المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 87 - بتاريخ: 04 - 03 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٨٧

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 87

- بتاريخ: 04 - 03 - 1935

ص: -1

‌مصر وأخواتها

كأنما السؤال عن الناس كسؤال الناس لا يتفق مع الرخاء ولا يكون مع الغنى! فإن مصر والعراق يكادان من سعة العيش لا يذكران من وراء الحدود؛ والوحدة العربية في البلدلين على الرأي الأغلب حديث خُرافة أو حديث مجاملة! فلولا الأدب الذي يجمع الفؤاد بالفؤاد، ويربط البلاد بالبلاد، ويصل الأحفاد بالأجداد، لظلت منابت العروبة ومواطن الإسلام إغفالاً لا تُعرف، وإرحاءاً لا تُبلُ.

يزور المصري قطراً من أقطار العرب، فيكون أول ما يرد على سمعه عتب المحبين على الهجر، ولوم الأقربين على القطيعة، وعذل الجيرة على التخاذل؛ فيلقي معاذيره الملوم المحُرج في منطق عي ودفاع غير ناهض؛ ثم يزداد حرجه وتتخاذل حججه كلما رأى قلوبهم، تزخر بعواطفه، وصدورهم تجيش بأمانيه، وألسنتهم تضطرب بأخباره، ونهضتهم تسترشد بنهضته، ووجتههم تسير مع وجهته؛ فصحفه تُقرأ، وكتبه تدرس، وسياسته تحتذي وزعامته تتبع؛ ثم خصومته هي لهم خصومة، وحكومته هي عليهم حكومة، وقومه لقومهم أهل، وبلده لبلادهم قبلة حينئذ يقول لنفسه والخجل والعجب يتعاقبان على وجهه: إن وطني مترامي الحدود فلماذا أحده على الضيق؟ وقومي ضخام العديد فلماذاأحصرهم على القلة؟ وجيراني كرامُ يصفون المودة، ويصدقون العطف، ويولون المعونة، فلماذا أجعل بيني وبينهم سداً من الإهمال والغفلة؟ ن الأمم القوية الناضجة لَتُرخص الأموال والأنفس في التمكين لأدبها ونفوذها وعُروضها في الشرق، فكيف نعرض نحن عن ذلك وهو يأتينا عفواً عن طريق القرابة في البلد والنسب، والوحدة في اللغة والأدب، والمشابهة في الحظ والحالة؟

دع ما ترشد إليه الغريزة من تعاطف الأهل، وتناصر الضعاف، وتعاون الجيرة، وانظر في الأمر من جهة الفائدة: أليست سورية منفذ العراق إلى البحر المتمدن، والسودان طريق مصر إلى النهر المحيي؟؟ ومع ذلك فالعراق مصروف الهم عن سورية، ومصر قليلة العلم بالسودان، فلا تعرف عنه إلا أنه جزء من سياستها! أما أنه قطعة من جسمها، وكلمة من اسمها، فذلك ما لم تعلمه إلا بالسماع، ولم تفهمه إلا في المدرسة

يزور الرسالة الحين بعد الحين أخ من السودان أديب أو طالب، فلا نسمعه يقول أول ما يقول إلا هذا المعنى الواحد في صيغه المتعددة: لأننا لنعلم عنكم كل شيء، وإنكم لتجهلون

ص: 1

عنا كل شيء! فسياستكم لا تعرف السودان إلا في المفاوضات، وأدبكم يقف بالوادي عند (الشلالات). وصحافتكم لا تدري أفي الأرض نحن أم في السموات! فهل عُني سياسي بتعرف بلادنا، أم تفرغ أديب لتصوير حياتنا، أم توفر صحافي على درس أحوالنا؟ ولعمري إذا فرقتنا السياسة ولم يجمع شملنا الأدب، فعلى أي صورة نلتقي، وعلى أي حال نتحد؟

ذلك ما يشكوه السوداني المخلص، ويأسى على حدوثه المصري المخلص، وبين الأسى والشكوى ناشئة من الأمل المسفر، وعزيمة من العمل المثمر، تتجليان في العاملين الصادقين من شباب الوادي وكهوله. فالعمل الجليل الذي هُديَتْ إليه ووُفقتْ فيه (البعثة الاقتصادية المصرية) من الرحلة إلى السوادن، والاختلاط بأهله، والاتصال برجاله، والاطلاع على أحواله، والتحدث إلى حكامه، فاتحةُ فصل جديد من تاريخ النيل الحديث، سيسجل فيه رجال الأعمال والأموال تصافُقَ البلدين الشقيقين على المودة وتواصلهما على المنفعة، وتآلفهما على التعاون

فتحت هذه البعثة الميمونة أبواب السوادن الحصينة للنشاط الاقتصادي المصري، وهيأت الأسباب إلى اجتماع الأيدي التي يسقيها النيل ويطعمها النيل على استغلال خصبه في عمران أرضه، واستثمار خيره لسكان حوضه

فإذا أضفنا إلى ذلك عناية الأدب والصحافة بتوحيد الهوى والثقافة، ألفنا من أغاريد الوادي، أعاليه واسافله، نشيداً واحداً تردده الشفاه البيض والسمر، وتتجاوبه سلاسل الجبال الخالدة.

إن الاقتصاد والأدب يكونان الجسم والروح، فلا بد منهما أولا لإنشاء الأمة وإذكاء النهضة وإحكام الصلة؛ وما غزا الغربيون ممالك الشرق إلا بالتعليم والتجارة؛ أما السياسة فلا تأتي إلا آخر الأمر، فتؤيد الواقع، وتثبت الحالة، وتنظم العلاقة، وتحمي المنفعة.

من أجل ذلك كان احتفال المصريين بوداع (البعثة) المصرية ولقاءها، واحتفاء السودانيين بفكرتها وأعضائها. هزاتٍ من العواطف الصادقة والحماسة الدافقة والشعور الواثق المطمئن بأسفار المستقبل عن وجوه الفوز، فيتصل الحبل وينتظم الشمل وتقوم الوحدة بين الشعبين الأخوين على أساس صحيح.

إن من وراء حدودنا اليابسة يا قوم آداباً لا تقل عن آدابنا يحسن أن تُعرف، وشعوباً تتصل

ص: 2

بأنسابنا يجب أن تُؤلف، وأسواقاً تفتقر إلى إنتاجنا ينبغي أن تُكشف.

أما حَصْر النظر في حدود البحر فإدمان يفرق البصر، ويجمع الخطر، ويهجم بقوميتنا وأمانينا على الغرق!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الطفولتان

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

عصمت ابنُ فلان باشا طفلُ مُترف يكاد ينعصرُ ليناً، وتراه يرف رفيفاً مما نشأ في ظلال العز، كأن لروحه من الرقة مثل ظل الشجرة حول الشجرة. وهو بين لِداته من الصبيان كالشوكة الخضراء في أملودها الريان، لها منظر الشوكة على مجسة لينة ناعمة تُكذب أنها شوكةٌ إلا أن تيبس وتتوقح.

وأبوه (فلان باشا) مديرٌ لمديرية كذا، إذا سُئل عنه ابنه قال: إنه مدير المديرية. لا يكاد يعدو هذا الترتيب، كأنه من غُرور النعمة يأبى إلا أن يجعل أباه مديراً مرتين. . . . وكثيراً ما تكون النعمة بذيئة وقاحاً سيئة الأدب في أولاد الأغنياء، وكثيراً ما يكون الغني في أهله غنىً من السيئات لا غير!

وفي رأي عصمت أن أباه من علو المنزلة كأنه على جناح النسر الطائر في مسبحه إلى النجم، أما آباه الأطفال من الناس فهم عنده من سقوط المنزلة على أجنحة للذباب والبعوض!

ولا يغدو ابنُ المدير إلى مدرسته ولا يتروحُ منها إلا وراءه جندي يمشي على أثره في الغدوة والروحة إذا كان ابن المدير، أي ابنَ القوة الحاكمة، فيكون هذا الجندي وراء هذا الطفل كالمنبهة له عند الناس، تُفْصحُ شارته العسكرية بلغات السافلة جمعاء أن هذا هو ابن المدير. فإذا رآه العربي أو اليواني، أو الطلياني أو الفرنسي، أو الإنجليزي أو كائن من كان من أهل الألسنة المتنافرة التي لا يفهم لسانٌ منها عن لسان - فهموا جميعاً من لغة هذه الشارة إن هذا هو ابن المدير؛ وانه من الجند الذي يتبعه كالمادة من القانون وراءها الشرح. . . .!

ولقد كان يجب لابن المدير هذا الشرفُ الصبياني. لو أنه يوم وِلُد لم يولد ابن ساعته كأطفال الناس، بل ولد ابن عشر سنين كاملة لتشهد له الطبيعة أنه كبيرٌ قد انصدعت به معجزة! وإلا فكيف يمشي الجندي من جنود الدولة وراء طفل فيتبعه ويخدمه وينصاع لأمره؛ وهذا الجندي لو كان طَريدَ هزيمةٍ قد فر في معركة من معارك الوطن، وأريد تخليده في هزيمته وتخليدها عليه بالتصوير - لما صور إلا جندياً في شارته العسكرية منقاداً لمثل

ص: 4

هذا الطفل الصغير كالخادم؛ في صورة يُكتب تحتها: (نُفًايَة عسكرية!)

ليس لهذا النظر الكثير حدوثه في مصر إلا تأويلٌ واحد: هو أن مكان الشخصيات فوق المعاني وان صغرت تلك وجلت هذه؛ ومن هنا يكذبُ الرجل ذو المنصب، فيرفع شخصه فوق الفضائل كلها؛ فيكبر عن أن يكذب، فيكون كذبه هو الصدق، فلا ينكر عليه كذبة أي صدقة. . . . .! ويخرج من ذلك أن يتقرر في الأمة أن كذب القوة صدق بالقوة!

وعلى هذه القاعدة يقاس غيرها من كل ما يخذل فيه الحق. ومتى كانت الشخصيات فوق المعاني السامية طفقت هذه المعاني تموجُ مَوجها محاولةً أن تعلو، مكرهة على أن تنزل؛ فلا تستقيم على جهةٍ ولا تنتظمُ على طريقة؛ وتقبل بالشيء على موضعه، ثم تكرُّ كرها فتدبرُ به إلى غير موضعه، فتضُّل كل طبقةٍ من الأمة بكبرائها، ولا تكون الأمة على هذه الحالة في كل طبقاتها إلا صغاراً فوقهم كبارهم؛ وتلك هي تهيئةُ الأمة للاستعباد متى ابتليت بالذي هو أكبر من كبارها؛ ومن تلك تنشأ في الأمة طبيعةُ النفاق يحتمي به الصغر من الكبر، وتنظم به ألفةُ الحياة بين الذلة والصولة!

وتخلف الجندي ذات يوم عن موعد الرواح من المدرسة، فخرج عصمت فلم يجده، فبدا له أن يتسكع في بعض طرق المدينة لينطلق فيه ابن آدم لا ابن المدير، وحن حنينه إلى المغامرة في الطبيعة، ولبست الطرق في خياله الصغير زينتها الشعرية بأطفال الأزقة يلعبون ويتهوشون ويتعابثون ويتشاحنون، وهم شتى وكأنهم أبناء بيتٍ واحد مست بكل من كل رحمٌ، إذ لا ينتسبون في اللهو إلا إلى الطفولة وحدها

وانساق عصمت وراء خياله، وهرب على وجهه من تلك الصورة التي يمشي فيها الجندي وراء ابن المدير، وتغلغل في الأزقة لا يبالي ما يعرفه وما لا يعرفه، إذ كان يسير في طرقٍ جديدة على عينه كأنما يحلم بها في مدينةٍ من مدن النوم

وانتهى إلى كبكبةٍ من الأطفال قد استجمعوا لشأنهم الصبياني، فانتبذ ناحية ووقف يصغي إليهم متهيباً أن يقدم، فاتصل بسمعه ونظره كالجبان، وتسمع فإذا خبيث منهم يعلم الآخر كيف يضرب إذا اعتدى أو أعتُدي عليه، فيقول له: اضرب أينما ضربت، من رأهس، من وجهه، من الحُلقوم، من مراق البطن؛ قال الآخر: وإذا مات؟ فقال الخبيث: وإذا مات فلا تقُل إني أنا علمتُك. . .!

ص: 5

وسمع طفلاً بقول لصاحبه: أما قلت لك إنه تعلم السرقة من رؤيته اللصوص في السيما؟ فأجابه صاحبه: وهل قال له أولئك اللصوص الذين في السيما كن لصاُ واعمل مثلنا؟

وقام منهم شيطان فقال: يا أولاد البلد، أنا المدير! تعالوا وقولوا لي (يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات. .)

فقال الأولاد في صوت واحد: (يا سعادة الباشا، إن أولادنا يريدون الذهاب إلى المدارس، ولكنا لا نستطيع أن ندفع لهم المصروفات) فرد عليهم (سعادته): اشتروا لأولادكم أحذية وطرابيش وثياباً نظيفة، وأنا أدفع لهم المصروفات

فنظر إليه خبيث منهم وقال: يا سعادة المدير، وأنت فلماذا لم يشتر لك أبوك حذاء. .؟

وقال طفل صغير: أنا ابنك يا سعادة المدير، فأرسلني إلى المدرسة وقت الظهر فقط. . . .!

وكان عصمت يسمع ونفسه تهتز وترف بإحساسها كالورقة الخضراء عليها طل الندى، وأخذ قلبه يتفتح في شعاع الكلام كالزهرة في الشمس؛ وسكر بما يكسر به الأطفال حين تقدم لهم الطبيعة مكان اللهو معداً مُهيأ كالحانة ليس فيها إلا أسباب السكر والنشوة، وتمام لذاتها أن الزمن فيها منسي، وأن العقل فيها مُهمل. . .

وأحسن ابن المدير أن هذه الطبيعة حين ينطلق فيها جماعة الأطفال على سجيتهم وسجيتها - إنما هي المدرسة التي لا جُدران لها، وهي تربيةُ الوجود للطفل تربية تتناوله من أدق أعصابه فتبدد قواه ثم تجمعها له أقوى ما كانت، وتفرغه منها ثم تملؤه بما هو أتم وأزيد. وبذلك تكسبه نمونشاطه، وتعلمه كيف ينبعث لتحقيق هذا النشاط، فتهديه إلى أن يبدع بنفسه ولا ينتظر من يبدع له، وتجعلُ خطاه دائماً وراء أشياء جديدة فتسدده من هذا كله إلى سر الإبداع والابتكار، وتلقيه العلم الأعظم في هذه الحياة، علم نضرة نفسه وسرورها ومرحها، وتطبعه على المزاج المتطلق المتهلهل المتفائل، وتتدفق به على دنياه كالفيضان في النهر، تفور الحياة فيه وتفور به، لا كأطفال المدارس الخامدين، تعرف للواحد منهم شكل الطفل وليس له وجوده ولا عالمه، فيكون المسكين في الحياة ولا يجدها، ثم تراه طفلاً صغيراً وقد جمعوا له همومَ رجل كامل!

ودبت روحً الأرض دبيبها في عصمت، وأوحت إلى قلبه بأسرارها، فأدرك من شعوره أن هؤلاء الأغمار الأغبياءَ من أولاد الفقراء والمساكين، هم السعداءُ بطفولتهم. وأنه هو

ص: 6

وأمثاله هم الفقراءُ والمساكين في الطفولة، وأن ذلك الجندي الذي يمشي وراءه لتعظيمه إنما هو سجن، وأن الألعاب خير من العلوم، إذ كانت هي طفلية الطفل في وقتها، أما العلوم فرُجولةٌ مُلزقةٌ به قبل وقتها توقره وتحوله عن طباعه، فتقتل فيه الطفولة وتهدم أساسَ الرجولةَ، فينشأ بين ذلك لا إلى هذه ولا إلى هذه، ويكون في الأول طفلاً رجلاً، ثم يكون في الآخر رجلاً طفلاً.

