المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 869 - بتاريخ: 27 - 02 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٦٩

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 869

- بتاريخ: 27 - 02 - 1950

ص: -1

‌المذاهب الهدامة

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

عملت الجماعات البشرية منذ كانت على هذه الأرض لبقائها ورفاهيتها وسعادتها فوضعت من الشرائع والآداب والسنن ما يكفل بقائها ويقربها من الرفاهية والسعادة. وما زال العقل والموجدان يهديان الناس ويخرجانهم من الظلمات إلى النور، ومن الفوضى إلى النظام ومن التعامل إلى التعاون، حتى بلغ البشر مستوى الحضارة الذي بلغوه، وما يزالون يجهدون ليبلغوا المستوى الأرفع ويرقوا إلى الدرجة العليا.

وما زال الأنبياء والحكماء على مر العصور يعلمون ويفقهون ويشرعون ويؤدبون ويمكنون لشرائعهم وآدابهم في الأنفس بأسوة من العمل الصالح وحكمة من القول السديد حتى استقرت في الأنفس الشرائع والسنن وتمكنت الأخلاق والآداب.

وما زال الناس يتمسكون بما ورثوا ويزيدون عليه من هدي التجارب، ووحي الوجدان وقيادة العقل، طامحين إلى المقاصد العالية سائرين إلى الغايات الكريمة، وغن بعدت الشقة وكثرت العقبات.

وكلما ارتفعت الإنسانية خضعت للقوانين وألفتها وسكنت إليها وأحبت النظام ونفرت من الفوضى وكلفت بمعاني الخير والحق الجامعة وأعرضت عن الصغائر التي ينزع إليها الإنسان لمنفعة قريبة أو شهوة عاجلة أو لذة زائلة وعملت التي هي أقوم وأبقى وأعود على الناس بالخير والسعادة. وهكذا ترتقي النفس متى تؤثر الحقائق على الصور والروحانيات على الجثمانيات في درجات من الوقى لا تنتهي وفي الرائع والآداب تحجير على الإنسان وتقييد، وفيها نهى عما يشتهي وأمر بما يكره. وفيها تحريم للمنافع الفردية القريبة من أجل منافع جماعية بعيدة، وفيها صد عن الماديات المحسة ابتغاء الروحانيات التي لا تنالها الحواس، ومن اجل ذلك تنفر نفوس من الشرائع وتثقل عليها التكاليف وتعجز عن كف النفس عنالنفس عن شهواتها. ودفعها حتى إلى مصالحها وتقصر عن إدراك المعاني العامة الجامعة التي تؤلف بين منافع الجماعة وترقى بها إلى مستوى من الإنسانية رفيع.

يحاول كثير من الناس أن يخالفوا الشرائع والآداب سراً أو علانية. وأكثر هؤلاء في حرب مع عقولهم وسرائرهم، يرون الخير في شرائع الجماعة وسننها ولكن تقهرهم نزعاتهم،

ص: 1

وتسوقهم إلى مخالفة القانون مآربهم. ومنهم من يحارب الشرائع جنوحا إلى الفوضى، وقصوراً عن إدراك النظام وعجزاً عن تصور ما وراء الحس، وعن التعالي إلى المعاني السامية، والنزعات العالية.

ومن الخارجين عن سنن الجماعات وآدابها من يريد السكون إلى أفعاله، والاستراحة إلى أوهامه إرضاء وجدانه فيخادع نفسه، ويكذب عقله وقلبه ويدعي أن لمأربه مقاصد إنسانية وأن لخروجه قانوناً ولإجرامه شريعة فيضع لنفسه ولمن يريد إضلالهم شريعة مضللة، وقانونا خادعا ويجادل بالباطل. ثم تأبى سنة الله وعقل الإنسان ووجدانه أن تسير الجماعة على هذه الجرائم التي تسمى شرعاً، والفوضى التي تدعى نظاماً، والتنافر الذي يدعى أنه وئام وسلام فلا تلبث هذه الدعوى أن يكذبها العمل، وهذه السنة التي تبطلها التجربة، وهذا الاعوجاج أن يقومه الوجدان كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

وقل أن تقوم شريعة صالحة إلا أحدث الشيطان إزائها بدعة يأوي إليها الخارجون على نظام الشريعة النافرون من تكاليفها المشفقون من نورها، وقل أن تستقيم للبشر عقيدة دون أن يجادل فيها مضلل، وأن ائتلفت جماعة إلا وجدت خوارج، ولا عمرت مدينة أو قرية إلا كان فيها لصوص وقتلة، وسواء أكان مرجع هذا إلى نقص في معرفة الناس، أو اعوجاج في تفكيرهم، أو خلل في وجدانهم، كان مرجعه فسدا في نظام الجماعة أو عيبا في تأليفها. هذا لخروج شر على كل حال، وأعراض مرض في النفس الفرد والجماعة.

وإذا تتبعت الشرائع المضللة، والمذاهب الفاسدة التي ولدها الباطل وأماتها الحق ونصرها الشر وهزمها الخير، وجدت من علاماتها أن تحط عن الإنسان عبء التكاليف وتقرب إليه مآربه وتفتنه في شهواته وتنزل به إلى الأمور الحسية وتتوسل إليه بمطالب الجسد، هذه المطالب أقرب إلى العامة وأشباه العامة من ضعاف النفوس أسارى الجهالة.

حدثنا التاريخ أن رجلاً من إيران أسمه مزدك دعا في القرن الخامس الميلادي إلى إشاعة الأموال والنساء بين الناس فاستهوى بدعوته أوشاباً من العامة سارعوا إلى دور الناس ينهبون الأموال ويغتصبون النساء واستكان لهذه الدعوة قباذ ملك الفرس وغلب على أمره حتى جاء ابنه أنو شروان فبطش بالمفسدين، ورد الأموال إلى نصابها، وأعاد إلى القانون

ص: 2

سلطانه وقتل مزدك وكثيراً من أتباعه فلقب لهذا نوشين روان (الروح السعيدة). وزالت البدعة امحي أثرها.

وفي أول القرن الثالث الهجري دعا إلى هذه الفتنة في إيران أيضاً رجل اسمه بابك الخزمي وانحاز إليه جماعة واعتصم بجبال أرمينية ولبث عشرين سنة حتى فتح المعتصم بالله العباسي حصونه وفل جمعه وقتله. ونحل أخرى في أجيال كثيرة.

ما دعا داع إلى مذهب باطل لا ينصره عقل الإنسان ولا يرضاه وجدانه إلا لبس دعوته بشيء من الإباحة يجذب بها الغوغاء، ويستهوي بها الضعفاء، تشابه في هذا الماضي والحاضر، والقديم والحديث، وفي الإنسان ضعف، وللمآرب عليه سلطان. وللباطل وسوسة وخداع وللزور تلبيس وتضليل. ثم يأبى العقل الصحيح والوجدان السليم إلا أن يرفعا الإنسان إلى الدرجات التي تلائم الإنسانية ويسمو به عن درجات الحيوانية وقد طلع علينا عصرنا هذا، وقد غلبت فيه المادة وسيطرت فيه الآلية طلع بمثل هذا النحل الضالة في الإشاعة والإباحة، دعا في الشيوعية إلى إشاعة المال وغير المال وحرموا الملك، وأرادوا للناس أن يكونوا سوائم ترعى معا وترد الماء، سواء ولكن لا إرادة لها ولا اختيار، فهي طوع أمر الراعي ونهيه، وهي مسخرة لهواه ورأيه. لها أن تتساوى في المرعى تجوع فيه أو تشبع وتسمن أو تهزل وتسعد أو تشقى وليس لها من الأمر شيء.

ثم ينبغي أن يكون الشبه بين الناس والسوائم بنحو ما وعاه تاريخ البشر وجمعته البشرية من أخلاق وآداب، وما امتازت به الإنسانية على طول الجهاد من فضائل. كل أولئك أوهام باطلة، في زعمهم، وأباطيل ملفقة في مذهبهم. فالإنسان حيوان له غرائزه فلتسيره هذه الغرائز كما شاءت، ولكن في حدود هذا المرعى الذي يسوم فيه وفي سلطان الراعي الذي لا إرادة إلا إرادته، ولا رأي إلا رأيه ولا جبروت إلا جبروته.

ومن إتمام الشبه بين الإنسان والحيوان الأعجم أن تقطع صلة الإنسان بالمعاني العالية الخالدة معاني الحق والخير والجمال والبر، وكل ما يسمو بالإنسان عن الحيوانية، ويعلمه أن وراء الأجسام أرواحاً، ووراء هذه الظواهر بواطن، ووراء الطعام والشراب للنفس الإنسانية مقاصد ومن أجل ذلك يسدون على الإنسان ينبوع الخير الأزلي، ويحولون بينه وبين مطلع الضوء السرمدي، ويريدونه على أن يكفر بالخالق، وينكر كل دين، ليطفئ في

ص: 3

قلبه كل نور، وينضب في نفسه كل خير.

إن العدل بين الناس والتسوية بينهم، والبر بهم قد عرفتها الشرائع ووكدتها في النفوس الأديان ودعا إليها كل مذهب صالح على ظهر الأرض، ولكن الشرائع والأديان والمذاهب أرادت أن تمكن مع هذه المعاني إنسانية الإنسان وحريته، وان تشبع الاخوة والرحمة بين الناس، وان تسمو بهم إلى أعلى الدرجات، لا أن تحكم بهذه المعني سوائم ترعى الكلاء وترد الماء مقهورة مسخرة لا تعرف في الحياة لا المرعى وعصا الراعي.

إن قوانين البشر كلهم - إلا قوانين الشيوعيين - تقدس حرية الإنسان وتبيح له أن يعمل ويجد ملء حريته، وتحاول أن تحكمه بقانون من عقله ووجدانه وتمهد للناس سبيل السعي والتنافس ثم تنظر فتعطى من خسر من مال من ربح، وتمنح من خاب من سعى من نجح وتأخذ من حصللتطعم وتداوي وتعلم من لم يحصل. والبشرية عاملة للعدل والرحمة والاخوة والاشتراكية الحرة الصحيحة ساعية إليها في نظام من الحرية والخلق والرحمة والبر.

فأما هذه الشيوعية التي تربى وراء حجب من حديد، خشية أن يطلع الناس على فضائلها ومحاسنها فمبلغ علمنا بها أنها تشيع العداوة والبغضاء، أفقرت الأغنياء ولم تغن الفقراء ومبلغ علمنا بها أنها تريد أن تهبط بالإنسان إلى مستوى الحيوان ثم تمكنه من المرعى.

ثم أمر لا يزال المفكر في حيرة منه حتى يهتدي إلى سره، هذه الصلة بين جماعي الذهب، وعباد المال في تاريخ الإنسانية وبين المذهب الذي يحرم الملك والانتفاع برأس المال أعني الصلة بين اليهودية والشيوعية. إن اليهود كما يعرف الباحثون مآرب في إشاعة القلق والفوضى في العالم، ولهم مقاصد في هدم النظم دلت عليها تبهم ونمت عليها أعمالهم.

فهذا الذي جمع بين عبادة المال وتحريمه، وهذا الذي ألف بين اليهودية والشيوعية. فاعتبروا - رواية أولي الأبصار.

عبد الوهاب عزام

ص: 4

‌علي محمود طه

حياة من شعره

للأستاذ أنور المعداوي

- 11 -

تصفح المجلد الثاني من كتاب (وحي الرسالة) للأستاذ الزيات، وقف عند الصفحة الخامسة والأربعين بعد الثلاثمائة، وأقرأ ما جاء بهذه الصفحة تحت هذا العنوان:(أرواح وأشباح).

(على الضفة الشجراء من مصيف المنصورة عرفت علي محمود طه، وعلى هذه الضفة الخضراء من مربعها قرأت (أرواح وأشباح)، وكان بين اللقية الأولى للصديق وبين القراءة الأخيرة للشاعر إحدى وعشرون سنة.

كان حين عرفيه إبان شبابه، وكنت حين عرفني في عنفوان شبابي؛ وابن آدم في هذه السن ربيع من أربعة الفردوس لا يدرك بمحدود الشعور، ولا يوصف بلغة الشعر. فهو منظور الخلقة، مسجور العاطفة، مسحور المخيلة، لا ينشد غير الحب، ولا يبصر غير الجمال، ولا يطلب غير اللذة، ولا يحسب الوجود إلا قصيدة من الغزل السماوي ينشدها الدهر ويرقص عليها الفلك. وعلى ذلك كنا أيام تعارفنا وتآلفنا: هو على حال عجيب من مواس الهوى وما لابسها من ألوان وصور، وأنا على عهد قريب من ترجمة (آلام فرتر) وما سايرها من أحلام وذكر!

قال لي صديقي حسين ونحن عائدان من نزهتنا اليومية في الشقة الخلوية من شارع البحر: مل بنا إلى قهوة (ميتو) أعرفك بشاب من ذوي قرابتي يرضيك خلقه، ويطربك حديثه، وقد يعجبك شعره. وكان شارع البحر كما هو اليوم متنزه المدينة، فلا ترى على جانبيه غير مماص القصب، ومشارب الكازوزة، وعرائش الكرم وألفاف الشجر تتفيأها هذه القهوة.

دخلنا القهوة فوجدنا في باحتها بعض الإغريق وعلى إحدى مناضدها المنعزلة فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف، ينظر في سكون ويقرأ في صمت. فلما رآنا هش بقريبه ورف لي، ثم كان التعارف. وطارحناه طرفا من الحديث ثم طلب إليه صديقي أن ينشدنا بعض شعره، فنشط لهذا الطلب وارتاح كأنما نفسنا من كربه أو خففنا من عبئه؛ ثم قال في

ص: 5

سذاجة الريفي ووداعة الطفل: نشرت لي جريدة السفور هذه القصيدة وقدمتها بهذه الكلمة. . . ثم أدى المقدمة عن ظهر الغيب وهم بإنشاد القصيدة. وكنت حين ذكر (السفور) قد أصغيت سمعي وجمعت بالي، فلم يكد يفرغ من سرد المقدمة حتى صحت به:

- أأنت صاحب هذه القصيدة؟

- نعم.

- وأنا صاحب هذه المقدمة.

عجيب!!

كان ذلك في سنة 1918، وكانت جريدة السفور يحررها يومئذ الأعضاء الأصدقاء من لجنة التأليف والترجمة والنشر، وكان النظر فيما يرد على الجريدة من الشعر موكلاً لصديقي الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى عبد الرزاق، ولي. . فألقى إلينا البريد فيما ألقى هذه القصيدة غفلاً من الإمضاء، فقرأناها للاختيار، ثم قرأناها للاختبار فوجدنا قوة الشاعر الموهوب تطغى على ضعف الناشئ البادئ، فضننا بها على السل، وصححنا ما فيها من خطأ، وقدمت لها ببضعة أسطر تنبأت فيها بنبوغ الشاعر، ونصحت له أن يرفد قريحته السخية بمادة اللغة وآلة الفن، وأخذت عليه أن يكره قيثارة المرح على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقول في شعره.

ثم تعقبت بعد ذلك علياً: تعقبت آثاره، وتعرفت أطواره، وتقصيت أشعاره، فإذا الفراشة الهائمة في أرياض المنصورة ورياض النيل تصبح (الملاح التائه) في خضم الحياة، (والأرواح الشاردة) في آفاق الوجود، و (الأرواح والأشباح) في أطباق اللانهاية! وإذا الناشئ الذي كان يختشب الشعر ويتسمح فيه، يغدو الشاعر المحلق بجناح الملك أو بجناح الشيطان، يشق الغيب، ويقتحم الأثير، ويصل السماء بالأرض، ويجمع الملائكة بالناس، ويقضي بين حواء وآدم!).

من هذه الكلمات التي كتبها الأستاذ الزيات عن الشاعر، ومن دراستنا الخاصة لحياته على ضوء صلتنا به وقراءتنا له، نخرج بان شاعرنا المصري كان في الفترة الأولى من عمره - أي وربيع العمر في أبانه - كان صاحب شخصية انطوائية. . وبقدر ما كانت هذه الشخصية منطوية على نفسها فيما قبل الثلاثين، كانت فيما بعد الثلاثين شخصية أخرى لا

ص: 6

يكاد يربطها بالماضي صلة من الصلاتأي أن علي طه كان في تلك الفترة الأخيرة من حياته صاحب شخصية انبساطية! وكان حين لقيه الزيات ذلك اللقاء الأول في حدود العشرين من عمره على أكثر تقدير، وكان الزيات في جديد يكشف لنا عن أثر البيئة المادية والمعنوية في تكوين هذا المزاج القاتم الذي قاد حياة الشاعر وفنه فيما قبل الثلاثين والذي وجه حياة كثير من الشباب الذين فطروا على رهافة الحس وإشراق النفس وتوقد العاطفة، في تلك الفترة التي كان فيها علي طه في إبان شبابه وكان الزيات في عنفوان هذا الشباب، وهي الفترة التي انتظمت الربع الأول من القرن العشرين.

تقول لنا الأستاذ صاحب الرسالة - وهو قول يؤكده حديث الشاعر عن نفسه ويؤكده شعره - إن علي طه كان في تلك الفترة الأولى من حياته (فتى رقيق البدن شاحب الوجه فاتر الطرف ينظر في سكون ويقرأ في صمت). . وأنه أخذ عليه في تلك الكلمة التي قدم بها القصيدة المنشورة في مجلة السفور 1918 (إكراه قيثارة على النغم الحزين واللحن الباكي وهو لا يزال في روق الشبيبة كما يقولشعره). ومن هاتين الزاويتين نستخلص هذه الحقيقة الناصعة، وهي أن شاعرنا كان واحدا من هذه الشخصيات الإنطوائية الحزينة؛ المحلقة في كل جو قاتم وكل أفق حالم وكل سماء تتوهج بلهب الحنين والحرمان!

