاً معيناً منها هو المثالي أو الحقيقي الذي تشارك فيه بقية مُثل الخيرات، وبمشاركة الأشياء فيه نكتسب صفة الخير، فيكون لدينا حينئذ على الأقل نوعان من الخيرات: خيرات بذاتها وأخرى بغيرها، ويتعذر علينا بالتالي أن نميز أيها الخير الحقيقي: الخير المثالي المجرد في عالم المثل أم الخير الواقعي في الأشياء والأفعال. فإذا أثبتنا الخير للمثال وحده دون الأشياء المشاركة فيه فما فائدته إذن؟ (ف10) وإذا أثبتناه للأشياء المتعددة لزم أن تكون مشتركة في حد واحد هو الخير. ولكنا نرى تعدد الخيرات بحيث لا يجمعها مثال واحد، فمن أين إذن اتفق لها الاسم على اختلافها؟ أيا الشبه؟ أم المصادفة؟ أم وحدة المصدر؟ أم الغاية؟ هنا يتهرب أرسطو ويقتطع الجدل دون أن يتم (ف13) بل يعود إلى صدد المثال الواحد المجرد للخير فيقول أنه لو صح وجوده قائماً بذاته لما أمكن إحرازه أو تعاطيه ويمتنع بذلك السعي أو البحث عنه.
وأرسطو حتى نهاية هذا الفصل يؤكد وجوب عن الخير الجزئي لا الكلي؛ النسبي الذي له علاقة بغيره لا المطلق القائم برأسه في علياء المثل؛ الخير المحسوس في الأشياء والأفعال والعلوم الواقعية لا المجرد المعقول الذي لا سبيل إلى إدراكه أو تحصيله. وهذه جملة اعتراضا على نظرية الخير الكلي كما تريد المثل الأفلاطونية أن تكون - أوردناها لك بتفصيل وتوسع - ولك أن تقبل منها ما تؤيده الحجة الناصعة والدليل القاطع - فليست كلها من الوجاهة والإنصاف بحيث تؤخذ مسلماً بها - ولكنها على أي حال جزء من النقد العام لأرسطو على نظرية المثل الأفلاطونية، وعليك أن تكمل هذا النقد في ميدان المثل
الأخلاقية بنقد المثل الطبيعية في مطلع كتابي الطبيعة وما وراء الطبيعة لأرسطو - مما تجد شرحاً وافياً له في المراجع العربية التي زودتك بها في المقال الأول - فارجع إليها وأدرسها - فان نقد المثل الأفلاطونية يُعدَّ حجر الأساس في كل علم من العلوم الفلسفية التي تناولها أرسطو
كمال دسوقي
علامة العراق
الأستاذ محمد رضا الشبيبي
كنت - ولا أنفك - أنتاب مجمعه، واختلف إلى مجلسه وأتردد إلى داره. وبيته ببغداد، مجمع الفضلاء من أحلاف العلم، وأنصار الأدب، وعشاق الفضل، وأكابر البلد، وأشراف الأمة.
كان أبوه (الجواد) - رحمة الله عليه - من أشياخ الكتاب وفحول الشعراء، تعبر عن مقامه المحمود في صناعة الكتابة مقاماته التي يعنوا لها البديع، ولا يطاولها الحريري، وتدل على مرتبته العالية في القريض أشعاره التي لا يقاويها القدامى حر لفظ، ولا يضارعها المحدثون دقيق معنى. وكان أجداده من كبراء العلماء، وأئمة المحدثين. ولا تزال آثارهم تنم على علو محلهم، وتدل على جلال شأنهم، يذكر اسم الله - تعالى - في مساجدهم ويسبح بحمده في الغدو والآصال، وكانت مدارسهم تغص بالمتفقهين ينفرون من كل جانب، ويغدون من كل فج.
وقد شابه (الرضا) أباه، وورث أجداده، إلا أ، هـ أحاط بأقطار الفضل، وطوف في مناكب العلم، وجمع الكمال فأوعى. تفقه بالنجف عند طائفة من العلماء، وأدبه فريق من شيوخ الأدباء. وقد درس المنطق فمد من أفراده، وأخذ الحكمة فصار من أشياخها، وتخرج في الفلسفة فكان من أربابها، وسمع اللغة فقيد أوابدها، وعقل شواردها، وهذب ألفاظها. وكتابه (المأنوس) من لغة القاموس أمارة كماله في هذا السبيل.
رأيته حافلا بعلم جم، وفضل غزير، وأدب طرئ ومحاسن كثيرة، وفضائل دثرة ومناقب عديدة يزينها اثنان: تواضع العلماء وأناة الوزراء. وهو شاعر مجيد، وديوانه المطبوع نبذ مختارة من مجموع كبير ضخم يحتوي على بدائع بدائهه وعيون غرره.
وهو - عند أهل افضل - مؤرخ العراق - غير منازع - حاول أن يطلع على أخباره، فوقف على السهم الأوفى، وأراد أن يصيب آثاره، فوقع إليه النصيب الأكبر. اطلعت على جزء من مجموعاته الكثيرة القيمة، وطالعت جملة مما جمع ووضع، وقرأت طائفة مما ألف وصنف من الكتب التي لو من على التاريخ بنشر شيء منها لكشف الأستاذ عن وجه كثير من أصول التاريخ والأدب.
