الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 866
- بتاريخ: 06 - 02 - 1950
على محمود طه
شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 8 -
(وفي قصيدة ندور حوادثها حول الفن بين الرجل والمرأة وأثر الغريزة فيه، يتكلم شاعر فنان اتخذ فتاة حسناء نموذجاً حيا لفنه، فأغوته بمفاتن جسدها، ودفعته بحماسة في غمار ملذات لا يلبث أن يفيق منها، وقد رأى مدى انهيار روحه وفنه، والموقف كله شذوذ واضطراب، وكله عنف وضعف، وهو تصوير لهذه الحية الخالدة التي يشتهيها الفنانون والشعراء رغم لدغاتها. . .)
بهذه الكلمة التحليلية الموجزة يمهد الشاعر لهذه القصيدة الجديدة، وهي إحدى القصائد الرائعة في ملحمة (الأرواح والأشباح). . . ومن الصفحة الثامنة والأربعين من هذه الملحمة التي تنيف على أربعمائة بين من الشعر، نقدم الصورة الحسية الثانية، هناك حيث تفتح (تاييس) كتاباً وتقرأ من قصيدة الحية الخالدة):
ولفت ذراعين كالحيتين
…
على، وبي نشوة لم تطر
وقد قربت فمها من فمي
…
كشقين من قبس مستعر
أشم بأنفاسها رغبة
…
ويهتف بي جفنها المنكسر
تبينت في صدرها مصرعي
…
وآخرة العاشق المنتحر!!
أفي حلم أنا؟ أم يقظو؟
…
ومن أنت أيتها الخاطئة؟
هو الحي؟ لا. بل نداء الحياة
…
تلبيه أجسادنا الظامئة
يخف دمي لصداه الحبيب
…
وتدفعني القدرة الهازئة
كأني ببحر بعيد الفرار
…
طوى أفقه وزوى شاطئه
أرى، ما أرى؟ جسداً عارياً
…
تضج به الشهوة الجائعة
أرى، ما أرى؟ حدقي ساحر
…
تؤجان بالنظرة الرائعة
أرى، ما أرى؟ شفتي غادة
…
ترفان بالقبلة الخادعة
تساقطني ثمرا! ما أرى!
…
أرى حية الجنة الضائعة!
بعينك أنت، فلا تنكري
…
صفات أنوئتك الشاهدة
تمثلت شتى جسوم، وكم
…
تجددت في صور بائدة
نعم أنت هن. . . نعم ما أرى؟
…
أرى الكل في امرأة واحده
لقد فنيت فيك أرواحهن
…
وها أنت أيتها الخالدة!
لقد كنت وحي رخام يصاغ
…
فأصبحت لحما يثير الدماء
وكنت فتى ساذجاً لا أرى
…
سوى دمية صورت من نقاء
أنيل الثرى قدمي عابر
…
يعيش بأحلامه في السماء
فأصبحت شيئاً ككل الرجال
…
وأصبحت شيئاً ككل النساء!
وكنت أمير هذي الدمى
…
وصورة حسن عزيز المنال
وكنت نموذج فن الجمال
…
أحبك للفن لا للجمال
أرى فيك مالا تحد النهى
…
كأنك معنى وراء الخيال
فجردتني رجلاً أشتهي
…
وجردت أنثى تشهي الرجال!
دعيني حواء أو فابعدي
…
دعيني إلى غايتي أنطلق
أخمر ونار؟ لقد ضاق بي
…
كياني وأوشك أن أختنق
أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم
…
رائحة الجسد المحترق!
فيالك أفعى تشهيتها
…
ويالي من أفعوان نزق!
أتعرف ملكة (المزاج الفني)؟. . . إذا استطعت أن تتخيل القصيدة الشعرية بأدائها النفسي جسماً من الأجسام، وإذا استطعت أن تفترض كل ملكة من الملكات السابقة عضواً عاملاً في حركة هذا الجسم، وإذا استطعت أن تتمثل الحيز الذي يشغله هذا الجسم من الوجدان المتذوق مكوناً من تلك المجموعة من الأعضاء؛ إذا استطعت أن تتخيل وأن تفترض وأن تتمثل هذا كله، فإن ملكة المزاج الفني هي الثوب الذي يلتف حول هذا الجسم بمجموعة أعضائه ليبرز تقاطعيه للعيون ويكشف عن مفاتنه! إنه أشبه بالثوب الذي ترتديه أي حسناء. . . قد يكون جسمها نموذجاً خاصاً لجمال كل عضو من أعضائه على حدة، وقد يكون جسمها نموذجاً عاماً لتناسق تلك الأعضاء مجتمعة، ولكن الثوب هو الحكم الأخير
الفاصل بيت أجساد الحسان، لأنه هو وحده الذي يطلعنا على مدى التفاوت الجمالي بين جسد وجسد! هناك ثوب يوحي إليك أن صانعه غير (فنان)، لأنه لم يراع النسب الفنية بينه وبين جسم صاحبته: من ناحية الطول والقصر، ومن ناحية الضيق والسعة، ومن ناحية الكماليات التي تلتمس مظاهر الزينة وتوائم بين لون الثوب ولون البشرة. . . مثل هذا الثوب لا شك أنه يظلم الجسد الجميل لأنه يقدمه للعيون على غير حقيقته، على تلك الحقيقة الأخرى التي اقتضاها ذوق صانع غير فنان. ماذا ينقص هذا الصانع من (ملكات الفن) ليصنع (ملكات الجمال)؟ تنقصه ملكة المزاج الفني، ملكة تفصيل (الأثواب الكاشفة) عن مفاتن الأجساد!.
المزاج الفني إذن هو المسئول، بل هو واضع الحدود والفروق بين طابع كاتب وكاتب وبين طابع شاعر وشاعر. . . خذ مثلاً طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم - ككتاب في مجال القصة وحدها لا في مجال آخر - فستجد أن طه في (شجر البؤس) و (دعاء الكروان) يمثل الطابع الأدبي فهو قصاص أديب، وستجد أن العقاد في (سارة) يمثل الطابع الفكري فهو قصاص مفكر، وستجد أن توفيق يمثل الطابع الفني في عدد من قصصه فهو قصاص فنان. وخذ العقاد مرة أخرى وعزيز أباظة وعلي طه - كشعراء - فستجد أن الأول يمثل المزاج الفكري فهو شاعر مفكر، وأن الثاني يمثل المزاج الأدبي فهو شاعر أديب، وأن الثالث يمثل المزاج الفني فهو شاعر فنان. هذا التقسيم واضح كل الوضوح في الأدب المصري الحديث كما هو واضح كل الوضوح في الأدب الفرنسي الحديث، وبخاصة في فن القصة. . . أندريه جيد وفرانسوا مورياك كلاهما نموذج لهذا القصاص الأديب، وجان بول سارتر وبول كلودل كلاهما نموذج لهذا القصاص المفكر، وجان كوكتو وجان أنوي كلاهما نموذج لهذا القصاص الفنان!
ولا داعي بعد ذلك لأن نخوض في التفسير والتحليل، وفي التمثيل ولتطبيق، خشية أن نخرج عن موضوعنا الرئيسي وهو دراسة هذا الشاعر المصري ذي المزاج الفني النادر. . . حسبنا أن نقول لك إن علي طه ليس شاعراً من أولئك الذين يصوغون الحياة أفكاراً (منظومة) عارية من وشائج اللحم والدم، وليس شاعراً من أولئك الذين ينقلون الحياة نقلاً (فوتوغرافياً) خالياً من عناصر الإبداع والفن، ولكنه من أولئك الذين يتفردون بالذاتية
والأصالة عند تصوير الحياة في لحظات التوهج والتوثب والانطلاق!
إن الشعر دفقه وانتفاضة. . . دفقه يتلقاها الشعراء جميعاً، ولكن فيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن وحده، وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الحس وحده وفيهم من يتلقاها بانتفاضة الذهن والحس والشعور في وقت واحد. ونفرق نحن بين هذه الألوان من الانتفاضات في محاولة فنية نهدف من ورائها إلى استشفاف (الحقيقة الشعرية) من خلال (أثوابها الكاشفة) وننتهي إلى أن حقيقة الشاعر الأولى صاحب الانتفاضة الأولى هي (وجهة نظر) فكرية، وإلى أن حقيقة الشاعر الثاني صاحب الانتفاضة الثانية هي (وجهة نظر) أدبية، وإلى أن حقيقة الشاعر الثالث صاحب الانتفاضات الثالثة هي (وجهة نظر) فنية. . . وهكذا تجد مزاج الشاعر المفكر، وزاج الشاعر الأديب، ومزاج الشاعر الفنان!
وقبل أن نستعرض فنون هذا المزاج الفني في قصيدة (الحية الخالدة)، قبل هذت أن نود أن ترجع إلى العدد (803) من الرسالة الصادر في 22 نوفمبر 1948، حيث وردت في مقالنا (دفاع عن الأدب) هذه الفقرات: (يقول كرونشه: إن الفنان لا يمكن أن يوصم من الناحية الأخلاقية بأنه مذنب، ولا من الناحية الفلسفية بأنه مخطئ، حتى ولو كانت مادة فنه أخلاقاً هابطة، فهو - كفنان - لا يعمل ولا يفكر، ولكنه عبر. . . إن فناً يتعلق بالأخلاق أو اللذة أو المنفعة، هو أخلاق أو لذة أو منفعة ولن يكون فناً أبداً!!. . . ولئن كانت الإرادة قوام الإنسان الخير فهي ليست قوم الإنسان الفنان؛ ومتى كان افن غير ناشئ عن الإرادة فهو في حل كذلك من كل تمييز أخلاقي. إنك لا تستطيع أن تحكم بأن فرانسسكا دوانتي منافية للأخلاق، ولا أن جوردليا شكسبير أخلاقية، وما هما إلا لحنان من روحي دوانتي وشكسبير ليس لهما إلا وظيفة فنية، إلا إذا استطعت أن تحكم على المربع بأنه أخلاقي وعلى المثلث بأنه لا أخلاقي!. . . إن من تفرعات المذهب الأخلاقي قولهم إن غاية الفن أن يوجه الناس نحو الخير؛ ويبث فيهم كره الشر، ويصلح من عادتهم، ويقوم من أخلاقهم، وإن على الفنانين أن يساهموا في تربية الجماهير وتقوية الروح القومي أو الحزبي في الشعب، أو إذاعة المثل الأعلى الذي يفرض على المرء أن يحيا حياة بسيطة جاهدة وما إلى ذلك، والحق أن هذه أمور لا يستطيع الفن أن يقوم بها أكثر مما تستطيع الهندسة أن تفعل، فهل عجز الهندسة هذا يجردها من حقها في الاحترام؟ فليت شعري لم يريدون إذن أن يجردوا
الفن من مثل هذا الحق في مثل هذه الحال)؟!
هذا الرأي للفيلسوف الإيطالي المعاصر بندتو كورتشه في نقد المذهب الأخلاقي في الفن، وهو رأي نؤمن به كل الإيمان ويؤمن به كل محيط يقيم الشعر كما يفهمها الشاعر الفنان. ولقد رأينا أن ننقل هذا الرأي لأننا نعلم أن أناساً سيعترضون على هذا اللون من الشعر، لأنهم يخلطون بين رسالة الفن ورسالة علم الأخلاق. أو لأنهم يطلبون إلى الشاعر أن يكف ريشته عن تصوير أثر الغريزة الإنسانية، ناسين أنها نداء خالد يلبيه الأحياء منذ الأبد لتبقى الحياة، ويهتف به الفنانون على مدار الحقب ليبعثوا لروح في كل فن جميل!
أليس الفنان مطالباً بأن يمد عينيه ليرقب، وأن يرهب أذنيه ليسمع، وأن يهيئ نفسه وحسه ليسجل؟ هكذا كان علي طه في كثير من شعره، وكذلك هو في (الحية الخالدة). . . إنه لم يزد على أن جرب الحياة فأحس عمق التجربة، وأصغى إلى ندائها العميق فعاش في أعماق النداء، ورصد أدق خفقة من خفقات قلبها الكبير فأحسن الرصد، وسجل هذا كله تسجيلاً يتميز بالصدق والحرارة في مثل هذا الأداء:
ولفت ذراعين كالحيتين
…
علي وبي نشوة لم تطر
وقد قربت فمها من فمي
…
كشقين من قبس مستمر
أشم بأنفسها رغبة
…
ويهتف بي جفنها المنكسر
تبينت في صدرها مصرعي
…
وآخره العاشق المنتحر!!
هنا مزاج فني يشرف على انتفاضة الذهن والحس والشعور، ويخلع أثوابه الدقيقة على هياكل الكلمات، ويسلط أضواءه الكاشفة على مسارب الغريزة ومشاهد التجربة، وهي لحظة تمر بكل إنسان فهم المرأة حق الفهم، وعشق الفن كل العشق، واتخذ من الجسد سلمه إلى استكناه الطبيعة الأنوثية. وعلى درجات هذا السلم تنتقل ملكة المزاج الفني مخلفة آثار أقدامها على كل درجة، تاركة معالم الخطى في كل دورة من دورات الصعود ونحصي تلك الدرجات التمهيدية فإذا هي أربع تتفق معها في العدد تلك الخطى الفنية: الدرجة الأولى (ولفت ذراعين كالحيتين) والدرجة الثانية (وقربت فمها من فمي)، والدرجة الثالثة (أشم بأنفاسها رغبة) والدرجة الرابعة (تبينت في صدرها مصرعي). أما تلك الخطى الفنية التي تقودها ملكة المزاج الفني فهي تلك المقابلة الحسية بين حركتي الالتفاف في البيت الأول:
التفاف الذراعين الأنثويتين حول الرجل في لحظة من لحظات الغريزة الإنسانية الخالدة، والتفاف الحيتين الرقطاوين حول الفريسة في لحظة من لحظات الغريزة الوحشية الفاتكة. ثم تلك المقابلة النفسية بين حركتي التقبيل في البيت الذي يليه، حين يبلغ تصوير اللظى المتوهج على أطراف الشفاه مبلغ القبس المتأجج في النار المشتهاة. ثم تلك الانطباعية التجسيدية في البيت الثالث، حين يستحيل الدعاء المتوثب بين الجوانح إلى رغبة تشم في الأنفاس، وحين ينقلب النداء المتوقدين الحنايا إلى هتاف يصرخ تحت انكسار الجفون. ثم تلك اللمعة التخيلية في البيت الرابع، حين يصبح الصدر الفاتن فراشاً مهيأ لاحتضار الأشواق، أو طريقاً ممهداً لانتحار العشاق! ترى هل هي فوره من فورات الحي؟ كلا! بل هي صرخة من صرخات الجسد. . . وإذا بنا نعود مرة أخرى إلى جو تلك الواقعية التي حدثناك عنها في أحد الفصول الماضية؛ هي هناك في (أثوابها النفسية) التي تنظمها ملكة الوعي الشعري، وهي هنا في (أثوابها الحسية) التي تصنعها ملكة المزاج الفني، ونرجو أن تلاحظ هذه التفرقة الدقيقة بين عمل الملكات الشعرية في كل مرحلة من مراحل هذه الدراسة:
هو الحب؟ لا، بل نداء الحياة
…
تلبيه أجسادنا الظامئة
يخف دمي لصداه الحبيب
…
وتدفعني القدرة الهازئة
وتطالعك بعد ذلك (عملية إحصاء) حسية ما تزال تعمل في حدود الدورة الأولى من دورات الصعود، على نفس السلم الجسدي الأولى الذي ترتقي درجاته ملكة المزاج الفني لتشرف في النهاية على هدفها الأصيل. . . ومن هذا الإحصاء ذلك (الجسد العاري الذي يضج به الشهوة الجائعة) ثم هاتان (الحدقتان اللتان تؤجان بالنظرة الرائعة)، ثم هاتان (الشفتان اللتان ترفان بالقبلة الخادعة). وننتهي إلى ذلك الهدف الأصيل الذي تلتمسه ملكة المزاج الفني، فإذا هو تلك النتيجة الأخيرة لعملية الإحصاء الحسية مسجلة في هذه اللمحة الجامعة:
تساقطني ثمراً! ما أرى؟
…
أرى حية الجنة الضائعة!
وينقلنا الشاعر إلى الدورة الثانية من دورات الصعود، حين يخاطب المرأة ذلك الخطاب المتغلغل في فجاج الواقع الملموس ودروب الحقيقة الخالدة. . . ولقد كنا في الدورة الأولى أمام متحف يعج (بالمعروضات الجسدية) فإذا نحن في الدورة الثانية أمام متحف آخر يموج
(بالحقائق النفسية) وهي معروضات وحقائق أشبه (بمحاليل) تجمعت وتفاعلت داخل تجربة كبرى في (معمل الحياة)، ثم انتهت إلى هذا المزيج الأخير الذي يقدمه لنا (معمل الفن) في هذه الأبيات:
تمثلت شتى جسوم وكم
…
تجددت في صور بائدة
نعم أنت هن. . . نعم ما أرى
…
أرى الكل ف امرأة واحدة
لقد فنيت فيك أرواحهن
…
وها أنت أيّها الخالدة!