والحق أن هذا المزاج الحزين كان مزاج العصر أو طابع العصر أو (مرض العصر) إذا شئت أن تسميه. . . وكان هو الروح المسيطرة على شباب تلك الفترة ممن رفت مشاعرهم ورقت خواطرهم والتهب منهم الخيال والوجدان. وإذا قلنا مرض العصر فإنما نعني تلك الفترة التي خلقت جيلا من الشباب كان الزيات واحدا منهم وكان علي طه، وهو الجيل الذي صنعته بيئة خاصة ذات تربية خاصة وتقاليد خاصة وثقافة خاصة، ذلك الذي يصفه الزيات أدق وصف ويعبر عن هواجسه وأحلامه وآلامه أصدق تعبير، في هذه الكلمات التي ساقها في معرض الرد على من سأله لماذا ترجم آلام فرتر؟

(تسألني لماذا ترجمت فرتر. . . والجواب عن هذا السؤال حديث، والحديث غداً سيكون قصة، وليس يعنيك اليوم منها إلا ما نجم عنها: قال جيته يوما لصديقه أكرمان: (كل امرئ يأتي عليه حين من دهره يظن فيه أن (فرتر) إنما كتبت له خاصة). . . وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط

ص: 7

التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك. . . فالطبيعة في خيالي شعر، وحركات الدهر نغم، وقواعد الحياة فلسفة! وكان فهمي لكل شيء وحكمي على كل شخص يصدران عن منطق افسد أقيسته الخيال، وزور نتائجه المثل الأعلى؛ ثم غمر هذه لحال التي وصفت هوى دخيل هادئ ولكنه ملح، فسبحت منه في فيض سماوي من النشوة واللذة، وأحسست أن وجودي الخالي قد امتلأ، وقلبي الصادي قد ارتوى، وحسي الفائر قد سكن. وتخيلت أن حياتي الحائرة قد أخذت تسير في طريق لا حب تنتثر على مدارجه نواضر الورود، وترف على جوانبه نوافح الريحان، وتزهو على جوانبه ألوان عبقر، وترقص على حفافيه عرائس الحور. وذهبت أسلك هذا الطريق السحري محمولا على جناح الهوى كأنني (فوست) على جناحي (ميفستوفاليس) حتى ذكرني الزمان الغافل فأقام فيه عقبة اصطدم عندها الخيال بالواقع الحبيب بالخاطب والعاطفة بالمنفعة! على أنني بقيت على رغم الصدمة حياً، ولا بد للحي أن يسير!

تطلعت وراء العقبة أنظر الطريق فإذا الأرض قفر والورد عوسج والريحان حمض والعرائس وحوش. . . فشعرت حينئذ بالحاجة إلى الرفيق المؤنس! ولكن أين أنشد ما ابغي وحولي من الفراغ نطاق مخيف، وأمامي على أسنة الصخور أشلاء وجثث؟ هذه أشباح صرعى الهوى تتراءى لعينيَّ، وهذه أرواح قتلاه تتهافت علي، وهذه سجلات مصارعهم بين يدي. فلم لا أحدو بأناشيدهم رواحلي، وأقطع بمناجاتهم مراحلي، وألتمس في مواجعهم لهواي عزاء وسلوة؟

قرأت: هيلويز الجديدة، ورينيه، وأتالا، وأودولف، ودومنيك، وماريون دلورم، ومانون ليسكو، وذات الكاميليا، وجرازيلا، ورفائيل، وجان كريف. . . وتوثقت بأشخاصها صلاتي، وتصعدت في زفراتهم زفراتي، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايتي، ولكنهم كانوا جميعا غيري! نتفق في الموضوع ونفترق في الوضع، كالنساء النوادب في المناحة، تندب كل واحدة منهن فقيدها وموضوع الأسى للجميع واحد: هو الموت!

فلما قرأت (آلام فرتر) سمعت نواحاً غير ذلك النواح، ورأيت أرواحا غير هاتيك الأرواح، وأحسست حالا غير تلك الحال. . .

ص: 8

فنيت في (جيته) وقادني إلهامه وروحه، وأهبت بلغة القرآن والوحي أن تتسع لهذه النفحاتالقدسية فأسعفتني ببيانها الذي يتجدد على الدهر ويزهو على طوال القرون. ثم أصبح فرتر بعد ذلك لنفسي صلاة حب ونشيد عزاء ورقية هم! كأنما كان (جيته) يناديها من وراء الغيب حين يقول في تقدمته لفرتر: وأنت أيتها النفس. . . إذا أشجاك ما أشجاه من غصة الهم وحرقة الجوى، فاستمدي الصبر والعزاء من آلامه، وتلمسي البرء والشفاء في أسقامه، واتخذي هذا الكتاب صاحباً وصديقاً إذا أبى عليك دهرك أو خطؤك أن تجدي من الأصدقاء من هو قرب إليك وأحنى عليك!).

أرأيت إلى هذه الصورة التي رسمها الزيات لنفسه ولشباب تلك الفترة التي حددناها لك بالربع بالخيال، وبهذه الأسلحة التي لا تقطع ولا تدفع كانوا يواجهون الواقع في معركة الحياة. وما أكثر ما كان الواقع يصدمهم بمرارته ويلفح شعورهم بقسوته فيرتدون عقب كل جولة من جولات النضال ونفوسهم مثخنة بالجراح. كان الحياء يحول بين نوازعهم الوقادة وبين متعة الانطلاق، وكان الانطواء يحول بين عواطفهم الجياشة وبين نعمة التحرز، وكانت العزلة تحول بين رغائبهم الوثابة وبين فرصة الظهور، ويقف الخيال بعد هذا كله ليعترض طريق مثلهم العليا لأن المثل العليا لا يمكن أن تتحقق على جناح الخيال. . . ومن هنا وجد هذا المزاج القاتم وهذا الطبع الحزين، نتيجة لهذه الحياة التي كانت تحيط بهم وهي خالية من أفراح النفس ومباهج الروح وأعياد الشعور؟

لقد كان الجو الذي يعيشون فيه جو (الرومانسية الوجودية) أي جو الإحساس بالفراغ والسكون والقفر، يعقبه جو الخلوة إلى النفس والطبيعة وهواجس الأحلام هذه (الرومانسية الوجودية) التي أصابتهم (بمرض العصر) في ميدان الحياة قد دفعتهم دفعاً إلى جو (الرومانسية الفنية) في ميدان الأدب، حتى أصبح المزاج القاتم لا يكلف إلا بالشعر القاتم، والطبع الحزين لا يعجب إلا بالأدب الحزين، سواء أكان ذلك في الإنتاج الأدبي المقروء أم كان ذلك في الإنتاج الذاتي والمنقول. . . ومن هنا كان شعر علي طه فيما ينظم شعر اللوعة والدمعة والأنين والحنين، وكان أدب الزيات فيما يترجم أدب الحسرة والزفرة والبكاء والعويل! وهاهو الزيات يقدم إلينا مزاج العصر ممثلاً في الربع الأول من هذا القرن عندما كان يبحث عن نفسه متلمساً لها العزاء والسلوى في قراءة لون خاص من

ص: 9

القصص (توثقت بأشخاصها صلاته وتصعدت في زفراتهم زفراته، وتمثلت في نهايتهم المحزنة نهايته) وفي ترجمة لون خاص من القصص يرضي في نفسه تلك النزعة الملحة إلى الاكتئاب والانقباض والحزن!

وكان الجمهور القارئ من الشباب في تلك الفترة - أعني الجمهور الذي يقتصر على القراء ولا ينتج - كان لا يستهويه شيء بقدر ما تستهويه تلك القصص التي تحفل بكل لون من ألوان المأساة وتتصل بكل سبب من أسباب الفاجعة. وقد وجد الجمهور القارئ عند الجمهور الكاتب بغيته المثلى وزاده المنشود، فأقبل في شغف بالغ ونهم لا يحد، على (آلام فرتر) و (رفائيل) للزيات، وعلى (بول وفرجيني) و (ماجدولين) للمنفلوطي. . . وعلى كل إنتاج أدبي من هذا الطراز!!

وإذا أردت أن تبحث عن مقومات هذا المزاج المنقبض عند الشباب في الربع الأول من القرن العشرين فارجع إلى البيئة المادية والمعنوية فهي المسؤولة عن هذا المزاج. . . لقد كانت بيئة الشباب في محيط الأسرة والمدرسة والمجتمع تنبعث على الانطواء وتدعو إلى التكبيل بكل قيد من القيود؛ فالتقاليد الموروثة تفرض فرضاً على الشباب بما فيها من نظم عتيقة وأساليب صارمة، وكلعبث بهذه التقاليد عبث بقواعد الشريعة والعرف والآداب والأذواق حتى إذا خطر للشباب شيء من التجديد في وسائل العيش ومظاهر الزي وطرائق التفكير، كان ذلك في رأي القائمين على أمرهم خروجا على النظام وثورة على الاحتشام، واندفاعاً إلى هاوية الغي والفساد وانحرافاً عن معاني الفضيلة ومناهج الأخلاق!!. . . وإلى هذه البيئة يشير الزيات في مقاله من لصفحة الرابعة والأربعين من المجلد الأول لكتاب (وحي الرسالة) عندما يقول:(وأنا في سنة 1919 كنت أجتاز هذا الحين: شباب طرير حصره الحياء والانقباض والدرس ونمط التربية وطبيعة المجتمع في حس مشبوب يتوقد شعوراً بالجمال؛ وقلب رغيب يتحرق ظمأ إلى الحب، ونوازع طماحة ما تنفك تجيش، وعواصف سيالة ما تكاد تتماسك). .

وكانت بيئة انعدم فيها الاتصال الكامل بين الرجل والمرأة، حين وقفت التقاليد الموروثة وبقايا الحجاب الصفيق سداً هائلاً وجداراً منيعاً بين الشباب من الجنسين. . . وحرمان البيئة من المرأة وهي بهجة الحياة الكبرى ونبعها الدافق باللذة والجمال والحب، كان له أبعد

ص: 10

الأثر في خلق الرومانسية الوجودية والفنية في حياة علي طه الأولى وإنتاجه الأول، وكانت مصدرا عميقا من مصادر القلق الدفين والأسى الملح والشكاة التي تعلن عن نفسها في كثير من شعر (الملاح التائه)!

ولقد كانت المرأة أحد المفاتيح الكبرى لشخصية هذا الشاعر المصري، شخصيته الأدبية والإنسانية فيما قبل الثلاثين وفيما بعد الثلاثين وكانت نقطة التحول بين شعر وشعر وبين حياة وحياة!!

(يتبع)

أنور المعداوي

ص: 11

‌حكمتي

للأستاذ عبد الفتاح الديدي

لكل إنسان حكمته الخاصة التي ترشده في حياته وتنير له سواء السبيل، ولكل فرد من الأفراد المثقفين نوع من الإيمان وضرب من ضروب الاعتقاد الذي رسخ في ذهنه، وانطوى عليه باطنه، واطمأنت إليه نفسه، وإذا قلت إذ كل إنسان له حكمته فإنما أريد بذلك أن أتحاشى الكلام فيما يسمونه بالفلسفة الخاصة لدى كل واحد من أبناء آدم حتى ولو كان من رجال الشارع، إذ لا يوافق الكثيرون على الزعم القائل بأن كل واحد له فلسفته، فإذا جئت الآن لأقول عن كل واحد من الناس إن له حكمة يستوحيها فلا خطأ في كلامي ولا جناح علي، لأن الحكمة أخف بكثير من الفلسفة وأقرب إلى قلوب العامة وأشد اتصالاً بالحياة اليومية وتنتج في العقول بسبب الخبرة التي يجدها الشخص والتجارب التي يمر بها أثناء معاشه فوق ظهر الأرض.

وأنا شخصياً لي حكمتي، أستوحيها في الظل وأتملاها في النور وأستأنس بها من وحشة الليل وأمشي في الحياة بهديها ورضاها، وهي حكمة غريبة عن كل هذه الأفكار والمشاعر التي عهدناها حتى الآن، هي شيء من الواقع قبل أن تكون لونا من الخيال؛ وهي صورة من الحياة قبل أن تكون أملاً في الحياة، وضعتها في صدري قبل أن أمر بها على خاطري، وطويتها من قلبي ووجداني حتى إذا ما تفتح عليها العقل، ونبض بذكرها الفكر، عاشت مجنحة ولكن في اطمئنان، ومضت قلقة ولكن في وثوق، وانطلقت معي باحثة عن الأوضاع المستقيمة بين صرامة المنطق وغواية العاطفة.

هي حكمة أحياها بنفسي ولا أقتصر على التفكير فيها بالعقل، وأضمها إلى صدري دون أن أطفأ حرارتها بالتشريح والتفسير، وأتقبلها باسم الثغر واعي الفؤاد مستيقظ الضمير، ومن أجل هذا لا أرضى بها البديل، وإن جل البديل، ولا أتحول عنها إلى سواها مهما تكاثرت من أمامي خطى السير ومهما تطورت في عقلي أساليب الفكر والبحث. ولا أحب أن أضعها موضع التقديس، فلا أتأملها وأنظر في أمرها، ولا أرضى أن أخلطها بمعاش إلى الحد الذي تصير فيه محلاً للابتذال. هي قدسية في نورها أرضية في صورتها، ملائكية في سحرها طبيعية في هواها، إن أنس كل شيء فلن أنساها وإذا تسربلت بالهم فهي وحدها

ص: 12

سبيل الهداية والرشاد.

فأنا أجري على نفسي قواعد حكمتي وأخطو في حياتي بما تمليه علي من الضرورة والحتم، ولذلك جاءت حكمتي بنتاً للواقع والظروف وبناء من أبنية الزمن والأيام، بل لعل ذلك هو السبب في أنها قد جرت في دمي، ونبضت دقات قلبها في عروقي، واهتز لها خاطري واستبشر بها محياي، عشت منها كما عشت لها واستضأت بنورها في الوقت الذي غذيتها فيه بنار قلبي وثورة روحي، فأحببتهاحب العاشق الموله للحبيبة الغالية، أو حب الزاهد المتعبد لجلالة الرحمن، استنشق من عبيرها خطوط سيري أثناء التقدم والتصعيد في الجبال الشامخة، وأتغذى من هالتها في خاطري أثناء جوعي وحرماني إبان الكفاح والتشريد، وبعبارة صريحة موجزة هي كل شيء فيَّ، وكل عمل يصدر مني، وكل فكرة تخطر على بالي.

ولذلك أحرص أشد الحرص على ألا أدعها تطير من يدي ولا أتركها براثن المقادير من غير أن أرعاها وأتعهدها، فهي تحيه بي كما أحيا بها، وهي جزء مني أشعر بامتلاكي لها وسيطرتي عليها، أتنفس من شذاها وأستقي من ضروعها وأعتصر ساعاتي كلها حتى تخلص لي فيها وأفرغ لها منها. وهي عادية جداً بحيث تخطر على بال الفلاسفة وغير الفلاسفة وبحيث تعرض للتافهين والعظماء سواء بسواء، ولكني أخصها بنوع من الاحترام والتقديس الذي يجعلها في خاطري ذات مكانة، ويضعها بين مراتب اعتقادي في أولى الصفوف، هذا فضلا عن أنني خبرتها فلم تخيب لي أملا، وامتحنتها فلم تفسد لي رجاء، واعتمدت عليها فلم تضيع لي أمنية. إنها مريحة لي كإنسان فاشل يحتاج إلى العزاء والرثاء، ومهبطة من غروري عند الكسب والنصر، تنفع عند الشدة والرخاء معاً، وتدلني على الوضع الذي يلزمني وعلى الظروف التي تلائمني وعلى المكان الذي يناسبني، فامضي إليه غير حاسب حساباً ودون ما أضع أمام عيني اعتباراً.

وأنت تعلم أن رأي الإنسان جزء من كيانه العام عند التحدث وعند إتيان الأفعال، بل يمكننا القول بان الرأي في دماغ الإنسان بمثابة عضو كامل في تكوينه الجسمي وله من التأثير مثلما لبقية أجزاء البدن، ولذلك أثور عند سماع الرأي المضاد كما افعل تماماً عندما تلدغني الحشرة السامة في بعض جسمي، ولعلي أنفعل من الوقوف على الرأي المخالف لرأيي أكثر

ص: 13

من انفعالي للنكبة الهابطة والمصيبة النازلة، ويصعب علي أن أحول وأبدل في آرائي وان أكيفها حسب الظروف. فالرأي من دماغ الإنسان كالساعد في جسم الإنسان يستحيل أن لا يؤثر في ولا يمكن الرضا عن إيذائه وإيقاع الضر به، وفي الوقت نفسه يصعب علي أن أغير من شكله أو أبدل من منظره، والساعد ساعد إلى الأبد ولا يمكن أن يأتي عليه يوم يصير فيه ساقاً أو أستغني فيه عن خدماته فأبتره بتراً، كذلك في الرأي الذي أدين به والفكرة التي أعتنقها والحكمة التي ينطوي عليها بالي، فهي مشدودة إلى كياني شداً ومرتبطة بي ارتباطاً لا ينفع معه التقطيع والتجزيء والإبعاد.

وأنا أعلم أنه لا يليق بالمفكر إطلاقاً أن يكون على هذا النحو من الجمود الذي أصوره في الفقرة السابقة، وأدرك تماماً مقدار ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المثقف من المرونة في آرائه بازاء الأحداث، وأنا واثق بعد ذلك من أن الإنسان يرتقي في تكوينه ونشاطه العقلي بارتقاء ملكته في الانتقال من رأي وبمقدرته على التلون في فكرة كلما كان ذلك لازماً. ولكن ما أعتقده وأومن به شيء وما هو واقع بالفعل شيء آخر، فمما لا شك فيه أن لإنسان يجد الصعوبة في محاولته التنازل عما سبق أن آمن به واعتقد فيه وتحمس له وانه من الضروري أن تتوفر لديه كمية كبيرة من الطاقة النفسية والمجهود السيكولوجي حتى يتغلب على حنانه بالنسبة إلى تفكيره القديم وحبه للرأي السابق وتشيعه للمبدأ القبلي.