ومن العجائب أنه عنى بما لا يقع في خلد أحد من الباحثين في ومنه، المعاصرين له؛ فلقد أفرد (البيزرة) برسالة مبسوطة، وعنى بإخراج مخطوط قديم قيم فيها. وخص (تاريخ الفلسفة) وأكابر الفلاسفة بكتاب ضخم نفيس، وعنى (بفلاسفة اليهود في الإسلام) كان كمونه وابن ملكان. وعالج (أدب البحث والمناظرة) واثبت في مجموعاته تاريخ البلدان التي هبت ريحها في العلم أو كانت برزة في الأدب، وأثبت سير رجالها المتبحرين، وأعيانها الكملة، وبيوتاتها الجليلة. وعنى بمؤرخ العراق (ابن الفوطي) - المتوفى سنة 723هـ - فأفرد سفراً مبسوطاً مطولاً أثبت فيه تاريخ العراق - حينئذ - وضمنه سيرة ابن الفوطي، وإني لأظن الأمر الذي حمل الشبيبي على إخلاد ابن الفوطي، وإخال السبب الذي جعله معنياً به، وأحسب أن رأس ما عظمه في عينه، هو تشابه الرجلين، فهما اللذان أرخا العراق ودونا أخباره، وتصيدا أنباءه. وقد بر الشبيبي بابن الفوطي فأنقذ الجزء الرابع من كتابه الجليل (مجمع الآداب في معجم الأسماء والألقاب) الذي كان نسياً منسياً في (دار الكتب الظاهرية) بالشام، وحرره وعلق عليه وهذبه، وأثبت سيرته في رسالة مطولة
ولقد اطلع على كثير من خزائن الكتب العتيقة بالعراق والشام ومصر وأفاد من مخطوطاتها ما لا يقوى على تحصيله - اليوم - من وقف نفسه على البحث ونذر للتأليف فرصته. واعتكف في دور العلم وبيوت الأدب، فأخذ نصيبه منها، واقتفى كتباً نفيسة، وجمع أسفاراً مختارة. وعنده خزانة جامعة رائعة تزينها آثاره التي تنم على مقدار فضله، وهي أمارة كماله. وهو جيد الحظ مليح الكتابة، له مشاركة في جميع العلوم والآداب.
لا أزال أزوره وأتردد إلى حضرته وأجتمع معه، فإذا أبطأت عليه عاتبني. ولقد منعني أن أقصد حضرته داء ألم بي، غادرني رهين الفراش، وتركني إلف الداء فهاجني شوقي إلى مجلسه، وثورني نزوعي نحو مجمعه، فارتجلت هذه الأبيات وأنا نهب السقام، وأوفدتها عليه ضحا 14 تشرين الأول من سنة 1949:
مولاي ما اخترت القطي
…
عة والرضا أقصى رجائي
لكن أمنت الشخط وال
…
أيام تبخل باللقاء
وبقيت نضو السقم ره
…
ن جوي أطارحه عنائي
أتذكر الجمع الحبي
…
ب فأنتشي ويزول دائي
ويلم بي طيف الخيا
…
ل وإنه خير الدواء
يا عهد جمع يارعا
…
ك الله مزدهر الفناء
عذبت روحي بالبعا
…
د ورُعت قلبي بالثنائي
فأذيلُ دمع صبابة
…
وهوى يجمجمه حيائي
من لي بأيام الوصا - ل كأنها كرهت لقائي
خلفتها وتركت في
…
أعطانها قلبي ورائي
ردوا إلي زمان وص
…
ل كنت أمحضه إخائي
وأعد علي حديثه
…
حتى يعاودني شفائي
أفديك يا عهد الأحب
…
ة هل لعودك من رجاء
إن أنس لا أنس الربو
…
ع يزينها ثوب البهاء
تتنفس الآداب طي
…
باً في مغانيها الوضاء
وتضوع أنفاس الشم
…
ئل وهي تزري بالكباء
وتدار راح الفضل في
…
جنباتها الغر الرواء
يا داره روى ثرا
…
ك على المدى طول البقاء
وسقتك يا ربع الكما
…
ل من الحياديم الصفاء
تعرو سواك النائبا
…
ت وأنت مرتفع البناء
بضاعتي وهي مزجاة وينثني على زادي وهو قليل: (أتمنى أن توفق البلاد لمكافأتك، وهل يتاح لها أن تكافئ الأدباء العاملين؟!)
شارك - حفظه الله - في الجهاد ولا ينفعك لسانه الغضب يقوم الأود، ولا تزال كلماته تعدل الزيغ ولا يبرح سناه يهدي درب المجد الأبيض. لم تلهه سياسات البلد عن الاشتغال بالعلم، ولم يتطربه تدبير الدولة، لكنه التفت عن الدنيا وبهجتها، وهو معروف بالإباء، شهير بالعفة. وإنه وإن كان ذرف على الستين يعاني ما لا يصبر على الاستقلال به الشباب ولا يستطيع القيام به من يمتع بعنفوان السن.
بغداد
حسين علي محفوظ
الأدب والفن في أسبُوع
عميد الأدباء يتولى وزارة المعارف:
كان لتولية الدكتور طه حسين بك وزارة المعارف موقع خاص في النفوس، وهو موقع الارتياح والغبطة، ويرجع ذلك إلى منزلته الممتازة لدى الخاصة والعامة، لأنه كاتب إنساني ذو رسالة إصلاحية محددة، فهو فنان ومصلح، وكلا الصفعتين محبوب، وقد اجتمعتا فيه، وتفاعل مزجهما في نفسه، فصار رجلا أريحيا خيرا، قويا بالأريحية والخير، يحس بقوته فيندفع إلى الجرأة والحرية في كتاباته وتصرفاته.
فلم يكن غريباً أن تعم الفرحة به إذ يتولى الوزارة، وقد انهالت عليه بطبيعة لحال - سيول التهاني من الجماعات والأفراد، ولست أرى بدا من ترديد المعنى القديم المكرر، وهو أن مثل الدكتور طه حسين أو هو بالذات لا يهنأ بمنصب ماء وإنما يهنأ المنصب به، وما أبالي إن أديت ما أريد، أن يكون المعنى معادا أو طريفا، فقد تعلمنا من العميد الكبير أن نركب التعبير إلى ما نقصد. (لم يكسب الدكتور طه حسين جديدا بتوليه الوزارة، وكل ما هنالك أنه جمع المنصب إلى مجده الأدبي الخالد، وليس المنصب الزائل بشيء إلى جانب المجد الباقي على الزمن. وهنا أتبين في نفسي السر الذي حدا بي منذ أول هذه الكلمة حتى الآن في تجنب الديباجة الرسمية التي تنسب فيها (المعالي) إلى الوزراء، في الحديث عن طه حسين.
إذن لا أهنئ الدكتور طه حسين بولايته وزارة المعارف، وإنما نهنئ أنفسنا. . نعم نهنئ أنفسنا بما ننتظره من خير على يده، ولا يفوتنا أن نتصور ما يلقاه هو من عناء لا تذهب به مظاهر الوزارة وجاهها من نفس كبيرة كنفس طه حسين. والخير الذي ننتظره أن يتحقق على يده خير عام يكاد الناس يرونه محققاً من الآن. . .
