الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 867
- بتاريخ: 13 - 02 - 1950
علي محمود طه شاعر الأداء النفسي
للأستاذ أنور المعداوي
- 9 -
(تعتبر بحيرة كومو أجمل البحيرات الثلاث التي ينفرد بها اللمباردي الايطالي، ومن أجمل مفاتن أوروبا التي جذبت إليها كثيراً من الشعراء فألهمتهم أرق أشعارهم وأعذب أغانيهم، وقد زار الشاعر هذه البحيرة متنقلاً من شواطئها ومدنها وأروع جبالها المسمى بالبرونات، فنظم هذه القصيدة التي أهداها إلى أديبة أمريكية صحبته في هذه الزيارة. . .)
وكعادة الشاعر في التقديم بمثل هذه الكلمة النثرية لبعض قصائده، تطالعك هذه المقدمة مصحوبة بهذه القصيدة الفريدة في وصف الطبيعة حول بحيرة كومو الإيطالية. . . ومن الصفحة الثامنة والأربعين من (ليالي التائه) ننقل إليك هذه الصورة الوصفية الأخيرة في إطارها الحسي الأخير:
هيئي الكأس والوتر
…
تلك (كومو) مدى النظر
واصدعي يا خواطري
…
طربت شقة السقر
ودنت جنة المنى
…
وحلا عندها المقر
قد يعثنا بها على
…
موعد غير منتظر!
في مساء كأنه
…
حلم الشيخ بالصغر
البحيرات والجبال
…
توحشن بالشجر
وتنقبن بالغما
…
م وأسفرن بالقمر
والبرونات غادة
…
لبست حلة السهر
نثرت فوقها الديا
…
ركما ينثر الزهر
وعبرنا رحابها
…
فأشارت لمن عبر
هاكها قبلة؛ فمن
…
رام فليركب الخطر!
فسمونا لخدرها
…
زمراً تلوها زمر
في زجاج محلق
…
لا دخان ولا شرر
يتخطى بنا الفضا
…
ء على السندس النضر
سلم يشبه الصرا
…
ط تسامى على البصر
قالى النجم مرتقي
…
وإلى السحب منحدر
وحللنا بقمة
…
دونها فمه الفكر
بهج في كنورها
…
للمحبين مدخر
بابل؟ أم بحيرة؟
…
أم قصور من الندر؟
أم رؤى الخلد
…
في الحياة تمثلن للبشر؟
حبذا أمسياتها
…
وحنيناً إلى البكر
ونزوعا إلى
…
السفين تهيأن للسفر
نسيت شغلها
…
القلوب وهللن للسمر
أوجه مثلما رنت
…
زهرة الصيف للمطر
أضحيانية السمات
…
هلالية الطرر
بتوهجن بالشباب
…
وبندين بالخفر
طلعة تسعد الشقي
…
وتعطي له العمر
تمنح الحظ من تشا
…
ء، وتبقى؛ ولا تذر!
إنما تنظر السما_ء إلى هذه الصور
لترى الله خالقاً
…
مبدعاً معجز الأثر!
شاعر النيل طف بها
…
غنها كل مبتكر
الثلاثون قد مضت
…
في التفاهات والهذر
فتزود من النعيم
…
لأيامك الأخر
أين وادي النخيل أم
…
قاهرياته الغرر؟
لا تقل أخصب الثرى
…
فهنا أورق الحجر!!
هاهنا يشعر الجما
…
د ويوحي لمن شعر!!
آه لولا أحبة
…
نزلوا شاطئ النهر
ورفات مطهر
…
وكريم من السير
لتنميت شرفة
…
لي في هذه الحجر
أقطع العمر عندها
…
غير وان عن النظر
فلقد فاز من رأي
…
ولقد عاش من ظفر
يا ابنة العالم الجديد
…
صلي عالماً غبر
في دمى من تراثه
…
نفحة البدو والحضر
وأغان لمن شدا
…
ومعان لمن فخر!
ما تسرين؟ أفصحي!
…
إن في عينك الخبر
الغريبان ها هنا
…
ليس يجديهما الحذر
نحن روحان عاصفا
…
ن وجسمان من سقر
فاعذري الروح إن طغى
…
واعذري الجسم إن ثأر!
نضبت خمر بابل
…
وهوى الكأس وانكسر
وهنا كرمة الخلو
…
د فطوبى لمن عصر
فيم، والمنبع دافق
…
يشتكي الظامئ الصدر؟
ولمن هذه العيون
…
تغمرن بالحور؟
بتن يلعبن بالنهى
…
لعب الطفل بالأكر
هن أصفى من الشعاع
…
وأخفى من القدر؟!
ولمن توشك الثدى
…
وثبة الطير في السحر؟!
كل إلف لالفه
…
هم بالصدر وابتدر
عض في الثوب واشتكي
…
وطأة الخز والوبر
سمة الطائر المعذ
…
ب في قيده نقر!!
ولمن رفت المبا
…
سم واسترسل الشعر؟
تمر ناضج الجني
…
كيف لا نقطف الثمر؟!
ما أبى الخلد آدم
…
أو غوى فيه أو عثر!
زلة تروت الحجى
…
وترى الله من كفر
كأسنا ضاحك الحبا
…
ب، مصفى من الكدر
فاسكبي الخمر وارشفيه على
…
رنة الوتر
وإذا شئت فاسقنيه على
…
نغمة المطر
فلقد يذهب الشبا
…
ب وتبقى لنا الذكر!
تلقى أحياناً وجهاً من الوجوه الجميلة فيجذب نظرك، ويستحوذ على فكرك، ويثير من جنبيك مكامن الإعجاب، فإذا غاب عنك ضاعت صورته من الخاطر، وتلاشت فتنته من القل، وتبخرت ظلاله من الذاكرة. وتقرأ أحياناً قصة من القصص الممتعة فيهزك منها طرافة الفكر، وتروعك سلامة العرض، وتبهرك وثبات الأداء؛ فإذا انتهيت منها لم تجد لها أثراً في نفسك، ولا صدى في ذاتك، ولا بقاء في ثنايا الشعور. وقل مثل ذلك عن قصيدة من الشعر، وعن لوحة من التصوير، وعن قطعة من الموسيقى، وعن طرفة بالغة الروعة من طرف الفن الجميل. . . وتسأل نفسك: هذا الوجه الفاتن الذي لقيته، وهذه القصة الممتعة التي تصفحها، وهذه القصيدة الفريدة التي قرأتها، وهذه اللوحة البديعة التي رأيتها، وهذه الموسيقى الرفيعة التي سمعتها؛ هذه الروائع كلها لماذا كانت بنت لحظتها في إثارة إعجابك، ووليدة وقتها في إلهاب إحساسك، وتوأم جوها الزمني في تحريك مشاعرك؟ ونروح تنتظر الجواب وقد يعييك أن تظفر به وأن تهتدي إليه، لأنك حائر بين أشباه ونظائر. . . فهناك في الكفة الأخرى من الميزان روائع أخرى لم تنطو بانطواء الزمن، ولم تنقض بانقضاء الأيام: هناك وجه جذاب لا ينسى، وهناك قصة فنية لا تنسى، وهناك قطعة موسيقية لا تنسى، وهناك لوحة وقصيدة. هناك أصداؤها التي تصافح العاطفة، وترفرف بين الجوانح، وترسب في أعماق الذهن، وتعانق عرائس الخيال.
وفي انتظار هذا الجواب تشعر أن (شيئاً ما) ينقص تلك الروائع الأولى، شيئاً ما يفقدها صفة البقاء في الكيان الشاعر. . . في نفسك. وقد تطول بك الحيرة وأنت تسعى وراء هذا الشيء تريد أن تضع عليه يدك، وأن تخضعه لمنطق العقل، ولسلطان الذوق، ولكل مقياس من المقاييس. وقد يكون مصدر الحيرة أنك تلمس في تلك الروائع فناً قد اكتملت عناصره، وتنوعت مذاهبه، وفاحت منه رائحة النضج وسطعت لوامع النبوغ، تلمس هذا كله ولكنك لا تزال تفتش عن هذا الشيء الناقص. . . الشيء الذي يشعرك فقده بأن بعض الوجوه ما هي إلا تماثيل باردة تنقصها الحرارة، وأن بعض القصص واللوحات ما هي إلا صور هامدة تنقصها الحركة، وأن بعض القصائد والقطع الموسيقية ما هي إلا أصداء تفتقر إلى
معاني الحياة
هذا الشيء ما هو؟ هو في كلمة واحدة: (الروح). . . الروح الذي يدفئ برودة التمثال، وينطق صمت الصورة، ويحيي موات الشعر والنغم.
والروح في الفن هو ذلك اللهب المتوهج الذي يحمل إليه الدفء من موقد الحياة وينقل إليه الضوء من مشعل النفس، وهو في هذه الدراسة الفنية آخر حاجز بين أداء في الشعر وأداء، بعد تلك الألوان المتقدمة من شتى الحواجز والفروق. وقد تجد في الشعر الأداء اللفظي شيئاً من الحرارة التي تشعها الألفاظ بين حين وحين، ولكنها حرارة (التكييف الصناعي) لامراء. . . وإذن فلا مناص من التفرقة بين حرارة ذهن ولفظ وحرارة نفس وحياة، أو بين حرارة شعر مصنوع وحرارة شعر مطبوع، أو بين حرارة أداء لفظي وحرارة أداء نفسي، ولا حاجة بك بعد هذا كله إلى أن تسأل نفسك: لماذا كانت بعض الأعمال الفنية بنت لحظتها في إثارة إعجابك، ووليدة وقتها في إلهاب إحساسك، وتوأم حدها الزمني في تحريك مشاعرك، ولماذا لم تنطو بعض الأعمال الفنية الأخرى بانطواء الزمن ولم تنقض بانقضاء الأيام!
بعد هذا تعال نستعرض هذه الأبيات التي قالها البحتري في وصف الربيع:
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا
…
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبه النيروز في غسق الدجى
…
أوائل ورد كن بالأمس نوما
يفتقها برد الندى فكأنه
…
يبث حديثاً كان قبل مكتما
فمن شجر رد الربيع لباسه
…
عليه كما نشرت وشيا منمنما
ورق نسيم الريح حتى حسبته
…
يجئ بأنفاس الأحبة نعما
ألا تحس معي أن هذه التهويمة الشعرية في رحاب الطبيعة هي تهويمة ذهن وليست تهويمة نفس؟ تحت لا ننكر أنه شعر يحفل بالجمل، ولكنه جمال من غير روح. ولا ننكر أيضاً أنه شعر ينبض بالحركة، ولكنها حركة ذلك (الإنسان الآلي) الذي لا حياة فيه. . . لو تجاوب البحتري مع الطبيعة ذلك التجاوب ألذ تحدثه الألفة والكلف والهيام والاستغراق، لما اقتصر على هذا الأداء اللفظي الذي خلا من الانفعال الذاتي الصارخ، ولقدم لنا أداء نفسياً يعج بالطاقة الحرارية الملتهبة!
إنه رجل يصف مجلي من مجالي الطبيعة والربيع في إبانه، ولكنه أشبه بذلك الظمآن الذي يصف لنا كوباً من الماء المثلج في قيظ الصيف، ثم يغفل عن تسجيل الانتفاضة النفسية التي يحدثها الري بعد انطفاء الظمأ وانتعاش الشعور. هو كما قلنا لك شعر جميل، ولكن أين جمال الوجه من (جمال الروح)؟ أنه شعر (السطوح الخارجية) لمشاهد الحياة!
أليس الشعر الصادق (عملية استقبال) تعقبها (عملية إرسال). هو كذلك على التحقيق. . . ولكننا نريد في هذه المحاولة المذهبية الجديدة في فهم الشعر أن تكون العلمية الأولى عملية استقبال حسية، وأن تكون العملية الثانية عملية إرسال نفسية. أي أننا يجب أن نتلقى المشهد المادي بكل أداة من أدوات الحس، ثم نذيعه بعد ذلك بكل لغة مناسبة من لغات النفس، وبخاصة في هذا اللون الأخير الذي قدمناه إليك تحت عنوان:(الصور الوصفية في إطارها الحسي)، ومنها هذه الأبيات التي قالها البحتري في وصف الربيع!
وتعال مرة أخرى لنستعرض (الجمال الطبيعي)، الجمال الذي تتنفس فيه الروح لا الجمال الذي تصنعه (الأصباغ والمساحيق). . .
إنه هنا في ذلك الشعر الذي يتجاوب مع الطبيعة بالنغم الراقص والشعور الخانق والخواطر الصادحة، ويهتف لها من خلال نشوة الخمر وروعة الغناء:
هيئي الكأس والوتر
…
تلك (كومو) مدى النظر
واصدحي يا خواطري
…
طويت شقة السفر
ودنت جنة المنى
…
وحلا عندها المقر
قد بعثنا بها على
…
موعد غير منتظر!
أرأيت إلى عملية الاستقبال في البيت الأول؟ إنها عملية استقبال بدأت بالحواس: حاسة تطلب الكأس، وحاسة تنشد الوتر، وحاسة تنعم النظر. . . وأعقبها عملية إرسال بدأت بالمشاعر: في البيت الثاني خواطر تصدح، وفي البيت الثالث جنة تدنو، وفي البيت الرابع بعث على غير ميعاد! وستعترضك عملية استقبال أخرى حسية في البيت السادس والسابع والثامن والتاسع عندما يقول:
البحيرات والجبال قد
…
توشحن بالشجر
وتنقبن بالغما
…
م وأسفرن بالقمر
نثرت فوقها الديا
…
ر كما ينثر الزهر!
ونود أن ترجع إلى الفصل السابق من فصول هذه الدراسة لتلاحظ الفوارق التعبيرية بين الاصطلاحات النقدية، حتى لا يقع في ظنك أن عملية الاستقبال بين الحواس التي تحصى ثم تسجل وبين الحواس التي تتلقى ثم ترسل فارق ملحوظ! وإليك عملية الإرسال النفسيةالثانية التي لا تختلف عن العملية الأولى لحظة من زمان.
وعبرنا رحابها
…
فأشارت لمن عبر
هاكها قبلة فمن
…
رام فليركب الخطر!
لقد استحال جبل (البرونات) هنا إلى غادة يعبر رحابها كل عاشق من عاشق الطبيعة، وهي لمسة من تلك اللمسات الشعورية التي تترجم في صدق عن لغة النفس، حين تندمج في المنظر المعروض على البصر بكل خلجة من خلجات الوجدان. ومن أبلغ طرق الدلالة على هذا الاندماج أن يتخطى الشاعر مرحلة الهيام من جانب واحد إلى مرحلة العشق المتبادل بين جانبين؛ المتبادل بين الطبيعة وبين هؤلاء السارين في مباهجها يدفعهم الشوق ويلهبهم بالحنين. الشاعر عاشق والطبيعة عاشقة. . . ولكنه هنا يقف على السفح وهي هناك تنتظره فوق القمم، تلوح له بقبلة من القبل المسكرة لتثيره وتغريه، بغية أن يصعد إلى شرفتها الأنيقة في أعالي الجبل شأن كل حبيبة تدعو المحب إلى ركوب الأخطار! وأي محب صادق لا يستهين بالصعاب ولا يهزأ بالأهوال؟ لقد أصاخ هو للنداء واستجاب للدعاء، وصعد مع الصاعدين إلى خدرها الخالد:
فسمونا لخدرها
…
زمراً تلوها زمر
وحللنا بقمة
…
دونها قمة الفكر!
هل خرجت من أبيات البحتري بشيء مما خرجت به من هذه الأبيات؟ لقد كان موقف البحتري أمام الطبيعة أشبه بموقف رجل أمام حسناء لا يشغله منها غير وصف مفاتنها الجسدية، أما أثر هذه المفاتن في نفسه ووقعها على شعوره فليس لهما في شعره مكان. . . لو تذوق البحتري طعم القبل من ثغر الطبيعة كما تذوقها هذا الشاعر المصري، لا ستطاع أن يزف إلى مشاعرنا ذلك الأداء النفسي الذي لا ينطلق إلا من قلوب المحبين:
بهج في كنوزها
…
للمحبين مدخر
بابل أم بحيرة
…
أم قصور من الدرر.
أم رؤى الخلد في الحياة تمثلن للبشر؟
إن الطبيعة في عدسة البحتري (كادت) أن تتكلم، أي كادت أن تأتي بحركة من الحركات الصوتية وهي الكلام، وهو فر رأينا تصوير لم يبلغ درجة (الفناء الشعوري) الذي يوهم الشاعر أن المرئيات قد انتقلت من مرحلة اللاأرادة إلى مرحلة الإرادة.
ولكن الطبيعة في عدسة الشاعر المصري قد خطت هذه الخطوة الهائلة حين أصبحت الحركة المرئية في حدود الواقع المحس الذي تعبر عنه كلمة (كان) لا كلمة (كاد أن يكون):
لا تقل أخصب الثرى
…
فهنا أوراق الحجر!!
ها هنا يشعر الجما
…
د ويوحي لمن شعر!!