فالرأي الذي يدين به الإنسان ليس مجرد خاطر في بال أو بادرة في الدماغ وإنما هو دم يسري في الكيان بأجمعه حتى ليصير بمضي الأيام جزءاً من الكل وبعضاً من المجموع. وأخطر شيء هو ألا نرعى آراء الناس ومعتقدات الجماعة أية أهمية أو أن ننظر النفس من التكوين الظاهري، ومن هنا نقول إن كل احتقار يصدره الفيلسوف أو المفكر للآراء الجماعية مصنوع ومفتعل بناء على ما نراه بالعين أو نلمسه باليدين من التأثر الواقع في حياة الناس ونتيجة للانقلابات الباطنية داخل الفرد ذاته، فالحياة العامة إنما هي نتيجة حتمية لما تكنه النفوس على صنوفها من الإيمان والتقدير، بل إن الرأي ليؤدي إلى مظاهر عديدة من ناحية العلاقات بين الأفراد، فهذا يقتل ذاكالإيمان في قلبه بالخيانة وهذا يسفك دم ذاك لأنه اعتدى على عقيدته في الله أو سب إيمانه بالقبيلة والأسرة أو لعن إنساناً من ذوي قرباه أو ذوي حماه.

ص: 14

فأفعالنا في الخارج إنما تنتج عن اعتقاد في الداخل أو عن الإيمان الباطن، وإذا كنت مهتما بحكمتي إلى هذا الحد فلأنني أعلم مقدار تأثيرها في كياني ومدى سيطرتها على أعمالي. وأرى لزاما على كل إنسان أن يلائم بين نفسه وبين البيئة التي يحيا فيها عن طريق الحكمة التي يعتنقها والفكرة التي يغرسها في عقله غرساً، كل فرد منا يعنى عناية خاصة بغذائه وملبسه وعلمتنا المدنية ضروباً من الفن في الأكل وعودتنا طرائق شتى في الكساء. ومن ثم كانت حياتنا في مظاهرها المختلفة ناشئة عن أذواقنا المتأثرة بالضرورات والبدع الجديدة، ولكننا لم نستطع أن نستفيد من الاتجاهات الفكرية العامة ولم نقو على تأسيس عقلياتنا تأسيسا فنياً ناحية تفكيره وثقافته وذوقه فلا نزال في الحضيض أين منا الذي يعنى بقلبه وعقله كما ومن هنا ترانا مسرعين في كل ما يهمنا أمره من ظاهرات المجتمع ومتقدمين تقدماً مادياً ملموساً في كليعنى بصنوف الطعام التي يحشو بها جوفه وأين منا المتأنق في قراءته بجانب تأنقه في اللبس والهندام، إننا أحوج ما نكون إلى روح عامة تهزنا من الباطن قبل أن تبدل في الشيات الظاهرةوتعمق الإحساس والذوق قبل أن تجمل الصور الشكلية في حياتنا.

فقد آن الأوان كيما نعنى بآرائنا ومعتقداتنا الخاصة وكيما نفرد لحكماننا قسطا من العناية والرعاية. ويكفي أن نعرف أننا نعيش بالأفكار والحكمة مثلما نعيش بالغذاء والكساء حتى نبذل من لدنا كل ما نملك من أجل اختيار الرأي الذي نملأ به رؤوسنا والخاطر الذي يجول بأذهاننا. ولا بد، منذ هذه الساعة التي نحدد فيها مستقبل الأمة عن طريق ما نصنعه بأيدينا من الفعال، أن نهتم اهتماماً خاصاً بالفكرة والحكمة الفرديتين بوصفهما منبعا لما نأتيه من الفعال ومصدراً لكل ما يخرج إلى العالم الظاهري من الحركات.

ومن مظاهر الاهتمام والعناية بالحكمة الفردية لدى كل أحد أن يباعد بين نفسه وبين البواعث التي يرى فيها ضرراً برأيه والمؤثرات التي يحسبها مودية بمعتقده، فلا يجالس إلا من يجد فيهم غذاء لروحه ويلمس عندهم متعة لقلبه ووجدانه، ولا يخاطب غير أولئك الذين يرتفعون به ويضيفون إليه. ولا شك أن التجربة لمظاهر الحياة المختلفة على قدر كبير من الخطورة في التأثير الفردي، ولكن الذي لا شك فيه أيضاً هو أن مظاهر الحسن في الحياة أندر من مظاهر الدمامة، وان الشعور بالقوة والجمال أقل من الإحساس بالتفاهة

ص: 15

والاعتياد، وإن ما يلزم الإنسان في حالة تصديه لما يشبع طموحه من الروائع أنفع للإنسانية من تلك العواطف التي تقوى على مقابلة الابتذال والتطفل، والتي تستطيع أن تنفذ خلال الظروف العملية والحالات الشائهة. فحاجتنا إذن إلى العاطفة التي تصحب إحساسنا بالمتع الجمالية، وتصرفنا عن منغصات الواقع المبتذل أهم في الآونة الحاضرة من المشاعر التي تلابس في نفوسنا كل خطورة نمر بها وكل تجربة ساقطة نتردى فيها. ولا يأتي هذا من اعتقادنا في الجانب الخيري الذي يسعى بعضنا من أجله في الحياة، وإنما لأهمية تعمق الإحساس لدى الأفراد، ولضرورة العناية بالأذواق، وللزوم النواحي الجمالية في معاشنا. فما يقول الشبان الذين يريدون الإقبال على كل تجربة مهما كانت تفاهتها ومهما كان ابتذالها ورخصها من أجل أن يتبينوا بأنفسهم مواطئ الشر فلا يقربونها وأن يحسوا بلذة الخير فينشدونه، لا يحقق شيئا ولا يؤدي إلى نتيجة حقا ما دمنا حتى اليوم لم نقم شعورا جمالياً ولم نؤسس ذوقاً فاهماً نبن روحاً متوثبة لدى الأفراد. فلننشئ أولاً مظاهر الجمال ودلائل الروعة والبهاء، حتى إذا جاء نصر الشيطان كنا على أهبة للقائه وكنا على استعداد لأن نرحب به، فيقيم بيننا ما تيسرت له الإقامة وينصرف عندما يشعر بأنه لم يعد عن المنصرف بعد.

ليس هذا هو كل شيء في الأمر، وإنما هناك شرط آخر لتكوين الحكمة الفردية وأعني به أن تكون لدىالناس مقدرة على التمييز المستقل بحيث يختار كل واحد لنفسه ما يهمه أو ما يلائمه بغير إملاء ولا سيطرة. فاهم ما تمتاز به حكمتي تلك التي حدثتك عنها هو أنني قد انتقيتها انتقاء وفضلتها تفضيلا ذاتيا خالصاً. وهاهنا أيضاً لابد من الإشارة إلى ضرورة التحصيل والتتلمذ، ومن توكيد أهمية الأخذ عن الغير في كل مراحل الحياة بلا اختلاف. ولكن المهم - حتى عند التأثر بالآخرين في الرأي والفكرة - أن يكون لدى الإنسان محك يقيس إليه ومحور يدور حوله. كن تلميذا إلى الأبد، فهذا فيدك ولا يجني عليك إذا لم يعد عليك بأخصب الثمار؛ ولكن لا تكن فاقداً للتمييز فيما تحصله، ولا تجني بعينيك مقفلتين. وبذلك تمتزج في قلبك عوامل السلب والإيجاب، وتتمخض روحك بمضي الأيام عن حكمة صائبة فريدة. ولا نريد بالحكمة الصائبة حكمة صحيحة على طول الخط، وإنما نقصد منها أن يكون رأي الإنسان مناسبا للمقام ملائما للوضع مبلغا إلى الهدف. أما بالفريدةفنعني أنها

ص: 16

تكون خاصة به دون سواه من عباد الله، فلا يشاركه فيها أحد ولا يقاسمه إياها إنسان.

والحق أنه من الضروري ألا تكون المبادئ والآراء أبدية أزلية لا يصيبها الكسر والتغير، لأن العقلية المتفتحة والذهن المستنير لا ينقفل أمام شيء كما أن النفسية النشيطة تستطيع أن تفرز في كل مناسبة من الطاقة ما يمهد للهزة الباطنية التي تساعد على التحول من رأي إلى رأي والانتقال من حكمة إلى حكمة. فأهم ما تتصف به الحكمة الشخصية هو المرونة بازاء المظاهر الحيوية. وظاهرة التكيف كما نعلم هي أرفع صفات الإنسان وأخطر المظاهر البشرية ومن هنا حاول العلماء المحدثون أن يستفيدوا منها كما ينبغي. ولا يتعارض هذا مع قولي قبل الآن من أن حكمتي لا تتبدل ولا تتحول. فهي فعلا كذلك من ناحية الظاهر أما المضمون أو المحتوى فهو متقلب مع تقلبات الزمن وفورة الأحداث.

وتلاحظ حتى الآن أنني لم أشرح فكرة معينة تحتويها وتتركب منها حكمتي ولم أحاول أن أقوم بعرض جملة من الأنظار التي أعتنقها وأدين بها. وقد عنيت أن أنتهي على هذه الصورة لسببين: أولهما ما قلته لك من أن شرط الحكمة الأصيل هو ألا تكون محلاً للتأثر وان تكون ناتجة عن ظروف صاحبها نفسه من غير إملاء ولا سيطرة. فالحكمة حكمة صاحبها وحده ويستطيع بنفسه أن يتوصل إليها وأن يباشرها بإرادته. . . والسبب الثاني هو أن مجال الإطلاع على آراء الناس ومعتقداتهم متاح لك في كل كتاب يبغي الإصلاح ويريد الإرشاد ويعمد إلى التوجيه. أما سبيل العناية وطريقة المحافظة على الآراء الفردية فقلما يطرقها كاتب. ولذلك حاولت أن أقدم لك شيئا متصلا بالصورة والشكل الخارجي في الحكمة ولا يتعداه إلى المضمون والفحوى. وأعتقد أننا محتاجون إلى من يشعرنا بكرامة العقل أكثر من احتياجنا إلى من يملأ العقل، وأن المناهج تلزمنا اكثر من المواد. أو بعبارة موجزة إننا أشد حاجة إلى البطاقة المكتوبة على زجاجة الدواء نفسه.

حكمتي. . . هاأنذا أفتح لك عقلي فاكمني به، وهاأنذا أنير لك السبيل إلى ضميري فادخليه، وارع قلبا هام بالقداسة قبل أن يرتمي في أحضان الرذيلة. . . ولا تأخذي عليه أخطاء المجرم القصد ولا تحاسبيه حساب الفاسد المطبوع، بل انظري إليه كما تنظرين إلى الشخص المنكود الذي يطيش السهم في يده وتفلت المقادير من بين أصابعه فلا تترك له غير ذل العبرة وكيد الماضي ومرارة الذكريات.

ص: 17

عبد الفتاح الديدي

ص: 18

‌صور من الحياة

خاتمة قصة

للأستاذ عودة الخطيب

(كتب الأستاذ كامل محمود حبيب في الرسالة الغراء قصة امرأة خانت زوجها الذي أحبها، وحدب عليها، ولم يستمع لنصيحة أبيه الشيخ بها، وترك الأستاذ الفاضل بطل القصة هذا الزوج الخائب حائر النفس قلق الفؤاد، لا يستطيع أن يلقيها إلى الشارع مخافة أن يحرم أولاده الأمان والسعادة والراحة ولا يستطيع أن يستبقيها لديه وقد خالفت إلى غيره وطعنته في قلبه وشرفه وقد دعا الأستاذ إلى قراء الرسالة أن يبعثوا إلى هذا الحائر المعذب بأشعة من الرأي السديد والفكرة الصائبة، لعله يتبين على ضوئها الطريقة السليمة والخطة الحكيمة وقد رأيت أن أسهم في الحديث عن هذه القصة المؤثرة، فجعلت رأيي فيها خاتمة لها، فلعل بها تحل هذه العقدة العسيرة وينتهي هذا الصراع الأليم ولعلها بعد هذاترضي الأستاذ الفاضل كامل وقراء الرسالة الغراء.)

قال لي صاحبي: وعشت أياماً شداداً، أقاسي فيها حسرة الندم، ولذعة الألم، أنتجع مواطن الخلوة، وأتجرع مرارة الخيبة وانطويت على نفسي، وحرت في أمري، وعزفت عن الدنيا والناس وأصبحت حليف القلق والأسى، وكنت كلما رأيت عدوتي الخائنة يتفجر السخط في قلبي، ويخيم المقت على روحي. .

وكنت كلما رأيت أولادي، أحس بقلبي يكاد يختنق بأشجانه، وبروحي تكاد تفارق جسدي، فتلك عدوة لابد منها لهم. . . ولكن. . . . كيف لي بالاحتمال وأوحال العار تلطخ بيتي!. وإني لأرى كل شيء في البيت يثب ثائراً محذراً. . . ويلتاه!. إنها حليفة الشيطان الرجيم، وقطعة من نار الجحيم، فماذا أصنع؟!. ولم أهتد إلى الرأي السديد ولحجة الواضحة، وكنت كمن ألقي به في لجة صاخبة؛ وأمواج هائجة، وقد أثقلته النكبة، وأذهلته الصدمة، فزاغ بصره، وضاع صوابه، فرحت يا صاحبي - أصارع الهموم والأحزان، وأدرا عن نفسي هذا البلاء وأسعى إلى الخلاص دون أن أصل إلى الشاطئ. . . الشاطئ الذي يريحني من هذا القلق الشديد، والحيرة القاتلة، وينقذني من هذه اللجة الصاخبة التي غمرتني أمواجها فكدت اغرق بها. . . وكنت كلما خلوت إلى نفسي - وما أكثر ما أخلو أليها - أدير في

ص: 19

رأسي أفكاراً شتى، وتتنازعني آراء جمة، فتارة يدلي لي العقل بالرأي الصليب، والأمر الشديد، فيجزع قلبي وينهار. . وطوراً تترجم العاطفة عما في القلب من حنان ورقة. . فأكاد أستسلم للواقع رعاية للأولاد الأحبة، ووفاء للحب القديم، فيسخط العقل ويثور ويهدد. . وأنا - يا صاحبي - ميدان هذا الصراع، تنتهبني هذه الأفكار، وترس في روحي هذه الوساوس. . .

يقول لي القلب - وآه من هذا القلب - إنها - يا صاحبي - نجية نفسك، وترب روحك، وضياء بيتك ومهوى فؤادك،. . . أجل حبيبتي، أنا قلبك الرقيق الوفي. . ذقت معها مذ عرفتها أطيب ساعات العمر، وأحلى أيام الشباب، ألم تكن تحزن لحزنك وتفرح لفرحك، وتغمرك بحنانها وعطفها. وتشيع في روحك الأنس والنور، وفي بيتك السعادة والجمال. . أنسيت يوم التقيت بها في حديقة الأندلس، وكنت مهموم النفس، ضيق القلب، برما من الحياة وبالناس، تشعر بالحرمان يملأ عليك دنياك، والظلام يسد دروب حياتك. . فلما مدت يدها إليك لتصافحك، تبدل يأسك أملاً، وظلامك نوراً، وضيق نفسك رحابة وسعة ونشوة. . ورأيت في الزهر تلك الساعة معنى ابتسامتها الجميلة، وفي النهر الرائق صفاء روحها الوادعة. . أتذكر حين جلست بجانبها على ذلك المقعد الوثير، والنسيم الجميل يداعب صفحة النيل، ويهز أعطاف النخيل. . والشراع الحالم يشق الماء في رقة وهدوء. . لقد كانت يدها في يدك، وروحها تمازج روحك، حين قالت لك بلهجة الحلوة الساحرة: إني أشعر - يا حبيبي - بأن قلبي كهذا النهر وأنت الذي تداعبه وحدك، فيخفق لك حين تنشر عليه شراع قلبك وظلال روحك. فابتسمت وقلت: ولكن ما قيمة الشراع من غير هذا النهر!! وذهبتما معا في أحاديث عذبة، وعواطف رقيقة، أتذكر. . أتذكر. . أم أن نزوتهاالطائشة وخطيئتها الأخيرة. . . هذه السحابة السوداء الصغيرة، قد أخفت ورائها تلك الشمس الساطعة، وهاتيك الأنوار الزاهرة. . . وعفت على تلك الذكريات الحلوة، والساعات الممتعة. . . إنها يا صاحبي رغم كل شيء تحمل لك في قلبها الود الخالص، وتغمرك بالحب العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت تهوي إلى العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت

ص: 20

تهوي إلى قرار سحيق. . . أفليس من المروءة والوفاء أن تمد يدك إليها، لتنقذها من الهلاك، وتخلصها من أنياب الذئاب. . . إنك إن صنعت هذا بها رفعتها من الحضيض المظلم الموحش، إلى دنيا من السمو والأنس والنور. . . وإن أنت ألقيت بها إلى الشارع فقد تركتها تهوي إلى قرار الجحيم. . . جحيم الشارع الذي لا يعرف للإنسانية والرحمة معنى. . . إنك بهذا تحطمها، فتتحطم معها وتحطم أولادك. . . فاستمع لندائي وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . . وعفت على تلك الذكريات الحلوة، والساعات الممتعة. . . إنها يا صاحبي رغم كل شيء تحمل لك في قلبها الود الخالص، وتغمرك بالحب العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت تهوي إلى العميق. . . إنها رغم الخطيئة - حبيبتك وزوجتك، فلا تتركها للأيام، ولا تكن قاسياً في الانتقام، فقد انزلقت قدمها وكادت تهوي إلى قرار سحيق. . . أفليس من المروءة والوفاء أن تمد يدك إليها، لتنقذها من الهلاك، وتخلصها من أنياب الذئاب. . . إنك إن صنعت هذا بها رفعتها من الحضيض المظلم الموحش، إلى دنيا من السمو والأنس والنور. . . وإن أنت ألقيت بها إلى الشارع فقد تركتها تهوي إلى قرار الجحيم. . . جحيم الشارع الذي لا يعرف للإنسانية والرحمة معنى. . . إنك بهذا تحطمها، فتتحطم معها وتحطم أولادك. . . فاستمع لندائي رفعتها من الحضيض المظلم الموحش، إلى دنيا من السمو والأنس والنور. . . وإن أنت ألقيت بها إلى الشارع فقد تركتها تهوي إلى قرار الجحيم. . . جحيم الشارع الذي لا يعرف للإنسانية والرحمة معنى. . . إنك بهذا تحطمها، فتتحطم معها وتحطم أولادك. . . فاستمع لندائي وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . .

وسمعت - يا صاحبي - إلى صوت القلب، وأنا كاسف البال، حزين النفس، مشتت الفكر، ومثل أمامي بجراحه الدامية يذكرني بالماضي الجميل، والأيام الحلوة. . . فكدت أصغي إليه، وألبي ندائه، لولا أنه بدا لعيني ذلك الشبح الرهيب. . . شبح الخيانة. . . وهنا - يا صاحبي - رأيت العقل قد ضاق ذرعاً بفلسفة القلب فانطلق ساخطاً يزمجر فيقول: دع عنك

ص: 21

كل هذا، وأسكت هذا الشيطان الذي ينفث سمومه على لسان القلب. . . ولا تكن خائر العزم جباناً. . . إن هذا البيت قد خلق ليكون جنة وارفة الظلال، مورقة الأفنان، تشيع فيها السعادة، وتغمرها الطمأنينة، ويملأ أرجائها الجمال. . . جمال الروح. . . وجمال القلب وصفاء النفس وطهارتها.

وهذه - زوجتك الخائنة - ليست إلا أفعى تخفي وراء هذا الملمس الناعم والثوب القشيب الملون، والرقة والهدوء - أنيابا حادة تقطر السم الزعاف. . . وقد جاءت لتجعل من جنتك هذه جحيما مظلماً يزخو بالشرور والآثام، ويمتلأ بالمردة والشياطين. . . أنها - لو أنعمت النظر - نار لاهبة أضرمها الشيطان بهذا الجسد الفائر، فاستحالت إلى إثم محرق. . . يلتهم الكرامة والشرف؛ ويبدد الراحة والأمان، ويحطم بقسوة وعنف هذا الأمل الذي عشت عليه زمناً طويلاً؛ ورنوت إليه منذ أمد بعيد. . . أجل - يا صاحبي - إنها تريد أن تلدغ شرفك الرفيع وتقوض عرشك المنيع، وتبدل الألفة والمودة والصفاء، بالمراوغة والنذالة والشقاء. . . فلا تتردد في طردها من جنتك، قبل أن تحفر أوكارها، وتميت ضحاياها. . . أن لك أولاداً تحبهم؛ وتسعى لخيرهم، وتبذل من نفسك لإسعادهم، فإن أنت تركتها في جنتك فقد حكمت على نفسك وأولادك بالشقاء الدائم، والعذاب الأليم، وهذا ما لا أرضاه لك ولا ترضاه لك كرامتك. فلا تبق هذه الأفعى - يا صاحبي - لئلا تلد لك الشقاء والعار والنار. . .

وأخيراً - يا صاحبي - مكثت أياما تنتهب نفسي الوساوس والهموم، وكدت أصعق من ثقل ما لقيت. وحرت في أمر هذا الصراع. . . الصراع العنيف بين القلب الوفي الرقيق يأبى - وهو يئن من جراحه - إلا أن يستعيد ذكريات أيام الصفاء، ليمحو بها ما نقش في النفس من غم وضيق وألم دفين. . . وبين العقل الذي يمسك بهذا القلب فيصهره وينهره ويصيح في وجهي تأثراً متمرداً: مالي أراك متردداً في تنفيذ وصيتي. . . وسماع رأيي. . . دعني أذكرك برأي أيبك ذلك الشيخ الذي عركته الأيام والتجارب فأدلى لك بالرأي الصواب حين قال لك: (فإذا لم تصلك بزجك صلات من القربى، ووشائج من الدم، عبثت بشرفك، وفرطت في كرامتك، وبددت ثمار كدك) قلت في لهفة (ولكني) قال (ولكنك تحب فتاتك ولا عجب فهي قد اغترتك عن نفسك، وخدعتك عن عقلك، وسحرتك عن صوابك؛ لأن المرأة

ص: 22

المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه).

وهذه نبوءة أبيك قد تحققت، وأن الأيام لتثبت لك أنك ما زلت بحاجة إلى يد تساعدك، ورأي يعينك، وأب ينصح لك، ويشير عليك، وإن كنت قد تعلمت وتجاوزت طور اليفاعة إلى سن الشباب. لقد كان أبوك - يا صاحبي - بعيد النظر، سديد الرأي ينظر من خلال تجاربه الكثيرة، وشيخوخته الحكيمة. . . وقد خشي عليك أن تعصف بك عاصفة من مكرها وسحرها، وقد رأيته ليلة الزفاف، وراعتك منه هذه العبرات الحائرة في عينيه، وتلك الغلالة من الهم والضيق وقد كست وجهه.

قلت لنفسك (واعجبا! أفكان أبي الشيخ يرى بعيني تجاربه أن من تحت قدمي هاوية سحيقة أوشك أن أنزلق فأتردى فيها فلا يمسكني إلا القرار) أجل والله - يا صاحبي - إنه لذاك وقد كان أبوك يشفق عليك من هذا المصير السيئ، وهذا التردي الموبق، ألا فاعلم أن ما يراه الشيوخ بأبصارهم الكليلة، ونظراتهم المستاءة لا يصل إليه الشباب بأبصارهم الحادة، ونظراتهم السريعة، لأن على بصر الشيوخ - وإن كان ضعيفاً - نوراً من الحكمة الرزينة، والرأي السليم، والفكرة الصائبة. وعلى أبصار الشباب - وإن كانت حديدية قوية - غشاوة من فورة الطيش، وعبث القلب ونزوة الهوى.

قال لي صاحبي: وفي صباح، يوم قارص البرد ممطر، سمعت دقات خفيفة على الباب، فعجبت من هذا الطارق المبكر، الذي سابق الشمس في البكور فلم تلحقه، غير عابئ بهذا البرد الشديد والمطر الكثير، والرياح العاصفة. ولكنه - يا صاحبي. . . أبي قد جاء من القرية يزورني، ويطمئن على حالي، بعد أن انطوى على ألمه وأحزانه وقلقه من هذا الزواج الذي لم يرض به ولم يوافق عليه. أجل لقد فوجئت - يا صاحبي - بتلك الطلعة المهيبة وذلك الشيخ الوقور يخطو نحوي، مسلماً علي، يعانقني ويقبلني، وقد قرأ في وجهي ما أعاني في نفسي من قلق وأسى. فبادهني بالسؤال عن زوجتي؟! - آه ياويلتي. كيف أجيبه؟!. وماذا أقول؟!. أأقول. إنها. ولماذا أتردد!!. أليس هو أبي؟!. فلماذا اكتم عنه سري وأخفي عنه أمري؟!. فقلت والأسى يعقد لساني، والدمع يملأ مقلتي: إنها خائنة.

وذعر أبي، وأخذته رعدة، ورأيته قد أسند رأسه بذراعه، شأنه حين يفكر في أمر خطير

ص: 23

وسكت. وخلت - يا صاحبي - أن الكون كله يشخص بأبصاره نحوي، ويحملق في دهشة وتساؤل، ويسخر مني ويهزأ بي، ورأيت في هذا الصمت خطابا مجلجلا يصدع الآذان ويرعب القلوب. ولما طلا هذا الصمت خلت أن قلبي يكاد يصعق وأن روحي تكاد تزهق، لولا أن أبي الشيخ قد أنقذني فرفع رأسه ونظر إلي نظرة حازمة صارمة يمازجها العطف والحنان. وقال: قلت لك - يا بني - وأعيد القول: (يا بني لست أخشى رأي الشباب في عقل الشيوخ.) أن المرأة - يا بني - لا تجد العقل إلا في الشارع) فدعها يا بني تجد هذا العقل الضائع. ولم أقل هذه المرة: (وهي تجده في العلم وفي المدرسة وفي الجامعة). ولكني قلت بمرارة وألم. وأولادي - يا أبي - إنهم أحبائي الأعزاء فكيف أقتل السعادة والأمان في قلوبهم؟!.

وهنا ثار أبي في وجهي قائلاً: إنهم أولادك أنت وتستطيع أن تكون لهم أبا وأما، ومثل هذا في الدنيا كثير، وأن الرجل الحق من يستطيع إن أصابه سهم من سهام الدهر، أن ينزعه بقوة وعزم، ثم يقف مرة أخرى ليكافح. فلا تترك للخور سبيلا إليك، فضمد جراحك ثم واجه الدهر بثبات وإيمان وصبر، دع الخائنة - يا بني - تلق جزاء خيانتها، فليس أقدر على سحق الإثم والشر من العقاب. وأولادك!. ماذا كنت تصنع لو أنها ماتت؟!. كنت سترضى بالقضاء النازل وتتدبر أمرك.

ألا فاعلم - يا بني - أن الخائنة ميتة في قاموس الدين والأخلاق والكرامة. ولكن حذار أن يعرف أولادك عن أمهم شيئاً في المستقبل - دعهم يعيشوا دائماً وإلى الأبد على جهل بتاريخها. لئلا تخدش كرامتهم، ويعيشوا أذلاء. فإن سألوك عنها فقل لهم: إن هذه الأرواح - جنود مجندة، فما تعارف ائتلف، وما تناكر اختلف، ويشاء حظ أبيكم أن لا يهتدي إلى الروح التي تأتلف إلى الأبد مع روحه، فكونوا أسعد حظاً منه، واستمعوا إلى نصيحتي، ولا تحيدوا عن مشورتي، ولا تخالفوا رأي شيخ كبير مثلي.) قالها أبي - يا صاحبي - والدمع يذرف من آماقيه. وعاد إلى صمته الطويل.

قال لي صاحبي: وهكذا كان فقد تركتها واستمعت إلى رأي الشيخ، وأسكت نوازع الهوى، وأعرضت عن ظلال الأيام وصدى الذكريات، أرى سعادتي بين عملي وأولادي وأردد دائماً قول أبي: (وهل تستطيع المرأة البرزة أن تحبس دم الشباب الفوار عن أن يصرخ في

ص: 24

عروقها صرخات شيطانية وضيعة، حين تجلس إلى الرجل في غير رقبة ولا حذر؟!.)

القاهرة

عمر عودة الخطيب

ص: 25

‌مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية

(2)

مناهج الأدلة لابن رشد

للأستاذ كمال دسوقي

وإذا فرغ فيلسوفنا من إثبات وجود الله يتناول مشكلة، فبعد تقرير الذات تأتي الصفات، وبعد الصفات الأفعال، وإن كان هذا التقسيم الثلاثي غير ظاهر تماماً كما كان تبويب الكتاب وتوزيع فصوله غير دقيق كذلك. وهو العيب الذي يعتور كثيرا من الكتب الإسلامية القديمة، والذي يحتاج معظمها من أجله إلى معاودة النشر بتبويب وتفصيل جديدين.

والذي ذكره ابن رشد من صفات الله سبع فقط يقول أنها التي وردت في الكتاب - وقد سبق أن قلت لكم أن لله صفات أكثر من هذه تبلغ العشرين من حيث هي ثبوتية، ومثلها مما يقابلها من حيث هي سلبية (تجدونها في كتب التوحيد) وكلها مؤيدة بالآيات القرآنية كالتي ذكرها ابن رشد. ولكن يبدو أن الفيلسوف لا يذكر من صفات الله إلا ما يتصف به الإنسان الكامل كما يقول، وأول هذه الصفات العلم، الآية التي يستشهد بها على هذه الصفة تدل أقل ما تدل على أنه ما في المخلوقات من براعة الصنع ودقة الترتيب بما يوافق الغاية المرسومة لا يمكن ن يكون اعتباطاً - بل لا بد من حكمة وتدبير مقصودين صادرين عن علم كامل. وعلم الله صفة قديمة كما هو قديم، وليس بصحيح ما يقوله المتكلمون من أنه يعلم بالعلم القديم الشيء المحدث وإلا لكان علمه يتنوع؛ أو كان كالشيء تارة يوجد وتارة لا يوجد؛ وهذا ما لا يقتضيه الشرع لأن العلم المتغير محدث - وهو خلاف ما قررناه والحياة بعد هذا شرط العلم؛ متى ثبت العلم تقررت الحياة وأمكن أن ننتقل مما قام عليه الدليل إلى ما لم يبرهن عليه بعد - ولا اعتراض لابن رشد على ما قال المتكلمون في هذاوالإرادة والقدرة لازمتان كذلك لصفة العلم التي سيق إثباتها بالأشياء المخلوقة - وما قيل في العلم يقال في الإرادة من حيث أن كون الشيء الآن ليس بإرادة قديمة كما يتوهم المتكلمون بل يجب أن يكون حدوث الشيء وقت إرادته؛ وعدم حدثه رهنا بعدم إرادته كما تقتضي الآية (كن فيكون) ولما كان الموجود الواحد عالماً بما يفعل وقادراً على فعل ما يريد؛ فإنه قادر أيضاً على مخاطبة من يريد والكشف له عما بنفسه - وهو الكلام - الذي هو أحرى بالله من الإنسان لكمال قدرة هذا وعلمه وإرادته والكلام إذا كان ولابد بواسطة اللفظ؛ فليس من

ص: 26

الضروري أن يكون لفظا مخلوقاً فقد يوحي إلى من يشاء من عباده بكلام نفسي ينكشف به المراد من غير واسطة كما في آية إسراء النبي، وقد يكلم فعلا بألفاظ يخلقها ولكن من وراء حجاب، كما في مناجاة موسى؛ وقد يرسل ملكاً أو رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. والقرآن بهذا المعنى الثالث كلام الله الأزلي القديم ولفظه مخلوق لا يتعدى نصيب البشر فيه الحروف المكتوبة بإذنه - بمعنى أنه قديم معنى ومحدث لفظاً. وقد ذهب المعتزلة والاشاعرة مذهباً متضاداً في هذا: قال المعتزلة إن الكلام فعل المتكلم، وأنكر الاشاعرة ذلك. فانتهى هؤلاء إلى أن الكلام هو اللفظ، وأن القرآن حادث؛ وأولئك إلى أن الكلام النفسي أي المعنى المراد قديم أما اللفظ الدال عليه فحادث. وقد رأينا أن ابن رشد إلى الأشاعرة أميل وإن كان ليقرر أن بعض الرأيين حق وبعضه باطل. والسمع والبصر أخيراً من مقتضيات العلم الكامل أيضاً لأنها وسائل بعض المدركات الحسية التي لا يتم العلم إلا بها والتي تسوغ عبادتنا لعاقل مدرك جدير بالعبادة. وسواء أكانت هذه الصفات كلها زائدة عن الذات (بأن كانت معنوية) كما يقول الاشاعرة أو كانت هي والذات شيئاً واحداً (فيسميها حينئذ نفسية أي غير مفارقة) كما يقول المعتزلة، فالذي يجب على الجمهور أن يعلم من أمرها هو مجرد الاعتراف بوجودها؛ وهو ما صرح به الشرع في نظر ابن رشد.

أما الفصل الرابع ففي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها أي الترفع به عن أن يتصف بها. والآيات التي ذكرها المؤلف هنا يريد بها نفي مماثلة الله للحوادث أي نفي صفات المخلوقات عنه أو جعلها فيه على جهة أخرى بأن تكون أتم وأكمل؛ يجب أم تلموا بهذه الآيات الدالة على هذا النفي بقسميه: (وأجب دعوتي فإني لك ناصح أمين. . . وأذكر - أخيراً - حبك الماضي، وأيامك الجميلة، وذكريات السعيدة. . . وأذكر أولادك، فلذات كبدك، وأشعة روحك. . .) نفي النقائض القريبة كالموت والنوم والنسيان والخطأ؛ والبعيدة التي ترجع إلى أن (أكثر الناس لا يعلمون) كالقدرة والإرادة مما هو مشترك بين الخالق والمخلوق ولكنه في الخالق أكمل وأتم. أما الصفة الجسمية وإن كان مسكوتاً عن نفيها أو إثباتها، وبرغم الآيات التي صورتها للحنابلة وغيرهم من هذا النوع الثاني؛ فإن ابن رشد يرى أن لا يصرح فيها بنفي أو إثبات لأدلة ثلاث واضحة ذكرها هو (ص62 - 63) يؤدي ثالثها إلى مسألتي الرؤية والجهة. وكذلك الحركة فيما يتعلق بموقف الحشر والحساب

ص: 27

مما يرى معه ابن رشد ضرورة عدم التصريح للجمهور بنفي الجسمية - كما أراد الشارع - حتى لا تبطل هذه المعاني كلها في أذهانهم فلا يصدقوا بها وهي من صميم الإيمان وإن أمسك عن تأويلها كما أمسك عن تأويل النفس والبرهنة على أنها ليست بجسم. فإذا كان لا بد أن نجيب على سؤال الجمهور: ما هو الله إذن! فلنقل لهم أنه نور - كذلك هو وصف الله لنفسه ووصف رسوله له - هذا إلى أن النور أشرف المحسوسات اللائقة بوصف أشرف الموجودات، وإن موقع الله من بصيرة المقربين كموقع النور من أعين الخفافيش، وأن النور من الأشياء الملونة هو سبب وجودها بالفعل - كل هذه أدلة يحشدها الفيلسوف على ضرورة الوقوف عند وصف الله بالنور دون أن نخوض مع الجمهور في نفي الجسمية عنه لكي ينقذ إيمانهم بالجهة والرؤية والحركة وغيرها من المعاني التي يشرع في تفصيلها.