طه حسين الكاتب الذي يغلف مراميه لخير هذا الشعب بغلاف من الفن الممتع الجذاب، يتولى وزارة المعارف، فلهذا يفرح الناس به ويرجون أن يحقق ما يدعو إليه دائما وما كان يتحدث به فيرجو أن يسمعه ولاة الأمر، وها قد أصبح هو ممن بيدهم الأمر، وقد عهده الناس في عهده السابق بوزارة المعارف بادئا بما يبتغي من الخير مصمماً فيه ثم حالت الظروف دون السير في الطريق إلى نهايته.
طه حسين الذي يقول بأن التعليم حق طبيعي لكل فرد من أفراد الأمة كالماء والهواء لا ينبغي أن يرد عنه أو يحمل على شرائه بالمال كما يشترى البصل والكراث، طه حسين الذي يصور حال المعلمين وما يلقونه من شقاء في العمل ومواجهة أعباء العيش ويطلب لهم ما هم أهله من الحياة الكريمة، طه حسين الذي هاله أن تلقي أسرة المازني حرجاً في معيشتها بعده فطالب بأن ترعاها الدولة، وأن تمتد هذه الرعاية إلى سائر الأدباء وأبنائهم وأسرتهم من بعدهم، طه حسين الكاتب الذي ينبض قلبه بالإنسانية الرفيعة فيبسط شعوره الإنساني في كل ما يكتب، يغضب لصالح المواطنين فيهجم، أو ينهنه من غضبه فيسخر، أو يرى القيود فيتحايل؛ يكتب في شؤون الناس مباشرة، وأحياناً يعود إلى تاريخ الأسلاف فيتخذ منه أغلفة يلفف بها أفكاره ومشاعره، طه حسين الأستاذ الكبير الذي الجيل والتف حوله أدباء الشباب يتلقون عنه الفن ويهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو مسهم ضر من من ذوي القلوب الغلف. طه حسين ذلك قد تولى وزارة المعارف، فها هو وزير محدد البرنامج واضح المنهج، ونحن لن نتوانى عن مطالبته بالعمل لتنفيذ برنامجه ما ستطاع إليه سبيلا، وأنا لا أقول بأن كل ما يكتبه الكاتب يستطيعه إذا وكل إليه الأمر، فالكاتب يرسم المثل وقد يقصر من يتصدى للعمل على تطبيقها عن غايتها، ولكن بحسبنا أن نراه جاداً في السبيل ماضياً إلى الهدف.
وقد بقي شيء أريد أن أهمس به في أذن معالي الوزير - ولا بأس هنا بقليل من الرسميات - أريد أن أقول له: لا يغرنك ما ترى من أناس أنت تعرفهم لأنك تراهم الآن حولك يمسحون (الردنجوت) كما كانوا يصنعون في عهدك الأول بوزارة المعارف ولم ترهم منذ ذلك الحين.
مناقشة في أزمة الزواج:
جرت هذه المناقشة في (رابطة مصر أوربا) يوم الثلاثاء الماضي، بين الأستاذ محمد عبد الواحد خلاف بك والأستاذ مظهر سعيد والسيدة مفيدة عبد الرحمن والسيدة أمينة السعيد.
كان الأستاذ خلاف هو مدير الندوة ومعظم الحديث والنقاش فيها بدأ بتمهيد في بيان أهمية الزواج وقال أنه لا يعرف بالضبط هل هناك أزمة زواج بمعنى الإضراب عنه أولا، ولكن الأزمة توجد على الأقل في الحياة الزوجية نفسها. ثم تلته السيدة أمينة، فقالت أنه ليس في
مصر أزمة زواج على وجه عام واستدلت بإحصائية صدرت سنة 1937، يتبين منها أن نسبة الرجال المتزوجين في مصر نحو 68 %، وقالت إن أكثر غير المتزوجين هم من شبان الطبقة المتوسطة المتعلمين، أما غيرهم من الفقراء والأغنياء فإقبالهم على الزواج ظاهر ملموس.
وتكلم بعد ذلك الأستاذ مظهر سعيد، فقال إن أزمة الزواج المحصورة في المتعلمين من الطبقة المتوسطة هي في الحقيقة أزمة الزواج في السن المتأخر لأن الشاب يبدأ حياته في الوظيفة بمرتب ضئيل ويتهيب الزواج منتظراً حتى تتحسن حالته المالية. ومن ناحية أخرى ينظر الشاب إلى مستقبله فيراه رهنا بالصلات والوساطات وليس للكفاية والعمل أي اعتبار، فهو يلبث حتى يحصل على الدرجة الخامسة مثلا ليستطيع أن يتقدم إلى أحد الكبار من ذوي النفوذ ليصاهره فيستعين بجاهه.
أما السيدة مفيدة فقد أرجعت الأزمة لا إلى الأسباب الاقتصادية فحسب، بل اعتبرت الناحية الاجتماعية أهم من العوامل الاقتصادية؛ فأفاضت في الكلام عن عدم إعداد الفتاة للحياة البيتية إعداداً صحيحاً وتقصير الدولة في رعاية الأسرة والأطفال، وتحدثت كذلك عن الحالة الخلقية السيئة التي انغمست فيها الفتاة بانعدام الرقابة عليها.
ولخص خلاف بك الموقف بعد ذلك، وأضاف إلى ما ذكر من أسباب الأزمة ميل الشاب إلى التخفف من التبعات وإيثاره المتعة المنوعة الرخيصة، والاستنارة العامة التي تدفع إلى طلب المستوى العالي في جمال الفتاة وثقافتها.
وعادت السيدة أمينة إلى الحديث فحبذت الزواج المتأخر ذاهبة إلى أن الرجل في مقتبل شبابه يعجبه في المرأة ما لا يعجبه إذا تقدم في السن إذ يرتفع مستوى ما يطلبه من جمال أكثر من قبل، فإذا تزوج مبكراً أدى ذلك إلى عدم الاتفاق فيما بعد. ومما قالته أن حالة الزواج في مصر أسعد منها في البلاد الأجنبية الغربية سواء من حيث نسبة الزواج أو من حيث السعادة الزوجية، لأن الزوجين العاملين هناك لا يلتقيان إلا متعبين مكدودين.