الحجر هنا أوراق ولم يقل الشاعر (كاد) أن يورق، كما (كاد) الربيع هناك أن يتكلم. . . ترى لمَ لمْ يقل القرآن الكريم:(ورأى جداراً يكاد أن ينقض)؟ لأن الجدار قد بلغ من وهى الأساس وتداعى البناء وشدة القابلية للانهيار ذلك الحد الذي لا تصدق في وصفه كلمة (يكاد)، وإنما تصدق في وصفه كلمة أخرى تهيئ له (الحركة الإدارية) ليبلغ الأداء النفسي منتهاه، ومن هنا كان هذا التعبير القرآني الفذ:(ورأى جداراً يريد أن ينقض)!!
وتنتقل عملية الاستقبال الحسية الثالثة من مجالي الطبيعة المادية إلى مجال الطبيعة الحسية ممثلة في وجوه الحسان؛ تلك الوجوه الرانية رنو زهرة الصيف للمطر، المتوهجة بدم الشباب الذي لا تطفئ جذوته قطرات من الخفر، ذات السمات الأضحيانية والطرر الهلالية. . . وعندما ينتهي الشاعر من هذه الجولة البصرية الواصفة تبدأ على الأثر عملية الإرسال النفسية الثالثة، وياله من إرسال ذلك الذي يرتفع بالشعر إلى مثل هذا الأداء:
إنما تنظر السما
…
ء إلى هذه الصور
لترى الله خالقاً
…
مبدعاً معجز الأثر!
وفي غمار النشوة الجارفة بين أعياد الطبيعة وأعياد الشعور، لم ينس الشاعر تلك الأدبية الأمريكية التي صحبته في هذه الزيارة. . . لقد استهل بعالمه الغابر، وهي لفتة من لفتاته القومية الرائعة التي يزخر بها شعره، والتي سنفرد لها فصلاً خاصاً من فصول هذه الدراسة.
في دمي من تراثه
…
نفحة البدو والحضر
وأعان لمن شدت
…
ومعان لمن فخر!
وبأبي الشاعر إلا أن يجمع بين نشوة الروح ونشوة الجسد في مكان، وهكذا كان في واقع الحياة وواقع الفن.
نحن روحان عاصفا
…
ن وجسمان من سقر
فاعذرني الروح إن طغى
…
واعذرني الجسم إن ثأر!
ويمضي الشاعر بعد ذلك في نفس الطريق معرجاً على الصوى الجسدية المنتثرة على جانبيه، وكم مر بهذا الطريق في شعره وكم عرج على صواه. . . هنا كرمة الخلود فلا حاجة به إلى الخمرة الفانية، وهنا النبع الدافق بكل نزعة عارمة وكل نزوة عاتية.
ولمن هذه العيون؟ إنها للشاعرية الملهمة التي تملك القدرة على أن تقول:
بأن يلعبن بالنهى
…
لعب الطفل بالأكر
هن أصفى من الشعا
…
ع وأخفى من القدر!
ولمن هذه النهود؟ إنها للجناح المحلق في أفق قل أن نجد له نظيراً في الشعر العربي الحديث. . . هل رأت عيناك منظر الطير حين يثب من أوكاره قبيل الصباح؟ لقد شبه على طه وثبة النهد من الصدر بوثبة الطير من الوكر!! ثم شاء الخيال النادر للنهد الطائر أن يقف الثوب حائلاً بينه وبين الطيران، فراح ينشب منقاره في القيد الحريري متبرماً بوطأته ثائراً على قسوته. . . وكما أن للطير منقاراً فإن للنهد مثل ذلك المنقار:
عض في الثوب واشتكي
…
وطأة الخز والوبر
سمة الطائر المعذ
…
ب في قيده نقر!!
ويدافع الشاعر عن موقف الإنسانية إزاء الغواية الأنثوية وسلطانها القاهر. واستمع طويلاً إلى هذا المنطق الخلاب لأنه منطق شاعر يجيد الدفاع:
ما أبى الخلد آدم
…
أو غوى فيه أو عثر
زلة تورث الحجى
…
وترى الله من كفر!
ويقول لصاحبته: (وإذا شئت فاسقنيه). . . وهذا هو الخطأ اللغوي الذي يؤخذ عليه، وسبحان من لا يخطئ! لقد كان على الشاعر أن يقول:(فاسقينيه) لأن الخطاب هنا للمفردة
المؤنثة لا للمفرد المذكر. وبهذا الفصل ينتهي القسم الأول من هذه الدراسة وهو القسم الخاص بالناحية الفنية، وفي الفصول المقبلة سنتحدث عن الشاعر كإنسان بعد أن تحدثنا عنه كفنان، رابطين بين شخصيته في واقع الفن وشخصيته في واقع الحياة.
(يتبع)
أنور المعداوي
علي الجارم بك
بمناسبة ذكراه الأولى
للأستاذ عبد الجواد سليمان
من دلائل رقي الأمم ونهوضها أن تذكر أبناءها الراحلين الذين تركوا أثراً حسناً فيها، وأسهموا في بناء نهضتها، ذلكم لأن في هذه الذكرى وفاء خلق ضروري للأمم الناهضة. وكثيراً ما تتوفر للأمم أسباب الرقي ومقومات النهوض ولكنها تفتقر إلى الأخلاق؛ قلا يحالفها من أجل هذا النجاح في مراحل نموها وتطورها، ولذلك لم يكن أمير الشعراء مبالغاً عندما شاد بالأخلاق قائلاً:
فإنما الأمم الخلاق ما بقيت
…
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وعلي الجارم كان من رجالات مصر العاملين الذين خدموا وظنهم وخلفوا وراءهم آثاراً ناطقة بما لهم من فضل يستحقون من أجله الذكرى والخلود.
لم يكن (الجارم) شاعراً فحسب أو كاتباً فقط، أو عالماً ليس غير أو. . . أو. . . بل كان كل أولئك وأكثر.
عمل (الجارم) أستاذاً في دار العلوم، فأشرف على إعداد جيل من أساتذة اللغة العربية كان يحاول في دراسته أ، يطبعهم بطابعه؛ ويحبب إليهم دراسة لغتهم ويدربهم على الغوص في خضمها لاقتناص شواردها، ويعودهم كيف يكون البحث اللغوي في حاجة إلى صبر وأناة واستعداد قد لا يتوفر للكثير من طالبي العلم ورواد الثقافة ثم عمل. . . رحمه الله في ميدان التفتيش عن الأساتذة في المدارس على اختلاف مراحلها، فكان في ذلك طرازاً فريداً، هيهات أن يوجد له نظير بين من تعاطوا هذه المهنة ممن أتوا بعده، فلم يكن في تفتيشه مفتشاً فقط يكتفي بالمرور على المدارس لتسجيل الزيارة وكتابة التقارير، كما يفعل غيره ممن يؤدون هذه المهمة كعمل رسمي آلي نيط بهم متجاهلين أو ناسين الغرض الأول من هذا العمل، بل كان مفتشاً يرشد الضال ويأخذ بيد الخامل ويشجع العامل، وينفخ من روحه في الضعيف ليتنفس ويقوى، ويتلمس في لباقة وهدوء الفذ الممتاز بين المئات حتى يهتدي إليه ليثيبه وينبه وينبه إليه ليأخذ مكانه الذي هيأه له عمله وجده واستعداده. وكان أستاذاً يعلم الجاهل ويهدي المخطئ إلى الصواب ويوجه التوجيه الحر القويم، يفعل ذلك عن يقين
بصواب طريقته وتمكن من مادته، وثقة بنفسه، واعتزاز بعلم أشعل في تحصيله فحمه الدياحي. فلم يكن غريباً في زمانه - أن يحسب له المدرسون حساباً وألف حساب فيتنافسوا في الاطلاع لاحياء مادتهم ومراجعة مسائل العلم لتجديد معلوماتهم علماً منهم أن التقصير لن يخفى على (الجارم) وأن العمل لن يروفه أو يجازى عليه بالثناء إلا إذا أدى بإخلاص ويقظة وأمانة وإتقان.
ولم يكن غريباً - في زمانه - على المدارس أن تعد العدة لاستقبال الجارم، لأنه لن يجامل في الحق ولا يخشى فيه لومه لائم. ولن أكون مبالغاً إن قلت إن هذا الجو قد اختفى اليوم من المدارس أو كاد يختفي إذ غدت طائفة المفتشين كطوائف المعلمين في المادة والكفاية فليس في المفتشين إلا في القليل النادر تميز واضح عن المدرسين، فلذلك تراهم أهملوا الجوهر واكنفوا بالقشور وشغلوا عن اللباب وقطعوا الوقت في توافه الأمور وأصبحت مهمتهم محصورة في المحاسبة على الهمزة والمؤاخذة على النقطة، واتخذوا الدرس وأرقام صفحاته هدفاً يصوبون إليها سهام مناقشتهم ومحاسبتهم، أما الموضوع، وأما العلم، وأما الأسلوب وأما النقد الأدبي؛ وأما الطريقة فقل على ذلك كله العفاء.
ومن هنا استهان المدرسون بالمفتشين عنهم، وتغيرت العلاقة بين الفئتين فأصبحت قائمة على (الجاسوسية) من جانب المفتش يتلمس الخطأ ويتمناه ويتجسس الهفوات ويسعى إليها؛ (والتغرير) من جانب المدرسين يعنون بالكم دون الكيف، ويعملون للتقرير لا للفائدة العلمية والإنتاج، وسلكوا إلى هذا التقرير أقرب الطرق ولو جانب مكارم الأخلاق، واستوى في نظر (المفتش) العامل والخامل والعالم والجاهل.
وعمل (الجارم) في ميدان التأليف العلمي والأدبي، فألف في (علم النفس) كتاباً مدرسياً كان بمثابة نواة أو بذرة أولى نمت وترعرت فأثمرت مؤلفات في هذا العلم سلك أصحابها أو الكثير منهم مسلك الجارم في مؤلفه فجاءت وافية في مادتها قريبة المنال في تحصيلها معبدة في طرائقها.
وألف في علوم اللغة كتباً أشهرها (كتب النحو الواضح والبلاغة الواضحة) فكانت بحق فتحاً جديداً في آفاق النحو والصرف والبلاغة، وقد انتشرت هذه الكتب في الشرق العربي انتشاراً ضمن لها البقاء، وكفل لصاحبها الخلود، إذ ألف الجارم بين أمثلتها بأسلوب الأستاذ
الأديب والعالم المحقق، فجاءت غاية في الوضوح وآية في الدقة، وسهلت على تلاميذ المدارس نفهم هذه النظريات الجافة من النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع، وستبقى هذه الكتب متخذة مكانتها في عالم التأليف مهما تقادم عليها العهد، وستظل مرجع المؤلفين كلما عن لواحد منهم أن يضع لبنة في صرح المؤلفات العربية.
وتحضرني في هذا المقام شهادة سجلها لهذه الكتب الدكتور حافظ عقيقي باشا في كتابه على هامش السياسة عند كلامه عن تعليم اللغة العربية بمصر إذ قال بعد أن استعرض بالنقد ما ألف من كتب في هذه المواد من الغبن بعد هذا أن ننكر ما قام به بعض أساتذة هذه اللغة في ميدان الإصلاح والتأليف، فلقد وضع الأستاذان علي بك الجارم ومصطفى أمين كتابي (النحو الواضح) والبلاغة الواضحة، وسلكا فيهما طريقة منطقية مشوقة هي إيراد الأمثلة الحديثة التي يجدر بالتلميذ أن يستعملها في أحاديثه وشرح هذه الأمثلة واستخلاص القاعدة أو القواعد منها وهي طريقة بيداجوجية حديثة).
أما مؤلفاته الأدبية فقد دلت على سعة باعه في اللغة، وتمكنه من ناحية البلاغة العربية، فهو يحاكي في أسلوبه الكتابي مذهب القدامى من كتاب القرن الرابع سلامة ألفاظ، وإشراق ديباجة، وسمو معان وانسجام أسلوب.
وعندي أن هذه المميزات في الأسلوب الكتابي يتفق فيها أربعة من أعلام الأدب في العصر الحديث، مع اختلاف يسير في أداء كل منهم لطريقته وسلوكه مذهبه أولئك هم كرام الكاتبين مصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات، وعلي الجارم ومصطفى صادق الرافعي.
ولقد توفر الجارم على الكتابة الأدبية بعد تخلصه من أغلال الوظيفة وتحققه من أعبائها، فأنتج في تلك الفترة الوجيزة كتباً قيمة تفخر بها المكتبة العربية، نذكر منها (شاعر ملك، سيدة العصور، فارس بني حمدان، خاتمه المطاف، مرح الوليدة، غادة رشيد، هاتف من الأندلس؛ قصة العرب في إسبانيا)
وهذا عدا بحوثه القيمة في0 (المجمع اللغوي) التي سجلتها إعداد مجلته، وهي إن دلت على شئ في الرجل، فإنما تدل على سعة الأفق وسلامة الذوق، ونضوج الفكر، وسعة الإطلاع وعمق التفكير والرغبة في التجديد.
أردت في هذه الكلمة أن اكشف بقدر ما أستطيع عن مجالات الجارم رحمه الله في غير ميدان الشعر، الذي عرف به، ومن اجله لمع أسمه، وذاع صيته وعرفه القاصي والداني من أهل المشرق والمغرب.
فمن حق الجارم على مصر أن تذكره كلما ذكرت سدنة العربية وحراس هيكلها، ومن حقه على المجمع اللغوي أن يذكره كلما عرض على بساط البحث مسالة من مسائل اللغة، ومن حقه على دار العلوم أن تخلد اسمه إما بإنشاء كرسي فيها للأدب يطلق عليه اسمه كما اقترح ذلك أحد زملائه من قبل، وإما بإنشاء قاعة للمحاضرات تسميها قاعة (الجارم)، وإما بالاكتتاب في مشروع نافع باسمه يوزع ريعه على الأوائل في اللغة والأدب من طلابها
أما عن الجارم الشاعر فموعدنا به جولة أخرى على صفحات الرسالة الغراء.
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج
الأدب الأسود
للأستاذ عبد الفتاح الديدي
مسكين الأديب!
مسكينلأن الناس بتتالي العصور وتوالي الأيام قد ركبوا في رؤسهم فكرة لا يريدون أن يتراجعوا فيها ولا يحبون أن ينثنوا عنها. فمنذ قديم نسبت الحكمة إلى الأديب وعرف بالأخلاق الحميدة بين الناس وشاع عنه أنه واحد من هؤلاء الأفراد الذين يخدمون الفكرة حتى الموت، ويقومون في محراب الفن والتأمل بتقديس المثل الأعلى مهما بلغت خسائرهم في الروح ومهما أصابهم الإملاق من ناحية الرزق. ولو صدق ما يقوله المؤرخون الأدباء من أن كلمة الأديب قد عرفت في العصور الأولى من حياتها بأنها التهذيب الخلقي، وأنها قد أخذت أخذا من مجال التربية لتوضع وضعا في قاموس اللغة والأدب، لعرفنا مقدار الصعوبة التي يجدها الأديب الآن في معاشه اليومي. أنه الوحيد الذي يلزمه الناس - من بين أصحاب الحرف جميعاُ - بالمحافظة على سمعته والاحتفاظ بكرامته والتعالي عما يدنس نفسه من الفعال.
ولا أحسب أن هذه الضرورة قد نشأت من شئ إلا من هذه الفكرة الخاطئة التي ملأت نفوس العامة بالنسبة إلى الأديب في الأزمنة الماضية، ثم بقيت لنا حتى اليوم بآثارها البالية من غير أن تنحرف قيد أنملة عما كانت عليه في الأصل. إن الأديب كغيره من عباد الله يريد أن يعيش، على الأقل كما يعيشون، ويتشوف إلى حياة كريمة، لا تليق بمهمته القدسية، وإنما تليق بكرامة البشر العاديين. . ومع هذا فهو مطالب بأكثر مما تحتمله الأساود الضارية في المفارات والأدغال، ومحمل بالمسؤولية التي توجع ظهور النوق في مستهل الرحيل.
ألا لعنة الله على هذه الحرفة التي بموت صاحبها من الجوع ويعاني من جرائها كل آلام الفقر والمرض ثم يطالب بعد هذا كله أن يكون عفيفاُ فلا يطلب، وان يكون كريماً فلا يخضع، وان يكون متكبراً فلا يجارى. إنهم يريدون له أن يحقق ذلك المفهوم الذي اتفقوا عليه فيما بينهم بخصوص الأخلاق والمبادئ. وتسألهم من ثم إذا كانوا يقتنون له كتباً ويملكون من آثاره ونتاجه شيئاً فيجيبونك بالنفي القاطع. ولو أحببت أن تعرف تفسيراً
معقولاً لهذا العمل أو إذا دفعك الفضول لأن تقف علىالسر في عدم الإقبال عليه لأخبروك بأنه لا يكتب في موضوعات مستحبة ولا يعالج المسائل الشيقة ولا يتناول بقلمه تلك المشاكل القريبة إليهم الأثيرة عندهم.
