المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 865 - بتاريخ: 30 - 01 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٦٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 865

- بتاريخ: 30 - 01 - 1950

ص: -1

‌علي محمود طه

شاعر الأداء النفسي

للأستاذ أنور المعداوي

- 7 -

وذات مساء آخر، وكان معنا صديق ثالث هو الأستاذ الجليل (صاحب الرسالة)، دار الحديث حول فنون شتى كان أولها فن الشعر. وابتدأ الحديث تعقيباً من الزيات ومنى على اسطوانات ثلاث نقلت إلى أسماعنا ثلاث قصائد سجلها عليها الشاعر بمصاحبة الموسيقى، سجلها بصوته بعد أن قامت بهذا التسجيل محطة لندن للإذاعة العربية وقلت له فيما قلت: إن تسجيل الشعر على اسطوانات شيء جميل، وأجمل منه توفيقك في اختيار هذه القصائد الثلاث، ولعلك قد سجلت أحب شعرك إليك ونسيت أن تسجل أحب شعرك إلى النقاد. . . إن ميزان الشاعر غير ميزان الناقد، ولهذا فكم أود أن استمع إلى اسطوانة جديدة تسجل عليها قصيدة هزتني وما زالت تهزني في ديوانك (زهر وخمر)، أتدري ما هي؟ وأجاب في إطرافه حالمة حاول فيها أن يتذكر: أتقصد (سارية الفجر)؟ فقلت في لهجة العاتب على غواص نسى درته اليتيمة: كلا، بل أقصد (راقصة الحانة)! ومرت بعد ذلك أيام. . . وجاء يوم جمعتنا فيه عربة الأستاذ صاحب (الرسالة) وكنا في طريقنا إلى أحد الأماكن في شارع الهرم وحين اقتربت السيارة من ملهى (الأيرزونا) أحسست يداً تقبض على ذراعي ورأيت إصبعاً يشير إلى هناك، وأعقب ذلك صوت الشاعر موجهاً إلى الحديث: هنا يا صديقي شهدت مولد الرقصة التي فتنتني، وهنا سجلت مولد القصيدة التي فتنتك:(راقصة الحانة)!. ونبدأ اليوم بتقديم سلسلة الصور الحسية، وإليك هذه الصورة الأولى من الصفحة الخامسة والأربعين من (زهر وخمر).

سرت بين أعينهم كالخيال

تعانق آلهة في الخيال

مجردة حسبت أنها

من الفن في حرم لا ينال

فليست تحس اشتهاء النفوس

وليست تحس عيون الرجال

وليست ترى غير معبودها

على عرشه العبقري الجلال

ص: 1

دعاها الهوى عنده للمثول

وما الفن إلا هوى وامتثال

فخفت له شبه مسحورة

علت وجهها مسحة من خبال

وفي روحها نشوة حلوة

كمهجورة منيت بالوصال

تراها وقد طوفت حوله

جلاها الصبا وزهاها الدلال

تضم الوشاح وتلقي به

وفي خطوها عزة واختيال

كفارسة حضنت سيفها

وألقت به بعد طول النضال

تمد يديها وتثنيهما

وترتد في عوج واعتدال

كحورية النبع تطوي الرشاء

وتجذب ممتلئات السجال

محيرة الطيف في ماثج

من النور يغمرها حيث جال

تخيل للعين فيما ترى

فراشه روض جفتها الظلال

وزنبقة وسط بلورة

على رفرف الشمس عند الزوال

تنقل كالحلم بين الجفون

وكالبرق بين رءوس الجبال

على أصبعي قدم ألهمت

هبوب الصبا ووثوب الغزال

وتجري ذراعين منسابتين

كفرعين من جدول في انثيال

كأنهما حولها ترسمان

تقاطيع جسم فريد المثال

أبت أن تمساه بالراحتين

ويرضى الهوى ويريد الجمال!

ومن عجب وهي مفتونة

تريك الهدى وتريك الظلام

تلوي وتسهو كلهابة

تراقص قبل فناء الذبال

وتعلو وتهبط مثل الشراع

ترامى الجنوب به والشمال

وتعدو كأن يدا خلفها

تعذبها بسياط طوال

وتزحف رافعة وجهها

ضراعة مستغفر في ابتهال

وتسقط عانية للجبين

كقمرية وقعت في الحبال

تبض ترائبها لوعة

وتخفق لاعن ضنى أو كلال

ولكنه بعض أشواقها

وبعض الذي استودعها الليل

هذه الصورة الحسية وما يتلوها من صور في الفصول المقبلة، تنتسب في جوهر التسمية

ص: 2

إلى الإطار الخارجي أكثر مما تنتسب إلى الاصطلاح الفني المتعارف عليه عند أكثر النقاد، فنحن نرد كلمة (الحسية) المقترنة بكلمة (الصورة) إلى كل مشهد في الخارج يقع عليه الحس ثم تخزنه بعد ذلك النفس، أي أننا نردها إلى كل ميدان تعمل فيه المدركات الحسية سواء أكانت هذه المدركات محصورة في مجالي الطبيعة في الكون، أم مقصورة على مفاتن الجسد عند المرأة، أم منسوبة إلى العوالم المرئية التي تحيط بها وتسيطر عليها قدرة الحواس. . . وإذن فليس من الحتم أن نشير بهذه الكلمة إلى تلك الخانة المعهودة في عرف النقاد، حين يرمزون بها إلى الألوان الجسدية في فن الشعرِ غافلين عما تحمله الكلمة بين طياتها من دلالة لفظية ومعنوية!

والتزاماً لهذه الدقة في التعبير فقد نعتنا النماذج الشعرية السابقة بالصور الوصفية في إطارها النفسي، والتزاماً للدقة نفسها ننعت هذه النماذج الجديدة بالصور الوصفية في إطارها الحسي، ذلك لأن الشعر في حقيقته ما هو إلا مظهر من مظاهر الوصف. مهما تعددت فنونه واختلفت مراميه، فالشاعر حين يتحدث عن نفسه منزوياً في حدود عالمه الخاص فهو يصف لنا مجاهل الذات الداخلية فيما تشغله من مجالات نفسية، وحين يتحدث عن مشاهداته منعكسة في أصداء عالمه العام فهو يصف لنا معالم الحركة الخارجية فيما تشغله من مجالات حسية. . . هو فنان واصف هنا وفنان واصف هناك، أما الاختلاف بين الصور الوصفية فمرده إلى الاختلاف بين الأثواب التعبيرية بالنسبة إلى الخيوط الناسجة أو بالنسبة إلى الخامة الصانعة، أو مرجعه كما قلت لك إلى تلك الأطر المصبوغة بألوان النفس حيناً وبألوان الحس حيناً آخر!

بعد هذا نتحدث عن عنصرين جديدين من عناصر الأداء النفسي في الشعر، على ضوء هذه الصورة الوصفية الأولى في إطارها الحسي الأول، ونعني بها (راقصة الحانة). . . هذان العنصران هما عنصر (المراقبة الحسية) أولا يعقبه عنصر (المراقبة النفسية) ولابد من توفر هذين العنصرين على مدار التتابع الزمني عند رصد الحركة الدائرة في منطقة اللقطة البصرية، ثم على مدار التتابع الفني عند تسجيل هذه الحركة الغارقة في ضوء الومضة الشعورية: وهي لقطة نرجعها إلى البصر تصحبها ومضه نردها إلى الشعور، أشبه بلقطة (الكاميرا) المصورة حين تتهيأ لنقل مشهد كامل من مشاهد الحياة، تصحبها

ص: 3

ومضه (المغنسيوم) التي تهتك حجب الظلام في كل زاوية من زواياه. . . وهما عنصران أو قل إنهما ملكتان من ألزم الملكات في مثل هذا اللون من الشعر، تقوم إحداهما مقام آلة التصوير وهي ملكة المراقبة الحسية، وتقوم الأخرى مقام آلة الإضاءة وهي ملكة المراقبة النفسية، إذ لا بد في هذا اللون من الشعر من تلك المرحلة التي تمثل عملية (الرتوش النفسية) الخاصة، وكلتا المرحلتين تهيئ للمشهد المنقول تلك القوة الآلية المستمدة من سطوح الحياة الجامدة، وتلك القوة الإشعاعية المستوحاة من أعماق الذات الشاعرة!

وكما تشرف الملكة الأولى على المجالات الحسية المنبثة في زوايا الطاقة البصرية، تشرف الملكة الثانية على المجالات النفسية الكامنة في ثنايا الطاقة الشعورية، وهاتان هما دائرتا الاختصاص الفني لكلتا الملكتين. . . ولكن لابد من التداخل والتشابك في مرحلة التعاون المشترك الذي ينتج عنه التقاء الحركات الخارجية بالحركات الداخلية، أعني لابد من أن تقترب الدائرتان حتى تندمج إحداهما في الأخرى ذلك الاندماج الذي تستحيل معه المعالم الجزئية في الصورة إلى معالم كلية، أي أننا يجب أن نحس وحدة المشهد الحسية والنفسية كلا لا يتجزأ في مقياس الفن ومقياس الشعور!

وإذا كانت ملكة (الوعي الشعري) هي العنصر المسئول عن تنظيم كل حقيقة كونية يعرضها الفكر في ساحة الوجود الداخلي، وكان ضعفها يعرض القضية الفكرية لنوع من الاضطراب تنتج عنه المغالطة المقصودة أو غير المقصودة في مجال المواءمة بين الحقائق في دائرة الواقع النفسي أو دائرة الواقع الوجودي، وإذا كانت ملكة (الرؤية الشعرية) هي العنصر المسئول عن استشفاف كل حقيقة عامة في حدود المنظور أو خلف حدود المنظور، في محيط الوعي أو فيما وراء الوعي، في ضعفها يعرض الصورة للاهتزاز الذي ينتج عنه تعذر بالمطابقة بين حقيقتها في إطار الفن وحقيقتها في إطار الحياة، فإن ملكة (المراقبة الحسية) مندمجة في ملكة (المراقبة النفسية) هي العنصر المسئول عن تنظيم الحركة المادية حين تتلوها الحركة الوجدانية في سبيل خلق تلك الوحدة التي لا تتجزأ من كلتا الحركتين. . . أما ضعفها فلا تنتج عنه الصورة الوصفية (المهزوزة) كما هو الحال في ضعف الرؤية الشعرية، وإنما تنتج عنه الصورة الوصفية (الباهتة)، وفرق بين ضعف ملكة لا يشمل الخطوط هنا وإنما يشمل (الرتوش الخارجية) فتبدو وهي باهتة الظلال حائلة

ص: 4

الألوان!

وإذا أنت عدت إلى هذه القصيدة راعتك هاتان الملكتان تلك الروعة التي ترتفع بالتصوير الحسي إلى أفق باهر السناء، وهو أفق من الآفاق القليلة النادرة في الشعر العربي الحديث. وقيمة مثل هذا اللون من التصوير تتركز في أنه ينقل إليك المشهد المصور نقلاً أميناً ينفذ إلى حسك ونفسك، حتى ليخيل إليك أنك قد تخطيت مرحلة القراءة الذهنية الصامتة إلى مرحلة الرؤية البصرية الماثلة. . . بل إنك أو أنشدت هذه القصيدة أمام أحد مكفوفي البصر من متذوقي الشعر لتمثل (بعين الخيال) كل خطوة من قدم، وكل حركة من ذراع، وكل إيماءة من رأس، وكل هزة من خصر، وكل سمة من سمات هذه الرقصة الفاتنة في هذا الشعر الفاتن! ذلك لأن الشاعر كان في حالة فناء شعوري كامل مع الوجود المتحرك أمام ناظريه، وهو وجود يشمل الرقصة والراقصة في وقت معاً، وهو فناء غمر منطقة الحواس والعواطف فهيأ لها الوقود الفني الذي يغذي العين والفكر والخيال!

وهو تصوير يخلو من شطحات التخيل الشعري الجامح الذي ينقلب آخر الأمر إلى سلسلة من التهاويل التي إن استسغتها الصور النفسية حيناً فلن تستسبغها الصور الحسية في كل الأحيان. . وليس من التهويل في شيء أن يصف الشاعر تلك الرقصة الفنية هذا الوصف، وهو أن الراقصة كانت تسرى بين أعين الحاضرين وكأنها الطيف، أو كأنها في لحظة عناق مع الآلهة في سماء الخيال. إن التخيل النفسي هنا يستعير ألوانه من ملكة المراقبة الحسية التي شهدت عن كثب حركة الذراعين الممدودتين في الهواء، وحركة العنق المشرئب نحو أفق مجهول، وحركة الجسم المندفع إلى الأمام؛ وكل هذه الحركات قد استحالت في بوتقة اللقطة البصرية إلى حركة واحدة: هي العناق. . . وما دامت هذه الحركة الجامعة لم تلتق على مسرح الحياة بما يماثلها من واقع مادي، فلا مناص من أن تتدخل ملكة المراقبة النفسية لتصور لك حركة العناق بأنها كانت مع آلهة في الخيال! وتمضي كل ملكة بعد ذلك ترقب وتسجل، وكأننا بملكة المراقبة الحسية تنظر ثم تهتف:

فليست تحس اشتهاء النفوس

وليست تحس عيون الرجال

فتجيبها ملكة المراقبة النفسية معقبة:

وليست ترى غير معبودها

على عرشه العبقري الجلال

ص: 5

ولعل هذا التعقيب منها أشبه بتوكيد الصورة الأولى التي رسمتها في البيت الأول، حين شبهت الحركات الراقصة بعناق الآلهة! وإذا رحت تحصي النقلات الحسية والنفسية موزعة على عمل الملكتين - على هذا النحو الذي قدمناه إليك - فستجد عنصري التتابع الزمني والفني - كما سبق أن قلنا - هما العاملان الرئيسيان في توجيه الحركات المادية والوجدانية، وفي مزجها ذلك المزج الذي تحس معه وحدة المشهد الحسية والنفسية، كلا لا يتجزأ في مقياس الفن ومقياس الشعور. . . ومن مظاهر هذا المزج أن تدور الصور مسرعة متلاحقة حول تلك الحركات، وإذا أنت أمام هذه الوحدة متجمعة في هذه الأبيات:

دعاها الهوى عنده للمثول

وما الفن إلا هوى وامتثال!

فخفت له شبه مسحورة

علت وجهها مسحة من خيال

وفي روحها نشوة حلوة

كمهجورة منيت بالوصال

أرأيت إلى هذه القوة الإشعاعية المستوحاة من أعماق الذات الشاعرة في البيت الأول، عندما يبلغ العناق حد الهوى الداعي إلى المثول؟. . . وما أروعها من طرقة نفسية تلك التي تجمع الخطوط المتناثرة في لوحة واحدة تمحل هذا المعنى الكبير:(وما الفن إلا هوى وامتثال)!! ومرة أخرى تمضي الملكتان في المراقبة والتسجيل، وكأنهما في حوار تتبادلان فيه الصور والكلمات.!

تقول الأولى:

تضم الوشاح وتقلي

به وفي خطوها عزة واختيال

وتقول الثانية في معرض المقابلة النفسية والتمثيلية:

كفارسة حضنت سيفها

وألقت به بعد طوب النضال

وتجيبها الأولى من جديد مشيرة إلى حركة اليدين:

تمد يديها وتثنيهما

وترتد في عوج واعتدال

وتعقب الثانية مرة أخرى على طريقتها التشبيهية:

كحورية النبع تطوي الرشاء

وتجذب ممتلئات السجال

وهكذا تحملك لغة الحوار بين ملكتي المراقبة الحسية والنفسية من جو إلى جو، ومن أفق إلى أفق، ومن ميدان إلى ميدان. . .

ص: 6

ولكنك على اختلاف هذه الميادين والأفاق والأجواء، لن تصادف صورة واحدة تنقصها دقة المطابقة بين ما هو ماثل أمام العين وما هو كامن داخل النفس، أو بين ما هو معروض على الحواس وما هو مختزن في الشعور. فالراقصة التي تضم الوشاح، ثم تلقي به، ثم تخطو تلك الخطوات المعتزلة المختالة، تقابلها نسخة أخرى مستخرجة من أعماق الذاكرة المختزنة لكثير من صور الحياة، وهي تلك الفارسة التي تحتضن السيف، ثم تلقي به بعد الإياب من جولة المجد في حومة النضال. وهذه الراقصة نفسها حين تمد يديها إلى الأمام، ثم تثنيهما إلى الخلف، ثم ترتد بجسمها في عوج واعتدال؛ تبدو في مرآة الشعر التي تنعكس على صفحتها الرؤى المماثلة والأطياف المشابهة، كما تبدو تلك الحورية الواقفة أمام نبع تلقي فيه بالدلاء - وهذه هي حركة اليدين الممدوتين - حتى إذا امتلأت تلك الدلاء راحت تجذب الحبل المدلى لترفعها إلى الخارج - وهذه هي حركة الدين الجاذبتين - ينثني جسمها ويعتدل تبعاً لحركة الانحناء وحركة الاستواء!. . . وطبق أنت بقية الصور المرئية على بقية الصور المتخيلة في الأبيات التالية؛ هناك حيث (تلقاها محيرة الطيف في مائج من النور أشبه بفراشة روض جفتها الظلال) أو أشبه بتلك (الزنبقة التي تتوسط قطعة من البلور تعكس أضواء الشفق الأرجواني عند مغيب الشمس) ولا تنس تلك (المتنقلة كالحلم بين الجفون أو كالبرق بين رؤوس الجبال)، ولا تسرع عند طوافك بمعرض هذه الصور الأربع، لأنه معرض منقطع النظر:

على إصبعي قدم ألهمت

هبوب الصبا وثوب الغزال

وتجري ذراعين منسابين

كفرعين من جدول في انثيال

كأنهما حولها ترسمان

تقاطيع جسم فريد المثال

أبت أن تمساه بالراحتين

وبرضى الهوى وبريد الجمال!