وأحس مما رأى وسمع أن مدرسة الطفل يجب أن تكون هي بيته الواسعَ الذي لا يتحرجُ أن يصرخ فيه صراخه الطبيعي، ويتحرك حركته الطبيعة، ولا يكون فيه مدرسون ولا طلبة، ولا حاملو العُصي من الضباط؛ بل حق البيت الواسع أن تكون فيه الأبوة الواسعة، والأخوة التي تنفسح للمئات؛ فيمر الطفل المتعلم في نشأته من منزل إلى منزل إلى منزل، على تدريج في التوسع شيئاً فشيئاً، من البيت إلى المدرسة إلى العالم

وكان عصمت يحلم بهذه الأحلام الفلسفية، وطفولته تشب وتسترجل، ورخاوته تشتد وتتماسك؛ وكانت حركاتُ الأطفال كأنها تحركه من داخله، فهو منهم كالطفل في السيما حين يشهد المتلاكمين والمتصارعين، يَستطيرُه الفرحُ، ويتوثب فيه الطفل الطبيعي بمرحه وعنفوانه، وتتقلص عضلاته، ويتكشف جلده، وتجتمع قوته؛ حتى كأنه سيُظاهر أحدَ الخصمين ويلكم الآخر فيكوره ويصرعه، ويفض معركة الضرب الحديدي بضربته اللينة الحريرية. . .!

فما لبث صاحبنا الغريرُ الناعمُ أن تخشن، وما كذب أن اقتحم، وكأنما أقبل على روحه الشارعُ والأطفال ولهوهم وعبثهم، إقبال الجو على الطير الحبيس المعلق في مسمار، إذا انفرج عنه القفص، وإقبال الغابة على الوحش القنيص إذا وثب وثبة الحياة فطار بها وإقبال الفلاة على الظبي الأسير إذا ناوصَ فأفلتَ من الحبالة

وتقدم فادغم في الجماعة وقال لهم: أنا ابن المدير. فنظروا إليه جميعاً ثم نظر بعضهم إلى بعض، وسفرت أفكارهم الصغيرة بين أعينهم، وقال منهم قائل: إن حذاءه وثيابه وطربوشه كلها تقول أن أباه المدير

فقال آخر: ووجهه يقول إن أمه امرأة المدير!

فقال الثالث: ليست كأمك يا بعطيطي ولا كأم جُعْلُص!

ص: 7

قال الرابع: يا ويلك لو سمعُ جعلص، فان لكماته حينئذ لا تترك أمك تعرف وجهك من القفا!

قال الخامس: ومن جعلص هذا؟ فليأت لأريكم كيف أصارعه، فاجتذبه، فاعصره بين يدي، فأعتقل رجله برجي، فأدفعه، فيتخاذل، فأعركه، فيخرُّ على وجهه؛ فأسمره في الأرض بمسمار!

فقال السادس: ها ها! إنك تصف بأدق الوصف ما يفعله جعلص لو تناولك في يده. . .!

فصاح السابع: ويلكم! هاهو ذا. جعلص، جعلص، جعلص!

فتطاير الباقون يميناً وشمالاً كالورق الجاف تحت الشجر إذا ضربته الريح العاصف. وقهقه الصبي من ورائهم فثابوا إلى أنفسهم وتراجعوا. وقال المستطيل منهم: أما إني كنت أريد أن يعدو جعلص ورائي، فأستطردُ إليه قليلاً أطمعه في نفسي، ثم أرتد عليه فآخذه كم فعل (ماشيست الجبار) في ذلك المنظر الذي شاهدناه

وقهقه الصبيان جميعاً. . . .! ثم أحاطوا بعصمت إحاطة العشاق بمعشوقة جميلة، يحاول كل منهم أن يكون المقرب المخصوص بالحظوة، لا من أجل أنه ابن المدير فحسب، ولكن من أجل أن ابن المدير تكون معه القروش. . . فلو وُجدت هذه القروش مع ابن زبال لما منعه نسبه أن يكون أمير الساعة بينهم إلى أن تنفذ قروشه فيعود ابن زبال. . .!

وتنافسوا في عصمت وملاعبته والاختصاص به، فلو جاء المدير نفسه يلعب مع آبائهم ويركبهم ويركبونه، وهم بين نجار وحداد، وبناء وحمال، وحوذي وطباخ، وأمثالهم من ذوي المهنة والمكسبة الضيئلة - لكانت مطامع هؤلاء الأطفال في ابن المدير، أكبر من مطامع الآباء في المدير.

وجرت المنافسة بينهم مجراها، فانقلبت إلى مُلاحاة، ورجعت هذه الملاحاة إلى مشاحنة، وعاد ابن المدير هدفاً للجميع يدافعون عنه وكأنما يعتدون عليه، إذ لا يقصد أحدٌ منهم أحدا بالغيظ إلا تعمدَ غيظ حبيبه ليكون أنكأ له وأشد عليه!

وتظاهروا بعضهم على بعض، ونشأت بينهم الطوائل، وأفسدهم هذا الغني المتمثل بينهم، ويا ما أعجب إدراك الطفولة وإلهامها! فقد اجتمعت نفوسهم على رأي واحد. فتحولوا جميعاً إلى سفاهة واحدة أحاطت بابن المدير، فخاطره أحدهم في اللعب فقمره، فأبى إلا أن يعلوَ

ص: 8

ظهره ويركبه؛ وأبى عليه ابن المدير ودافعه، يرى ذلك ثلماً في شرفه ونسبه وسطوة أبيه؛ فلم يكد يعتلُ بهذه العلة ويذكر أباه ليعرفهم آباءهم. . . . حتى هاجت كبرياؤهم، وثارت دفائنهم، ورقصت شياطين رءوسهم؛ وبذلك وضع الغبي حقد الفقر بازاءُ سخرية الغني؛ فألقى بينهم مسئلة المسائل الكبرى في هذا العالم، وطرحها للحل. . . . . .!

وتنفشوا للصولة عليه، فسخر منه أحدهم، ثم هزأ به الآخر، وأخرج الثالثُ لسانه؛ وصدمه الرابع بمنكبه؛ وأفحش عليه الخامس؛ ولكزه السادس؛ وحثا السابع في وجهه التراب!

وجهد المسكين أن يفر من بينهم فكأنما أحاطوه بسبعة جدران فبطل إقدامه وإحجامه، ووقف بينهم كما كتب الله. . .! ثم أخذته أيديهم فانجدل على الأرض، فتجاذبوه يمرغونه في التراب!

وهم كذلك إذا انقلب كبيرهم على وجهه، وانكفأ الذي يليه، وأزيح الثالث، ولُطمَ الرابع، فنظروا، فصاحوا جميعاً:(جُعْلُص، جعلص!) وتواثبوا يشتدون هرباً. وقام عصمت ينتخلُ الترابُ من ثيابه وهو يبكي بدمعه وثيابه تبكي بترابها. . .!

ووقف ينظر هذا الذي كشفهم عنه وشردتهم صولته، فإذا جعلص وعليه رجفانٌ من الغضب، وقد تبرطمت شفته وتقبض وجهُه كما يكون (ماشيست) في معاركه حين يدفع عن الضعفاء.

وهو طفل في العاشرة من لِدات عصمت، غير أنه مُحتنكٌ في سن رجل صغير؛ غليظٌ عَبلٌ شديدُ الجبلة متراكبٌ بعضه على بعض، كأنه جني متقاصر يهم أن يطولَ منه المارد. فأنس به عصمت، واطمأن إلى قوته، وأقبل يشكو له ويبكي!

قال جعلص: ما اسمك؟

قال: أنا ابن المدير. . . .!

قال جعلص: لا تبك يا ابن المدير. تعلم أن تكون جلداً، فإن الضرب ليس بذلٍ ولا عار، ولكن الدموع هي تجعله ذلاً وعاراً؛ إن الدموع لتجعل الرجل أنثى. نحن يا ابن المدير نعيش طول حياتنا إما في ضرب الفقر أو ضرب الناس، هذا من هذا؛ ولكنك غنيٌ يا ابن المدير، فأنت كالرغيف (الفينو) ضخمٌ مُنتفخٌ ولكنه ينكسر بلمسه، وحشوهُ مثل القطن!

ماذا نتعلم في المدرسة يا ابن المدير إذا لم تعلمك المدرسة أن تكون رجلاً يأكل من يريدُ

ص: 9

أكله؛ وماذا تعرف إذا لم تكن تعرف كيف تصبر على الشر يوم الشر، وكيف تصبر للخير يوم الخير، فتكون دائماً على الحالتين في خير؟

قال عصمت: آه لو كان معي العسكري!

قال جعلص: ويحك؛ لو ضربوا عنزاً لما قالت: آه لو كان معي العسكري!

قال عصمت: فمن أين لك هذه القوة؟

قال جعلص: من أني أعتملُ بيدي فأنا أشتد، وإذا جعتُ أكلت طعامي؛ أما أنت فتسترخي، فإذا جعت أكلك طعامك، ثم من أني ليس لي عسكري. . .!

قال عصمت: بل القوةٌ من أنك لستَ مثلنا في المدرسة؟ قال جعلص: نعم، فأنت يا ابن المدرسة كأنك طفلٌ من ورق وكراسات لا من لحم، وكأن عظامك من طباشيرّ أنت يا ابن المدرسة هو أنتَ الذي سيكون بعد عشرين سنة، ولا يعلم إلا الله كيف يكون؛ وأما أنا ابن الحياة، فأنا من الآن، وعلي أن أكون (أنا) من الآن!

أنتَ. . .

وهنا أدركهما العسكري المسخر لابن المدير، وكان كالمجنون يطير على وجهه في الطرق يبحث عن عصمت، لا حباً فيه ولكن خوفاً من أبيه. فما كاد يرى هذا العفر على أثوابه حتى رنت صفعته على وجه المسكين جعلص

فصعر هذا خده، ورشق عصمت بنظره، وانطلق يعدو عدو الظليم!

يا للعدالة! كانت الصفعةُ على وجه ابن الفقير، وكان الباكي منها ابن الغني. . .!

وأنتم أيها الفقراء، حسبكم البطولة؛ فليس غَنى بطل الحرب في المال والنعيم، ولكن بالجراح والمشقات في جسمه وتاريخه؟

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 10

‌السر الموزع

للآنسة النابغة (مي)

وسط الهرج الذي يحدثُ عادةً عند انفضاض مجلسٍ من المجالس تناثر الزائرون في الردهة يهمون بالانصراف مودعين أهل الدار وشاكرين لهم حفاوتهم، متبادلين مع هؤلاء وأولئك التحية والمصافحة، متواعدين فيما بينهم على الاجتماع في فرصةٍ قريبة

أما ذلك الفتى فمضي يتسلل خلسةً، هرباً من كل شخصٍ خطر وللتملص منهم جميعاً:(والشخص الخطر) في تلك الحال هو أي شخص قد يشتبك معهُ في حديث ويصحبهُ إلى الخارج، إنه يحتاج إلى الوحدة لا يعكر عليه صفاءها أحد، لأنه في تلك الحالة النفسية التي تبدو فيها الحياةُ طريفةً وتبدوا فيها الخليقةُ وكأنها خرجت الساعة من يدِ الباري غضةً جديدة

خرج إلى الرصيف وجال نظرهُ يبحثُ بين الناس والسيارات فاستقرت عيناه على خمس فتيات من اللائي حضرن الاجتماع، وقد أحطن بسيارة كبيرة أخذن يتوارين في داخلها الواحدة بعد الأخرى، فكانت الأخيرة في التواري صاحبة الثوب ذي الزرقة (الكهربائية). فجهد الفتى ليرى منها جميع حركاتها فرأى فيما رأى أنها التفتت إلى الوراء، شأن من يبحث عن شيءٍ أو شخص. وسرعان ما لمحتْ رأسه والتفت عيناها بعينه عن بعد. فأدركت أن نظره يتبعها ويرقبها، وأدرك هو أنها تأخرت والتفتت لتبحث عنه. فما إن تلاقي نظراهما وفاجأهما ذلك الإدراك حتى أعرض كلٌ منهما على عجل كأنما هو يخجل بانكشاف أمره. وعندما تحركت السيارة مندفعة إلى الأمام أرسل الفتى نظره يشيعها في حرية واطمئنان

- هأنذا! انتظرني أم تبحث عني؟

لقد وقع ما كان يخشاه، ولحق به زميل لم يكن ليتحاشى مصاحبته أو ينفر من حديثه عادة. ولكن الآن. . .

- هيا بنا إلى جروبي!

فتلكأ الشاب قليلاً وقال: - إني على موعد

- أي موعد؟ ألم نتفق عندما جئنا هذه الدار على موافاة أصحابنا عند جروبي بعد الخروج

ص: 11

من هنا؟

- آه. . . نسيت!

- أنسيت الموعد أم نسيت اتفاقنا؟

- نسيت الموعد. . .

- نسيت الموعد فلم تذكره إلا على الرصيف. . . إذا أوصلك بسيارتي إلى المكان الذي تقصد إليه، ثم أسبقك إلى جروبي حيث توافينا بعدئذٍ

رأى الفتى أن لا مفر من المقدور ، ولو نجح في التفلت من صاحبه هذا فليس مضموناً أن يتفلت من غيره في مكان آخر.