ولما عاد الأستاذ مظهر إلى الكلام قال أنه يرجع الأزمة إلى عامل نفسي أهم من الاقتصاديات والاجتماعيات، ذلك أن الشاب لا يشعر بالاستقرار في هذه الحياة المضطربة، والنفسية غير المستقرة تتهيب الإقدام على الأمور. وهون الأستاذ من شأن الناحية
الاقتصادية بأن الشاب العزب ينفق وحده ما يكفي زوجين، وذهب إلى أن أسباب المتعة المحرمة غير ميسورة كما يقال. وركز الموضوع في الناحية النفسية وقال إن حل المشاكل إنما هو في القضاء على أسباب الحيرة والاضطراب ليصل الشاب إلى الطمأنينة النفسية التي تدفعه إلى الإيمان بالله وأن لكل مخلوق رزقه أو إلى الثقة بنفسه وهمته.
وقد جرت المناقشة هادئة يكاد يتفق المتناقشون في الرأي. وكان المتخيل من تأليف المتناقشين أنهم جبهتان جبهة الرجل وجبهة المرأة؛ ولكن الذي وقع هو الخلاف في بعض النقط بين السيدتين. . . فكادت المعركة الكلامية تنشب بينهما لولا جنوحهما آخر الأمر إلى الملاينة وإيثارهما المحاسنة، فكانت كل منهما مثالا للسيدة المثقفة، وقد اختلفنا في ثلاث نقط الأولى أن السيدة مفيدة اعترضت على إحصائية سنة 1937 إذ تغيرت الأحوال بعدها، فاحتدت السيدة أمينة في الرد قائلة إن زميلتها سألتها فيما بينهما لماذا أنت بالإحصائية القديمة فأجابتها بأنها آخر إحصائية، ثم استغلت ذلك في المناقشة العلنية. وأبانت السيدة أمينة أن الإقبال على الزواج زاد في خلال الحرب ثم رجعت الحال إلى ما كانت عليه، ولكن من أين عرفت ذلك وهي نفسها تقول إن إحصائية سنة 1937 هي آخر إحصائية؟ والنقطة الثانية هي أن السيدة مفيدة عارضت تحبيذ الزواج المتأخر، وألقت التبعة في تغير الرجل وانعدام حبه لزوجته إلى الزوجة، لأنها لا تظل على العناية بنظافتها ومظهرها التي تكون في أول عهد الزواج، بل تهمل نفسها بحيث لا يراها الزوج على ما يحب. أما النقطة الثالثة فهي مسألة الزوجين العاملين فقد دافعت السيدة مفيدة عن هذه الزوجية وقالت إن الواقع ينطق بما فيها من السعادة والوفاق.
وقد لاحظت أن الجميع اتفقوا على التهوين من شأن أزمة الزواج حتى كادوا يقولون بأنها غير موجودة. ثم استرسلوا بعد ذلك في بسط الأسباب الداعية حتما إلى أزمة لاشك فيها. . . والواقع أن الحال أشد مما صوروها، فالأزمة وان كان محصورة حقاً في شباب الطبقة المتوسطة إلا أنها قائمة بينهم بدرجة خطيرة، وهم خلاصة أبناء الأمة الذين يعول عليهم في شئونها ومستقبلها.
ولم تخل الندوة من بعض الدعابات والفكاهات، فقد لاحظ الحاضرون أن السيدة أمينة تكثر من كلمة (مظهر) حتى قالت عن شيء أنه مظهر شيء. فقال خلاف بك: لا أنه (مظهر
سعيد) وقدم السيدة مفيدة أخيرا بقوله: والخلاصة المفيدة تسمعونها من السيدة مفيدة. . .
ومما حكاه الأستاذ مظهر سعيد من التندر على الزواج أن أحد المدرسين كان مرافقاً لتلاميذه في رحلة بحديقة الحيوان؛ فرأى تلميذ حماراً وحشياً يجري وراء أتان، فسأل المدرس عن سبب ذلك، قال المدرس: أنه يريد أن يتزوجها: قال التلميذ: وهل يتزوج الحمير؟ فقال المدرس: وهل يتزوج إلا الحمير. . .؟
عباس خضر
رسَالة النقد
السراب
للأستاذ ثروت أباظة
هي القصة الرائعة التي أنمها الفنان العبقري نجيب محفوظ، وقد أدار حوادثها في بيئة متوسطة ليست بالوفيرة الغنى ولا هي بالمدقعة الفقر.
أطلق الأستاذ نجيب قصته على لسان شاب في طريقه إلى إغلاق الحلقة الثالثة من عمره. . . فهو يقص علينا حياته بادئا بالفطام منتهيا بما يرفع عنه القلم. . . وقد عاش حوله أشخاص كثيرون كان شأن نجيب معهم شأنه دائما مع شخصياته جميعا، يمسك بزمامهم في قوة المتمكن العتيد ويحركهم في دوائرهم المرسومة راسما في كل حركة من حركاتهم خطا بصور ما تنضم عليه نفوسهم من خير أو شر فتعرفهم وتعيش معهم فكأنهم أصدقاء العمر دون أن يقدمهم لك القاص ودون أن يقدموا هم أنفسهم. . . بحسهم وبحسبك أن يسيرهم نجيب وأن تتابع أنت سيرهم فإذا هم الأصدقاء القدماء أو هم - على التقدير المتواضع - أناس عرفتهم فأحسنت المعرفة.