أرأيت إلى هذه القدم التي (ألهمت) هبوب الصبا في الحركة البطيئة الناعمة، ووثوب الغزال في الحركة السريعة النافرة؟! وتتلوى الراقصة وتسهو، وتعلو وتهبط، وتعدو وتزحف، وتسقط وتنهض، ومن وراء هذا كله تقف العدسة النادرة لتلتقط، وتقف الذات الشاعرة لتمثل: وإذا الصورة الأولى تقابلها (اللهابة المتراقصة قبل فناء الذبال)، وإذا الصورة الثانية يقابلها (الشراع المتأرجح بين الجنوب والشمال)، وإذا الصورة الثالثة تقابلها

ص: 7

(اليد الملهبة بالسياط والضراعة المستغفرة في ابتهال)، وإذا الصورة الرابعة تقابلها (القمرية المتخبطة بين الحبال). . . وإذا أنت تخرج من هذا المعرض الحافل ترن في مسمعيك هذه الأصداء:

تبض ترائبها لوعة

وتخفق لا عن ضنى أو كلال

ولكنه بعض أشواقها

وبعض الذي استودعتها الليال

(يتبع)

أنور المعداوي

ص: 8

‌صور من الحياة:

خيانة امرأة

- 1 -

للأستاذ كامل محمود حبيب

يا قارئي:

هذا صاحبي انضم على أشجانه حيناً من الزمان، يكتم الأسى بين جوانحه ويدفن الضني بين ضلوعه حتى أثقله الهم وأرهقه الوجد، فجاء ينثر عبرات قلبه بين يديك علك تسمع فيها أنات روحه الحزينة أو تحس وجيب فؤاده الكسير، فتلفحك حرقة اللوعة أو تهزك سفعات الضيق، فتهديه إلى الرأي الذي عذب عن فكره وتبصره بالصواب الذي ند عن عقله. فهل تعينه برأي منك فيه العقل والصواب؟

كامل

يا عجباً! ما للطبيعة الوادعة تثور على حين فجأة فيضطرم لظى الغيظ في جوانبها ويحتدم أوار الغضب في نواحيها، فلا تسكن غائلتها إلا أن تنثر معاني الموت والدماء في ثنايا الحياة الوثابة، وإلا أن تنفث آثار الخيبة والضياع في زوايا الأمل الباسم، وإلا أن تبذر غراس الأسى والكمد في أضعاف القلوب الهادئة المطمئنة؟

يا لقلب الإنسان حين تتناوحه ثورات الطبيعة الجارفة فلا يجد مفزعاً من الرياح الهوج وهي تعصف حواليه زقرافة تريد أن تلفه في إعصار من الهم، ولا من الموج العاتي وهو يهدر مهتاجاً يحاول أن يبتلعه في يم من الوجد، ولا من الصواعق القاسية وهي تنحط عليه لتنفضه بين شحنتين من الضيق والملل، ولا من البركان وهو يقذفه بالحمم لظى يتوقد وهيجه يبتغي أن يحرقه بنار الشجن!

يا لقلب الإنسان حين تتعاوره ثورات الطبيعة الجارفة فلا يجد مفزعاً إلا أن يسمو عن النزعات الترابية، وإلا أن تعلو روحه عن المعاني الأرضية، فيقبس من نور السماء الهدي والراحة والسكينة حين يطمئن قلبه بالايمان وتهدأ خواطره بالعقيدة

جلس إلي صاحبي بعد أن حجبته نوازع العيش عني سنوات، فعز عليّ أن أراه خاشع

ص: 9

الطرف كاسف البال مطأطئ الرأس مضطرب الخاطرة، وهو كان فتى طروباً يتنزى مرحاً وبهجة، ويتوثب سروراً وفرحاً. وعز عليّ أن ألمس سمات الأسى تضطرم في أغوار قلبه بشبابه وتغض من نضارته؛ وأن أحس لفحات الحزن تتأجج بين طيات ضلوعه فتذره ضعيفاً واهياً يتعبد

للجزع فتنحط قوته ويستذل للهم فيضوى عوده، وهو رجل فيه القوة والفتوة لا يعجزه أن يجد أسباب المتعة، وفيه العقل والثراء لا يؤوده أن يسري عن نفسه بعض أشجانها، وفيه الرأي والنشاط لا يهن عن أن يتلمس مسالك المرح

وجلست أنا إليه أنفضه بنظراتي وقد انعقد لساني عن الكلام لأنني شعرت بأن روحه غريبة عن روحي، وأن نوازعه لا توائم طبعي، وانطوت ساعة من زمان

وتكلم صاحبي بعد صمت فبدا لي كأن كلماته تصاعد من أعماق نفسه، أنات ينتفض بها قلبه الواهي، وهو يئن تحت وقر من الأسى يطحنه في غير شفقة ولا ورحمة، فقال: أما قصتي فهي:

لقد كانت هي فتاة قاهرية تتألق في ريق الشباب وتتألق في بهجة العمر، لم تسم إلى أوج الجمال ولا انحطت إلى قرار الدمامة شذبتها المدينة فنزعت عنها حماقات الجهل والغلظة، وصاغتها الحضارة على نسق من الرقة واللين؛ ووسمتها المدرسة بطابع من الدهاء والمكر، وصبغتها السبما بفنون من الأنوثة والدلال، فبدت كالزهرة الفواحة لا يحجبها الورق ولا يمنعها الشوك. أما أنا فكنت فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل مدني العقل، أترفع عن خداع المدينة وأتنزه عن لؤم الحضارة وأسّمو على دنس الحيوانية

وتلاقينا على ميعاد، فراقني منها. . . أول ما راقني. . . أن أراها تشاركني الرأي في غير خضوع وتجاذبني الحديث في غير جهل. وعهدي بالمرأة في الريف تمعن في الحجاب فلا تجلس إلا إلى محرم ولا تتزين إلا لزوج، تعيش في زاوية من الدار هملا كأنها بعض المتاع، لا رأى لها ولا عقل. وأعجبني أن أحس في فتات الأنس والسكينة فعقدت العزم على أمر

وانطلقت إلىأبيفي القرية أنشر أمامه طوايا نفسي المشرقة وأحدثه بأمل قلبي الغض، فرمقني بنظرات فيها الشفقة والحنان غير أنها كانت تنطوي على معاني جياشة من

ص: 10

الازدراء والمقت، ثم قال في استسلام (أنت وما تريد، يا بني!) فأحسست في صوته نبرات الكراهية والبغض واستشعرت في كلمات رنات الرفض والآباء. وحز في نفسي أن أرى أبي يكتم عني الرأي ويضن بالنضيحة؛ فقلت له. يا أبي، إنني ألمس من وراء كلامك دوافع نفسك وخلجات فؤادك، فلماذا تمسك عني الرأي وتبخل بالمشورة؟) قال (يا بني؛ إن في الشباب جماحاً يدفعه عن أن يستسيغ الرأي، وإن به شماساً ينزعه عن أن يسمع حديث العقل. فهو عبد الرأي الفطير والفكرة الفجة) قلت (ولكنني أوقن بأن في الشباب زلات لا تقيمها إلا تجارب الشيوخ، وأن فيه عجزاً لا يكمله إلا عقل الشيوخ، وأن فيه نزوات لا يقيدها إلا رأي الشيوخ) قال (وفي الشباب بريق يخطف البصر، بريق يتألق في حديثهم وهو يتسم - دائماً - بسمات المنطق المصنوع والفلسفة الخاوية، بريق يتألق في الحديث ويخبو في العمل) قلت (وماذا يصيرك إن أنت أسديت النصح لأبنك؟ لعلك تخشى أن لا تجد أذناً تسمع ولا قلباً يعي؛ أو لعلك تضن بتجاربك على بعد أن يلفت مبلغ الرجال وأصبحت موظفاً في الحكومة، خيفة أن أسخر من رأي أو أن أهزأ بفكرة) قال (يا بني، لست أخشى رأي الشباب في عقل الشيوخ) ثم أخذأبييناقشني في عنف ويجادلني في شدة لا بني عن أن يصرفني عن نوازع نفسي ويدفعني عن رغبات قلبي فقال (إن القروي، يا بني؛ لا يحس في الزوجة إلا المتعة والمتاع ولا يطلب إليها إلا الطاعة والاستسلام، أما أنتم فتلمسون فيها الرفيقة والصاحبة. والرفيق. . . في رأيي - هو عون رفيقه وساعده، وهو هدي صاحبه إن ضل ونبراسه إن تاه وموثله إن سدت في وجهه السبل، فهل تستشعر في فتاتك معاني الرفيقة؟) قلت (نعم، فأنا أرى فيها العقل والرأي معاً) قال وهو يبسم في سخرية (إن المرأة لا تجد العقل إلا في الشارع) قلت (وهي تجده في العلم وفي المدرسة وفي الجامعة) قال في جد (وبين البيت والمدرسة أفانين من الحياة وصنوفاً من العقل تتنقفها الفتاة في غدوها ورواحها فتتقنها قبل أن تتقن الدرس، وتجيدها قبل أن تجيد العلم، وتعيها قبل أن تعي المطالعة) قلت (ولكن الفتاة العاقلة المهذبة تثور معاني الشرف والكرامة في دمها فتسمو بها عن الزلل وترفعها عن السقوط) قال (وهل تستطيع المرأة البرزة أن تحبس دم الشباب الفوار عن أن يصرخ في عروقها صرخات شيطانية وضيعة حين تجلس إلى الرجل في غير رقبة ولا حذر؟) قلت (يا أبي! إنك تتجنى على المرأة المتعلمة) قال (وفي

ص: 11

رأيي، إن المرأة المتعلمة لا تتورع عن أن تسلك إلى قلب، زوجها مسالك فيها الخديعة والمكر، ولا تترفع عن أن تنفذ إلى مال زوجها في مسارب فيها الإغراق في التبديد والإفراط في البذل؛ فلا تبقى على عهد ولا تبقى على مال) قلت (هذا غلو، يا أبي) قال (وإذا تفلسفت الفتاة في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانتها فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. أن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .) قل (يا أبي. . .) فقال هو مقاطعاً (فإذا لم تصلك بزوجك صلات من القربى ووشائج من الدم عبثت بشرفك وفرطت في كرامتك وبددت ثمار كدك) قلت في لهفة (ولكني. . .) قال (ولكنك تحب فتاتك. لا عجب، فهي قد اغترتك عن نفسك وخدعتك عن عقلك وسحرتك عن صوابك، لأنالمرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه) قلت (يا أبي، لا ريب فنزوات الشباب تطم - دائماً - على العقل وتعصف بالرأي، وسأفكر فيما قلت)

وخرجت من لدن أبيبعد أن عزني في الخطاب، وإن كلماته ترن في أذني وأن حديثه يدوي في عقلي فعزمت على أن أنبذ فتاتي إلى فتاة من ذوي قرابتي

وانطوت الأيام فإذا أنا إلى جانب فتاتي القاهرية أبثها لواعج الهوى وأشكو إليها حرقة الغرام، ثم لبثت أن سميت على خطبتها فتزوجها. ووقف أبي إلى جواري ليلة الزفاف وقف كارهاً وهو ينفضي بنظرات فيها الألم والحسرة، فاضطرب قلبي وتزعزعت سكينتي

وتزوجتها فإذا كان منها وماذا كان. . . يا قلبي؟

(يتبع)

كامل محمود حبيب

ص: 12

‌الفونس دوديه

الأديب الضاحك

للأستاذ أنور لوقا

منذ قرون ثلاثة، تساءل (لابروبير) وساءل قراءه لماذا تخجل من البكاء في المسرح إذا شهدنا قصة محزنة، على حين أننا ننفجر بالضحك إذا شهدنا قصة هازلة؟ لماذا لا نرسل الدمع كما نطلق الضحك؟ أو لماذا لا نكتم الضحك كما نحبس الدمع؟ أهي طبيعتنا أميل بنا إلى الضجيج بالفكاهة منها إلى التفجع للحزن؟ أم أننا نخشى أن تختلط قسمات وجوهنا ونشوه صورتنا أمام الناس إذا بكينا؟ فإن منظر الواجم المنتحب أروع وأجلّ من منظر الماجن المقهقه! لعله تحرج إذن من الظهور بمظهر التأثر والحنان والضعف، لا سيما إزاء موضوع خيالي غير واقعي يسوؤنا أن نعترف لسوانا بأنه يخلبنا ويخدعنا. ولكن المرء لا يتأثر على أي حال إلا لأن الحقيقة قد مست قلبه، أو تمثيل الحقيقة، وما يقاوم البكاء والضحك جميعاً، ولا يسفه (المخدوعين) بالقصة إلا شرذمة من المتحذلقين. لقد كان علنيا إذن أن نذرف الدمع في الملعب على مرأى من الناس، وأن نسمع جمهور المسارح يموج أحياناً بالنواح كما يجلجل أحيانا بالضحك!. . .

وأكبر الظن في تعليل هذه الملاحظة الطريفة أن الضحك - كما يقول برجسون - ظاهرة اجتماعية، تنشأ بين عدد من الناس، أما البكاء - ولا ندري ما رأي برجسون في البكاء - فظاهرة فردية تنبع من صميم قلب المرء، أي أن الفكاهة (اتجاه إلى الخارج) والحزن (اتجاه إلى الداخل) إذا صح فهم هذا التعبير:

من أين يأتيك الضحك ومن أين يأتيك البكاء؟. . . أنت لا تضحك من تلقاء نفسك، هيهات، ولكنك قد تحزن وقد تبكي إذا خلوت إلى نفسك. وأنت لا تكاد تمسك عن الضحك والتندر والمزاح كلما ضمك مجلس أو لقبك صديق، ولكنك لا تجرؤ على أن تبسط أشجانك أمام جماعة من الناس، لا سيما إذا ضحكت الألفة بينك وبينهم. فأنت تريد بالتضاحك أن تشرك الآخرين في ملاحظة ساخرة لاحظتها، ولاستهزائك برذيلة أو عيب وظيفة اجتماعية هي عقاب تلك الرذيلة أو تقويم هذا العيب. أما الحزن الذي يستولي عليك حين ترى مشهداً فاجعاً، فما هو إلا تأثرك بالمأساة، واستقبالك لها، واستئثارك بشطر منها لنفسك. الحزن إذن

ص: 13

شيء تأخذه لنفسك لا لغيرك، وتحتفظ به لك وحدك ولا تعرضه على سواك. وكثيراً ما يبيت سراً من أسرارك تجتره في ضميرك وتدفعه في وجدانك ويمنعك الحياء من أن تبوح به للآخرين، فإذا ناجيت به خلاً حميماً فلأنك تجد في هذا الخل مرآتك أو بقيتك، أي أن حزنك لا يخرج عن نطاقك الخاص على كل حال. ومن هنا قلنا إن الحزن اتجاه إلى الداخل بمعنى أنه شعور داخلي، باطني، خاص لا تكلف فيه ولا عناية، ويكون في أنقى حالاته عند المنطوي على نفسه، والضحك واتجاه إلى الخارج بمعنى أنه تهريج مع الناس، وانبساط هو ضد الانطواء لفظاً ومعنى، وسخرية ترمي أهدافاً قريبة أو بعيدة، وتكلف اجتماعي ميدانه العالم الخارجي قبل كل شيء.

وقد كان ألفونس دوديه رجلاً رقيق الشعور عميق التأثر، لا يفصل الأدب لحظوة عن الحياة (راجع العدد 846 من الرسالة: الشاعر في الشارع).

كان في أدبه كما كان في حياته، قيثارة مرهفة الأوتار. ها هو ذا، تهز نفسه مأساة صغيرة أو كبيرة، فيأتي إلينا والدمع يجول في أجفانه، ويفتح لنا قلبه يناجينا بها مناجاة إلف صادق، ثم يحس عبراته تنسجم كلما أفاض في قصته، فينظر حوله بمقلتيه البليلتين، ويرنا متأثرين، فيفيق، ويغمره لون من الحياء، ويكاد يخجل ويندم، ولكي يستر ضعفه يبادر إلى إلقاء نكتة سريعة والابتسام لها. . . على أن هذا كله يتم في لحظة قصيرة، فيلتقي الحزن والمرح في عبارة واحدة، وتمتزج الدمعة والابتسامة في حديثه دائماً.

هذه الفكاهة الخفيفة اللاذعة في أدب دوديه هي قناع الحنان وستار الإحسان، لأن كاتبنا الساحر حبي، يتجنب أن يستمطر مآقي جلسائه أنهار الدمع إعلاناً عن رحمته بالأشقياء وبره بالبائسين. أنه يكره التكلف والإسراف. وقد أغرق أتباع روسو فجر القرن التاسع عشر في سيل من الدموع، وأصبح الكاتب لا يبكي إلا ضماناً لرواج كتابه، والممثل لا ينتحب إلا استغلالاً لمشاعر النظارة، حتى لقد نفر الفرنسيون منذ ضحى القرن التاسع عشر من إظهار العاطفة وأمسوا يعتبرون البكاء نفاقاً والعويل أضحوكة واستدرار الدمع فناً بالياً مبتذلاً. لهذا كانت لابتسامة دودية قيمة الوقاية من وباء. وهي وقاية طبيعية تشهرها السجية الخالصة ويشهرها الحياء الجم في وجه التكلف البغيض. بل إن شعشعة الحزن بشيء من المرح فن عميق، بعيد المرمى، خليق بأن يمد من تردد الحزن في نفس القارئ،

ص: 14

إذ يتركه مختلجاً بالتأثر بدلاً من أن يذيبه حسرات ويسحقه بالكمد.