ومرة ثالثة يدفع بنا الشاعر إلى دورة جديدة من دورات الصعود، وهي الدورة الرئيسية التي تتوسط السلم بين درجات التمهيدية والدرجات النهائية. . . ويأتي المزاج الفني إلا أن يرج بك على عقدة (الانسياب القصصي) في فن الشعر، حين يقف بك وقفة قصيرة بين المقدمات الحسية والنتائج النفسية، بغية توكيد الصلة الرابطة بين هذه وتلك! أما عقدة الانسياب القصصي فتبدأ بهذا البيت الذي يمثل فوره الصراع:
لقد كنت وحي رخام يصاغ
…
فأصبحت لحما يثير الدماء!
وتنتهي بهذا البيت الذي يصور حسرة الضياع:
فأصبحت شيئاً ككل الرجال
…
وأصبحت شيئاً ككل النساء!
ويستمر هذا الانسياب فيما يلي ذلك من أبيات، حيث يتردد صداه في تلك الكلمة الموجزة التي قدم بها الشاعر للقصيدة، والتي أشار فيها إلى انهيار (روحية) الفن أمام (مادية الجسد) أو أمام هذه الحية الخالدة التي يشبهها الفنانون رغم لدغاتها القاتلة!. . . ويسلمنا الشاعر بعد هذا الانسياب القصصي إلى الخاتمة، خاتمة القصة التي تشرح لك نفسية فنان تردت مثله العليا في مهاوي النزوة العارمة، حتى إذا أفاق على وخزات الأسى العاصف بكل خلجة من خلجات الضمير، راح يطلب إلى الأفعى الخالدة أن تخلي بينه وبين الطريق؛ طريقه الجديد الذي كمنت فيه ألف أفعى من أفاعي الندم! لقد تأثم فنه حين عب من الخمر وتعذب شعوره حين اقترب من النار. . . لقد ثمل في حانة الشفاه واحترق في أتون الجسد:
أخمر ونار؟ لقد ضاق بي
…
كياني وأوشك أن أختنق
أرى ما أرى؟ لهباً؟ بل أشم=رائحة الجسد المحترق!!
(يتبع)
أنور المعداوي
علي مصطفى مشرفة باشا
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
وسط هذه الخسائر المتلاحقة تفقد مصر عالمها العظيم.
والحق أن اللغة العربية هي صاحبة المصاب الأول في هذا الرجل، لسبب بسيط وهو أن اللغة العربية لم تعهد مؤلفاً بهذه القوة، وكاتباً بهذه الأصالة في ميدان العلم الخالص. وهذا الجانب النظري في العرض العلمي، ناقص عندنا إلى حد يعيب المكتبة العربية، وتبدو حاجتنا واضحة في هذه الأيام إلى الكتابة التفصيلية عن العلوم من أجل سد الفراغ الهائل الذي نراه في المؤلفات والعقليات على السواء. . وإذا كانت مصر قد أحبت هذا الرجل، وإذا كانت قد بكت البكاء المر حينما انتقل إلى جوار ربه، فلأنه كان يملأ ركناً يعز على الجميع أن يروه شاغراً، ويشتغل بمهمة لا يقوى على القيام بها سوى أفراد قليلين.
مات مصطفى مشرفة بعد أن ترك لمصر مجداً أي مجد، وبعد أن شرفها باسمه وعمله وبحوثه جميعاً، وإذا عرفت قيمة العلم والعلماء في مصر ومدى ما نحن فيه من نقص وقصور وذكرت حالتنا العقلية بوجه عام فستعلم آنئذ من هو مصطفى مشرفة، وستدرك مدى الخسارة في هذا الرجل، إذ على الرغم مما نحن فيه من تأخر وجمود علمي في كلا الجانبين، النظري والعملي، بزغت هذه العبقرية النافذة وأطلت على العالم بصورة فذة حقاً وخرجت إلى الناس على نحو غريب.
وهو أول من أحس بهذا الضعف الشامل في نواحينا العلمية أول من أخذ يستصرخ الحكومة والأهالي من أجل العناية بهذا الجانب الذي يمكن أن يأتي لنا منه الخير الكثير أو الذي لا يمكن أن يأتي لنا خير من سواه. أنظر إليه مثلاً حينما يقول بصدد العلم والصناعة (فالصناعة بأوسع معانيها تشمل موارد لثروة الأهلية من معدنية ونباتية وحيوانية بل وإنسانية أيضاً كما تشمل استخدام القوى الطبيعية وتسخيرها لخدمة الأمة وراحتها ورفاهيتها ولم يعد من الممكن في العالم الحديث أن يترك هذه الأمور للصدف أو للجهود الفردية، بل يجب على الدولة أن ترسم سياسة إنشائية في تنمية الثورة الأهلية، وهذه السياسة لا يمكن أن تبنى على الحدس والتخمين أو على الجدل والخطب السياسية، بل إن قوامها دراسة الحقائق وإجراء التجارب والبحوث العلمية. ولو أننا استطعنا عن طريق
البحث العلمي أن نستنبط طرقاً جديدة لصناعة هذه المواد في مصر لربحنا ثروة طائلة).
مات وقد ترك للمشتغلين بالعلم والثقافة مجموعة من الكتب الجميلة الممتعة على الرغم من أنها في موضوع خاص، وستقول البعض إن هذه الكتب قليلة وصغيرة، بيد أن العلم لا يقاس بالحجم ولا يطالب العالم بالشرح والتطويل ولا يسأل عن التفاصيل والتفسير، فذاك من عمل التلاميذ والمريدين، وأينشتين نفسه لم يكتب سوى مذكرات بسيطة على صورة مقالات وكانت بحوثه دائماً على شكل لمحات خاطفة. وتلك طبيعة العلماء، ولكن مع هذا فستجد نوعاً من الجمال والتفصيل في كتب مشرفة التي قصد بها إلى الناس كيما تؤثر في عقولهم وكيما تفتح قلوبهم وكيما تعمق من احساساتهم بالحياة، أنظر مثلاً في كتابه (العلم والحياة) الذي صدر ضمن مجموعة (أقرأ) بتاريخ أول يناير 1946، فستلمس فيه، إلى جانب الروح العلمية والفلسفية والبحث الواقعي الدقيق تفصيلاً واضحاً يلائم الدراسة التي تعمل في اتجاه معين؛ وتسيطر عليه فكرة خاصة، ويخدم نوعاً بالذات من أنواع المعرفة.
أما كتابه عن الذرة والقنابل الذرية فقد جاء صدى لما في عقله من معلومات ثمينة خاصة بهذا الموضوع، وكانت هذه المسألة دائماً محل عنايته فجاء كتابه من بين أوفى الكتب في هذا الموضوع وأصبح يعد من مصاف الكتب التي ألفها علماء الغرب في هذه الناحية. وأهم ما يميز الرجل في هذا الكتاب أنه كان واقعياً إلى أقصى درجة، فلم يحاول أن يكون حالماً أو أن يتأثر بنزعة إنسانية في الوقت الذي تتصارع فيه الدول عن طريق العلم وتستخدم الطاقة الذرية من أجل ترفيه شؤونها وحماية ممتلكاتها، أو في الوقت الذي تنشئ فيه كل دولة من الدول لجنة خاصة مزودة بما يلزمها من المعامل والعدد والأموال والرجال حتى تشترك اشتراكاً فعلياً في نتائج هذه البحوث. إنه يؤمن بأن العلم في خدمة الإنسان دائماً، وما دام كذلك فيستحيل أن نفق مكتوفي الأيدي بازاء هذه الظاهرة الحضارية الممتارة في العلم الحديث وفي الصناعة الحديثة. استمع إليه إذ يقول: إن خير وسيلة لاتقاء العدوان أن تكون قادراً على رده بمثله، وينطبق ذلك على الأسلحة العلمية أكثر من انطباقه على أي شيء آخر. . . فالمقدرة العلمية والفنية قد صارتا كل شيء، ولو أن الألمان توصلوا إلى صنع القنبلة الذرية قبل الحلفاء لتغيرت نتيجة الحرب. .)
وخلاصة ما يقال عن اتجاه مشرفة من الناحية العلمية الخالصة هو أنه قد تأثر بالحركة
العلمية في مستهل هذا القرن، وهذا من شأنه أن يفسر لنا سيطرة الروح الرياضية على أعماله ويبين لنا تأثير دراساته الفلسفية التي جاز فيا درجة الدكتوراه. ألا ليت العلماء عندنا فطنون إلى قيمة الفلسفة في دراسات العلم.
ومنذ حوالي الثلاثين عاماً لم يعد هناك من يشك في الطبيعة الموجبة الخالصة للضوء وللإشعاعات الأخرى؛ بيد أن العلماء - منذ ذلك الوقت أيضاً - قد اكتشفوا بعض الظاهرات التي تنشأ عادة من المواد الاشعاعية، ولم يمكن تفسيرها حتى ذلك الوقت إلا على وجه واحد وهو ذلك الذي يعمل بوحي من الفهم الجسيمي للمادة وكان أهم هذه الظاهرات هو الأثر الذي ينشأ عن كل من الضوء والكهرباء. وهو عبارة عما تراه في المادة عندما تضيئها، إذ بمجرد أن تضئ قطعة من المادة - ولتكن معدناً - ينبعث منها في حركة سريعة كثير من الكهيربات. وأدت دراسة العلماء لهذه الظاهرة إلى نتيجة هامة، وهي أن سرعة الكهيربات (إلكترونات) المنبعثة لا تعتمد إلا على طول الموجه في الإشعاع الحاصل وعلى طبيعة الجسم المشع، وفي الوقت نفسه تبين لهم أنها لا تعتمد إطلاقاً على حدة أو سدة الإشعاع الحاصل وأن عدد الكهيربات (الإلكترونات) المنبعثة هو وحده الذي يعتمد على حدة أو شدة الإشعاع. بل أكثر من ذلك، ظهر أن طاقة الكهيربات المنبعثة تختلف اختلافاً عكسياً مع الطول التموجي للموجة الحاصلة. وعندما تأمل أيشتين في هذه الحقيقة، تبدى له أن لا مندوحة عن العودة إلى القول ببناء جسيمي للإشعاع في حدود معينة إذا شئنا تفسيرها. وصرح بأن الإشعاعات إنما تتكون من الجسيمات التي تصدر كمية من الطاقة النسبة العكسية مع طول الموجة، واستطاع عقب ذلك أن يبين لنا في وضوح وجلاء أن قوانين الأثر الناتج عن الضوء والكهرباء إنما يمكن استخلاصها واستقراؤها من ذلك الافتراض.
وعلى ذلك فلم يكن أمام علماء الطبيعة إلا يحسوا بصعوبة الأمر وأن يشعروا بالربكة والحيرة بين هذه المظاهر المختلفة فهناك من جهة، مجموعة الظاهرات التي تتم عن تشابك الحركات الناجمة عن الذبذبة وعن تكسر الأشعة الموزعة، وهذا من شأنه أن يثبت أن الضوء مكون من موجات أو يدل على أن الضوء لا ينبعث من الجسم المسير على صورة أشعة مستقيمة بل على هيئة تموجية بحته؛ ومن ناحية أخرى، هناك ظاهرة الأثر الحاصل
من الكهارب الضوئية وبعض الظاهرات الأخرى التي اكتشفها العلماء حديثاً والتي تدل على أن الضوء مكون من جسيمات ومن فوتونات أو ضوئيات كما نقول في العصر الحديث.
والحل الوحيد الذي يمكن أن ينقذ العلماء من هذه الورطة هو القول بأنها المظهر التموجي للضوء والمظهر الجسمي للضوء عبارة عن مظهرين متكاملين أو وجهين إضافيين لحقيقة واحدة، وأهم فائدة يمكن أن يجبنها العلم من هذا الزعم الجديد أو من هذه التركيبة الجديدة هو الوصول إلى فهم الموجات والجسيمات بوصفها مترابطين ترابطاً كلاً في الطبيعة أو على الأقل في حالة الضوء، ومن ثم استطعنا في العصر الحاضر أن نقيم علماً كاملاً بناء على هذه النظرية وهو المكيانيكا التموجية.
وكان مشرفة واحداً من أخطر العلماء الذين اتجهوا في هذا الاتجاه وأبدعوا هذه النظرية، ولم يتوان عن تأييد هذا المنحي الجديد بكل ما أوتي من جسارة وقدرة على التدليل وفهم لحقيقة الأمور ونشر أبحاثه هذه في نشرات الجمعية البريطانية للعلوم في عام 1929 حيث استطاع أن يثبت أن المادة إشعاع في اصلها وأنه من الممكن أن تنتهي بالتحليل إلى باطن المادة أو إلى صفاتها الحقيقية فيظهر لنا ما فيها من طبيعة الإشعاع ويتكشف لنا من خصائصها شيء آخر غير ما نراه بالعيون ونلمسه على هيئة جامدة في حياتنا العامة.
وفي النهاية نقول إن مشرفة هو مثال الجندي الباسل الذي سقط في ميدان قلما يثابر على المضي فيه سوى الشجعان من أرباب الذكاء النادر والمقدرة الفائقة، لقد كان يعمل بوحي من هؤلاء العلماء الذين تتلمذ عليهم والذين قاموا بتسخير الطاقة الذرية. . . كما يقول هو نفسه في نهاية كتابه عن الذرة. . . لخدمة بلادهم ولا دافع لهم غير باعث الإيمان. . . الإيمان بحق وطنهم عليهم وحق هذا الوطن في أن يحيا وأن يحتفظ بمثله الاجتماعية والروحية.
كان الرجل عالماً في غير ادعاء، وإن بلغت نفسه أحياناً إلى حب الثورة والسخط فلأننا لم نحاول أن نعطيه من المكانة ما يليق بالإنسان العادي فضلاً عن الإنسان الممتاز، وإذا كانت حياته قد اتصفت ببعض الاضطرابات والقلقلة فأتما جاء هذا كله من التغاضي عما له من حق في أن يعيش الحياة الملائمة في الجو العلمي الذي يطلبه وعن حقه في الوصول إلى
أسمى المراتب وأعلى الدرجات.
لنا الله في هذا الرجل العظيم.
عبد الفتاح الديدي
صور من الحياة:
خيانة امرأة
- 2 -
للأستاذ كامل محمود حبيب
يا قارئي:
هذا صاحبي انضم على أشجانه حيناً من الزمان، يكتم الأسى جوانحه ويدفن الضنى بين ضلوعه حتى أثقله الهم وأرهقه الوجد، فجاء ينثر عبرات قلبه بين يديك علك تسمع فيها أنات روحه الحزينة أو تحس وجيب فؤده الكسير، فتلقحك حرقة اللوعة أو تهزك سفعات الضيق، فتهديه آلة الرأي الذي عزب عن فكره وتبصره بالصواب الذي ند عن عقله. فهل تعينه رأي منك فيه العقل والصواب؟
كامل
قال لي صاحبي (. . . وانطوت الأيام فإذا أنا إلى جانب فتاتي القاهرية - مرة أخرى - أبثها لواعج الهوى، وأشكو إليها حرق الغرام: ثم ما لبث أن سميت على خطبتها فتزوجتها. ووقف أبي إلى جواري ليلة الزفاف - وقف كارهاً، وهو ينفضني بنظرات فيها الألم والحسرة، فاضطراب قلبي وتزعزعت سكينتي، ورحت أنظر إلى وجه أبي في خلسة وقد كسته غلالة من الهم والضيق، فما راعني، إلا عبرات حائرة في عينيه ما استطاع أن يكفكفها، فانفلتت من بين محجريه. . . انفلتت لتهوى على كبدي كأنها جمرات متقدة يتلظى وهجها فتنفث في الحيرة والقلق، وتستل البشر من قلبي وتستلب الفرح من فؤادي. واستحالت حالي - في لمحة واحدة - فبدأ لي هذا المهرجان كأنه ينضم على جماعة من السخفاء يسخرون من غفلتي وحماقتي، وتراءت لي تلك الأنوار كأنها تسطع حوالي لتكشف للناس عن غباوتي وجهلي. وخيل إلى أنني صنعت هذه البهجة الفوارة لينعم بها أخلاط من الناس، ولأظل أنا وأبي في منأى عنها، يعاني هو سفعات أفكاره المضطربة وأقاس أنا عنت الخاطرة السوداء التي أرثتها في نفسي عبرات انتقلت غضباً من بين محجري أبي الشيخ.