أفليس هذا بالشيء الغريب حقاً؟ يطالبون الأديب بان يكون داعية للخير وبوقاً من أبواق السلام وواعظاً أو ناصحاً بين الشباب. . . فإن تمشى مع رغائبهم وجارى ميولهم ملوه وسئموا منه، واحتجوا في النهاية بأنه لا يحاول الكتابة السهلة اليسيرة في الموضوعات التي تلائم نفوسهم وتتعلق بالظروف التي تحيط بهم، فيضطر تحت تأثير الحاجة والعوز إلى أن يلفت أنظار القراء وأن يغريهم بالحكايات المبتذلة والروايات الرخيصة، أو أن يكون دعامة لحزب من الأحزاب ومنادياً لمذهب من المذاهب، أو أن يكون بهلواناً يعرض صنوفاً من فقراته، ويسوق إليهم السخيف من شطحاته. وعندئذ تراهم يتهامسون: لقد زل فلان وانحدر من مكانته الرفيعة وهبط من قمة التفكير والتأمل إلى كلام الأزقة وروايات الماجنين. ويطالبونه في الحال بأن يعود من حيث أتى، وأن يدبر من حيث أقبل، مهما كانت البطن فارغة والحال رقيقة.
كيف يكون هذا بالله؟ أهذا منطق يقبله الدماغ ويرضى عنه الحس والشعور ويؤيده شيء من واقع أو شيء من خيال؟ ليت القراء يعرفون أن الأديب إنسان من دم ولحم، وأنه يريد أن يقتات، وأنه من الضروري بالنسبة إليه أن يأوي إلى بيت وأن يتستر باللباس. وليتهم في الوقت نفسه ينزعون من رءوسهم هذه الفكرة الخاطئة التي تمسكوا بها عن الأديب ومهمته، أو على الأقل يدعونه كغيره من خلق الله حتى يحصل على ما يحقق له حياة فيها بعض الهدوء والاطمئنان. هذه مع العلم بأن الأديب هو أعجز الناس وأقلهم حولاً وأضعفهم سلاحاً، وأنه مهدد كما لا يمكن أن تهدد الحياة إنساناً سواء وإذا هبطت به إلى المعيشة الاجتماعية فستلمس هذا كله بوضوح عندما تصطدم أحلامه بمطامع الناس وأمانيهم العملية. فمن الغبن للأديب أن نطلبه بنوع معين من الكتابة وأن نحظر عليه الكلام في غير ما يريده له الناس. دعوه يقول فيما يشاء وكما يشاء، حتى إذا جاء وقت الحساب، ذروا شره وتركوا آثامه وتعلقوا بالجانب الممتاز الذي ينتجه في ظلال العيش الكريم لماذا يتاح للموظف مثلاً أن يستغل نهاره في العمل التافه العقيم من أجل أن يعيش كريماً معززاً في
نصف نهاره الثاني؟ ألا يرى الإنسان العادي فيم يمضي وقته وكيف يستغل عقله استغلالاً رخيصاً حتى يستبقى لنفسه بعض الساعات التي يحقق فيها كل ما يرجوه من عزة وإباء وعيش كريم؟ وكذلك أدب الأديب. . . فليس كله متساوياً من ناحية القيمة والدرجة وإنما بعضه عماد للبعض الآخر، ونصفه الثاني عالة على نصفه الأول. إذا قام الأديب بالدعاية في صف الأحزاب السياسية فلكي يضمن لنفسه بعض الساعات التي يخرج فيها القصيدة التي تشجيك والفن الذي يرضيك والعمل الأدبي الذي يطربك. وإذا استحل لنفسه أن يكون رخيصاً عند الوصف ومتبذلاً في الكشف وفاجراً من ناحية انتقائه للموضوعات فذلك كله على أساس أن يتحصل على الدريهمات التي تضمن له بعض الوقت والتي تمكنه من التفرغ للعمل القيم والمؤلف الثمين.
ثم لاحظ شيئاً آخر، وهو أن ما اصطلح الأدباء الأوربيون في العصر الحاضر على تسميته بالأدب الأسود، ويعنون به ذلك الأدب الصريح في مسائل الجنس، أو ذلك الأدب إلي يهتم بنواحي الضعف في الإنسان ويبرز جوانب الحياة المظلمة، إنما هو نتيجة طبيعية لعدم الرغبة في القراءة لدى الناس. فقد أصبحت القراءة ثقيلة على نفس الإنسان المتمدن وصار يقتصر في استقاء معلوماته على ما تتحفه به الصحف اليومية. وأصبح الأديب المتخصص في خطر المشغوليات الحيوية والدواعي المادية التي تكاثرت حول الإنسان وجعلت تتخاطفه تخاطف التجار على الزبون الحائر. فهم غير مستعدينلأنيبقوا على بعض ساعات من يومهم للقراءة الخالصة الرفيعة والاطلاع على مسائل الفكر والروح. ومن هنا ترى الأديب قد اضطر اضطراراً إلى أن يتناول بقلمه بعض النواحي التي تجذب القراءة، وأن يقص بطريقة شيقة بعض الحوادث الخاصة التي يبدعها خياله عن طبيعة الصلة فيما بين الرجل والمرأة. لقد فطن الأديب إلى مدى التأثير الذي تحدثه هذه المسائل في نفس القارئ فشاء أن يلفت نظره بواسطتها حتى يستولي على دراهمه أولا، ثم من أجل أن يحبب إليه الفكرة التي تستعصي على فهمه، والتي ما كان ليقبل عليه ويتدبرها ثانيا.
فالأدب الأسود أو الأدب الذي يخاطب الغرائز الإنسانية طبيعي جداً في هذه الآونة بالذات بعد أن استحال على الأديب أن يجد رزقه بين مخالب الآدميين من حوله، وبعد أن أصبح من العسير أن يقبل القارئ من تلقاء نفسه على الأدب الخالص والفكر البحت فلا يلومن
أحد أديباً لأنه استثار غرائز القراء، أو لأنه خاض في تلك الروابط الخفية المستترة فيما بين الرجل والمرأة؛ فشأنه بالضبط في هذا العمل شأن التاجر الذي يعلن عن نوع بضاعته فوق لوحة قد رسم عليها امرأة عارية. أو شأنه شأن الأنثى التي تتبرج قليلاً من أجل تصيد الزوج في الحلال.
فمن ناحية المبدأ نحن نريد أن نزيل من رءوس الناس هذه الفكرة التي شاعت بينهم عن مهمة الأديب؛ إذ نحن نؤمن بحق الأديب في أن يتكلم كما يشاء، وفي أن يختار وسائله كما يحلو له، وفي أن يستعين بكل ما من شأنه أن يجذب القارئ وأن يدفعه دفعاً إلى الإقبال على الكتب والنظر في الصحف. فهذا كله يؤدي إلى عناية الإنسان المتمدن بالقراءة وإلى أن يظل مستوى التعليم محتفظاً بدرجاته ومقوماته عقب خروج الشبان من معاهد التعليم. ومن نتيجة ذلك أيضاً أن الأديب يستطيع أن يوصل أفكاره إلى أدمغة الناس وأن يشترك مع الصحافة اليومية والمحاضرات العامة ووسائل الثقافة الاجتماعية في ترقية المستوى والاحتفاظ بالمنسوب الحضاري. ثم يلاحظ من ذلك أن الأديب لابد له أن يعيش في المجتمع الحديث مثلما تضطره الحياة إلى أن يكون. أعني أن الأديب في العصر الحاضر ملزم بأداء بعض المهمات التي لم يكن الأديب في العصور السالفة مسئولا عنها ولا مطالباً بها. أديب العصر الحاضر هو الإنسان المتخصص في الفن الذي لا يؤدي إلى فائدة مادية فعالة؛ ولا يعطي مكسباً ظاهراً ولا يجني محبذوه ومشجعوه غير أوجاع القلب وهواجس النفس. هذا بينما تلح الحياة من حوله - بكل مظاهرها العملية وبكل مقوماتها المادية - على نبذ الأشياء المثالية وإهمال الكماليات، فالعلم والميكانيكا والطب والهندسة وغيرها من المواد التي يتثقف بها الناس والتي يقبل عليها غالبية الشبان، تعود عليهم في أوقات وجيزة بالخيرات المضمونة وتجعل مستقبلهم حافلا بالأعمال والوظائف الهامة، أما الأدب فتستطيع أن تصف أهله بأنهم طائفة من الفارغين البطالين، وهذا صحيح في الوقت الذي لا تضمن من صناعة الأدب غير التفرغ لأعباء ثقيلة تشغل منك الساعات الطوال وتتطلب منك الجهد الكثير ولا تجازيك بعد ذلك إلا أيسر الجزاء.
ففي هذا الخضم الهائل من الشهوات المتضاربة نريد أن نوقف الأديب مكتوف الأيدي وأن نحرم عليه نفس الوسائل التي يتاجر بها سواه من الناس والتي يحصلون بها على الأموال
المكدسة والثروات الطائلة! وباسم الإنسانية والمروءة وأخلاق الفضل والكرامة نتقدم إليه حاملين أكاليل الورد وأكفان الموت كيماً نحمله آسفين إلى بطن الثرى، مترحمين على شبابه النضر.
فالأدب الأسود إذن هو صرخة طبيعية من جانب الشاعر الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الهلاك المحتوم، وانقلاب ضروري على مظاهر الحياة التي تلزمه وحده من بين الآدميين جميعاً ودون أصحاب الحرف قاطبة بأن يكون عفيفاً شريفاً مكرماً! ليس هذا فحسب، وإنما يشعر الأديب في قرارة نفسه بأن أعماله توجب عليه شيئاً من النزول أو الارتفاع كما نستطيع أن نقول إلى الجموع كيما يخلق من بينها طائفة من القراء إن الأديب لم يعد قادراً على الاكتفاء بالطبقة الوسطى حيث يظهر عادة هواة الفن وطلاب اللذة الروحية في الكتب والآثار، ولا بد له غذ شاء أن يكون من بين قرائه عمال وتجار، وأن يستطعم كتاباته المتخصصون وغير المتخصصون، وأن يتحبب لدى الطبقة الكادحة من أبناء الشعب ليصيروا من بين قرائه أقول إذ شاء الأديب أن يكون على هذا النحو فلا بد له من أن يخاطب الغرائز أحياناً، وأن يؤثر على أصحابها ذلك التأثير الذي يخدرهم ساعة دفع الثمن إلى الكتب، وإلا فسيظل محكوماً عليه إلى الأبد بأن يخاطب طائفة معينة وأن يقتصر تأثيره على وسط بالذات وألا يتعدى هذه الحدود المصطنعة التي أوجدها هو بيديه عند ترفعه وادعائه للتسامي. . .
لقد آن للأديب أن يخاطب أبناء عصره مباشرة وأن يحصل على المجد - إن صح أن هناك مجداً - وهو حي يرزق. أما أن يسلم كلامه للمؤرخين كيما يحكموا له أو عليه وأن يحتفظ بكتبه وآثاره لتكون مصدر لذة وسبباً في متعة الأجيال التالية فهذا ما لا يقبله عقل ولا يسلم به منطق. إذا كنت كاتباً فأنا كاتب بالنسبة إلى هؤلاء الناس والأفراد الذين يعيشون من حولي، وقرائي هم من الطائفة التي تعاصرني في الزمن ويستحيل أن اقتصر من وراء كدحي على إفادة قوم ليسوا مني في شيء. . . إنني وليد هذا العصر بظروفه وأوضاعه، ومصدر الوحي عندي هم هؤلاء الذين يعيشون في هذه الفترة، والتجاوب فيما بيني وبينهم هو كل مالي من عمل ورجاء فوق الأرض، فإذا تنازلت عن هذا الحق - أو عن هذه الضرورة، كما ينبغي لها أن تكون - فأنا أفقد عنصراً أساسياً في عملي الفني،
وفي الوقت نفسه سأجد فرصة إذا أصابني الفشل، لأزعم أنني واحد من هؤلاء الذين يسبقون أو انهم ويتقدمون عصرهم. وهذا غير طبيعي عندما أكون مالكاً للأداة أو الوسيلة التي تعينني على تحقيق أغراضي والتي تكفل لي كل ما أتمناه على أيدي القراء (المحترمين) من رخاء ومجد، وتلك هي وسيلة الإغراء بالكتابات المكشوفة.
بعد هذا نحاول أن ننظر في المضرة التي تقع من جراء الصراحة الجنسية والتأثير الغريزي فإذا بالحقيقة تشدهنا وإذا بالتجارب تسخر منا للعلل الآتية: أولاً لأن هذا العمل من جانب الأديب الحريص يكون أجدى على قارئه مما لو استخدم الجد والوقار والفضيلة، وثانياً لأن هذه المسائل لم تعد جديرة بأن يتحفظ الإنسان عندما يتكلم فيها ويذكر تفاصيلها كما هو الحال من قبل. وثالثاًلأن الأسلوب الرمزي قد يؤدي إلى أخطر النتائج في التأثير على نفسية القارئ كما أنه يسهل على الأديب - وهذه هي العلة الرابعة - في تلك الآونة أن يملأ دماغ القارئ بما يجب أن يذيعه من المبادئ والآراء، ذلك أن القارئ يكون في حالة التأثر بما يقرأ في هذه الناحية شديد الحساسية مرهب الشعور، فينتهز الكاتب تلك الفرصة من أجل أن يقحم الأفكار إلى رأسه فيكون لها مفعولها في روحه ووجدانه وعقله جميعاً
وهكذا تراني في جانب هذه الطائفة من الأدباء الذين استطاعوا أن يعرفوا موقفهم بالضبط وأن يدركوا مهمتهم على الوجه الصحيح فإذا طلبت إلي أن أقول كلمة واحدة في هذا الباب تواريت واستحيت، وطلبت منك الغفران لهذه الظاهرة التي تلمسها بوضوح فينا جميعاً، وهي أننا نقفز بالعقول إلى الأشياء التي لم تستطع عواطفنا بعد أن تتقبلها راضية مطمئنة.
عبد الفتاح الديدي
المسرح المصري
للأستاذ محمود سامي أحمد
يأسى كل محب لفن التمثيل لهذا المصير المحزن الذي آل المسرح المصري اليوم، ولكن أنى للأسى والحزن أن يقوماً ما اعوج من الأمور، أو أن ينفخا الروح في الجسد الهامد المستكين؟
لن يصبح للمسرح المصري شأن إلا يوم يتكاتف العاملون من رجاله، فينصرفون إلى البحث الهادئ ووضع الخطط السليمة دون ميل مع الهوى، أو خضوع لأي مؤثر عاطفي، ودون أن يقفزوا إلى نتائج مبتسرة لا تسندها مقدمات منطقية معقولة.
وقد رأيت أن أدلي على صفحات الرسالة ببعض ما يعن لي من آراء، راجياً أن يقابلها رجال المسرح بصدر رحب، وألا يسخطوا علي ما قد يكون فيها من صراحة تؤلم، فإنه الألم من مشراط الجراح يعقبه البدء بإذن الله.
نشأة المسرح المصري مفتعلة:
المتأمل في نشأة المسرح في مختلف البلاد يجد أنه انحدر من صلب العقيدة الدينية، وأن أولى خطواته كانت من عمل الكهان ورجال الدين، وأولى حفلاته كانت تقام في المناسبات الدينية.
فهذا المسرح اليوناني، وهو أقدم المسارح المعروفة لنا، والمدروسة دراسة واضحة؛ نشأ هذا المسرح عن ديانة الإله ديونيسوس إله الخمر عند اليونان.
كانت عبادة ديونيسوس ترمي إلى حياة الكروم، هذه الأشجار التي تجف سوقها وتذبل أوراقها في الشتاء، ثم تعود مع الربيع إلى الحياة، فتدب الحياة في تلك السوق، وتظهر الأوراق اليانعة وتثمر ثمرها الشهي، فإذا طاب الثمر عصره القوم وخمروه ليبعث في نفوس شاربيه السرور والنشوة. فديونيسوس إذن إله يحيا ويتألم ويموت، ثم يبعث حيا!
ولما كان الكرم هو أهم المحاصيل اليونانية، وكانت الماعز هي أهم ما يربى من حيوان، فقد احتفل اليونانيون بإله الخمر بعد أن مزجوا عبادته بعبادة الماعز، فكانوا يقيمون الحفلات العامة في أواخر مارس وأوائل إبريل، ويجعلون من مذبح الإله، وهو ما كانوا يسمونه (التيميليه)، مركزاً للاحتفال، فكانت جوقة المنشدين تجتمع لتدور حوله مغنية
راقصة، بعد أن يلبس أفرادها جلود التيوس، ومن ذلك الوقت اصبح الديترامبس وهو الغناء التوقيعي الذي تقوم به الجوقة يسمى التراجيديا أي غناء التيوس (وهو لفظ مركب من أي التيوس وأي غناء) ومن ذلك الوقت أصبح الكهنة والمتعبدون يلبسون جلود التيوس في حفلاتهم الدينية تشبهاً بالساتير وهم صحابة الإله ديونيسوس.