وهذا هو الفرق بين حزن دوديه وحزن معاصريه من أدباء المدرسة الطبيعية المادية - أمثال إميل زولا. فهؤلاء يستنبطون مشاهد عنيفة، ويصفون آلاما قاسية، ويفعموننا ما استطاعوا بشعور بارد كثيف من التشاؤم الأسود الحالك. نقرأ قصصهم فتؤزنا وتثيرنا، وتظل تقيمنا وتقعدنا، حتى ترهقنا بالألم والثورة، وتكتم أنفاسنا في آخر الأمر تحت كلكل القدر الغشوم الذي يذهب البطل ضحيته. على أننا لا نكاد نرثى للبطل ولا نكاد نشفق على أصحابه، فهم قوم جبابرة ملاعين، كأنهم قُدوا من صخر، وكأنهم خلقوا للعذاب، وإنما تروعنا بشاعة البؤس، وتفزعنا رهبة المصير، فننسى الأشخاص جميعاً، ونفكر فيما ورائهم، وتنتهي أفكارنا إلى سخط على الحياة وحقد على القدر ويأس وقنوط. ولا كذلك عاطفة دوديه؛ فإنها نقيض هذا الشعور الجائع الناقم الممض. إنها نزعة مستبشرة إلى الخير، إنها نظرة عين وامقة تفتقد الصغار وترفق بهم، إنها إخاء وحنان، إنها أحضان رحيبة مفتوحة، عزاء للبائسين والمساكين، بكاء معهم وابتسام لهم. فليس يحرك عطفنا إلا شقاء يحيق برجل شبيه بنا، نستطيع أن نتعرف فيه أنفسنا دون أن ننفر من موقفنا وسلوكنا إذا قمنا مقامه، ويشتد عطفنا وتزداد شفقتنا حين يعبر عن هذا الشقاء رجل شبيه بنا يحس الإحساس ويحسن التعبير عما يحس، باللفظ أو الإيماء أو الصمت. ويا لمناهل الشعور الإنساني الكريم التي تتدفق في أقاصيص دوديه! بيد أن دوديه يعرف كيف يشجينا دون أن يجلل الحياة أمامنا بالسواد والشؤم واللعنة. أنه غني عن المشاهد العنيفة والمواقف المثيرة. وأين حياتنا التي نحياها من تلك النوازل الهائلة التي لا تبقي ولا تذر؟ وأما هذه التوافه التي يهملها الكبار والمتكبرون، والتي تعج بها أيامنا وليالينا، فهي بعينها ما يلتمسه دوديه وما يعني بتقديمه لنا (راجع العدد 809 من الرسالة: الشيء الصغير).

أمن دمع هذا الكاتب تنبع ابتسامته؟ فإن ابتسامته بدورها لا تغيض ليست سخرية دوديه بالشائكة ولا الحادة ولا الخبيثة ولا المريرة. ليس كسخرية لابروبير أو فولتير أو أناتول فرانس. ولا هي هزل أجوف عماده بديع اللغة والتلاعب بالألفاظ، وإنما هي تهكم حي، عذب، خصب، ينالى المعاني والمواقف والأشخاص. بل إننا نبالغ في إطلاق كلمة السخرية على فكاهة دوديه، إنها مزاح برئ، ميل إلى العبث من طفل كبير يلمح عيباً في بعض

ص: 15

الناس أو ضعفاً في بعض النفوس فيضحك فمه ملء فيه ويضحكنا معه، ولكن هذا الطفل الكبير يرى في نفس الوقت وراء الكلمة أو الحركة التي كشفت له ذلك العيب المضحك أو ذلك الضعف المضحك وجه إنسان دائما، وجه أخ مسكين ألمه من آلامنا وبؤسه من بؤسنا ومصيره كمصيرنا، ومن هنا تجتمع الدمعة والابتسامة في وجه الفونس دوديه، وتأتلقان، ولا تفترقان قط، وهل حياتنا إلا مزاج متصل من هذه وتلك؟

ولقد سأل ليون دوديه أباه ذات يوم عن سر قدرته وبراعته في ولوج قلوب الآخرين والتعبير عنها، فأجابه إجابة ضافية، قال: (لست يا ولدي ميتاً فيزيقيا كما تعلم، ولكن يبدو لي، من خلال جميع المذاهب، أن الفلسفة وإن كانت نافذة النظر في مشاكل العقل والفكر والذكاء، إلا أنها أولية بدائية قاصرة في كل ما يتصل بالشعور.

مازال الشعور يا بنيّ عالماً غامضاً مجهولاً مليئاً بالهوَّات السحيقة. ألم يكن كل مجهود ديكارت وسبينوزا مجرد محاولة إرجاع الشعور إلى العقل، والتماس حلول منطقية جافة للمسائل العاطفية.

أما أنا فليس لي إلا خبرتي، تدعمها بعض الأحلام. بيد أن خبرة شخص واحد هي خبرة الناس جميعاً، ما دمنا أفراداً يمتاز كل منا عن صاحبه بنظم دقيق خاص من ملكات عامة.

والشعور الإنساني يبدو لي ضرباً من محيط دائرة، كل عنصر فيه إنما هو صورة مختصرة للمجموع، وما الرحمة الفردية والألم الفردي والإحسان الفردي إلا انعكاس للرحمة الجامعة والألم الجامع والإحسان الجامع. . .

إن علينا نحن القصاصين واجبات وأوزاراً: علينا أن نشرك الناس دائماً في شعور واحد، وأن نرمي بكل ما نملك من جهد إلى غاية مثالية هي حفز دوافع الخير والكرم في النفوس، وعطف هذه النفوس بعضها على بعض، وتوجيهها وجهة سامية تكون قبلة الجميع وملتقى إرادتهم. وعلينا نحن القصاصين يقع وزر ما ننشر من شر ومن قبح سواء صدرنا في ذلك عن إهمال أو قضينا به حاجة وأصبنا رزقا. وعلينا يقع أيضاً وزر القعود عن إسداء العون، وترك الضعاف للفشل واليأس، وازدياد آلام الإنسانية وخبثها. . .)

وتلك لعمري فلسفة الشعور التي تزري بالفلسفة. فلسفة صادقة ساذجة نزيهة، فلسفة الإنسانية الصريحة التي تأبى أن يخنقها المنطق والتحذلق، وتحيا قريرة في النفوس

ص: 16

المؤمنة بالخير، والقلوب الخافقة بالحب، والأيدي الممتدة بالإحسان، والعيون الدامعة والشفاه الباسمة.

أنور لوفا

ص: 17

‌الحرية في المذهب الوجودي

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

- 2 -

تكلمنا قبل هذا عن الحرية في الوجودية من وجهة النظر المتانيزيقية. ونحاول الآن أن نحدد خصائصها على نحو واقعي في المذهب الأخلاقي الوجودي إن صح أن للوجودية أخلاقا بمعنى الكلمة. والذي يتبين لنا من أول الأمر أن المذاهب جميعاً في فرنسا - وليست الوجودية فحسب - تحاول أن تقدم للناس في هذه الفترة الحديثة نظريات أخلاقية مختلفة بالإضافة إلى ما تقدمه من التفسيرات الفلسفية والفكرية وما يحلو لها أن تذيعه من الأصور والآراء. بل إن الجانب الأخلاقي يطغي على كل ما عداه من الجوانب الأخرى في فلسفات الفرنسيين المحدثين، ويظهر تشكل واضح بين الأنظار الكثيرة حتى لتحسبه الأوحد من بينها في الأهمية والخطورة. ولعل الحياة الفرنسية اليوم هي التي تتطلب هذا كله وتقتضي من كل مذهب فكري أن ينحرف في هذا الاتجاه تبعاً للحاجة الأصلية في نفسية الأمة والعوز الروحي في تكوينها الحضاري. أو لعل الصلة القوية التي يحس بها الفرنسيون بين حياتهم المادية وأنظارهم العقلية، أو بين وجودهم ومعرفتهم، على حد تعبير الفلاسفة، هي التي تلج عليهم وتدفعهم دفعاً إلى إنكار مجموعة من القواعد الوضعية التي تلائم ما في نفوسهم من ثورة وما في قلوبهم من ارتياع.

وتأتي الحاجة إلى مثل هذا الاتجاه في نفسية الأمة الفرنسية من أنها ظلت أمداً طويلاً تمثل الأمة المفكرة وتقوم بدور الشعب الفيلسوف وتخسر في سبيل ذلك كله غير قليل من الجاه والسطوة العمليين في الحياة: فكما أن الأديب الذي يشغل نفسه بمسائل الفن ويملأ عقله بالتأملات الروحية بعيد كل البعد عن نطاق الواقع المحدود وآفاق العمل اليومي، بقيت فرنسا - وهي دولة الفكر الأولى - غارقة في التخيل والنظر العقلي، زاهدة في الأفعال الواقعية المنتجة، مدفونة بين صحائف الشعر وسكرات الليل وظلمات القبور. وجاءت الهزات متتالية في الميدان السياسي، وتدخلت الظروف على أسوء نحو في المعيشة الفرنسية فجعلتها ضرباً من المأساة التي يعاني صاحبها أكثر مما يعاني العائم بين أشواك الورد. وتطلع الناس من جراء هذه الخيبة المتكررة في حياتهم إلى نوع من الخلاص كما

ص: 18

يقول المسيحيون أو نوع من النجاة كما يقول المسلمون. وتبين هذا العوز في محاولاتهم المتكررة لإيجاد ناموس أخلاقي يعين على رفع الظلمة ويساعد في كشف الغمة، وظهر عملهم واضحاً في جملة التأليف الفكرية التي اتخذت موقفاً وضعياً قبل كل شيء.

ونحن المصريين محتاجون إلى غير قليل من هذا ألاتجاه. فأخلاقنا تنبني في أصلها النظري على الأديان السماوية حتى اليوم، وانشغل الكثيرون عن الدين إلى أشياء أخرى وتطورت الحياة تطوراً ملموساً فضاعت الأخلاق النظرية والعملية معاً. إذ أن الرجل المتدين يأتي كثيراً من السخافات اعتماداً على رضى الله وتوفيقه على تأييده له على طول الخط. وأستطيع أن أقول على شكل ملاحظة بسيطة أن معظم الأفعال البعيدة عن الجد والوقار والخارجة عن نطاق الفضيلة الصحيحة إنما يأتيها قوم متدينون غاية التدين ومؤمنون غاية الإيمان، أما غير المتدين فقد أهمل القواعد الروحية ولم يستطع أن يجد سنداً في حياته العملية فصار على نحو من الضيعة والاختلال لا تؤهلانه لمعيشة طبيعية كريمة. فلابد لنا من محاولة تماشي ظروف المجتمع ومن أخلاق جديدة تساير ركب الزمن وتجعلنا نواجه المناسبات المختلفة في غير خوف ولا تردد ولا جبن بازاء الأحداث.

وقد يخطر على بالنا أن نسأل الآن عن هذه الرابطة التي تجعلنا نفكر في الحرية وفي الأخلاق معا، فلا يكاد واحد من الباحثين يتعرض لموضوع من موضوعات الأخلاق بغير أن يتعرض لفكرة الحرية بالدراسات والتحليل، وهذا الاقتران في أذهان العلماء والفلاسفة غريب إذا نظرنا إلى الأخلاق نظرة اجتماعية خالصة أو إذا جعلنا رضوان الناس وآراء الجماعات مقياساً للأفعال العادية، أو إذا اعتبرنا الأخلاق حسب مقدرة الأفراد على الانسجام والتأدب والرضوخ؛ ولكنه معقول غاية المعقولية إذا بحثنا في الأخلاق من زاوية خاصة هي التي تحاول أن تحتفظ للفردية بقوتها عن معارضتها للحياة اليومية وعند تنافرها مع الآخرين، فالحرية تدخل ضمن أبحاث الفلاسفة الأخلاقيين عندما تراعى أن الأخلاق لا تكون في إخماد الروح الفردية بقدر ما تكون في عهدها ورعايتها وتهيئتها كما يلزم بالنسبة إلى الظروف المتباينة.

فالأخلاق على هذا النحو إنكار للأخلاق؛ بمعنى أنها تعمل على هدم القانون ورفع الضرورة التي تأتي بها نظريات الباحثين. الأخلاق التي تأخذ بالحرية على الطريقة التي

ص: 19

تريدها الوجودية ليست أخلاقا وإنما هي معارضة للأخلاق. والحق أن الأخلاق نفسها لا تصير أخلاقا إلا إذا أكدت الحرية، إذ أن الأخلاق شيء آخر غير إطاعة الأوامر وتحقيق الفروض، ولعلها تتوفر في الثورة والرفض أكثر مما تتمثل في مظاهر الطاعة والرضوخ، وهذا كله لسبب بسيط وهو أنه لا توجد هناك أوامر ولا تتوفر لدينا أصول ولا يمكن أن يصح ما نشعر به، عند مواجهة قاعدة ما، من القداسة والضرورة، فعالمنا الأرضي خال تماماً من اللوازم، وإذا تكشفت بمضي الأيام صفة اللزوم في شيء ما فاعلم أنها من ابتكارنا وخلقنا. إن الإنسان هو الذي يضع الأخلاق وأحكامها بما يأتيه من الأفعال كلما تقدم به الزمن، والفعل الأخلاقي - كما ينبغي لنا أن نفهمه - فعل إبداعي لا يراعي القيم، ولا يماشي أصولا، بل يخلق - هو نفسه - الأصول

وبذلك يخلو الفعل الأخلاقي من التقليد والاحتذاء ولا يقتصر على كونه عملية من عمليات المراجعة ولا تظهر عليه أعراض الرتابة، فالوجوب صفة غريبة كل الغرابة عن المعنى الأخلاقي للأحكام العامة. فنحن - أي الناس - متروكون في الأرض بغير علامات تكشف لنا طريق أو القواعد تنظم بيننا العلاقات أو إله يبذل لنا من لدنه الهداية والرشد. هذا هو الأصل الذي تحاول الوجودية أن تقيم عليه بنيانا مذهبياً في الأخلاق. وقد يكون هذا الأصل داعياً إلى الفوضى أكثر مما هو داع إلى النظام على نحو ما جاه على لسان دستويفسكي حينما قال:(إنه إذا لم يكن الله موجوداً فسيكون كل شيء مباحا) ولكن الوجودية تنظر إلى هذه النقطة بالذات على أنها موضع الانفصال أو محل الاختلاف بين فلسفتهم وفلسفة الآخرين من الفوضويين أو الأبيقوريين، فعلى الرغم من أن الوجودية تبدأ بدء يصعب على الكثيرين أن يطرقوه أو يحلوا أية مشكلة على أساسه، فهي تجرؤ على القول بأنها قد أتت بشيء. إنها قد اعترفت بالوضع الحقيقي أولا ثم حاولت بعد ذلك أن تنظر في الأمر.

فماذا فعلت؟ إنها وقد أنكرت من أول الأمر كل معنى في الحياة واعترضت على كل دلالة في الوجود وآمنت بالتفاهة والعبث من وراء الكون الظاهر ومن خلفه، أرادت أن تضع الثقة في النفوس وأن توجد الدوافع لدى الأفراد. إن الحياة عبث فلنجعل لها معنى، والأيام ضائعة فلنحقق لها الغاية. ولا تكون الغاليات والمعاني مستمدة - كما هو حاصل حتى الآن - من عالم غير هذا العالم، ومن كائنات وهمية، وإنما مبعثها فعل الإنسان بريئاً من التقليد

ص: 20

خالياً من الأسانيد. فالإنسان وهو يفعل، ستوحي الحرية ويضع القيمة ويحدد المشروع من غير المشروع ويعين اللائق من غير اللائق. أو قل إن الإنسان يضع نفسه عن طريق الفعل.

ولا يأتي التنكر البادي في أعمالهم لفكرة الوجوب أو الضرورة التي تتصف بها القواعد والأحكام الأخلاقية من محاولتهم إبراز فلسفة لا تستند إلى فكرة الله (المزعوم في رأيهم) وإنما يصدرون في اتجاههم هذا عن أصل مذهبي كامل في لفظتين معروفتين عند الباحثين وهما: الوجود والماهية فالوجود بالنسبة إلى الإنسان - كما نعلم - عبارة عن سلسلة الأحداث التي تطرأ عليه وتشكل تاريخه. والماهية هي جملة الخصائص المميزة له من سواه والطبائع التي تجعله هو هو. ومن الأسس النظرية الأولى في الفلسفة الوجودية أن الوجود سابق على الماهية، بمعنى أن وجود الأشياء ووجود الإنسان ذاته يسبق ظهور الخصائص والصفات التي نستخلصها بشأن هذا الوجود، فليس هناك فكرة أزلية ترسم الأشياء بإرادتها وتمتثل الموجودات لمشيئتها، وليس هناك تقدير سابق لما يصير واقعاً، بل كل ما هنالك أن الأشياء تتمثل وأن الحقائق تقع ثم تأخذ صفات معينة وتتطبع بطباع خاصة

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإنسان. فهو يوجد أولا ثم يتحدد بعد ذاك. وعلى هذا فليس هناك طبيعة إنسانية كما يقول سارتر تبعاً لعدم وجود إله يرعى الإنسان (فالإنسان ليس شيئاً آخر - وبالتالي - غير ما يفعله) والخصائص أو الصفات التي تتحدد بها ماهية الإنسان في وجوده هي نتيجة لجملة الأفعال التي يأتيها. أو بعبارة أخرى الإنسان هو صاحب الأمر في تشكيل ماهيته الخاصة. إذن فمرجع الإنسان دائماً إلى نفسه في تطوينه وعند إيجاد ما يهمه وخلق الصفات التي تلحقه. ومن هنا بنى سارتر حكمه على الماهية الإنسانية بأنها متعلقة بحريته ومتوقفة على إرادته، وهذا صحيح بالنسبة إلى منطق التفكير الوجودي.