فتراخت عزيمته واستسلم:

- الواقع أن الموعد اختياري يمكن تأجيله. هيا إلى جروبي

أما الفتيات الخمس فقد سارت بهن السيارة إلى ناحية الجزيرة وهن يتحدثن جميعاً في آن واحد وليس بينهن من تصغي. وعلامَ الإصغاء؟ المهم هو الكلام. وقد سرت الفتيات بتلاقيهن في هذا الاجتماع، وسررن باتفاق والدتهن بعده على الهاب معاً لتأدية فروض التعزية في بعض البيوت، فاتفقن فيما بينهن على ركوب سيارة إحداهن التي تعهدت بأن (توزع) صاحباتها على بيوتهن مجاناً لوجه الله الكريم وبدون (أكسيدان). وثم فرصة مواتية لتبادل الآراء وإبداء الملاحظات على حفلة الاستقبال وعلى الذين حضروها، إذا تيسر شيء من ذلك عند ما يأبين جميعاً احتمال فريضة السكوت. . . بيد أنهن سكتن فجأة عندما أنشأت إحداهن تنتقد هندام السيدات وتبرجهن وذوقهن وجمالهن. هذا حديث لذيذ حقاً، يوافقن عليه ويؤيدنه وإن كن في قلوبهن مقتنعات بعكس ما يقال. وإذ توغل النقد فأمسى لاذعاً، طربن طرباً ورنت ضحكاتهن بريئة، في نظرهن على الأقل. ونادت إحداهن صاحبة الثوب الأزرق قائلة: ألا تشاركينا في الضحك؟ ألا تسمعين؟

- أنا اتخذت لي محلاً مختاراً قرب (الشوفير) ولذلك أصبحتُ مسؤولة عن سلامتكن، وعلى أن أظل هادئة لئلا يحدث لنا (أكسيدان)

- بعد الشر! إذا تحتم (الأكسيدان) فليكن بعد وصولي إلى البيت سالمة. وها قد وصلنا والحمد لله! فتستطيعين الآن أن تستبدلي بمكانك مكاني داخل السيارة

ص: 12

وبعد وقوف السيرة ونزول الفتاة التي كانت تتكلم، حدثت مناقشةٌ لإقناع جارة السواق بتغيير مكانها ،. فأبت مؤكدة أنها هنا على ما يرام، وأنها تريد حراستهن إلى النهاية. واستأنفت السيارةُ السير والفتيات يضحكن من جارة السواق لأنها (كونسرفاتريس) وينصحن لها بأن تلبس العمامة للاندماج في هيئة كبار العلماء في الأزهر

كانت صاحبة الثوب الأزرق تسمع لغوهن ولا تعي معناه. إنها بعيدة عنهن وعن العالم بما فيه ومن فيه، بعيدة عن النيل الذي يجري تحتها، عن سحر الجزيرة المنتشر حواليها، عن جمال الغروب وقد تمازج فيه انهزام النور واقتحام الظلام. لقد حدث في ذلك الاجتماع شيء مدهش قلب الدنيا رأساً على عقب. وهو بعدُ شيء بسيط يكاد يكون عادياً، وكأنها تنتظره على غير معرفة منها

اتفق أن فتى كان على مقربةٍ منها في ذلك الصالون، فصنع لها مثل ما صنع لغيرها، ومثل ما يصنع كل رجل له ولو بعض الإلمام بآداب الاجتماع. كانت فتاةُ الدار تبذلُ جهدها مع معاونيها ومعاوناتها لإرضاء الضيوف وقد تعبت كثيراً في القيام بمهمتها. فسارع ذلك الفتى إلى مساعدتها فجر أمام صاحبة الثوب الأزرق طاولة صغيرة وضع عليها قدح الشاي وجال يقدم ما يصحب الشاي من قطع الحلوى الصغيرة الجافة. فتناولت صاحبةُ الثوب الأزرق قطعةً ورفعت ببصرها إليه في ابتسام، وقالت:(مرسي). وكان عليها أن ترد بنظرها في الحال إلى جارتها التي كانت تتحدث حديثاً طويلاً. ولكنها لم ترد نظرها ولم تخفضه. لأن نظره سار رسولاً إلى أعماق عينها، إلى أعماق جوانحها، إلى أعماق كيانها، فاهتدى هناك إلى شيء كان يلبه، ولم تدر هي ماهيته. وكان وجهه جاداً ونظره جاداً، شأن الرجل عندما ينبه إلى أمرٍ هام

فجمدت الابتسامة على شفتيها، وكأن السر الذي وجده فيها يسأل السر الذي بعث به نظره:(ماذا؟) فخيل إليها أن سره يجيب: (أردت أن أنبهك فقط. . . لأنك نبهتني وأنتِ لا تعلمين)

لحظة لا غير، لحظة لم ينتبه إليها أحدُ من المحيطين بها، ولكنها كانت طويلةً مليئة كالدهور. وتكررت تلك اللحظة عندما التفتت في الشارع فلمحته يشيعها، وشعرت بالسر مقبلاً من نظره البعيد، يتوغل في كيانها من جيد. وفي هذا المساء الجميل المتهادي في

ص: 13

رفقٍ على هذه الشواطئ الفتانة، هي لا تعي شيئاً ولا ترى أحداً. الوجود كله تلخص في ذلك النظر وفي السر الذي يحتويه. على صفحة الماء المائجة نظرٌ مليء بالسر. في الفضاء حولها نظر مليء بالسر. في الغصون المتشابكة نظرُ مليء بالسر. في الأبعاد المترامية، في ألوان الشفق، في هبوب النسيم، وبخاصة في صميم كيانها نظرٌ مليء بالسر يهمس: أردت أن أنبهك. . . .

- ألهُ مثل هذا النظر مع سائر النساء؟

هرولت السيارةُ في شارع الجيزة ولوت متحولة إلى ناحية الروضة لتعود إلى المدينة من شارع القصر العيني. وطول الطريق على صفحة الماء، في امتداد السبل، في رؤوس الأشجار، في المركبات والسيارات، في أشباح السابلة، في واجهات المخازن، في مصابيح الشوراع، في كل مكان لم يكن هناك إلا ذلك النظر الواحد وسره المكنون

- أهذه طريقته في النظر إلى النساء؟

ووقفت السيارة فنزلت صاحبة الثوب الأزرق مودعة صويحباتها، وكأنها تتكلم وتتحرك مرغمةً. ودخلت مخدعها، فإذا بالنظر ينتظرها هناك، مع أنها لم تتخيل وجوده عندما غادرت هذا المكان قبل ثلاث ساعات

دنت من مرآتها تتعرف فيها هيئتها فرسمت لمها المرآةُ وجههُ لا وجهها، وأقبل النظر يتسرب إلى كيانها مع سره. فتأملتهً ملياً وسألت:

- ألك مثل هذه النظرة مع غيري؟

فلم تسمع لا من النظر ولا من نفسها الجواب

أطالت التحديق في المرآة، وقالت تخاطبهُ: - أين أنت الآن؟ كيف تجري حياتك؟ كيف تجري حياتك كل يوم؟ ماذا أنت صانع بنظرك في هذه الدقيقة؟

في تلك الدقيقة كان الفتى بين أصحابه عند جروبي، وقد رفع كأس الوسكي إلى شفتيه ناظراً بعينين ناعستين إلى الغادة الجالسة قربهُ في ثوب عاجي، وقائلاً ببطء:

- أشربُ (سركِ)

(مي)

ص: 14

‌الدعوة الفاطمية السرية

ضوء على موضوعها وغاياتها

للأستاذ محمد عبد الله عنان

تتمة

هذه خلاصة موجزة لتلك الدعوة الإلحادية الغربية التي اضطلع بها لحساب الحاكم بأمر الله ذلك الداعية المغامر حمزة بن علي، ومما يلفت النظر بنوع خاص أن حمزة بن علي لم يفته خلال شرح مذهبه أن يدافع عن شذوذ الحاكم بأمر الله وتصرفاته المتناقضة، وأن يحاول أن يفسرها بما يلائم دعوته ويدعمها، أجل، لقد كان في تصرفات هذا الذهن الهائم المضطرب ما يبعث على التأمل، وما يجب أن يحمل لا على الشذوذ والتخريف، ولكن على الحكمة والسمو إلى ما لا يرتفع الذهن العادي إلى فهمه وتعليل بواطنه، هكذا يقدم إلينا حمزة تصرفات مولاه الحاكم؛ فإذا كان الحاكم قد ترك الصلاة والنحر، وإذا كان قد أبطل صلاة العيد وصلاة الجمعة بالأزهر، واسقط الزكاة عن الناس، فمعناه تحليل ذلك للكافة، وإذا كان الحكام يتبع أحياناً سياسة الاضطهاد بالنسبة للنصارى واليهود، فذلك لأنه يريد أن يهلك المرتدين والمارقين، ومن بقي منهم يؤدون الجزية، وهم اليهود، ويجب عليهم وعلى النصارى المرتدين من التوحيد، وهم المنافقون أن يلبسوا أزياء خاصة، وأن يعلقوا في صدورهم وآذانهم أثقالاً خاصة من الرصاص؛ وإذا كان الحاكم يؤثر التقشف في مأكله وملبسه وركوبه، فيركب الحمير مجردة عن الديباج والحلي الذهبية، فذلك لحكمة باطنة يؤولها الداعي بآيات من القرآن، ويفسرها بدلائل رمزية غريبة، وإذا كان الحاكم يخرج من سرداب القصر إلى البستان، وإذا كان يرتاد بستان المقس وغيره من بساتين القاهرة ويطوف أحياناً في المدينة، فذا أيضاً لحكم باطنة لا تدركها الكافة؛ وما يرتكبه أهل الفساد بجوار البساتين التي يرتادها من المنكر والفحشاء، إنما يرتكب في طاعته، وما يرتكبه الحاكم من ضروب البطش والسفك إنه مظهر لسطوة الحاكم (الإلهية) فهو يفتك بأكابر الدولة دون خوف ولا حرج كما فعل مع حاجبه برجوان وزيره ابن عمار ومع غيرهما من الأكابر والزعماء؛ ثم هو يخرج بالليل دون ركب ودون سلاح، لا يخشى نقمة أو أعتداء،

ص: 15

ويخمد كل ثورة تشهر عليه، وكثيراً ما ينفرد بنفسه في جب الصحراء دون خوف من أحد من عسكره أو بطانته، وتلك أعمال وصفات ليست للبشر!

هكذا يفسر الداعي لنا أعمال الحاكم وتصرفاته المثيرة المدهشة؛ وما اعتبره المعاصرون شذوذاً وإسرافاً وجنوناً، وما يسمه التاريخ بميسم التناقض والتخريف والاغراق، إنما هو في زعم الداعي السمو فوق مدارك البشر، والتحلي بصفات ليست للبشر؛ ومهما يكن في ذلك التفسير من غلو وتحريف، فهو محاولة ذكية جريئة لتبرير ما لم تبرره الشرائع والمجتمع، وما لم يبرره التاريخ

ولا يقف حمزة بن علي عند الدعوة لسيده ومولاه، بل يدعو لنفسه أيضاً؛ فإذا كان الحاكم هو (الإله)، فان الداعي هو رسوله ونبيه؛ وعلى هذا فان حمزة الذي يصف نفسه في معظم رسائله بهادي المستجيبين، ينتحل النبوة لنفسه صراحة، ويزعم أن هذه النبوة قد تأيدت بالمعجزات التي أسبغها مولاه الحاكم عليه؛ ألم يشتبك عشرون من رجاله مع مائتين من عسكر خصومه، فلا يقتل من أصحابه سوى ثلاثة وينهزم الخصوم؟ ألم تنشب موقعه أخرى في المسجد بين قلة من أنصاره وكثرة من خصومه فينتصر الصحب دائماً؟ فهذه أعمال تخرج عن قدرة البشر، وهي من معجزات الداعي!

ويبدو من التواريخ التي يذيل بها الداعي رسائله أنها كتبت بين صفر سنة 408هـ، وأواخر سنة 409هـ. وكما أن الداعي يصف لنا سنة 408هـ بأنها هي أول سني قائم الزمان (الحاكم)، فهو يصفها أيضاً بأنها أول سني (ظهور عيد مولانا ومملوكه هادي المستجيبين) ومعنى ذلك أن حمزة بن علي بدأ القيام بدعوته في أوائل سنة 408هـ؛ ونستدل أيضاً من تعاقب التواريخ في هذه الرسائل الثمانية أنها تكون وحدة متصلة قائمة بذاتها؛ وهذه الرسالة هي متن الدعوة وهي ذروتها؛ وقد أستمر حمزة في تنظيم دعوته وبثها تحت رعاية الحاكم وإشرافه حسبما ينوه في بعض رسائله؛ ولكن الحاكم زهق غيلة في شوال سنة 411هـ فماذا حدث لتلك الدعوة بعد ذهابه؟ لقد كان اختفاء الحاكم بتلك الصورة الفجائية الغامضة مستقى جديداً للدعاة، فزغم بعضهم أنه اختفى ليظهر في عصر آخر، أو أنه رفع إلى السماء، وأن في هذا الاختفاء ذاته ما يؤيد الزعم بألوهيته وقد استمرت هذه الدعوة الإلحادية بعد مصرع الحاكم عصراً آخر، وإن كانت قد اتخذت سبلاً

ص: 16

ومواطن أخرى، وأمامنا مجموعة أخرى من تلك الرسائل الإلحادية هي التي أشرنا إليها فيما تقدم؛ ويبدو من موضوعها وأسلوبها وألفاظها أنها من تأليف حمزة بن علي ذاته؛ وقد ذيلت بتواريخ وضعها - في جمادى الآخرة من سني ولي الحق العاشرة، وفي صفر سنة إحدى عشرة من سني قائم الزمان، وفي السنة الرابعة عشرة من سني قائم الزمان. . . . الخ؛ وعهد قائم الزمان يبتدئ كما تقدم في سنة 408هـ، وعلى ذلك تكون هذه الرسائل قد كتبت بين سنة 418 وسنة 422هـ، ويكون حمزة بن علي قد استمر قائماً بدعوته الإلحادية إلى هذا التاريخ أو بعده بقليل؛ ولم تنته الدعوة بمصرع الحاكم بأمر الله، ولكنها استمرت تغذيها قوى وعناصر أخرى

ولقد كانت هذه الدعوة الإلحادية بلا ريب جزءاً من الدعوة الفاطمية السرية، ولكنها اتخذت في عصر الحاكم بأمر الله صورة خاصة، وانحرفت عن غايتها العامة لتعمل على تحقيق غاية خاصة. وقد نقل إلينا المقريزي بياناً شافياً عن هذه الدعوة السرية الشهيرة ومراتبها التسع، وهي في مجموعها فكرة إلحادية فلسفية نظمت في مراتب متعاقبة للعمل على هدم العقيدة الإسلامية بصفة خاصة والعقيدة الدينية بصفة عامة، واستبدالها بفكرة فلسفية ترتفع فوق إفهام الكافة. بيد أن هذه الدعوة الإلحادية العامة تنحرف في عصر الحاكم لتعمل على تحقيق فكرة خاصة هي (ألوهية) قائم الزمان أعني الحاكم بأمر الله، وهي مع ذلك تجري مجراها العام في مجالس الحكمة بالقصر ودار الحكمة. وإنها لصفحة من أغرب صحف الثورة على الإسلام؛ بيد أنها كانت ثورة سرية تقصد إلى غزو العقول والأفهام، ولم تكن فورة عنيفة تسحق كل شيء في طريقها بالقوة المادية كما كانت قوة القرامطة، وهذه الرسائل الكلامية الغريبة التي يتركها لنا الداعي تلقي ضياء على كثير من التفاصيل الخاصة التي كانت ترتبط بالدعوة السرية الفاطمية، وبفتن الدعاة في سكبها وتنظيمها.