أما الجهة فيرى ابن رشد أنها وإن أنكرها المعتزلة قد أثبتها الشرع في الآيات التي ذكرها. فمن الحقائق المقررة في الأديان جميعاً كون الله في السماء. ومنها تتنزل الملائكة بالوحي والكتب والرسالات وإليها كان الإسراء والمعراج. وليس يلزم عن إثبات الجهة ثبوت المكان فالجسمية كما يخشى المعتزلة (نفاة الجهة) فالجهة السطوح والأبعاد والأوجه وليست المكان. إذ المكان ما يمكن أن يشغله جسم، ولا يكون السطح مكاناً لشيء إلا إذا جاوره سطح آخر يكون محيطاً به. ولما كان تجاور السطوح لا إلى غير نهاية؛ فإن سطح الفلك الأخير ليس مكاناً ولا يوجد به جسم؛ أو - إن وحد به شيء - فهو لا جسمي (ولا يكون خلاء؛ لأن الخلاء حكمه حكم العدم - لا وجود له في الواقع وليس أكثر من أبعاد فارغة لا جسم فيها إذا رفعت صار عدماً) والخلاصة أن إثبات الجهة لله واجب بالشرع والعقل، وأن إبطالها إبطال للشرع (ص68 - 69) حقاً إن إثبات الجهة مع نفي الجسمية مما يعسر فهمه؛ ولكن هذه الشبهة لا يفطن الجمهور إليها ولا حاجة بنا إلى تأويلها. فإن أصناف الناس الثلاثة لن يجد جمهورهم وعلماؤهم هاهنا تشابهاً - أما الذين في قلوبهم زيغ (وهم الأوساط فيما بين العامة والخاصة أي الصنف الثاني) فهم الذين يشكون فيضلون - وهم عند ابن رشد أهل الكلام والجدل (وعدتهم 72 فرقة متأولة ضالة) أما الفرقة الناجية فهي التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤله في صراحة لعامة الناس كما فعل الخوارج فالمعتزلة

ص: 28

فالأشاعرة فالصوفية وعلى رأس الجميع أبو حامد الغزالي (اعرفوا جيداً نقد ابن رشد لهذا الإمام فإنه أكبر خصومه ص72 - 73) فمثل هؤلاء مثل من بدل الدواء النافع المفيد عموماً الذي وصفه الطبيب الأعظم بدواء تافه مستحدث يضر الأكثرين، ويؤدي إلى الخلط والتشويش والإخلال بالشريعة والحكمة كليهما (73 - 74).

والرؤية كذلك أنكرها المعتزلة لقيامها على الجهة القائمة بدورها على الجسمية ولكون المرئي لابد أن يكون في جهة الرائي؛ وأراد الأشعرية بين نفي الجسمية وإمكان الرؤية بالحس فجاءت أدلتهم متناقضة ومغالطية سواء منها ما عاندوا به المعتزلة وما أجازوا به رؤية ما ليس بجسم. ففي المقام الأول عاندوا قول المعتزلة إن كل مرئي فهو في جهة من الرائي بأن هذا حكم الشاهد لا الغائب - أي المحسوس لا المعقول، فهنا عند الأشعرية خلط ظاهرا بين الرؤية البصرية والإدراك العقلي، إذ الرؤية البصرية لا تتم إلا بالشيء الملون والحاسة المبصرة والأثير الشفاف. ودليل رؤية المرء ذاته في المرآة الذي قال به الغزالي باطل لأن الذي يرى هو الخيال في الجهة المقابلة. ثم إن المتكلمين (الأشعرية) يدللون على إمكان رؤية ما ليس بجسم (76 - 77) بدليلين: أولهما ما يذهبون إليه من إبطال رؤية الشيء من حيث هو (جسم أو لون) إلى آخره ورؤيته فقط من جهة ما هو موجود - وينقض ابن رشد هذا بقوله إن اللون يرى بذاته، والجسم يرى للونه - ولو كلن الشيء لا يرى إلا لوجوده لاختلطت الحواس وهو غير معقول.

وثانيهما دليل أبي المعالي في (إرشاده) الذي ميز فيه بين ذات الشيء وأحواله وجعل للحواس أن تدرك الذات فقط أي الشيء من حيث هو موجود - أما أحواله وصفاته المشتركة فلا سبيل إلى أن يدركها الحس. وهذا دليل يبطله ابن رشد أيضاً بمثل ما أبطل به سابقه من أن الحواس إذن تختلط وتصبح حاسة واحدة. . . وإنما كانت هذه الحيرة لافتراض هؤلاء جميعاً نفي الجسمية وهو بعيد عن مقصد الشرع الذي شبه الله بالنور وهو محسوس، والنتيجة إذن أن الرؤية معنى ظاهر، وأن شبهتها تزول بزوال شبهة نفي الجسمية.

والقسم الأخير من أدلة ابن رشد يتناول الأفعال الإلهية في خمس أمور وأولها خلق العالم وهو يردد هنا، كما في كل مكان، أن الأدلة لكي توافق الشرع يجب أن تكون بسيطة يمكن

ص: 29

أن يسلم بها الجميع، ومن أجل هذا تبطل أدلة الأشعرية التي سبق أن أتى عليها في حدوث العالم، فليست من مقصد الشرع في شيء، وحسبنا لكي نحقق مقصده بمعرفة أن العالم مصنوع لله ومخلوق لم ينشأ من نفسه ولم يوجد بمحض الصدفة، حسبنا دليل العناية آنف الذكر، فإن موافقة أشياء العالم في تفاصيلها وجملتها لكائناته الحية كالإنسان والحيوان لا يمكن أن تكون اتفاقاً وصدفة بل بإرادة وقصد. هذا هو الدليل الحق الذي إلى جانب كونه بسيطاً وقطعاً يقيننا هو الذي نبه عليه القرآن (الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً. . . الليل لباساً والنهار معاشاً. وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً. وجعلنا سرجاً وهاجاً) ببيان ما في المخلوقات من ملائمة ومنفعة. ومن هنا يبين فساد قول الأشعرية وبعدهم عن مقصد الشرع بإغفال عنصر الإنعام من الله على الإنسان (ص85) وعنصر ربط المسببات والأسباب لحكمة وتدبير، فلا تخلو المسببات عندهم أن تكون بالصدفة والاضطرار لا بالأفضل والإجادة والإتقان، فإذا علمنا أن المصنوعات لا تكون شريفة تماماً حتى لا يكون في الإمكان صنع أبدع منها؛ فإننا لو أخذنا بغير ما يريد ابن رشد لم تكن المصنوعات غايات معينة، ونفي الغاية المحددة ينفي وجود النظام والترتيب وهذا ينفي بدوره المنظم والصانع الحكيم. أما سبب ضلال الأشعرية في نظر ابن رشد فهو (1) خوفهم أن يجعلوا أسباباً فاعلة غير الله حتى ولو كانت تفعل بإذنه (2) أوأن ينساقوا إلى الإيمان بالقوى الطبيعية فلا يحسنوا الاستدلال على وجود الله. ومن هنا قالوا أن المخلوقات جائزة الوجود ليجعلوا خالقها مريداً. فأبطلوا الحكمة وافتروا على الله الكذب. ولما كان من العسير إقناع الجمهور بأن عقيدة الشرع في العالم أنه محدث وأنه خلق من غير شيء غير زمان فإن ابن رشد يرى أن نستعين بالتمثل والتصوير بالآيات التي تقرب المعنى إلى الأذهان (ص90).

(يتبع)

كمال دسوقي

ص: 30

‌الأعمى

للكاتب الألماني فردريك ويتسل

وصفت لي أمي مرة منظر الشمس وهي تتعالى فوق الجبال، فسرني ذلك الوصف كثيراً فسألتها (ما الشمس يا أماه؟) فقالت بصوت متأثر وهي تمسح بيدها على شعري (أواه يا ولدي؟ مهما وصفت لك الشمس فلن تتصورها كما هي، دون أن تراها.)

(. . رباه لماذا حرمتني نعمة الرؤيا؛ لماذا ولدت أعمى،؟ إنني أريد رؤية الشمس التي أحس بحرارتها وهي تلفح وجهي، افتح أجفاني - ولو لمرة واحدة - لأرى الشمس ولأرى وجه أمي، ثم أغلقها بعد ذلك ثانية!) ضاعت صرختي في أدراج الرياح، فبقيت في عالمي المظلم الموحش، أشعر بنعومة الزهور، وأشم عبير الورود، ولكني لا أعرف كيف أتخيل صورة الزهرة. فهي - كما يقولون لي - أحلى من عبيرها، وأفتن من نعومها.

حلمت ذات ليلة أن عيوني تفتحت. وأني صرت أرى نور الشمس، وشكل الزهور ووجه أمي. فلما استيقظت وجدتني لا أزال في ظلام.! وحدث بعد ذلك أن اتخذت أمي مربية، اسمها (ميري)، وجدت بقربها بعض العزاء. فكثيراً ما شجعتني بأغانيها وألحانها، وكثيراً ما أبعدت عن نفسي الهموم بأحاديثها فكاتها. حتى كاد شوقي - إلى الشمس، وإلى الزهور وإلى وجه أمي - يزول ويتلاشى. .!

سمعت أهلي يتحدثون عن طبيب للعيون، ذاع اسمه واشتهر أمره، في وقت قصير، وقد علمت أنهم سيأخذونني إليه، لعله يفتح أجفاني، وينير عيني، فتنازعني آنذاك شعور أن حبي لميري وحبي للشمس ولوجه أمي وللزهر، فوجدتهما متعادلين متكافئين وحين أخذوني إلى ذلك الطبيب، وبدأ يفحصني ارتفع صدري، وازداد ارتباكي. فقد شعرت كأنني على أبواب حياة جديدة، وإنني أولد من جديد، في عالم لم أره وإن كنت قد عشت فيه وسمعت عنه. .! وبينما أنا في أفكاري أتيه، شعرت بألم قوي في فصرخت مرتين. . مرة من الألم، ومرة من الخوف. فقد عاودني حلمي القديم، فقد لاح لي كأني رأيت النور.! لكني سرعان ما عدت إلى عالمي الأول، فقد عصب الطبيب عيني، فلم أعرف أكان حلماً ما رأيت أم حقيقة. فبقيت بعد ذلك أحيا حياة غريبة فيها أمل وفيها يأس، وهي مع ذلك ملؤها التهيب والخوف!

ص: 31

حتى جاءني الطبيب ذات ليلة، وطفق يعالج عصابة عيني. . فإذا أنا أرى نجوماً تتلألأ عند الأفق. فإذا بي في عالم جديد، لم أحلم به، فأجدني مذهولاً، أحول عيني يمنة ويسرة فأرى كل فذ عجيب. . . ثمة خرائب أراها أمامي. فأسأل عنها فإذا هي جبال بعيدة، تتعالى إلى السماء في قلب الليل، كالعمالقة التي وصفتها لي أمي. . . وعلى مسافة خطوتين لمحت شيئاً كالشبح المقنع. . فسجدت، مبتهلاً إلى الله، وفجأة تغير المنظر، فرأيت فوق الجبال أشباحا تصعد إلى الأعلى، وفي وسط السماء نجوماً ترتجف خوفاً من الأشباح. . ولمحت خلفي مرآة مصقولة، تنبعث منها أنوار ساطعة، جعلتني أحس كان الله قادم إليَّ. .! فارتجفت وارتعدت. .

رأيت ثمة ضباب يتكاتف أمامي بلا أن الأشباح ما زالت كما هي، تصعد إلى عنان السماء. لكن الأنجم سرعان ما انطفأ بريقها، وخبأ ضوئها. . فاتخذت لها شكل الزهور! وفجأة اندلعت أضواء من لهيب. . تجوب أطراف السماء. . فإذا فوق الغابة ألمح الشمس التي حلمت بها. . . حمراء ملتهبة. .! فوضعت يدي على عيني، وسقطت على الأرض!. . . ولما أفقت كان النور يملأ الفضاء فرأيت لأول مرة العالم الذي عشنا فيه. . فالنجوم هبطت زهوراً على الأرض جمال أحلى من عبيرها. . والنور يتفجر على الدنيا من كل جهة وكل صوب! وفي الشجر ثمار حلوة؛ وحول التلال عبير الزهور والبرية. . . وفي الكرم تتدلى العناقيد كاللآلئ. وفي الجو تتطاير فراشات، وتتطاير جلور، وعصافير. . ومن آلاف الأفواه يتعالى غناء شجي، يبتهل بأسمى المعاني إلى الله!

وفجأة سمعت من خلفي صوتا كنت أعرفه، فالتفت، وإذا أنا أرى - لأول مرة أيضاً - وجه أمي، ووجه ميري رفيقتي فإذا في عينيهما دموع نجول.

أيها الظلام. ارجع ثانية، وخذني بين أحضانك مرة أخرى فإنني لم أعد أحتمل هذا النور. . . وهذه العواطف، وهذا الجمال.

المترجم

كارنيك جورج

ص: 32

‌الشعر المصري في مائة عام

محمود صفوت الساعاتي

للأستاذ محمد سيد كيلاني

- 3 -

وقال:

طلبوا السلامة من سطاء وسالموا

ملكا عليه عسيرهم لم يعسر

وقد استقالوا عثرة الحسن الذي

زلت به قدم الضرير المبصر

وتزاحموا حول البساط لينظروا

حرم الوفود وكعبة المستغفر

معنى البيت الأول جيد. وفي كلمة (عسير) تورية فهي اسم للبلاد الواقعة بين اليمن والحجاز. وتكون بمعنى الصعب من الأمور. ومعنى البيت الثاني جيد كذلك. وفي عجز البيت طباق بين (ضرير) و (مبصر).

ومعنى البيت الثالث رائع لما أسبغ عليه من جو ديني.

وقال:

حتى إذا ثبتت بهم أقدامهم

نكسوا الرؤوس لذي المقام الأكبر

وهو جيد المعنى. وفيه طباق بين (أقدام) و (رؤوس)

وقال:

نظروا إلى ملك لديه كل ذي

ملك كبير كالأقل الأصغر

والمعنى تافه. وقال:

ولو أن من قاد الجيوش إليهم

غير ابن عون عاد غير مظفر

إن كنت تجهل فعله فاسأل به

من شئت من أبيض أو أسمر

وسل الحجاز وأرض نجد والمخا

عمن دحاها بالخيول الضمر

ومعنى الأبيات وجيز. ولكن الشاعر أطنب لأن المقام اقتضى ذلك. وعبارة (فاسأل به) من رديء القول. وكذلك (من شئته).

وقال

ص: 33

ذلت له أسد الوغى من حمير

مذ أيقنت منه بموت أحمر

حتى إذا ما أذنوا بقدومه

هبط الإمام وكان فوق المنبر

وتسابقوا طوعاً له في مشهد

والكل بين مهلل ومكبر

سجدوا وقد نظروه شكراً للذي

خلق العباد وخاب من لم يشكر

معنى البيت الأول تافه. وفيه جناس بين (حمير) و (أحمر). وفي البيت الثاني تلاعب بالألفاظ. فأذنوا بمعنى أخبروا. وتكون من أذان المؤذن. والإمام هو إمام اليمن. وقد يكون بمعنى الشخص الذي يؤم الناس في صلاة. والمنبر بمعنى العرش. ويكون بمعنى الكرسي المرتفع الذي يخطب عليه الإمام في المسجد. والمعنى في حد ذاته تافه وهو أنهم ذلوا وخضعوا. ولكن الساعاتي أتى به في صورة رائعة. وأراد أن يقول في البيتين الأخيرين إن الأعداء قدموا طاعتهم فأسبغ على هذا المعنى ثوبا دينيا جمع بين التكبير والتهليل، والسجود والشكر لله وقال.

كاد ابن يحيى أن يموت لرعبه

لولا تبسمه وحسن المنظر

وابن يحيى هو إمام اليمن

ولم يوفق الشاعر في عجز

البيت إلى الجودة في التعبير عما يريد.

وقال:

أم الحديدة آملاً لما رأى

غوث اللهيف بها وكهف المعسر

جاء الحمى فروى بفضل وانثنى

يروي الحديث عن الربيع وجعفر

رويت بجدوى آل محسن أرضهم

حتى اكتسبت زهوا بثوب أخضر

لله قوم لم يول من دأبهم

خوض البحار وكل بر مقفر

وليس في هذه الأبيات من المعاني سوى مدح آل محسن (آل عون) بالجود والبأس. وفي البيت الثاني جناس بين (روى) بمعنى سقى، و (روى) بمعنى أخبر. وقد بالغ كثيراً في قوله (خوض البحار. . .) فأوهم السامع أن الممدوحين يملكون الأساطيل القوية التي يجوبون بها البحار والمحيطات شرقاً وغرباً. والحقيقة أنهم نقلوا قليلاً من الجنود على ظهر بعض السفن. وفي قوله (حتى اكتست زهواً بثوب أخضر) معنى تداوله كثير من الشعراء. وقال:

ص: 34

حرثت ربي نجد حوافر خيلهم

قدماً وكم زرعوا بها من سمهري

وسقوا الرياض بجودهم فتزاهرت

وغدت بغير مديحهم لم تثمر

كرر في هذه البيتين بعض المعاني التي سبق أن مدحهم بها. وقد شعر بإفلاسه فلجأ كعادته وكعادة غيره من الشعراء المفلسين إلى التلاعب بالألفاظ. فترى طباقا بين (حرث) و (زرع) وتورية في (الرياض) فهي عاصمة نجد، وقد تكون بمعنى الحدائق والبساتين. ولم تخل جعبة الشاعر من المعاني فقط، بل خلت من الصور كذلك.

فقال في الأبيات السابقة

رويت بجدوى آل محسن أرضهم

حتى اكتست زهوا بثوب أخضر

وقال في هذه الأبيات

وسقوا الرياض بجودهم فتزاهرت. . . الخ فلم يجد أمامه غير صورة واحدة هي السقي والزرع وقال

آلت رماحهم وقد خاضوا الوغى

إن لم ترد صدر العدى لم تصدر

وسيوفهم رأت القراب محرماً

إلا الرقاب ورأس كل غنضفر

فسلوا الممالك عن نداه فأخبروا

في أي قطر جوده لم يقطر

وليس في هذه الأبيات شيء جديد. بل هي تكرار لما سبق من مدحهم بالبأس والجود. وفيها طباق بين (ترد) و (تصدر) وجناس بين (صدر) بسكون الدال وبين (صدر) بفتحها. وبين (قطر) بسكون الطاء و (قطر) بفتحها وقال

ما روضة ماست حدائق زهرها

طربا ونبهتها بالربيع المزهر

غنى الحمام على قدود غصونها

سحرا فأغنى عن سماع المزهر

يوماً بأحسن من مديح صغته

فيهم بنظم قلائد لم تنثر

وهنا تكرار لصورة الساقي والزرع. وفيها جناس بين (غنى) و (أغنى) وطباق بين (نظم) و (نثر) وقد تجلت براعة الشاعر في الانتقال من المدح إلى الفخر بشعره. فبعد أن أشاد بجود آل عون وصور الأقاليم التي غزوها وقد أصبحت جنة تجري من تحتها الأنهار، رجع فذكر أن مدحه يفوق تلك الجنة.