فالوجودية فلسفة تنبع من صميم الذات الإنسانية وتصدر عن نزعة فردية واضحة. وتؤمن بالوجودية فضلاً عن ذلك بأن التاريخ لا يحصل من جراه إرادة اجتماعية أو لأن التاريخ ينساق إلى شيء معين وإنما بسبب رغبة الأفراد في كذا وكذا. إن التاريخ حسب الفهم الوجودي ليس شيئاً موجوداً نمر به، وليس شريطاً قائماً نخطو عليه، وإنما هو شيء يوجد

ص: 21

في كل لحظة زمنية بإرادة الناس ويتشكل حسب هوى الأفراد بل ويدخل في دائرة الحياة بناء على الأفعال التي يصدرها البشر في اللحظة الآنية لا يوجد شيء وإنما يوجد شيء في تلك اللحظة بعد أن تصير حاضراً ثم ينعدم في التو على صورة ماض. إن الإنسان العادي ينظر في الحياة وكأنها تمضي بغير ما تقطع ولا توقف، أمام الفيلسوف - الوجودي خصوصاً - فيشعر بمشكلة الصيرورة على أوضح نحو في العدم الذي يتمثله وفي الحاضر الذي يخلقه وفي الوجود الذي يتسلسل به من غير ضرورة تحتم عليه الكينونة أو عدم الكينونة. حقاً هناك إمكانيات في الحياة تصير على هيئة معينة إذا جاء المستقبل بحكم النمو الحاصل في المظاهر الأرض1ية، ولكن هذا لا يعني أنها موجودة وجوداً كلياً عاماً في الماضي والحاضر والمستقبل وإنما يعني أنها الوجود يتقدم بنا في العماء الذي لا ترتيب فيه ولا تصميم له بغير خطه ثابتة وبغير علامات أكيدة.

وعلى ذلك فإن الإنسان إذ فعل شيئاً فإنما يفعله وهو يقوم بدور الخالق، فالحرية التي في يده بالضرورة لا تكون مجرد حقيقة للأفعال بل تعد، على هذا النحو، منبعاً تنبثق عنه كل الدلالات وكل القيم، وشرطاً أصيلا لكل تحقق في الوجود كما تقول سيمون دي بوفوان في كتابها عن أخلاق التناقض. ولذلك لا حظنا دائماً إحساس الإنسان بالقلق عند مواجهة المستقبل ما دام لا يجد تحت يديه ركناً يستند إليه ولا خطة يهتدي بها ولا مثلا يحتذيه. إن القلق ظاهرة لازمة الحدوث في حياة الإنسان بسبب المتاهة المفزعة التي يمضي فيها والمفازة المخيفة التي يخترقها بغير ما تجربة سابقة ولا عماد ثابت. حتى القلق نفسه وجملة الاحساسات الأخرى والمظاهر النفسية التي يبدو فيها الإنسان ليست عبارة عن صفات معدة إعداداً سابقاً بالنسبة إلينا وإنما هي طريقة من طرائقنا في العمل والحركة داخل نطاق الوجود. فليس هناك ألصق بمعاشنا ولا أكثر ظهوراً في حياتنا من صفات الحس والذكاء والغضب والحيوية، ومع ذلك فهذه كلها ليست ضرورة من ضرورات وجودنا بقدر ما هي وسيلة من وسائل اكتشافنا للوجود ونحو من أنحاء انتقالنا من الحاضر إلى الماضي.

فوجودنا إذن يحصل ثم نجعل نحن من هذا الوجود موضوعاً للكلام فتستخلص منه صفات معينة ونلاحظ عليه ملامح بالذات. هذه الصفات وتلك الملامح هي ما تسميه بالماهية.

ص: 22

ولكننا مع كثرة التكرار والتردد للمظاهر المتشابهة في حياتنا حسبنا هذه الماهية أزلية تنتقض على طول الزمن في صورة أشكال من هذا الطراز أو ذاك. ولكن الواقع أن هذه الأشياء إنما تحدث في كل مرة لأول مرة وتأني مع اطراد الأحداث بغير تقدير ممهد ولا خطة قبلية. وبذلك ينمحي طابع الجمود والتردد في الحياة ويتدخل عنصر الفن بشياته المتباينة. ولا شك أن الفنان وحده هو الذي يستطيع أن يدرك مدى الرهبة التي تصيب الإنسان في تقدمه خلال السحب القائمة من فوقه وهي لا تنفأ تنذره من حين إلى حين بالمطر الغزير. فالإنسان وسط الحياة ليس غريباً عن مثل هذا الموقف عندما يحس في قرارة نفسه بأنه متروك في الوحدة المفزعة بغير سند إلا من اختياره ورأيه وهواه.

ومن هنا تتدخل المسئولية في اعتبار الوجودية. وذلك طبيعي جداً ما دام مرجع الإنسان في معاشه إلى ذاته وما دام هو نفسه ابن نفسه ووليد أفعاله. ويقول سارتر (عندما نقول عن الانسال أنه مسئول عنه نفسه، لسنا نعني أن الإنسان مسئول عن شخصيته المحددة ولكننا نعني أنه مسئول عن كل الناس.) وهذه هي النتيجة الطبيعية لما سبق أن قلناه. فالإنسان تبعاً لما يأتيه في وجوده من الأفعال الحرة مسئول عن العالم وعن نفسه طالما كان طريقة من طرق الوجود، وأنموذجاً من نماذج الكينونة والمسئولية هنا مأخوذة بمعناها العادي في الشعور بأنه الفرد يؤلف لحادثة أو لموضوع من غير اعتراض عليه ومن غير تعد على حريته. فما يحدث لي - كما يقول سارتر. . . يحدث لي عن نفسي ويستحيل أن يجري في الأرض فعل غير إنساني مهما كان الأمر. والمسئولية تأتي من هذه الناحية، ناحية الإنسانية التي تتصف بها الأفعال والوقائع وماجريات الأمور، ومن هنا لم يكن هناك محل للاعتذار أو الأسف أو الشكوى بعد إتيان أمر من الأمور.

إن فسلفة في الأخلاق على هذا النحو لا تغلق الباب أمام الرجاء ولا تصدر عن اليأس كما قال الكثيرون عنها، وإنما على العكس من هذا توجد فسحة للأمل وتضع غير قليل من الإيمان والقوة في نفس الإنسان كيما يفعل وكيما يأتي فعله عن عقيدة وحساب ويكفي أن يعلم الإنسان عن نفسه بأنه حر وأنه بهذه الحرية يقرر وجوده الخاص كما يحقق وجود الإنسانية جمعاء، وأنه يبدأ من لا شيء ليصير شيئاً في النهاية؛ حتى يدرك خطورة موقفه حتى يدرك خطورة موقفه وحتى يعمل بكل قواه في العالم المضطرب الغامض من أجل

ص: 23

الوقوف على بر السلام والوصول إلى أرض البراءة والخلاص.

عبد الفتاح الديدي

ص: 24

‌موزانة أدبية

بين قصديدتين من عيون الشعر الجاهلي

للأستاذ عبد المنعم خفاجي

1 -

أما الأولى فهي معلقة: عمرو بن كلثوم التغلبي الشاعر الجاهلي المشهور (500 - 600م). ومطلعها:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا

ولا تبقي خمور الأندرينا

وأما الثانية فهي مجمهرة أمية بن أبي الصلت:

عرفت الدار أقوت سنينا

لزينب إذ تحل بها قطينا

2 -

والقصيدة الأولى ملحمة تاريخية تصور المجد القديم لتغلب قبيلة الشاعر، وملامحها الحربية التي انتصرت فيها على أعدائها، وهي فريدة في نوعها فهي جديرة حقاً أن تسمى ملحمة فهي تاريخ مفصل لقبيلة عمرو ومفاخرها وأيامها ومنها يوم خزاز الذي انتصر فيه كليب قائد النزاريين على اليمينين، وفيها تهديد لأعداء تغلب وتنبيه للملك عمرو بن هند ملك الحيرة (562 - 579م) حتى لا يطيع بهم الوشاة أو يتحيز لبكر شقيقة تغلب ومزاحمتها في المجد والنفوذ والسلطان، وقد بدأها الشاعر بوصف الخمر مما يعد ميزة فريدة لها، قم انتقل إلى موضوع القصيدة وهو الفخر، وختمها بقوله:

لنا الدنيا ومن أمسى عليها

ونبطش حين نبطش قادرينا

ملأنا البر حتى ضاق عنا

وماء البحر تملؤه سفينا

إذا بلغ الرضيع لنا فطاما

تخر له الجبابر ساجدينا

وأنت تعلم أن عمرو بن كلثوم ارتجل بعض معلقته أمام الملك عمرو بن هند وهو الجزء الذي هدد فيه أعداء تغلب وحذر الملك من الاستماع للوشاة والميل معهم على قومه، ومنه:

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبرك اليقينا

بأننا نورد الرايات بيضاً

ونصدرهن حمرا قد روينا

ثم أكمل القصيدة كلها، وأنشدها في سوق عكاظ، وقد عدتها تغلب سجل مجدها وفخارها فاعتزت بها اعتزازاً كثيراً ويقال إنها أضافت إليها الكثير حتى بلغت أبياتها نحو ألف بيت وقال بعض شعراء بكر فيها:

ص: 25

ألهي بني تغلب عن كل مكرمة

قصيدة قالها عمرو بن كلثوم

يفاخرون بها مذ كان أولهم

يا للرجال لفخر غير مسؤوم

وأما مجمهرة أمية فقد تحدث فيها الشاعر عن مجد قبيلته (ثقيف) وهي من أمهات القبائل العربية وصاحبة نفوذ والسلطان في الطائف بين قبائلها، ولم يبدأها بوصف الخمر كما فعل عمرو بن كلثوم بل بدأها كما يبدأ الشعراء قصائدهم فذكر أطلال محبوبته (زينب) وعفاءها ولعب الرياح المعصرات بها، ثم انتقل إلى موضوع القصيدة نفسها وهو الفخر بمجد القبيلة وشرف الآباء فقال فيما قال:

ورثنا المجد عن كبرى نزار

فأورثنا مآثرنا البنينا

وكنا حينما علمت معد

أقمنا حيث ساروا هاربينا

وتخبرك القبائل من معد

إذا عدوا سعاية أولينا

يأنا النازلون بكل ثغر

وأنا الضاربون إذا لقينا

إلى آخر ما ذ كره من الفخر بأسرته وقومه ومجدهم ومنابتهم وما أرصدوه لريب الدهر من الخيل والرماح والسيوف والشيب المجربين والشبان والأقوياء، ووراثهم للمجد عن كبرى نزار إلى غير ذلك من مظاهر الكبرياء والعزة والسيدة التي أضافتها أمية إلى قومه، ولا ندري شيئاً عن التاريخ الأدبي للقصيدة وان كنا نرجح أن الشاعر نظمها في مفاخرة من هذه المفاخرات التي تحدث كثيراً بين القبائل العربية وخاصة في العصر الجاهلي:

3 -

تتفق القصيدتان في الموضوع والوزن والقافية، وفي خاليهما الغني الغالب على القصيدتين وتتفقان كذلك في هذه المبالغة الواضحة في الفخر، مما لا يؤثر نظيرها من المبالغات في معاني الشعر الجاهلي إلا قليلا.

كما تتشابهان في هذه السهولة الفنية الغالبة على القصيدتين وخاصة عندما ينتقل الشاعر إلى الغرض الأصلي من قصيدتيهما وهو الفخر. وليست هذه السهولة الفنية بغريبة على الشاعرين، فارتجال عمرو لقصيدته ومواقف الفخر فيها مما يقتضي السهولة، ونشأة أمية في الطائف ذات الخصب والزروع والثمار والهواء المعتدل والجو الجميل وتنقله في رحلاته التجارة بين الشام واليمن وثقافته العامة وقراءته في الكتب السماوية، كل ذلك رقق من طبعه وهذب من أسلوبه وأكسبه مواهب فنية ممتازة وصقل من ملكاته الأدبية فظهر

ص: 26

أثر ذلك في شعره وضوحاً وسهولة واسجاحاً.

وتتفق القصيدتان فوق ذلك في كثير من معاني الشعر وأساليب الفخر؛ ومن مظهر ذلك الاتفاق هذه المعاني والأساليب والأبيات:

أ - قال عمرو:

ورثنا المجد قد علمت معد

نطاعن دونه حتى يبينا

أي حتى يظهر الشرف لنا. وقال:

ورثنا مجد علقمة بن سيف.

وقال وهو يتحدث عن الخيول الكريمة التي يخوض قومه عليها المعارك:

ورثناهنَّ عن آباء صدق

ونورثها إذا متنا بنينا

فقال أمية:

ورثنا المجد عن كبرى نزار

فأورثنا مآثرنا البنينا

ونستطيع أن نوازن بين البيتين الأخيرين إذا علمنا أن وراثه المجد في بيت أمية أبلغ في الفخر من وراثة الخيل في بيت عمرو، وإن كانت وراثة الخيل من أسباب المجد لأن الخيل وركوبها واتخاذها عتاداً دليل الشجاعة والبطولة وحب النضال، وقول أمية (فأورثنا مآثرنا البنينا) أبلغ من قول عمرو:(ونورثها إذا متنا بنينا) لأن أمية ذكر أن أبناءهم ورنوا مجد الآباء في حياتهم، أما عمرو فذكر أن الأبناء سيرثون هذه الخيول بعد وفاة آبائهم، فلم يسند إليهم الشجاعة والبطولة وحماية الذمار في حياة الآباء، وهذا قصور في الفخر. وقال أمية (البنينا) وقال عمرو:(بنينا) فشهرهم أمية وأبان عن وضوحهم، وقال عمرو:(آباء صدق) فدل على شجاعتهم أو وضوح نسبهم وطهارة أعراقهم، وهي زيادة لا نظير لها في قول أمية.

وقد أخذ أمية لفظ (قد علمت معد) من قول عمرو فقال:

وكنا حيثما علمت معد

أقمنا حيث ساروا هاربينا

ب - ويقول عمرو: (وأنا المهلكون إذا ابتلينا) أي نهلك أعداءنا ونبيدهم إذا اختبرنا بقتال الأعداء، فيقول أمية:(وأنا الضاربون إذا لقينا) فتجد قول عمرو أبلغ حيث نصَّ على إهلاك الأعداء ولم يذكر أمية إلا الضرب، وإن كان يكنى به عن الشجاعة والإقدام

ص: 27

والعزيمة والجد في طلب الأعداء، ولكنه على أي حال يصور نتيجة الحرب كما يصورها عمرو بن كلثوم بقوله (المهلكون).

ج - ويقول عمرو: (وأنا المانعون لما أردنا)، ويروى (الحاكمون بما أردنا)، فيقول أمية:(وأنا المانعون إذا أردنا)

د - ويقول عمرو:

ونشرب إن وردنا الماء صفواً

ويشرب غيرنا كدرا وطينا

ويروى من مجمهرة أمية:

وأنا الشاربون الماء صفوا=ويشرب غيرنا كدرا وطينا

هـ - ويقول عمرو:

بفتيان يرون القتل مجداً

وشيب في الحروب مجربينا

وقد روى من المجمهرة:

وفتياناً يرون القتل مجداً

وسيباً في الحروب مجربينا

4 -

ومعلقة عمرو تمتاز بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية؛ كما نمتاز: بتنوع أغراضها، وبطولها، وأنها ملحمة تاريخية نادرة، وهي إحدى المعلقات السبع وهي قصائد تحتل الذروة في الشعر الجاهلي. وقد انتخبت من بين القصائد الجاهلية لشهرتها وخصائصها الفنية والأدبية الممتازة. وقال بن قتيبة في قصيدة عمرو: وهي من جيد شعر العرب:

أما قصيدة أمية فلا تبلغ إلا نحو الثلاثين بيتاً أو تزيد قليلا فهي نحو ثلث قصيدة عمرو، وقد وضعها النفاد مع المجمهرات والمجمهرات سبع قصائد من الشعر الجاهلي رواها أبو زيد الأنصاري في (الجمهرة) وأصحابها هم:

أ - عبيد بن الأبرص، ومجمهرته مشهورة وهي في الحكمة ومطلعها.

عيناك دمعهما سروبُ

كأن شآنيهما شعوب

والسروب: الكثيرة الجريان. والشعيب: المزادة، وتشتهر باضطراب وزنها؛ ومنها:

والمرء ما عاش في تكذيب

طول الحياة له تعذيب

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

ص: 28

ب - عدي بن زيد، ومجمهرته في الحكمة ومطلعها:

أتعرف رسم الدار من أم معبد

نعم ورماك الشوق قبل التجلد

وهي شبيهة بمعلقة طرفه في وزنها وقافيتها وحكمتها، وتتفق معها في بعض الأبيات مثل:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

ج - النمر بن تولب، ومجمهرته في الحكمة أيضاً ومطلعها:

(تأبد من أطلال عمرة مأسل)

د - أمية بن أبي الصلت، ومجمهرته موضع الحديث، وهي في الفخر.

هـ - بشر بن أبي خازم، ومجمهرته في الفخر بقومه وبطولتهم وعزهم ومطلعها:

لمن الديار غشيتها بالأنعم؟

تعدو معالمها كلون الأرقم

وخداش بن زهير، ومجمهرته في الفخر بقومه أيضاً، ومطلعها:

(أمن رسم أطلال بتوضح كالسطر)

ز - عنترة، وقصيدته:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم؟

يعدها بعض النقاد من المعلقات والآخرون من المجمهرات.