ولقد نظمت الدعوة الفاطمية قبل عصر الحاكم بأمر اله بكثير؛ ومنذ عصر المعز لدين الله وولده العزيز تعقد مجالس الحكمة؛ ولكنها كانت عندئذ علنية، وكانت فقهية تجري المحاضرة فيها في فقه آل البيت ومبادئ الشيعة؛ وكانت الخلافة الفاطمية يومئذ تتشح بشعار الإمامة الإسلامية على أنها من حق الفاطميين وتراثهم الخالص، وعلى أنها عنوان الزعامة الشرعية من الوجهتين السياسية والدينية، ولكن هذه الدعوة الدينية السياسية ما

ص: 17

لبثت أن تطورت بسرعة، واتخذت صبغتها الإلحادية المغرقة في عصر الحاكم بأمر الله. ومن الغريب أن يكون الحاكم، ذلك الذهن الهائم المضطرب، هو القائم بأعظم دور في تغذية هذه الحركة وبثها، وهو المنشئ لدار الحكمة التي لبثت مبعثها وملاذها عصراً، بيد أن هذا الإغراق ذاته كان ضربة شديدة للدعوة الفاطمية، لأنه جعلها وقفاً على رهط من الدعاة المغامرين الخبثاء، وباعد بينها وبين الكافة، وأسبل عليها ألواناً خطرة من الزيغ والإلحاد، ولهذا فقدت الدعوة الفاطمية غير بعيد قوتها وأهميتها وإن كانت مجالس الحكمة قد استمرت بعد ذلك حتى أوائل القرن السادس

ونلاحظ من جهة أخرى أن معظم أولئك الدعاة الذين اضطلعوا ببث هذه المباديء والتعاليم الإلحادية في مصر لم يكونوا من المصرين، وإنما كانوا من الأجانب الذين اجتذبتهم الخلافة الفاطمية ببهائها ومشاريعها السرية؛ وقد ذكر لنا حمزة بن علي أسماء بعض أقطاب الدعاة مثل علي بن عبد الله اللوائي، ومبارك ابن علي، وأبو منصور البردعي، وأبو جعفر الحبال، هذا عدا الأخرم ومحمد بن إسماعيل الدرزي السابق ذكرهما؛ ولم يحسن المصريون استقبال هؤلاء الدعاة الخطرين، بل قاوموهم، وفتكوا بهم في أحيان كثيرة، أو اضطروهم إلى الفرار؛ ولم يستطع واحد منهم أن ينشئ له بمصر فرقة حقيقية من الأنصار والمؤمنين، وإن كان الدرزي قد استطاع أن ينشئ له بالشام فرقة جديدة هي طائفة الدروز التي ما زالت قائمة حتى اليوم

وهنا تعرض نقطة ما تزال موضع الجدل، وهي من هو مؤسس مذهب الدروز الحقيقي؟ وماذا كان نصيب حمزة بن علي في إنشائه؟ والمعروف أن بعض المستشرقين، ومنهم دي ساسي، يعتبرون أن حمزة هو مؤسس المذهب الحقيقي، لأن كثيراً من تعاليمه ورسائله تمثل في كتب الدروز المقدسة، وقد أشكل على بعضهم فهم مزاعم حمزة، فأعتقد أنه هو الذي يحمل لقب (قائم الزمن) الذي يتردد في رسائله ودعواته، في حين أنه صريح في إسناد هذا الوصف للحكام بأمر الله. والواقع أن فرقة الدروز تنسب قبل كل شيء إلى الدرزي، وهو الداعي محمد بن إسماعيل الذي تقدم ذكره، وفي بعض رسائلحمزة ما يلقي شيئاً من الضياء على نصيبه الحقيقي من الدعوة؛ ومن المرجح أن الدرزي سبق حمزة في القدوم إلى مصر، وفي الدعوة إلى (ألوهية) الحاكم بأمر الله كما قدمنا؛ ولكن الظاهر أيضاً

ص: 18

أن حمزة ما لبث أن تفوق عليه وفاز دونه بالزعامة والقيادة، وأن خصومه نشبت بينهما كان الظافر فيها هو حمزة. ويشير حمزة إلى ذلك في رسالته الرابعة الموسومة بالغاية والنصيحة حيث يحمل علي الدرزي الذي هو (نشتكين)(وهو لقب تركي يطلق على الدرزي ويعرف به)

ويقول إنه (تغطرس على الكشف بلا علم ولا يقين، وهو الضد الذي سمعتم بأنه يظهر من تحت ثوب الامام، ويدعى منزلته. . . وكان من جملة المستجيبين حتى تغطرس وتجبر وخرج من تحت الثوب، والثوب هو الداعي والسترة التي أمره بها إمامه حمزة بن علي الهادي إلى توحيد مولانا جل ذكره) ثم يقول إن الدرزي أنكر التعاليم وتمرد وأثار للجدل بينهما، وغره ما كان يضربه من زغل الدنانير والدراهم، ويبدو من ذلك جلياً أن حمزة كان يقف من الدرزي موقف الإمام والأستاذ، وأن الدرزي خرج على تعاليمه ومبادئه، واستقل بعد ذلك بإنشاء فرقة - الدروز - في الشام، فهو المؤسس إذن لمذهب الدروز، وقوامه مزيج من نظرياته وتعاليمه، ونظريات حمزة وتعاليمه، ومن الصعب أن نحدد ما لكل من الداعيين في إنشاء هذا المذهب الغريب من المباديء والنظريات، بل من الصعب أن نعين منهما الأصل والناقل؛ بيد أن بعض النظريات الأساسية التي يعرضها حمزة في رسائله ما زالت قواماً لمذهب الدروز مثل القول بحلول الروح القدس في شخص الحاكم، واعتباره (قائم الزمان)؛ ثم إن التاريخ الذي يتخذه حمزة لمبدأ هذه الدعوة هو سنة 408هـ (1017م) وهي نفس السنة التي اتخذها الدروز بدأ لتاريخهم المقدس؛ وعلى ذلك فإذا كان الدرزي هو الذي أسس فرقة الدروز، فان لتعاليم حمزة أثراً كبيراً في صوغ هذا المذهب

ولا ريب أن حمزة بن علي كان نموذجاً قوياً لأولئك الدعاة؛ ففي تفكيره وآرائه وشروحه ما يشهد بكثير من الذكاء والبراعة؛ ولكن إنشاء دين جديد وعقيدة جديدة والدعوة إلى (ألوهية) بشر، محاولة تقصر عنها جهوداً أذكى الدعاة وأقواهم؛ ومن ثم فأنا نلمس في آرائه وتدليله كثيراً من ضروب التناقض والضعف، ونراه يلجأ إلى الرموز والخفاء كلما أعيته الحجة، ولا يحمل هذا المزيج الذي يقدمه إلينا من الشروح والأساطير اليهودية والنصرانية والإسلامية كثيراً من طابع الابتكار والطرافة، ثم هو فرق ذلك يقدم إلينا رسالته في أسلوب ركيك ينم عن ضعف بيانه العربي؛ ومع ذلك فان هذا التراث الذي انتهى إلينا من جهود

ص: 19

الدعاة يلقي كثيراً من الضياء على أسرار الدعوة الفاطمية وغاياتها، وهو بذلك يعتبر من الوجهة التاريخية وثيقة لها قيمتها وخطورتها

محمد عبد الله عنان

المحامي

ص: 20

‌الليث بن سعد

محدث مصر وفقيها ورئيسها

للأستاذ علي الطنطاوي

قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به

وقال الأمام أحمد: ليس في أهل مصر أصح حديثاً من الليث

عَلَم شامخ من أعلام الإسلام، وإمام من أئمة الدين، وأحد أفراد الدنيا علماً وذكاء، ونُبلاً ورفعة، وسخاء وكرماً؛ أجمعوا على أنه عَدْل مالك في الفقه، ونظيره في الاجتهاد، وانه لمصر مثل مالك للمدينة لا يفتي ومالك في المدينة، ولا يفتي والليث في مصر وهو بعد أعظم جاهاً من مالك، وأكثر مالاً وأسخى يداً، وأجزل عطاء. . . بَيْد أن الله قيض لمالك من دون علمه، وكتب مساءله، وحرر مذهبه، فعاش ونما واتسع، وكثر أتباعه ومقلدوه، واندثر مذهب الليث ونُسي اسمه فلا يذكره إلا المشتغلون بالرواية الإسلامية، المنقطعون لدراستها، العاكفون على كتبها. . . .

وما مثل الليث بالذي يُنسى، وان كان الليث أنكرة في الرجال، ولئن أنكره اليوم بعض الشباب أو جهلوا قدره، أو شغلهم عنه وعن أمثاله (أندره جيد) وهذا الآخر. . . (بول فاليري) فلقد عرف له الأولون فضله وعلمه، وسموه ورفعته. فعاش رئيساً في العلماء، مقدماً عند الخلفاء، مطاعاً عند الولاة، مبجلاً عند الخاصة، موقراً عند العامة، وازدحمت عليه النعم، وأقبلت عليه الخيرات، ودنت منه الأماني، فأوتي العلم والعقل والصحة والمال والسيادة والجاه، وأوتي مع هذا كله نفساً أكبر من هذا كله، فما التفتت إليه، ولا تمسكت به، ولا شغلها عن دينها وتقواها. مالت إليه الدنيا فمال عنها، ومنح من كل نعمة أوفاها فما قصر في شكر، ولا زهد في أجر؛ وكان سيد مصر، أمرُه قبل أمر الولاة، وحكمه فوق حكم القضاة، فما اقتنص بذلك دنيا، ولا غُمض عليه في بطن ولا فرج؛ وكان دخله بين عشرين وثمانين ألف دينار في العام، فما كنز بيضاء ولا صفراء، ولا منعها فقيراً، ولا أمسكها عن ذي حاجة، فأطبق العلماء على إجلاله، واتفق المصنفون على الثناء عليه، وعقدت القلوب على حبه، وأجمع الناس على احترامه

اسمه وأصله ومولده:

ص: 21

هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهمي. كان أبوه من موالي قريش، ثم افترض في بني فهم (وهم بطن من قيس عيلان خرج منهم جماعة من العلماء) وتبعه الليث بعده، فكان اسمه في ديوان مصر، في موالي بن كنانة فهم؛ وقيل كان مولى خالد بن ثابت بن ظاعن الفهمي

وكنسته أبو الحارث

ولد غي قرقشندة (قرية بأسفل مصر على أربعة فراسخ من الفسطاط) فهو مصري المولد والمنشأ، وأصل أسرته من أصبهان. قال الليث نحن من أهل أصبهان، فاستوصوا بهم خيراً، وقيل إنهم من الفرس، ولم يصح ذلك

وكان مولده يوم الجمعة 14 شعبان سنة 94، قال الليث: قال لي بعض أهلي: إني ولدت سنة اثنتين وتسعين، والذي أوقن به أني ولدت سنة أربع وتسعين

شيوخه:

قال أبو نعيم الأصبهاني (في حلية الأولياء): أدرك الليث نيفاً وخمسين من التابعين

سمع الليث بمصر من زيد بن أبي حبيب وجعفر بن ربيعة والحارث بن يعقوب وعبيد الله بن أبي جعفر وخالد بن يزيد وخير بن نعيم وسعيد بن يزيد

وحج الليث سنة 133 وكان عمره تسعة عشر أو عشرين، فسمع في حجته تلك من عطاء بن أبي رباح وهشام بن عروة ويحيى بن سعيد الانصاري وأبي الزبير المكي وعبد الله ابن أبي مليكة وعمرو بن شعيب وقتادة وعمرو بن دينار ونافع

قال الليث: حججت أنا وابن لهيعة فرأيت نافعاً مولى ابن عمر فدخلت معه إلى دكان علاف، فقال: من أين؟ قلت: من أهل مصر، قال: ممن؟ قلت: من قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين!

وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال من هذا؟ قلت: مولىمن قيس. قال: ابن كم؟ قلت: ابن عشرين، قال: أما لحيتك فلحية ابن أربعين! وحدثني. فمر بنا ابن لهيعة، فقال من هذا؟ قلت: مولي لنا فلما رجعنا إلى مصر، جعلت أحدث عن نافع فأنكر ذلك ابن لهيعة وقال: أين لقيته؟ قلت: أما رأيت العبد الذي كان في دكان العلاف؟ هو ذاك!

ص: 22

وخرج الليث إلى العراق سنة 161

قال أبو صالح: خرجنا معه من مصر في شوال وشهدنا الأضحى في بغداد، وقال لي الليث ونحن في بغداد: سَلْ عن قطيعة بني جدار، فإذا أرشدت إليها فاسأل عن منزل هُشيم الواسطي

فقل له: أخوك ليث المصري يقرئك السلام، ويسألك أن تبعث إليه بشيء من كتبك

فلقيت هُشيما فدفع إلى شيئاً، فكتبنا منه وسمعته مع الليث، وكان الليث قد كتب من علم الزهري كثيراً، قال: فأردت أن أركب البريد إليه إلى الرصافة فخفت ألا يكون ذلك لله فتركته

أي أنه آثر أن يروي عنه بالواسطة خشية أن يكون في ذهابه إليه وسماعه منه حظ نفسي، فلا يكون ذلك خالصاً لله وحده

وسمع من سعيد المقبري ويونس بن يزيد وغيرهم وسمع منه خلق كثير

منزلة عند العلماء

قال الإمام أحمد بن حنبل: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث، لا عمرو بن الحارث ولا أحد. ثم قال: الليث بن سعد؟ ما أصح حديثه! وجعل يثني عليه

فقال رجل لأبي عبد الله (يعني أحمد). إنسان ضعفه فقال: لا يدري

وقال مرة: ليس فيهم (أي أهل مصر) أصح حديثاً من الليث وعمرو بن الحارث يقاربه

وقال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به، أي لم يدونوا علمه، ولم يحرروا مذهبه فضاع واندثر

وقال: ما فاتني أحد فأسفت علي ما أسفت على الليث وابن أبي ذئب

وقال ابن حبان (في الثقات): كان من سادات أهل زمانه فقهاً وورعاً وعلماً وفضلاً وسخاء

وقال ابن أبي مريم: ما رأيت أحداً من خلق الله أفضل من ليث، وما كانت خصلة يتقرب بها إلى الله عز وجل إلا كانت تلك الخصلة في الليث

وقال أبو يعلى الخليلي: كان إمام وقته بلا مدافعه

وقال يحيى بن بكر: ما رأيت فيمن رأيت مثل الليث، وما رأيت أكمل منه؛ كان فقيه البلد، عربي اللسان، يحسن القرآن والنحو والحديث والشعر والمذاكرة (إلى أن عد خمسة عشرة

ص: 23

خصلة) ما رأيت مثله

وقال: الليث أفقه من مالك، ولكن كانت الخطوة لمالك وقال سعيد بن أبي أيوب: لو أن مالكاً والليث اجتمعا كان مالك عند الليث أبكم، ولباع الليث مالكاً فيمن يريد

وسئل أبو زرعة: الليث يحتج بحديثه؟ قال: أي لعمري وقال يحيى بن معين: ثبت

وقال يعقوب بن شيبة: ثقة وقال مثل ذلك محمد بن سعد

وقال النووي (في تهذيبه): أجمعوا على جلالته وأمانته وعلو مرتبته في الفقه والحديث

قالوا: وكل ما في كتب مالك من قوله (وأخبرني من أرضى من أهل العلم) فإنما يعني به الليث بن سعد

البقية في العدد القادم

علي الطنطاوي

ص: 24

‌قصيدة تاريخية خطيرة

أهل غرناطة يستغيثون السلطان با يزيد

في أوائل القرن السابع الهجري ذهبت ريح الموحدين من الأندلس، ونشأت دولة بني نصر أو بني الأحمر في بقية الأحداث من الدولة الإسلامية العظيمة - الجنوب الغربي من الجزيرة الكبيرة جزيرة الأندلس. وثبت بنو الأحمر على قراع الخطوب، ونزال الكوارث خمساً وستين ومائتي سنة. ثم ذهبت الصولة ودالت الدولة، وأناخت الوحشة على المعقل الأخير للحضارة الإسلامية

هذا فجر اليوم الرابع من ربيع الأول سنة 987، وهذا أبو عبد الله الشقي يسير في خمسين فارساً ليسلم مفاتيح الحمراء إلى فرديناند وايزابلا

وكان المسلمون قد استوثقوا لدينهم وأنفسهم وأموالهم، وأخذوا على الأسبان من الشروط ما شاءوا. وبذل لهم الأسبان من العهود والأيمان ما جعلوه حبالة إلى السيطرة والقتل والسلب والإكراه على التنصر

اشترط المسلمون زهاء ستين شرطاً يكفل لهم الوفاء بها سلامة شاملة، وطمأنينة عامة. واشترطوا أن يقبل شروطهم زعيم النصرانية بابا رومية

وما هو إلا أن ظفر الأسبان بعدوهم حتى استباحوا نقض العهود، والإغراق في العدوان والظلم والنهب والقتل والإكراه على التنصر. فلما استيأس المسلمون ثاروا بعدوهم المرة بعد المرة يؤثرون الموت الوحي على الموت البطيء، وما زال بهم القتل والاستعباد والتشريد والنفي حتى جلا آخرهم عن البلاد عام 1017 من الهجرة