ولم يقتصر الأمر على الغناء والرقص، وإنما عمد الكهان إلى تمثيل طرف من حياة الإله يصلح لأن يكون نواة التمثيلية، فكان أحد الكهنة يمثل شخصية عدو من أعدائه الذين يريدون به الشر، ويطارد حورية من حوريات الإله وقد أمسك بيده فأسا يهددها به، فتجفل الحورية، وتفر منه وقد ملأها الرعب واستبد بها الخوف. واستمرت الحال زمناً، ليس إلا رقصاً وغناء لا يجمعه نظام خاص، وإلا مشاهد صامتة فيها طرف من أسطورة وطرف من حركة ولكن لا حوار فيه. استمرت الحال كذلك إلى أن جاء الشاعر أريون، الذي حول هذا النشيد الساذج إلى فن، إذ فصل بين الجوقة ورئيسها، وجعل هذا يعني فردياً لم يكن موجوداً من قبل، فترد عليه الجوقة مجتمعة، ومن هنا نشأ الحوار.
ثم جاء دور تسبيس الذي يعتبر المبدع الأول للمأساة اليونانية إذ أنه حول هذه الأغاني والرقصات إلى حوار كامل، رفعه أئمة المسرح اليوناني اسكيلوس وسوفوكليس يور وبيديز إلى مرتبة الفن الكامل.
وكما تطور الفن المسرحي من الرقص والغناء الساذج إلى المسرحية الفنية الكاملة، كذلك تطور الموضوع، فبعد أن كان وقفاً على تمثيل حياة الآلهة، أضاف اليونانيون إليه حياة الأبطال، فأخذوا يتغنون بها، ويمثلون قصصاً منها، معتمدين في ذلك على القصص الطرادي والقصص الطيبي، ثم طغى تمثيل حياة الأبطال على حياة الآلهة، وانفرد بالأمر، ولم يعد للآلهة مكان على المسرح، ولكنها ظلت مع ذلك في المسرح اليوناني تسيطر على أعمال الناس وتتحكم في مصائرهم.
ولم يشذ المسرح المسيحي عن ذلك، ومن عجب أن ينشأ المسرح في أحضان الكنيسة، وهي التي حاربت التمثيل الروماني وكانت سبباً من أسباب انهياره! ولكن لا غرابة في ذلك، فقد أثبتت الدراسات المختلفة في علم الاجتماع وطبائع الشعوب، أن كل ذين قابل لأن ينشئ حادثة مسرحية، وأن جميع الطقوس الدينية قابلة لأن تتخذ الشكل الدراماتيكي،
والدليل على ذلك أنه نشأ عند الفرس نوع من التمثيل لم يتطور إلى المسرحية الكاملة وقد نشأ عن الاحتفال باستشهاد الحسين رضي الله عنه.
ولد المسرح المسيحي إذن من طقوس الدين، وذلك للتأثير في قلوب المؤمنين، فكان القس والرهبان يمثلون بعض مشاهد من حياة المسيح، فيمثلون رفعه ثم يمثلون مولده، وأقدن الوثائق التي تصف لنا هذه المشاهد هي الوثيقة التي تركها الراهب الإنجليزي سانت إنلوولد، فكان القس يضعون إلى جانب المذبح تابوتاً يرمز إلى القبر، ثم يتقدم قسان يحملان صليباً ملفوفا بالقماش يرمزون به إلى المسيح، فيضعانه في التابوت، يتخلل ذلك كله الأناشيد، وأقدم التمثيليات ذات الحوار هي تلك التي كانت تمثل في عيد الفصح، إذ كان يتقدم قسيسان يلبسان مسوحا بيضاء يمثلان ملكين، ثم يلتقيان بآخرين يمثلان امرأتين ويقف الجميع أمام التابوت الفارغ، فيسأل أحد الملكين
- عمن تبحثان في الضريح؟
فتجيب إحدى المرأتين:
- إننا أيها السماويان نبحث عن الذي صلب.
فيرد الملك الثاني:
- لن تجداه هنا، فقد ارتفع إلى السماء كما تنبأ، فاذهبا وأعلنا في كل مكان ذلك؛ أعلنا أنه ارتفع من ضريحه إلى السماء
وهكذا نشأ المسرح المسيحي بهذه التمثيليات الدينية ثم تطورت بعد ذلك إلى مناظر كاملة ضاقت عنها الكنيسة، فخرج التمثيل إلى فناء الكنيسة أو المقبرة، ثم إلى دور البلديات.
ولانحدار التمثيل من صلب العقيدة الدينية نظر الجمهور إلى هذا المسرح نظرة القداسة، وكانوا يؤمون المسارح أو أي مكان يقام فيه التمثيل كما يؤم المؤمن معبداً يؤدي فيه الفريضة لله. وهكذا تأصل حب المسرح في النفوس، حتى أصبح الأوروبيون يرون للمسرح رسالة روحية، وحتى أصبح في نظرهم ضرورة من ألزم ضرورات الحياة.
أما في مصر، فالمسرح نقل إلينا دون أساس قومي أو ديني، نقل إلينا بما ترجم أو أقتبس من الروايات الأوربية، ومثلت هذه الروايات دون أن يراعى فيها في أول الأمر اتفاقها وعقلية المصري وتقاليده، ولهذا ظل المسرح بعيداً عن أفئدة الجمهور، ذلك الجمهور الذي
أقبل على دور اللهو الأخرى التي تخاطب حسه وغريزته، وانصرف عن المسرح الجدي الذي يخاطب فيه العقل والذوق، فكاد نجم ذلك المسرح أن يأغل مع كل ما تقدمه الدولة من أموال لإعانة الفرقة المصرية.
وليس أمر المسرح المصري بدعا في ذلك، فالمسرح الروماني القديم نال نفس المصير، فقد نشأ نفس النشأة المفتعلة بترجمة المسرحيات اليونانية أو اقتباسها أو تقليدها، فلم يجد الإقبال الكافي، حتى أن مسرحيات سنيسكا الفليسوف لم تمثل، وإنما كانت تقرأ على الناس في قاعة للمحاضرات تسمى الأوديون، وهذه القاعة ابتدعها الرومان ليستمع الناس فيها إلى المحاضرات أو ما يقرأ عليهم من التمثيليات. وهكذا تحول المسرح الروماني على مر الزمن إلى مسرح استعراضي يعتمد على الرقص والغناء واستثارة الغرائز الدنيا للمشاهدين.
لهذا السبب - وهو النشأة المفتعلة للمسرح المصري - امتلأت المسارح الاستعراضية والفكاهية؛ وخوى مسرح الفرقة المصرية، ولهذا السبب أيضاً امتلأت الروايات السينمائية المصرية بمشاهد الرقص والغناء بمناسبة وبغير مناسبة.
فالواجب على القائمين على أمر المسرح أن يستميلوا الجمهور إلى فهم، ولا أقصد بذلك أن يتبدلوا فيما يعرضون، كما تحاول الفرقة المصرية اليوم، وإنما أقصد إلى أن يبثوا حب المسرح في النفوس، وأن يرتفعوا بهم رويداً رويداً حتى يحلقوا في أبعد الآفاق وأرفعها.
ودليلنا على أن أفراد الجمهور المصري لا ينقصهم الإحساس الفني، أنهم يقبلون على مشاهدة الروائع السينمائية الأجنبية، وفيها القصص الدسمة والموضوعات العميقة، وهم راضون عما يرون، بل إنهم أصبح الآن ينصرفون عن كل رواية ضعيفة ولو اختفى ضعفها وراء الإخراج الرائع والتمثيل المتقن.
فيجب، والحالة هذه، أن نبث حب المسرح في النفوس، وذلك باستلهام التاريخ الإسلامي في وضع المسرحيات، ويجعل مادة التمثيل مادة أساسية في المدارس كما هي حال القصص الآن، بالإكثار من وحدات المسرح الشعبي التي تجوب الأحياء والبلاد ولا لتعرض هذه التفاهات التي تقدمها، وإنما لتعرض قطعاً غنية جمعت بين المتعة والفن. ولا بأس من أن تعرض في كل مرة مسرحية فكاهية لاجتذاب الجمهور، ثم تتلوها مسرحية جيدة تخاطب
العاطفة الدينية أو القومية في النفوس، ويتذوق فيها النظارة الفن الحقيقي الرفيع.
محمود سامي أحمد
أستاذ في الآداب
مصر تنتقم من وزير
للأستاذ عطية الشيخ
تشابه الطبائع:
الناس معادن وفصائل، منهم الأخيار والأشرار، ومهما تقدم العقل البشري وامتدت المدنية، وزاد الرخاء، وتنادى الناس بالإخاء، فإنك لا تزال تلمس في هذا المجتمع الراقي فصائل من البشر لا يميزهم عن إنسان الغاب إلا طراز الأزياء، وتقاليد سطحية، ليس لها في أعماق نفوسهم أثر وهل تعي الببغاء مما تقول شيئاً؟ وعل يعني النسناس مما يؤدي من الحركات أمراً؟ ففي فجر التاريخ تميز خيار الناس من شرارهم في محاورة قابيل وهابيل البني آدم، حين هم الأول بقتل الثاني، فلم يزد هابيل على أن قال (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) فهل أثر هذا الموقف الكريم في النفس الشريرة. كلا لا طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. ثم امتدت الحقب، وتتابعت الأولاد والأحفاد، وتوالت الأجيال، ومازال في أبناء آدم قابيل وهابيل، لم تختلف الأرواح وإن تغيرت الأسماء وها هي ذي الأمثال والحكم التي أجرتها الحوادث على لسان الأمم البائدة. يتمثل لها أبناء اليوم كأنها قيلت بالأمس القريب.
علم الدين سنجر الشجاعي:
مملوك من مماليك السلطان المنصور قلاوون، أتسم بقلب حجري، وبأس قوي، وحب للشر وشهوة في الانتقام، ورغبة أكيدة في الكيد للناس، لا يسلم من شره أقرب الخلق منه، ولا أكثرهم إحساناً إليه، تولى الإشراف في أيام سيده المنصور قلاوون على بناء البيمارستان، فكان يتصيد الصناع والفعلة من أعلى سقالة بالبندق، وإذا سقط أحدهم جثة هامدة لا يظهر عليه تغير ولا يتحرك من مكانه ولا يسأل عن أهله وذويه، بل يأمر بالإسراع في دفنه حتى لا يتعطل العمل.
إلى الشام:
ثقل على المصريين أمر الشجاعي، وكان في الشام بقايا صليبيين، فرأى الملك المنصور أن يرسله إلى دمشق، عله يجد متنفساً لشره وظلمه في أعداء الدولة إذ كان لا بد للأفعى
من أن تنهش وللعقرب من أن تلدغ، وقد صدق ظن الملك ففي الشام وجد الشجاعي متسعاً للأذى في غير المسلمين حتى أحبه أهل دمشق.
السلطان خليل:
مات المنصور قلاوون وتولى بعده الملك ابنه الأشرف خليل وكان كما يقول الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام (بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عالي الهمة، تخافه الملوك في أمصارها، والوحوش في آجامها) فلم يكد يستقر في الملك حتى صمم على طرد الصليبيين من بلاد الشام جملة، وكان أمنع حصن لهم (عكا) فجهز جيشاً جراراً وحاصرها، وهناك قابله الشجاعي، وأخذ يسمم أفكاره ضد من معه من الأمراء والوزراء (والشجعان دائماً أضعف فريسة للختل والمكر والدهاء) فقبض خليل على من معه من أمراء أبيه وقواده ولم ينتظر حتى تنتهي المعركة (وحصل للناس قلق شديد، وخشوا من حدوث فتنة تكون سبباً في تنفيس الخناق عن أهل عكا المحصورين)
حتى الوزير:
كان وزير الأشرف خليل هو محمد بن عثمان التنوخي الدمشقي، وكان له صديق شاعر، خاف عليه لؤم الشجاعي وكيده، فأرسل إليه البيتين الآتيين يحذره منه.
تنبه يا وزير الأرض واعلم
…
بأنك قد وطئت على الأفاعي
وكن بالله معتصما فإني
…
أخاف عليك من نهش الشجاعي
فهل أغناه التحذير كلا بل ذهب الوزير صريعاً بيد الشجاعي أمر قراقوش فضربه ألفاً ومائة عصا حتى مات تحت التعذيب.
رقعة دسة:
أخذ الشجاعي بترقي في وظائف الدولة أيام السلطان خليل، بدسه وسعيه ضد أكابر الدولة وزجهم في السجون والمعتقلات، حتى أنابه السلطان عنه في السلطنة، وأنزله قلعة الجبل حين ذهب للصيد في مديرية البحيرة، ولما قتل السلطان خليل، وتولى الملك بعده أخوه الناصر، أتفق الأمراء على أن يكون نائب السلطنة الأمير كتبُفاً، ووزيرها الشجاعي، وكان الملك صغير السن، ونائب السلطنة كتبفاً رجلاً ديناً طيب القلب، فأنتهز الشجاعي هذه
الفرصة واستبد بالأمر (وكان موكبه يضاهي موكب السلطان من التجمل.
الاستئثار أو النار:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه، والحوت لا يلهيه شيء يطعمه، يصبح ظمآن وفي الماء فمه، وشهوة الشر لا تشع وإن سبعت شهوة الخير، فلم يكتف الشجاعي بما وصل إليه، وأخذ يعمل على استئصال جميع معارضيه، والانفراد بالحكم وحده فدبر مع بعض الأخساء مؤامرة لقتل جميع الأمراء والعلماء والقادة والعظماء، ووعدهم بأن من قتل أميراً أو عظيماً فله جميع تركته، وأخذ ينفق من خزانة الدولة في سبيل هذا المأرب، حتى بلغ ما أنفقه في يوم واحد ثمانين ألف دينار، وعين لتحقيق الغرض يوما معلوماً وأوصى بالتكتم حتى يؤخذ الخصوم على غرة.
وتقدرون:
كان من بين من أغراهم الشجاعي ومناهم سيف الدين قنقغ التتاري، فأخذته العصبية الجنسية للأمير كتبفاً لأنه كان تتاري الجنس، وحذره وأطلعه على كل شيء، فجمع كتبفاً أمراء الدولة وعظماءها وبعد أن تحققوا من صدق الرواية ذهبوا إلى القلعة وحاصروها ليقبضوا على الشجاعي.
الذهب والشعب:
أغلق الشجاعي أبواب القلعة، وأخرج صرر الذهب من الخزانة، وأخذ يفرقها على البرجيه حتى انحاز إليه فريق منهم، وظل يعد ويمني ويرشو حتى تجمع حوله العدد الكافي. فخرج من القلعة وهاجم كتبفا وأصحابه فهزمهم وفروا إلى يلبيس. ورأى الشعب ذلك فثارت ثائرته وتدخل في الأمر ضد الشجاعي الظالم وهجم الأهالي هجمة رجل واحد حتى أدخلوا الشجاعي ومن معه قلعة الجبل وحاصروهم وقطعوا عنهم الماء، فعاد كتبفا ومن معه وانضموا للشعب، ودام الحصار (إلى أن طلعت الست خوند والدة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى أعلى السور وكلمتهم بأن قالت لهم! إيش هو غرضكم حتى إننا نفعله لكم؟ فقالوا مالنا غرض إلا مسك الشجاعي وإخماد الفتنة) فأمرت بإغلاق باب منزل الشجاعي عليه وكان داخل القلعة، فأصبح في حصارين أحدهما خارج الأسوار، والثاني داخل القلعة.
ولما رأى أصحابه ذلك، ولا ينحاز إلى مثله بالطبع إلا كل خسيس نفعي، يكثر عند الطمع ويقل عند الفزع، والطيور على أشكالها تقع، أقول لما رأى أصحابه ذلك، تفرقوا عنه وانضموا إلى أعدائه ثم انقض عليه بعضهم وقطع رأسه وأظهره للشعب من وفق سور القلعة، فدقت البشائر وعمت الأفراح جميع البلاد.
الثأر من رأس الغريم:
علم بعض صيادي المال من المصريين كراهية الشعب للشجاعي فاستولوا على رأسه وطافوا به الأنحاء على أعلى رمح، وتسابق المصريون في شفاء صدورهم من رأس عدوهم، فتهافتوا على النيل منه وغالى حاملو الرأس في تقاضي الثمن (حتى بلغت اللطمة على وجهه المداس نصف درهم، والبولة عليه درهم) ولم يكف المخدرات صنيع الرجال، فطلبن من أزواجهن المشاركة في الإهانة (فكانوا يأخذون الرأس ويدخلونه بيوتهم فتضربه النسوة بالمداسات) ولم يفرغ حاملو الرأس من مهمتهم حتى امتلأت جيوبهم وبعد أن جبوا عليه مصر والقاهرة وحصلوا مالاً كثيراً، وغلقت أسواق القاهرة وحوانيتها خمسة أيام ابتهاجاً بزوال عهده (وسبب ذلك ما كان اشتمل عليه من الظلم ومصادراته للعالم وتنوعه في الظلم والعسف).
دالت الدولة:
بعد أن هدأت الفتنة وأصبح الشجاعي في خبر كان، قبض كتبفا نائب السلطنة على أعوانه والمتآمرين معه، وأطلق سراح المعتقلين، وكان من جملتهم الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن بعد ذلك على الديار المصرية، ومن الله على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة وجعلهم الوارثين.