وهذه القصائد السبع لم توضع في مرتبة واحدة لاتفاق موضوعاتها؛ إذ أن موضوعاتها مختلفة: فثلاث منها في الحكمة وأربع في الفخر، كما أنها لم ترتب بالنظر إلى الناحية التاريخية، إذ أن أصحابها لم يعيشوا في عصر واحد:

فعدي توفي نحو عام 580م، وعبيد علم 555م، وأمية عام 624م، وعنترة عام 615م الخ؛ فهي إذا إنما وضعت في منزلة أدبية واحدة تلي منزلة المعلقات الأدبية بالنظر إلى خصائصها الفنية الأدبية وحدها، ويكاد الناقد الأدبي يقف أمام تشابه شاعرية هؤلاء الشعراء وخصائص الشاعرية في هذه القصائد؛ فهذه القصائد السبع إذا يشبه بعضها بعضاً في النواحي الفنية والفطرة الأدبية وفي خصائص الشعر والشاعرية وتكاد تكون متساوية في حكم النقد الأدبي، وهي على أي حال تلي المعلقات في الجودة والمكانة الأدبية.

ونستخلص من ذلك كله أن النقاد لاحظوا الفروق الفنية الكبيرة بين القصيدتين فوضعوا الأولى في صف المعلقات والثانية مع المجمهرات، وفي الحق أن شاعرية عمرو في معلقته

ص: 29

أقوى وأبين من شاعرية أمية في مجمهرته: سواء في الأسلوب أو المعاني أو الأغراض أو مدى الجودة الفنية ومواهب الشعر.

5 -

ويرى الدكتور طه حسين في كتابه (الأدب الجاهلي) أنه لا يمكن أن تكون معلقة عمروا أو أكثرها جاهلية. وقد شك الرواة في بعضها ويرجح أن تكون المعلقة منتحلة، ونحن لا نذهب هذا المذهب، فالمعلقة تمثل حياة جاهلية لقبيلة تغلب وتمثل شاعراً جاهلياً وتصور حياة عمرو الفنية والاجتماعية نفسها وهي شبيهة بالآثار الباقية من شعر عمرو، وإن كان هذا لا ينفي أن تكون قد زيدت عليها بعض البيات؛ وقصيدة أمية نفسها تؤيد أن قصيدة عمرو جاهلية وأنها لم تنتحل بعد الإسلام على أيدي الرواة.

ونلاحظ على مجمهرة أمية خلوها من الصبغة الدينية التي اشتهر بها أمية، ويبدو أنه نظمها في شبابه قبل أن يقف نفسه وحياته وشعره على الجانب الديني وحده. وتقليده فيها لعمرو بن كلثوم يؤكد ذلك وأنها نظمت قبل أن تكتمل شخصية أمية الفنية. وقد يكون السبب الذي جعل أمية ينظم مجمهرته محتذيا فيها عمراً هو إعجابه بمعلقته أو روايته لشعره أو تشابه موقف الفخر الذي وقفه الشاعران، ونحن لا نستطيع أن نقول إن الرواة أدخلوا على مجمهرة أمية بعض الأبيات من معلقة عمرو لتشابه الوزن والقافية والخيال والموضوع في القصيدتين؛ ذلك لأن مجمهرة أمية ليست طويلة ولأنه إذا حذف منها الأبيات المتشابهة لا يبقى منها في مقام الفخر إلا القليل من ابياتها، ولا يعقل أن ينظم الشاعر قصيدة في الفخر معانيها فيه محدودة أو شبه محدودة.

ورواية أبي زيد للقصيدتين في كتابه دليل على إيمانه بصحة القصيدتين أولا، وبأن المعاني المتشابهة فيهما نتيجة لاتفاق الشاعرية أو للتفليد الأدبي ثانياً؛ وأبو زيد م 215هـ راوية ثقة.

6 -

وبعد فنستطيع أن نقول إن أمية قلد في مجمهرته عمرو ابن كلثوم في معلقته تقليداً فنياً واضحاً، فأخذ من المعلقة كثيراً من معاني الفخر وأساليبه، وصاغ قصيدته على موسيقى وقافية معلقة عمرو.

وهذا التقليد الفني ليس بعجيب بين الشعراء في شتى العصور وليس بغريب في الشعر الجاهلي نفسه، فأنت ترى أن الشاعر الجاهلي كثيراً ما يتفق مع شاعر قبله أو معاصر له في أسلوب أو معنى أو بيت وأنت تعرف قول امرئ القيس:

ص: 30

وقوفا بها صحبي علىّ مطيهم

يقولون لا تهلك أسلا وتجمل

وقول طرفه:

وقوفا بها صبحي على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وتعرف غير ذلك من مظاهر التشابه الفني أو التقليد الأدبي بين الشعراء الجاهليين، مما نستطيع أن نواتيك ببحث أدبي عنه في الغد القريب إن شاء الله.

محمد عبد المنعم خفاجي

الأستاذ بكلية اللغة العربية

ص: 31

‌النبي وأهل القليب

للأستاذ محمود أبو ريه

لما انتصر المسلمون في وقعة بدر ونزلت الآية: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، فاتقوا الله لعلكم تشكرون) أمر النبي صلوات الله عليه بالقتلى من صناديد قريش أن يُقذفوا في القليب (البئر) ثم وقف عليهم وقال - على ما جاءت به إحدى الروايات. (يا أهل القليب هل وجدتهم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً) فقيل له: تدعو أمواتاً؟، قال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يجيبون!)

وأخذ بهذه الرواية طائفة من المؤرخين، ولكن عائشة رضي الله عنها صححت هذه الرواية، واستدركت على من رواها وقالت: إنما قالت النبي: إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول لهم حق - وقد قال تعالي - (إنك لا تسمع الموتى - وما أنت بمسمع من القبور)

وعلى أن رواية عائشة هي الصحيحة التي توافق العقل والمنطق وتتفق وسمو خلقه العظيم صلوات الله عليه، فإن بعض الذين يتحدثون عما قاله النبي لأهل القليب من مؤرخي عصرنا لا يزالون يدعون رواية عائشة. وآخر من قرأنا لهم ذلك معالي الدكتور طه حسين بك في كتابه (الوعد الحق)

هذا وأن لعائشة لاستدراكات كثيرة على طائفة من الصحابة كبيرة.

فقد ذُكر عندها أن ابن عمر رفع إلى النبي: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. فقالت:، إنما قال رسول الله (إنه ليعذب بذنبه وأن أهله ليبكون عليه حسبكم القرآن (ولا تزر وازرة وزر أخرى)

وعن مسروق قال: قلت لعائشة يا أمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت لقد قفَّ شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت لا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير - وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب - ومن حدثك أنه يعلم ما في غدٍ فقد كذب - ثم قرأت: وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ومن حدثك أنه كنتم فقد كذب - ثم قرأت: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.

ومما ردتّه عائشة خبر ابن عمر وأبي هريرة (إنما الشؤم ثلاث فقالت، إنما كان رسول الله

ص: 32

يحدث عن أحوال الجاهلية وأنهم كانوا يتشاءمون من ثلاثة - وفي رواية لها أن أبا هريرة لم يحفظ والأخذ بهذا الحديث يعارض الأصل القطعي (أن الأمر كله لله)

ولما روى أبو هريرة: أن رسول الله قال (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً ودماً خير له من أن يمتلئ شعراً) قالت عائشة: أنه لم يحفظ، إنما قال (. . . من أن يمتلئ شعراً هجيتُ به)

ومما استنكرته على أبي هريرة أنه لما روي حديث (من أصبح جُنباً فلا صوم عليه) قالت: إن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم. وبعت إلى أبي هريرة أن لا يحدث بهذا الحديث فأذعن وقال: إنها أعلم مني

ولهذا الحديث قصة لا بأس من إيرادها لأنها طريفة (في كتاب اختلاف الحديث للشافعي أن أبا بكر بن عبد الرحمن قال.

كنت أنا وأبي عند مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة من قبل معاوية - فذكر له، أن أبا هريرة يقول (من أصبح جُنباً أفطر ذلك اليوم) فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمَّي المؤمنين عائشة وأم سلمة فتسألهما عن ذلك، أما عائشة فقد قالت: ليس كما قال أبو هريرة يا أبا عبد الرحمن: أترغب عما كان رسول الله يفعله؟ فقال عبد الرحمن لا والله. قالت عائشة: فأشهد على رسول الله أنه كان ليصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم. ثم دخلا على أم سلمة فقالت مثل ما قالت عائشة ثم حينا مروان فقال له عبد الرحمن ما قالتا. فقال مروان أقسمت عليك يا أبا محمد لتركن دابتي فلتأتين أبا هريرة وتخبره بذلك، ولما أتى أبا هريرة وذكر له ما سمع، قال أبو هريرة (لا علم لي بذلك إنما أخبرني مخبر. . .)

وفي رواية للحافظ ابن حجر في فتح الباري في (باب الصائم يصبح جنباً) أن مروان قال لعبد الرحمن لتفزِّ عن بها أبا هريرة فكره ذلك عبد الرحمن. ولما اجتمع به بذي الحليفة - وكانت لأبي هريرة أرض هناك قال له إني ذاكر لك أمراً ولولا مروان أقسم على فيه لم أذكره لك! فذكر قول عائشة وأم سلمة فقال كذلك حدثني الفضل بن العباس.

وبعد أن ذكر ابن حجر أن هذا الحديث قد رواه مسلم قال: وكان هذا بعد أن سمع مروان أن أبا هريرة كان يفتي الناس أنه (متى أصبح جنباً فلا يصوم ذلك اليوم) وأنه كان يرفع ذلك إلى النبي.

ص: 33

وفي رواية للنسائي أن مروان قال لعبد الرحمن: إلق أبا هريرة فحدثه بهذا! أنه لجاري، وإني لأكره أن أستقبله بما يكره! فقال اعزم عليك لتلقينه.

وفي رواية معمر عن ابن شهاب: أن أبا هريرة، لما ذكر له عبد الرحمن قول عائشة وأم سلمة (تلون وجهه).

ولأحمد أن أبا هريرة قال: ورب هذا البيت ما أنا قلت: من أدراك الصبح وهو جنب فلا يصم: محمد ورب الكعبة قاله!!

ولا نتوسع بإيراد أمثلة أخرى مما استدركته عائشة على الصحابة عامة - وعلى أبي هريرة خاصة الذي كان أول راوية اتهم في الإسلام أكذبه عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، قال ابن قتيبة في كتابه (تأويل مختلف الحديث) بعد أن ذكر أسماء الذين كانوا ينكرون عليه من كبار الصحابة ما يلي:

(وكانت عائشة رضي الله عنها أشدهم إنكاراً عليه لتطاول الأيام بها وبه)

وكانت عائشة تَردُ كل ما يروي من الأخبار مخالفاً للقرآن وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع وسوء الفهم ولم تكن تفعل ذلك إلا لأنها بلغت من الحفظ والفهم منزلة لا تنال.

قال عطاء بن أبي رباح، كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس، وقال عروة: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بشعر من عائشة. وقال أبو موسى الأشعري (ما أشكل علينا، أصحاب محمد من حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً. وقال الإسماعيلي: كانت عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ما لا مزيد عليه.

ولا نستوفي كل ما قيل في فضلها رضي الله عنها

المنصورة

محمود أبو ربه

ص: 34

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (4)

غاية الأخلاق عند أرسطو

للأستاذ كمال دسوقي

ويعود أرسطو منذ مطلع الباب الرابع إلى ما كان بسبيله قبل نقد المثل الأفلاطونية، فبعد الهدم البناء، وبعد التجريح التصحيح، وهنا يعود أرسطو إيجابياً كما كان، فيقرر ما سبق أن أنتهي إليه في الفصلين الأولين من أن لكل فن خيره الخاص وفقاً لغايته التي يرمي إليها بكل وسائله، وأن الخير الأعلى هو ما كان أكثرها كمالا ونهائية. . . أي الذي يبحث عنه لذاته لا لأجل خير آخر، وهو. . . في كلمة واحدة - السعادة. . . فإن كافة الخيرات الجزئية كالعلم والفضيلة واللذة والشرف لا ينبغي إلا من أجلها، كما أن السعادة لا تكون إلا بواحدة أو أكثر من هذه خصوصاً وقد بينا أن الإنسان حيوان اجتماعي لا يعيش منعزلاً، ولا يحيا لنفسه بقدر ما يحيا لأسرته وأصدقائه ومواطنيه؛ فسعادته لا تنفك عن الارتباط بسعادة هؤلاء جميعاً. والسعادة إلى جانب كونها غاية قصوى تطلب لذاتها، وتطلب الخيرات الأخرى لأجلها، هي كافية بذاتها بمعنى أنها تقوم بذاتها كغاية لا تحتاج إلى ما يحببنا فيها، بل لأجلها بالأحرى تحب الخيرات الأخرى. وهذا ما يعنيه بالاستقلال (ف 7، 8).

وها قد نأدي بنا أرسطو إلى تحديد ماهية السعادة بالمعنى الفلسفي، إنها تحقيق العمل الخاص بالإنسان، لا بما هو ذو وظيفة اجتماعية يكسب منها، فإن إمكان تغييرها ومزاولة غيرها تجعل الوظيفة غير ذاتية ومشخصة له، ولا بما هو كائن حي تام أو غاد، فتلك خصائص النبات أيضاً، أو حساس ومنحرك بالإرادة مادام أن هذه الصفات يشترك معه فيها الحيوان. بقي أن تكون خاصة الإنسان المميزة هي حياة العقل وفاعلية الفكر، وأن تكون وظيفته الخاصة به. . . بما هو إنسان هي فعل النفس المطابق للعقل؛ العقل الصادر عن طبيعة وملكة وسجية لا عن محض صدفة؛ والذي هو نتيجة مران واستمرار للمزاولة المنتظمة للفعل بما يؤدي إلى حسن الأداء؛ فإن الخير أو الفضيلة عند أرسطو يريدها أن تكون ثابتة راسخة وصادرة عن ذات الكائن بسهولة ويسر لا تكلف فيه ولا تعمل. . . حتى تكون فضيلة حقاً لا مجرد عمل فاضل أوحد.

ص: 35

ويفيدكم هنا كثيراً الرجوع إلى تقسيم أرسطو للنفس إلى نباتية وحيوانية ثم عاقلة ووظائف كل منها (في المراجع العربية التي سبق أن أشرت إليها). كما يفيدكم جداً بل من الضروري جداً - مقارنة نظرية السعادة عند أرسطو بالنظريات الأخلاقية الأخرى خصوصاً نظرية الواجب لكانت الفيلسوف الألماني (وقد أتى المترجم الفرنسي لأخلاق أرسطو على طرف منها)، وكذلك نظريات فلاسفة الإنجليز المحدثين في كتاب المدخل إلى الفلسفة المترجم إلى العربية والمقرر في الامتحان الشفوي (في باب النظريات الأخلاقية)

وكأن أرسطو لا يقنع بهذا التخطيط الذي وضعه للسعادة؛ فهو يصفه بالنقص، ويعتذر عن نقصه بأن الكمال لا سبيل إليه؛ وأن الزمان كفيل بالعمل على إكمال وجوه النقص التي تعتري الشيء بعد اكتشافه. وهنا إيمان قوي من جانب الفيلسوف بعنصر الزمان كعامل على التطور والتقدم. وأساس الروح العلمي أن نعتقد أن ما انتهيت إليه لابد أن ينير منه بإكمال نقصه أو ربما بإظهار خطئه وإدحاضه، وأنه ليس بعد فصل الخطاب أو نهاية المطاف.