قال:

ص: 35

فإذا شدت ورقى الحمى ناديتها

يا ورق في ورق الغصون تستري

وإذا رأيت الجو مني قد خلا

وهممت بالترحال بيضي وأصفري

إني لقاموس العروض ونظمه

أروى الفرائد عن صحاح الجوهري

لا تعدلوا في الشعر كل معمم

كالثور ذي القرنين بالإسكندر

ما كل من يملي القصيدة ناظم

قد ينتمي للشعر من لم يشعر

لو كان فيهم شاعر لوقفت في

ديوانه أدبا ولم أتكبر

لكنهم جهلوا به ثم ادعوا

ما قصرت عنه شيوخ زمخشر

في هذه الأبيات قدم الساعاتي نفسه على من حوله من الشعراء ورفع منزلته في الشعر على منزلتهم. وأطال وأطنب وناقش وجادل دفاعاً عن هذه القضية. وقد أسرف في الزراية بشعراء الحجاز وبالغ في تحقيرهم. فشبههم بالثيران وشبه نفسه بالاسكندر. وأشار إلى الفرق العظيم بين الثور ذي القرنين واسكندر ذي القرنين. وقال لو أنه وجد فيهم شاعراً يستحق هذا الاسم لأكرمه وعظمه وأحله المنزلة اللائقة به ولكن هؤلاء الشعراء الذين يناصبونه يجهلون الشعر كل الجهل. ومع هذا فهم مدعون ينسبون لأنفسهم ما قصر عنه شيوخ البلاغة.

وقال:

حجوا ولكن بيت كل قصيدة

وسعوا ولكن في استراق منكر

وقد اتهمهم في هذا البيت بالسرقة من شعره والسطو على نظمه. وأسبغ على هذا جوا دينيا كما هي عادته في كثير من أبيات هذه القصيدة فذكر الحج والسعي. وعظم من شأن قصائده فجعل كل بيت منها كعبة لهؤلاء الشعراء يحجون إليه، ويسعون حوله لسرقة ما فيه من المعاني.

وقال:

وحبوتموهم لا لشائب غفلة

لكن لحلمكم وطيب العنصر

يا آل محسن لم يزل إحسانكم

يدع الدنيء على حماكم يجتري

وفي هذين البيتين استطراد لحملته العنيفة على هؤلاء الشعراء وتحريض عليهم. وقد أجاد هذا التحريض. فلم يجعل إحسان آل عون إلى هؤلاء الشعراء من باب الغفلة وعدم الفهم

ص: 36

ولكنه من باب الحلم وطيب الأصل. وذكر أن الإحسان قد جرأ كل حقير على قصد نوالهم والطمع في عطائهم. وهذه الأبيات التي ساقها في الفخر بشعره وفي التعريض بغيره هي - دون شك - من آثار الخصومة الهائلة التي نشبت بين الساعاتي وبين شعراء الحجاز.

2 -

في مصر:

يختلف شعر الساعاتي في مصر عنه في الحجاز. فامتاز شعره في الحجاز كما أسلفنا باحتوائه على بعض المعتقدات الشيعية، وسيطرة الجو الديني عليه، والإشارة إلى المعارك والوقائع، تصوير الأعداء وقد جاءوا طائعين مستسلمين. وقد ظهرت في هذا الشعر آثار العداء الشديد الذي قام بين الساعاتي وشعراء الحجاز. وقد دفعه هذا العداء إلى الإكثار من مدح شعره، والتغني ببلاغة نظمه ومتانة تراكيبه، وقوة عباراته، كما دفعه إلى التحقير من شأن من حوله من الشعراء.

أما في مصر فقد كانت البيئة تختلف اختلافاً كبيراً عن البيئة الحجازية. لذلك بعدت الشقة بين مدائحه في أمراء مصر ومدائحه في آل عون.

كان الساعاتي إذا مدح حاكماً مصرياً خلع على مدحه ثوباً يلائم المقام ومزجه بالإشارة إلى أهم المظاهر الذي امتاز بها عصر الممدوح. فكان إذا مدح سعيدا أشار إلى جيوشه وأسلحته وقلاعه وحصونه، ونوه ببأسه وقوته وشجاعته وإقدامه.

وإذا مدح إسماعيل تغنى بثراء مصر وخصوبة أرضها ومزايا نيلها وأشاد بقصورها وبساتينها. وذكر أنها هي الدنيا التي جمعت بين الشرق والغرب، وحوت خزائن الأرض.

وإذا مدح توفيقاً أشار إلى جوده وكرمه وعدله وحلمه وما امتاز به من حسن التدبير وسداد الرأي وجودة التفكير. ومن أمثلة هذه لمدائح قصيدة مدح بها الخيدو إسماعيل. وقد بدأها بقوله:

لسعدك من فوق النجوم سماء

سماها سنا من نوره وسناء

كان بوسع الشاعر أن يأتي بمعنى هذا البيت وهو تافه في عبارة جيدة وتركيب سهل مستقيم. ولكنه حرص على أن يملأ بيته بالجناس فجاء تعبيره سقيما ثقيلا على الأذن. فهناك جناس بين (سماء) و (سما) وبين (سما) و (سنا) و (سناء) وبين (سماء) و (سناء). كل هذا في بيت واحد. وليس وراء هذا العناء معنى قيم. وقال:

ص: 37

عليك لواء الحمد ظل مظللاً

علاء من النصر العزيز لواء

لأنك أولى الناس بالمجد والعلا

كما لك بالفضل العميم ولاء

والبيتان ضعيفا المعنى والعبارة. فأثقل بقوله (ظلاً مظللا) وبدأ البيت الثاني بقوله (لأنك) وفي ذلك ضعف. وكذلك قوله (كمالك) فإنه من سقيم التراكيب الشعرية. وقوله (لأنك أولى الناس بالمجد والعلا) كلام خلو من المعاني. وقد أحس الرجل بضعفه في المدح فانتقل منه إلى التحدث عن مصر وخيراتها ونعيمها. فقال:

لك الملك فاحكم كيف شئت على الثرى

فما الأرض إلا مصر وهي ثراء

مبوأ صدق وهي أنضر ربوة

مقام كريم حله كرماء

وذات قرار وهي خير مدينة

وملك عظيم أهله عظماء

والمعنى ضعيف إلى أبعد حد. ويتجلى هذا الضعف في قوله (مقام كريم حله كرماء) وقوله (ملك عظيم أهله عظماء) فهما خلوان من المعنى خلوا تاما. وقال:

على أنها من جنة الخلد غيضة=رياض بها عين وأنت ضياء

وصدر البيت جيد المعنى. وعجزه تافه. والقصيدة كلها ثلاثون بيتاً. ومع أنه نظمها في مدح إسماعيل إلا أنه استغرق أكثر من نصفها للتحدث عن مصر وأرضها وسمائها ورياضها وحقولها وليس ببعيد أن يكون هذا من أثر الأعوام التي قضاها الساعاتي في صحراء العرب. فوازن بين تلك القفار وبين مصر. فوجد أن مصر هي أم الدنيا وهي قطعة من الجنة وجزء من الفردوس.

وقال:

فأبصرت فردوساً تدانت قطوفها

وللنيل فيها كوثر وشفاء

ومصر هي الدنيا جميعاً وربها

عزيز وأهلوها هم النجباء

لقد جمعت ما بين شرق ومغرب

كذلك بالفرقان جاء ثناء

خزائن أرض الله مصر وكم أتى

حديث روته السادة القدماء

لقد صير الباري ثراها وأهلها

وروى رباها كيف شاء وشاءوا

وهكذا وصف الشاعر مصر. ومع أنه أسهب وأطال في التنويه بمصر إلا أنه كرر المعاني وردد الصور. فالصورة واحدة في قوله (على أنها من جنة الخلد غيضة) وقوله (فأبصرت

ص: 38

فردوساً تدانت قطوفها). على أن هذا الإسهاب والتكرار لم يأت عبثا. وإنما هو نتيجة لما شاهده في صحراء العرب من جدب ومحل، وفقر وبؤس، وبعد عن مظاهر الحضارة والعمران. فكبرت مصر في نظره وعظمت في عينه فأطنب في التغني بخصوبة تربتها وعذوبة نيلها أو ما فيها من ثراء ورخاء وترف ونعيم.

(يتبع)

محمد سيد كيلاني

ص: 39

‌رسالة الشعر

من وحي الحالة الحاضرة

عتاب كريم

للأستاذ عبد الله عبد الرحمن الأمين

العضو المراسل لمجمع فؤاد الأول للغة العربية في السودان

رأى قومها أن يستطيل بك الهجر

فهل لك عنها من سلو وهل صبر

وكنت إذا ما جئت يدنون مجلسي

وقابلني منها الطلاقة والبشر

لقد كان لي عنها محيد وموطن

كريم ولكن الهوى أمره أمر

قدمت إلى مصر وبي من غرامها

كثير ولجت في تباعدها مصر

تسائلني من أنت وهي عليمة

وهل بفتى مثلي على حالها نكر

زجرت لها طيراً وما كنت عائفاً

وما كنت لهبياً فينفعني الزجر

وأبثثتها سري وإن كنت عالماً

بأنا بعصر ليس يخفى به السر

وجئت إلى الوادي وعفت وسائلي

وما كان من همي الثراء ولا التجر

أعاتبها إن العتاب مودة

وصدق وإخلاص به يثلج الصدر

أرسلها نقدية واقعية

عليها ثياب من دمائهم حمر

أخذت على مصر

أخذت عليها في الجنوب سياسة

يديرونها سراً وقد أمكن الجهر

وسطحية التفكير فيه وإنما ير

ى حاضر السودان أن يعمق الفكر

وشكلية الأشياء فيها وأخذها

بزخرفها واللب عندهم القشر

وتركهم حبل الأمور لغيرهم

حذاراً وقد يأتي بما نكره الحذر

وحرفية القانون حتى كأنما

على كل حرف من تحنبلهم حجر

وتعقيدها في كل أمر وعسرها

فما ضرها لو كان من شأنها اليسر

ففي كل ديوان مدير يرد من

إلى الباب يدنو أو له يصدر الأمر

وروتينها ذاك العجيب فإنه

كقيصر لا يدنو لجرأته وزر

ص: 40

وإهمالها حتى لقد قال قائل

وقد يتقي المأثور في دهره الحر

لو أن اتصاليين خلوا سبيلها

وعادوا انفصاليين كان لهم عذر

ماذا إلهي أن أقول بقولهم

ولي خلق عال ولي أدب نضر

وآباء صدق كان منهم إلى الهدى

دعاة ومنهم للعلا العسكر المجر

أللقاطع الأسباب نظرة وامق

وللواصلي أسبابها النظر الشزر

كأني لم ابن للشباب ولم أقل

قوارع آيات بها طلع الفجر

الوسطاء

روب وسيط من جنوب وشمال

أساءوا فلا ردوا الحقوق ولا بروا

وكانوا كمثل الغيم لا متزحزحاً

ولا راح يهمي من تلبده قطر

على طول تجوال وطول إقامة

لهم خبر عنها وليس لهم خبر

نصحت لهم أن يبرحوا برج عاجهم

فلم تغن آياتي ولم تنفع النذر

رواسب من عهد احتلال دهاهمو

وأنساهمو أن القيود لها كسر

احتجاج وتوجيه

ولا عيب فيهم غير أن تزلفاً

لمن في المستعمرين له قدر

فهم يستسيغون الإساءة منهم

وتصرفهم عنا لهم أعين خزر

وإلا فما بال الوجوه تنكرت

علينا وإن جاءت فمنطقهم نزر

وفيهم نراها حنظلت نخلاتها

وطاب لغير العاملين لها الثمر

إذا قيل كسب قد أردتم بقربهم

فبالك من كسب عواقبه خسر

وإن قلتم جبر الخواطر واجب

أقول وفي أشياعكم مسكم ضر

وأصبحت لا أدري أتلك سياسة

لكم دون مصر أم لها رسمت مصر

فإن كانت الأولى فهاتوا وبينوا

وإن كانت الأخرى فمدكمو جزر

حسبتم ليالي الفصل ليس لها فجر

وإن جياد الخيل يدركها البهر

إذا لمتهم قالوا السياسة تقتضي

مداورة والعيش بينكم مر

وما بي من نقض الإخلاء إنما

أنفت لهم أن لا يشد لهم أزر

عزيز علينا أن نرى الوحدة التي

أقمنا لها سوقاً بها يهبط السعر

ص: 41

لئن كان غفران الذنوب محبباً

فليس لذنب العابثين بها غفر

وهل مصر والسودان إلا عشيرة

على النيل محياها ونجراهما نجر

فإن يك قومي سائهم ما أقوله

فإن على عهد مضى يقع الإصر

تحلل فيه الناس عن كل واحب

وألقى إليهم من أزمته الغدر

وكانت أداة الحكم فيه كما رووا

وما أسير الأمثال يرسلها الشعر

(عجوز ترجى أن تكون فتية وق

د يبسا الجنبان واحدودب الظهر)

ولم أر كالتعليم حرا مقيداً

وإن شئت برهاناً فتعليمها الحر

رقاباته شتى وكل مراقب

على أذنيه من مطالبه وقر

سياسته ركت ونشت مياهها

كما الصيف نشت من سمائمه الغدر

فأما وطه بن الحسين وزيرها

فأجدر وأجدر أن يوفى لها نذر

لقد وقفت إذ قلدتك أمورها

معارف مصر واستقل بها الفكر

وقفت على باب الوزير أزفها

تحايا من السودان يأتي بها الشعر

أحييك أم أثني عليك وإنما

أحق بأن يثنى عليه بك العصر

ألست الأديب العبقري ومن غدا

من الفخر يدنو أو له ينتهي الفخر

بربك أين المكتبات ودورها

وأين من الوادي الثقافة والنشر

وهل يرتقي شعب بغير ثقافة

وهل هي إلا من قوادمه النسر

أفيضوا علينا من معارفكم يداً

يد العلم إن العلم يبقى به الذكر

عساها تجي يا ابن الحسين ديارنا

فتربتها خصب وآفاقها طهر

وقولوا لدار الكتب تمدد فروعها

إلى النفر النائي بهم منزل قفر

يراش من الشعب المهيض جناحه

وعن قوسها ترمي المثقفة السمر

وألقوا العصا بيضاء تلقف إفككم

فإني أرى الوادي يعود له السحر

ولا تحسبوها طفرة تكل كلمة

يراد بها ألا يفك لنا أسر

قضية الوادي

خليلي بالوادي أعينا أخاكما

على ما عرا في الحادثات وما يعرو

وعن ذات موضوع القضية حدنا

وقولا أحقا مالها بينكم ذكر

ص: 42

هل استنفدت أغراضها ورمى بها

إلى القاع طاغ في حقائبه مكر

مجالس للتشريع قامت ألم يقم

دليل على أن الشريك له الشطر

ثنائي حكم والمدبر واحد

وليس لكم في الحكم قل ولا كثر

وسودنة ترمي إلى غير سؤدد

وهمس وأسرار وأخرى هي النكر

فحتى متى تغضي الجفون عن القذى

ويرخى علينا من ألاعيبها ستر

الإسلام في الجنوب وأيادي مصر

وطيف خيال من ملاكال زارني

وواد وجوباً كلما أذن الظهر

بلاد بها الإسلام بث دعاته

جنوداً من الفاروق تقدمها البشر

فأثبت في مستنقع الكفر رجله

وقال لها من تحت إخصمك الحشر

وأن أنس لا أنس المساجد إنها

كثير وأرجو أن يضيق بها الحصر

جزى الله مصراً كم أياد جليلة

وكم راح من فاروق يشملنا بر

ومن مثل فاروق يفديه شعبه

ويهتف بالوادي له البيض والسمر

وشيآن بالوادي يرفان من هوى

قلوب بني الوادي وأعلامك الخضر

عبد الله عبد الرحمن الأمين

ص: 43

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

رقاعة فرنسية:

حضر إلى مصر أخيراً وفد من الصحفيين الفرنسيين، وشغلت أنباء تنقلاتهم والحفاوة بهم صحافتنا المصرية في الأسبوعين الماضيين، وتحلت بعض الصحف والمجلات بصورهم على ظهور الجمال بصورهم على ظهور الجمال عند الأهرام وأبي الهول، وتحدثوا إلى الصحفيين كما يتحدث أمثالهم دائماً عن عظمة الأهرام وسر أبي الهول، وقد يتحدثون عن كرم الضيافة، وهم في ذلك لا يقتصدون في الإشادة والثناء، ولكنهم إذا تحدثوا عن الحياة المصرية العامة، ويكون ذلك إذا رجعوا إلى ديارهم، فإنهم يتخذون من الكذب والتلفيق مادة للكتابة عن بلاد الأهرام وأبي الهول. . وما حديث جان كوكتو ببعيد، فقد جاء إلى مصر في العام الماضي مع الفرقة الفرنسية التي مثلت بعض رواياته على مسرح الأوبرا، وأكرم المصريون وفادته ونوهت الصحافة بأدبه الذي تجرد منه لما عاد إلى فرنسا وألف كتاباً في الطعن على مصر والمصريين!

وأصل الكلام بالعودة إلى الصحفيين الفرنسيين وأحاديثهم إلى الصحفيين المصريين، تحدث مندوب (أخبار اليوم) إلى الصحفية الفرنسية العجوز مدام تابوي، فجعلت تسأله: لماذا تعملون على إقامة المتاعب لنا في شمال أفريقيا؟ إنكم تلعبون بالنار إذ تشجعون هذه الشعوب. . وهي تقصد الشعوب الإسلامية وإذا كان تشجيعها لعباً بالنار فما أعظم هذا اللعب! ثم قالت الفرنسية العجوز: كنت قد أعددت مقالاً عن مصر فيه تحية طيبة لها، ولكني قرأت بعد ذلك في صحفكم رد النحاس باشا على برقية بعث بها إليه أحد زعماء الجزائر الوطنين، فما كدت أقرأ هذا الرد حتى غيرت رأيي في المقال الذي أعددته لصحيفتي في باريس، واستبدلت به مقالاً آخر! وهذا ما كسبتموه!