بطل القصة (كامل رؤية) يتابعه نجيب أو هو يتركه يتابع نفسه ويروي لنا أن نشأ كعود وحيد في حقل كبير لا يعتني به إلا الأرض وصاحب الحقل، وقد كان أرض (رؤية) أمه وكان صاحب الحقل جده. وهكذا كان الولد مشدوداً في طفولته إلى فستان أمه أيا كان نوع هذا الفستان فهو معها في كل مكان وهي تأبى عليه ألا أن يكون كذلك. حرمت عليه لعب الأطفال وحرمت عليه الخروج حتى إذا ما ذهب إلى المدرسة عجز عن رد السخرية بل عجز عن الكلام حتى لنسمعه حين يسرح يقول للأستاذ (يا نينه) فتبقى الكلمة علما عليه طول أيامه في هذه المدرسة. . . ولم تكن الأم بالمثقفة حتى تفتح ذهنه إلى شيء. كل ما علمه عن الحياة أن له أماً وله جداً وله أبا سكيراً لم يقم مع أمه أكثر من شهور متفرقة. . . أنجبت أو هي في الحقيقة جلبت فيها إلى الحياة ثلاثة أفراد: بنتاً وولدين كان بطلنا صغيرهم - عاش مع أمه التي تعيش مع أبيها الضابط المتقاعد. . هذا هو كل ما عرفه كامل، وهذا هو ما ظل يعرفه من أمور الدنيا حتى بلغ الخامسة والعشرين من عمره، فهو شخص خامل جبان، يخاف الحياة ويخاف الموت، ويخاف الناس ويخاف نفسه، غبي،
ضعيف الإرادة. . يجسم التافه من الأمور، يتعثر في خطاه كلما مشي. . . ولكنه هو الذي يضع العراقيل التي يتعثر بها. لم يكن من بد أن يتعثر في الدراسة أيضاً فنال شهادة البكالوريا لاهثا وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ومنعته سنه الكبير أن يحقق أمنية جده بدخوله الكلية الحربية فينحرف عنها مضطراً إلى كلية الحقوق، وكل ما يسره فيها أنه لن يضرب. . . وقد حدث ما سره فعلا فلم يضربه أستاذ بعصا، ولكن أستاذ الخطابة فعل به ما هو أنكى، فطلب إليه أن يخطب إخوانه فوقف على المنصة ليصمت وليستدعي هزء إخوانه ثم ليولي وجهه شطر الباب ويخرج. . ويخرج إلى غير رجعه، فقد صمم على أن يكتفي من التعليم - أو الشهادات فهو لم يتعلم - بما نال، يسعى بها لدى الحكومة فتعينه ويصير موظفاً بوزارة الحربية. يموت جده وقد كان يحمل عنه عبء البيت بما يقبضه من معاش حتى إذا قبضه الله إليه حار (كامل) فيما يفعل، ولكن الأم تهون عليه وتترك بيتهم الكبير إلى شقة صغيرة وتستقيم الحياة في ظاهرها ولكن كاملا الملتوي لابد أن يلوي الحياة معه. . . فهو في حياة جده كان قد أغرته كثرة المال كما أغراه خوفه وضعفه بشرب الخمر التي نكبت أسرته جميعا وصدعت شملهم ولكنه يجد حين يسحوها جرأة لا يجدها في نفسه إطلاقا. جبان هكذا هو دائما، رعديد يخشى الحياة بنفسه وبعقله فهو يذيب عقله الخائف، ويغمر نفسه الهالعة في كأس الخمر، ولكنه حين مات جده لم يجد ما يكفيه لشربها أو هو على الأقل لم يجد ما يداوم به على شربها.
أم جهول وابن غبي! ماذا نرجو؟ نعم. . لقد شب الطفل خسيس النفس يستعين بجسمه على إخماد غريزته، فلم يجد من يبصره بالعاقبة أو من يعالجه به المراهق - فأفرط حتى تمكنت منه العادة. . . وقد أثارتها في نفسه خادمة قبيحة عندهم وجدتها أمه معه فطردتها وأخبرته أنه أتى أثماً كبيراً؛ فلم يفهم غير هذا حتى إذا تقدم خاطب لأمه قفز الإثم الكبير إلى ذهنه وساءل أمه فأخبرته أن الزواج علاقة يباركها الرحمن ولم تزد، ورفضت الخطبة، فاختلفت الأمور بذهنه فأكب يجلد نفسه بنفسه حتى أصبح لا يطيق إلا هذا. ولما كانت الخادمة قبيحة فإنه شب لا يثير حيوانيته إلا المرأة القبيحة، أما الجميلة فإنه يشرئب إليها بروحه ناسياً أنه رجل.
ظل كذلك حتى أحب ابنة لجار لهم وأراد الزواج منها فوقف في سبيله فقره الذي صار إليه
وحياؤه الذي نشأ معه، واستطاع مرتين تحت وطأة الحب الجارف أن يذهب إلى أبيه يطلب منه العون على الزواج؛ ولكن الأب يفهمه في المرة الأولى أن لا مال لديه وفي المرة الثانية يتحسس الأب في كلام أبنه معنى التهديد، ولما كان هو قد حاول قتل أبيه فأخفق، الأمر الذي جعل أباه يحرمه ميراثه لما كان كذلك، فإنه يغضب، ويتجسم كلام أبيه في ذهنه تهديداً صريحاً فيطرد، ويخرج الابن يائساً ولكن لا يطول به اليأس بل يموت أبوه ويرث عنه ما يكفيه للزواج وينتقل هو وزوجته وأمه إلى بيت جديد. . . أن زوجته جميلة. . . لا زوجية إذن. . . عجز عنها ولكن الزوجة راضية. . لم يطق الحال فذهب إلى طبيب يتضح فيما بعد أنه قريب أصهار فيعرف الطبيب عادته التي ظل عليها حتى بعد الزواج فيحاول علاجه. . . ولكنه لا يفلح فينصرف عنه كامل ليستعين بالخمر فينجح نجاحاً واهباً ويقنع نفسه أنه نجح؛ ولكن الزوجة ترجوه أن يرجع إلى ما كان عليه من روحانية فيرجع راضياً في نفسه وعن نفسه محاولاً أن يقنعها أنه إنما تقاعس عن رجولته إرضاء لزوجته. وتمشي الحياة به راضيه ولكن رأى في يد زوجته خطابا مزقته حين رآه فثارت في نفسه شكوك، وذهب يراقب زوجته فيرى فتاة دميمة تغازله فهو جميل، ويغازلها فهو قذر، ويخون زوجته التي اتضح من مراقبته لها إنها بريئة. . . وظل هكذا، دميمته لجسده وزوجته لروحه، حتى كانت ليلة شعرت فيها الزوجة بوعكة فيطلب إليها أن تبقى بالمنزل فتوهمه أن لا سبب للخوف وتقصد إلى بين أمها فيشتد بها المرض فتقيم هناك ليلتها ويعود هو من عند جسده ليجد روحه عند أمها فيذهب إليها، يقيم معها حتى يغدو الليل إلى النهار، فيذهب ثم يعود إليها قبل ذهابه إلى ديوانه ثم لا يطيق أن يبقى بالديوان أكثر من ساعتين فيعود إليها. ولكن لا لم يعد إليها بل عاد إلى جسدها. لقد ماتت كيف؟ أنها عملية قام بها الطبيب الذي عرض عليه نفسه. ولكنه يرى أن الطبيب قام بعملية ليست من اختصاصه فتثب إليه الشجاعة ويبلغ النيابة فيكشف التحقيق عن زوجة خائنة خانته مع هذا الطبيب بالذات فكان ثمرة الخيانة جنيناً حاولا التخلص منه، ولكنها ماتت.