انطوى الليل إلا أقله وأنا في شرفة الدار يضطرّب خيالي بصورة أبي الباكي الحزين، وغلى جانبي زوجتي الحبيبة أبسم لها في ذهول وأعانقها في فتور؛ لا أكاد أسمع صدحات الموسيقى وهي ترن في أرجاء المكان فتعمه بالنشوة والمرح، ولا أطرب للصوت الملائكي الرقيق وهو يشدو بأغنية سماوية تهتز لها القلوب وتضطرب الأفئدة، ولا أشعر بالهوى العليل وهو يرف حوالينا ندياً يبعث في الناس النشاط والقوة، ولا أكاد أحس بالسعادة التي كان يصبوا إليها قلبي منذ زمان بعيد وهي الآن بين يدي لا تدفعني إليها نزعات الهوى ولا تجذبني إليها نزوات الشباب.
وأحر كبدي إن صورة أبي ما تبرح تتشبث بخيالي. . . صورة أبي وهو يتوارى في ناحية من المكان وعلى وجهه غلالة من الهم والضيق وفي محجريه عبرات حائرة لا يستطيع أن يكفكفها فتنفلت من بينهما غضباً.
ورأيت أبي لأول مرة في حياتي - حزيناً يطحنه الأسى ويضنيه الكمد، ولأول مرة في حياتي أحسست بالهم العارم يتدفق في قلبي ليعصف بمرحي. . . مرح الشباب العابث الطروب.
واعجباً! أفكان أبي الشيخ يرى بعيني تجاربه أن من تحت قدمي هاوية سحيقة أوشك أن أنزلق فأتدرى فيها فلا يمسكني إلا القرار.
وفي بكرة النهار أسرعت إلى أبي عسى أن أستجلي بعض خلجات ضميره، غير أني علمت أنه برح الدار عند صلاة الفجر إلى. . . إلى القرية، فانكفأت إلى حجرتي. . .
وتعاقبت الأيام تطوى وساوس نفسي وتمحو ظنون روحي وغلى جانبي زوجتي تنفذ إلى طوايا قلبي في رفه، وتمهد لي أسباب السكينة بعقل سليم وترعى حاجات داري بيد صناع. واطمأنت خواطري إليها أجد فيها مثابة وأمناً واستشعر في كنفها الراحة والهدوء، غير أنها لم تستطع - يوماً - أن تكشف عن الصورة التي تشبثت بخيالي حيناً من الدهر. . . صورة أبي الباكي الحزين.
ومرت سنتات ثم أشرقت البهجة في داري وفي قلبي حين اجتليت النور من جبين ابني الأول، وسطعت الفرحة في روحي وفي روح زوجتي حين رفت علينا أول نسمات الطفل تملأ الحياة أملاً وسعادة ودفعتني فرحتي، فكتبت إلى أبي (. . . بالأمس أشرقت في داري
طلعة جديدة فامتلأ قلبي بالراحة، وأفعم فؤادي بالسعادة، وتألقت روحي بالفرح؛ وإني لأرنو إليه فأرى فيه سمات من سماتك ولمحات من صورتك. ولقد عقدت العزم أن أسميه باسمك عله يكون طالع سعد لنا. ليته يظفر بلمسات بنانك الرفيق أو بدعوات من قلبك الطاهر فتشمله البركة ويكتنفه اليمن. . .!).
وقرأ أبي كلامي فشمر يهيئ نفسه للسفر وقد نسى أنني تمردت - يوماً - على نصيحته وامتهنت رأيه وعققت أبوته، فجاء هو وأخوتي ومن بين أيديهم البهجة والاستبشار ومن خلفهم الهدايا.
بالقلب الأبي! إن فيك الرقة التي لا تحمل الحفيظة، وفيك الحنان الذي لا ينطوي على الضغينة؛ وفيك الرحمة التي لا يشوبها الغل
أما أنت يا بني، فقد كنت لأبيك بشير يمن وسعاد، فأنت قد محوت - بابتسامة واحدة منك - كل ما كان بين أبي وبني، وخلقت منا - بنظرة واحدة - أباً وابناً جديدين: أبا فيه العطف والحنان! وابنا فيه الطاعة والإخلاص. فما أسعدني بك؛ يا بني!
وانطوت سبع سنوات، ثم استحالت حال الزوجة الحبيبة على حين فجاءة، فهي تنطوي عني في غير سبب، وتهمل شأني في غير نزاع، وتشتغل عني في غير خصام. وتدفق الشك في قلبي هيناً مرة وعنيفاً مرة، فما كان للمرأة أن تغير خصالها إلا أن تسيطر على عقلها فكرة أو تشغل بالها حادثة! ورحت أدفع الشك عني حين خيل إلى أن أولادنا الأربعة يملئون فراغ قلبها وفراغ يومها
وغبرت أياماً أدفع ظن سوء عن نفسي، غير أني رأيتها تسرف في الزينة وتفرط في الأنفاق. أفكانت تسرف في الزينة خشية أن تصفعها الشيخوخة الباكرة فتعصف بنضارتها وتعبث بروائها وهي ما تنفك تنغمر في شواغل الدار والولد والزوج؟ أفكانت تفرط في الأنفاق لتسد حاجات الدار وإن الغلاء ليصفع الموظف صفعات عنيفة قاسية توشك أن تلصق يده بالتراب؟
ورجعت إلى الدار - ذات مرة - قبل معادي فلم أجدها لقد خرجت المرأة وحدها. . . خرجت إلى الشارع، إلى الذئب. ووقفت ارقب الطريق فرايتها مقبلة تستحث الخطئ. ورحت أناقشها في رفق وأجادلها في عنف فتفلست الفتاة. . . فقلت في نفسي (. . . إن
الفتاة إذا تفلسفت في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانها فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي، ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. إن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .)
وارتابت نفسي في كل حركات الزوجة، وبدا لي تاريخها القديم، يوم أن كانت فتاة في دار أبيها تنعم بالحرية التي يزينها الشيطان وتطمئن إلى النزعات التي تزوقها الحضارة، لا تخش. الرقيب ولا تخاف السيد، تنفلت من الدار وحدها لتلقى فتاها أنا لدى الأصيل أو بعد مغرب الشمس، نستمتع معاً بالخلوة ونسعد بالنزهة، أفكنت حقاً فتاها الأوحد أو كنت رفيقاً بين رفاق وصاحباً بين صحاب، تغفله فتوحي إليه بأشياء وأشياء وهو في عمى عن خداعها ومكرها؟ لعلها اليوم حنت إلى صاحب قديم!
ووسوس لي الشيطان أن أرقبها من بعد، غير أني لم أستطع فما كان لي أن أفعل وأنا موظف حكومي أبكر إلى الديوان فلا أستطيع أن أبرحه إلا أن يأذن لي الرئيس، ورئيسي رجل غليظ الكبد جافي الطبع فيه الصلف والكبر.
ومرض رئيسي - يوماً - فتغفلت رفاقي في المكتب وتسللت من الديوان. . . تسللت لأجد زوجتي في داري تجلس إلى رجل غريب على سريري في حجرة نومي. . .
وأفزعني المنظر فصرخت من أعماق قلبي (آه! إن المرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه).
وخرجت من الدار وقد ضاقت الأرض عليّ بما رحبت وضاقت على نفسي؛ لا أجد متنفساً إلا أن أحمل همي بين جوانحي لا أتحدث به إلى أحد، ومن أمامي أولادي أخاف أن أذيقهم مرارة اليتم ولذع الضياع.
والآن - يا صاحبي - ها أنا أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي. وبين أحبائي الأعزاء، أولادي. لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي أبداً تذكرني بغباوتي وحمقي. فماذا ترى، يا صاحبي!
وسكت الرجل وإن سمات الأسى لتضطرم في أغوار قلبه فتعبث بشبابه وتغض من نضارته فماذا ترى، يا قارئي، ماذا ترى؟
كامل محمود حبيب
خاتمة قازان
للأستاذ عطية الشيخ
بالثارات التتار:
انتهت غزوة حمص التي شنها قازان ملك التتار على ملك مصر الناصر بن قلاوون بالفشل في ختام القرن السابع الهجري، ولم يشف صدره من المصريين ويثأر لدماء آبائه وأجداده، فاشتعل قلبه حقداً، وبات يقلب الرأي، ويستشير أمراء دولته، عله يجد منفذاً إلى بغيته، وينال مأرباً عز نيله على سالفيه، ويفتح مصر ويكفى التتار شرها، ويبيت آمناً في تبريز، حالماً باقتحام شمال إفريقية، فيرث دولة الإسلام بتمامها، ويختم الرواية التي بدأها جده جنكيز خان.
الرأي قبل الشجاعة:
كان قطلوشاه نائب قازان في مملكة التتار، وأمير أمراء الجيوش، يقف قازان عند رأيه ولا يربم عن مشورته، وقد استشاره الملك فيمن استشار فأفتى بأن يتظاهر الملك بالإسلام، ويطلب الصلح من المصريين والحلف معهم، حتى إذا أمنوا جانبه، واستناموا إلى الخديعة، واطمأنوا إلى عدوهم، وأهملوا استعدادهم أخذهم على غرة، دون أن تثور الحمية الدينية في نفوس أمتهم، متى علموا أن التتار مسلمون، ومتى تم النصر وتمكن التتار من الرقاب، فلن يهمهم أن تعلم مصر حقيقة إسلامهم، فقديماً دخل التتار بغداد بالخديعة واستدرجوا الخليفة والأعيان إلى معسكرهم، ومثلوا بهم شر تمثيل، بعد أن حسبوا أنهم ذاهبون للصلح وحفلة عرس.
الرسل الثلاثة:
في ليلة الاثنين 5 من ذي الحجة سنة 700 وصل رسل قازان الثلاثة إلى القاهرة وهم قاضي الموصل كمال الدين الشافعي ومعه رجلان أحدهما فارسي والثاني تركي، وزينت القلعة لاستقبالهم زينة تأخذ بالألباب، وأوقد فيها ألف شمعة أحالت ليلها نهاراً، وجلس الملك الناصر ومن حوله أمراءه في أبهى حلة، وأفخر لباس، ثم قام القاضي وخطب خطبة بليغة وجيزة وذكر آيات كثيرة في معنى الصلح، واتفاق كلمة المسلمين، ثم دعا للملك الناصر
ابن قلاوون، ومن بعده للسلطان محمود قازان، ودعا للمسلمين والأمراء، ورفع كتاب قازان إلى ملك مصر.
كتاب غازان:
فض الملك كتاب غازان وقرأه ليلاً ولم يطلع عليه الأمراء صباحاً، إذ جمعهم مع أكثر العسكر وقرئ الكتاب عليهم، ونقتبس من مضمونه.
(بسم الله الرحمن الرحيم)، وننهي بعد إهداء السلام إليكم أن الله عز وجل جعلنا وإياكم أهل ملة واحدة، وشرفنا بدين الإسلام وأيدنا، وندبنا لإقامة منارة وسددنا، وكان بيننا وبينكم ما كان بقضاء الله وقدره. . . والآن فأنا وإياكم لم نزل على كلمة الإسلام مجتمعين، فنرجع الآن في إصلاح الرعايا، ونجتهد وإياكم على العدل في سائر القضايا، فقد أنضرت بيننا وبينكم حال البلاد وسكانها، ومنعها الخوف من القرار في أوطانها. . . ونحن نعلم أننا نُسأل عن ذلك ونحاسب عليه، وأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن جميع ما كان وما يكون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأنت تعلم أيها الملك الجليل، أنني وأنت مطالبون بالحقير والجليل، وإننا مسؤولون عما جناه أقل من وليناه، وأن مصيرنا إلى الله، وأنا معتقدون الإسلام قولاً وعملاً ونية، عاملون بفروضه في كل وصية، وقد حملنا قاضي القضاة، علامة الوقت وحجة الإسلام وبقية السلف كمال الدين أعزه الله تعالى مشافهة يعيدها على سمع الملك والعمدة عليها، فإذا عاد من الملك جواب فليسير لنا هدية الديار المصرية، لنعلم بإرسالها أن قد حصل منكم في إجابتنا للصلح صدق النية، ونهدي إليكم من بلادنا ما يليق أن نهديه إليكم، والسلام الطيب منا عليكم)
مشورة:
تشاور الملك والأمراه فيما يردون به على قازان، ثم بدا لهم قبل أن يقطعوا برأي الاستئناس برأي القاضي الفاضل رئيس وفد قازان، فقد كان رفيع المنزلة، مأمون المشورة لعلمة وفضله وزهده وورعه فقالوا له: (أنت من أكابر العلماء وخار المسلمين وتعلم ما يجب عليك من حقوق الإسلام والنصيحة للدين ونحن ما نقاتل إلا في سبيل الله، فإن كان
هذا الأمر قد فعله قازان حيلة ودهاء فنخلف لك أننا لا نطلع على هذا القول أحداً من خلق الله تعالي، ورغبوه غاية الرغبة، فحلف لهم أنه لا يعلم من قازان إلا صدق النية في الصلح، وحقن الدماء، ورواج التجارة، وإصلاح الرعية ثم قال لهم (لله دره)؛ ما كان نصحه للإسلام والمسلمين: - (والمصلحة أنكم تبقون على ما أنتم عليه من الاهتمام بعدوكم، وأن تخرجوا كعادتكم إلى أطراف بلادكم مما يلي مملكة التتار، فإن كان هذا الأمر خديعة كنتم مستيقظين، وإن كان الأمر صحيحاً أتممتم الصلح، وتحقن الدماء فيما بينكم).
مؤتمر في صحراء الشرقية:
أمر السلطان جميع الأمراء أن يخرجوا في صحبته للصيد في برية الشرقية، ثم استدعى وهو في البرية قضاة المذاهب الأربعة، وتم الاتفاق على ما يجيبون به قازان، وجهز رسل التتار إلى الصالحية، وانتظر السلطان بها (فلما حضر وأمامه الأمراء، ذهلت عقول الرسل مما رأوا من حسن زي عسكر الديار المصرية بخلاف زي التتار) ولما سجي الليل أوقد السلطان شموعاً كثيرة، ومشاعل عديدة وفوانيس وأشياء كثيرة تتجاوز عن الحد جعلت البرية حمراء تتلهب نوراً وناراً. . . وبعد حديث ساعة أعطوا جواب الكتاب إلى الرسل، وخلع عليهم السلطان، وأعطى كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، وسمح لهم بالسفر.
جواب حمىّ المعىّ:
هذا بعض ما جاء في جواب سلطان مصر على كتاب قازان: (بسم الله الرحمن الرحيم) علمنا ما أشار الملك إليه، وعول في قوله وفعله عليه، فأما قول الملك قد جمعتنا وإياكم كلمة الإسلام. . . فقد تحققنا أن الملك بقي عامين يجمع الجموع، وينتصر بالتابع والمتبوع، وحشد وجمع من كل بلد، واعتضد بالنصارى والكرج والأرمن، واستنجد بكل من ركب فرساً من فصيح وألكن، ثم إنه لما رأى أنه ليس له بجيشنا قبل في المجال، عاد إلى قول الزور والمحال والخديعة والاحتيال، وتظاهر بدين الإسلام واشتهر به في الخاص والعام؛ والباطن بخلاف ذلك،. . . فان الذي جرى الظاهر دمشق، ليس فعل المسلمين ولا من هو متمسك بهذا الدين، وإن كان ما حصل عن علمك ورضاك، فوا خيبتك في دنياك وأخزاك، وإن كنت كما زعمت على دين الإسلام فاقتل الطوامين الذين فعلوا هذه الفعال، لنعلم أنك
على بيضاء المحجة. . . ولما علمت جيوشنا أنكم استعنتم على قتلهم بعبدة الصلبان اجتمعوا وتأهبوا وخرجوا بعزمات محمدية، وقلوب بدرية، وجدوا السير في البلاد، ليشفوا منكم غليل الصدور، فما وسع جيشكم إلا الفرار، وما كان لهم على اللقاء صبر ولا قرار. . . وأما ما تحمله قاضي القضاة من المشافهة فأنا سمعناه وعيناه، ونحن نعلم علمه ونسكه ودينه وفضله المشهور، وزهده في دار الغرور؛ ولكن قاضي القضاة غريب عنكم، بعيد منكم، لم يطلع على بواطن قضاياكم وأموركم ولا يظهر له خفي مستوركم.
وأما ما طلبه الملك من الهدية فلسنا نبخل عليه، وإنما الواجب أن يُهدى أول من استهدى، لتقابل هديته بأضعافها ونتحقق صدق نيته، وإخلاص سريرته، ونفعل ما يكون فيه رضا الله عز وجل، ورضا رسوله في الدنيا والآخرة. . . والله تعالى الموفق للصواب).