وقد استصرخ مسلمو الأندلس ملوك المسلمين، فلم يصرخهم أحد إلا خير الدين باشا قائد الأساطيل العثمانية في عهد السلطان سليمان، فقد أمدهم في إحدى ثوراتهم بجند نصروهم على عدوهم ومكنوا لهم الرحيل، فحملت السفن منهم سبعين ألفاً إلى أفريقية

وكان المسلمون أرسلوا وفداً يستغيث السلطان با يزيد الثاني العثماني، وبعثوا بقصيدة بثوا بها شكواهم، وعددوا ما أصابهم في أنفسهم ودينهم. وهي قصيدة طويلة ننشرها اليوم على صفحات الرسالة، معترفين بالفضل للشيخ الجليل العلامة الشيخ خليل الخالدي الذي كتبت في الرسالة عنه مرتين. جمعنا بالشيخ الكريم أحد المجالس في حلوان شهر رمضان

ص: 25

الماضي. فسأله بعض الحاضرين، وهو يفيض في حديثه، عن كتاب عن المدافع كتبه أحد الأندلسيين فحدث عنه وقال: وكانوا يسمون المدافع الأنفاض، وقد قال قائلهم:

وجاءوا بأنفاض عظام كثيرة

تهدم أسوار البلاد المنيعة

وهذا البيت من قصيدة بعث بها أهل غرناطة إلى السلطان با يزيد. فاستنشدناه ما يحفظ ثلاثة وثلاثين بيتاً وقال: إن القصيدة طويلة تجاوز مائة بيت، وإنها عنده، قد نسخها في مدينة فاس. فسألناه أن يرسلها إلينا حين يعود إلى القدس

وقد أنجز الشيخ حفظه الله وعده، فأرسل القصيدة لتنشر في مجلة (الرسالة). ويتبين من القصيدة أنهم استغاثوا السلطان من قبل فكتب إلى الأسبان فلم يأبهوا لما كتب وأن ملوك مصر أرسلوا رسلاً فادعى الأسبان أن المسلمين تنصروا مختارين، وسلكوا في الزور ما نعهده اليوم في السياسة الأوربية

ولسنا ندري ما كان جواب السلطان با يزيد على هذه الدعوة الملهوفة والقصيدة الباكية. فمن عرف شيئاً في هذا فليخربنا مشكوراً

عبد الوهاب عزام

القصيدة ومقدمتها

ومما كتبه بعض أهل الجزيرة بعد استيلاء الكفر على جميعها للسلطان أبي يزيد خان العثماني رحمه الله ما نصه بعد سطر الافتتاح

(الحضرة العلية، وصل الله سعادتها، وأعلى كلمتها، ومهد أقطارها، وأعز أنصارها، وأذل عداتها. حضرة مولانا، وعمدة ديننا ودنيانا، والسلطان الملك الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، قامع أعداء الله الكافرين، كهف الإسلام، وناصر دين نبينا محمد عليه السلام، محي العدل، ومنصف المظلوم ممن ظلم، ملك العرب والعجم، والترك والديلم، ظل الله في أرضه، القائم بسنته وفرضه، ملك البرين، وسلطان البحرين، حامي الذمار، وقامع الكفار، مولانا وعمدتنا، وكهفنا وغياثنا، مولانا أبو زيد، لا زال ملكه موفور الأنصار، مقروناً بالانتصار، مخلد المآثر والآثار، مشهور المعالي والفخار، مستأثراً من الحسنات بما يضاعف الله به الأجر الجزيل في الدار الآخرة، والثناء الجميل والنصر في

ص: 26

هذه الدار، ولا برحت عزماته العلية مختصة بفضائل الجهاد، مجردة على أعداء الدين من باسها ما يروي صدور السمر والصفاح، وألسنة السلاح، سالكة سبيل السابقين، الفائزين برضي الله وطاعته يوم يقوم الأشهاد

سلام كريم دائم متجدد

أخص به مولاي خير خليفة

سلام على مولاي ذي المجد والعلا

ومن البس الكفار ثوب المذلة

سلام على من وسع الله ملكه

وأيده بالنصر في كل وجهة

سلام على مولاي من دار ملكه

قسنطينةٌ أكرمْ بها من مدينة

سلام على من زين الله ملكه

بجند وأتراك من أهل الرعاية

سلام عليكم شرف الله قدركم

وزادكم ملكاً على كل ملة

سلام على القاضي ومن كان مثله

من العلماء الأكرمين الأجلة

سلام على أهل الديانة والتقي

ومن كان ذا رأي من أهل المشورة

سلام عليكم من عبيد تخلفو

باندلس بالغرب في أرض غربة

أحاط بهم بحر من الروم زاخر

وبحر عميق ذو ظلام ولجة

سلام عليكم من عبيد أصابهم

مصاب عظيم يا لها من مصيبة

سلام عليكم من شيوخ تمزقت

شيوبهم بالنتف من بعد عزة

سلام عليكم من وجوه تكشفت

على جملة الاعلاج من بعد سترة

سلام عليكم من بنات عواتق

يسوقهم الألباط قهراً لخلوة

سلام عليكم من عجائز أكرهت

على أكل خنزير ولحم لجيفة

نقبل نحن الكل أرض بساطكم

وندعو لكم بالخير في كل ساعة

أدام الإله ملككم وحياتكم

وعافاكم من كل سوء ومحنة

وأيدكم بالنصر والظفر بالعدا

وأسكنكم دار الرضى والكرامة

شكونا لكم مولاي ما قد أصابنا

من الضر والبلوى وعظم الرزية

غُدرنا ونُصرنا وبُدل ديننا

ظُلمنا وعوملنا بكل قبيحة

وكنا على دين النبي محمد

نقاتل عباد الصليب بنية

ونلقي أموراً في الجهاد عظيمة

بقتل وأسر ثم جوع وقلة

ص: 27

فجاءت علينا القوط من كل جانب

بسيل عظيم جملة بعد جملة

ومالوا علينا كالجراد بجمعهم

بجد وعزم من خيول وعدة

فكنا بطول الدهر نلقي جموعهم

فنقتل فيها فرقة بعد فرقة

وفرسانهم تزداد في كل ساعة

وفرساننا في حال نقص وقلة

فلما ضعفنا خيموا في بلادنا

ومالوا علينا بلدة بعد بلدة

وجاءوا بأنقاض عظام كثيرة

تهدم أسوار البلاد المنيعة

وشدو عليها في الحصار بقوة

شهوراً وأياماً بجد وعزمة

فلما تفانت خيلنا ورجالنا

ولم نر من إخواننا من إغاثة

وقلت لنا الأقوات واشتد حالنا

أطعناهم بالكره خوف الفضيحة

وخوفاً على أبنائنا وبناتنا

من أن يؤسروا أو يقتلوا شر قتلة

على أن نكون مثل من كان قبلنا

من الدجن من أهل البلاد القديمة

ونبقي على آذاننا وصلاتنا

ولا نتركن شيئاً من أمر الشريعة

ومن شاء منا البحر جاز مؤمناً

بما شاء من مال إلى أرض عدوة

إلى غير ذاك من شروط كثيرة

تزيد على الخمسين شرطاً بخمسة

فقال لنا سلطانهم وكبيرهم

لكم ما شرطتم كاملاً بالزيادة

وأبدى لنا كتباً بعهد وموثق

وقال لنا هذا أماني وذمتي

فكونوا على أموالكم ودياركم

كما كنتمُ من قبل دون أذية

فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم

بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة

وخان عهوداً كان قد غرنا بها

ونصرنا كرهاً بعنف وسطوة

وأحرق ما كانت لنا من مصاحف

وحلطها بالزبل أو بالنجاسة

وكل كتاب كان في أمر ديننا

ففي النار ألقوه بهزؤ وحقدة

ولم يتركوا فينا كتاباً لمسلم

ولا مصحفاً نخلو به للقراءة

ومن صام أو صلى ويعلم حاله

ففي النار يلقوه على كل حالة

ومن لم يجئ منا لموضع كفرهم

يعاقبه الألباط شر العقوبة

ويلطم خديه ويأخذ ماله

ويجعله في السجن في سوء حالة

ص: 28

وفي رمضان يفسدون صيامنا

بأكل وشرب مرة بعد مرة

وقد أمرونا أن نسب نبينا

ولا نذكرنه في رخاء وشدة

وقد سمعوا قوماً يغنون باسمه

فأدركهم منهم أليم المضرة

وعاقبهم حكامهم وولاتهم

بضرب وتغريم وسجن وذلة

ومن جاءه الموت ولم يحضر الذي

يذكرهم لم يدفنوه بحيلة

ويترك في الزبل طريحاً مجندلاً

كمثل حمار ميت أو بهيمة

إلى غير هذا من أمور كثيرة

قباح وأفعال عرار ردية

وقد بدلت أسماؤنا وتغيرت

بغير رضى منا وغير إرادة

فآهاً على تبديل دين محمد

بدين كلاب القوط شر البرية

وآهاً على أسماء حين تبدلت

بأسماء أعلاج من أهل الغباوة

وآها على أبنائنا وبناتنا

يروحون للألباط في كل غدوة

يعلمهم كفراً وزوراً وفرية

ولم يقدروا أن يمنعوهم بحيلة

وآهاً على تلك المساجد حولت

كنائس للكفار بعد الطهارة

وآهاً على تلك البلاد وحسنها

لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة

وصارت لعباد الصليب معاقلاً

وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة

وصرنا عبيداً لا أسارى فنفتدى

ولا مسلمين نطقهم بالشهادة

فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا

إليه لجادت بالدموع الغزيرة

ويا ويلنا يا بؤس ما قد أصابنا

من الضر والبلوى وثوب المذلة

سألنك يا مولاي بالله ربنا

وبالمصطفى المختار خير البرية

وبالسادة الأخيار آل محمد

وأصحابه أكرم بهم من صحابة

وبالسيد العباس عم نبينا

وشيبته البيضاء أفضل شيبة

وبالصالحين العارفين بربهم

وكل ولي فاضل ذي كرامة

عسى تنظر فينا وفيما أصابنا

لعل إله العرش يأتي برحمة

فقولك مسموع وأمرك نافذ

وما قلت من شيء يكون بسرعة

ودين النصارى أصله تحت حكمكم

ومن ثم يأتيه إلى كل كورة

ص: 29

فبالله يا مولاي منوا بفضلكم

علينا برأي أو كلام بحجة

فانتم أولات الفضل والمجد والعلا

وغوث عباد الله في كل آفة

فسل بابهم أعني المقيم برومةٍ

بماذا أجازوا الغدر بعد الأمانة

ومالهم مالوا علينا بغدرهم

بغير أذى منا وغير جريمة

وحبسهم المغلوب في حفظ ديننا

وأمن ملوك ذي وفاء وجلة

ولم يخرجوا من دينهم وديارهم

ولا نالهم غدر ولا هتك حرمة

ومن يعط عهداً ثم يغدر بعده

فذاك حرام الفعل في كل ملة

ولا سيما عند الملوك فإنه

قبيح شنيع لا يجوز بوجهه

وقد بلغ المكتوب منكم إليهم

فلم يعلموا منه جميعاً بكلمة

وما زادهم إلا اعتداء وجرأة

علينا وإقداماً بكل مساءة

وقد بلغت إرسال مصر إليهم

وما نالهم غدر ولا هتك حرمة

وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا

رضينا بدين الكفر من غير قهرة

وساقوا شهود الزور ممن أطاعهم

والله ما نرضي بتلك الشهادة

لقد كذبوا في قولهم وكلامهم

علينا بهذا القول أعظم فرية

ولكن خوف القتل والحرق ردنا

نقول كما قالوه من غير نية

ودين رسول الله ما زال عندنا

وتوحيدنا لله في كل لحظة

ووالله ما نرضي بتبديل ديننا

ولا بالذي قالوا من أمر الثلاثة

وإن زعموا إنا رضينا بدينهم

بغير أذى منهم لنا ومساءة

فسل انجرا عن أهلها كيف أصبحوا

أسارى وقتلى تحت ذل ومهنة

وسل بلفيقا عن قضية أمرها

لقد مزقوا بالسيف من بعد حسرة

ومنيافة بالسيف مزق أهلها

كذا فعلوا أيضاً بأهل البُشُرة

واندَرَش بالنار أحرق أهلها

بجامعهم صاروا جميعاً كفحمة

فها نحن يا مولاي نشكو إليكم

بهذا الذي نلقاه من شر فرقة

عسى ديننا يبقي لنا وصلاتنا

كما عاهدونا قبل نقض العزيمة

وإلا فيجلونا جميعاً من أرضهم

بأموالنا للغرب دار الأحبة

ص: 30

فإجلاؤنا خير لنا من مقامنا

على الكفر في عز على غير ملة

فهذا الذي نرجوه من عز جاهكم

ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة

ومن عندكم نرجو زوال كروبنا

ومن عندكم تقضي لنا كل حاجة

ومن عندكم نرجوا زوال كروبنا - وما نالنا من سوء حال وذلة

فأنتم بحمد الله خير ملوكنا

وعزتكم تعلو على كل عزة

فنسأل مولانا دوام حياتكم

بملك وعز في سرور ونعمة

وتمدين أوطان ونصر على العدا

وكثرة أجناد ومال وثروة

وثم سلام الله تتلوه رحمة

عليكم مدى الأيام في كل ساعة

انتهت الرسالة من نسختين بقلم مغربي رأيتهما بعاصمة فاس صانها الله من كل باس

خليل الخالدي

ص: 31

‌3 - قصة المكروب

كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي

لوفن هوك

أول غزاة المكروب

(بائع القماش الهولاندي الساذج الذي ضحك منه أهل بلده فكاتب الجمعية الملكية البريطانية وبها روبرت بويل واسحاق نيوتن فاستمعت له وصفقت خمسين عاماً)

- 4 -

وكانت تلك الحيوانات الصغيرة في كل مكان، حتى في فم (لوفن هوك). كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية يقول:(لقد بلغت العام الخمسين من عمري ومع هذا لي أسنان سليمة سلامة لا تتفق مع هذه السن، وسبب هذا أني أدلك أسناني بالملح كل صباح دلكاً شديداً، وثم أنظف أضراسي بريشة وأدلكها بثوب دلكاً عنيفاً). ومع ذلك كانت تتبقى بقية من جسم أبيض فيما بين تلك الأسنان. فتراءى للوفن أن يتعرف كنهها فقشط منها بعضها ودافه في ماء مطر تقي وأخذ منه في شعرية من الزجاج ونصبها تحت عدسته، ثم أغلق الباب. وأخذ ينظر فرأى عند بؤرة العدسة مخلوقات جديدة، فنوع يثب قدماً في الماء (ككراكي الأسماك)، ونوع ثان لا يلبث أن يستقيم في عومه قليلاً حتى يدور بغتة فينتكس على رأسه انتكاسات رشيقة، ونوع ثالث حتى يدور بغتة فينتكس على رأسه انتكاسات رشيقة، ونوع ثالث كالعصي الملتوية يتحرك في بطء شديد تكاد تخطئه العين، إلا عين لوفن، فأخذ يحملق فيها حتى احمرت عيناه، وحتى رآها تتحرك يقيناً، وتنبض بالحياة يقيناً. كان فم (لوفن) مليئاً بالمتحركات من شتى الأجناس. وكان به جنس آخر كقضبان الخيزران سهلة التثني، تجيء وتروح في تؤدة الأسقف ووقاره، وهو على رأس موكبه بين قسيسيه وأخباره، وجنس خامس حلزوناتٌ كالبريمات نوازع الفلين، نفخ الله فيها من روحه فجاءت أشد ما تكون سعياً ونشاطاً