ويعود ارسطو مرة أخرى فيحشد للتدليل على صحة نظريته في الخير والسعادة أدلة مستقاة من الواقع الحي، لأن الحقائق الواقعية عنده هي في اتفاق مع التعريف الصحيح (ب6ف1) فيكرر القسمة الثلاثية للخير التي سبق أن قال بها (ب2ف10) يجعل خير النفس من هذه الخيرات كلها في القمة، ما دام أنه مطابق للرأي الذي أجمع عليه الفلاسفة السابقون عليه ومنهم أفلاطون (ف2) ومطابق كذلك للمبدأ المعروف لدى اليونان من أن فضيلة الشيء إنما تكون في تحقيق وظيفته التي من أجلها وجد كالإبصار للعين، والبتر للسيف. . . الخ (ف3) ومطابق في المقام الثالث لما يرى الناس من أن السعادة الحقة هي في حسن السيرة وفلاح المرء (ف4) والنتيجة إذن أن ما قال به أرسطو كحد للسعادة يشمل كل وجهات النظر فيها سواء اقترنت بشيء من اللذة والخيرات الأخرى الضرورية كما يرى البعض أو خلت منها (ف5) وسيأخذ بها حتما أولئك الذين يرون أن السعادة هي الفضيلة، أو فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة (ف7) كما سبق أن قرر (ب4ف14)

ثم إن أرسطو يردد رغبته الملحة في ألا يكون الخبر الأعلى محدوداً أو مشروطاً بظروف خاصة أو يكون ملكة سلبية معطلة قابلة غير فاعلة بل يريد، أن يكون فعلاً، وفعلاً حسناً

ص: 36

صادراً عن روح طيب وطبيعة حيرة وسجية فاضلة (ف8) وعنده أن مقياس الحسن في الأشياء والأفعال أن تكون محبوبة خصوصاً لدى الذين يألفونها ويحسنون تقديرها (ف9)، فإذا لم يجمع هؤلاء على الإعجاب بها ومحبتها أو اختلفوا حولها لم نكن خيرات حقة، بل كانت أشبه بخيرات العامة من الناس الجزئية المتباينة التي ترضي هوى كل على حدة، أما الخيرات الكلية العامة فهي إلى جانب كونها مطلقة من كل هوى ومشتركة بين الأخبار جميعاً تحمل في طيها لذتها وقيمتها، واللذات الأخرى ملحقة بها وثانوية بالنسبة إليها. فليس أجمل ولا أكمل ولا ألذ في نظر الرجل الفاضل من أن يأتي الأعمال الفاضلة ويرى الآخرين يفعلونها أيضاً. وهذا شر إصرار أرسطو على جعل الفضيلة ملكة راسخة ثابتة في نفس أصحابها يصدرون عنها في كل ما يفعلون أو يتذوقون من أفعال غيرهم، وإن كان لا يعدم في نهاية الأمر (ف14. . . 16) أن يقيم وزناً ثانوياً للخيرات الخارجية كجمال الخلقة وشرف الأسرة والثراء والأصدقاء، يحسبانها للسعادة يؤدي الحرمان منها كلها أو بعضها لا فساد الحياة السعيدة وتعكير صفوها

وقد يحث أفلاطون ومن قبله سقراط فيما إذا كانت سعادة الإنسان وفضيلته يمكن أن تكتسب بالتعلم والمران أو أنها فطرية موروثة يهبها الإله، ويرقب أرسطو بأن يكون مرجع السعادة إلى النوع الثاني لتصبح أقدس ما يكون في حياتنا، وان كانت لتبدو نتيجة ألا تتمادى في تقديس السعادة إلى الحد الذي ننسى معه أنها ممكنة المثال لكل منا بقليل من العناية والدرية. . . حتى لا تسلم بأنها من عمل الصدفة والاتفاق أو خصوصاً وقد عرف السعادة من قبل بأنها فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة، وهل الغرض من السياسة أن تقوم على تكوين نفوس المواطنين تكويناً يؤدي بهم إلى السعادة - وان الفاعلية عنده لتقترن بالسعادة اقتراناً لا نستطيع معه أن نقول عن الحيوان أو الطفل أنه سعيد لخلوهما بعد من هذه الفاعلية، وشرطها السعادة إذن هما تمام الفضيلة وكمال الحياة، ولا يعني أرسطو بكمال الحياة انتظار الموت للحكم بالسعادة كما يقول الشعراء، أو الخوف والإشفاق من تقلبات الدهر وآلام الشيخوخة وحظوظ الأبناء والأحفاد - فان من هذه ما يدوم حتى بعد الموت، ولو أقمنا لها وزناً في الحياة لوجب أن تكون كذلك بعد الممات (ب7ف14) كما أنه من الحمق عنده أن تقول عن الشخص بعد موته، لقد كان فلان سعيداً، ولا نملك أن تقول عنه

ص: 37

أثناء حياته: أنه سعيد، مخافة أن تتبدل بد الحال بعد، وخشية أن يظن بالسعادة أنها شيء ثابت لا يتغير، وأن حظوظ الناس من السعادة قلب لا نستقر (ب8ف2) وأصحابها مهددون بزوالها بما لا يستطيعون دفعه أو رده من القضاء (ف3) - إنما يريد ارسطو أن يكون للأفعال الفاضلة وحدها الحكم بالسعادة (ف4) ما دامت هي أكثر الأشياء الإنسانية ثباتاً وبقاء، وأنها بالتالي أشعرها إعلاء لقدر أصحابها وهم المحظوظون الحقيقيون - الذين يتحملون بعد إذ تحلوا بها صروف العصر وأحداث الزمان بما يليق بهم من التسليم والرضا مع الكرامة والأباء، بل إن هذه الأحداث مهما حلت؛ أو المصائب مهما عظمت، لن تزيد الفضيلة إلا بهاء وجلاء. . . إذ هي محك النفس العالية الكبيرة (ف7) والرجل الحكيم هو الذي يواجه تقلبات الدهر دون أن يفقد شيئاً من كرامته، بل يستفيد بها في إسعاد نفسه رغم ما فيها من شقاء (8، 9) بمعنى أن يسير على مقتضى الفضيلة الكاملة في حدود الخيرات الخارجية للازمة (10 - 11)

ولا يستطيع أرسطو أن يدع مسألة منغصات الحياة المتعلقة بالخلف دون أن يعود إلى توكيد أهميتها في فصل خاص بها فيقرر أنه إذا كان ما يحدث بنا يمسنا مساً خفيفاً أو عنيفاً؛ فطبيعي أن يكون ذلك صحيحاً بالنسبة لمن نحب - إلا أنه كما يوجد فرق بين المآسي الواقعية والقصص الدرامية الخيالية؛ كذلك يكون إحساسناً بالمصائب أقوى في الحياة منه بعد الموت. وإذا صح أن يكون للموتى إحساس بما يجد أبناؤهم من سعادة أو شقاء فلا بد أن يكون الإحساس ضعيفاً في ذاته أو بالنسبة لهم - وعلى أي حال لا يستطيع أن يغير من سعادة الموتى أنفسهم أو شقائهم. فذلك ما يجب أن يكون لهذه المصائب من اثر علينا في حياتنا.

بعد هذا يبحث أرسطو فيما إذا كانت السعادة جديرة بالمدح والثناء أو الإعجاب والاحترام، فيرى أن الممدوح لا يُمدح لذاته بل لشيء آخر يتصف به أولى بالتقدير والحمد؛ حتى لو كان هذا الحمد موجهاً للآلهة لما يقوم حينئذ من العلاقة بينهم وبين الذي يمدحونهم أو الأشياء التي يُمدحون من أجلها، فما هو كامل بذاته ولا علاقة له بغيره لا يمدح بل يكون موضع إعجاب وتقديس. وعلى هذا فمن الممكن أن نمدح الفضيلة لأنها تعلم فعل الخير، أما السعادة فنحترمها ونقدرها في ذاتها لأنها مبدأ كامل وغرض أسمي لكل ما نعمل؛ وما

ص: 38

كان كذلك وجب احترامه وتقديسه.

وفي الفصل الختامي من الكتاب الأول يمهد أرسطو لدراسة الفضيلة التي هي موضوع الكتاب الثاني كله. فمقتضى تعريفه للسعادة بوصفها فاعلية النفس بما يطابق الفضيلة يحتم عليه دراسة هذه الفضيلة. والفضيلة هي ما يجب أن يشتغل به رجل الدولة (السياسي) الحقيقي يجعل الناس فضلاء. تذكرون هنا ما سبق لأرسطو منذ الفصل الأول من ربط بين الأخلاق والسياسة، ولكم ألا تُقروه هنا على جعل مهمة السياسيين تعليم الناس الفضيلة بما لهم من سلطة القانون. على أن أرسطو حين يدرس الفضيلة الإنسانية (11ف5) وفضيلة النفس بالذات التي يجب على السياسي في نظره أن يُلمَّ بمعرفتها كما يتخصص كل امرئ في ميدان عمله (ف7).

وفي بقية هذا الفصل يعرض أرسطو إلى تقسيمه الثلاثي للنفس الإنسانية إلى نباتية وحيوانية وعاقلة كما وردت في كتابه (في النفس) ' ولما كان التقسيم الأفلاطوني لملكات النفس إلى شهوية وعضيية وعقلة. وتشبيهه لها بالعربة ذات الجوادين (الشهوة والإرادة) يقودها (العقل) لا ينحرف بها أحد الخيل إلى يمين أو شمال (في محاور فيدروس الجمهورية وغيرهما). . . لما كان هذا التقسيم الأفلاطوني أدنى إلى بيان مهمة الأخلاق وضرورة تغليب العقل على الإرادة والشهوة - فإن أرسطو - يخلطه بتقسيمه خلطاً بيناً. ولن يعسر عليك أن تدرس النظريتين في مصادرهما وفي بعض الكتب التي عرضت لهما، ثم أن تجمع بينهما لكي تقف على فكرة أرسطو.

ولا غنى لك - وقد فزعت من الكتاب الأول - أن تكمل معرفتك بنظرية الخير والسعادة الأرسطية بتصفح الكتاب الثاني في الفضيلة كما براها أرسطو، وبقراءة الكتاب العاشر والأخير من المجلد الثاني للوقوف على فكرة السعادة كما يجب أن يفهمها الفيلسوف.

كمال دسوقي

ص: 39

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

هل تقدم الأدب في ربع القرن الأخير:

أشرت في الأسبوع الماضي إلى المناظرة التي جرت في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية، وكان موضوعها (تقدم الأدب تقدماً مرضياً في ربع القرن الأخير) أيد الرأي الدكتور أحمد أمين بك ومعالي الدكتور طه حسين بك، وعارضه الدكتور محمد عوض محمد بك، وكان يدير المناظرة ويقوم المتحدثين الدكتور محمد صلاح بك وزير الخارجية. ولا شك أن حرص الوزيرين على حضور المناظرة - وكان ذلك اليوم الثاني لتأليف الوزارة - كان مثلا رائعاً للشعور بالتبعية الأدبية. ولك أن تعتبر اشتراك وزيرين في مناظرة أدبية عامة دليلا مؤيداً للرأي وهو تقدم الأدب في هذه الفترة.

بدأ الدكتور أحمد أمين بك فعرض الموضوع عرضاً حسناً وفصله تفصيلا شافيا، استعرض أنواع الإنتاج الأدبي وقارن كلا منها بما كان عليه قبل هذه الفترة وما صار إليه، فالمقالة كانت إما مترجمة بتصرف أو بغير تصرف، أو مقالة إنشائية يغلب عليها البديع اللفظي، وبعض المقالات كانت على حالة شبة بدائية، وحتى الكتاب المعاصرون كانوا لم ينضجوا بعد ولو قارنا بين ما كانوا يكتبونه وبين كتابتهم الحالية وجدناهم خطوا خطوات واسعة نحو التقدم؛ والآن قد أصبحت المقالة ناضجة، غرزت معانيها وتدفق أسلوبها.

والقصة: لم تكن موجودة، شاهدنا تمثليات شوقي وقصص تيمور والحكيم وناشئة الأدب. وقد كانت القصص كلها مترجمة فصار لنا قصة مصرية تتعرض لمشاكلنا وتتحدث عما يجري في حياتنا.

وأما الشعر فإنه يقال إنه انحط ولم نعد نرى مثل شوقي وحافظ ومطران، ولكن الحق أن شعر أولئك الشعراء الراحلين على جودته ووفاه بأغراضه في عصره أصبح غير ملائم لهذا الزمن. وقد جد بعدهم شعراء لم يبلغوا بالشعر ما يرجى ولكنه ساروا على نهج آخر، فلا مديح ولا هجاء، يتغنون للعواطف لا للمعدة، وقد التزموا وحدة القصيدة، وتحرر بعضهم من التزام القافية؛ فإذا لم يكن من الوليد ما يرضي فحسبنا أن نودع شيخاً ونستقبل وليدا.

ص: 40

وأما الدراسة الأدبية فهي وليدة الجامعة المصرية، كانوا يترجمون للشعراء والأدباء، كما يترجم (الأغاني) وغيره، ثم صارت الدراسة تحليلية نقدية فيها جانب من العلم وجانب من الأدب.

وأما الأغاني، وهي نوع من الأدب، فأذكر أني كنت أهذب إلى تياترو ألف ليلة لسماع توحيدة، وكنت أتخفى إذ كنت طالباً معمماً من طلبة القضاء الشرعي، فكنت أسمع منها كما كنا نشمع من غيرها أصواتا جميلة ولكن لا معنى للأغنيات نفسها، لم يكن فيها شيء كالذي نسمعه الآن من أم كلثوم وعبد الوهاب ولا أبالغ إذا قلت إن الأغاني كانت كالموسيقى الصامتة.

هذه هي مظاهر التقدم في الأدب، أما أسباب هذا التقدم فكثيرة، أهمها أن الأدب ظل الحياة الاجتماعية، كما يقول تين، وقد تقدمت الحياة الاجتماعية في الفترة الأخيرة تقدماً ظاهراً فمن الطبيعي أن يتقدم ظلها وهو الأدب، ومن هذه الأسباب أن أدبنا يعتمد على الأدب العربي والأدب الغربي، وقد أكثرنا من نشر كتب الأول وزاد الاطلاع عليها، كما ازداد الاتصال بالآداب الغربية، ولذلك زادت ثقافة الأديب، ومما زادت هذه الثقافة ونماها علم النفس وعلم الاجتماع.

وبعد ذلك وقف الدكتور صلاح الدين يقدم الدكتور عوض فعبر عن إشفاقه عليه لوقوعه بين الأديبين الكبيرين المؤيدين، وقال أنه يذكر العبارة المأثورة عن المجمع اللغوي (شاطر ومشطور وبينهما طازج) وكان جديراً بصلاح الدين بك أن يذكر أن هذه العبارة مما تندرت به بعض المجلات الهزلية على المجمع وليست مأثورة عنه.

وقف الدكتور عوض فقال: يظهر أن منظمي المناظرة بحثوا عمن يستطيع أن يقف معارضاً أمام هذين الفطحلين فلم يجدوا كبشاً غيري فقدموني فداء. . . وإذا كان (السندوتش) شاطرا ومشطورا بينهما طازج فإن بينهما الآن قطعة من الجبن ثم دخل في موضوع المناظرة فرد على بعض النقط، قال: إن المتحدث الأول أتى بالشعر في الآخر مع أن الشعر له المكان الأول في الأدب العربي، وأشاد بشعر شوقي وأشار إلى بعض القصائد مما لم يقل أحد مثله من بعده، وحبذ التزام الوزن والقافية، ومما قاله أن أدبنا الحديث أخذ ينمو منذ عصر إسماعيل ثم وقف في العصر الحاضر. وأخيراً قال: إن المقال شيء قصير

ص: 41

ليس فيه مجال للطاقة الأدبية، وهو مع ذلك لم يتقدم، اذكروا كاتباً ممن تقرؤون لهم الآن وتعجبون بهم: هل هذا الكاتب من إنتاج الزمن الماضي أو الحاضر، فالعبرة بالمنتجين لا بالإنتاج.

وهذه تأتي مناظرة في هذا الموسم أرى فيها الدكتور عوض بك في الجانب الضعيف مضحيا بنفسه. . . وقد يستحق الثناء على هذه (التضحية) ولكني ألاحظ أنه لا يبذل مجهوداً يذكر في تقوية هذا الجانب، بل هو يزيده ضعفاً بالتفكه والدعابة في غير صالح جانبه، فيبدو ظريفاً كما يبدو موضوعه ضعيفا. وأظن أن مما يحفظ التوازن في المناظرات أن يتوخي في اختيار المعارض أن يكون لديه باعث المحامي الذي يحرص على أن يظهر كفايته في القضية التي يتصدى للدفاع فيها عن جانب يحتاج إلى مجهود.

ثم نهض الدكتور طه حسين بك، وكان يبدو متعبا، وكان هذا طبيعياً لعنائه فيما لا بس ابتداء عهد الوزارة في ذلك اليوم، ولكنه مع ذلك تحدث حديثاً طيباً ممتعاً كعادته، قال إن وجود عوض نفسه ينقض ما قاله، لأنه حديث وليس ممن أنضجهم العصر الأول، فهل هو ينكر نفسه؟ إذا كان يفعل فنحن لا نوافق لأننا نقر له ما يعجبنا؛ وقد مضى الوقت الذي كان يؤرخ بالحوادث والمهمات وإن شوقي بعد عودته من أسبانيا واستلهامه صور جديدة جعل الشعر العربي لغة للتمثيل، وهذا من ثمرات ربع القرن الأخير. إننا نجد في هذه الفترة جديداً لم يكن، نجد تيمور وتوفيق الحكيم، ونجد كثيراً من الأدباء المعاصرين الذين يشغلون حياتنا الأدبية وهم من إنتاج الفترة الأخيرة. وقد نضجنا حقاً كما قال الدكتور أحمد أمين وتطورت أنواع إنتاجنا. كانت حياتنا محدودة الآفاق مفقودة الحرية. ولا أقصد الحرية الخارجية عن الإرادة من ضغط ورقابة وتقييد، بل أقصد حرية العقل حين تتسع آفاقه فلا يخشى من نفسه حين يفكر فيما يريد وقد شذ عن مقتضيات البيئة أمثال البارودي وشوقي وحافظ

ثم قال الدكتور طه: هذا كله شيء والرضا عن الأدب الحالي شيء آخر، فالحياة الأدبية أخص ما يميزها أنها لا ترضى عن نفسها وليس أخطر على الأدب والفن من الرضا، فإذا نظرنا إلى الآماد

التي أمامنا لا ترضى عن أدبنا، ولكني أرضى لأننا في الطريق وإن كنت لا أقنع بالأدب

ص: 42

الحاضر.

التقدم في الفنون الجميلة:

وكانت مناظرة هذا الأسبوع بالقاعة الشرقية أيضاً موضوعها (ما حققته مصر من التقدم في الفنون الجميلة) واشترك فيها محمد حسن بك وسليمان نجيب بك والدكتور محمود الحفني والأستاذ عبد الرحمن صدقي. ولم تكن مناظرة بالمعنى المعروف بل كانت حديثاً موزعاً، إذ اختص كل منهم بالكلام على التقدم في ناحية من نواحي الفنون الجميلة. فتكلم محمد حسن بك عن التصوير والنحت، قال إن مصر أحرزت تقدماً محسوساً في ربع القرن الماضي في هذه الناحية، فلم يكن يهتم بها إلا القليل، وكانت مادة الرسم ثانوية في برامج التعليم فأصبحت أساسية، وصار في المعارض داخل البلاد وخارجها، وسما الإحساس الفني لدى الجمهور فاقبل على ارتياد المعارض الفنية، وأشار إلى المناصب الفنية، التي كان يشغلها الأجانب كالعمداء والأستاذ فاصبح هؤلاء مصريين.