كشف عن الصريح:
بعد نحو شهر من رسول الرسل إلى قازان، علم سلطان مصر بأن التتار بدءوا يتحركون إلى الشام، وأن بولاي قائدهم قارب الفرات، وبعد قليل بلغهم أن التتار حركوا نصارى آسيا الصغرى للهجوم معهم، وكذلك استنجدوا بالفرج فنزلوا بجزيرة أرواد تجاه طرابلس الشام، وأخذوا يستولون على المراكب الإسلامية، فأرسل سلطان مصر أسطولاً بقيادة الأمير سيف الدين المنصوري إلى جزيرة أرواد، وجيشاً برياً إلى بلاد آسيا الصغرى بقيادة الأمير بكتاش، فانتصر القائدان على الإفرنج والأمن. وعلم السلطان فسر سروراً عظيماً، ثم بعد ذلك بأيام، علموا أن قازان نفسه وصل إلى الفرات وبعث المقدمة إلى بلاد الشام بقيادة قطلو شاه وعدتها ثمانون ألفاً، وكاتب أمراء الشام للدخول في طاعته، فأسرعت قوة خفيفة من مصر إلى دمشق بقيادة بيبرس الجاشنكير ولم تكد تصلها حتى رأوا الناس يفرون أمام التتار من حلب وحماة وغيرهما، فخفت سرية إلى حماة عدتها ألف وخمسمائة فتقابلوا مع جيش تتري قرب حلب عدته أربعة آلاف (فافترق المصريون أربع فرق، وحاصروهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى أفنوهم)
إلى دمشق:
ثارت ثائرة قطلو شاه لفناء أربعة الآلاف من جيشه فهجم على حماه، واندفعت حاميتها
المصرية أمامه لا تلوى على شيء حتى بلغت دمشق، والتتار في إثرها (فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف، ولم يأت الليل إلا وبوادر التتار في سائر النواحي بالمدينة، وبات الناس في الجامع الأموي يضجون بالدعاء)
الصبح والسلطان:
طلع صباح اليوم التالي وقد وصل الجيش المصري بقيادة السلطان إلى مرج راهط من ضواحي دمشق وكذلك وصل الجيش الأصلي للتتار، والتقى الجمعان في مكان يقال له شَقْحب في سفح جبل غُباغب من ضواحي دمشق فوقف السلطان في القلب ومعه الخلفية والأمير سلاّر قائد قواد مصر، والأمير بيبرس الجاشنكير الذي سبق السلطان بالمقدمة، وقاد الميمنة الأمير قبجق وانضم إليها العربان، وقاد الميسرة الأمير بكتاش الذي هُزم الأرمن.
يا مجاهدون:
تقدم السلطان بنفسه والخلفية بجانبه ومعهما القراء يتلون القرآن الكريم ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة وصاح الخليفة: (يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن دين نبيكم صلى الله عليه وسلم عن حريمكم) فبكى الناس بكاء شديداً جزعاً على الإسلام، ولم يكد يتم الخليفة كلامه حتى زحفت كراديس التتار في هجومها الخاطف كقطع الليل، وحملوا على الميمنة المصرية حملة شعواء فقتل أعيانها وولى باقيها الأدبار وفي أثرهم بولاي التتري يقتل ويأسر الفارين.
للسلاماه:
فلما رأى ذلك سلار قائد المسلمين وهو مع السلطان في القلب صاح قائلاً: (هلك والله أهل الإسلام) ثم اندفع بمفرده كالبرق الخاطف نحو التتار فتبعه الأمراء والفرسان من القلب والميسرة وسلم الجميع نفوسهم للموت، واقتحموا التتار إلى قائدهم الأعلى قطلوشاه تاركين بولاي خلفهم يطارد الميمنة المنهزمة، واستمروا في القتال بحمية فائقة حتى لجأ قطلوشاه بمن معه من التتار إلى الجبل وهو يؤمل أن بولاي عند عودته من مطاردة الميمنة المنهزمة سيوقع في المصريين، ولكن راعه أن رأى السهل والوعر يغطيهما العساكر
الإسلامية (فبهت وتحير واستمر بموضعه حتى أتاه بولاي وفرقته التي كانت تطارد الميمنة المصرية) وبينا بولاي وقطلو شاه يتشاوران فيما يفعلان إذا بكوسات السلطان والبوقات المصرية قد زحفت وأزعجت الأرض وأرجفت القلوب بحسها فلم يثبت بولاي وترك قطلوشاه وفر في نحو عشرين ألفاً من التتار متسربلاً بظلام الليل، متلفعاً بسواده.
يا خيل الله:
وبات السلطان وعساكره على ظهور الخيل، والطبول تدق، وكذلك الكوسات، حتى آب إلى الجيش على صوت الطبول من كان منهزماً من الميمنة، وأحاط المعسكر المصري بالجبل الذي حوصر فيه التتار إحاطة السوار بالمعصم والخليفة والأمراء والسلطان والأعيان يمرون بالصفوف ويتواصون بالشهادة في سبيل الله، ويتحققون بأنفسهم من يقظة العسكر، وأبعدوا أثقالهم وأوزارهم عن ميدان المعركة. وعندما أسفر الصباح وأشرفت الأرض، انقض التتار على المسلمين يبغون لأنفسهم منفرجاً ومهرباً، ويقاتلون مستيئسين، فضيق المصريون عليهم الخناق (وصاروا تارة يرمونهم بالسهام وتارة يواجهونهم بالرماح، وتناوب الأمراء القيادة أميراً بعد أمير، وأظهروا في ذلك اليوم من الشجاعة والفروسية ما لا يوصف، حتى قتل تحت بعضهم الثلاثة الخيول، وما زالوا كذلك حتى انتصف النهار، فارتد التتار إلى الجبل بعد أن قتل وجرح منهم كثير، وهم يكادون يهلكون عطشاً)، ثم علم السلطان أن التتار قد أجمعوا أمرهم على مهاجمة المصريين في السحر، ليفتحوا لأنفسهم طريقاً إلى النهر، فأوصى بأن يفرج لهم عند النزول ثم يركب الجيش أقفيتهم ويهاجمونهم من الخلف، ونزل التتار من الجبل في عماية الصباح، فلم يتعرض لهم أحد، ولما صار النهر أمامهم والمصريون خلفهم ركبهم بلاء الله من المصريين فحصدوا رءوس التتار عن أبدانهم، وطاردوهم ولم يضعوا عنهم السيف حتى أذن العصر (حتى كلت خيول التتار وضعفت نفوسهم، وألقوا أسلحتهم، واستسلموا للقتل بغير مدافعة، حتى إن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا عدة غنائم، وبلغ ما قتله الواحد من المصريين العشرين من التتار فما فوقها) وارتد قطلوشاه في قليل من جنوده إلى الفرات، ثم عاد إلى بلاده في شر حال.
أفراح وأتراح:
أما سلطان مصر فقد كتب البشائر في البطائق وسرح بها الحمام إلى جميع بلاد الإسلام وأرسل الأمير بكتوت ليبشر المصريين نائباً عنه، وأقبل أهل الشام عليه مهنئين، فقصد إلى دمشق في عالم عظيم من الفرسان والأعيان والعامة والنساء والصبيان، وهم يضجون بالدعاء والهناء والشكر لله سبحانه على هذه المنة، (وتساقطت عبرات الناس فرحاً) ثم حضر أمير الميمنة المنهزم فقال له السلطان (بأي وجه تدخل عليَّ وتنظر في وجهي! فما زال به الأمراء حتى رضى عنه)
وأما التتار فإنه لما دخل قطلوشاه إلى همذان وعلم التتار نبأ الهزيمة (وقعت الصرخات في بلادهم وقامت النباحة في تبريز عاصمتهم شهرين على القتلى، واغتم قازان غماً عظيماً، وخرج الدم من منخريه حتى أشفى على الموت، واحتجب عن الحاشية، فإنه لم يصل إليه من جيشه إلا أقل من العشر، مع أنه كان منتخباً من خيار العساكر، ثم أمر بقتل قطلوشاه. ولما شفع فيه أمراء التتار، أوقفه أمامه، واستدعى الأعيان وأمرهم أن يبصقوا في وجهه واحداً بعد واحد حتى بصقوا جميعاً على مشهد من قازان، ثم نفاه إلى كيلان، ثم أحضر بولاي وضربه بالعصا وأهانه أشد إهانة، وفي الجملة حصل لقازان بهده الكسرة من القهر والغم ما لا مزيد عليه، ولله الحمد)
أقواس النصر:
زينت القاهرة لاستقبال الناصر وعساكره وحشد بها جميع المنغمين بالديار المصرية وتسابق الناس في الزينة ونصبوا القلاع في شوارع القاهرة (وتحسن سعر الخشب والقصب وآلات النجارة وتنادى الناس أن من استعمل صانعاً في غير الزينة فهو عدو السلطان. وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرجة، وملئت الأحواض في الشوارع بالسكر والليمون وبلغ كراء البيت الذي يمر عليه السلطان من خمسين درهماً إلى مائة، وفرشت أرض الشوارع التي سيمر فيها السلطان بالأبسطة، وكان السلطان كلما مر بزينة وقف يعاينها ليجبر خاطر فاعلها) وسار أسرى أمراء التتار بين يديه مقيدين، وقد علق في عنق كل واحد منهم رأس أمير من القتلى وأمامهم ألف فارس مصري مشرعين رماحهم في كل رمح منها رأس تتري، وخلفهم 1600 أسير من جنود التتار، في عنق كل واحد منهم
رأس، وطبولهم ممزقة وأعلامهم منكسة، وكثرت التهاني في البيوت والشوارع وزاد الهرج والمرج وأهازيج الفرح والسرور (حتى كان الواحد لا يسمع كلام من هو بجانبه إلا بعد جهد).
النصر للإسلام:
ذوي عود قازان، وتصوحت زهوته، وتنكرت بشاشته، وغاضت نضارته، واستولى عليه الهم والغم، وألح عليه المرض بسبب الهزيمة، فلم يلبث إلا أياماً حتى مات مهموماً، وجلس بعده على عرش التتار أخوه (خرْ بندا) بن أرغون بن أيفا بن هولاكو خان واجتمع به أعيان ملكه، وتشاورا فيما يؤمنهم على ملكهم ويهدئ مخاوفهم، ويحقن عليهم دمائهم؛ فلم يجدوا أحسن من الدخول في الإسلام أفواجاً، وأن يعلنوا المصريين بذلك، إذ لم يبق حامياً لذمار الإسلام سواهم، فتم لهم ما أرادوا وتلقب ملكهم (غياث الدين محمداً) وكتب إلى سلطان مصر بذلك، وطلب الصلح وإخماد الفتنة، وانحسرت موجة التتار عن مصر والشام، وانكسر عودهم على عزة إسلام، وامتصتهم الديانة المحمدية دون أن ينالوا منها، وتطعمت دوحة الإسلام بشعب جديد فتي قوي كان له بعد ذلك اليد الطولي في نصرة الدين.
(وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً).
عطية الشيخ
مفتش المعارف العليا
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (5):
مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال الدسوقي
ما زلنا هنا في ابن رشد لم نفارق أرسطو، فابن رشد صورة من أر سطو، أو قل: هو الصورة الإسلامية لأر سطو. وكم ذا لأر سطا ليس في فلسفات العصر الوسيط من صور! فان الفيلسوف الذي أتينا على دراسة فصل من علم واحد من مذهبه في مقالاتنا السابقة قد كان مارداً جباراً جثم بسطوته وسلطاته على الفكر الإنساني حتى مطلع النهضة الأوربية الحديثة: عكف الشراح على مذهبه يدرسونه ويفسرونه ويصنفون كتبه، وأقبل عليه رجال الدين والمفكرون من مسيحيين ومسلمين ويهود يؤيدون بع عقائدهم، فنشأت الفلسفات المسيحية الإسلامية واليهودية على الترتيب. وبقدر ما كان أر سطو يبدو لرجال هذه الأديان لأول وهلة مادياً وملحداً تحرم دراسة فلسفته، لا يلبث هؤلاء الجامدون المتزمتون أن ينبذوا الحبال الأفلاطوني إلى ما في مذهب أر سطو من منطق وانسجام وتوافق، فيحل أر سطو من التفكير إذن أرفع محل.
وهكذا ترى أن أفلاطون وأر سطو كانا قطبي التفكير في كل فلسفة دينية، وأن مثالية هذا وروحيته، ثم واقعية ذاك وماديته، كانت بمثابة قرني الإحراج لا يذهب المفكرون إلى أحدهما غلا ليرتدوا إلى الآخر. ولن تجد بين مفكري العصور الوسطى وفلاسفة الأديان إلا من هو أفلاطوني أو أرسطي أو موفق بين الاثنين ويتفاوت فهم رجال العصور الوسطى لفلسفة كلا الرجلين ومدى نفوذهم إلى حقيقتها. وكثيراً ما أدخل الإسلاميون عناصر غريبة على فلسفة أحدهما أو الآخر، أو أساءوا له ونسبوا إليه ما لم يقل به ولكن ابن رشد يمتاز من بين الإسلاميين جميعاً بأنه خير من فهم أر سطو وشرحه ونقله إلى الغرب حتى ليسمونه الشارح الأعظم لأنه هو الذي لعب أخطر دور في ربط الثقافة الإنسانية وإكمال دائرة الفكر البشري يرد التراث اليوناني إلى أوربا الوسطى قبيل نهضتها؛ فإن شروحه لكتب أر سطو قد نقلت إلى اللاتينية وهي حينئذ لغة العلم والجامعات. وتولى نشرها ودراستها وإذاعتها خصوصاً فلاسفة اليهود.
وتعلمون أن الفلسفة إذ نشأت في بلاد اليونان بمعناها الحقيقي، وما كانت تشتمل عليه بلاد
اليونان إذ ذاك من أوضاع جغرافية واسعة تشمل هذا الجانب من البحر المتوسط كله تقريباً قد ورثها الشرق المسيحي بعد إذا استقرت الديانة المسيحية، فالشرق الإسلامي بعد إذ اتسعت رقعة الحضارة الإسلامية. وتعلمون كذلك أن رقي الفلسفة في كل من الشرقيين إنما كان صدى للتوسع الجغرافي والرقي الحضاري، وما يتبع ذلك من تشجيع للعلم والثقافة وحث على ترجمة التراث اليوناني بما اشتمل عليه من حكمة وطب وفن وفلسفة، فكانت الفلسفة تخضب وتزهر حيث توجد البيئة الصالحة للنمو والازدهار، وحيث يكون التشجيع والمثوبة من جانب ذوي السلطان، فإذا أصاب هؤلاء عقم التفكير وضيق الأفق وجل سخطهم على الفلسفة وإيذاؤهم للفلاسفة، كان على الفلسفة إذن أن تهاجر وتنزح. وكما أن الدولة الأموية العربية حين غلبها العباسيون وشتتوا أصحابهم قد هاجرت إلى الأندلس، كذلك كانت هجرة روحية أخرى للفسلفة الإسلامية إثر اضطهادها وتكفير أصحابها في الشرق العربي، وعلى أنقاض حضارة المشرق الثقافية إذن قامت حضارة أدبية وسياسية وفلسفية في المغرب، وبمعنى أدق في الأندلس، هي، مهما يكن من أمرها صورة مصغرة من حضارة الشرق، ولكنها متشابهة من ناحية وبسمات وخصائص مميزة من ناحية أخرى.
كانت متشابهة من حيث أنها قد اعتمدت في أساسها على ما كان ينقل أهل تلك البلاد من علوم الشرق سواء بالرحلة إليه والتعلم على أشهر علمائه وبجمع تراثه ونقله ونسخه ثم الشروع في التفلسف يعد مرحلة التمهيد والدرس هذه. وآية ذلك تدرج فلاسفة الغرب في تقديرهم لأر سطو متأخرين كما يمثلهم ابن باجة فابن طفيل فابن رشد، كتدرج فلاسفة الشرق الكندي والفارابي وابن سينا، إلا أنه يجب أن نقول إن ابن رشد كان أكثر فلاسفة المشرق والمغرب معرفة بأر سطو وفهماً وتقديراً له، وذلك لأن البيئة الأندلسية قد خلت من خلاقات الشرق وجدله وعقمه كما يظهر في أشعاره وموشحاته ذاتها في ميزان الأدب، فجاءت فلسفة ابن رشد أرسططالية خالصة من ناحية، ودينية عقلية من ناحية أخرى، وذلك هو الجانب المزدوج الذي يجب أن تنظروا لابن رشد من خلاله، فهو من ناحية ينشر ويلخص ويشرح الكثير من كتب أر سطو والفلاسفة المشائين من أتباعه وغيرهم من الأطباء والمتكلمين. . . الخ كما تجدون في ثبت كتبه التي ورد ذكرها بمقدمة كتابه الذي تدرسونه، ومن ناحية أخرى يكتب في علم التوحيد والعقائد؛ أو ما يسميه فلاسفة المسلمين
علم الكلام، رسائل وكتباً كهذا الكتاب الذي تدرسونه.