يذهب إلى أمه يكاد يجن فيفزع فيها غضبا جائحا ويتركها ليقلي بنفسه في غرفة غير تلم التي عشق فيها الروح الخائنة حتى إذا كان الصباح نزل إلى القاهرة لا يدري من أمر نفسه شيئاً ويقابله صديق يعزيه. لم يكن يعزيه في زوجته ولكن في أمه. لقد ماتت لقد
أخرج غضبه في غير موضعه. لقد كانت الأم طريحة الفراش يهددها القلب بالتوقف حتى إذا طالعها من ابنها هذا العتود. ماتت
وهكذا تتوالى عليه المصائب في غير توقف. وهو هو الرعديد الجبان الضعيف يخر لها في غيبوبة ثلاثة أيام يرعاه أخوه وأخته حتى إذا أفاق وتذكر خيل إليه أنه وصل إلى حقيقة نفسه. وهو أنه خلق للتصوف؛ ولكن لم يكد يستقر به التفكير على هذا حتى تدخل إليه دميمته. إنها تسأل عن صحته وتسدل الستار.
إن في الرواية بعد ذلك لفتات عبقرية إلى دقائق الحياة ليست غريبة على نجيب ولا هي بغريبة علينا منه. ففي الكلام الذي يقوله الأب لابنه في الزيارة الأولى وفي التحليل العجيب لنفسية المخطئ السكير وفي تبريره السر واقتناعه به بعقله إلى جانب عاطفته وفي دفاعه المنسجم مع منطقه. في كل هذا اكتمال، بل قمة فنية نجيب خير من يرقاها.
وفي النقاش الدائر بين كامل السكران وبين الحوذي الذي يطلب إليه (كامل) أن يذهب به إلى بؤرة فساد؛ في هذا الحوار لفتات بارعة فترى الحوذي يقول حين يصل (هنا الفساد الأصلي) في هذه السهولة وهذه الوقاحة ونرى (كاملا) يألم على رغم سكره حين يوغل الحوذي في الحديث. لفتة بارعة أيضاً.
بقي أمر لابد أن أعرض له على من نلقى عبء النكبات المتحدرة على (كامل). نظرة سطحية للأمور تجيب: على القدر. ليس القدر كلها أخطاء بشر. أم مدللة، وجد يدلل الأم. لابد أن ينتج ابن هش ضعيف النفس يتعلق بالقبح، وما هذا إلا شذوذاً في الخلق وعقدة في النفس أودت بحرمة بيته، وهو غبي ولم يكن الغباء موهبة عنده، ولكن أمه لم تعط الفرصة لعقله أن يعمل فخمل، وعرف في نفسه الغباء وعرف فيها الجبن، فاحتقر نفسه، فسقط لو هيأت له تربية صالحة لما سار إلى هوته. أن ذا النظرة السطحية يقول لم لم يهيئ له القدر تربية صالحة. ليس القدر. أنه أبوه أو جده لأبيه لم يحسن التربية، ولم يثقف ولده فأدمن الخمر وتزوج ولم يصبر على الرجولة الحقة، وفضل الدعة إلى جانب كأسه على أن يحمل نفسه مشقة الالتفات إلى أولاده.
والزوجة الخائنة لمن يحسن أهلها تربيتها فسقطت وكان الأحرى بها أن تطلب الطلاق ولا تتردى فيما فعلت، تطلب الطلاق.
ولتستتر بما شاءت ولكن تطلبه.
نجيب أنه لعلك تريد أن تقول لنا ما من شر يصيبنا إلا من أنفسنا وما من خير نلقاه إلا من الله. إن كنت فقد أحسنت وإن لم تكن فقد قدمت إلى مكتبة القصة قمة جديدة ننتظرها منك وننتظر غيرها وغيرها. صوراً عن مصر بشرها وخيرها وعن الناس خيارهم وشرارها - فالفن الصادق هو ما يلهمه وطنك تلك النبعة الخالدة. مصر.
ثروت أباظه
القَصصُ
المترونوم
للكاتب الأمريكي اوغست درلث
بقلم الأستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
عندما استلقت على الفراش، ولفها الظلام الخفي اللطيف بردائه، نضت شفتاها عن ابتسامة جمعت فيها كل ما تشعر به من الراحة بانتهاء الجنازة أخيراً دون أن يشك أحد في أنها والصبي لم يسقطا عرضاً في النهر، أو يخطر على بال أحد أنها كانت تستطيع أن تنقذ ابن زوجها لو أرادت. وهاهي ذي لا تزال تسمع كلماتهم (أوه، مسكينة السيدة فارل، ما أفظع ما تشعريه) تسمعها ترن خافته وعلى بعد سحيق، في ظلام الليل المدلهم.
إن ما شعرت به من تقريع الضمير عندما غاص الطفل في أليم واختفى تحت سطح الماء للمرة الأخيرة، وعندما رقدت على الشاطئ منهوكة القوى، قد تلاشى منذ زمن طويل. ولم تعد تفكر كيف ارتكبت ما ارتكبته - بل لقد أقنعت نفسها بأن ضفة النهر قد انهارت قضاء وقدراً، وتناست التربة المتداعية، والماء العميق، والتيار الجارف.
وتحرك زوجها في الحجرة المجاورة. أنه لم يشتبه في شيء لقد قال لها وقد لاحت على وجهه سمات الحزن (لم يبق لي الآن سواك) وما أصعب تلك الأيام القلائل الأولى التي مرت عليها. بيد أن اختفاء جيم نهائياً في غياهب القبر قد قلل الشكوك الطفيفة التي انتابتها.