وتحدث سليمان نجيب بك عن التمثيل والسينما أو كان المفروض أن يتحدث عنهما، ولكنه شغل الوقت بالحديث عن التمثيل في عهده الأول أيام الشيخ سلامه حجازي وجورج أبيض حتى وصل إلى مسرح رمسيس ونجيب الريحاني، وكل ما قاله عن التمثيل في ربع القرن الأخير أنه تقدم في فن الإخراج.

وتناول الدكتور الحفني الموسيقى فقارن بين حاليها في ربع

القرن الأخير وما قبله، فقال أنه لك يكن هناك فن موسيقي

يختص به موسيقيون محترمون، فكنت تقرأ على دكا في

شارع محمد علي (دخاخني وموسيقى) وعلى دكان آخر

ببولاق (فطاطرى وعواد) وكان أكثر الموسيقيين متشكعين،

ولم يشذ إلا بعض الأفذاذ. وكانت الموسيقى تذكر مقرونة

باللهو والفساد فأين أمس من اليوم؟ لقد صار بالبلاد معاهد

ص: 43

ومدارس خصصت للموسيقى ودراسة علومها وفنونها وآلات

عزفها، واعترفت الدولة بمكانة الموسيقى، وأصبحت من مواد

الدراسة في مختلف المدارس، وصار لها مراقبة عامة في

وزارة المعارف، وتعددت المصنفات والمجلات الموسيقية،

وبين الدكتور الحفني آثار الأفلام والتسجيل الصوتي والإذاعة

في نشر الموسيقى وتيسيرها لكافة الناس.

ثم جاء دور الأستاذ عبد الرحمن صدقي فقال أنه يتكلم على الفنون باعتباره فرداً من الجمهور يقول كلمته في مواجهة أصحاب الفنون. وانصبت فكرته على أن تقدم الفنون في الكم أكثر من الكيف، وذلك أنه لا يوجد في هذه الفترة أستاذة في الفنون لهم خصائص بارزة كما كان في العهد الماضي، وأن ذلك يرجع إلى أن الفنانين يتجهون إلى الجمهور بحكم انتشار الروح الديمقراطي، فلا نراهم يحرصون على الإتقان الفني المثالي بمقدار ما يحرصون على إرضاء أذواق الجماهير. ولا علاج لهذه الحال إلا بما يرجى من تقدم التعليم وانتشار الثقافة حتى يرتفع المستوى الذوقي لدى الجمهور.

وفيما عدا كلمة الأستاذ عبد الرحمن صدقي تجد أن حضرات المتحدثين وجهوا كل همهم إلى الشكليات ولم يبينوا جوهر التقدم في الفنون، وإن كان الدكتور الحفني ألمع إلى شيء من ذلك في الموسيقى.

جمعية مصر - الباكستان:

يفكر بعض الشخصيات المصرية والباكستانية بالقاهرة في إنشاء جمعية (مصر - الباكستان) تعزيزاً وتوطيداً لروابط الأخوة بين البلدين، وتكون مركزاً لالتقاء ألوان الثقافة والتعاون العلمي بينهما، ومن الشخصيات المصرية البارزة التي رحبت بالفكرة محمد حسن العشماوي باشا وصالح حرب باشا ومحمد علي علوبة باشا والأستاذ جلال حسين. والفكرة جديرة بالترحيب ففي مصر جمعيات مماثلة شكلا كرابطة (مصر - أوربا) وكان بها في

ص: 44

أيام الحرب الاتحاد المصري الإنجليزي. ولا شك أن أغراض هذه الجمعيات حقيقة بالاهتمام بها والاتجاه إليها، بصرف النظر عما لابس الاتحاد المصري الإنجليزي من اعتبارات لم تكن في صالح الجانب المصري.

ومهما يكن من شيء فإن الروابط بين مصر والباكستان باعتبارهما أمتين إسلاميتين كبيرتين أقوى من صلات مصر بأمم الغرب، وهذه حقيقة ثابتة في النفوس ولكنها تحتاج إلى تعهد وتنظيم، ويرجى من الجمعية المنشورة أن تكون أداة لذلك وأن تتخذ من النشاط الثقافي دعامة التوطيد والتدعيم.

ويرى أصحاب الفكرة - وهم على حق فيما يرون - أن الهيئات الرسمية مصرية وباكستانية ينبغي لها أن ترعى هذه الجمعية وتعينها على أهدافها ومن الإنصاف أن نذكر في هذا الصدد الجهود الموفقة التي تبذلها السفارة الباكستانية ومكتب صحافة الباكستان بالقاهرة في النواحي الاجتماعية والثقافية، وأقد بذلك الاجتماعات والاحتفالات التي تقيمها في المناسبات الإسلامية والتي يتجلى فيها شعور المودة ويشاد فيها بالمثل الإسلامية التي تجمع الشمل وتوحي بالتعاون لتحقيق الغايات. ويؤسفني أن اذكر تواني وزارة المعارف والأزهر في الاستجابة للرغبات الباكستانية التي تقدم بها سعاد علي بك باشا سفير مصر في باكستان إلى الحكومة المصرية، إذ كتب منذ عام تقريراً ذكر فيه إقبال الباكستانيين على تعلم اللغة العربية والثقافة الإسلامية وأنهم يعدون العربية لغة ضرورية لفهم القرآن الكريم والأحاديث النبوية وللتخاطب مع الأمم الإسلامية والعربية. واقترح في تقريره وسائل تحقيق ذلك وهي تنحصر في العون العلمي من وزارة المعارف والأزهر. وقد قضت هذه المقترحات عاماً من عمرها في الكهف. . . وأرجو ألا يطول بها السبات

عباس خضر

ص: 45

‌ديوان الأمير تميم الفاطمي

للأستاذ محمد حسن الأعظمي

تقوم دار الكتب المصرية الملكية الآنبطبع ديوان الأمير تميم ابن المعز لدين الله الفاطمي بأني القاهرة ومشيد الأزهر. وهذا الديوان كنز من كنوز الأدب الغالية استطعت أن أستخرجه أولاً من مكتبة الفاطميين المحفوظة في الهند لدى خلفائهم وورثتهم وهم أحفاد أولئك الذين حملوا تراثا وفيرا من العلم والأدب إلى هذه الأقطار بعد انهيار الدولة الفاطمية في مصر وتغلب الدولة الأيوبية على البقية الباقية منها. وقد عاش هذا التراث بين جبال اليمن عدة قرون، ثم رأى هؤلاء الحافظون لتركة الفاطميين أن يغتربوا بها في أرض لا يعرف أهلها العربية. وذلك لكي يبقى هذا الكنز بعيداً عن متناول الأيدي، كجهول القيمة والقدر حتى لا يفطن إليه أحد فيصيبه ما أصاب غيره من الكنوز التي تبددت بين تلاعب الأيدي وعبث الرواة وتحريف الناقلين. وقد دفعني شغفي بالبحث وحبي للاطلاع إلى أن أجوب معاهد الهند ومكاتبهم الموزعة بين طوائفها المختلفة. ولم يكن يعنيني من ذلك كله سوى محاولة العثور على وثائق تاريخية أو أدبية يفيد منها المعنيون بالدراسات الإسلامية. وكانت مملكة الفاطميين الصغيرة في الهند إحدى المناطق التي زرتها واختلفت إليها وأمكنني أن أستنسخ منها عدداً من المخطوطات الهامة والكتب العلمية الأثرية مما صنعه ملوك الفاطميين ووزراء الدعاية في دولتهم؛ فمن منثورها محاضرات المؤيد الشيرازي الثمانمائة التي ألقاها بالأزهر منذ ألف عام وهي نماذج رائعة في الأدب الكلامي وبلاغة النثر العربي والحوار المنطقي والفلسفي ومن منظومها ديوان هذا الأمير الذي يتكنى باسمه المعز لدين الله إذ يقال له أبو تميم وكان لهذا العاهل الفاطمي الأول في مصر ابنان أكبرهما تسنم دولة الشعر، وكان أصغرهما ولي عهد أبيه وهو العزيز بالله.

وقد أتيح لي أن أراجع ديوان تميم هذا على سبع نسخ مخطوطة أخرى. ثم كان لزاما على أن أقول بشرح وتعليق المصطلحات والألفاظ الغريبة وأن أضع للكتاب مقدمة تكشف النقاب عن تسلسل هذه الدولة الفاطمية إلى أن شكل حكومتها في القاهرة.

أما الديوان نفسه فهو قبل كل شيء صورة من الأدب المصري. فيه الخصائص المصرية بقدر ما فيه من الخصائص العربية فهو شاعر مصري صميم، وإن لم يكن مصري المولد

ص: 46

والنشأة والتربي.

يرى المتتبع هذا الديوان أسماء لمواطن وأوصافها لجهات معربة بالقاهرة وضواحيها حتى اليوم، كما يكشف هذا الكتاب عن الحالة الأدبية في العصر الفاطمي وكذلك المذاهب الإسلامية والحال المذهبي في ذلك العهد. والاحتفاظ بهذا الديوان ضروري للتاريخ والأدب المصريين ولاسيما إذا عرفنا أن العصر الفاطمي قد ذهب آثاره وانطوى سجل التاريخ على مخلفاته. فلم يفتح إلا إلى منها. فقد تقرأ في المصادر التاريخية أن مائة من الشعراء هجوا أو رثوا أو مدحوا أحد الخلفاء الفاطميين. ثم لا تجد هؤلاء الشعراء ولا أشعارهم فقد أحرقت مكتبات وضاع بعضها بين: الحوادث وأعاصير الانقلاب السياسي. فكل ورقة نعثر عليها تعد ذات قيمة غالية بالنسبة لموضوع الأدب المصري بالذات. هو الذي دفعني لتقديم الكتاب إلى الحكومة المصرية بمناسبة العيد الألفي للقاهرة والأزهر.

وقد عينت الحكومة منذ اثني عشر عاما لجنة من أعلام الأدب في مصر لمراجعة هذا الديوان. ثم انتهى الأمر بإقرار طبعة ونشره وتولت دار الكتب القيام بذلك. ولم يحل دون إتمام الطبع وإنجازه سوى أزمة الورق أثناء الحرب الأخيرة. وكانت تلك اللجنة الموقرة مشكلة من الدكتور عبد الوهاب عزام بك والدكتور طه حسين بك والأستاذ أحمد أمين بك.

ولما عدت إلى القاهرة لتشكل فرع لمؤتمر العالم الإسلامي الدائم رأيت أن أضيف إلى عمل لخدمة الإسلام جهداً أدبياً آخر وهو أن أذكر إدارة دار الكتب بمعاودة العمل على نشر ديوان تمم. وقد أبدت دار الكتب نشاطاً ملحوظاً في استئناف طبع الديوان وقطعت في ذلك شوطاً كبيراً. ولعل في هذا ما يبعث الطمأنينة إلى من ينتظرون صدور هذا الكتاب. سواء أكانوا من الحريصين على ترقب كل جديد خمن الأدب المصري. أم كانوا من طلبة كلية الآداب باعتباره مادة من موضوع الأدب المصري ومثالاً من إنتاج القومية المصرية. فإني أول من يرى في هذا الديوان ظاهرة جديرة بالنظر وهي أن تميم مع كونه نشأ في بلاد المغرب وتلقى ثقافته الأولى في مهد آبائه وأجداده نراه ما يكاد يحل بمصر حتى تصبح وطنه وأنشودة آماله وأغنية أحلامه وقبلة تفكيره. فكأنه قد نسي كل شيء في وجوده ليذكر شيئاً واحداً هو أنه في مصر التي تعيش بها ويترجم عن حبه لها وشعوره بجمال الحياة فيها.

ص: 47

وإلى أن يجد القارئ هذا الديوان منشوراً، فإني أضع بين يديه هذه النماذج دون تعليق أو شرح استكمالاً لهذه العجالة القصيرة التي قدمتها للتعريف بتميم.

قال يرثى والده الخليفة المعز لدين الله الفاطمي:

كيف لا تعدم الجسوم القلوبا

وترى نضرة الوجوه شحوبا

فقدوا بعدك القلوب اللواتي

يغتدي واجب فشقوا الجيوبا

وا معزاه وا معزاه حتى

يغتدي الدمع بالدماء خضيبا

فليذق غيري الحياة فإني

لا أرى للحياة بعدك طيبا

وقال يذم الدهر:

أفنيت دهرك تتقي

فيه الحوادث والمصائب

ولو اتقيت معاصي الرحمن فيما أنت راكب

لأمنت من نار الجحيم وفي الحياة من

النوائب

إن لم تراقب من له

حكم عليك قمن تراقب

وقال يفتخر على ابني العباس:

أقروا لنا يا آل عباس بالعلا

فلستم لها يا آل عباس أكسبا

سبقناكم للدين والهجرة التي

تأخر عنها جدكم وتحجبا

وكنتم بني عم النبي محمد

وكنا بنيه وهو كان لنا أبا

وليس بنو أعمامه في دنوهم

كمثل بنيه خلطة وتنسبا

نباجدكم عن نصره يوم بعثه

وجد على جدنا عنه مانبا

وقال في الزهد:

يا عجبا للناس كيف اغتدوا

في غفلة عما وراء الممات

لو حاسبوا أنفسهم لم يكن

لهم على إحدى المعاصي ثبات

من شك في الله فذاك الذي

أصيب في تمييزه بالشتات

يحييهم بعد البلى مثل ما

أخرجهم من عدم للحياة

وقال يمدح الخليفة المعز لدين الله ويهنئه في يوم عيد:

ألا كل يوم من زمانك عيد

وهل فوق إشراق الضحاء مزيد

ص: 48

ليهنك أن الله فوقك مالك

ودونك كل المالكين عبيد

وقد شرد الله الأعادي والضنى

وأعقب نار الحادثان خمود

وللناس آمال ضروب وأنفس

تسوق إلى أوطارهم وتقود

وليس لنا إلا عليك معول

وليس لنا إلا إليك محيد

وقال يمدح الإمام العزيز بالله وهي أول قصيدة قالها فيه عام 365هـ.

ما السيف أمضى منه في عزمه

في غمده إذ سل من غمد

يا أيها البدر الذي جده

محمد أكرم من جد

ويا عزيزاً هو عز الهدى

والدين والدنيا بلا جحد

يا ليت خدي لك أرض فما

آنف أن تمشي على خدي

وقال أيضاً:

دعا دمعهن فراق فجادا

وأعجلهن المتنائي فزادا

فلم أرد دمعاً كأدماعهن

يهيض الحشى ويذيب الفؤادا

ولما تيقن أن الفراق

يزود عشاقهن البعادا

تأولن أن لباس الجداد

أحق بمن صير الحزن زادا

فنشرن ما قد طوت خمرهن

ليلبسن شعر النواصي حدادا

ولولا مراعاة عين الرقيب

لبسن الثياب جهارا سوادا

محمد حسن الأعظمي

عميد كلية اللغة العربي بالباكستان

ص: 49

‌الققص

القبلة

بقلم الأديب أحمد بدران

(قصة ملخصة عن أنطوان تشيكوف)

في الساعة الثانية من مساء العشرين من مايو، كانت ست فرق من المدفعية في طريقها إلى معسكراتها، فتوقفت لقضاء الليل في قرية (مستشكو) وبينما كان بعض الضباط منشغلين ببنادقهم وآخرون قد تفرقوا في الميدان يستمعون لأوامر القيادة العليا. أقبل فارس بملابس مدنية من وراء الكنيسة واقترب من بعض الضباط وقال وهو يرفع قبعته (إن صاحب السعادة الجنرال فون رابك المقيم هنا يسره أن يدعوكم لتناول الشاي

) ثم رفع قبعته مرة ثانية ومضى وراء الكنيسة.

وزمجر بعض الضباط (عندما يرغب المرء أن يأوي إلى فراشه يأتي هذا الفون رابك ودعوته. إننا نعرف معنى ذلك) وتذكر كل ضابط من الفرق الست حادثة وقعت لهم في العام الماضي أثناء المناورات عندما دعوا هم وضباط إحدى فرق القوساق لتناول الشاي وكيف قابلهم الكونت بحفاوة فائقة وأصر على أن يقضوا الليل في منزله. وكان هذا منه جميلا. ولم يكونوا يرغبون في أكثر من ذلك. لولا أن الكونت كان شديد الاغتباط بصحبة هؤلاء الشبان فظل حتى مطلع الصبح وهو يثقل عليهم بحوادث ماضيه السعيد ويقودهم من حجرة لأخرى ليريهم صوره الثمينة ولوحاته النادرة، ويقرأ عليهم خطابات تقلها من مشاهير الرجال. وكان الضباط المنهكين يشاهدون ويستمعون وهم في شوق إلى مضاجعهم. وظلوا يخفون تثاؤبهم وراء أكفهم وعندما تركهم مضيفهم في النهاية كان الوقت متأخراً جداً للنوم.