على أن التقدير الذي يحظى به ابن رشد لدى مؤرخي الفلسفة القربيين ربما كان أكثر منه عند مؤرخينا. فهم ينظرون إليه كما قلت بوصفه همزة الوصل ونقطة التحول التي عن طريقها تم انتقال الفلسفة إلى أوربا ثانية على يد فلاسفة المسلمين. واليهود ولعله بهذا وحده يمكن أن يكون للفلسفة الإسلامية مكانها بوصفها حلقة ضرورية في تاريخ الفلسفة المتصل، وللعرب شأنهم بوصفهم حملة هذه المشاعل ونقله هذا التراث، والأمناء على نتاج هذا الفكر الإنساني أخذوه عن مصادره الأولى وتعدوه بالتخير والإنتاج حتى أوصلوه إلى أهله كاملاً غير منقوص، وحسب الفلسفة من فلسفات العصر الوسيط أن تقوم بهذا الدور، فان بعضها لم يبلغه - لكي تعد ذات رسالة، والفضل هنا إذن لابن رشد.
لقد كتب اثنان من كبار الفلاسفة الفرنسيين المستشرقين كتابين هامين كبيرين في ابن رشد (وهم يسمونه ويجعلون له مذهباً يسمونه أحدهما ليون جوتليه والآخر إرنست رينان تناوله موتك في كتابه عن فلاسفة اليهود والعرب، والبارون كارادي فو في كتابه مفكروا الإسلام وإن لم يفرد له كتاباً خاصاً فيما بعد كما فعل بالغزالي وابن سينا، وكذلك الفيلسوف الهولندي دي بور في تاريخه لفلسفة الإسلام. وفي هذه المراجع وكتابات كثيرين من المستشرقين الألمان خصوصاً ودوائر المعارف الإسلامية وتاريخ الأدب العربي لبروكلمان وغيرها نلمس التقدير الكبير الذي يتمتع به ابن رشد عند هؤلاء المؤرخين والمنصفين مبلغهم من العلم به وبفلسفته ضئيل ومن هذه المؤلفات ما هو مترجم إلى العربية تستطيع أن ترجع إليه ككتاب العلامة دي بور المشار إليه، ترجمة الأستاذ الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة مدرس الفلسفة الإسلامية في كلية الآداب ترجمة علمية دقيقة مزودة بالتعليقات والمراجع كذلك تجدون مادة ابن رشد في إحدى مجلدات دائرة المعارف الإسلامية التي ظهرت ترجمتها العربية فعلا للأستاذ عبد الحميد يونس وزملائه الثلاثة.
أما المؤلفات العربية في ابن رشد فأهمها: كتاب في مجموعة أعلام الإسلام (العدد 11 فبراير 1945) التي تنشرها لجنة الترجمة دائرة المعارف الإسلامية السابقة الذكر عند عيسى الحلبي - هذا الكتاب هو: أبن رشد الفيلسوف للأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين بالأزهر، وهو على سهولته وتبسيطه كتاب واف
بحياة الفيلسوف وعصره ومذهبه، ولابد أن ترجعوا إليه وتعولوا على ما جاء فيه من دراسة هي مزيج مهضوم في عقل صاحبه من مختلف الآراء العربية والغربية لابن رشد ومذهبه. ففيه مادة صالحة طيبة. أرجعوا كذلك إلى كتاب قديم للأستاذ فرح أنطون عن، ابن رشد ومذهبه. ففيه مادة صالحة طيبة وافية بالغرض، وكذلك باب ابن رشد من كتاب فلاسفة الإسلام للأستاذ محمد لطفي جمعه المحامي.
سوف يعفيكم الكتاب المطلوب إليكم دراسته من تعرف ابن رشد في دوره الأهم الذي أتحدث عنه حتى الآن؛ وكما يفهمه المؤرخون الأوربيون، لأنه يعالج فلسفة إسلامية خالصة موضوعها التوحيد أو علم الكلام، وهو ما كان ابن رشد يصطنعه للرد على الغزالي وأضرابه ممن كفروا فلاسفة المشرق كابن سينا في قولهم بأن الله يعلم الكليات دون الجزئيات وغير ذلك من المسائل الدينية التي كانت محل خلاف. ومن هذه الردود ما جعله ابن رشد مباشراً يتناول فيه قول الخصم ثم يتولى إدحاضه ككتاب تهافت التهافت الذي رد فيه على (تهافت الفلاسفة) للغزالي، ومنها ما هو غير مباشر تظهر فيه براعة ابن رشد في عرض عقائد الملة وأمور الدين عرضاً لا تتنافى فيه الفلسفة والدين كهذا الكتاب. وفي عناوين هذه الكتب ذاتها دليل على ما نريد أن نبين من طبيعتها. ففي المجموعة التي بين أيديكم كتابان: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال - وهو كتاب قيم له أهميته ودلالته من حيث ما يعرض له - وهو كفيل بأن يرد إلى الصواب أولئك الذين يخشون تعارض الفلسفة والدين، إذ هو يقنعهم أن لا تعارض، بل محبة وتقارب. ولا يخرج القارئ منه إلا وقد آمن أن الفلسفة فرض واجب كبقية الفروض. فرض عين لا فرض كفاية. والكتاب الثاني في (الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة). وفيه يعرض الفيلسوف وقد بين من أمر توافق الفلسفة والدين في الكتاب السابق ما بين - يعرض لمناقشة مختلف المناهج التي بها تقوم الأدلة الصحيحة على كثير من عقائدنا الدينية الإسلامية كوجود الله وتوحيده وبقية صفاته الثبوتية والسلبية: تلك التي تنسب له صفات إيجابية كالعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، والتي تنفي عنه صفات سلبية كالجهل والعجز والصمم والعمى والبكم. . . ثم مشكلة إرسال الرسل أو النبوة والتدليل على معقوليتها؛ وأخيراً مشكلة العالم الآخر التي تقوم بها الأديان.
وقبل أن نشرع منذ المقال التالي في تحليل هذا الكتاب لابن رشد، أريدك أن تلم بتاريخ حياته إلماماً كافيا، تعرف معه تاريخ مولده ووفاته والقرن الذي عاش فيه من التاريخيين الهجري والميلادي، ثم مكانة قرطبة التي ولد فيها وتفلسف وما تقلبت فيه من عز وذل والتاريخ العام لدولة الأندلس وما تعاقب عليها من الحكام - منذ فتحها عبد الرحمن الداخل الأموي (38هـ) - من أمويين فمرابطين فموحدين - وخصائص كل عصر من حيث الاهتمام بالعلم وتشجيع الأدب والفلسفة - وأخيراً حياة الفيلسوف ونشأته ودراسته ومصنفاته والجانب المزدوج في مهمته الفلسفية الذي عرض فيه للحكمة الأرسطية والشريعة الإسلامية فأحسن التوفيق بينهما،
وإلى الملتقى في حديثنا التالي.
كمال دسوقي
كتاب أحلام في التربية
للأستاذ عبد الموجود عبد الحافظ
قرأت هذا الكتاب منذ أسبوعين، وقد وضعه مؤلفه مستر يورنز منذ حوالي عشرين سنة، وقدمه الدوز هكسلي حفتدهكسلي العظيم، فرأيت أن ألخصه لقراء الرسالة الغراء.
الكتاب طريف الموضوع، شائق، سهل الأسلوب إلى حد بعيد، يجعل القارئ المتوسط الذي لم ينل حظاً كبيراً من علوم الفلسفة والتربية، يقبل على قراءته بشغف ولذة، وذلك لأنه أقرب إلى القصص والأساطير منه إلى كتب التربية والتعليم. ومما يساعد على فهمه ويغري بقراءته سهولة تعبيره واتساع أفق الخيال فيه وما فيه من طرائف جديدة، وقد ألبس المؤلف الجد ثوب الهزل فجعله قريباً إلى الأذهان سهل المطالعة للكثيرين.
إن الكاتب يحس كما يحس الكثيرون منا، أننا ندور في حلقة مفزعة إذ لا ندري لماذا نبعث بأبنائنا إلى المدارس وإن كنا نبعث بهم على أي حال، وذلك لأن المدارس التي جعلت لإعدادهم للحياة السعيدة، هي في الواقع كثيراً ما تجني عليهم بفساد أنظمتها التي تذهب بكثير من استعداداتهم وقبر ملكاتهم وضياع مواهبهم، لأن الحياة فيها جحيم وقوده أطفالنا الأبرياء.
إن المؤلف يرى أن النظام المدرسي وجد على أنه أداة لحياة صالحة سعيدة، ولكن الآية انعكست وصارت مفسدة لكثير من الأطفال. والعجيب أننا لا ندري ماذا نفعل لننقذ أطفالنا من هذه المأساة التي تمثل أمام أعيننا ونشاهد فصولها تعرض علينا ونحن مكتوفو الأيدي. هذا ما يدركه من يقرأ الكتاب قراءة بحث ودرس.
أما موضوع الكتاب فقد تخيل الكاتب، أن مؤتمراً للتربية والتعليم عقد في بقعة من الأرض، ودعي إليه كثير من سكان الكواكب السيارة المختلفة وقد أرسل كل كوكب مندوبية إلى هذا المؤتمر من أستاذه وشيوخ وسيدات ومن مخلوقات أخرى لا شبيه لها ولم ترها أعيننا، منها الذكر والأنثى، ومنها ما هو خليط بين الاثنين، وقد انتظم هؤلاء جميعاً غرض واحد هو بحث مناهج التعليم والمقارنة بينها في مختلف الأنحاء، وتعديل ما يحتاج إلى تعديل لتأتي بالغرض المنشود الذي يسعى إليه العالم أجمع.
ولما افتتح المؤتمر أسندت رئاسته إلى مخلوق أرضي، فرحب بالأعضاء، ثم أتى بموجز
لتاريخ التعليم فقال:
إنه عرف في أول أمره على أنه أداة لتعليم مواد ثلاث: هي القراءة والكتابة والحساب، وهذا غرض متواضع لا يتفق مع جلال التربية والتعليم، إذ الأحرى بمثل هذا الغرض أن تكون أداته أقل قيمة من التربية والتعليم. فإذا كانت التربية والتعليم لا غرض لهما سوى أن يكونا أداة لتعليم هذه المواد الثلاث فما أقل شأنهما واسوأ حظهما، ثم قال:
إن الغرض من التعليم أجل وأشرف من هذا بكثير، والذي يجب أن يهدف إليه التعليم هو: الفلسفة وعلم النفس والسياسة وعلم وظائف الأعضاء، لأن هذه الأشياء هي أساس حياة الإنسان وسعادته، فعلى مقدار فهمه لها ومعرفة دقائقها تتوقف سعادته في حياته ويكون نفعه للإنسانية، فيجب ألا تكون حياة الإنسان هباء في هباء، لأنه لا يستطيع أن يتصل بالآخرين اتصالاً وثيقاً وأن يحيا حياة فياضة بالمعاني السامية والغايات النبيلة إلا إذا فهم الجماعة الإنسانية، والأحوال الاجتماعية فهماً صحيحاً، ولا يتأنى له ذلك إلا إذا كان له قسط وافر من هذه العلوم التي يجب أن تكون الغرض من التعليم.
ولكن هذا لم يرق مندوب (المريخ) فاعترض قائلاً: ما هي الفلسفة وما هو علم النفس وما هي الفائدة المرجوة منهما حتى يكونا الغرض من التعليم؟
ولكني أرى أن التعليم والتربية، أسمى من أن يكونا أداة لمثل هذه المواد، بل يجب أن يوضع التعليم للوطنية والأخلاق، إذ أنهما أساس الحياة. ويصر مندوب المريخ على أن يكون عملياً في كل شيء يقرره، فتراه يرفض تدريس الجغرافية مثلاً، لأن المدارس تدرس الجغرافية من أول نشأتها ولم تعد على العالم بشيء إنه يريد أن يستقصي الأمر بطريقة علمية أكثر من ذلك فائدة وأدوم ثباتاً، حتى أنه قال. لماذا ندرس الجغرافية! وماذا يضيرنا لو لم ندرسها. وغير ذلك من مثل هذا التساؤل عن كثير من المواد الدراسية.
أما مندوب (المشتري) فانه يعقد مقارنة بين تربية الأطفال وبين الصناعات الأخرى من حيث قدرة الأطفال والنوع الذي يناسبهم من التعليم، فقال: لقد أصبح العلم متدخلا في جميع مشروعاتنا وأعمالنا، بمعنى أننا لا نقدم على عمل ولا نخطو خطوة في حياتنا ما لم يكن العلم رائدنا ومرشدنا، ففي مصنع الأحذية مثلاً، نختبر الجلود ونبحثها بالطرق العلمية لنعرف مصادرها ولنرى من أي نوع هي، وهل هي من النوع الخشن أو الجيد؟ وهل
كانت الحيوانات التي أخذت منها هزيلة أم سمينة؟ وغير ذلك.
فلماذا لا نتبع هذه الطريقة مع أطفالنا فنبحث بيئاتهم وعائلاتهم ونستقصي تاريخهم ونتتبع منشئهم لنرى هل من المتيسر لهم أن ينموا نمواً طبيعياً أم هم معرضون للأمراض المختلفة من جسميه واجتماعية وخلقية. إن المدرسة صنو للمصنع سواء بسواء، فمصنع الأحذية مثلاً يبدأ بالجلود وينتهي به المطاف إلى الأحذية الكاملة المتقنة، وكذلك المدرسة فإنها تبدأ بالطفل الصغير وتنتهي بالرجل الناضج الكامل العقل والتفكير. فالواجب علينا أننا مادمنا نستخدم مختلف العلوم في الصناعات، أن نفعل مع الأطفال مثل هذا حتى نأتي بالثمرة المرجوة. . . ثم قال:
مما جعلني استلقي على قفاي من الضحك، أنه في أثناء عبوري من المشتري إلى هنا، كنت أتسلى بقراءة شيء عن نظم التعليم سابقاً، فاستوقف نظري ما يسمونه نظام البكالوريا، وأن هذه الشهادة تعتبر جواز المرور لحاملها. يا للسخافة! أيجعلون الشهادات مقياساً لكفاءات المتعلمين والرجال المفكرين، إن وباء الحمى القرمزية لم يكن أكثر شراً من ذلك النظام الفاسد في تلك العصور المظلمة والعوالم المتأخرة.
إنه لابد لكل طالب في عالمنا (المشتري) من فرصة يسيح فيها عاماً كاملاً ليرى الشعوب الأخرى ويشاهد أخلاقها ويطلع على أنظمتها ويختبر طرق حياتها، وثقافة الإنسان عندنا لا تتم إلا إذ أقام بهذه السياحة واستفاد منها وعمل بما رأى فيها من خير وتجنب فيها من شر.
ثم تكلم مندوب الزهرة وأبدى عجبه من اهتمامنا بأعداد المواد وإهمالنا الطفل الذي يجب أن يكون الاهتمام به هو قبل كل شيء فقال:
إن محور التعليم عندنا ليس المواد المختلفة كالجبر والهندسة واللغات وغيرها؛ ولكن المحور الحقيقي الذي نوليه كل عنايتنا هو الطفل نفسه، فلا يهمنا أن تذهب هذه العلوم إلى حيث شاءت ولكن ليبق لنا الطفل. إن هذه المواد جميعاً قد وجدت من أجل الطفل، ولم يوجد الطفل لها. . . ثم قال:
لقد كان الباحثون في التربية قديماً، يجعلون الطفل في المنزلة الثانية بعد المواد، وما ذلك إلا لضيق تفكيرهم، حتى أن العلم الذي كان يبدي اهتماماً ظاهراً بالأطفال لا يساوي في نظرهم شيئاً. أما اليوم فإننا يجب أن نجعل الطفل في المرتبة الأولى وأن نوليه كل عنايتنا.
ثم ذكر حقيقة قد أغفلناها نحن وطال إغفالنا لها حتى كدنا ننساها كل النسيان، وذلك أننا نحمل الطفل من الدروس أكثر مما يطيق، ونعطيه من المواد فوق ما يحتمل، فإذا عجز من تحملها أضفنا إليه أعمالا أخرى فنأتي له بالمدرسين الخصوصيين ونحبسه مع كتبه في حجرة بعيدة عن الآخرين، ونضطره إلى البقاء حبيساً حتى تعتل صحته البدنية ونحتل قواه العقلية وتفسد أخلاقه، وربما أدى به الحال إلى السير في طريق الفساد والآجام دون أن يبلغ ما حبس من أجله وهو الشهادة المرجوة والنجاح المأمول.
إن الشهادة ليست بذات قيمة كبيرة ولا تستحق منا هذا الاهتمام الذي يجعلنا نسلب أولادنا صحة أبدانهم ونفقدهم عقولهم ولو كان هذا من أجل علوم الدنيا مجتمعة.