لم يقع هذا الرجل الغريب على شيء إلا اتخذه موضوعاً لتجربته، ولم يعتق نفسه، فاتخذ

ص: 32

ذاته موضوعاً للتجربة أيضاً. وأتعبه العمل وأجهده طول التحديق إلى تلك الحيوانات التي بأسنانه فطلب الراحة في التريض تحت الأشجار العالية، وقد أخذت بقدوم الخريف تتناثر عنها ورقاتها المريضة الصفراء فتقع من تحتها على سطوح الترع وهي في سكونها وملاستها كالمرايا الغيراء، ولكنه ما لبث أن لًقي في طريقه شيخاً هرماً، فحدثه فكان هذا إيذاناً بذهاب راحته وانتهاء رياضته. كتب (لوفن) إلى الجمعية الملكية عن هذا يقول: (وتحدثت إلى هذا الشيخ فألفيته عاش ما خلا من أيامه عيشة قصدٍ واستقامة، فالوسكي لم يذقه قط، والتبغ لم يمس فمه، والنبيذ ندر شربه إياه. ووقعت عيني على أسنانه مغطاة بالرواسب، فسألته متى نظفها آخر مرة، فأجاب إنه لم ينظفها مرة واحدة في حياته

فما قرع هذا الجواب سمع (وفن) حتى طار التعب عن عينيه. فقد وقع في نفسه أن فم هذا الرجل لابد أن يكون جنينة مليئة بالحيوانات من كل صنف بهيج وغير بهيج، وما لبث أن جر الشيخ القذر التقي إلى مكتبه. وبالطبع وجد الألوف من تلك الحيوانات الصغيرة في فمه، ولن كان همه أن يخبر الجمعية الملكية أنه وجد في فمه مخلوقاً جديداً ينساب في التواءاته كالأفعى بين شتى الحيوانات الأخرى، وأن الماء بأنبوبة الزجاج الشعرية كان يعج به تحت عدسته

ومن الغريب في (لوفن هوك) أنك مهما تصفحت كتبه، وهي مئات، فلن تجده يذكر مرة واحدة أن هذه الأحياء الصغيرة تضر بالإنسان. إنه رآها في ماء الشرب، ووقع عليها في فم الإنسان، ومضت الأعوام فتكشفت له نفس تلك الأحياء في أمعاء الضفدع وأمعاء الخيل وفي أمعائه هو، كان يجدها أسراباً أسراباً على حد قوله (كلما اعتراه إسهال). ومع هذا لم يقل إنها كانت سبباً في هذا الذي اعتراه. لقد كان محاذراً في أحكامه، ولم يكن له ذلك الخيال الذي اعتاد الناس أن يطيروا به إلى استنتاجات فطيرة غير ناضجة كالتي يثب إليها أهل هذا العصر الحاضر من دُراس المكروب. ولكم وَدِدْنا لو درس هؤلاء ما كتب (لوفن)، إذن لتعلموا من حذره الشيء الكثير. ففي الحق لقد وصف الواضعون في نصف القرن السالف آلافاً من المكروبات، ونسبوا إليها مئات من الأمراض، فكشف النقد في الكثرة الكبرى من تلك الحالات أن اجتماع المرض والمكروب في الجسم إنما كان ارتفاعاً عارضاً. كان (لوفن هوك) يخشى دائماً أن يشير إلى الشيء فالشيء ويقول هذا سبب هذا.

ص: 33

كان به إيمان فطري بتعقد الأمور واختلاط الأسباب التي تنتج الحياة وظواهرها، فكان دائماً محجاما لا يقدم على ربط سبب بظاهره

ومرت السنون وهو يشتغل بالبزازة في دكانه الصغير، أو يقوم بكنس دار البلدية (بدلفت). وزاد حذراً وزاد شراسة، وازدادت كذلك الساعات الطويلة التي كان يقضيها في التحديق في المئات من مكرسكوباته، وزاد اكتشافه لكل عجيب غريب. وذات يوم نظر إلى سمكة صغيرة في أنبوبة من الزجاج وقد علا ذيلها فلمح فيه لأول مرة أوعية الدم الشعرية التي تصل ما بين الأوردة والشرايين فاستكمل بذلك الدورة الدموية التي اكتشفها (هارفي) من قبله

وكان (لوفن) لا يمتنع عن امتحان الشيء لقداسة أو عاطفة، أو خشية أن يُسيء إلى الأدب والحرمات، فاكتشف الخلية المنوية للذكر من الإنسان - اكتشاف فيه تورط وفيه احراج، وفيه جمود وبرود في سبيل العلم تقشعر منه النفوس، ولكن (لوفن) كان رجلاً بسيطاً ساذجاً

ودارت الأيام فشاع ذكره في أوربا، وجاءه بطرس الأكبر قيصر الروس يقدم له احترامه، وسعت إليه ملكة الانجليز في بلدته لترى الأعاجيب من خلال عدساته. وأبطل للجمعية الملكية كثيراً من الخزعبلات السائدة، وكان أشيع أعضائها ذكراً ما خلا (اسحق نيوتن) و (روبرت بويل). ولم يغير كل ذلك شيئاً من نفسه؛ ذلك أنه كان من أول الأمر كبير التقدير لها كثير الإعجاب بها. وكانت كبرياؤه لا حد لها، ولا يضارعها إلا اتضاعه كلما فكر في هذا الكون وخفاياه، في السر الهائل المجهول الذي يَلفه ويلف سائر الناس معه. كان يعبد الله، وكان عباداً للحقيقة. قال:(في اعتزامي إلا أحتفظ بآرائي عناداً وتعصباً، فأنا أنبذها إلى ما يعرضه على غيري من الآراء، مادام هذا الغير لا يطلب من عرضها إلا إظهار الحقيقة لعيني، وأنا أعتنق هذا المعروض الجديد بمقدار ما أستطيع تحقيقه فيه من صواب. كذلك في اعتزامي أن استخدم ما حباني به الله من مواهب قليلة للحيلولة بين الناس وبين خرافات وثنية جاءتهم من الزمن القديم. وفي اعتزامي أن أنهض إلى الحق وأن أثبت عليه)

وكان صحيح الجسم صحة خارقة، ففي الثمانين كان يرفع بيده المكرسكوب، وهي ترتعد، إلى زواره لينظروا بها إلى الحيوانات الصغيرة، أو إلى صنوف الأجنة من المحار. وكان

ص: 34

مُغرماً بالشراب في الأمساء، وأي هولاندي ليس به هذا؟ وكأنما كان المرض لا يمسه إلا في الإصباح التي تلي تلك الإمساء، وما كان مرضاُ بل ضيقاً في النفس واعتلالاً في المزاح. وكان يبغض الأطباء فلا يستنصح منهم أحداً. وأنى لهم معرفة بأدواء الجسد وعلمهم بتركيبه عشر معشار علمه؟ ومن أجل هذا كانت له نظريته الخاصة في تعليل سوء مزاجه - وأية نظرية تلك! كان يعلم أن بالدم كرات صغيرة مستديرة هو الذي اكتشفها وارتآها أول راء. وهو الذي اكتشف في ذيل السمكة تلك الشعريات الصغيرة التي تصل ما بين الأوردة والشران. فالليالي التي كان بعمرها بالكأس والطاس كانت على زعمه تؤثر في دمه فتجعله ثخيناً، فإذا هو جاء يمر بالشعريات تعذر عليه ذلك. فمن هذا كان اختلال مزاجه في الصباح. وإذن فدواء هذه الثخانة تخفيفها. وإليك ما كتب إلى الجمعية الملكية:

(فأنا إذا أكلت ذات مساء فأثقلت شربت في الصباح عدداً كبيراً من فناجيل القهوة، وهي على أسخن ما أحتمل حتى أتصبب عرقاً، فإذا لم يشفني ذلك فكل ما بدكان الصيدلاني لا يشفي. وهذا دوائي من أعوام كلما حُممْت)

وهداه شرب القهوة إلى حقيقة جديدة عن حيواناته الصغيرة. يا له من رجل! ما كان يفعل شيئاً حتى يهديه هذا الشيء إلى جديد في الطبيعة. فقد كان يعيش بسمعه وبصره وحسه وفكره في دُنى تلك الحيوانات التي كان يسترق منها النظرات من خلال تلك العدسات. لقد كان كالطفل إذا يستمع لحكاية البط والغراب وهو مستغرق عما هو حوله، لا ترى منه إلا شفتين منفرجتين وعينين واسعتين من شدة الدهشة والإعجاب. وكان كالطفل كذلك في إعادة ما قرأ من أقاصيص الطبيعة المرة بعد المرة، حتى لتجد على صفحاتها من إبهامه بصمات، وفي أركانها من فعله ثنيات تهديه إذا هو استراح فعاد ليبدأ من حيث انتهى. من ذلك أنه بعد سنوات من اكتشافه المكروب في فمه جلس ذات صباح إلى شراب القهوة يستشفي به، فبينا هو في عرقه الصبيب خطر له أن يعود فينظر إلى مكروب أسنانه من جديد. . ما هذا! أين ذهبت حيوانات أسناني فإني لا أرى واحدة تتحرك بالحياة! أو كأني أرى الألوف منها ولكنها أجساد هامةد، وإلا واحدة أو اثنتين تدبان على ضعف كأنما مسهما المرض! ثم صاح يستنجد بالأحبار والقديسين ألا يجيئه في تلك الساعة لورد من لوردات الجمعية الملكية يطلب إليه رؤية تلك المركوبات في فمه فلا يجدها فيكذبه فيما كتب عنها

ص: 35

ولكن صبراً إنه كان يشرب القهوة. كانت ساخنة جداً حتى كادت تتنفسط منها شفتاه. وهو إنما نظر إلى المكروبات في الرواسب التي بين أسنانه الأمامية بعد شربه هذه القهوة الساخنة مباشرة

وما لبث أن استعان بمرآة مكبرة واخذ يقشط ما بين أسنانه الخلفية، ثم ينظر. . . . ما كَذَب المنظارُ وما أخطأ لوفن. قال: وما لبثت أن دهشتُ للكثرة التي وجدتها من تلك الحيوانات الحية في القليل التافه من تلك القِشاطة، كثرةٍ لا يؤمن بها إلا من رأى). وبعد هذا أخذ يجري تجارب صغيرة في أنابيب الزجاج، فسخن فيها الماء بما يًأهُله من تلك الأحياء إلى درجةُ فويق التي يحتملها المرء في حمامه، وفي لحظة فقدت الحيوانات روحاتها وجيئتها. وبرد الماء ومع هذا لم تعد إليها الحياة. إذن فالقهوة الساخنة هي التي قتلت تلك الحيوانات في أسنانه الأمامية

وأعاد النظر إلى هذه الحيوانات في غبطة وسرور، ولكن أساءه وأهمه أنه لم يتبين لهذا الحيوانات رأساً ولا ذيلاً، فإنها كانت تسير في تلويها مسرعة في اتجاه، ثم لا تلبث أن تكر راجعةً بنفس السرعة في عكس الاتجاه دون أن تنعطف أو يدور لها رأس على عقب، ولكن لابد أن يكون لها ذيل: لا بد أن يكون لها رأس! ولابد أن تكون لها أكباد وأمخاخ وأوعية دموية كذلك! وعاد بذاكرته إلى الوراء أربعين عاماً، إلى البراغيث وديدان الجبن كيف كانت تراها عينه مخلوقات بسيطة الصنع مجملة التركيب، فإذا بها تتراءى تحت عدسته معقدة التركيب مفصلة الصنع تامة كخلق الأنسان نفيه. فطمع أن ينشف له من هذه المكروبات ما تكشف من هذه الديدان. ولكن عبثاً حدق في أقوى عدساته، فقد ظلت هذه المكروبات تظهر في بصره عصياً أو كرات أو حلزونات بسيطة لا تفصيل فيها ولا تعقيد. وأخيراً اكتفى بأن حسب للجمعية الملكية قطر الوعاء الدموي بتلك المكروبات لو أنه كان، ولم يقل قط إنه رأى تلك الأوعية، وإنما أراد أن يتسلى بتخيله أولياءه من أعضاء الجمعية يتراجعون دهشةً من صغر الأرقام التي أسفرت عنها حسبته

وإذا كان (لوفن هوك) قد فاته أن يرى الجراثيم التي عنها تنشأ أمراض الإنسان، وإذا كان خياله قد قصر عن إدراك ما تأتيه حيواناته اللعينة من قتل وأجرام، فلم يفته أن يدرك أن هذه الحيوانات التي تُفلت العينَ قد تَقتل وقد تأكل حيوانات تجل عنها أضعافاً كثيرة. فذات

ص: 36

يوم كان يتلهى ببعض حيوانات الماء الصدفية كبلح البحر وأم الخلولَ جرفها من قيعان الترع، فوجد بداخل الأم الواحدة آلافاً من الأجنة، فهالته كثرتها وتساءل كيف لا تشرق مجاري الماء بهذا العدد العديد من الأحياء. وخال أن يُربى تلك الأجنة في زجاجة بها ماء أخذه من تلك الترع، وأخذ كل يوم يعبث بالماء وقد تلزج كالمخاط بما فيه من أجنة، وكان أن نظر إليها بعدسته يحسب أنها كبرتْ، فأفزعه أن وجد اللحم الطري يتلاشى بين أصدافه، ذلك لأن آلافاً من المكروبات الدقيقة استطعمته فالتهمته بشراهة أي شراهة

(تعالى الله! حي يعيش على حي، وحياة تستمد البقاء من فناء حياة! تلك لا محالة قسوة كبيرة، ولكنها مشيئة الله. ولا شك أن الخير كل الخير فيها، فلولا أن أكل المكروب صغار هذا المحار، وكل أم تلد ألفاً في المرة الواحدة، لانسدت به القنوات). هكذا فكر لوفن، وبهذا القنوات أسلم لقضاء ربه. كان يتقبل كل شيء ويرضى عن كل ما يجد، فلم يكن يعد قد جاء العصر الذي تهجم فيه البحاث على المقام الاسمي ورفعوا أيديهم إلى السماء يتسخطون ويتهددون على ما بالطيعة من قسوة لا معنى لها على ابنها الإنسان

وبلغت سنه الثمانين وفاتتها، وتخلخلت أسنانه بالرغم من قوة جسمه، وكل سن للتخلخل ولو أمهلتها السنون حيناً. وجاء شتاء أيامه وخيم بظله وقره فلم يشك شيئاً، بل انتزع سناً عتيقة من فمه وصوب إليها العدسة يمتحن تلك المخلوقات الضئيلة في الجذر الخاوي من السن مرة أخرى. ولم لا يفعل؟ فلعله يجد تفصيلاً جديداً فاته في سائر تلك المرات العديدة. وجاءته رفقة من صحابه وقد بلغ الخامسة والثمانين تسأله أن يترفق بنفسه ويدع البحث والدرس، فقارب ما بين حاجبيه وأوسع ما بين جفنيه، ولم يكن فارق البريق عينيه، وقال لهم:(إن الثمرة التي تنضج في الخريف تطول سائر الثمر عمراً). سمي الخامسة والثمانين خريفاً!