حتى الترحم عليه:
قال قاضي القضاة نجم الدين بن شيخ الجبل: كنت ليلة نائماً فاستيقظت وأنا أحفظ البيتين الآتيين:
عند الشجاعي أنواع منوعي
…
من العذاب فلا يرحمه الله
لم تفن عنه ذنوب قد تحملها
…
من العباد ولا مال ولا جاه
وكان ذلك في نفس الليلة التي قتل فيها الشجاعي نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا
الشعر المصري في مائة عام
للأستاذ محمد سيد كيلاني الساعاتي
من 1825 - 1880
- 8 -
هم محمود صفوت الساعاتي ابن مصطفى أغا الزيله لي ولد بالقاهرة في عام 1825 ونشأ بها إلى أن بلغ الاثنى عشر عاماً. ثم توجه إلى الإسكندرية مع أبيه. وفي العشرين من عمره بدا له أن يقوم بفريضة الحج فسافر إلى الحجاز. وهناك التحق بحاشية أمير مكة الشريف محمد بن عون فأكرم مثواه وأحسن ملتقاه حتى أنساه وطنه وصحبه فظل ملاماً له في مقامه ومرتحله. وسافر معه إلى غزواته المعروفة في نجد واليمن ووصف كثيراً من وقائعه في شعره.
ووقعت بينه وبين أدباء الحجاز منافسات تلتها مناظرات كما هو شأن الأدباء في كل عصر وفي كل موطن.
وفي عام 1850م عزل الشريف محمد بن عون من إمارة مكة فهاجر إلى مصر مصطحباً الساعاتي الذي سافر معه إلى الآستانة بعد ذلك بقليل. وهناك وقع نزاع أدبي بينه وبين الشيخ زين العابدين المكي.
وفي عام 1851م عاد إلى مدينة القاهرة فعين في إحدى الوظائف الحكومية. ثم ألحق بمعية سعيد باشا. ثم نقل إلى وظيفة كتابية بمجلس الأحكام المصرية. ثم عين بعد ذلك بديوان المالية، فعضواً بمجلس أحكام الجيزة والقليوبية. وتوفي سنة 1880م. وله ديوان مطبوع.
شعره
1 -
في الحجاز:
نزل الساعاتي عند أمير مكة الشريف محمد بن عون وهو ممن يدعون الانتساب إلى الإمام علي. فأراد الشاعر أن يحظى لديه وينال عطفه. لو أنه سلك في مدائحه مسلك شعراء مصر في عصره من ابتداء القصائد بغزل طويل مما متكلف، واستخدام الصناعة اللفظية من جناس وطباق وغيرهما لما ظفر بشيء مما يرجو، ذلك لأن الأشراف لا يطربون لهذا
ولا يحفلون بقائله. فلم ير الشاعر بداً من أن يكون شيعياً يهتم بالمعاني الشيعية التي تستهوي آل عون.
أنظر إليه حين يقول في مدح الشريف عبد الله بن عون:
ومن ذا الذي أحرى بمجدك منهم
…
ومدحك في التنزيل جاء محرراً
وأعلى ملوك الأرض كسرى ولم يك
…
ن له نسب دانى البتول وحيدرا
وإن كان بالإبوان أظهر فخره
…
فحسبك بالمحراب والبيت مظهرا
غلى خير خلق الله تنمى أصولكم
…
فكنتم به من الناس أكرم عنصرا
وأنتم بنوه والذين بفضلهم
…
أتى الروح بالذكر المبين مخبرا
ومن ذا الذي بالشعر يبلغ مدحكم
…
وفي هل أتى ما قد أتى وتصدرا
وانظر إليه حين يمدح شيخ السادة العلوية بالمدينة:
أهلا وسهلا بغبن بنت محمد
…
نجل الحسين ومعدن الحسنات
أهلا بزهرة فرع أصل طاهر
…
غرسته أيدي الوحي والآيات
شرف على الشهب المنيرة مشرف
…
مترفع عن عرضه الشبهات
نسب قد انتظمن عقود جمانه
…
بيد التعفف لا يد الشهوات
أورومة طابت فروع أطولها
…
رفعت بإسناد وصدق رواة
تلك التي غرس النبي لدوحها
…
فأتت بكم من أطيب الثمرات
فأنت ترى أن اهتمام الشاعر بالمعنى كان مسيطراً عليه في هاتين القصيدتين وفي غيرهما مما نظمه في أشراف مكة. وقد اجتهد في الضرب على الوتر الحساس الذي تهوى إليه أفئدتهم. وتقمص الساعاتي في هذه المدائح شخصية ابن هانئ الأندلسي وأغار على كثير من معانيه. مثال ذلك قوله:
ومن ذا الذي أحرى بمجدك منهم
…
ومدحك في التنزيل جاء محررا
فمأخوذ من قول ابن هانئ:
فرحت بمبعثك السماوات العلا
…
وتنزل القرآن فيك مديحا
وقوله:
وينظم في الوصف الشريف قلائدا
…
وأبلغ منها قول أحكم حاكم
مأخوذة من قول ابن هانئ:
والله في علياك أصدق قائل
…
فكأن قول القائلين هذاء
مدح الساعاتي الشريف ابن عون بقصيدة جاء فيها:
رقت لرقة حالتي الأهواء
…
وحنت على البانة الهيفاء
وبكى الغمام على من أسف وقد
…
كادت تمزق طوقها الورقاء
بدأ المد بالشكوى مما أصابه من حوادث الدنيا. ثم مزج الشكوى بالفخر بنفسه وبشعره، ولم يكن الرجل صادقاً في فخره بل قلد المتنبي في ذلك. قال:
أنا ذلك الصل الذي عن نابه
…
تلوى المنون وتلتوي الرقطاء
وقد نظر في هذا إلى المتنبي حيث يقول:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت
…
وإذا نطقت فإنني الجوزاء
وقال:
وفمي هو القوس الأرن ومقولي ال
…
وتر الشديد وأسهمي الإنشاء
فكر ينظم في البديع فرائدا
…
من دونها ما يلفظ الدأماء
وهذا فخر كاذب قلد فيه القدماء. وقد أراد أن يعظم من أمره ويرفع من شأنه فصور الناس وقد اشهروا عليه حرباً وأجمعوا أمرهم على كيده. قال:
ولع الزمان وأحله بعد أوتى
…
إن الكرام لها اللئام عداء
أنحط قدري الحادثات وهمتي
…
من دونها المريخ والجوزاء
وهو في هذا ينظر إلى ابن هانئ الأندلسي حيث يقول:
طويت لي الأيام فوق مكايد
…
ما تنطوي لي فوقها الجوزاء
ثم استطرد إلى التحدث عن سوء حظه، وذكر أنه قصد أناساً كثيرين فلم يجد عندهم ما يسره حتى أفنى عمره دون أن يتحقق له أمل واحد من آماله. قال:
أفنيت عمري في طلاب أولي التدى
…
متعللاً بعسى يجاب نذاء
وهو غير صادق فيما يقول. ذلك لأنه عندما حل في مكة كان في العشرين فإذا فرضنا أنه نظم هذه بعد إقامته عند ابن عون بعامين أو أكثر فإنه في هذه الحال لم يكن قد أفنى عمره كما يحدثنا ثم تتخلص من هذا المدح فقال:
غضت عن العلياء طرفي برهة
…
ثم انجلت عن ناظري الأقذاء
فعلمت أن الأكرمين هم الأولى
…
شرفوا وباقي العالمين هباء
لم يبق غير بني النبي محمد
…
في الأرض يعزى إليه سخاء
قوم همت جدواهم وبمدحهم
…
في كل واد هامت الشعراء
ولو تأملت في هذه الأبيات لوجدت روح ابن هانئ ماثلاً في وضوح وجلاء، وطريقة الساعاتي في التخلص إلى المدح هي نفس طريقة ابن هانئ. وإليك أبيات ابن هانئ لتوازن بينها وبين أبيات الساعاتي.
وطفقت أسأل عن أغر محجل
…
فإذا الأنام جبلة دهماء
حتى دفعت إلى المعز خليفة
…
فعلمت أن المطلب الخلفاء
جود كان اليم فيه نفاثه
…
وكأنما الدنيا عليه غشاء
إلا أن ابن هانئ، كان يمدح الخليفة الفاطمي الذي امتد ملكه من المحيط الأطلسي غرباً إلى بلاد العرب شرقاً، أما الساعاتي فكان يمدح عاملاً بسيطاً من عمال الدولة العثمانية، وهو معرض للعزل في أي وقت. وقد عزل فعلاً ورحل إلى الآستانة، وقد جعل الساعاتي من هذا الحاكم الصغير ملكاً تهابه الملوك وتعنوا لسلطانه وتقصر عن بلوغ مرتبته. وقال:
ملك سما سلطانه وتقاصرت
…
عنه الملوك لأنها أسماء
ولو ارتقوا يوماً لأخمصه انتهوا
…
لمراتب ما فوقهن علاه
وصلته أبكار العلاء كواعبا
…
من قبل ما وصلتهم الشمطاء
ولا شك في أن الشاعر قد أشرف في التكليف وبالغ في الكذب وليس مما يعقل أن رجلاً كالساعاتي يقول مثل هذا المدح في شريف مكة عن عقيدة راسخة وإيمان ثابت.
وظاهر من هذه القصيدة أن ابن عون قد أعرض عن الساعاتي مدة من الزمن بسعي بعض الحساد، فشكا الرجل من حدوث هذه القطيعة. قال:
مازلت أجلو وصفكم حتى بدا
…
كالشمس لا رمز ولا إبماء
وحبونموني بعدها بقطيعة
…
أكذا يكون تكرم وحباه
من لي بخط الأغبياء فعلتي
…
عز الدواء لها وجل الداء
وقال قبل ذلك أبيات:
يا أيها الملك المفدى عودة
…
يا من لديه لا يخيب رجاء
أوليتني الآلاء ثم تركتني
…
مثل الذي حلت به اللأواء
ما كان ذا أملي الذي أملته
…
فيكم وأنتم سادة نجباه
أو لستم أدري بما كنتم به
…
تعدونني ومتى يكون أداء
إن كان دائي حسن حظي ربما
…
يشقى الفصيح وتنعم العجماء
هذه الأبيات إذا قرأناها تركت في أنفاسنا أثراً عميقاً، ذلك لأن الشاعر هنا لم يكن متكلفاً ولا متصنعاً، وإنما كان يرسل القول من أعماق فؤاده، فعبر في هذا الشعر عما انطوى بين جوانحه من ألم شديد وحزن عميق، وبسط يديه أمام شريف مكة راجياً منه أن يعمل على إزالة هذه القطيعة، وعدة أبيات هذه القصيدة سبعة وسبعون بيتاً، منها ثلاثون في الفخر، وحوالي عشرة أبيات في الشكوى والباقي في المدح.
وللساعاتي قصيدة هائية مدح بها الشريف علي بن عون. وقد سلك فيها مسلك مروان بن أبي حفصة في هائيته المشهورة التي مطلعها:
طرقتك زائرة فحي خيالها
…
بيضاء تخلط بالجمال دلالها
أما قصيدة الساعاتي فمطلعها
جادت بوصل بعد طول دلالها
…
مطبوعة جبلت على إدلالها
وعجز البيت ضعيف التأليف تافه المعنى، وربما كان سبب ذلك اهتمامه بالجناس بين (دلال) و (إدلال).
وقال:
وسرى بطيف خيالها جنح الدجى
…
من بعد ما جنحت إلى عذالها
زارت على شوق محبيها وما
…
زالت تجر إليه في أذيالها
سفرت فقلنا قد تألق بارق
…
يزجي رشاش الظل في أطلالها
وتكلفت صلة المتيم عندما
…
نظرت كمال البدر دون كمالها
غيداء جادت بالزيارة بعد ما
…
جارت ومل الدهر دون ملالها
سمحت بما أسدت إلى وإنما
…
صلة المعنى من تمام خيالها
حسناء قد تاهت عليّ كأنها
…
حسنة والمجد في سر بالها
ولن تجد في هذه الأبيات من المعاني سوى تلك الغادة بالجمال والدلال، وقد شعر الرجل بإفلاسه وخلو جعبته من المعاني فستر ذلك العجز باصطناع المحسنات اللفظية، ثم انتقل من ذلك إلى المدح وقد أورد بعض المعاني الشيعية
كقوله:
ولقد علمت بأن مدحي قاصر
…
وعلاكم التنزيل في إجلالها
أفبعد ما جاء الكتاب مفصلا
…
تتفاضل البلغاء في أقوالها
وقال يمدح الشريف محمد بن عون ويهنئه بانتصاره في بلاد اليمن:
بشرى بنصر بالفتوح ميسر
…
ودوام عز حيث سرت مسير
والمعنى ضعيف كما ترى، وفي البيت جناس بين (ميسر) و (مسير) ومنها
نشرت لك الأعلام من فوق العلى
…
فطويت ذكرى كل باغ مفتر
وهو جيد المعنى، وفيه طباق بين (نشر) و (وطوى)
(يتبع)
محمد سيد كيلاني
حول (موازنة أدبية)
الموازنة - إذا أريد لها أن تقوم على أساس عادل سليم - ينبغي أن تكون بين شيئين متكافئين - تقريباً - إلا من فروق دقيقة لا يميزها إلا ناقد فاحص أوتي من حدة الذكاء، صواب النظرة، وإرهاف الذوق، حظاً موفوراً. . . وليست الحال كذلك في الموازنة التي أجراها حضرة الأستاذ الفاضل (محمد عبد المنعم خفاجي) بين قصيدتين (من عيون الشعر الجاهلي) أولاهما معلقة عمرو بن كلثوم، الأخرى مجمهرة أمية بن أبي الصلت. إذ أنهما غير متكافئين كما أنهما ليستا من طبقة واحدة. والفروق بينهما واضحة، لا تحتاج إلى أعمال فكر، أو إجهاد ذهن، وليس هذا من عندياتنا ولكن ما يقرره حضرة الكاتب الفاضل أثناء كتابته، فهو يعترف بأن هناك فروقاً فنية كبرى (لا دقيقة) لاحظها النقاد بين القصيدتين، وقد ترتب على هذه الفروق التفرقة بينهما فوضعت الأولى (معلقة عمرو) في صف المعلقات، ووضعت الثانية في صف المجهرات.
ويعترفأيضاًبأن معلقة عمرو وتمتاز بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية) فأمية إذن لم يأت بجديد خالص وإنما قال متأثراً عمراً في معلقته، حتى أن بعض أبيات قصيدته جاءت مشابهة لابيات من قصيدة عمرو مشابهة تامة حيناً وتكاد تكون تامة حيناً آخر كما يقر بعدم التكافؤ بين القصيدتين حين يقول (إن شاعرية عمرو في معلقته أقوى وأبين من شاعرية أمية في مجمهرته سواء في الأسلوب أو المعاني أو الأغراض أو مدى الجودة الفنية ومواهب الشعر) فهو يفضل المعلقة تفضيلاً مطلقاً، ويحلق بها في آفاق السمو الفني، بينما يهوى بالأخرى هوياً عميقاً، ويلقي بها في قرارات سحيقة من الضعف الأدبي، وقصيدتان هذا شأنهما حوج إلى (ميزان طبلية) منهما إلى (ميزان حساس) يرى بدقة فروقهما.
بل هناك أكثر من هذا، فهو يرى أن أمية نظم مجمهرته في شبابه (قبل أن تكتمل شخصية أمية الفنية)، ورغم كل ما تقدم مما يدل علة عدم ارتكاز الموازنة على أسس سليمة، وبالرغم من هذا الفارق الكبير بين شاعرية عملاق من عمالقة الشعر الجاهلي وشاعرية - أمية - التي لم تكتمل - حين نظمت القصيدة - أسباب القوة والخصوبة، تجري الموازنة. . .! ولا شك أنا مجحفة غير عادلة.
والتطويل ظاهر في الأسلوب، ومن ظواهره الاستطراد والتكرار، فيكفي أن يذكر الأستاذ أن قصيدة أمية هي إحدى المجمهرات حتى يستطرد فيعددها ويوازن بينها، ويذكر مطالع
بعضها، بينما يعرض عن ذكر مطالع البعض الآخر.! ويكفي أن يذكر أن قصيدة عمرو هي إحدى المعلقات حتى يعرف المعلقات - وكأنها شيء غريب لم يسمع به أو كأنها جديدة على قراء (الرسالة). . .! ويذكر سبب اختيارها، ولكنه لا يمضي فيذكر سبب تسميتها لتتم بذلك معرفة القراء. . .!
وأما التكرار فكثير، لفظاً ومعنى، فهو يكرر كلمة (الفنية) أيضاً. .! وكأنه بالتزامها يضفي على الموازنة شيئاً من سمات البحث العميق وهو يكرر حين يتكلم عن المعلقة، فهو يصفها بأنها (ملحمة تاريخية تصور المجد القديم لتغلب قبيلة الشاعر) وبعد قليل (فهي جديرة حقاً أن تسمى ملحمة فهي تاريخ مفصل لقبيلة عمرو ومفاخرها) وبعد قليل (عدتها تغلب كل مجدها وفخارها) ثم (ملحمة تاريخية نادرة) وأحياناً يقرر، وعندما يكرر ينتابه بعض الشك فيما يقرر. مثال ذلك قوله (وتمتاز (معلقة عمرو) بأنها الأصل الذي نسج على منواله أمية) ثم يكرر وكأنه يستنتج (وتستطيع أن نقول إن أمية قلد في مجمهرته عمرو بن كلثوم تقليداً فنياً واضحاً) ويستطرد في التكرار (وصاغ قصيدته على موسيقى وقافية عمرو)
ونرى في الموازنة بين المجمهرات تناقضاً واضطراباً فهو يقول (وهذه القصائد السبع (يعني المجمهرات) لم توضع في مرتبة واحدة لاتفاق موضوعاتها (ويقول بعد ذلك مباشرة (إذ أن موضوعاتها مختلفة). . .! ثم يقول (فهي إذن إنما وضعت في منزلة أدبية واحدة. . .)! ثم يدلل على اتفاق موضوعاتها بقوله (إذا يشبه بعضها بعضا في النواحي الفنية والفطرة الأدبية وفي خصائص الشعر والشاعرية. . .).