وقد قال المندوب! إننا لم نترك حجراً على حجر في هذه الناحية إلا قلبناه ونقبنا حوله، حتى أصبحنا نؤمن إيماناً كاملاً بأن نما النفس والروح لا يتم إلا على إنما الجسم - والمثل يقول العقل السليم في الجسم السليم - ويقول: أطعم الجسم العاري هواء نقياً وشمساً مشرقة، تكن بذلك قد غذيت الروح وطهرتها من الشوائب، أما لو أهملت الجسم فانك تقتل الروح وتفسدها.
ثم عرض المؤلف لكثير من أراء مندوبي كثير من الكواكب التي تخيلها قد حضرت المؤتمر لهذا الغرض النبيل، لا داعي لذكرها هنا حيث أن كل المناقشات كانت تنصب على هذه الأغراض المهمة.
والحق إن واضع الكتاب استطاع أن يصوغ آراءه الجديدة في صور هزلية واستطاع أن يضحك من نظم التعليم الفاسدة في غير تعرض لأحد أو مسا بأي دولة.
هذا كلام قبل عشرين سنة وقد ظهر فساده ولكننا نحن في مصر لا زلنا متمسكين به رغم اعترافنا بفساده وعدم ملاءمته للطرق التربوية الحديثة: فمتى يا ترى نقلع عن هذه الأخطاء ونصلح هذه المفاسد التي تضيع كثيراً من المواهب وتقبر كثيراً من العبقريات إننا نتوجه إلى القائمين بأعمال التربية والتعليم وعلى رأسهم عميد الأدب المربي الكبير معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف أن يعيدوا النظر برامج التعليم على ضوء النظريات الحديثة، والله ولي التوفيق.
عبد الموجود عبد الحافظ
أسيوط
في محراب الأشواق!
هذا مكانك؛ ههنا محراب أشواقي وحبي
كم جئته والدمع، دمع الشوق، مختلج بهدبي
كم جئته والذكريات تفيض من روحي وقلبي
يمددن حولي ظلهن وينتفضن بكل درب
هذا مكانك، كم أتيت إلى مكانك موهنا
تمضي بي الساعات، لا أدري بها. . . وأنا هنا
روح اصاخ لهتفة الذكرى، وللماضي رنا
يتنسم الجو الحبيب، ويستعيد رؤى المنى!
هذا مكانك، مثل روحي، فيه إحساس كئيب
متحسر. . . يصبو إلى الماضي، إلى الأمس الحبيب
متسائل عن شاعرين، هواهما حلم غريب!
كم رنحا بالشعر جوهما، ففاض جوي مذيب
هذا مكانك، أين أنت؟ وأين أطياف الفتون؟
المقعدُ الخالي يحن إليك مرفقه الحنون. . .
أسوان، يرمقني، وقد أهويت أنشج في سكون
ومواجدي ملهوفة النيران، تهدر في جنون
ذنبي الذي قد هاج ثورة قلبك المترفع
كفرت عنه بأدمعي، بتنهدي، بتوجعي
كفرت عنه بما ترى من ذلتي وتخشعي
ويخفض قمة كبريائي الشامخ المتمنع!
ذنبي؟ وما ذنبي؟ ألا ويلاه من ظلم القيود!
ما حيلتي والغل في عنقي على حبل الوريد!
أواه! حتى أنت لم تنصف الهوى قلبي الشهيد؟!
أواه؟ حتى أنت تظلمني مع القدر العنيد!؟
قلبي يئن، يلوب في ألم؛ يسائل في شرود:
لم لا يعود، فلا يجيب سوى صدى (لم لا يعود)
وأروح، في شفتي أشعار، وفي كفي عود
وأعاتب الأيام، والزمن المفرق، والوجود!. . .
لم لا تعود؟ أنا هنا وحدي بهيكل ذكرياتي
وحدي، ولكني أحسك في دمي، في عاطفاتي
أصغي لصوتك، للصدى المغنوم في أغوار ذاتي
وأراك من حولي، وفي، وملء آفاق الحياة!
قدوي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
استقبال تيمور بالمجمع اللغوي
كان يوم الخميس الماضي موعد الجلسة العلنية التي عقدها مؤتمر مجمع فؤاد الأول للغة العربية لاستقبال الأستاذ محمود تيمور بك بعد انتخابه وصدور المرسوم الملكي بتعينه عضواً عاملاً بالمجمع خلفاً للمستشرق الألماني المرحوم الدكتور أوجست فيشر، وكانت كلمة الاستقبال لمعالي الدكتور طه حسين بك، وقد تحدث فيها عن تاريخ الأسرة التيمورية، ومكانة أفرادها وآثارهم في العلم والأدب والفن، ولما خلص إلى الحديث عن الأستاذ محمود بك قال يخاطبه: ولعلك تذكر وإني أذكرك إن كنت نسيت حديثاً ألقيته في بعض مؤتمرات المستشرقين وكنت تخلص فيه للدفاع عن العامية ولم تكن تقدر أنك ستكون مجمعياً يوماً ولم تقدر أن العربية أقوى منك كما كانت أقوى من كثرين، لا من الأفراد بل من الشعوب، ولم تكن تقدر أنك ستضطر يوماً أن تكون من حماة العربية الفصحى التي كانت تؤثر عليها العامية في بعض أوقاتك ثم نرى تغلب هذه العربية عليك يزداد شيئاً فشيئاً، وإذا هي تلتهمك التهاماً، وإذا هي تقهرك على ما تريد هي لا ما كنت تريد أنت، وإذا أنت لا تستطيع إلا أن تكرهها في شيء واحد هو خير ما تحب لها وهو خير ما تحب لنفسها تكرهها على أن تتلقى من المعاني والخواطر الرائعة ما لم تألفه من قبل، وإذا أنت من الممرنين لها أحسن تمرين.
وقال: وأنت كاتب حلو النفس عذب الروح خفيف الظل لا تثقل على قارئك مهما تطل عشرته، وأذكر أني تلقيت بباريس كتابك (سلوى في مهب الريح) فترددت في قراءته وآثرت أن أقرأ ما أقرأ من الأدب الفرنسي ولا سيما حينما أكون في فرنسا ولكني لا أستطيع أن أرد نفسي عن قراءة آثارك، فأخذت نفسي بقراءة صحف منه بين حين وحين على ألا يصرفني عما أنا فيه من قراءة، وأقسم أني ما بدأتها حتى أعرضت عن كل ما سواه ومضيت في القراءة حتى إني لم أقطعها القراءة إلا حين لم يكن من قطعها بد.
وأفاض الدكتور طه حسين بك في تحليل أدب تيمور، ووصفه بأنه أديب عالمي ليس أدبه مقصوراً على مصر وحدها ولا على الشرق العربي وحده وإنما هو أدب امتد إلى الغرب
إذ ترجم كثير منه إلى اللغات الأجنبية الحية. ثم قال: أتفهم الآن لماذا سعى إليك المجمع سعياً رفيقاً كما يسعى إلى شيء، ذي خطر لا يسهل الوصول إليه، بدأ فقدر آثارك الأدبية وأجازها ونوه بها، ثم أستأني بك لأنه يعرف من تواضعك وهدوئك وإيثارك لما ورثت عن أسرتك من حب العزلة والانزواء، استأني حتى تسيغ هذا التقدير وتطمئن إليه، استأني بك سنة أو سنتين، فلما عرف أنك تلقيت هذه الصدمة وصبرت لها واحتملتها ثم تعزيت عن تقديره إياك فسافرت وكتبت وأنتجت، هجم هجمة وأخذك على غرة، وأشهد ما عرفت ولا حسبت قط بأن المجمع يريد ضمك إليه، وإنما أخذك فجاءة في يوم ائتمر بك صديقان هما احمد أمين بك وطه حسين فرشحاك، ولم يكادا يعرضان الأمر على المجمع حتى أجمع على اختيارك، وإذا أنت قد التهمك المجمع بعد أن التهمتك العربية التهاماً من قبل.
وبعد ذلك وقف الأستاذ محمود تيمور بك فألقى كلمته. وقد بدأها بالتعبير عن تهيبه عضوية المجمع أو في الحقيقة عن تواضعه ثم تحدث عن الدكتور فيشر، جرياً على السنة المتبعة في أن يتحدث الخالف عن السالف، فقال أنه كان أحد أولئك الأفذاذ الذين تتراءى لهم في مؤتنف حياتهم أحلام عزيزة وكان الحلم الذي صبغ حياة الدكتور فيشر بصبغته أنه أراد أن يكون للغة العربية معجم يؤرخ ألفاظها ويتناول ما تعاقب على هذه الألفاظ من أطوار، راجعاً بكل لفظ إلى منزعه أو إلى ما يقابله في شقائق العربية من اللغات السامية، وهو مشروع جديد ليس له سوالف تيسر عليه مهمته وكأنما الأقدار قد هيأته لذلك العمل الضخم وأعانته بأدواته، فهو المتفقة في شتى اللغات السامية، وهو العليم بموازين الدراسات في اللغات على اختلافها، وهو البصير بقواعد البحث العلمي على أدق مناهجه، وهو الصابر المثابر، وهو صاحب الهوى العذري للغة العربية على وجه خاص. صرف نفسه إلى منابع اللغة نفسها من منظوم ومنثور في العصر الجاهلي وصدر الإسلام وأكب عليها يستقري ألفاظها ويتبين معانيها في سياق الكلام ويستجلي تطور هذه المعاني وتنقلها بين الحقائق والمجازاة، لبث الدكتور فيشر أطيب عمره في هذا العمل، ثم دعي إلى المجمع عضواً عاملاً فيه، ثم طلب إليه أن ينجزه معجمه في دار المجمع على أن تهيأ له وسائل الإقامة والعمل، فخف له واستمر فيه حتى كانت الحرب الشؤمي فحالت بينه وبين العودة السنوية لاستئناف عمله في وطن حلمه العزيز، وبينما كانت العقبات تذلل في سبيل أن يعود عجلت
به المنون إلى عالم الغيب والشهاة، تاركاً في هذه الدار صناديق معجمه تخفق فيها روحه، كأنها تنكر على الناعي أنه قضى.
ثم تحدث الأستاذ تيمور عن مهمة المجمع في المحافظة على سلامة اللغة العربية التي أصبحنا مؤمنين بأنها لغتنا التي يجب أن ننهض بتنميتها، ولذلك يعد المجمع من المؤسسات التي تقتضيها حياتنا الاجتماعية. ومما قاله في هذا البحث القيم: لا تثريب علينا في المفاخرة بأن لغتنا العربية غنية بألفاظها وتراكيبها، ولكن الغنى اللغوي لا يقوم باختزان الكنوز، ولكنه يقوم بمقدار التعامل، ونحن نملك من ودائع الألفاظ والتراكيب ما تضيق به خزائن المعجات، فمثلنا في ذلك مثل امرئ يحتاز القناطير المقنطرة من صكوك لا يجرى بها تعامل، على حين أن السوق مغمورة بصكوك أخرى يتعامل بها الناس، فالسوق في غنى عن صاحب تلك القناطير، وهو لما تحمل السوق من سلع فقير، ومنه قوله: وفي غير مستطاع المجمع اللغوي أن يصنع الألفاظ صنعاً أو أن يفرضها على المدلولات فرضاً، وإنما الذي يستطيع أن يفرض هو البيئة المثقفة وحدها، فالكتاب والعلماء والباحثون والدارسون في كل فن ومنحنى هم الذين يستوحون ضرورة الاستعمال ويستلهمون ذوق التعبير، وعلى المجمع بعد ذلك أن يستصفي ما يتلقاه من لغة المجتمع بالتأييد والإقرار، حتى يكون مثله في ذلك كمثل الطعام، لا يطمئن الناس إلى صلاحيته إلا أن ختمه معمل التحليل بخاتم الأمان.
تكريم العريان
في يوم الخميس الماضي احتفل جمع من الأدباء ورجال التعليم بتكريم الأستاذ محمد سعيد العريان في نادي الصحفيين. وكان من خطباء الحفل الأستاذة عطية الأبرشي وعبد الله حبيب ومحمود العزب موسى وطه عبد الباقي سرور. ومن الشعراء الأستاذة محمد غنيم وعلي الجمبلاطي ومحمد مصطفى حمام وعزت حماد. وقد أناب عميد الأدباء معالي الدكتور طه حسين بك عنه الأستاذ حسين عزت مدير مكتبه فألقى كلمة بالنيابة عن معاليه عبر فيها عن مشاركته في تكريم المحتفل به وتقدير أدبه الممتاز وإنتاجه القيم
كانت كلمة الأستاذ الأبرشي جامعة شاملة، إذ كان موضوعها (أثر الأستاذ العريان في الأدب والتعليم) وهو موضوع مترامي الأطراف اضطر فيه أن يمر بنواحيه مروراً عابراً
أشبه فجاء بتقارير المفتشين منه بالدراسة الكاشفة، ويظهر أن الوقت كان ضيقاً فلم يكف لأن يتصفح الأستاذ كل مؤلفات العريان، ولكن كان ينبغي أن يتجنب الحديث عما لم يتمكن من الاطلاع عليه وهو كتاب (حياة الرافعي) إذ قال عنه إنه دراسة تحليلية لأدب الرافعي، وهو ليس كذلك، إنما هو دراسة لحياة الرافعي لا أدبه.
وكان موضوع الأستاذ عبد الله حبيب (حياة الأستاذ العريان من مؤلفاته) وقد استطاع أن يصور ملامح شخصيته ونوازع نفسه بعرض أهم الأحداث في حياته وصداها في كتبه. وقد عرض لصلة العريان بالرافعي فذكر أن بعض الناس قالوا: لقد أصبح العريان رافعياً، وأن الدكتور طه حسين قال. لم يصبح العريان رافعياً ولكنه أصبح مدره الرافعي. ثم ذهب الأستاذ عبد الله إلى أن الرافعي هو الذي أصبح عريانياً، وفسر ذلك بأن كتابات الرافعي في عهده الأول كانت غامضة مستغلقة، ثم كان في العهد الثاني يملي على العريان فكان هذا يتوقف عن الكتابة إذا أغلق بيان الرافعي، فيقول له: حتى أنت يا عريان قد أصبحت عامياً. فيجيبه. إذا كنت حيال هذا الغموض قد أصبحت عاميا فكيف يصبح حال الآخرين؟ ثم تهدأ ثورة الرافعي فيعود إلى عبارته بالتوضيح والتقويم. وقد عقب الأستاذ العريان على هذا في كلمته الشاكرة - بأنه غير صحيح. عقب بهذه العبارة الإجمالية التي تشبه البلاغات الرسمية، وكنا نود أن يبسط القول في هذه النقطة ولكن يظهر أن ملابساته الرسمية الأخيرة غلبت عليه.
وتناول الأستاذ عبد الله حبيب في حديثه أيضاً مسألة إقصاء الأستاذ العريان عن وزارة المعارف، فأشاد بفضل هذا الإقصاء على الأدب إذ تفرغ للدراسة والإنتاج، فأصدر مؤلفات قيمة وكان بصدد مؤلفات أخرى لولا (جناية) وزارة المعارف أخيراً برضائها عنه. . . إلى أن قال: هل لنا أن نلتمس من صاحب المعالي وزيرنا الجليل أن يتفضل ياقصائه عن الوزارة فترة قصيرة يفرغ فيها لاخراج هذه الكتب التي تعطلت بسبب رضائه عنه وإعجابه بكفايته. . .
وكانت قصيدة الأستاذ غنيم رائعة خفيفة الظل، قال في أولها:
كرموه تكرموا عرياناً
…
ليس الفضل وحده طيلسانا
قد كسته الطروس ثوب فخار
…
وكساها من فنه ألوانا
وكان اسم (العريان) موضع الدعابة اللفظية والتفنن في المعاني للخطباء والشعراء، ومن ذلك قول حمام.
متواضعاً ثوب الفضيلة فوقه
…
كاس ويزعم نفسه عريانا
بل جر هذا الاسم إلى القافية في قصيدتي غنيم وحمام.
والملاحظة - على وجه العموم - أن الكلمات التي ألقيت - عدا كلمة الأستاذ عبد الله حبيب - كانت عائمة، فلم يركز أحد منهم اهتمامه بناحية من النواحي الأدبية للمحتفل بتكريمه تركيزاً يكشف عنها ويبرزها، فمثلاً لم اسمع من أحد منهم صدى واضحاً لقراءته كتاباً من كتب العريان. ولم يحددوا بالضبط مكانة أديبنا من أدباء العصر وخصائص أدبه الأصلية.
ومما أستطيع أن أجمله في هذه المناسبة، أن الأستاذ العريان يجمع في أسلوبه بين البيان العربي الحر والرشاقة العصرية كما يجمع في موضوعه بين الإمتاع النفي والبحث الدقيق والمنطق السليم، وأتى لأراه يزحف إلى الصف الأول على رأس نفر قليل من أدباء الصف الثاني. ولا أخشى عليه من وزارة المعارف كما خشي الأستاذ عبد الله حبيب، فان طبعه المكافح وروحه القلق لن يهدأ ولن يستطيع شيء أن يظفر به دون الأدب.