ومع ذلك، كان من الصعب عليها تصور ما اقترفته. لابد أن منشأه نزوة طارئة. بيد أن نفورها من الصبي وحقدها عليه بسبب الشبه الذي بينه وبين والدته هو الذي دفعها إلى ذلك دفعا، وذلك المترونوم! الطفل له من العمر ثماني سنوات أن ينسى مثل هذه الأشياء الصبيانية. لو كان يعزف على البيانو لاختلاف الأمر. ولكنه وهو على هذه الحال، كلا، كلا - كان ذلك كثيراً عليها. أن أعصابها لم تعد تحتمله يوماً آخر. ثم عندما أخفت المترونوم. أثار غضبها بإنشاده تلك الأغنية الصغيرة السخيفة التي سمع والتردامروش يغنيها عند شرحه سيمفونية المترونوم لبتهوفن، في صباح أحد أيام الجمع ببرنامج الأطفال
بالإذاعة. إن كلماتها، تلك الكلمات الصبيانية التي بعث بها بتهوفن إلى مخترع المترونوم، كانت تتردد في خاطرها، وترن في شكل مثير في أركان ذاكرتها
كيف حالك كيف حالك كيف حالك
يا عزيزي يا عزيزي السيد ملزو
أو ما أشبه ذلك، فإنها لم تكن واثقة من الكلمات، تلك التي تثابر على التردد في ذاكرتها منذ بدء عزف الجزء الثاني من السيموفنية، وتقرع كالمترونوم تك، تك، تك، بلا نهاية. ومهما يكن من شيء، فإن المترونوم والأغنية قد ركزا فيها شعور البغضاء نحو ابن زوجة فار الأولى.
وحاولت أن تنبذ الأغنية من ذاكرتها. وفجأة، أخذت تتساءل: ترى أين أخفت المترونوم؟ كان في الواقع لطيف الشكل حديث الطراز، ذا قاعدة فضية ثقيلة، وثقل صغير فوق بندول من الصلب ممتد إلى أعلى أمام اللوحة الفضية المنحنية. إنها لم تستلم لأولى نزواتها فتحطمه، فقد كانت تظن أنها ستصنع منه حلية جميلة بعد ما يرحل جيمي، ولو أنه كان يخص والدته. ثم فكرت في ما رجوت، لابد وأن تكون مسرورة لأنها بعثت بجيمي إليها.
ألا يجوز أنها وضعت المترونوم في أ؛ د أرفف خزانة ملابسها. ربما. . . كان من الغريب عليها ألا تذكر شيئاً. ورقدت تفكر فيه. كم يكون جذاباً عندما تضعه على البيانو الكبير، حلية فريدة قائمة عليه، فضة تضارب سواد البيانو. وعلى حين غرة، اقتحم صوت المترونوم تفكيرها. ما أغرب ذلك! إنها تسمع دقاته الآن في الوقت الذي تتمثله في خاطرها! وبدا الصوت في غاية الوضوح. تك - تك، تك - تك - تك - تك -. وحاولت دون جدوى التأكد من مصدرها. كان يبدو أنه يزداد دويا وضجيجا ثم يتلاشى. وكان ذلك غريباً عليها. وفكرت، أنه لم يسبق لها أن سمعته كما تسمعه الآن، حتى في الوقت الذي كان جيمي يمزح معها فيسمعها دقاته. وجعلت تصغي في انتباه.
وفجأة، خطر لها ما بعث القشعريرة في جسدها، وكنم أنفاسها لحظة، ألم تخبئ المترونوم بعد أن أعطاه لها جيمي لتملأه اجل إنها فعلت ذلك. ما لم تكن قد خانتها ذاكرتها إذاً، أنه لا يستطيع أن يدق الآن، لأنه فارغ، لم يملأ بعد. وسرعان ما تساءلت: ألا يكون أر نولد قد وجده وملأه على سبيل المزاح، ثم جعله يتحرك في هذا الوقت؟ وألقت بنظرة على ساعة
معصمها. كان الوقت قد قارب الوحدة. أنها لا تعتقد أن أر نولد قادر على مثل هذا المزاح، فهو لابد مخبرها عن وجوده فيقول لها (انظري. لقد ظننت أنك أخبرتني بأن جيمي قد فقده. وهاأنذا قد عثرت عليه فوق أحد أرففك. ومن غير المحتمل أن يكون قد وضع هناك من تلقاء نفسه) وعاد إليها تفكيرها في أنها قد خبأته في مكان بعيداً عن متناول يد جيمي. ثم أصغت: تك - تك - تك - تك - تك - تك. وحدثت نفسها قائلة:
أسمعه أر نولد؟ إن ذلك بعيد الاحتمال، فهو دائماً ثقيل النوم
وترددت هنيهة قبل أن تقوم وتبحث عن مصباحها الكهربائي في الظلام. ثم توجهت إلى خزانة ملابسها وفتحت الباب، ومدت يدها الممسكة بالمصباح تحترق الظلام الدامس، ثم أصغت. كلا، لم يكن المترونوم هناك. ومع ذلك، لم تتمالك من جذب صندوق القبعات جانباً حتى تتأكد. فطالما أخفت بعض الأشياء هناك. وأخيراً انسحبت من الخزانة ووقفت مستندة على بابها المغلق، وقطبت بين حاجبيها في غضب: يا الهي! أكتب عليها أن تسمع هذه الدقات الجهنمية حتى بعد موت جيمي؟ وتحركت في عزم صوب باب حجرتها. وفجأة صدم عقلها صوت جديد. هنالك شخص يسير على بعد من الباب في ناحية ما، يمشي في خطى خفيفة خافتة.
بطبيعة الحال، كان تفكيرها منصباً بادئ ذي بدء على أرنولد، وفي الوقت الذي انبعث فيه تفكيرها سمعت صرير فراش زوجها. وودت لو اعتقدت أن الخادم أو الطاهية قد عادت إلى الدار لسبب ما. ولكنها لم تهضم هذه الفكرة السخيفة في عودة أحدهما إلى الدار في ذلك الوقت المتأخر من الليل ولو لأي سبب. وليس من المعقول أن يكون قد اقتحم الدار لصوص.
وترددت في وضع يدها على مقبض الباب. وأخيراً فتحته شبه غاضبة وتطلعت إلى البهو، وقد أمسكت بمصباحها وصوبته. لم يكن هناك أحد. ومع ذلك؛ ودت لو رأت أحداً هناك. ما أسخف تفكيرها! وتملكتها ثورة جامحة. وفي نفس اللحظة سمعت وقع الأقدام مره أخرى، خفيفة بعيدة، تبدو خافته الصوت من أسفل الدرج. وكانت دقات المترونوم قد أصبحت أكثر تردداً ودويا حتى أنها خشيت أن يستيقظ أرنولد بسببها. ثم أقبل صوت غمر كيانها برعب بارد، صوت صبي ينشد من مكان ناء:
كيف حالك كيف حالك كيف حالك
يا عزيزي يا عزيزي السيد ملزو
وتهالكت متكئة على مصارعي الباب ثم تشبثت به بذراعها الخالية، وكاد عقلها أن يعصف بها ولكن سرعان ما خفت الصوت وتلاشى، وظلت دقات المترونوم تتعالى. ومع ذلك شعرت ببعض الراحة عندما استمعت إلى صوته يطغى على أي صوت آخر ووقفت بعض لحظات تشد أزر نفسها. ثم شددت قبضتها على المصباح، وسارت في بطء على طول الرواق. وعندما اقتربت من قمة الدرج أحاطت أنبوبة الضوء الصغيرة للمصباح بيدها الأخرى حتى لا يراها من يكون هناك تحت. ونزلت الدرج في حذر خشية أن يصر فيكشف وجودها.