وكان كأرباب المعارض يحب أن يسمع إعجاب الناس بما يعرض إن حضروا، أو يقرأ لغيابهم إذا هو كتب لهم تلك الكتب الثرثارة المتفككة الطويلة. ولا تنس انه لم يكن يعرض بضاعته إلا على الفلاسفة والمتفلسفين وأحباب العلم. وكان لا يحسن التدريس إذا هو حاوله. كتب إلى الفيلسوف الشهير ليبنتز يقول: (أنا لم أعلم أحداً، لأني لو علمت واحداً وجب على تعليم آخرين، وإذن أعبد نفسي عبودية لا تنقضي، وأنا أحب أن أكون سيداً

ص: 37

حراً)

فأجابه ليبنتز يقول: (. . . ولكنك يا رجل إذا لم تعلم الشباب صناعة العدس وطرق البحث والنظر زال كل هذا عن وجه الأرض بزوالك). فكتب صاحبنا الهولاندي باستقلاله المعهود يقول: (لقد أعجب أساتذة (ليدن) وطلبتها باكتشافاتي مرة في أيام سالفة بعيدة فاستأجروا من نحاتي العدسات وصاقليها ثلاثة جاءوا يعلمونهم صناعتها، فعلى أي نتيجة خرجوا؟ لا شيء بقدر ما أرى، لأن جل الدروس أو كلها كانت تعطى لاكتساب المال ببيع العلم أو إظهاراً للعلم بغية احترام الناس وإعجاب الدنيا، وتلك نوازع لا تمت بسبب إلى اكتشاف خبايا الطبيعة المحجوبة عن أبصارنا، فهذه دراسات قد لا يصلح لها من الألف واحد، لأن الزمن الكثير يضيع فيها، ولأن المال الكثير يضيع فيها، ولأنها تستغرق من صاحبها فكره كله وحسه أجمع لكي يخرج منها على شيء. . .)

هذا أول رجال المكروب وكاشفيه. وفي عام 1723، وقد بلغ الحادية والتسعين استدعى صديقه (هوجفليت) وهو على سرير الفناء. فلم يستطع رفع يده. وملأ الدمع جفنيه وتقاربا ليلتحما بلحام الموت. فغمغم إليه:(صديقي هوجفليت، رجائي إليك أن تترجم الكتابين اللذين على المنضدة إلى اللاتينية. . . . . ابعث بهما إلى لندن. . . إلى الجمعية الملكية. . . . . . . . . . . . . .)

وبذلك بر بوعده للجمعية الذي أبرمه من خمسين سنة خلت أنْ يكتب لها إلى آخر رمق. وبعث (هوجفليت) الكتابين وكتب معهما يقول: (أسيادي العلماء، أبعث لكم آخر هدية من صديقي المحتضر، راجياً أن تحظى آخر كلمة له بالرضاء منكم)

وهكذا ذهب أول البحاث في عالم الجرثوم. وستقرأون عن اسبالتراني وهو أنبه منه، وعن بستور وله أضعاف ما لصاحبنا من خيال، وهم روبرت كوخ وقد قام بأعمال أسرع ثمرة من أعماله في تخفيف ويلات المكروب عن الإنسان، وعن آخرين لهم اليوم كما لهؤلاء صيت أبعد وذكر أشيع ولكن صدقوني لم يكن بين هؤلاء وهؤلاء من كان يطاول في الأمانة، ولا في الدقة، ولا في الحكم على الأمور، هذا القماش الهولاندي البسيط.

أحمد زكي

ص: 38

‌15 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- مهما يكن، فأنت تستطيع أن تحكم فيما إذا كان ينبغي أو لا ينبغي لمن لديه المعرفة أن يكون قادراً على تعليل معرفته

- لا شك أن ذلك حتم عليه

ولكن هل تظن أن كل إنسان قادر على تعليل هذه الموضوعات نفسها التي تتحدث عنها الآن؟

ليتهم يستطيعون يا سقراط! ولكم أخشى ألا يكون ثمت من يستطيع في مثل هذه الساعة من الغد أن يقدم تعليلاً جديراً بأن يؤخذ عنه

إذن فليس من رأيك يا سيمياس أن كل الناس يعملون هذه الأشياء؟

- يقيناً أنهم لا يعلمون

- إذن فهم آخذون في تذكر ما قد كانوا يعلمونه من قبل

- يقيناً

ولكن متى كسبت أرواحنا هذه المعرفة؟ - لم يكن ذلك بعد أن ولدنا بشراً؟

- لا، ولا ريب

- وإذن فقبل ذلك؟

- نعم

- إذن يا سيمياس، لا بد أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن تُصور في هيئة البشر، ولا بد أن قد كان لديها ذكاء لما كانت بغير أبدان؟

- حقاً يا سقراط، ما لم تفرض أن هذه الآراء قد أوتيتنا في ساعة الميلاد، لأنه لم يبق إلا تلك اللحظة وحدها

- نعم يا صديقي، ولكن متى افتقدناها؟ فهي لا تكون لدينا عندما نولد - وقد سلمنا بهذا.

ص: 40

هل افتقدناها في اللحظة التي فيها أخذناها، أم في وقت آخر غير هذا؟

- لا يا سقراط، لقد أدركت أني إنما كنت أنطق هراء لا أعيه

- إذن، أفلا يجوز لنا يا سمياس أن نقول ما نردده دائماً، وهو إذا كان ثمت جمال مطلق، وخير مطلق، وسائر الجواهر التي اكتشفنا الآن أنها سبقتنا في الوجود، وكنا نقيس إليها كل أحاسيسنا ونقارنها بها - زاعمين أن قد أن لها وجود سابق، فان لم يكن، ذهبت كل قوة في قولنا. فليس من سبيل إلى الشك بأنه إذا كان لهذه المُثُل المطلقة وجود قبل أن نولد، فلا بد أن أرواحنا كانت كذلك موجودة قبل ميلادنا، فان لم تكن المُثُل موجودة، لم تكن الأرواح موجودة كذلك

- نعم يا سقراط، إني مقتنع بأن مقتنع بأن لوجود الروح قبل الميلاد هذه الضرورة نفسها، وأنت إنما تتحدث من الروح عن كنهها: فقد انتهى بنا التدليل إلى نتيجة يسرني أنها تتفق مع ما أرتئيه. فلست أرى شيئاً يبلغ في بداهته مبلغ قولنا إن الجمال، والخير، وسائر الأفكار التي كنت تتحدث عنها الآن تواً، لها وجود غاية في الحق والتجريد، وإني لمقتنع بالدليل

- حسناً، ولكن هل اقتنع سيبيس اقتناعك هذا؟ لأنني لا بد أن أقنعه كذلك

قال سمياس - أظن سيبيس مقتنعاً؟ فإني أحسبه قد آمن بوجود الروح قبل الميلاد، على الرغم من أنه أبعد الكائنات عن التصديق. ولكن دليلاً لم يقم بعد على استمرار وجود الروح بعد الموت، بحيث يقنعني أنا، فلا أستطيع أن أتخلص من شعور الدهماء الذي كان يشير إليه سيبيس - ذلك أن الشعور بأنه إذا مات الانسان، فقد تتبعثر الروح، وقد يكون ذلك نهايتها، فلو سلمنا بأنها قد تتولد وتنشأ في مكان غير هذا، وقد تكون موجودة قبل حلولها في الجسم البشري، فماذا يمنع أن تبلي وتفنى بعد أن حلت فيه ثم خرجت منه ثانياً؟

فقال سيبيس - هذا جد صحيح يا سمياس، أما أن أرواحنا كانت موجودة قبل أن نولد، فهو الشطر الأول من الحديث، ويظهر أن قد قام الدليل عليه، وأما أن الروح ستبقى بعد الموت، كما كانت قبل الميلاد، فهو الشر الآخر، الذي لا يزال يعوزه الدليل، ولابد له من التأييد

قال سقراط - أي سمياس وسيبيس! لو أنكما أضفتما التدليلين أحدهما إلى الآخر - أعني

ص: 41

هذا وما سبقه، الذي سلمنا فيه بأن كل شيء حي قد ولد من الميت، لرأيتما أنا قد فرغنا من إقامة هذا الدليل، لأنه لو كانت الروح موجودة قبل الميلاد، وأنها إذ تجيء إلى الحياة وإذ تولد، لا تكون ولادتها إلا من الموت ومن يعالج الموت، أفلا يجب عليها بعد الولادة أن تستمر في وجودها ما دام لابد لها أن تولد مرة أخرى؟ لا ريب في أنا قد فرغنا من إقامة البرهان الذي ترجوان، ولكني مع ذلك، أحسبك أنت وسمياس، لا ترغبان في أن تُخبرا هذا الدليل أكثر من ذلك، فقد استولى عليكما ما يستولي على الأطفال من فزع، خشية أن يذرو الهواء الروح حقيقة، ويبعثرها عند فراقها الجسد، وبخاصة إذا كتب لإنسان أن يموت في جو عاصف، ولم يقدر له الموت حيث السماء ساكنة

فأجاب سيبيس باسماً - إذن يا سقراط، فواجبك أن تنفض عنا خوفنا بالدليل - ومع ذلك فليست هي مخاوفنا، إن توخيت الدقة في القول، ولكن هنالك في طويتنا، طفل ينظر إلى الموت، كأنه ضرب من الغول، فلا بد أن نحمله كذلك على ألا يفزع إذا ما انفرد وإياه في الظلام

قال سقراط - ردد في ل يوم صوت الساحر، إلى أن تطرد بالسحر ذلك الغول

- وأين عسانا أن نجد ساحراً حاذقاً يقينا مخاوفنا بعد ذهابك يا سقراط

فأجاب - إن هِلاس، لمكان فسيح يا سيبيس، وفيه كثير من طيبي الرجال، وهناك غير قليل من القبائل المتبربرة، فابحث عنه في طول البلاد وعرضها، بين هؤلاء جميعاً، ولا تدخر في البحث جهداً ولا مالاً، فليس من سبيل أفضل من استخدامك المال، ولا يفتك أن تبحث عنه كذلك بين أنفسكم فوجوده هاهنا أرجح منه ف أي مكان آخر

فأجاب سيبيس - لن نتردد في القيام في القيام بهذا البحث، ولنعد الآن، إذا شئت، في الحوار إلى النقطة التي استطردنا منها

فأجاب سقراط - طبعاً، وماذا أريد غير هذا؟ فقال: حسناً جداً

قال سقراط - أفلا ينبغي أن نسائل أنفسنا سؤالاً كهذا: - ما هو الشيء الذي تظنه عرضة للبعثرة، ونحن عليه حريصون؟ ثم ما هو الشيء الذي لا نحرص عليه؟ وبعدئذ نستطيع أن نمضي في البحث عما إذا كان ذلك الذي تمتد إليه يد البعثرة، من بيعة الروح أم لا - فعلى ذلك سنقيم ما نكن لأرواحنا من آمال ومخاوف

ص: 42

فقال - هذا صحيح

- قد نفرض أن الشيء المركب، أو الذي يتكون من أجزاء، أنه بطبيعته يمكن أن يتحلل، كما أمكن له أن يتركب، أما ذلك الذي لم يتركب من أجزاء، فيلزم أن يكون وحده غير قابل للتحلل، إذا كان ثمة شيء كهذا

فقال سيبيس - نعم فهذا ما قد أتصوره

- وقد يزعم أحد أن غير المركب، يظل كما هو، ولا يخضع للتغير، بينما يكون المركب دائم التغير، فلا يظل أبداً كما هو؟ فقال - إني أظن ذلك أيضاً

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 43

‌13 - بين القاهرة وطوس

من سلطان آباد إلى بغداد

للدكتور عبد الوهاب عزام

سلطان آباد حاضرة ولاية في إيران تسمى العراق، وهي في الجنوب الغربي من سهل فراهان، بناها منذ مائة وثلاثين سنة يوسف خان الكرجي وجعلها مربعة الشكل، وسورها وحصنها. وولاية العراق هذه خصبة كثيرة الزرع، فيها زهاء 680 قرية، وسجاجيدها مشهورة

وعلى مقربة من هذه المدينة كانت مدينة الكرج، في الإقليم الذي كان يعرف باسم كرج أبي دلف، وقد ذكره الشعراء في مدائحهم

دخلنا المدينة ليلاً فسرنا قليلاً فانتهينا إلى ميدان فسيح فيه حديقة تمتد منه أربعة شوارع واسعة. وهذا نظام جديد أتخذ لإصلاح المدن الإيرانية في السنوات الأخيرة

وقف بنا السائق على فندق (مهما نخانه) في هذا الميدان فدخلنا إلى فناء واسع للسيارات وصعدنا في سلم إلى حجرات على مقربة منها منتدى (قهوة) فلم نرض هذه المجاورة، فنزلنا إلى فندق آخر بجانبه، ليس في المدينة سواهما. فاتخذنا حجرة لا بأس بها في مثل هذه المدينة، واسترحنا وطعمنا قليلاً ثم خرجنا نجول في البلد فلم نر شيئاً أكثر مما أحاطت به النظرة الأولى، ورأينا المدينة على صغرها وسذاجتها نظيفة جميلة

وبرحنا البلدة والساعة ثمان وأربعون دقيقة من صباح الثلاثاء رابع عشر رجب (23 أكتوبر) مسرعين صوب همذان نود أن نبلغ بأية وسيلة بغداد يوم الأربعاء لندرك قافلة السيارات التي تبرحها إلى دمشق صباح الخميس. بلغنا فخر آباد والساعة تسع. وقد استلفتتنا كثرة العمران والزروع على الطريق كما قلت من قبل، ووقفنا والساعة عشر على ضيعة اسمها زنكنة معروفة بجودة عسلها فأكلنا ونحن نقول إن لله دواء من العسل (مستعيذين من المثل القديم: إن لله جنوداً منها العسل). ثم وقفنا على ملايير (دولت آباد) والساعة إحدى عشرة فطلبت جوازات السفر للإطلاع عليها. والمسافة بين سلطان آباد ودولت آباد 100 كيلو

وواصلنا السير تلقاء الغرب والشمال حتى بلغنا همذان والساعة واحدة بعد الظهر، فسرنا

ص: 44

في شارعها الكبير وجددنا العهد بمرقد الفيلسوف ابن سينا، ثم أوبنا إلى فندق يقوم عليه جماعة من الأرمن، والأرمن في إيران قومة الفنادق، تلقاهم في كل مدينة وقرية، وما نزلنا فندقاً أو مطعماً على طريقنا من طهران إلى حدود العراق إلا عرفنا صاحبه أرمنياً

وأعجلنا السفر عن الإقامة في همذان يوماً، فبرحناها بعد ساعتين سائرين شطر الجنوب للمبيت في كرمانشاهان، ونحن الآن على طريقنا التي سلكناها من قبل إلى طهران فلا أعيد وصفها هنا. لما شرعنا نفرع الجبال جنوبي همذان أصاب مصدم السيارة خلل، فسقطت لوحة صغيرة كتب عليها جشن فردوسي (عيد الفردوسي) وقد علق مثلها على كل سيارة أعدت للسفر في حفلات الفردوسي، فوقفنا وبحث السائق فوجدها وفك المصدم فربطه خلف السيارة. وقد أدت هذه الحادثة الصغيرة إلى أن تأخرنا عن بلوغ بغداد يوم الأربعاء ففاتتنا قافلة الخميس كما يأتي. واجتزنا جبال أسد آباد وبلغنا كنكادر والساعة خمس وربع من المساء، وقد ذكرت هذه البلدة في طريقي إلى طهران. أزيد هنا أنا نزلنا فاسترحنا وشربنا الشاي وأكلنا البطيخ، وهو في إيران كثير لا يعدمه السائر حيثما سار، وخرجنا نمشي على الطريق ننتظر أن يعد السائق سيارته فإذا جماعة جالسون في عريش على جانب الجادة، فتقدم كبرهم فحيانا وقال إن في البلد آثاراً قديمة. أتريدون أن تروها؟. وعرفنا حينئذ انه حاكم البلد فسرنا لنرى الآثار وصحبنا الحاكم وجماعة من الموظفين فرأينا بلداً صغيراً فقيراً في وسطه أحجار ضخام وقطع من أعمدة كبيرة اختلطت بالدور، فقيل هذا أثر معبد قديم. واخترقنا بعض الدور وسرنا بضع دقائق فرأينا أحجاراً أخرى قيل لنا إنها من آثار المعبد نفسه. وكان معبداً للإلهة (أناهيتا) من آلهة الفرس القدماء بناه لها الاشكانيون، وكان أيام الفتح العربي مأوى اللصوص وقطاع الطريق فمن أجل هذا سموه قصر اللصوص