ويخالف حضرة الكاتب الدكتور طه في رأيه القائل بوضع القصيدة ويرد على سهولتها بقوله أنه (أي عمرو) ارتجل بعضها. وقد يبدو هذا مقبولاً ولكن كيف نعلل سهولة غير المرتجل منها؟ هنا يتغنى الأستاذ به (نشأة عمرو في الطائف ذات الخصب والزروع والثمار والهواء المعتدل والجو الجميل. . .). .! ناسياً أن هذا ليس كل شيء، بل إن هناك شعراء عاشوا في مثل البيئة التي نشأ وعاش فيها عمرو، بل في بيئات أفضل وأغنى وأخضب ومع ذلك لم يجئ شعرهم في سهولة المعلقة بل كان يكتنفه أحياناً تعقيد وغموض وخشونة، ودليل ذلك عند المتنبي، وعند (البارودي) فبالرغم من أن الأخير عاش في العصر الحديث فإن شعره لم يكن يفرقه عن شعر الجاهليين فارق كبير.
ولقد حدد الأستاذ التاريخ الأدبي لقصيدة أمية بترجيحه أنها قيلت (في مفاخرة من هذه المفاخرات التي تحدث كثيراً بين القبائل العربية خاصة في العصر الجاهلي) وليت شعري فيم كان يمكن أن تقال هذه القصيدة إن لم تكن قيلت في مفاخرة من المفاخرات التي عناها الكاتب الفاضل.؟ ولكن الأستاذ لم يبين ذلك الذي كان يفاخره أمية؟.
ويريد الأستاذ أن يحدد السبب الذي حدا بأمية إلى نظم قصيدته على غرار معلقة عمرو، ولكنه لم يحدد بل استوعب كل الأسباب التي يمكن أن تدفع الشاعر إلى تقليد عمرو من إعجابه به أو روايته لشعره أو المفاق الغرض الذي قالا فيه، ولم يستطع أن يختص سبباً من هذه الأسباب يعد تمحيص الأسباب التي أوردها. وأغلب ظني أنه اعتقد - بذكره لعدة أسباب - أنه قد حدد واختار ومحص.!
ونستطيع أن نلخص من ذلك كله إلى:
1 -
عدم عدالة الموازنة.
2 -
الاضطراب في التعبير وعدم الدقة فيه.
3 -
عدم الوصول إلى آراء قيمة، فكل ما وصل إليه واضح يكاد يبلغ درجة البداهة، وإني أقدم تحيتي إلى الأستاذ الكاتب، وأرجو أن يمتعنا قريباً ببعض بحوثه القيمة.
أحمد قاسم أحمد
كلية الآداب بجامعة فؤاد
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6)
(2)
مناهج الأدلة لابن رشد
للأستاذ كمال دسوقي
هذا الكتاب لابن رشد لا ينفك عن سابقه الذي تعود الناشرون أن يربطوه به، وأعني به، فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال، وغرض هذه الرسالة الطريفة الممتعة - كما يتبين من عنوانها - التوفيق بين الفلسفة والدين توفيقاً من شأنه أن يضع حداً للشكوك والأوهام التي تساور المقبلين على دراسة الفلسفة المشفقين على عقيدتهم منها، وأنا أنصح بقراءة هذا النص القوي كل من هو في شك وارتياب، فإنه إن لم يقنع قارئه المتعقل بضرورة التفلسف شرعاً، ولا أقل من أن يهديه إلى أن لا تعارض بين الفلسفة والدين.
وسبيل ابن رشد في التوفيق بين الحكمة والشرع والمؤاخاة بين الفلسفة والدين أن يتقدم في وضوح وبحجة ناصعة ليقول إن الفلسفة هي علم النظر في الموجودات من حيث دلالتها على موجدها، ولما كان طبيعياً أنه كلما زادت المعرفة بالصنعة زاد العلم بالصانع، أي أنه كلما قوي العقل على الاعتبار الذي حث عليه الدين والقرآن - وهو في الفلسفة القياس والاستنباط - أمكن أن يصل إلى حقيقة الخالق، وأن الشرع قد حثنا على معرفة الله فكأنه يحثنا على الفلسفة والنطق وعلوم العقل التي من شأنها أن تؤهلنا للوصول إلى الحق، خصوصاً إذا سلمنا بأن ما جاء به الدين حق، وأن الفلسفة هي الأخرى تنشد الحق، لم يبق إذن تعارض بينهما - لأن الحق واحد، وحتى لو تعدد لم يتعارض بل يتأيد ويتوافق، وبقى على ابن رشد بعد هذا أن يقرر أن ما يطرأ على بعض من يتعاطون الفلسفة ليس من ذنبها، وهو يلحقها بالعرض لا بالذات، كمن شرب الماء العذب فيشرق فيموت، وغاية ما في الأمر أن مباحث الفلسفة يجب أن يلجم عنها العوام كما قال الغزالي من قبل وإن لم ينجح في ذلك في نظر ابن رشد، وأن يقتصر تعاطيها على الخاصة حتى لا نزيع العامة وتضل. والشريعة إذن قسمان: ظاهر يجب ألا يتجاوزه العوام وأن يؤمنوا به، ومؤول هو فرض على العلماء والخاصة.
وهذه نقطة البدء ف الكتاب الذي تدرسونه، وابن رشد يذكر بعدها بوضوح أن غرضه فيه (أن يفحص عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمل الجمهور عليها متحرياً في ذلك
قصد الشارع قدر الجهد والاستطاعة). وسترونه مخلصاً لهذه الخطة التي رسمها، أميناً على أن يجعل من نفسه الفيلسوف الذي يتصدى لأخص مسائل الدين دون أن يتعارض معه؛ حتى ليأخذ في كثير من الأحيان على أئمة الدين كالغزالي إقحام العامة في الفلسفة، مدعياً دائماً أنه على طريقته هو التي يشرحها يجب أن يكون تقديم أمور الدين للجمهور، ومخطئاً في أغلب الأحيان كافة الفرق الدينية التي حصرها منذ البدء في أربع: المعتزلة والأشعرية والباطنية ثم الحشوية؛ وإن كان لا يأتي بآراء هؤلاء جميعاً في كل مسألة مما عرض له - ربما لأنه لم يكن لها كلها آراء واضحة في كل المسائل، أو أنه هو لم يقف على كل هذه الآراء لأنها لم تصل إليه كما اعترف غير مرة.
ولا بد لكم من الرجوع إلى بعض مصادر الفلسفة الإسلامية أو معاجمها أو دوائر معارفها لتعرف نشأة هذه الفرق التي ذكرها ابن رشد وتميزها عن بعضها البعض والوقوف على أشهر علمائها وآرائهم. ومن حسن حظكم أن مؤلفنا لم يذكر إلا هذا العدد الضئيل من الفرق الإسلامية. وهذه أشهرها وأظهرها - وإلا فإن هذه الفرق تقدر عند الغزالي بثلاث وسبعين، وعند غيره بأكثر من ذلك. وقد ألفت في هذه المذاهب كتب جامعة شتى لا تحصر، أهمها: كتاب الملل والنحل للشهرستاني، ومقالات الإسلاميين للأشعري، والفرق بين الفرق للبغدادي - عدا الكتب الخاصة بكل فرقة ومذهب، ولكن يفيدكم فيها الرجوع إلى كتاب حديث كفجر الإسلام للأستاذ الدكتور أحمد أمين بك كما يتحتم عليكم الإلمام بتوسع أكبر بما ورد ذكره من الآراء لكل من هذه المدارس في كتاب ابن رشد.
أما موضوعات كتابنا فتبدأ (بتعريف ما قصد الشارع أن يعتقده الجمهور في الله) أولاً من حيث طريقة إثبات وجوده (ص 31 - 94) فبيان وحدانيته (49 - 53) فالقول في صفاته السبعة الثبوتية: العلم والحياة والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام (53 - 60) فمحاولة تنزيهه وتقديسه والترفع به عن الشبيه والجسمية والجهة والرؤية (60 - 80) وأخيراً الخمس المسائل التي يسميها معرفة الأفعال وهي: خلق العالم، وبعث الرسل، والقضاء والقدر، والتجوير والتعديل، والمعاد أو الحياة الآخرة، وفكرة الكتاب إذن - على ما في طريقة عرضها من خلط حيناً وقصور أحياناً، واستطراد أو شطط أحياناً أخرى - تتلخص في محاولة نصرة الدين بالفلسفة، ومناقصة أمور ما تسميه الأديان علم التوحيد أو
العقائد بالنظر أولاً في إثبات وجود الله فوحدته فبقية صفاته الثبوتية التي تنسب له صفات، والسلبية التي تنزهه عما يقابل هذه الصفات (وعددها عند أهل السنة عشرون لا مجرد السبعة التي ذكرها ابن رشد)؛ وأخيراً النظر في الأفعال الإلهية ومحاولة تأويلها وتأييدها على ضوء العقل. ومهمة ابن رشد هذه التي اضطلع بها على وجه لا بأس به من الجودة ليست بدعاً من الفلسفة؛ فكم من فيلسوف مسيحي قبله أو يهودي بعده يتصدى لمظاهرة الدين بالفلسفة، أو قل لنصرة الدين على حساب الفلسفة. ولكم أنتم أن تحكموا على مدى نجاح هذه المحاولات في كل الأديان، فإن لي في ذلك رأياً أحتفظ به أن يصادر حريتكم فيما يجب أن تنتهوا إليه بأنفسكم.
ويبدأ ابن رشد بتسفيه رأي الحشوية فيما ذهبوا إليه من ضرورة الأيمان بوجود الله إيماناً أعمى أساسه السمع والطاعة، والاكتفاء بالنقل ونصوص الدين دون أي تفكير من جانب العقل، فإننا إذا تأملنا القرآن ذاته وجدناه يحثنا بين حين وآخر على التأمل والتدبر والاعتبار، ولا وجه لمعترض أن يقول أنه لو كان الإيمان بوجود الله لا يصح إلا بالدليل العقلي لكان على النبي وهو يعرف العقيدة أن يقيم على ذلك الدليل، لأن العرب حتى في جاهليتهم يؤمنون بوجود إله، فلا حاجة به إلى أن يقيم الدليل على شيء مسلم به كمن يستجمع قوته ليدفع باباً مفتوحاً على حد تشبيه الغزالي نفسه، أو أن يتصدى للبرهنة على بديهية بينة بنفسها قد لا يزيدها البرهان إلا تعقيداً وغموضاً خصوصاً عند البسطاء والسذج، وهم الجمهور الذي خاطبه الشارع فهذا موقف الحشوية الجامدة الغريب.
أما الأشعرية فكانوا أسعد حظاً ولكن أكثر تطرفاً في الفلسفة مما ينبغي، فقد اعتنقوا نظرية الجوهر الفرد وأقحموها في إثبات وجود الله - وابن رشد يتصدى لبيان أن مسلكهم هذا ليس هو أيضاً ما يقصد الشرع وأنه فضلاً عن تعقيده يعسر فهمه على الراضيين فضلا عن الجمهور، فإن صح ما يقولون من أن العالم محدث لكونه مركباً من ذرات محدثة، فإن للعالم لا بد فاعلاً لا نستطيع أن نقول أنه محدث أيضاً (لأنه يلزمه فاعل أقدم، وهذا يلزمه فاعل آخر اكثر قدماً وهكذا إلى غير نهاية - وهو محال) أو نقول أنه أزلي قديم (لأنهم بهذا يناقضون مبدأهم القائل بأن المقارن للحوادث حادث مثلها، فلا يصدر عن القديم إلا القديم، ولا عن الحادث إلا الحادث وحتى لو تخلو عن هذا المبدأ للزمهم أن يبينوا لنا كيف
صدر الفعل الحديث عن فاعل قديم، وأية علة صيرته أولى بأن يفعل الآن فنه منذ الأزل).
سيقولون إن فعل الخلق مع أنه حادث فقد صدر بإرادة قديمة؛ وهذا التهرب بالتمييز بين إرادة الخلق وفعل الخلق سواء قدموا الإرادة على الفعل أو جعلوها مصاحبة له لا تغير من طبيعة الإشكال شيئاً. . . فعلى إمكانياتهما الثلاث (قدم الإرادة والفعل، أو حدوتهما معاً، أو قدم هذه وحدوث ذاك) يجب أن يفهموا أن الإرادة شرط الفعل لا الفعل، وأنها شيء آخر غير الفعل والفاعل والمفعول، وأنها إن كانت أقدم من الفعل لم تستطع أن تفعله بلا واسطة فضلاً عن أنها يجب ألا تظل متعلقة به دهراً لا نهاية له لكي يحدث الفعل بعد انقضائه إن كان لما لا نهاية له أن ينقضي خصوصاً وأن الإرادة يجب أن يطرأ عليها في وقت إيجاد المراد عزم على التنفيذ هو الذي يدفع إلى حدوث الفعل - إلى آخر ذلك مما يضل فيه العلماء فكيف بالجمهور؟ وابن رشد يستطرد ليبين مجافاة هذه الأدلة لذوق الجمهور وعقل الخاصة من العلماء بأن يحصر مسالكهم كلها في طريقين يناقشهما بالتفصيل، وينتهي في كليهما من إبطال المقدمات إلى إبطال النتائج، ثم يقرر أخيراً أن طريقة الأشعرية في إثبات وجود الله لا هي شرعية حقه ولا هي فلسفية حقه، وأنه ينقصها يقين الأدلة الشرعية وبساطتها.
ويعرض ابن رشد بعد هذا إلى طرق الصوفية في هذا الصدد. فيفرر في فقرة قصيرة أن معرفة الله نور يقذفه الله في قلب من استطاع أن يتجرد من عوارض الشهوة ودنس الحس - وهم يحتجون لذلك بنصوص دينية ويذهبون إلى كثير من الرياضات الروحية تحقيقاً لغايتهم.
ويرى ابن رشد أن هذه الطريقة مهما يكن من صحتها وضرورة تحقيق التجرد من الشهوة فعلا كشرط لصحة النظر والمعرفة؛ إلا أنها لا يمكن أن تكون عامة لكل الناس، وليست على أي حال ما يقصده الشرع بحث الجمهور على النظر والاعتبار والتأمل. أما المعتزلة فيعترف ابن رشد أنه لم يصله من كتبهم شيء ويرجح أن تشبه أدلتهم أدلة الأشعرية. وهذا عجيب من الفيلسوف ومأخذ لا يغتفر - أن يرجم بالظن في موضع كان يجب أن يلتمس فيه مذهب مدرسة حرة كالمعتزلة، فهؤلاء ليسوا كالأشعرية موفقين - أو ملفقين - بين مختلف الآراء على حساب بعضها البعض من غير شك؛ بل كانوا أصحاب نظر عقلي
حر. ولكن لنلتمس له العذر.
وبعد إذ أبطل ابن رشد كافة أدلة هذه الفرق الأربع - شرع يذكر الطريقة الشرعية التي يقول إن القرآن قد نبه عليها ودعا إلى تعرف وجود الله عن طريقها. وهو يحصرها في دليلين: ما يسميه دليل العناية ودليل الاختراع - الأول يراد به أن من عناية الله بالإنسان خلق هذه الموجودات من أجله، والثاني مؤداه أن ما نرى من عنصر الإبداع في هذه الموجودات إنما هو من فعل. فاعل قادر مريد له في ذلك حمته وليس من عمل الصدفة أو الاتفاق وعند ابن رشد أنه لكي تتم المعرفة بالله يجب أن يجتمع لها الفحص عن منافع الموجودات كالشمس والقمر والفصول والليل والنهار والنبات والحيوان التي خلقت رحمة بالإنسان والوقوف على الاختراع الحقيقي في جميع هذه الموجودات للفصول من فهم المصنوع إلى فهم الصانع. هذان عنده عما دليلا الشرع - وحتى آيات القرآن لا تخرج في دلالتها عن أن تنبه على دليل العناية أو دليل الاختراع أو هما معاً. وأحب أن تفهموا أن هذين الدليلين: هما المحور الذي لا تخرج أية فلسفة عن الإتيان بواحد من شعبيته إما أن المستدل من وجود الأشياء على وجود الله (أي دليل الاختراع) أو تنتقل من الله إلى بيان موجوداته التي تعد حينئذ فيضاً منه ورحمة صادرة عنه بمحص جوده وكرمه. والدليل الأهم هو الأول ويسمى عند فلاسفة المسيحيين بالحجة الوجودية - وإن كانت الطريقة التي عرض بها ابن رشد هذا الدليل هنا تجعلنا نخشى - كما نبه الغزالي - أن يؤدي العلم بدقائق الاختراع وعنصر الحياة في الكائنات إلى الشك في وجود خالقها والارتداد عنها إلى الإيمان بالمادية وإنكار وجود الله عند ذوي الطبائع الفاسدة كما يؤدي إلى الهدي وزيادة الإيمان عند ذو الفطر السليمة.