لم يكن هناك أحد بالبهو، بيد أنها سمعت صوتاً مقبلاً من المكتبة. ودفعت الباب في هدوء فانفتح، إذا بدقات المترونوم تبعث وتكتنفها وتغمرها. ولم تستطيع أن تميز ما في الحجرة إلا بعد أن تقدمت بضع خطوات. وإذا بعينيها تلتقيان بشبح صغير مبهم جاثم بجوار الحائط أمامها. ثم أخذ ذلك الشيء يحوم ويحدق في الرياش ويتطلع إلى أرفف الكتب. واستمعت إلى حركة يدين خفيتين تعبثان في الأركان - أنه جيمي يبحث عن مترونومه.
وظلت دون حراك وقد تهدجت أنفاسها رعباً من رؤية جيمي الميت، جيمي الذي شاهدته يدفن في ذلك الصباح. ولم ينحها عن السقوط في حالة من الإغماء سوى قوة إرادتها.
وأقبل طيف الطفل. أقبل صوبها؛ ثم مر خلالها؛ يبحث، وينقب، في كل ركن يحتمل أن يكون المترونوم مختبئاً فيه وظل يدور حولها. وفي مجهود فائق وجدت صوتها، فهمست في صوت أجش: اذهب، أواه، اذهب بيد أن. الطفل لم يبد أن سمع كلماتها، فقد ظل يوالي بحثه ويطوف في نفس الأنحاء التي كان قد طرقها من قبل عدة مرات. كانت الدقات اللحوحة للمترونوم لا تزال ترتفع وكأنها طرقات المطرقة تتجاوب في أرجاء الحجرة وانزلقت يدها في عصبة مبتعدة عن أنبوبة للضوء عندما مر الطفل بجوارها فشاهدت وجهه، وعينيه تفيضان شرا، وقد فارقتها وداعتهما السابقة، وفمه الغاضب ويديه المنقبضتين.
وفي رعب جارف، استدارت لتفر منه، بيد أن الباب استعصى عليها فتحه، وبعد ثلاث
محاولات فاشلة، جعلت تبحث عن شيء يساعدها على فتحه. كان الطفل بجوارها وقد أرتكن بيده في خفة على الباب. وكانت لمسته كافية لجعله لا ينفتح، ثم حاولت مرة أخرى، وتحرك المقبض في يدها كما تحرك من قبل دون أن ينفتح الباب. وكان الطفل لا يزال واقفاً هناك أمامها، ثم حاولت فتح النافذة، فدفعت قفلها بيدها الخالية فلم يتحرك، وشعرت، حتى قبل أن تنظر، أن يد الطفل مستقرة على النافذة يداً شفافة ذات بياض شاحب وقد انحنت قليلاً على زجاج النافذة.
ووجدت نفس النتيجة في نافذة الحجرة الأخرى. وعندما حاولت أن ترفع يدها لتكسر الزجاج لاحظت أن الطفل قد وقف أمامها، فلم تستطيع يدها اختراق الهواء إلى الزجاج وأخيراً استدارت وانسحبت إلى الركن المظلم الواقع خلف البيانو وهي تعول في رعب وفي لحظة كان الطفل بجوارها. وشعرت به يشيع برداً قارساً مخيفاً اخترق ردائها الليل الرفيع.
وأجهشت بالبكاء وهي تقول اذهب، اذهب، ثم شعرت بوجه الطفل يقترب من وجهها، وبعينيه تبحثان عن عينيها، وتتهمانها وبأصابعه الخفية تمتد
لتلمسها. وفي صرخة متوحشة من الرعب انتقلت منه هاربة، وحاولت مرة أخرى فتح الباب إلا أن الطفل كان هناك قبل أن تضع يدها على المقبض. وعرفت دون أن تحركه أن محاولاتها ذاهبة أدراج الرياح. ثم حاولت أن تشعل النور، بيد أنها شعرت بنفس المؤثر الذي منعها من اغتصاب النافذة. ومرة أخرى أخذت تبحث عن ركن مظلم أمين. ولكن الطفل عثر عليها واقترب منها كحيوان يبحث عن الدفء.
وفجأة، انهارت قواها العقلية وتهاوت؛ وشعرت بخوف جارف يغزو عقلها. وأخذت تضرب على الجدران المحيطة بها بقبضتي يديها. ثم وجدت صوتها؛ فصرخت لتتحرر من الرعب الشرير الذي سيطر عليها.
وكان آخر ما شعرت بن أن الطفل يجذبها من وسطها بيديه الخفيتين، ثم سقطت متهالكة بجوار الحائط. وصدمها شيء صدمة قوية في جبهتها. وفي نفس اللحظة كان جسم الطفل اللين ينضغط على وجهها. ثم شملها الظلام.
وفي صباح اليوم التالي وجد أرنولد فار زوجته راقدة بجوار الحائط على مقربة من البيانو
الكبير. فركع بجوارها. ودلته خبرته الكافية في الطب أن زوجته قد اختنقت من شيء رطب، فقد كانت الرطوبة تشمل ملامحها. ولم يفهم سر لرائحة النهر القوية التي كانت تفوح في الحجرة، ثم تطلع إلى فوق فشاهد صورة زيتية كبيرة معلقة فوق الجثة، ولم تكن بالطبع هي التي أحدثت ذلك الجرح في جبهتها.
وعلى حين غرة، شاهد ما جرح زوجه عند سقوطه من خلف الصورة حيث كان مختبئاً، كان المترونوم.
محمد فتحي عبد الوهاب
(من كتاب (الهورلا وقصص من وراء الطبيعة) للمترجم تحت
الطبع).