ويجرني ذلك إلى التصريح برأيي في شخصية الأستاذ سعيد، وهو يخالف رأي أكثر الناس فيه، إذ يقولون: إنه رجل طيب، مخدوعين بما يبدو عليه في الظاهر من الهدوء والوداعة، ومأخوذين بما يأتيه فعلاً من العمل الصالح. والحقيقة التي أراها أنه ليس رجلاً طيباً كما يفهم الناس من هذا الوصف بصرف النظر عن معنى الكلمة، إنه هادئ الصفحة ولكن صخاب فيما دونها. . إنه داهية خطير. . هو في ملابساته العلمية كما تراه في أدبه يتعمق الأشياء وينفذ إلى الدخائل ويستكشف الدقائق. إنه يكافح في حرب صامتة وقد شوهد أخيراً يجول ويصرع. وقد كان وجوده في منصبه بالوزارة أخيراً بمثابة (إرهاص) لإقبال الدكتور طه حسين بك. وكم تحتاج أمور الثقافة والتعليم في وزارة المعارف إلى هذه العزائم الصادقة والهمم التي تمضي إلى ما تريد وهي لا تريد إلا الصالح العام.
لقد أثبت عميدنا الكبير، كما أثبت أديبنا العريان، أن الأديب - على خلاف ما يقول بعض الناس من أنه إنسان خيالي غير عملي - أهل لادارة الأمور على خير ما يكون وما ينفع
الناس.
عباس خضر
الكتب
(عثرات اللسان)
صنفه الأستاذ عبد القادر المغربي عضو مجمع فؤاد الأول
للغة العربية
للأستاذ محمد فريد أبو حديد
لا عجب أن يصنف الأستاذ المغربي هذا الكتاب فهو من أشد العرب حرصاً على سلامة العربية. وهو في تصنيفه هذا الكتاب يسير على منهج كثير ممن سبقوه من أعلام اللغة العربية الذين كانوا يجدون في كل عصر ما يثير حفيظتهم ويحفزهم إلى حماية اللغة العربية مما لا يفتأ يهاجمها من اللحن والخطأ.
وقد دب اللحن إلى العربية منذ أكثر من عشرة قرون وكان فصحاء العرب كالحجاج بن يوسف نفسه يحاذرون أن يقعوا فيه ولا كاد أحدهم ينجو منه.
والكتاب ينطوي على ثلاثمائة وخمسين كلمة بوبها الأستاذ على أقسام تجري على ترتيب حروف المعجم. ولاشك في أن اللحن في اللغة يقع في ألوف من الألفاظ فحبذا لو استطاع الأستاذ أن يمضي في إحصائه بعد ذلك حتى يستوعب بالتصحيح كل الأخطاء الجارية على الألسن.
ولمثل هذا الكتاب فائدة غير فائدته في التصحيح وذلك أن الأستاذ المصنف إنما يتناول الخطأ الجاري على السنة قطره ونستطيع منه أن توازن بين لهجات الأقطار العربية لعل بعضها ييسر للبعض الآخر تصحيح الخطأ. وقد لاحظت في تلك الأخطاء التي أحصاها الأستاذ أن كثيراً منها يستقيم في لهجة العوام في مصر. فالنذر مثلاً في لهجة الشام النذر بكسر النون هو في لهجة مصر النذر بفتح النون. والنثارة في الشام بكسر النون أيضاً وهي في مصر بضمها وهو الصحيح. وكذلك النخالة في الشام بكسر النون ونونها في مصر مضمومة صحيحة. ويمكن أن نحصي من هذا النوع عدداً كبيراً نجده سليماً في لهجة مصر محرفاً في لهجة الشام فمن ذلك المجون بضم الميم والمغربي بفتح الميم ومتر مكعب بضم الميم وتشديد العين المفتوحة ومساحة بكسر الميم ولجنة بفتح اللام وكناسة بضم الكاف
وقنينة بكسر القاف وكرة القدم بفتح الراء وتخفيفها وقرض بفتح القاف وقدوم بفتح القاف وتخفيف الدال وهكذا.
واللغة العربية ليست ملكاً لقطر واحد من الأقطار بل هي ملك مشاع بين جميع الشعوب العربية ولعله من الجدير بنا إذا أردنا تقويم اللسان في الألفاظ الشائعة أن نبدأ بحصر المحرف في اللهجات العامية على اختلافها حصراً شاملاً ثم نعمد إلى جمع ذلك كله في شبه قاموس نذكر فيه اللفظ العربي السليم ونوجه أنظار الناشئة إليه في معاهد التعليم في البلاد كلها. فالاكتفاء ببيان بعض الأخطاء عمل مشكور ولكنه لا يعالج الداء علاجاً شافياً.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى رأي ذهب إليه الأستاذ الفاضل في مقدمة كتابه إذ قال:
(ولا يخفى أن إحياء اللغة الفصحى بيننا لا يمكن حصوله بمراعاة قواعد النحو فقط ولا بالتزام حركات الإعراب في أواخر الكلمات التي نتكلم بها في كلامنا الدارج فان هذا ليس بالميسور ولا المستطاع للجمهور. وإنما المستطاع هو تطهير كلامنا من الكلمات العامية المبتذلة واستعمال كلمات فصيحة مكانها.)
وهذا موضوع له خطورته فأنا أعرضه لطرافته وحسبي منه أنه دليل على ما للأستاذ من سعة الصدر وما عنده من الحماسة المشكورة على جعل لغة الحديث والحياة سليمة حية تقترب من لغة الكتابة في فصاحة اللفظ وتجعل لغة الأدب مستساغة عند جمهور الناس
وبعد فإذا كان لي أن استدرك به على الأستاذ الفاضل فاني أظنه يذهب إلى نوع من التشدد الذي يجعل مهمة التقريب عسيرة مع أنه يسعى إليها ويدعو إليها. فإذا كان لفظ يحتمل الإجازة على وجه من الوجوه كان الأجدر بنا أن نقره ولا نتشدد في تخطيئه ما دامت اللغة الفصحى لا تنكره ولا تأباه. فالبرسيم مثلاً يجري على الألسنة بفتح الباء وهو كلمة غير عربية الأصل على أكبر الظن إذ قد وجد في عصر أقدم من الكلمة العربية مكسورة الباء فلا ضير في بقاء اللفظ كما يستعمله الناس في مثل هذه الحالة ومثل هذا نقول في جرجير بفتح الجيم بدل جرها وكذلك لفظ ثكنة بضم الثاء وأظن أن تخطئه الذين يفتحون الثاء والكاف فيه شيء من النظر فجمع هذا اللفظ على وجهين أولهما تكن بضم الثاء وفتح الكاف والآخر بفتح الثاء والكاف وهذا يشعر بأن اللفظ كان مستعملاً في المفرد بفتح الثاء والكاف وإن لم يسمعه صاحب المعجم. والأستاذ يخطئ من قال الدخان يوزن رمان مع أن
القاموس نص على صحة هذا الوزن.
وهو يخطئ من قال الدفعة بضم الدال والقاموس المحيط يذكر الدفعة من المطر. كما أنه لا يرضى أن نقول على الرحب بفتح الراء والرحب المكان المتسع ففيه وجه حسن.
وهو يصحح لفظ السحنة بفتح السين والحاء معاً مع أنه يصح أن نقول السحنة بفتح السين واسكان الحاء وهذا أقرب في التصحيح وأيسر كما أنه يصحح لفظ قروي بضم القاف فيجعلها بفتح القاف مع أنه يجوز على أنه نسبة للجمع وهو مقبول لغة ويكون معناه النسبة إلى القرى عامة لا إلى قرية معنية وقد جرى الاستعمال على إطلاق لفظ القروي على الذي يعيش في قرى الريف
هذه بعض الملاحظات صغيرة أعتقد أن الأستاذ الفاضل يرحب بمثلها فهو في عمله وتحقيقه من الأعلام الذين يرضون عن الحقيقة أكثر من رضاتهم عن الموافقة ولا يمكن أن تكون مثل هذه الملاحظات اليسيرة إلا دليلاً على فضل الأستاذ وتحية لجهده المشكور.
محمد فريد أبو حديد
البريد الأدبي
حول ترجمة قصيدة بودلير:
في مقالنا (الحب دوحة الأدب) ترجمنا كلمة وهي عنوان قصيدة بودلير - بكلمة ضميمة. ولفت الدكتور عبد الرحمن بدوي نظرنا إلى أن هذه الكلمة لا تعني هنا ما قصدنا ترجمته إلى العربية، وانما تعني التفكير أو التأمل وأشار علينا أن نترجمها بكلمة تأمل مباشرة.
وراجعت هذه الترجمة فوجدت أول الأمر أن القواميس أشارت إلى معنيين لهذه الكلمة. وهما الضم أو الجمع، والتفكير أو الانطواء على النفس في حالة التأمل. بيد أن الشاعر لم يقصد إلى المعنى القاموسي الثاني مباشرة لأنه كان يريد أن يستلهم ما في الكلمة من روح دينية صوفية. ولذلك نستطيع أن نقول إن فيها تأملا وتفكيراً واستبطاناً وتركيزاً لعمليات الدماغ ولكنها ليست شيئاً من ذلك كله على حدة.
وحينما ترجمتها بكلمة ضميمة فقد كنت أريد أن أشير بذلك إلى عملية استكناه الذات التي يقوم بها الصوفي وحالة الارتداد إلى النفس التي يكون عليها المتأمل عندما يستجمع تفكيره ويقوم باستلهام فؤاده واستشعار ذلك الإحساس الغريب بالطمأنينة والسلام الداخلي وقت التهجد. ومن أبرز خصائص هذه العملية هو استجماع المدارك وضم المشاعر ولصق كل من اليدين بالأخرى على نحو ما يفعل المصلي المبتهل.
فلم أخطئ كثيراً حينما ترجمت هذه الكلمة على ذلك النحو. وإذا شئنا دقة أكثر فإننا نستطيع أن نترجمها بكلمة (تهويمة) ففي هذه الكلمة التي اهتديت إليها بعد التفكير الطويل كثير من روح الكلمة الفرنسية كما قصد إليها بودلير. ونلاحظ بهذه المناسبة أن الكلمة نفسها بالفرنسية غير واضحة المعنى تماماً.
وعلى كل فنحن نشكر للدكتور بدوي جميل عنايته وحسن توجيهه.
عبد الفتاح الديدي
ذكرى الجارم بك
في اليوم الثامن من فبراير الماضي فاضت روح الشاعر العالم علي الجارم بك وشعره يتلى على مسمع منه رثاء للمغفور له محمود فهمي النقراشي باشا.
فنحن الآن على ميقات الذكرى من رجل أحيا تراث العربية وشدا بأمجادها، حاكى في قصيده الأولى من أهل البيان الصحيح وكان من الرعيل الأول الذين ظفر بهم مجمع فؤاد الأول للغة العربية وكان لي حظ معرفة الرجل عن كثب حين كنت في عداد موظفي المجمع، فأدركت مبلغ غيرته على العربية وثورته من أجلها إذ كان لا يطيق مبدأ الترخص في ألفاظها أو في نحوها أو في صرفها.
وكان رحمه الله على شدة بصره باللغة وفهمه لآدابها شديد التواضع في العلم يبحث عن المعرفة في مواطنها، ويأخذ الحكمة من كل لسان، يبدو له الرأي الخمير فيعرضه علينا نحن تلاميذه الصغار. ويناقشنا فيه ويستدرجنا إلى القول؛ حتى تتأدى له الحقيقة حرة خالصة من كل شيب!
نقول إننا على ميقات الذكرى الأولى لهذا العالم الكبير، فهل فعلنا شيئاً لتخليد ذكراه، بل هل صنعنا شيئاً حتى لا ننساه؟ جواب هذا عند المجمع اللغوي وعند الذين تهدوا بهدي الجارم وتأدبوا بأدبه.
ولقد كنت منذ أيام أزور مدينة رشيد مسقط رأس الشاعر العظيم، فإذا هي كابية حزينة ذهب رواؤها القديم وعفى الزمان على تليدها وطارفها وبقيت بلدة تعيش على هامش الحياة. وسألت طائفة من المثقفين من أهل رشيد: أما زلتم تذكرون الجارم الذي خلد اسم مدينتكم في شعره وتحدث عن نخيلها وبحرها ونيلها. فقالوا لم نعد نذكر من أمجاد رشيد سوى اسم الجارم، وليس لنا من العزاء إلا أن رشيداً ذكرت في شعر الجارم بعد أن ذوت وأهملت إهمالاً لم تنحط إليه مدينة من مدائن مصر جميعاً.
وقيل لي إن طائفة من أعيان المدينة اقترحوا أن يسمى شارع (السوق) باسم (علي بك جارم) فأهمل مقترحهم. ولعل مرد ذلك أن أهل العلم والأدب أمست بضاعتهم مزجاة لا تستحق الخلود ولا تصبر على أحداث الزمان؟
كتاب الدرة لابن البيطار
أخرج الأستاذ محمد بعد الله الغزالي أمين مكتبة منطقة الإسكندرية التعليمية كتاب (الدرة البهية، في منافع الأبدان الإنسانية) لمؤلفه ضياء الدين أبي محمد عبد الله بن البيطار المالقي الأندلسي المتوفى سنة 646 من الهجرة.
وقد عثر الأستاذ الغزالي على النسخة الخطية لهذا الكتاب النفيس يوم أن كان مدرساً في الحرم الملكي بالحجاز، فنشر منذ عشر سنوات موجزاً لها باسم (مفردات ابن البيطار) أقبل عليه الأطباء المحدثون وأدخلوا كثيراً من أعشابه في (تركيباتهم) الأمر الذي حذا بالناشر على التوفر على النسخة الأصلية مرة أخرى فطبعها كاملة، وأردفها بالمصطلحات الطبية في اللغة اللاتينية. ثم عقب على (الدرة) بتعليقات قيمة عن تجاربيه وتجارب الأطباء لأنواع النبات التي ذكرها ابن البيطار، وخلص من ذلك إلى نصائح جمة أزجاها إلى الشباب لحفظ أبدانهم من التلف.
وقد ذكر لنا أكثر من طبيب من فضلاء الأطباء الإفرنج أنهم استفادوا كما استفاد مرضاهم من كتاب ابن البيطار، ولا مشاحة في أن الأستاذ الغزالي بذل جهداً يستحق عليه الثناء
الرمل
منصور جاب الله
القصص
رسالة من صديق. .
الأستاذ غائب طعمه فرمان
كنا أربعة. . تربطنا رابطة وثيقة من التآلف والانسجام، وتنبعث في نفوسنا رغبات متسقة، وآمال واحدة في الحياة. حتى يخيل إلينا أننا نؤلف كياناً مؤتلف الأركان في دنيا تنهار تحت معاول الانشقاق!
وكنا نجتمع كلَّ أمسية في بيت واحد منا. . نخلو إلى أفكارنا بعيدين عن ضجة الواقع، وصخب العيش. . وكانت عقولنا تضل في متاهات من الأفكار والتصورات، وتهيمُ في أفلاك بعيدة المدى، غريبة عن الحياة!. . وكل منا يحمل بين جنبيه قوة طاغية من التذمر والاندفاع وراء أخلية غامضة حتى لقد ثبت في ضمائرنا أن برزخاً عميقاً يفصلنا عن عالم الناس. . . فقد كنا نعجب من سلوكهم ونسخر من انشغالهم بالتوافه وصغائر الأمور. . أما نحن فنملك ذخيرة - لا تقدر - من الأفكار الرائعة، ولا يشغلنا إلا مصير الإنسانية ومنشأ الوجود، ولا نحفل إلا بعظائم الأمور، لا نقلب الرأي إلا في آفاق الكون الفسيحة!!
وكان (سامي) أكثرنا اندفاعاً، وأعمقنا إيماناً. فقد كان روحاً هائمة في أدوية الغيب! يسير مع فكره في أجواء غامضة لا نهاية لها ولا حدود. . كان يزدري الحياة ويعجب من متناقضاتها، ويطوي نفسه في أعماق وحدة من الفكر والشعور!
وشاء الله أن يفرق شملنا، فقد سافر سامي إلى بيروت، وسافرت أنا - بعده - إلى مصر، وتطوَّع ثالثنا للتدريس في أحد أرياف العراق. . أما رابعنا فلم أسمع عنه شيئاً!. .