ورد النحاس باشا الذي أغضب مدام تابوي، هو برقية بغث بها رفعته إلى السيد مصالي الحاج رئيس حزب الشعب الجزائري رداً على تهنئته، وقد تضمن الرد أن مصر لن تألو جهداً في سبيل تحقيق الهدفين اللذين تسعى أقطار المغرب العربي إلى تحقيقها، وهما الاستقلال والانضمام إلى جامعة الدول العربية.

ص: 44

ذلك هو ما جعل المرأة الفرنسية تغير رأيها في مصر وتعدل عن الذي كتبته أولا إلى مقال آخر. . فهل كانت كتبت في المقال الأول أن مصر لا تساعد بلاد المغرب على الاستقلال والتخلص من فرنسا ثم عادت باشا أن الأمر ليس كذلك؟! أم ماذا أقول في هذا المنطق الفرنسي الأعوج؟ ثم متى كسبت مصر شيئاً من أمثالها حتى تكسب من جنابها ذلك المقال الفقيد. .؟ كل ما في الأمر أننا قوم كرماء جداً، وأن من ضيوفنا من لا يتورع عن الرقاعة!

ليت هؤلاء الفرنسيين يعلمون أن هذه الشعوب الإسلامية والعربية في المغرب والمشرق تهمنا شؤونها، إذ تجمعنا بهم روابط الدين واللغة والثقافة والتاريخ والحضارة - ليتهم يفقهون ليستيقنوا أن هذه الصداقة لا تصفو ما دامت تشوبها أعمالهم في الاعتداء على حريات إخوان لنا، والعجيب أن يتحدثوا عن الثقافة ورسالتها وهم يمنعون وسائلنا الثقافية من الوصول إلى تلك البلاد الشقية!.

وأذكر بذلك أني كنت مرة عند صديقي الأستاذ مختار الوكيل بدار الجامعة العربية وقدم علينا اثنان من الفرنسيين المشتغلين بالدراسات العربية، وكان ذلك عقب عرض القضية المصرية على الأمم، وجر حديث العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا إلى أن قال لهما الأستاذ مختار: كنا نود أن تؤازرنا فرنسا في قضيتنا! فنظر الفرنسيون أحدهما إلى الآخر وقال: سياسة! وهكذا خرجا بهذه الكلمة من حرج السؤال، وهما يومئان بها إلى أنهما منقطعان إلى محراب الفكر والدراسات البعيدة عن السياسة. . وإذا كان لأمثالها من أبناء تلك الأمم أن ينحي السياسة عن مجرى تفكيره - على فرض أن جوابهما حقيقي وليس تخلصا من الحرج - فإننا لا نستطيع أن نبعد أمانينا القومية من مشاعرنا وأفكارنا لأننا لم نستكمل حريتنا ولم نتخلص نهائياً من جرائر الاستعمار، فنحن في موقف المعتدى عليه الذي يجند كل قواه للمقاومة.

ونحن صرحاء إذ نقول ذلك، ولكنهم يتبرأن من السياسة عندما يريدون، ويخلطونها بغيرها إذا أعوزهم (البرود الإنجليزي) فلم يستطيعوا أن يملكوا أنفسهم، كما صنعت صحفية فرنسا الأولى!!

قرارات المجمع اللغوي ومدى تنفيذها

أثير في مؤتمر المجمع اللغوي بالدورة الماضية، موضوع قرارات المجمع من حيث مدى

ص: 45

تنفيذها، أثار ذلك الأستاذ ماسنيوس إذ قال: كان يحسن بنا بمناسبة النظر في قرارات هذا المؤتمر أن يعرض علينا ما وصل إليه المجمع بشأن تنفيذ قراراته القديمة، ويكون ذلك تقليداً متبعا في كل دورة من دورات المؤتمر حتى نعرف مقدار القوة التنفيذية التي المجمع، ومدى استخدامه لها.

قال الدكتور منصور فهمي باشا: هذا الموضوع من أول الموضوعات التي عني بها المجمع، وأذكر أننا تناقشنا كثيراً في الدورة الأولى حول السلطة التي يجب أن تكون للمجمع لتنفيذ قراراته حرصاً على سلامة اللغة ولكن لم يحدث إلى الآن أن تحققت للمجمع سلطة تنفيذية، ولم يتم الانسجام بين عمل المجمع في ميدان اللغة وبين الأعمال الأخرى في المصالح الحكومية المختلفة، والواقع أننا نعمل كثيراً في المجمع ولكن الصلة بيننا وبين غيرنا من الهيئات تكاد تكون مقطوعة، وأضرب لذلك مثلا أنني والأستاذ العقاد كنا حاضرين مرة في اجتماع للجنة من اللجان الحكومية، فسمعنا كلمة (استديو) فاقترح أحدنا أن يترك استعمال هذه الكلمة حتى يرى المجمع فيها رأياً.

وقال الأستاذ زكي المهندس بك: أرى أن المجمع لا ينبغي أن يحاول تنفيذ ما يقره بطريق الإلزام، فليس الأمر محصوراً بين المجمع والحكومة، بل هناك طرف ثالث وهو الجمهور، وأذن فلابد أن نسير في عملنا على مبدأ الاستحسان لا على الإلزام.

والواقع أن الصلة مقطوعة بين قرارات المجمع والبين نور الحياة، فلا أحد يستعمل ما يقره من الكلمات تلاميذ المدارس في مثل المشن والسحاح والمسرة. . وما إلى هذه من كلمات لا يجد التلاميذ لها حياة في غير كراساتهم. ولو أن مؤتمر استعرض في كل دورة من دوراته ما وصل إليه بشأن تنفيذ قراراته السابقة كما اقترح الأستاذ ماسنيون، لما كانت النتيجة غير أن يقال: لم ينفذ شيء!

والعلة في ذلك لا ترجع إلى انعدام (القوة التنفيذية) فهذه غير ممكنة وخاصة بالنسبة للجمهور كما قال الأستاذ المهندس. ولكنها ترجع إلى أسباب أخرى ذات عدد، منها عدم الاهتمام بوسائل الاتصال بالهيئات والجمهور، ومنها أن المجمع لا يزال برغم الصيحات التجديدية التي يطلقها بعض أعضائه من أمثال طه حسين وأحمد أمين والزيات، فإن كثيراً من الكلمات التي يقرها لا يمكن أبداً أن تستسيغها الأذواق مثل (الكحلكة) لتحليل الكحول.

ص: 46

وثمة كثير من الأشياء لو يضع لها أسماء، ومن العجيب أن يراد امتداد السلطة إلى هذه الأشياء التي لم تسم بالعربية، مثل (الأستوديو) فكيف يمسك الناس عن الكلام عنها حتى يضع المجمع لها اسما؟ هل يدلون عليها بالإشارة كالخرس؟!

وهنا أمر آخر على جانب كبير من الخطورة؛ ذلك أن المجمع الآن يضم الصفوة من كبار الكتاب في مصر، فمن هؤلاء يستعمل كلمات المجمع؟ إنهم يكتبون مثلاً: التليفون والراديو والسينما، ولا يقولون: المسرة والمذياع والخيالة. أقترح على المجمع أن يعقد جلسة لاستجوابهم في ذلك، فما أن يكون لهم وجهة يقتنع به ويعمل على مسايرته، وإلا عرف شأنه معهم. . .

الهمزة الحيرى

عرض على مؤتمر مجمع فؤاد للغة العربية في دورته الماضية، تقرير لجنة الأصول والإملاء في شأن كتابة الهمزة، وقد انتهت اللجنة في تقريرها إلى الاقتراحات الثلاثة الآتية:

1 -

أن تبقى قواعد كتابة الهمزة كما هي على أن يدخل عليها بعض الإصلاح الذي لا ينتظر أن ينفر منه جمهور الكاتبين، ويتلخص ذلك بأن تكتب الهمزة في الأول على ألف، وفي الوسط بحسب حركتها إذا كانت مكسورة أو مضمومة، وبحسب ما كان قبلها إذا كانت مفتوحة أو ساكنة، وفي الآخر بحسب حركة ما قبلها، فإذا كان ما قبلها ساكناً كتبت مفردة. وإذا توسطت الهمزة توسطاً عارضاً فإن كانت في الأول لم يعتد بهذا التوسط العارض بل كتبت ألفاً إلا في كلمات معدودة هي لئن ولئلا، وإذا كانت في الآخر عوملت معاملة المتوسطة.

2 -

أن تكتب الهمزة على الألف دائما في أي موضع كانت من الكلمة، ويستند هذا الاقتراح إلى أراء المتقدمين، وإلى أن بعض المصاحف كانت تكتب به.

3 -

تكتب الهمزة على ألف دائما في أي موضع كانت فإن كان الحرف الذي قبلها بوصل بما بعدها كتبت على الامتداد بين الحرفين، وإذا كان ما قبلها يوصل بما بعدها كتبت في الفضاء.

وقد ناقش المؤتمر هذه الاقتراحات، ثم رأى في جلسته الأخيرة إحالتها إلى مجلس المجمع

ص: 47

لدراستها فيه.

ولعل الاقتراح الثاني هو أسهل الثلاثة، لأنه يجعل للهمزة صورة واحدة لا تتغير بتغير موقعها في الكلمة. وقد علمت أن الاقتراح للدكتور أحمد أمين بك والأستاذ إبراهيم مصطفى. والرأي يستند - مع سهولة الرسم الذي يدعو إليه - إلى أن الهمزة والألف شيء واحد كما نص على ذلك السابقون من علماء اللغة ولم أر الأسانيد التي استند إليها صاحبا الاقتراح، والتي يشير إليها تقرير لجنة الإملاء بالمجمع، ولكني وقفت عليها إذ تذكرت بحثاً قيماً لأستاذ جليل هو الشيخ رفعت فتح الله المدرس بكلية اللغة العربية، نشره بالأهرام في (11 - 5 - 1938) تحت عنوان (الهمزة الحيرى) أوضح فيه حيرتها ورثى لها أو لمن يعانون كتابتها ومتابعتها في تقلباتها، وانتهى على أنه ينبغي أن تكتب على صورة واحدة هي صورة الألف في جميع أحوالها لا تتأثر بشكلة ولا موضع، واستند في ذلك إلى أن الألف والهمزة توأمان في وضع العربية، ومما يدل على أن صورة الهمزة هي صورة الألف أن كل حرف في أول اسمه لفظ بعينه، فإذا قلت (ياء) ففي أول حروفه (ي) وإذا قلت (تاء) ففي أوله (ت) وكذلك (جيم) و (دال) وسائر الحروف، فكذلك إذا قلت (ألف) فأول الحروف التي نطقت بها الهمزة (ا) فدل ذلك على أن صورتها هب صورة الألف.

ومما استدل به الأستاذ رفعت فتح الله من أقوال اللغويين، ما جاء في الصحاح للجوهري:(والألف من حروف المد واللين فاللينة تسمى الألف، والمتحركة تسمى الهمزة، وقد يتجوز فيما يقال أيضا: (ألف) وقول ابن جني في (سر الصناعة): (اعلم أن الألف التي في أول حروف المعجم هي صورة الهمزة في الحقيقة، وإنما كتبت الهمزة واواً مرة وياء أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف ولو أريد تحقيقها البتة لوجب أن تكتب ألفاً على كل حال، يدل على صحة ذلك أنك إذا أوقعتها موقعاً لا يمكن فيه تخفيفها ولا تكون فيه إلا محققة لم يجز أن تكتب إلا ألفاً، مفتوحة كانت أو مضمومة أو مكسورة وذلك إذا وقعت أولا نحو أخذ وأخذ إبراهيم، فلما وقعت موقعاً لابد فيه من تحقيقها اجتمع على كتبها ألفاً البتة. على هذا وجدت في بعض المصاحف (يستهزأون) بالألف قبل الواو، ووجدت فيها أيضاً (وإن من شيأ إلا يسبح بحمده) بألف بعد الياء. . الخ

وألقى الأستاذ رفعت سنة 1941 محاضرة في جمعية الشبان المسلمين كان موضوعها

ص: 48

(إصلاح الكتابة العربية (ضمنها هذا الرأي ورأى أيضاً أن تكتب الألف اللينة على صورة الألف في جميع أحوالها، قاصدا بهذا وذاك إلى رفع العسر الذي يصادف القارئ والكاتب في ضبط الكلمات وقراءتها قراءة صحيحة وقد نشر ملخص هذه المحاضرة في جريدة (المقطم)

وتومئ عبارة لجنة الإملاء بمجمع اللغة، إلى أن الأستاذ صاحبي الاقتراح يذهبان مذهب لشيخ رفعت فتح الله، فقد قالا بما قال به، واستند إلى آراء المتقدمين وإلى كتابة بعض المصاحف كما فعل. ولا شك أن رائد الجميع لوصول - في أمر هذه الهمزة التي احتارت وحيرت الناس معها. . إلى حل يريحها ويريح الناس، فعسى أن يحقق المجمع ذلك في القريب.

عباس خضر

ص: 49

‌البريد الأدبي

حولية الثقافة العربية

السنة الأولى (1948 - 1949)

أصدرت الإدارة الثقافية (حولية الثقافة العربية - السنة الأولى 48 - 1949)، وهي من وضع وتصنيف العلامة الأستاذ ساطع الحصري بك، مستشار الإدارة ولا شك في أن هذا العمل هو الأول من نوعه في مضمار الثقافة العربية المصرية ويعتبر بحق، كما قال الأستاذ المؤلف في مقدمته (افتتاحا لسلسلة الحوليات التي ستنشرها الإدارة الثقافية للجامعة العربية عن شئون الثقافة العربية كل عام). ويقع الكتاب في 623 صفحة من القطع المتوسط. وينقسم إلى قسمين - الأول في المعاهد التعليمية والثاني في المعاهد الثقافية الأخرى.

وقد بدأ القسم الأول باستعراض تاريخي للنظم والمناهج الثقافية في الأقطار العربية قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، وهذا العرض التاريخي ذو أهمية بالغة في شرح التطور التاريخي للمناهج الدراسية في العالم العربي. وعقدت الحولية، بعد ذلك مقارنات عامة، تناولت مدة الدراسة الابتدائية والثانوية، وأقسام المدارس الثانوية وفروعها وساعات الدراسة الأسبوعية ومناهج الدراسة الابتدائية والثانوية، ومناهج معاهد التعليم العالي ومناهج إعداد المعلمين والمعلمات ولغة التعليم في مختلف المدارس والتعليم المختلط. والطلاب العرب في مختلف الأقطار العربية.

وتناولت الحولية في الفصول التالية شرح مختلف مظاهر الحياة الثقافية في كل دولة من الدول العربية التالية: المملكة الأردنية الهاشمية، الجمهورية السورية، المملكة العراقية، الجمهورية اللبنانية، المملكة المصرية، مبتدأً بخلاصة إحصائية عن السنة الدراسية 47 - 1948 لكل منها، وموردة نبذة تاريخية وإحصاءات التطور الثقافي ثم متحدثه عن الأحكام التشريعية والنظم الإدارية، ومحصية المعاهد التعليمية، من مدارس أولية وابتدائية وثانوية وخاصة وعالية وجامعية وشعبية الخ. . .

وأما عن القسم الثاني فقد تناولنا الحديث عن المؤسسات العلمية والثقافية، مثل الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، والمجامع العربية في دمشق وبغداد والقاهرة، والمؤتمرات

ص: 50

العربية ودور الكتب. وللحولية تذييل اشتملعلى إحصاءات التعليم عن السنة الدراسية 48 - 1949 في الأقطار العربية.

ولا مشاحة في أن هذه الحولية تعتبر مرجعاً عاماً للباحثين والدارسين والمهتمين بتطور الشئون الثقافية والعلمية في البلاد العربية. ولقد تولت الإدارة الثقافية أمر توزيع نسخ منها على وزارات المعارف والجامعات والمكتبات العامة ومكتبات المعاهد العليا والمدارس الثانوية في الأقطار العربية المختلفة، كما وزعت منها نسخا على الصحف العربية والهيئات الدبلوماسية والقنصلية العربية في مختلف الأقطار والمؤسسات الثقافية من نوادر وجمعيات في البلاد الغربية وخصوصاً الأمريكية.

وفضلا عن ذلك، فإن الإدارة الثقافية معتزمة عرض عدد من نسخ هذه لحولية للبيع لمن يشاء من المهتمين بشؤون الثقافة وطلاب المعرفة، كما أنها ترحب بمن يشاء من الباحثين الذين يرغبون في الاطلاع على النسخ المعروضة للزبائن بمعنى الإدارة.

رأي تونسي في المخرج السينمائي المصري

نشرت مجلة الأسبوع التونسية مقلا للأستاذ سلومة عبد الرزاق في الإخراج السينمائي في مصر قال فيه:

ليس سراً إذا صرحنا بأن المخرج هو (روح الفلم) فهو الذي يسبغ على العمل متانة البناء وهو في نظر أبناء المهنة (المكبس)

والآن أين فن الإخراج في مصر؟ وكيف تطور هذا الفن في مدة العشرين سنة الأخيرة؟ وهل يمكن أن نقارنه بفن الإخراج في البلاد الأخرى؟

فإذا تكلمنا مثلاً عن السينما الإنكليزية أو الفرنسية أو الإيطالية أو الروسية أو الأمريكية تكلمنا حتما عن المخرجين في هذه البلاد المختلفة وفن الإخراج هو المرآة التي تتراءى فيها عادات كل بلد ومقدار ثقافته يقدمها هؤلاء الفنيون الذين نسميهم المخرجين.