هل يختلف فون رابك عن ذلك؟ على أي حال لم يكن بد أن يغتسل الضباط ويرتدوا ملابسهم ويذهبوا إلى منزل الجنرال وكان في المقدمة لوبنكو الملازم وهو طويل القامة عريض المنكبين حليق الشارب في الخامسة والعشرين رغم أنه يبدو أصغر من ذلك له شهرة في كل السلاح أنه يحس وجود المرأة في أي مكان عن بعد، وتلفت حوله ثم قال

ص: 50

(نعم إني واثق أن هناك بعض النساء، إنني أحس ذلك بالسليقة) وعلى باب المنزل قابل فون رابك الضباط بنفسه وكان رجلا وجيهاً في الستين يرتدي ملابس مدنية، وقال وهو يصافح ضيوفه أنه يسره ويسعده أن يلقاهم وسألهم المعذرة إذ لهم يدعهم لقضاء الليل إذ حضرت أختاه وأولاهما وأخواه وبعض الجيران ولذا فليس هناك حجرة واحدة خالية، وقد لاحظ الضباط أن الرجل ليس شديد الاغتباط بوجودهم ويبدو أنه ما دعاهم إلا مراعاة لآداب اللياقة. وفي حجرة الاستقبال قابلتهم سيدة طويلة بوجه بيضاوي وحواجب كثيفة تشبه (الإمبراطورة أوجيني!) ورحبت بهم بابتسامة أنيقة. ولما دخل الضباط حجرة المائدة وجدوا مجموعة من الرجال والسيدات مختلفي الأعمار جالسين في ناحية من المائدة يتناولون الشاي. ومن خلف مقاعدهم كانت مجموعة من الرجال تحيطهم هالة من دخان السجاير ومن وراء هذه المجموعة كانت تبدو خلال الباب غرفة أخرى ناصعة الإضاءة مؤثثة بأثاث أزرق فاتح، وقال الجنرال بصوت مرتفع متكلفاً المرح (أيها السادة إنكم من الكثرة بحيث يستحيل أن أتولى تقديمكم فلتقدموا أنفسكم بطريقة عائلية). وانحنى الضباط وبعضهم يتكلف الرزانة والبعض يغتصب ابتسامته وكلهم يشعر بعدم الراحة، وجلسوا إلى المائدة. وكان أشدهم قلقاً الضابط ريابومتش وهو رجل قمحي بوجه يشبه وجه القط وشواربه مهدِّلة ويضع على عينيه نظارات، وكان لا يستطيع أن يركز اهتمامه في شيء معين. فقد كانت الوجوه والملابس وزجاجات الخمر كلها تختلط في إحساس واحد مضطرب كأنه محاضر يواجه المستمعين لأول مرة، وكان يرى الأشياء أمام عينيه لكن لا يدرك منها شيئاً (تلك حالة تعرف في الفسيولوجيا باسم العمى النفساني!). ثم عاد إلى نفسه وأخذ ينظر فيما حوله. ولما كان خجولاً ولم يعتد ارتياد المجتمعات فقد أدهشته جرأة معارفه الجدد، فون رابك وزوجه وسيدتين كبيرتين وفتاة في ثوب بنفسجي وشاب في بذلة حمراء تبين أنه ابن رابك الأكبر، هؤلاء وزعوا أنفسهم بمهارة بين المدعوين وبدءوا نقاشاً لا يستطيع الضيوف إلا أن يشتركوا فيه، بينا تراقب عيونهم الأطباق والأكواب ليروا أن الضيوف يأكلون ويشربون، وأزداد ربايوفتش تقديراً لهذه الأسرة.

وبعد تناول الشاي انتقل الضباط إلى حجرة الجلوس، ولم تخب فراسة الملازم لوبنكو فقد كان هناك الكثير من الفتيات والسيدات والشابات في الحجرة، وكان الملازم الجسور يقف

ص: 51

بجانب فتاة في رداء أسود منحنياً نحوها وهو يبتسم ويحرك كتفه في رشاقة، ولا بد أنه كان يتحدث إليها في تفاهة مسلية لاشك فإن الفتاة الجميلة كانت تنظر إلى وجهه المستدير وتجيب دائماً (حقيقة!؟) وبدأ بعضهم يدق على البيانو وكانوا في مايو والجو جميل ومنظر أشجار الخور والورد وأزهار البنفسج يبدو رائعا.

ودعا فون رابك فتاة طويلة نحيلة على الرقص ودار دورتين أو ثلاثا في الحجرة فبدأ الرقص وتقدم لوبنكو على الفتاة ذات الثوب البنفسجي وقادها خلال الغرفة. ووقف ريابوفتش بجانب الباب مع الرجال الذين لا يرقصون، يراقب، فجاء فون رابك الابن ودعا اثنين من الواقفين إلى لعب البلياردو، ويتبعه بعض الضباط ولما كان ريابوفتش بحاجة إلى شيء يعمله وكان يرغب أن يشترك بأي طريقة في المهرج العام فقد ذهب ورائهم. ومروا من حجرة إلى أخرى إلى أن دخلوا في النهاية قاعة البلياردو وبدأ اللعب ووقف ريابوفتش يراقب اللعب وأنه لم يلعب في حياته كما لم يرقص، ولم يعره اللاعبون اهتماماً، فقط عند ما يصطدم به أحدهم يقول له بأدب (معذرة) ولما انتهت الجولة الأولى بدا له بقاؤه غير مرغوب فيه فغادر القاعة.

وفي منتصف الطريق في عودته لاحظ أنه ضل السبيل فقد وجد نفسه في غرفة معتمة لا يذكر أنه مر بها في قدومه فمضى عائداً ثم انحرف إلى اليمين وفتح أول باب صادفه فوجد نفسه في غرفة مظلمة وإن كان يبدو من خلال بابها حجرة أخرى وضئية وكانت النافذة مفتوحة تطل منها أفرع أشجار الحور ويفوح فيها عبق الورد والبنفسج، ووقف رباموفتش مرتبكا وفي هذه اللحظة سمع وقع أقدام تقترب بسرعة ثم حفيف ثوب وصوت امرأة ينبض بالعاطفة فهمس (أخيراً) ثم أحس بذراعين بيضتين جميلتين تحيطان عنقه، ووجنة دافئة على خده ثم صوت قبلة، لكن في الحال صرخت المرأة صرخة مكتومة وبدت لريانوفتش أنها فزعت ولقد أوشك هو أن يصيح لكنه مضى مسرعاً ولما عاد إلى قاعة الجلوس كان قلبه يدق بسرعة ويداه ترتجفان حتى أنه أخفاهما وراء ظهره وتملكه أول الأمر شعور بالخجل والعار وبدا له أن كل واحد في الحجرة لابد يعلم أن امرأة قبلته وعانقته منذ لحظة ونظر حوله لكن لم يجد أحداً يلتفت إليه وكان كل من حوله يرقص ويغني؛ لذا لذ له أن يستعرض ما مر به، كان عنقه الذي أحاطت به الذراعين الناعمتين

ص: 52

يبدو كأنه بل بزيت وعلى خده بجانب أذنه اليسرى حيث قبلته الفاتنة المجهولة شعور جميل بالبرودة كتبخر النعناع؛ وقد ملئ من قمة رأسه إلى أخمص قدمه بشعور غريب أخذ ينمو ويزداد كان يريد أن يرقص ويتكلم ويجري في الحديقة ويضحك بصوت عال، ونسى شعوره بالنقص ولما مرت به زوجة فون رابك تلمحها ابتسامة عريضة جعلتها تقف وتنظر إليه في دهشة فقال لها وهو يثبت نظارته، إني أحب منزلكم حقيقة!) فابتسمت السيدة وقالت إن المنزل كان لوالدها ثم مضت تسأله إن كان والداه على قيد الحياة، وكم مضى عليه في الخدمة وما إلى ذلك؛ ولما مضت شعر ريانوفتش بالسرور وبأنه محاط بقوم كرام وابتسم، وفي العشاء أكل وشرب كل ما وضع أمامه، ولم يسمع شيئاً مما كان يقال بل كان يفكر دائماً في مغادرته المدينة، لا ريب أن فتاة أو سيدة قد واعدت شخصاً في الحجرة المظلمة، ولما كانت مضطربة لأنها أطالت الانتظار فإنها أخطأت وحسبته فارسها خاصة وإنه وقف مرتبكاً لدى دخوله كأنما ينتظر شخصاً. على هذا الأساس فسر ريانوفتش القبلة التي نالها، لكن من تكون هي! وأخذ يدقق في ملامح الموجودات لابد أنها شابة فالعجائز لا يواعدن الرجال في الظلام!) ووقع نظره على الفتاة ذات الثوب البنفسجي بدت له جد جذابة لها كتفان وذراعان جميلان ووجه زكي وصوت جميل وقرر ريانوفتش أنها هي ولا يمكن أن تكون سواها، لكنه وجد ابتسامتها متكلفة وكانت تحك أنفها الطويل الذي يجعلها تبدو كبيرة السن، فنقل بصره إلى الفتاة ذات الثوب الأسود وكانت أصغر سناً وألذ بساطة ولها خدود جميلة وأراد أن تكون هي لكنه وجد ملامحها مستوية، ونقل اهتمامه إلى جارتهم ثم قال. لا يستطيع المرء أن يعرف! فلو أخذنا الذارعين والكتفين من فتاة الثوب البنفسجي والوجنات من هذه الفتاة والعينين من تلك التي تجلس إلى شمال لوبتكو. . . وفي خياله وضع نموذجاً للفتاة التي قبلته.

وبعد العشاء، وقد امتلأ لبيوت بالطعام والشراب. شكروا مضيفهم وأستاذنوا في العودة وقال الجنرال بحرارة هذه المرة (لقد سعدت بلقياكم يا سادة (الضيوف الراحلين يعاملون بكرم أكثر من العاديين!) وارجوا أن تعيدوا الزيارة في رجوعكم وخرج الضباط وكل منهم يفكر هل يملك يوماً مثل هذا البيت وتكون له عائلة وحديقة ويباح له أن يدعو ضيوفاً ولو من قبيل المجاملة وتجعلهم يخرجون راضين مغتبطين، ولما وصلوا إلى خيامهم خلع ريانوفتش

ص: 53

ملابسه بسرعة وذهب إلى سريره وأخذ يفكر وهو ينظر إلى السقف غني لأعجب من تكون! كان شعور الزيت مازال على عنقه والإحساس بالرطوبة حول فمه وخيال فتاة، لها كتفان ذات الرداء البنفسجي ووجنات ذات الثوب الأسود وخدها وملابس تلك ومجوهراتها تلوح أبداً في مخيلته وحين يغمض عينيه يسمع الخطوات المسرعة وحفيف الثوب وصوت اقبله وشعور عميق بالسرور يتملكه لم يفارقه حتى وهو نائم.

وفي الصباح غادرت الفرقة القرية، ولما مروا بمنزل فون رابك نظر يابوفتش إلى المنزل وكانت الستائر مسدلة فلا ريب أنهم ما زالوا نائمين. وهي أيضاً نائمة. . . وتخيلها على فراشها وغرفة نومها ذات النافذة المفتوحة تطل منها غضون الحور وهواء الصبح المنعش ومنظر الورود والبنفسج، والسرير، وكرسي إلى جانبه على ثوبها الذي كانت ترتديه بالأمس وخفيها إلى جانيه. وساعتها على منضدة كل هذه الأشياء رآها بالأمس بوضوح لكن الوجه! كانت صورته تنزلق من خياله كالزئبق من بين الأصابع. ولما أوشكت القرية أن تختفي عن ناظريه شعر رياوفتش بالأسى كأنه خلف فيها شخصاً قريباً إليه عزيزاً لديه ولما وصلت الفرق إلى مقصدها واستقر الضباط في خيامهم جلس ريابوفتش مع لوسكو ومرسليكوف يتناولن العشاء وكان مرسليكوف يأكل ببطيء وهو يطالع جريدة على ركبتيه ولوتكو يتكلم دون انقطاع ويمضي في ملأ كأسه بالخمر أما ربايوفتش فكان مازال غارقاً في أحلامه يأكل في سكون بعد أن شرب ثلاثة كؤوس أمضه الصمت وشعر برغبة ملحة في أ، يقضي إلى زميليه بعواطفه الجديدة فقال وهو يحاول أن يخفي تأثره ويجعل الصوت عادياً. . . حدثت لي حداثة مضحكة عند آل رابك ذهبت إلى غرفة البليارد كما تعلمون. . .

وابتدأ يقص الحادثة بتفاصيلها ودهش إذ لم يستغرق سردها إلا وقتاً قصيراً - أقل من دقيقة - وكان يظنها تستغرق الليل بأكمله. ولما كان لوبتكو كذاباً جريئاً فلم يكن يصدق أحداً لذلك ابتسم ابتسامة الشك. أما مرسليا كوف فقد رفع حاجبين دون أن يرفع نظره من الجريدة وقال. . . حادثة غريبة ولا ريب. أن ترمي بنفسها في أحضان رجل دون كلمة. لابد أن الفتاة عصبية على ما أعتقد!. فوافق ريابوفتش قائلاً. لا ريب في ذلك. . . عندئذ بدأ ريابوفتش يقول. حدثت لي ذات مرة حادثة مماثلة كنت مسافراً إلى كوفنا في العام

ص: 54

الماضي وكنت في الدرجة الثانية والعربة مزدحمة فاستحال علي النوم. وناديت فراش القطار وأعطيته نصف روبل فحمل متاعي وأخذني إلى عربة النوم. واستلقيت وتغطيت بملاءة، وكان الظلام كثيفاً، وفجاءة شعرت بشخص يمس كتفي ويتنفس في وجهي وأخرجت ذراعي وتحسست ذراعا، وفتحت عيني فلم أكد أصدق فقد كانت سيدة بعينين سوداوين وشفتين قرمزيتين وأنف يتنفس بالجنان وصدر ناهد. . . وهنا قاطعه مرسليا كوف رأيت لون شفتيها وعينيها في الظلام؟! فأخذ لوبتكو يسخر من افتقار مرسليا كوف إلى الخيال، وتضايق ريابوفتس وتركهما واستلقى على فراشه وعاهد نفسه ألا يكون فضفاضاً بعد الآن.

وابتدأت حياة المعسكر، وتتابعت الأيام متماثلة وكاريابوفتش يفكر ويشعر ويتصرف كرجل يحب، وحين يتحدث زملاؤه عن الحب والنساء كان يقترب ويستمع ويأخذ وجهه هيئة الجندي الذي يسمع قصة معركة خاض غمارها. وفي المساء إذا ما انتابه الأرق، وفي ساعات الفراغ كان يستعيد منظر قرية مستشكو والمنزل العجيب درابك وزوجته التي تشبه الإمبراطورة أوجيني والحجرة المظلة وما جرى فيها.

وفي الواحد والثلاثين من أغسطس صدرت الأوامر لفرقتين فقط بالعودة، وكان من العائدين وفي الطريق كان مهتاجاً كأنه عائد إلى مسقط رأسه، ومرة أخرى اشتاق إلى منزل رابك، وكان صوت داخلي (كثيراً ما يخدع المحبين) يؤكد له أنه سيلقاها وبدأ يعجب كيف يحييها وماذا يقول لها، هل نسيت كل شيء عن القبلة، ولو حدث أسوأ ما يتوقع ولم يرها فإنه على الأقل سيمر بالغرفة المظلمة ويتذكر.

وعند الغروب بدت الكنيسة المعهودة في الأفق، ودق قلب ريابوفتش بسرعة، ولم يعد يسمع حديث الضابط الراكب بجانبه، وبشوق عظيم نظر إلى النهر يتدفق، وإلى سطح المنزل ثم وصلوا إلى الكنيسة، ونزلوا بالساحة وسمع أوامر القيادة وهو يتوقع من لحظة لأخرى أن يرى الفارس قادماً ليدعوهم إلى بيت الجنرال، ولكن مضى الوقت ولم يأت الفارس. . . سيعلم رابك بعد قليل من الفلاحين بوصولنا وحينئذ يرسل ألينا. هكذا قال لنفسه، وشعر بالأسى واستقلي على سريره ثم قام ونظر من النافذة ليرى الفارس في طريقه ولكنه لم ير شيئاً ثم لم يستطع كبح جماح قلقه فمضى في الطريق متجهاً نحو الكنيسة ثم إلى منزل

ص: 55

الجنرال واقترب من الحديقة وكان الظلام يلف المنزل والسكون مخيماً، وبعد انتظار نصف ساعة دون أن يسمع صوتاً أو يرى شيئاً استدار عائداً، وتوقف عند النهر، وحدق فيه، وكان القمر يرسل أشعة على صفحة الماء والأمواج تداعب صورة القمر كأنما تريد لتحملها إلى بعيد، وفكر ريابوفتش (ما أحمقني!) ولم يعد الآن ينتظر شيئاً، وبدت له حكاية القبلة، وقلة صبره، وآماله الغامضة وخداعه لنفسه، بدا له كل هذا على حقيقته؛ ولم يبد له غريباً أن الفارس لم يأت لدعوتهم، وأنه لن يقابل الفتاة التي قبلته خطأ بدل شخص آخر، بل على العكس يكون من الغريب أن يلقاها مرة أخرى! وبدت له الحياة كلها مزحة كبيرة طائشة، ورفع عينه عن الماء ونظر إلى السماء وتذكر مرة أخرى كيف أن القدر في صورة امرأة مجهولة قد داعبه على غير انتظار؛ واستعاد أحلام الصيف وبدت له حياته تافهة تعسة لا طعم بها.

ولما عاد إلى حيث وضعوا خيامهم لم يجد أحد من الضباط هناك وأخبره جندي أنهم ذهبوا إلى منزل الجنرال فون رابك الذي أرسل لهم فارساً يدعوهم، وأحس بالفرح لحظة لكنه خنق هذا الإحساس في الحال، وكأنما ليعاند القدر الذي أساء معاملته هكذا لم يذهب إلى منزل الجنرال بل مضى لينام.

أحمد بدران

[

ص: 56