وأما طريقة ابن رشد في إثبات وحدانية الله فهي الطريقة السليمة التي استفادها مما في الشهادة الأولى (لا إله إلا الله) من إثبات الوحدانية بهذا النفي للشريك - وهو يعمد إلى الآيات التي تناولت هذا الموضوع فيحللها ويؤول تفسيراتها -
ولابد لكم أن تحفظوا هذه الآيات جيداً وتعرفوا أرقامها من السور القرآنية وتلموا بتفسيرها في حدود ما يلزمكم - فهي في كثير من المواضع حجة ابن رشد الرئيسية؛ لا تستطيعون عرض رأيه قبل أن تحيطوا بها علماً)، ويبين أن الفرق بين العامة وخاصة العلماء في
الإيمان بالوحدانية ما يجب على العلماء أن يزيدوا من العلم بارتباط أجزاء العالم كجسد واحد، ثم يعرض لنقض دليل الممانعة عند الأشعريين لأنه لا يجري مجرى الشرع أو الطبع بمعنى أن الجمهور لا يفهمه، وأنه ليس برهانا حتى لو فرضنا أن الإلهين في هذا الدليل يتفقان بدلاً من أن يختلفا، أو جعلنا أحدهما يفعل بعضاً والآخر بعضاً آخر، أو جعلناهما يفعلان بالتداول. ويقرر أن الأشعرية لم يفهموا مضمون آية (ولعلا بعضهم على بعض) بأخذها على الاختلاف بدلاً من الاتفاق في الأفعال، وباستعمال القياس الشرطي المنفصل بدلاً من المتصل، مما أدى بهم إلى محاولات كثيرة بدلاً من محال واحد. وينتهي أخيراً إلى أن من نظر إلى كلمة التوحيد (الشهادة بالوحدانية) على النحو الذي بينه فهو المسلم الحقيقي.
ولا يخفى عليكم ما في جدل ابن رشد من تحامل على غيره واعتساف وعناد، خصوصاً في المسألة الأخيرة مع ما في دليل الممانعة من وجاهة ظاهرة، ولكنه - على ما يبدو من قلة ما وصل إليه من آراء المتكلمين - يقحم هذا الدليل يحاول تطبيقه على آية لم يقصد هؤلاء أن يكون دليلهم تفسيراً لها. وإحلاله مسألة اتفاق الآلهة بدلاً من اختلافهم في الآية المذكورة جدل مغالطي لا يحتمله المعنى. فروا في هذا الأمر رأيكم، واحكموا عليه بما ترون دون أن تتقبلوا آراءه بالتسليم والرضى.
وسنأتي في المقال التالي على ما بقي من موضوعات الكتاب.
كمال دسوقي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
الثقافة، وما هي؟
يلاحظ أن معالي الدكتور طه حسين بك لم تشغله أعماله في الوزارة - على كثرتها وتعقدها - عن الوفاء بما ارتبط به من إلقاء محاضرات قبل توليته الوزارة، وقد تعددت هذه المحاضرات، وكانت أخراها محاضرة عنوانها (الثقافة، وما هي؟) ألقاها يوم الخميس الماضي بنادي الخريجين المصري، بدأ بالتعليق على ما قوبل به من تصفيق وما قدم به من ثناء، فقال: لا تصدقوا شيئاً من ذلك فأنا نفسي لا اصدقه، وما صدقت ثناء وجه إلي قط، ولم أذكر في وقت من الأوقات أبياتاً قالها أبو العلاء المعري كما أذكرها في هذه الآونة كلما رأيت تصفيقاً وهتافاً وثناءً، فقد حاصر صالح ابن مرداس مدينة المعرة وضيق عليها، فتضرع أهلها إلى أبي العلاء ليكون سفيرهم عند صالح، فرق قلبه لهم وقام بهذه السفارة على كره منه، فقبل صالح وساطته، ولكن أبا العلاء لم يعد من عنده حتى أعلن ألمه لاضطراره إلى ذلك، فقال:
تغيبت في منزلي برهة
…
ستير العيوب قليل الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقلَّ
…
وحم لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعاً إلى صالح
…
وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام
…
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق
…
فكم نفقت محنة ما كسد
ثم أشار إلى حرصه على الوفاء بهذه المحاضرة رغم الشواغل وقال:
إن هذا الحديث سيتناول أطرافاً من أشياء ذكرتها وقتاً ثم نسيتها، وسيكون إلى الحديث العادي أقرب منه إلى شيء آخر. ثم آخذ في الحديث فرأيناه يعلو على كثير من المحبر.
قال: أخص ما يمتاز به هذا العصر أنه يبيح للشعوب أشياء لم تكن مباحة لها من قبل، أشياء كانت مقصورة على طائفة من الناس أولها السياسة، فقد كانت شؤون الحكم مقصورة على طبقة من السادة وقد ابتدع اليونان في العصور القديمة إشراك الشعب في السياسة، ولكن هذه البدعة لم تعمر طويلاً، لأن الإنسانية لم تكن هيئت لها، فعادت الشؤون السياسية
كما كانت شيئاً محتكراً للخاصة؛ وتذكر العصر الحديث هذه البدعة فأخذ بها بعد أن وسعها ومرنها، فإذا السياسة تصبح أمراً شائعاً.
وكذلك العلم، كان شيئاً أرستقراطياً لا يطمع فيه أحد من غير الطبقية التي كانت تحتكر السياسة والعلم، وفي بيئاتنا العربية القديمة نفسها كبغداد والكوفة والقاهرة، لم يكن يباح العلم بغير حساب، كان الأستاذة يتقاضون أجراً على التعليم، فإذا حدث أن تطوع أحدهم فهو أمر نادر. كانت الإنسانية تعتقد أن العلم شيء نفيس يطلب بالجهد والمال، وكان الحكام يحببون الناس فيهم بإنشاء المدارس لا على أن التعليم حق من الحقوق التي يجب أن تؤدى وإنما هو فضل من السادة، يقصد به بعضهم وجه الله، ويقصد البعض الآخر وجه المصلحة أو وجه السياسة.
أما في العصر الحديث فلم تكد حقوق الشعب في المشاركة السياسية تشيع حتى شاعت معها حقوق الشعب في العلم أيضاً، فالعلم حق كالسياسة وهو مرفق كسائر المرافق التي تتولاها الدولة وتيسر الانتفاع بها للشعب، وهو حق للإنسان بحكم أنه إنسان كائن حي مفكر يجب أن تتاح له الفرص التي تمكنه من التفكير، كما يتاح له أن يحصل على نصيبه من الطعام والماء والهواء، وهو حق من أخطر الحقوق لأنه يقتضي تغيراً خطيراً أساسياً في الحياة الاجتماعية، إذ يشعر المتعلم بشخصيته وبحاجاته الإنسانية فيطلب حقه ويلح فيه، والإنسان يشعر بالحق أكثر مما يشعر بالواجب لأنه ميال بطبيعته إلى أن يأخذ أكثر مما يعطي؛ ومن هنا يعتبر التعليم سلاحاً خطيراً ذا حدين. يشعر الناس بالحق ويشعرهم بالواجب، فإذا لم يحسن استعماله وتغلب أحد الحدين على الآخر، صار الناس كلهم مطالبين بالحقوق، أو ضعفت شخصياتهم واستكانوا إذا أسرفوا في الشعور بالواجب.
فإذا انتشر العلم، وساد الشعور بالشخصية والمطالبة بالحقوق، تعرض النظام الاجتماعي للخطر، وهذا هو الذي يخيف بعض الناس من انتشار التعليم، ومن هنا وجب أن يكون أمر التعليم إلى الحكومات وأن تسهر الدولة على التعليم، فإذا تولاه غيرها من الهيئات والأفراد أشرفت عليها وراقبتها، متوخية في ذلك كله التوازن بين الشعور بالحق والشعور بالواجب.
ثم قال معاليه. لعلكم تلاحظون أني إلى الآن لم أتحدث في موضوع المحاضرة، وهو الثقافة، ولاشك أن الثقافة غير التعليم، ولكنه وسيلة من وسائلها، وما أكثر المتعلمين الذين
يتعلمون كثيرا ويعلمون كثيراً ويعلمون كثيراً أيضاً ولكنهم ليسوا من الثقافة في شيء. الثقافة مزاج يدبر أمر العقل والقلب، مزاج يعتدل من الشعور الراقي والعقل الذكي والحس الدقيق، وهي ليست مقصورة على الكتب والعلوم وتحصيل ما فيها، وما أكثر الذين نلقاهم فينشدوننا الأشعار أو يحدثوننا بما حصلوا من العلوم، ولكنكم إذا وضعتم أحدهم أمام قطعة من الموسيقى الرائعة ضاق بها أو أخذه النوم، ومنهم من يتبحر في ناحية من العلم ولكنه يجهل سائر أنواع المعرفة والآداب فالمثقف هو الذي تكون البيئة عقله وذوقه وترهف قلبه وحسه، فيتسع أفقه وتسمو مشاعره ويحس بالجمال في مختلف مواطنه.
إذا ابتهجتم بمجانية التعليم فابتهجوا بمقدار، وطالبوا بالثقافة ويوم ترون الحكومة تهتم بالتعليم على أنه سبيل إلى الثقافة، ابتهجوا كل الابتهاج.
الهلالية والأدب الشعبي:
شهد المدرج الكبير بكلية الآداب مساء الأحد من الأسبوع الماضي، جمعاً كبيراً حضر مناقشة الرسالة الجامعية التي تقدم بها الدكتور عبد الحميد يونس لنيل إجازة الدكتوراه في الآداب من جامعة فؤاد الأول، وقد نالها بدرجة جيد جداً ولعل هذا الحشد الكبير الذي لم نر له مثيلاً في مشاهدة المناقشات الجامعية، يرجع إلى طرافة موضوع الرسالة، وهو (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي) ومن طرافة هذا الموضوع أن الباحث اعتمد - إلى مراجعه من المؤلفات - على المنشد المحترف الذي يسميه العامة (الشاعر) وأخذ عنه واستمع إليه، وأورد صورة له كما أتى بصور الآلات الموسيقية التي يستعملها وفي مقدمتها (الربابة) مفصلا أجزاءها كما ثقفها من منشده، وأورد كذلك النوتات الموسيقية لبعض الأنغام التي عرفت بها أشعار السيرة الهلالية. وقد حضر مندوبو بعض المجلات المصورة لأخذ صورة (أبو زيد) باعتباره موضوعاً لرسالة جامعية.
بدأت جلسة المناقشة بتخليص صاحب الرسالة موضوعه، وقد أثبت أنه حقاً تلميذ (الشاعر) إذ ملك أسماع الحاضرين وجعلهم يندمجون معه في الموضوع بحسن عرضه وبراعة إلقائه وسلامة منطقه. قال إن الموضوع قد انقسم بين يديه إلى تمهيد وكتابين تناول في التمهيد الأصول التي اتبعها في بحثه وخالف بها بعض المدارس الأدبية في مصر والشرق العربي، ووصل فيها الأدب بالبيئة وعلم النفس، وتحدث عن الأدب الشعبي بنوع خاص
وحاول أن يحدد دائرته، ثم عرض لمنهجه في البحث مبيناً أنه اصطنع فيه خطتين: الأولى خطة التاريخ والثانية خطة الفن. ثم استعرض الأبواب التاريخية التي يضمها الكتاب الأول على منهج جديد في التاريخ أسماه المنهج الجماعي وفرق بينه وبين المنهج الاجتماعي، وأغلب الظن أنه قصد به إلى تتبع جماعة الهلالية في نشأتها وعلاقاتها بالطبيعة من ناحية، وبالجماعات الأخرى المخالفة أو المخاصمة لها من ناحية أخرى، كما سار وإياهم في مدارج حياتهم بموطنهم الأول في جزيرة العرب ومواطنهم الجديدة في سائر ربوع العالم العربي حتى هبطوا مصر وصعدوا إلى بلاد المغرب. ولم يقف جهد الباحث عند مجرد التاريخ أو التتبع، وإنما حاول أن يفسره ليتبين المنازع النفسية التي كان الهلالية يصدرون عنها في أعمالهم مجتمعين ومتفرقين.
وانتقل في الكتاب الثاني إلى دراسة النص الأدبي على المنهج الذي عرف به صاحب البحث في النقد، فعرف بالنص الأدبي، ولخص سيرة بني هلال المشهورة على طولها وتعدد مشاهدها واختلاط البيئات واللهجات التي أثرت فيها، مفرقاً بين الأدب المدون والأدب غير المدون، وتعرض لأبحاث العلماء المستشرقين في تاريخ هذه السيرة والنصوص والروايات التي أوردها المشارقة؛ ثم تأمل السيرة نفسها ليضعها في مكانها من فنون الأدب كما وازن بين واقع التاريخ وما ورد فيها. وختم البحث بدراسة مستفيضة عن المجتمع المصري وتفاعله مع هذه السيرة الشعبية واتخذها وسيلة من وسائله في التعبير عن شخصيته، وحلل أثرها في الريف المصري وفي العاصمة المصرية، ودعا إلى العناية بالتراث المصري جملة وتفصيلاً.
وما أريد أن أتعرض لما حدث بعد ذلك في المناقشة ولا في طول الوقت الذي استغرقته، ولكن الشيء الذي لم يكن يتوقعه أحد هو أن يهم أحد حضرات الأساتذة الإجلاء بالانسحاب، لا لخلاف بينه وبين الباحث، ولكن لأن رئيس الجلسة قاطعه بعبارة عدها تدخلاً؛ وكانت هذه الحركة من الانسحاب والاعتذار والعودة هي التي أثارت حماس الجموع ونشرت جواً عصبياً على الجلسة كلها. ولم نكن نصدق ما ذاع هنا وهناك من أن خلافاً في الرأي - ولا أقول في المصالح - بين أساتذة الجامعة يلون علاقاتهم بطلابهم، ويطبع أحكامهم في العلم وفي غيره بطابع الفرقة والانقسام، حتى كان من سوء حظنا وحظ
الجامعة أيضاً أن نشهد هذه المناقشة التي شهدها جمهور من طلاب ومثقفين، فقد احتدم الخلاف بين الأساتذة، وخشينا أن تنقلب المناقشة إلى معركة. . .
وقد مر ربع قرن على جامعة فؤاد الأول وهي تخرج طلاب العلم في مختلف كلياتها ومعاهدها، وجاءها علماء أوربيون وأمريكيون، وأرسلت البعثات لتنهل من العلوم في جامعات العالم القديم والجديد؛ فكان الأحرى بها والأجدر بأساتذتها أن ينقلوا ما أثبتت الأيام صلاحيته من تقاليد الجامعات الأخرى العريقة، وهم بين اثنتين، إما أن يتنازلوا عن نظام (العلنية) في مثل هذه الاختبارات العالية ويحذوا حذو الكليات العلمية العملية في الاقتصار على مراجعة البحث والباحث، وإما أن يتفقوا قبل حضور الجلسات العلنية على نظام المناقشة وتنسيقها بينهم إذا لم يستطيعوا أن يجتثوا الفرقة من نفوسهم. . .
عباس خضر
القصص
خداع امرأة
للأستاذ كامل محمود حبيب
وقف الفتى (عز الدين) يجفف عبراته المهراقة من أثر الأسى الذي تدفق في طوايا قلبه عاصفاً عاصفاً، يقض مضجعه ويهيج من أشجانه ويتغلغل في ثنايا حياته قلقاً واضطراباً يزعزع كيانه ويهد من قوته. . . الأسى الذي أحسَّ به أول مرة في حياته حين وجد فقد أمه الشابة، وحين رآها مسجاة في كفن، وحين شهدها وهي تتوارى إلى الأبد في رمس، وحين ارتد إلى الدار - آخر الليل فألفاها خاوية من الحنان خالية من العطف ما فيها سوى رجل واحد يجوس خلالها في جيرة وقلق، وعلى وجهة سمات الهم والضيق، مفزعاً ما تهدأ نزعته، تسكن حرقته. واقترب الفتى من أبيه ولصق الأب بابنه، ورانت عليهما صدمة المصيبة ووحشة المكان، وعقد الحزن لسانيهما ولكن العبرات تحدثت حديثاً طويلاً ما ينساه الفتى الشاب أبداً.