فعندما يخرج المخرج رينيه كلير في لندرة مثلاً فإننا نحس في عمله بالروح الفرنسية. وكذلك عندما يخرج رينهارت فيلماً في هوليود فالصبغة الألمانية هي التي تسيطر على عمله. وعندما يخرج أنشتاين فيلماً في أي بلد غير وطنه فإنتاجه يكون طبيعياً ملوناً بالطابع الروسي وهذا ما نسميه بالمدرسة.

ص: 51

فالإنسان قد ينتقل إلى أي جهة من بقاع الأرض ولكنه يحمل دائماً روح وعادات وطنه.

ويرجع تاريخ الإنتاج السينمائي في مصر إلى نحو عشرين سنة ولنا الآن بضع مئات من الأفلام من إنتاج المصريين فيمكننا تحليل هذا الإنتاج على ضوء هذه الأفلام وما هو المشترك الأعظم الذي يدلنا على وجود السينما المصرية. إننا نحس في الأفلام الأخرى بسهولة الروح الفرنسية أو العادات الإنكليزية والرقة الإيطالية أو الطبائع الروسية أو البذخ الأميركي أو الفطرة الهندية فماذا نشعر به بعدما نشاهد فلما مصريا؟

في الحقيقة لا القصة ولا المناظر ولا تعبيرات الممثلين توحي بوجود فن سينمائي مستقل في مصر فلماذا ذلك، لأن المخرجين في مصر وهم الذين يختارون موضوع الفلم يتخيرون دائما القصص من الأدب الأجنبي أو المسرح الفرنسي أو مختلف الأفلام السينمائية الناجحة.

ويظهر أن (الحياء) هو الذي يمنع مخرجي مصر من إظهار عادات وحوادث مصر والمسائل التي تشغل الحياة الاجتماعية وأن السينما المصرية لا تكسب شيئاً من تمصير قصص بعض الأفلام الأجنبية (عندما يسقط الجسد) و (غادة الكامليا) و (عودة الأسير) و (روميو وجولييت) و (البؤساء) وغيرها وغيرها.

هذا بالنسبة إلى القصص المقتبسة أو الممصرة، أما بالنسبة إلى فن الإخراج فإنه لاشك قد تطور في ظرف العشرين سنة الماضية ولكن من الصعب أن نجد فناناً يرضى عن هذا التطور لأن من النادر جداً وجود أي فلم مصري يمكن مقارنته بفيلم أجنبي ولا نكون مغالين إذا اتهمنا الأكثرية من مخرجي مصر بالتهاون والإهمال في تحضير إخراج أفلامهم.

توجد عند المصريين عادة سيئة تقضي بأن المخرج وهو الحاكم بأمره في الأستوديو يرتب المناظر الفنية بل ويغير في السيناريو في اللحظة الأخيرة، وقبل بدء التصوير بدقائق، صحيح أن بعض المناظر يمكن إعدادها إعداد تاماً قبل بدء تصوير الفيلم بمدة كافية. أن كلمة (التقطيع) لها معنى واحد في جميع استوديوهات العالم إلا عند المصريين وجميع المخرجين في الخارج عندهم طريقة تخالف طريقة المخرجين المصريين.

يجب أن نتعلم فن الإخراج دراسة يصحبها جهد وتعب ويجب أن نفهم أنه إذا كنا نريد أن

ص: 52

يدرك العالم أن هناك سينما مصرية على الجميع دراسة فن الإخراج دراسة وافية وإعداد المخرجين إعداداً فنياً كاملا قبل أن يعهد إليهم بالإخراج!

سلومة عبد الرزاق

ص: 53

‌القصص

جنة. .

للأديب أحمد كمال زكي

لا تسألني لماذا لم أحدثك من قبل بكل ما أحدثك به الآن. . فأنت تعرف من قديم طريقتي الخاصة في الحياة، وتدرك ني في أغلب الأحيان أوثر نفسي بأشياء أعلم أن ليس فيها غناء لأحد. قل هي رغبة مجهولة، ولكن أرجو أن لا تزعم أني غريب شاذ كما تقول. . .

ثم هل كان ينبغي أن أقول لك أني معذب؟ بالله لا تضحك. فقد كنت معذبا حقا، ألست بشراً ككل بشر؟ وماذا في ذلك هل ثمة ما يمنع أن يبكي قلبي وقد ضحك كثيرا؟ إنني أضرع إليك أن تنصت إلى دون تساؤل أو إثارة. . فبحسبي هذا القلب يضطرم في صدري كالأتون!

والآن دعني أسألك: أتذكر متى حدثتك عن فرقة آوتني فقلت لك إنها جنة أنيقة معطورة؟ أرجو أن لا تكون نسيت. . فليس يحزنني شيء كما يحزنني منك إهمال شئوني وهي جزء من ذات نفسي. في هذه الفرقة - يا صديقي - تبدأ قصتي، وكنت قد ودعت خارجها كل شيء. . حتى صبابتي العابثة.

لقد كنت مرهقاً، وكانت أعصابي في حاجة إلى أن تستريح وكنت أطمع أن أجد الناس الذين لا يعنيهم أمري، ولا يعترضون سبيلي. . فما أنفقت أسبوعاً حتى أدركت أني أصبحت - لأول مرة - ملك نفسي. فأما صاحب الفرقة أو صاحب المسكن كله فلم يكلف نفسه قط مشقة التحدث في شيء إلا مسكنه، وما اجتمع فيه من أسباب الراحة والدعة. وأما زوجه فكانت صموتا صارمة. . كرهت فيها نظراتها النافذة وحركاتها البطيئة، ولكنها لم تحاول أن تهتك ذلك الستر الذي أقمته بيني وبين سائر سكان (البانسيون).

ولكن حادثة صغيرة غيرت كل شيء. حادثة يعلم الله أني لم أكن راغباً فيها، فقد ناءت بروحي ثقال ضخام، وأصبحت لا أريد إلا أغنية رقيقة ترفه عن نفسي وترد لها شيئاً من قرار أتريد أن تعرف ما هي؟ لا تتعجل الحوادث. . فإني أرجو أن أقص عليك كل شيء في ترتيب.

لقد كنت في يوم أهبط الدرج حين رأيتها هي. . فتاة في عمر الربيع. . رشيقة خفيفة،

ص: 54

تصخب في حياة دافقة حلوة. أرأيت إلى عصفور يفقر ذات صباح على أشجار الورد؟ لقد كانت هي أيها الصديق. .

ورمقتها. . ولأمر ما لم أستطيع أن أطرق، لا ولا أفسح لها السبيل فالتقي ذراعي ذراعها. . في لمسة ناعمة هادئة، وأردت أن أعتذر فهزت رأسها في وداعة وانفلتت كما تنفلت نسمة بين الزهور وخلفت وراءها سحبة عاطرة.

وماذا تتوقع مني بعد ذلك أيها الصديق وأنت تعرفني كل المعرفة؟ لقد فكرت فيها الكفاية. . وحين عدت إلى جنتي خيل إلى أني أشم فيها عطرها. وضج قلبي، وحاولت أن أمسك به. لقد كان يسوقني إلى ما يجب في إصرار عجيب. وأحسست وأنا واقف بنافذتي بصاحبة الدار تحمل الغداء، وتوقعت منها أن تقول طعامك. أيها السيد! ولكنها لم تفعل واكتفيت نحوها ثم. . ثم خنقت آهة كادت تثب من حلقي في دهشة وتمرد. أتدري لماذا لقد كانت (هي) يا صديقي. ولم تكن المرأة الصموت الصارمة.

اشتعلت أعماقي. . ومات الكلام على شفتي، واكتفيت بالتطلع إليها. ويبدو أن منظري كان مثيراً، فقد انطلقت تضحك. فسمعت موسيقى يرقص في أصدائها شباب مندفع يقظ. .

وفي جهد انتزعت صوتي، فإذا به همهمة بغيضة قلت لها (أنت؟) فأجابت وفي صوتها رنين أنوثة بكر: طبعا أنا. وعدت أسألها حالماً أو كالحالم: ومن تكونين؟ فأجابت في تردد مستطيل: أنا. أنا ابنة صاحب الفندق. ودفعت بأناملها شعرها ثم أدارت طهرها وانصرفت خفيفة كما أقبلت.

أتحسب أنى اعرف ماذا أكلت؟ كلا والله يا صاحبي. . فما كنت بحاجة إلى ذلك وقد تشبثت هي بخيالي وصدري لا تريد أن تبرحهما. على أنها حين عادت لترفع مائدتي الصغيرة خيل إلي أني أمير أسطورة من أساطير ألف ليلة وليلة وإلا بربك ماذا كنت أصور لنفسي وأمامي أنثى فاتنة تقوم على خدمتي؟

أين كانت هذه الحورية. ولماذا أتت؟ أكانت الأيام تدخرها لي لتضاعف من هناءتي؟ لعلها كانت في سفر. أو لعلها هبطت من السماء، فمن يدري. غير أنها كانت على أي حال ابنة صاحب الفندق. وقد أصبحت فإذا يحتويها مسكن يحتويني، فلا تسل كم وضعت من الخطط، وكم من المشرعات قتلته بحثا!!

ص: 55

وتعودت رؤيتها كل يوم، كما تعودت أن أحادثها. . . فآمنت أني بحاجة إليها، فقد كانت أنثى يعانقها شباب العشرين أنثى عذبة تطوف حولها أحلام بيض، ويوم حدثتها عن نفسي وأنا آكل قلت لها أني أريد صداقتها. صداقتها فقط.

ورضيت بهذه لصداقة ورفعت الكلفة بيني وبينها. وكانت لا تكاد تدخل غرفتي حتى ترمي خارج الباب كل شيء يقيدها وكانت أحياناً تميل برأسها فتفتر أعصابي، وتلاشى في عطرها المترف الرقيق. ولم تكن تعمد مطلقاً إلى سحب يدها من يدي حين أمسك بها.

وقنعت يا أخي منها بذلك، وأبيت أن أخطو خطوة واحدة. فقد كنت أخشى أن أرتطم بألف سد، وكان حرصي الشديد عليها يحجم بي عندما كنت أظن أنه يؤلمها. ثم كان يجب أن أدرك أن عين الأم ترقبنا دائماً. فلم يحدث أن دعوتها للخروج معي، ولم تبدر مني بادرة توحي بأني راغب في قضاء سهرة معها. غير أني كنت أحس أنها لن ترفض إذا عرضت عليها عرضاً.

إلى أن التقيت بها في إحدى صالات العرض. . وكانت مع أبيها. ورأتني فابتسمت فدنوت منها متردداً وجلاً وما رآني الرجل حتى استقبلني مرحاً ضاحكاً، واستقبلتني هي في عين راعدة وشفة تختلج إلا أنها لم تستطع أن تكتم ضحكتها حين اعتذرت عما إذا كنت قد أقحمت نفسي عليها.

وعاد الرجل يضحك، ثم انطلق صوته في سرعة وعصبية ولكنه لم يتكلم هذه المرة عن مسكنه، فقد كان وراءه ما هو أهم كما راج يقول، ولولا هي. . . لولا ابنته لكان الآن في غير المكان ثم رجاني أن أعود بها إذا مل أمانع، وانصرف قبل يعرف رأيي، وكأنه كان على ثقة من رضائي!

حدث كل هذا في وجيز وبين دقيقة وأخرى وجدت نفسي نعها، غير أني استشعرت وإياها في بحر عريض وسيع، ولم أدر أين أذهب بها. . لقد كنت أريد أن أبتعد بها عن كل عين، كنت أريد دنيا لا يسعى على أرضها أحد سوانا!

ونظرت إليها. . وكانت هي تتطلع نحوي، فأسبلت أهدابها وحاولت أن تبتسم. وكانت خجلة على اكبر الظن، أو كانت مترددة مثلي لا تدري ما تقول. واجتذبتها من ذراعها وأنا أهمس أتريدين الرجوع؟ فأجابت في جفوت: وأنت ماذا تريد؟

ص: 56

ثم قضينا مما أبدع ساعات ثلاث. ولما قفلنا راجعين كادت لدموع تطفر من مآقينا. وعلى الباب تكلمنا كثيراً، وحاولت أن تشكرني، فاستوقفتها قائلاً: اسكتي. ودعيني أتطلع إليك، فإني أرى في عينيك دنياي!

وكنا في عتمة. وعلى ضوء المصباح الشاحب رأيت هاتين العينين تلمعان، وأردت أن أقول لها شيئاً، فلم تدعني لأنها. . . لأنها قاطعتني بلثمة مذعورة من ثغرها الدقيق. ثم انثنت تصعد الدرج مسرعة وأنا خلفها. . .

وفي اليوم التالي تحدثنا عن كل شيء، واستعرضنا ما حدث ولكنا لم نتحدث عن قبلة الليل وكنت سعيداً، وكانت هي سعيدة وأقسمنا معا أن نظل وفيين أفتحسبنا كنا نلهو أيها الصديق؟ أما الأم فلم أرها، وأخبرتني هي أنها غضبى. . لعل ذلك لأنها كانت معي، أو لأنها تألمت حين علمت أن زوجها فقد بالأمس بعض ماله في غير نفع.

ثم اجترأت، وحاولت أن أعيد عليها صورة وداعنا وأمسكت بها فتخلصت مني برفق تقول: أرجوك.

وتكرر خروجها معي وفي هذه الأثناء كانت صلتي بأمها تزداد توتراً، وكأنما كان بيني وبينها ثأر قديم. لقد كنت يا صديقي أحاول أن أجعلها في جانبي، ولكنها كانت كالجواد الجموح لا يرضيها لين، ولا تخدعها رقة، ولا يقنعها تظاهري لها بالخضوع وخيل إلى أنها لا ترضى من خروجي بديلاً.

وأقسم أن هذه الفكرة روعتني، وحاولت عبثاً أن أقنع نفسي بغير ذلك وفي اليوم الذي ظننت فيه أني موشك على إزالة حدة التوتر سمعت منها رأيها بصراحة لم تعجبني. وأؤكد لك يا أخي أن صورة صاحبتي هي التي حالت بينها وبين لساني ومع ذلك فقد تفضلت وصارحتني بحاجتها إلى غرفتها.

وفزعت إلى الرجل فنصحني بالتريث، وتفقدت صاحبتي فلم أعثر لها على اثر. وبدا لي أن العجوز عملت على إبعادها من طريقي. . فهل كانت تدري صلتي بها؟ أما أنا فقد كنت أوقن أنها لا تعرف شيئاً مطلقاً. على أني في يوم وليلة اعتزمت الرحيل!

وأرجو أن لا تحسب أن هذا الرحيل كان علي سهلاً. وكان شيء واحد يشغلني هو: كيف اتصل بها. وكنت ساهماً تائها حين سمعت بابي ينفتح في رفق، فالتفت لأراها تدخل ثم

ص: 57

تغلق الباب علي وعليها. .

قالت: أسترحل؟ بالله قل لا، فأنا أريدك هنا.

وقمت لها وهمست: وأمك. . إنها لا تحبني ولا تريدني وأطرقت قليلاً ثم رفعت رأسها فإذا بدموع غزار تأتلق على خديها وتمزق قلبي أساً وأسفاً.

وتقدمت نحوي وانطوت بين ذراعي في وداعة، وأخذت تضغط على صدري كأنما تخشى علي شيئاً. ورفعت يدي لأمسح دموعها. . . ولأول مرة أحس أن شيطاني يتخلى عني فلا يغريني بإثم دفئ. ولم تغادرني إلا بعد أن أخذت مني وعداً بالبقاء. .!

يا صديقي لا تجعلني أطيل وقوفي هنا؛ فبحسبي أن أقول أني استشعرت أني أحبها من أعماقي. وآمنت أنها وإن كانت أنثى فهي لم تكن ككل واحدة. . كان يخيل إلي أنها غير من عرفت، وكان نجاحها في قتل غرائزي هو ما رفعها في عيني أنا الذي كان ينظر إلى المرأة دائماً نظرة جائعة. ملأني حبها فأحببت روحه. وهل كلن في وسعي أن أنسى هذه الليلة التي جمعتنا فيها ابتهاله مؤمنة طاهرة؟

إن نفسي أيها الصديق لم تنطو على طيش ونزق. ويوم عرفت أن بجانبي عذراء تريد أن تبقى نقية طاهرة حرصت على أن أصونها ولما رجتني أن لا آتي بما يعكر صوف علاقتنا قررت أن أنتظر. . وفي أثناء ذلك حاولت عبثاً كسب صداقة أمها.

لقد أصبحت هذه تؤرق مضجعي وتقلق راحتي وكنت من حين إلى حين ألمحابنتها فأرى في عينيها توسلا، وأحس بروحها الآلمة ترجو مني أن أبقى. . . من أجلها!!

وفي ظهيرة أحد الأيام - وكانت أمها في المطبخ - دخلت علي لهفه جازعة. وفي روعة المفاجأة نسينا نفسنا فاحتضنا، ورفعت إلي ثغرها فقبلتها، وارتعدت شفتاها في همس باك: سأسافر في الغد. . . ولن تبقى أنت أيضاً فلا أريد أن تبقى معها.

فأسرعت أقول: لنهرب. . فلن يمنعنا شيء من ذلك؛ فأنا أحبك وأريدك لنفسي. فاستضحكت في مرارة وقالت: أنسيت أني. . . أني مسيحية؟!

وطفرت من عينيها الدموع، ومالت علي تقول: ولكن تذكرني. . . تذكر أني أحببتك حبا باركته الأحلام والدموع والأنات. وانفلتت خارجة. . . ولم أرها بعد ذلك!

أجل يا صديقي. . . لقد أصبحت فإذا ورقة تحمل عطرها بجانب بابي، وقرأتها فإذا بها

ص: 58

هذه الكلمات (ربما كان هذا كله حلماً. . أو ربما يكون واقعاً عشنا فيه. اسأل نفسك فسأسأل أنا نفسي دائما وعزائي أنك كنت معي لطيفاً مخلصاً).

وقبلت الورقة، ووضعتها في جيبي. وانطلقت خارجاً، ولم أعد إلا لأحمل حقائبي. . وتركت جنتي لأعيش على الأرض مع البشر!

أحمد كمال زكي

ص: 59