وقضيت شهرين في مصر سمعت أن سامي سافر إلى باريس. . ثم مضت الأيام وشغلتني أسباب الحياة عن الالتفات إلى الماضي لاسترجاع صوره، وجميل ذكرياته. . حتى جاءتني - ذات يوم رسالة طويلة تحمل طوابع فرنسية، وعرفت أنها من صديق الصبا (سامي). ولا أخفي على القراء شيئاً فقد ذَهلت من أمر هذه الرسالة، فقد قطع سامي رابط صداقتنا منذ أن سافر إلى بيروت ونسيت أنا في غمرة الأيام صاحبي!. . ولكنَّ هذه الرسالة أعادت لي صورة ذلك الراهب في محراب الوحدة الموحش
(عزيزي
(. . . لم تعودني حياتي الماضية على أن أصارح أحداً، وأطلعه على مكنون نفسي. . فقد كنت أعيش في عالم غريب عني كل الغرابة، كريه إلى نفسي أشد الكره. . عالم لا تشغله إلا هموم المادة، ولا تدور في خلده إلا بواعث الجريمة. . فإذا تنكبت عن عادتي وجاءتك رسالتي محملة بعض أسراري فما ذلك إلا لأنك صديق روحي، ولأن إناء نفسي فاض على الجوانب. . ولم أستطع تحمل وطأة مشاعري المضمرة في صدر تتناهبه شتى الأعاصير!
وكثيراً ما كنت أخلو إلى نفسي، وأستعرض صور الحياة الماضية، وذكرياتها الدفينة فتلوح لي الحياة التي أحياها فصلاً من (رواية) ساخرة فقدت عنصر التشويق، وضاعت في ضمير الغيب نهايتها!. . لهذا فقد كنت ممتلئ النفس بالحقد، زائغ البصر عن الغاية، أدفع قدميَّ في طريق وعرة خالية من الصوى. . لقد كنت أحاول أن أجعل من روحي ينبوع نور في طريق حياتي المظلم، وكنت أحاول أن أرتفع من وحول الواقع إلى سماء فلسفة مثالية سامقة. . ولكن الظلمات استنزفت ينبوع نوري. . وأحسست بقوة قاسه كثيراً ما كنت تدفعني إلى. . الوحل!
وكنت. . وأنا في نشوة فلسفتي أحس بأن هناك بين أيدي البشر ملاهي تلهيهم عن مآسيهم، وتطلي وجه حياتهم البشع ببارق الألوان. . ولكن العقل المدرك لا تخدعه الأباطيل!
غير أنني أقر بأنني لم أستطع أن أبقى في قمتي الباردة، وأتطلع إلى وجه الحياة المرعب بعينين لا يداخلهما الخوف. . فالحب - مثلاً - تلك الملهاة المزمنة. أو ذلك الغاز الخانق. كثيراً ما كان يغريني ويشعرني بتفاهتي وأنا قابع في أحراش وحدتي. فرحت أتطلع إلى مشرقة في أفق قلبي بشوق شديد. . أرجوك أن لا ترمقني رمقات يربض في طياتها الاحتقار. فأنا رجل تعذب بأفكاره كثيراً. ولم أستطع أن أتحملها فجئت أبثها لك. . يا صديق روحي.
أصارحك بأن حياتي الماضية كانت خفقات جريحة، وأشواقاً مضطرمة، وتهاويم في عالم لا نهاية له من الآمال الكاذبة. لا تسخر!. فان هذا المخلوق العاق المضطرب، الذي أوردني موارد الشقاء، والمسمى (قلبي) كثيراً ما خفق، وكثيراً ما تعذب، ورقص كالمذبوح على أطلال حبه، وعلى أشواك إخفاقه!. لقد كانت الكلمة التي يتغنى بها قلبي وهو وحيد لا تنطق بها شفتاه وهو في حضرة معبودته!.
ماذا تظن يا صاحبي؟!. .
أنحن الذين نفكر بمصير الإنسانية، وتشغلنا عظائم الأمور لا نفكر إلا بعقولنا!. لا يا صديقي. فلم يكن رائدي أنا على الأقل في مجاهل الغيب، وأسرار الكون، وآفاق الإنسانية إلا قلبي. قلبي الذي تستعبده الأشواق الحائرة. إن قلبي كان دائماً دليلي وقائدي. أو قل كان جلادي! فالنور الذي كان يتدفق منه ينير حلكة حياتي. كان في الوقت ذاته يعشى ناظري فأظل والحيرة دائماً تلازمني كظلي!
وعندما نزلت إلى بيروت كان الشك في نفسي يعشعش، وكنت لا أثق في نفسي أية ثقة، ولا أطمئن إلى حياتي أي اطمئنان!
وفي بيروت صدمني الواقع أول صدمة، وامتلأت نفسي بالمرارة. .
سأروي لك القصة من أولها. . فعلى الرغم من مرارتها فأن شوقي كبير في أن أصارحك بها لتجد نتيجة فلسفتنا المحلقة في الأجواء العالية!
لقد بدت لي بيروت عالماً صاخباً لا يعرف الهدوء. أنا الرجل الراقد في أحضان السكينة في بغداد. . تلك المدينة التي مازالت تحتفظ بشيء من السحر القديم!.
وفضلت السكني مع عائلة فرنسية كريمة، وعائلة قوامها أب وأم. . وابنة في الرابعة عشرة من عمرها!. أوه. . يا صديقي لا تملأ فمك بابتسامة مثيرة!. فتاة في الرابعة عشرة من عمرها لا تثير في نفسي أية عاطفة. . وأنا في ذرى السابعة والعشرين أحمل على عاتقي أعباء فلسفة غامضة محلقة! لقد عاهدت نفسي على ألا أدخل في دهاليز الحب المظلمة ودروب العاطفة الملتوية. . لأن حياتي الماضية علمتني أن القلب إذا خفق وحده تسرب في خفقاته الذبول والاضمحلال! وفلسفتي القائمة التي يزخر بها فكري جعلتني بعيداً عن تلك الفتاة الصغيرة! فكنت أراها في الصباح فأحييها تحية جامدة لا روح فيها ولا طراوة. . وماذا تثير في نفسي هذه الفتاة؟. ثم ماذا خلف لي الماضي؟ الماضي المفعم بالكروب الممتلئ طريقه بالأشواك؟!. . ثم حياتي في بيروت تكلفي أعباء كثيرة، والنفس تجهد جهدهاً لتظفر بشيء من الراحة. ولكن لا راحة ولا اطمئنان!
وعندما كنت أرجع إلى بيتي، وقد تحطمت قواي. أجدها كالصورة الجميلة أو كالحديقة الغناء تحمل إلي الراحة، وأحس بالنسيم العبق يهب من جانبها!.
وكنت أرتاح إلى ابتسامتها العذبة، وخفتها المرحة، ولهجتها العذبة. وماذا تطلب من فتاة في الرابعة عشرة لا تحس بالحياة غير هذا الإحساس. ولا تحتفل بالدنيا بغير هذا الاحتفال؟
ورجعت مرة إلى بيتي وفوق كتفي تهبط الهموم! فرأيتها جالسة وحدها وهي صامتة فحييتها تحية مدرسية. فوقفت بقوامها الرشيق، والابتسامة تشرق من شفتيها. . وعينيها تضحكان!
فرأيتني أتطلع إليها! فقد لاحت لي زهرة غضه. أو عالماً صغيراً مليئاً بالأحلام تلك العوالم التي ضللت في مساربها طوال حياتي وعبق من أغوار ذلك العالم عطر مسكن. ورحت أتأملها كما أتأمل لغزاً جميلاً!
وعندما خلوت إلى نفسي كان عطر ذلك العالم الصغير لا يزال يعبق في أنفي!
وغمرني فيض من الأفكار وأنا في فراشي. ودخلت في متمدح أحلامي أتجعل!. ووقفت أمام مخيلتي هي. بقوامها الرشيق. وابتسامتها. وعيناها تضحكان! ورحت أتطلع إلى خيالها كما يتطلع الإنسان إلى تمثال يشرق منه النور! واتجهت بكل تفكيري وإحساسي إليها، فبدت لي حلوة عذبة كزهرة غارقة بشذاها فأشفقت إليها. لأول مرة. وأحستت بقوة تدفعني إليها دفعاً.
ولم أنم ليلتي!. ويح قلبي ماذا جرى له؟ ويح فكري ماذا يحمل من أفكار قاتمة؟ يا ويح نفسي إلى أية جهة تساق؟
وفي الصباح كنت أحس بجوع صارخ لها. وطلعت على كما يطلع النجم في ليل الساري. ونظرت إليها من تحت جفنين أثقلهما التعب، وأرثها التفكير الطويل، والسهر، والأوهام. فلاحت لي حورية!
ومن ذلك اليوم تبدل كل شيء!
رحماك لا تهزأ بي، فأنا رجل شقي. أنا أطلال من حياة إنسانية! لقد عشت في جو كئيب غامض ليس له عطر. لقد حملت نفسي فوق طاقتها وبنيت على أساسها الرملي قصور فلسفتي ومعابدها، وأطلقت في جنباتها بخوراً من وجداني. ولكن اليوم أرقب معابد فلسفتي تنهار، وبخور وجداني يتحول إلى رائحة سامة. لقد كنت دائماً أهرب من عملاق مارد إلى هياكل فلسفتي وآرائي الشاذة. فقد كنت أخاف هذا العملاق أشد الخوف أتعرف ما هو؟ إنه
الحرمان. الجلاد الذي كان يسومني سوء العذاب إن حياتي لو كتبها قصاص لكان عنوانها الحرمان. الحرمان من كل شيء. فهذا الشيطان المريد يطالعني أني توجهت، ويرسم لي خطة قاسية في الحياة!
فإذا وقفت على أعتاب عالم جميل، وهربت من جلادي فأشفق علي، وأرأف بقلبي العمود! وإذا لاحت إيماضة في ليل وحدتي، أو خفقت نسمة ندية في صحراء جوعي العاطفي، فأرجوك ألا تسخر مني. . أنا الظمآن الذي كاد يقتله الظمأ!
أوه يا صديقي. . أنا على أعتاب العالم الجميل؟ أرتجف!. . وتتملكني هزات عنيفة فأنا خائف أتوجس، خجل أتردد!
هذه حالتي. . أما هي فقد تسألني عنها. . هل تحس بما في نظراتي من لهفة، وبما تنم عليه قسمات وجهي من شغف، وبما يخالج في صوتي من أصداء لعاطفتي الحبيسة؟ فأجيبك بأنني لا أدري. . فقد كانت الطفولة تسبغ عليها ظلالاً جميلة، وتخلق أمام عينيها أودية خضراء، وتفتح لها أبواباً من الانطلاق والسرور والاندفاع؛ فهي مبتهجة دائماً، باسمة أبداً، دنيا من السحر والفتنة في كل الأحايين. أما أنا. المخلوق التعس فإنني أتلمس خطابي إلى ينبوع عينيها، وتوخسني الأشواك وحدي!
ومرة رجعت إلى بيتي متعباً، فالحياة دائماً تحاربني كأنني لست من أبنائها فراحت معانيها تساقط من عيني، وأحس في أعصابي جفاء صحرائها!
وعندما دلفت إلى بيتي. رأيتها واقفة، والابتسامة تترقرق في محياها.
يا الله. . أهذه طفلة بنت الرابعة عشرة؟
لقد بدت في عيني شيئاً آخر أكبر من طفلة. كانت ترتدي فستاناً أزرق كلون السماء الصافية، وقد شدت على خصرها النحيل نطاقاً أبيض كلون الثلج. أما محياها فقد أذهلني. . ما هذا؟ لم أعهدها تستعمل (الأحمر شفايف)! ولم أعهدها تتزين ورحت أتطلع إلى وجهها، وقد صبغته حمرتان: حمرة الخجل، وحمرة من زينتها - ولاح على ناظري تساؤل وعجب!
أقسم لك إن حياتي الماضية لم تعلمني كيف أصرف في مثل هذه المواقف، فهذه الصفعات من يد الأقدار، وأنا مختنق بأفكاري، أتلفت في آفاق حيرتي؛ هزمت كل ثقة في نفسي،
وحطمت كل قوة من أعصابي، وتركت في نفسي رماداً وهشيماً. .
ورأيتني أتسلل كاللص إلى غرفتي. . وبين جوانحي تعول الزوابع!
وفي وحدتي كانت الطيوف سماري. . . وكانت صورتها دنياي التي ضللت في دروبها. . . وساورتني شتى الأفكار، وبقيت معذباً بحمى وجدي المخنوق. . . وقد سمعت في أعماق وجداني تلك الكلمة الساحرة ترن: أحبها. . أحبها. . أحبها. . نعم. . أحبها. . ولك الحرية في أن تنزلني منازل المجانين. . . فأنا أريد أن أخلع رداء التستر وأوجه شمس الحقيقة. . . فقد ضقت من دنيا الطلاء والخداع!
ستسخر مني وتقول: أهذا ممكن؟. . فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تستحوذ على عقل رجل،، وتعبث فيه؟ رجل كان يحتقر الدنيا، ويأنف من صغائر الأمور، ولا يفكر إلا بعظائم الأشياء!
أما أنا فأجيبك أن حياتي الماضية بدت لي سخيفة، وكل تصرفاتي وأفكاري ليس فيها شيء من الحكمة والتعقل!. . جاءتني مرة وهي تقول: إن أمي ذهبت إلى أختها!!
فنظرت إليها وكنت أقرأ كتاباً، فأطبقت وغرقت في صمت أليم!
قالت: - ماذا تقرأ؟
قلت: - قصة مغامر فاشل يتردى في كل مغامرة من مغامراته في هوة عميقة. . .
قالت: - إذن - لماذا يغامر؟
- لست أدري. . ولكن الذي أحسه أن الحياة كانت تدفعه دفعاً إلى المغامرة. . . ثم تتألب عليه الأقدار في النهاية وتجره إلى الفشل الذريع!
- هذا داء عياء!
- أما أنا - شخصياً - فأعرف لدائه شفاء. . وهو أن يتاح له النجاح في مغامرة من مغامراته!. . فيرضخ إلى حكم الحياة بعد ما يصيبه الكسل. . ولكن هل يكتب له النجاح؟! لست أدري فالقوة التي تصوغ هيكل حياتنا لا تطلعنا على أسرارها ولا تمنحنا شيئاً من الحرية!. . صدقتي كلنا مغامر في ميدان الحياة. . ولكن نتائج مغامراتنا تختلف وتتعدد.
قالت وهي تبتسم وتألقت عيناها:
- وأنت مغامر في أي شيء؟
ورأيتني أجابه بغفلة، ويأخذني الذهول، من جميع أطرافي
قلت: - المشكلة هي أننا لا نستطيع تعيين وجهة مغامراتنا ونظرت إليها وهي ساهمة مطرقة كأنها لا تسمعني. . . ثم نظرت إلى نظرة صارمة وقالت:
- أتريد رأيي. . . إنك لست مغامراً في أي شيء.
وخرجت. تاركة عطرها، وذهولي. . ورحت كالغريق في بحر لجي من الظنون.
ولم أرها في اليوم الثاني. . أتعاهدت مع الشيطان على قتلي!
وأصابني هم مقيم، وأفعمت روحي المرارة. . . ورحت أسأل نفسي:
- أحقاً. . أنا. . لست مغامراً؟
ولكن ما الفائدة من المغامرة إذا كان يصيبها الفشل!. . لقد حقدت على ذلك المغامر الفاشل الذي كنت أقرأ حياته حقداً عظيماً، ولو رأيته وجها لوجه لصفعته وأنزلت عليه جحيم حقدي. . فإن الماضي المر الذي كان يصرخ وراءه منذراً إياه لم يسمعه، وراح يركض وراء إخفاق جديد. أما أنا فشئ آخر. . إنني هربت من الحياة لأنني أخاف المغامرة وأخاف نتيجتها. . والإخفاق الذي يخيم على سماء حياتي في كل عمل أقوم به ترك كياني هشاً لا يتحمل النتيجة فلتمض الحياة في سبيلها. . ولأقبع في كهف قنوع وقنوطي ولا أحفل بالمغامرات
اقتنعت بهذا المنطق. . ولكن ليلي القائم أعاد إلى ما حدث على صورة أشباح، وأحستت بحزن طاغ يلف نفسي. . وبندم مرير يسومني سواء العذاب!
ولدغتني تلك الجمرة المتوقدة. فهي لم تنطفأ، وصرخت في أعماق تلك الكلمة السحرية. . وقضيت ليلة ساورتني فيها هواجس وظنون!
وفي الصباح رأيتها صامته كأنها تفكر في أشياء مبهمة، فرحت أنظر إليها، وأحسست بقوة تدفعني نحوها، وغاب عن بالي الماضي بظلماته وأركام آماله وأمانيه، ووقف في مخيلتي هي وحدها. فتقدمت إليها قائلاً:
- جابي. . جابي. . أيتها الصغيرة إنني أحبك!
ونظرت إلي نظرة ساخرة. . . ثم رايتها تمط شفتيها بازدراء
- ولكنني أكرهك، ومضت في طريقي. . وتركتني في حيرة أسأل عن السبب!! تلك هي
نهاية فلسفتنا يا صديقي. . أترانا مصيبين أم مخطئين؟!
- أنا الآن في باريس. . أطل على عالم أخافه أشد الخوف.
القاهرة
غائب طعمة فرمان