وقف الفتى (عز الدين) يجفف عبراته المهراقة وقد أشكل عليه الأمر واختلطت الحال، فأمامه حقيبة مفتوحة، وإلى جانبها ثياب متناثرة هنا وهناك، ومن حواليه حاجات مبعثرة، وهو بينها يضرب في تيهاء مضلة لا يستطيع أن يجمع شتاتها ولا يلم شعثها، فما له بذلك من عهد ولا طاقة. وتراءت له أمه في الخيال يوم أن كانت تنسق له حاجاته أول كل عام دراسي، يوم أن كان ينفض عنه غبار القرية ليستقبل أيام الدرس في المدينة يوم أن كانت أمه تعينه على أمره لا تحمله مشقة ولا تكلفه عنتاً، والدار من حولها تزخر بالناس وتفهق بالخدم، فأجهش بالبكاء وأوشك الخور أن يعصف به لولا أن خيل إليه أنه يسمع صدى صوت ناقوس الكلية يناديه في إلحاح إلى حياة الكد والعمل، ليسطر بدم الشباب الفوار أول علامات النبوغ والتفوق، ليقتحم بجده سبيل السمو والرفعة. . .، وليدفن هناك - بين شواغله - آلام قلبه وضنى روحه، فهب في تراخ وكسل يريد أن يهيئ نفسه للسفر.
لقد كان (عز الدين) وحيد أبويه، في العشرين من سني حياته، أتسم بسمات الريف، وطبع بطابع القرية، طيب القلب رضي النفس هادئ الطبع، وهو سليم البنية قوي التركيب، لم يفتره الشباب - يوماً - عن الدرس، ولم يصرفه مال أبيه عن أن يشمر للتحصيل، ولم
تبهره أنوار المدينة عن أن ينفذ إلى غايته في سهولة ويسر فنال شهادة الدراسة الثانوية في تفوق فتح أمامه باب كلية الهندسة في غير عنت ولا إرهاق. وطرب الأب لفوز ابنه، واستبشرت الأم. ولكن أمراً نجم - على حين فجأة - فغطى على فرحة الأب ووارى بهجة الأم. . . لقد انحطت العلة على الأم تعركها عركاً شديداً في غير هوادة ولا لين، فانطلق الأب يطب لها، والابن إلى جانبه، وإن الفزع ليملأ قلبه، وإن الوجوم ليغص من نشاطه. وحار الطب في أمرها زماناً فهوت بين يديه جثة هامدة وانطوت أيام لم تمسح على شجن الأب ولا طامنت من كربة الابن.
وانطلق عز الدين إلى المدينة. . . . إلى كلية الهندسة، يرزح تحت عبء من حاجاته، ولكنه اغتمر بين أترابه يلهو في لهموم ويعبث عبثهم لينسى صدمة القضاء العاتية. وأراد الأب - بعد حين أن يطمئن على وحيده، فانطلق إلى المدينة يسرى عن ابنه بالجديد من اللباس والطيب من المأكل والجزل من العطاء، فهدأت جائشة الابن وسكنت هواجسه، فاطمأن إلى درسه وإلى رفاقه.
لقد كان عز الدين طالباً ريفياً يقضي العام الدراسي في القاهرة منكباً على الدرس في جد ونشاط - كدأب أبناء الريف من الطلبة لا يشغله من وازع الحياة إلا ما يتناهى إليه - بين الفينة والفينة من أخبار القرية وهي تافهة حقيرة غير أنها كانت تهز مشاعره وتثير عاطفته لأن فيها ذكر أبيه وذكر أمه وذكر غيطه و. . . فلما بدأ دم الشباب التأثر ينتفض في قلبه أحس أن في القرية أشياء أخر تجذبه إليها في عنف. فهو يقضي شهور الصيف هناك ينعم بالراحة من عناء الدرس، ويسعد بالهدوء من صخب المدينة، وهو يخرج أصيل كل يوم - في جماعة من رفاقه - إلى ضفة الغدير يتنسم عطر الريف وتفكه بالحديث، والنكتة ويعابث بنات الريف وهن لدى الغدير يملأن جرارهن، وإنه لذو خيال وذو قلب. وكان يشعر بأن خواطره تحوم - أيداً! - حول فاطمة، وهي فتاة فيها جمال الريف وصفاء الجاذبية ومرح الظبي، فراح يداعبها بكلام فيه الرقة والظرف، وهي تقبل عليه - حيناً - في خفر، وتعرض عنه حيناً آخر - في دلال، وعلى وجهها بسمات الرضا والسعادة. فلا عجب إن كانت القرية تجذبه إليها ليرى هناك وجها أشرق النور من جبينه فأحبه فاطمأن إليه، هو وجه فاطمة التي يطمع أن يجلس إليها ساعة من زمان في خلوة، في منأى عن
عين الرقيب. . .
أما الآن، حين حطمته الأيام ففقد أمه وأحس أنه فقد فيها الرفيق والعون والأسى جميعاً. . . الآن، جلس يكتب إلى أبيه (يا أبي، لقد مرت الأيام والشهور تهدهد من أحزاني وتسرى من كربتي، وأنا أخشى أن يثير المكان نوازع نفسي وأشجان روحي فأشرق بالهم وأغض الغم، فهلا تركتني أقضي عطلة الصيف في دار عمي في الإسكندرية فألمس هناك عزاء وسلوه؟).
وقرأ الأب رسالة ابنه فما اختلج قلبه ولا اضطرب فؤاده، لأنه يطمع أن يذر ابنه يتلمس السلوه والعزاء، ولأنه يريد أن يدفع ابنه عن القرية لأمر يسره في نفسه.
لطالما أحس الرجل في فقد زوجته لوعة الفراق وألم الوحدة ولذع الوحشة، ولطالما اضطربت في ذهنه خاطرة انضمت علها جوانحه فأسرها في نفسه أياماً وأياماً وهو في فوره الرجولة وفحولة العمر، ولطالما دخل الدار فخيل إليه أنها تلفظه لأنها لا يلمس فيها أنس نفسه ولا راحة قلبه، وما فيها سوى خادم عجوز تقبع - طول النهار - في ناحية - كأنها دمية من طين أسندت إلى جدار، ولطالما ضاق بحاجاته فالطعام تافه قذر تعافه النفس ويتقزز منه الذوث، والملابس وسخة متناثرة لا تتناولها بالترتيب يد رفيقة ولا يرق حواليها قلب حبيب ولا. . . وفاضت نفس الرجل بالضيق والملل فعزم على أمر أسره في نفسه.
وتعاقبت الأيام ترغم الرجل على أن يكشف رويدأ رويداً - عن سر قلبه، وعلى أن يتحدث - في حذر - إلى خلصائه بدأت نفسه، وفي الناس من يرود له الطريق ويمهد السبيل، فإذا هو زوج لفتاة من بنات الريف، فتاة في عمر ابنه عز الدين. . . تزوج منها على حين أن ابنه هناك في شغل لا يترامى إليه من خبر نبضات قلب أبيه إلا همسات قيها الشك والريبة. ومضت سنتان أسدلتا على قلب الفتى حجاباً كثيفاً من النسيان فتيقظ قلبه مرة أخرى - يخفق خفقات فيها الحنين والشوق إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب. . . إلى الدار، إلى الحقل، إلى الغدير، إلى الصبايا وهن يملأن جرارهن أصيل كل يوم وإن وجوههن لتطفح بالبشر والابتسام، وإن حركاتهن لتتوثب فتنة وإغراء، إلى فاطمة. . . الفتاة الرشيقة الجميلة الآسرة التي يطمع أن يجلس إليها ساعة من زمان في خلوة، في منأى عن عين الرقيب. ودخل الفتى الدار التي لم يسعد بها منذ سنتين، دخلها فوجد أباه بين
رفاقه يتألق وجهه غبطة وسروراً، وقد انزاحت عنه غشاوة الأسى التي رانت عليه حيناً من الزمان.
وخلا الرجل إلى ابنه يحدثه حديث حياته الجديدة فرق الفتى لكلمات أبيه فما أبدى ضيقاً ولا نفوراً على حين قد تيقظ في نفسه تاريخ أمه منذ أن أحس وجودها إلى أن وجد فقدها.
ونظر عز الدين إلى زوجة أبيه - حسنيه. . ثم غض الطرف في ذلة وارتد في انكسار، ثم استسلم لخواطره السود حين تراءى له أنه أصبح غريباً في دار أبيه، ونظرت حسنيه إلى الفتى بعين الأنثى فبدا لها ما يضطرب في فؤاده؛ وآذاها أن يلفه الغم في طياته لأنها هي هنا. هنا في دار أبيه، فراحت تتودد إليه في رفق وتقترب منه في لين تريد أن تستلبه من شجونه. وتكلمت الفتاة في ظرف وأنصت الفتى في هدوء. . . والأب يرى فتطمئن وساوسه لأنه شعر بأن الألفة توشك أن تنش جناحيها على الدار.
ومرت الأيام والفتى يجلس إلى حسنيه ساعة من الليل أو ساعة من النهار، وهو يحس أن في عينيها بريقاً يخطف القلب، وأن في أنوثتها جمالاً يخلب الفؤاد، وأن في حديثها موسيقى تسحر اللب، وأن في قلبه نزعة جياشة لا تهدأ إلا في كنفها، وأن في روحه عاطفة فوارة لا تطمئن إلا إلى حديثها، وشمرت الأنثى بدوافع قلب الفتى فذهبت تفسح له مكاناً في قلبها وفي مجلسها، غير أن نظرات الأب النفاذة لم تغمض عن خفقات القلبين فضرب بينهما بحجاب. ولكن الفتاة كانت قد لمست فرق ما بين الشباب المضطرم وبين الرجولة الهادئة التي توشك أن تستحيل إلى شيخوخة باردة، فرق ما بين الحياة الفوارة العارمة وبين الحياة الواهية الضعيفة التي تكاد تنحدر إلى قرار القبر. . . فما أعجزتها الحيلة. وفيها المكر والخداع. . . عن أن تلقى فتاها - بين الفينة والفينة. . . في ناحية من الدار على حين غفلة من زوجها.
وطغى حب حسنيه على خواطر الفتى فطم على آثار فاطمة في قلبه، وشغله عن أن يسعى إليها أصيل كل يوم وأقعده عن أن ينطلق إلى رفاقه لأنه أصبح لا يحس في حديثهم سلوه ولا في مجلسهم متعة.
ووقف الفتى وحده - ذات مساء - يعد حاجاته ويرتب ملابسه ويهيئ نفسه للسفر، وإن قلبه ليفهو نحو حسنيه: الفتاة التي سلبته قلبه ووعيه في وقت معاً ونزعت عه عقله ورشاده في
آن واحد، وأحس، وهو يضطرب بين خواطره وحاجاته بأن يداً تربت على كتفه في رفق، فنظر فإذا حسنيه إلى جانبه تلصق به وهي تبتسم في تراخ وتكسر فشعر بالدفء يتدفق في أوصاله مبعثاً من شباب الفتاة ومن أنوثتها، كان تياراً عنيفاً من الكهرباء يسري في دمه فهفا نحوها في شوق، وحبا إليها في حنان، ولصق جسم بجسم، واقتربت شفة من شفة ولكن الفتاة ما لبثت أن طارت من بين يديه وهي تناديه في همس. وداعاً. . . وداعاً، يا حبيبي، وانغمر الفتى في أمواج من الأسى والشوق حين رأى الفتاة تنفلت فتتوارى في ظلام الدار، وتذره وحده يعيش بالذكرى.
ومضت ثلاث سنوات فإذا الفتاة أم طفلين، ولكنها لم ترتدع عن أن تستمتع برفقة صاحبها - ابن زوجها، عز الدين أثناء عطلة الصيف من كل عام، فهي تجذبه إليها في قسوة، تسيطر على خواطره في عنف، وهو في عمى عن الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها بحمقه وجهله.
لقد أحست الأنثى بالشباب فكرهت الشيخوخة، واستشعرت المرح فأبغضت الرزانة، ولمست القوة فامتهنت الضعف. واضطرت نفسها بفكرة واحدة سلبتها الهدوء والقرار: ليتها تستطيع أن تفزع عن هذه الدار لتعيش بين ذراعي فتى في مثل سنها!
وأسدل الطيش على عقل الفتى ستاراً كثيفاً من الغباء فغم الأمر عليه فنسى أنه يقترف جريمة شنعاء تنكرها الإنسانية ويمجها العقل، حين يستخذى للشيطان فيقتات على حق أبيه يريد أن يستلبه قلب زوجه وأن يسطو على شرفه وكرامته في غير روية ولا عقل، ونسيت الفتاة أنها ترتدغ في أعظم حماقة سولتها نفس أثنىلأنها تبذر غراس الكراهية والشقاق بين الأب والابن. ولكن للشيطان مآرب ينفذ منها إلى القلوب فيطم على النوازع الإنسانية لتتأرث منها الحيوانية الجامحة فحسب
واطمأنت الفتاة إلى فتاها، فجلست إليه - ذات ليلة - توسوس له وتغيره عن إنسانيته وتختله من رجولته، فقالت تحدثه (. . . وأنت ترى أن أباك يضرب بيني وبينك بحجاب ما كان لك أن تظهره لولا حيلة احتالها أو علة أتعلل بها، وهو يضيق علينا الخناق فأشعر كأن الدار سجن يضمني بين جدارنه ضمات قاسية توشك أن تقضقض عظامي) فقال الفتى (آه ليتني أجد فرجة أنفذ منها فأزيح هذا الستار، ولكنني كما ترييني عاجز اليد واللسان)
فقالت في تهكم (عاجز اليد واللسان؟ هذا عجيب! رجل فيه الرجولة والبأس يعترف أمام التي أحب أنه عاجز اليد واللسان؟ هذا ولا ريب منتهى الضعف والتخاذل) فقال الفتى في يأس (وماذا عساي أن أفعل؟) فقالت الفتاة في مكر وهي تستل من بين ثيابها مسدساً (انظر، انظر!) وذعر الفتى مما رأى وشملته رجفة عنيفة ما استطاع أن يداريها عن التي أحب، ففزع عنها وهو يهمس (أقتله؟ أقتل أبي؟ كلا. . . كلا!) وتصنعت الفتاة الماكرة الغضب والنفور فهبت من مكانها في ثورة وهي تقول (الآن بدا لي ما كنت تخفي. . . إنك لا تحبني. . . لست رجلاً، أيها المخادع الوضيع. . .) ثم دفعته عنها في غلظة وأسرعت إلى داخل الدار. . .
ظل الفتى طول ليله يتقلب في فراشه لا يغمض له جفن ولا تهدأ له ثائرة، وإنه ليضطرب من هول ما رأى وما سمع، وغير ساعت وإن الشيطان إلى جانبه يوسوس له بأمر، وإن قلبه الطائش ليزين له الجريمة، غير أن عقله كان يناديه من خلال نزواته - بين الحين والحين - ليدفعه عن الهاوي السحيقة التي يوشك أن يتردى فيها، ثم انحط - بعد لأي في فراشه هامداً من اثر المعركة النفسية العنيفة التي خاض غمارها منذ أن رأى فوهة المسدس تلمع في يد زوجة أبيه، حسنيه.
وأصرت الفتاة على فتاها، وراحت تستعين بفتنة الأنثى وإغراء الشيطان ودوافع قلبه هو، حتى أسهل وانقاد، وأخذت هي تهيئ السبيل وترسم الخطة، ثم قالت له (. . . وعند الفجر تهب من فراشك في خفة وهدوء فتتوارى خلف الباب، وحين يعود أبوك من المسجد بعد صلاة الفجر تفجؤه وهو بفتح الباب فتطلق عليه سبع رصاصات متتالية، ثم نستغيث معاً بعد أن تقذف أنت بالمسدس في بيت الخلاء).
وأراد الفتى أن ينفذ خطة رسمتها زوجة أبيه، ولكنه حين أحس بمقدم أبيه انهارت عزيمته ووهى جلده وانتفض قلبه وتصلبت أطرافه فتوارى في ناحية يكتم أنفاسه خشية أن يراه الرجل فيرى فيه العقوق والجحود. . . توارى حتى دخل أبوه ثم انفلت إلى حجرته وهو يرتعد من شدة الخوف والفرق.
لم يرق حسنية ما رأت في الفتى من فزع وضعف فعزمت على أن تصحبه لتعينه على أمره ولتشد من عزمه. وعند فجر اليوم التالي وقفت الزوجة الماكرة خلف الفتى وضمته
إلى صدرها ومدت يدها إلى جانب يده تريد أن تساعده على أن يسدد الطلقات إلى الهدف، إلى قلب أبيه، في رباطة جأش وهدوء أعصاب وحين دخل الرجل ضغطت الزوجة بإصبعها على زناد المسدس مرات ومرات ويد الفتى تتراخى وتهوي فانطلقت سبع رصاصات استقرت جميعاً في أحشاء الرجل فسقط لدى الباب وهو ينادي (الله أكبر. . . الله أكبر!) وابتعدت الزوجة عن الفتى في خفة وثبات ثم صاحت (القاتل. . . القاتل! قتل أباه. . . قتل أباه)
وتكشفت المرأة على حين فجأة - عن نوايا شيطانية وضيعة.
آه، لقد مكرت بالفتى الغر مرتين لتستمتع بنزواتها المشبوبة وبشبابها المضطرم وبمال زوجها الضخم، على حين قد تغفلته فقذفت به في هاوية سحيقة ليكون فداء لشهوات نفسها الحيوانية.
فيا لمكر الأنثى. . . يا لمكر الأنثى.
كامل محمود حبيب