قال ياقوت في المعجم: (قال صاحب الفتوح لما فتحت نهاوند سار جيش من جيوش المسلمين إلى همذان فنزلوا كنكور فسرقت دواب من دواب المسلمين فسمي يومئذ قصر اللصوص وبقي اسمه إلى الآن. . .) وقال مسعر بن مهلهل: (قصر اللصوص بناؤه عجيب جداً. وذلك أنه دكة من حجر ارتفاعها عن وجه الأرض نحو عشرين ذراعاً فيه إيوانات وجواسق وخزائن تتحير في بنائه وحسن نقوشه الأبصار. وكان هذا القصر معقل إيرويز ومسكنه ومنتزهه لكثرة صيده وعذوبة مائة، وحسن مروجه وصحاريه)

ص: 45

تركنا كناكور والساعة ست. فما فارقنا ضوء النهار حتى نشر على الأرجاء بدر التمام أشعته، فسرنا في جبال وسهول حتى أشرف على الجادة جبل بيستون الشاهق وقد ذكرته من قبل وذكرت قصة فرهاد وشيرين التي لا يزال صداها طائراً في أرجائه

ولما لاحت ذروة الجبل في ضوء القمر قلت: بيستون! ثم أنشدت:

لعل شيرين نصيب خسر وشد

سنك بيهوده مي كند فرهاد

(صار لعل شيرين نصيب خسرو، وعبثاً يقطع فرهاد الحجر) فأنشد السائق:

به بيستون كه رسيدم كرفت بارانم

أكر غلط نكنم آب جشم فرهادست

(لما بلغتُ بيستون تساقط علي المطر، فان صدق ظني فتلك دموع فرهاد.) ثم قال السائق أتعرف قصة شيرين وفرهاد؟ فأحببت أن أسمعها منه، فقلت ما القصة؟ قال:(كان فرهاد راعياً لبرويز فرأى يوماً شيرين امرأة برويز فهام بها حباً وكان يظنها إحدى برويز فهام بها حباً وكان يظنها إحدى إماء الملك. ومرضت شيرين يوماً فقال الملك لفرهاد إن شئت أن أمنحك شيرين فانحت في الجبل قناة يسيل فيها اللبن من المرعى إلى القصر، فشق في الحجر قناة طولها فراسخ. فلما أبلت شيرين قال الملك لفرهاد بقي أن تبنى لها قصراً عظيماً. فنحت الأحجار وبني القصر. فلما خشي الملك أن يستنجره فرهاد وعده قال لمشيريه كيف الخلاص من فرهاد؟ فتطوعت امرأة عجوز بالحيلة وذهبت إلى فرهاد نائحة لاطمة. قال: ما خطبك؟ قالت: ماتت شيرين. فغشي عليه ومات لساعته، وخلصت شيرين لبرويز)

والقصة ذائعة في الأدب الفارسي، وقد نظمت مراراً وبلغ بها الشعراء آلاف الأبيات. فلما فرغ السائق من قصصه قلت: أنستطيع أن نرى أثر فرهاد في هذا الجبل؟ قال إنه عال، ولا يرى بالليل

بلغنا كرمانشاهان والساعة ثمان بعد أن قطعنا إليها من همذان 190 كيلاً. وأوينا إلى فندق اسمه (مهما نخانه بزرك) أي الفندق الكبير وهو فندق نظيف حسن النظام. واستأذن منا سائق السيارة أن يتأخر قليلاً غداً ريثما يصلح سيارته. ثم انصرف

وأصبحنا ننتظر السائق فطال بنا الانتظار فذهبنا نمشي في المدينة، ثم ذهبنا إلى دار البريد فأبرقنا إلى وزير المعارف لنشكر له ما لقينا من حفاوة قبل أن نجتاز حدود إيران. ورجعنا

ص: 46

إلى الفندق فلم نجد السائق، وذهبنا نفتش عنه في الخانات حتى عثنا علياً مًكباً هو وبعض الصناع على إصلاح السيارة. ولم نستطع مغادرة كرمانشاهان إلا وقت الظهر. فأيقنا أن سفرنا غداً إلى دمشق عسير أو محال. وجد بنا السير زهاء ساعتين فبلغنا شاه آباد، وقد ذكرتها من قبل، فنزلنا في فندق صغير فاسترحنا وطعمنا، ونشط أصحاب الفندق من الأرمن في خدمتنا فاستأنفنا السير بعد ساعة ومررنا بكرند وكده باطاق، وسربل ذهاب حتى بلغنا قصر شيرين والساعة خمس فتوقفنا هناك عشر دقائق. ثم تركناها نؤم حدود العراق

دخلنا حدود العراق والساعة ست، وقد غربت الشمس فلقينا الموظفون مرحبين ويسروا لنا السفر العاجل فسرنا إلى خانقين فعرجنا على دار السيد عبد القادر صالح معاون الجمارك لنسلم ونشكر له ضيافته حين مررنا بخانقين المرة الأولى

توجهنا إلى بغداد والساعة سبع من المساء، وأمامنا صحراء مشتبهة الأعلام، طامسة المناهج، ولكن مهارة السائق، وعلامات الطريق يسرت لنا بلوغ بعقوبة والساعة تسع، حين بلغ منا التعب مبلغه. وقفنا على منتدى في الطريق، ونزلنا فإذا صورة أم لثوم في صدر المكان. ولما عرف صاحب المنتدى أننا مصريون أسرع فأسمعنا غناءها. فشعرنا ونحن في العراق أن مصر قريب

ثم سرنا من بعقوبة فأدركنا شاب ينادي أن الطريق غير بينة فاحملوني لأدلكم. قلنا لا حاجة إليك. وأدركنا فارسان من العسس فقالا أمامكم صحراء لا تهتدون فيها إلى طريقكم. فخير لكم أن تبيتوا هنا، وهنا فندق نظيف. وإن شئتم فكلموا رئيس الشرطة ليرسل معكم دليلاً. وهذا الشاب إن حملتموه معكم لا يستطيع أن يهديكم الطريق. فأقسم الشاب أنه بها جد خبير، وأنه هدى من قبل كثيراً من المسافرين. فارتكبنا أهون الشرين وحملنا هذا الدليل معنا. ولم يكن له مكان في السيارة فركب على الرفرف

وسرنا فإذا الطريق واسعة لا حبة لا تحتاج إلى دليل. قلنا للدليل أكذلك طريقنا إلى بغداد؟ قال لا. فسرنا لا نستهديه ولا نبالي، إلا سؤالاً في الحين بعد الحين (هل نمت؟) فيقول لا، فنقول احذر أن تنام أو تقع فنضل في هذه الصحراء. فنعم الدليل أنت. لولا أن من الله بك علينا لهلكنا. ولسنا ننكر على دليلنا أنه كان حديثاً ممتعاً في الصحراء سميناه الدليل النائم،

ص: 47

واهتدينا به إلى الفكاهة وإن لم نهتد به إلى غاية؟

بلغنا مدينة السلام منتصف الليل فأوينا إلى الفندق وانصرف دليلنا ثم جاء صبحاً يطلب أجره فضحكنا وقلنا لخادم الفندق أبلغه أنا وهبنا له أجرة الركوب بما له من أجر الهداية فليذهب مأجوراً

(يتبع)

عبد الوهاب عزام

ص: 48

‌ضرورة الوحدة الأدبية بين مصر والسودان

بقلم التيجاني يوسف بشير

لن يكون مثل الأدب يصوغ الأمم على أسلوب واحد، ويصنع منها عقلية واحدة، ويقيم أساس وحدتها على الروح، وبناء مجتمعها على العاطفة، ودعامة ألفتها على الجمال، وقاعدة إخائها على الصدق، وصرح كيانها على يقظة الشعور، فلا يتزلزل ولا يضطرب

ولن يكون مثل الأدب يوحد بين مشاعر الأمم، ويعين على توحيد المنافع، ويحقق من حلم الوحدة بما فيه من صور الفكر وجمال الفنون. ولا يمكن لها من ذلك إلا أن تعنى به فتوحد من الأساليب، وتوافق بين الإنتاج، وتقارب بين الأفكار ووجهة النظر إلى الكون والحياة، فمركز الأدب في وحدة الأمم مركز الفكرة في خلق الأدب، تؤسسه على القوة، وتبعثه على الجمال، وتنهضه على العاطفة، فيكسب من دقائقها في الصياغة والتعبير ما يأخذ على قاعدته الأمم فيهبها من دقائقه هو ما نأخذ به أفرادها على وحدة الشعور وجماعاتها على توحيد المصلحة. ولا أنفع لمصر ولا أجدى للسودان في سبيل وحدتهما الكبرى من أن يعني كلاهما بتقريب الفكر من بعضه، وتوجيهه بعد ذلك إلى منحى واحد، فتحقق الوحدة في كل شيء، ويستقيم لهما التواشج ويتم الامتزاج

فالأدب كان وما يزال أصدق ما يحمل إلى الفرد خصائص الفرد، وأقوى ما يعكس على الأمة مميزات الأمة، فيجمع بينهما في المشابه، ويوفق بينهما في الميول. وهو بما يدفع من جمال ويصور من لذة، وينقل من مثلٍ للاجتماع، وفروضٍ للإنسانية، وقوالب للحياة، إنما يقتضي بما فيه من قوة الإيحاء أن يوحد من نظام الحياة في الشكل كما وحد بينه في الدخائل. وما فرضت أمة أدبها على أخرى إلا كان معنى ذلك أنها تفرض عليها النظام الذي تسير عليه، وتعين لها الحياة التي تؤمن بها، والغرض الذي ترمي إليه. فإذا جاءت مقاييس الأدب عندهما بمقدار واحد جاءت على وفق ذلك مصاير السياسة وأقيسة الحكم. وإن أوربا الآن لتبلغ بأدبها في الشرق ما جعل كثيراً من خصائص الحياة الغربية موزعة عليه بأوفى قسط وأوفره. وما كانت لتبلغ هذا المبلغ إلا بما يقوم به أدبها من بث صور الحياة العقلية في العالم. وعلى قدر ما فرضت أدبها على الشرق فرصت سيادتها عليه، وعلى قدر ما سنت له من أقيسة أدبها ومعايير الجمال فيه، كانت سياسة الحكم تنصب على

ص: 49

مقاييس بقدرها كثرة وتعداداً

وإن مصر لتتمتع منذ قرون بعيدة بأدب فيه من خصائص (المصري) وملازمات حياته ما يكفل لها أن تنتظم الشرق في وحدة أدبية تامة متى كان لها أن تعنى بذلك عناية خاصة، وأن تعمل في سبيله، فتقيم له المؤتمرات وتدعو إليها، وتنظم له المجامع وتبعث له البعثات، وتكون له في كل بلد (رابطة)، وتنشئ من أجله في كل قطر سوقاً، لتضمن لها في كل شعب حقوقاً. ولكن مصر لم تعمل لذلك حتى في ألزم شعب لها وألصقها به. وذلك هو السودان. . .

كلما فكرت في تعليل ذلك لم أجد ما يشفع لمصر في إفلات ما كان وما لا يزال يتهيأ لها أن تحقق فيه أن السودان قطعة من مصر يصح فيها ما يصح في مصر، ويجري على هذه ما يجري على تلك. ولا ينبغي أن نخادع أنفسنا في تقرير الحقائق، فان كل ما حصل لم يكن إلا نتيجة طبيعية لجهل مصر بالسودان وإغفالها بدأة بدء توثيق العلائق الأدبية والروحية بينهما، حتى لقد استغل سادتنا الإنجليز جهل مصر الفاضح بنا فوطدوا مصالحهم في السودان وانتزعوا منه كل ما يدل على مصر، إلا علماً ما تكاد تحس له بوجود. ولو قد كان لمصر أن تصرف عنايتها بعد عام 1924 إلى العلائق الأدبية وتنميتها لما اتسعت الهوة الفاصلة بين القطرين إلى هذا المدى، ولما قامت الموانع حتى دون أبسط شيء لا يغير من مجرى الحوادث بقليل. ولكن مصر لم يكن يهمها بعد ذلك أن تعود للتفكير فيما يجعل الوشيجة بينهما قوية على الحوادث، جديدة مع الأيام حتى ضرب الإنجليز ضربتهم القاضية، ووقفوا دون المصري والسوداني حتى عن معرفة ما ليس بد أن يعرفه كل عن أخيه، لأنهم - وقد استغلوا هذا الجهل - كانوا يعلمون أن ما ضربوا عليه من العلائق كان شيئاً لابد منه، فلا ينفيه الإنكار ولا يطمس عليه النسيان أو التغافل. ولهذا فهم أشد خشية أن يطلع أحد، وخاصة إن كان سودانياً على الحقيقة التي عبثوا بها. على وجود الصلات التي دفنت حيةً بعد أن جهدوا في خنقها، ولكنها كانت أطول نفساً وأكثر حيوية أن تموت، على روابط صنعها الله وأحكم في توثيقها، ولا حل لما عقد؛ وكانوا موفقين فيما أرادوا من تفرقة، حتى لقد حاولوا بما يبثون ويذيعون من ضروب الإرهاب وألوان النكال أن يجعلوا اسم مصر بعد عام 24 شيئاً لا تسوغ القوانين النطق به، وكلما شددوا في النكير وأمعنوا

ص: 50

في المنع، كان اسمها أشد إغراء وأكثر جاذبية وأقوى على لفت النظر، وحمل عامة الناس أن يبحثوا عن السر الغامض الذي يأبى عليهم الإنجليز الاتصال به. ومصر - ألا سامح الله مصر - مع هذا كله لم يكن يهمها أن تعرف عن السودان شيئاً وهي تطالب بكل ما فيه. . .!

والآن. . . . لقد بلغ الإنجليز ما أرادوا. وضربت يد الغدر والمطامع على كل شيء، حتى لتوشك أن تضرب على النيل فيتزلزل فينفلق فلا يعود يعرف أين تكون مصر. ولقد طالما عبثت الأطماع بما بين مصر والسودان من ألفة وتعاطف، وأفسد الاستعمار هنا - في السودان - والحماية هناك ما بين هذين القطرين من روابط وصلات كلها بر وكلها رحمة. . . الآن لقد تم لهم ما أرادوا، ففرقوا وباعدوا، وأغربوا في التفرقة، وأفلحوا في مغالطة الحقائق الطبيعية، وتنكروا لخرائط الجغرافيين، وكابروا وخادعوا أن يكون شيء من هذا جديراً أن يحملهم على الاعتراف بخطئهم فيما حاولوا أن يطمسوا عليه من صلات كانت مصر هي في الحق أول من أغفل العمل في توثيقها والعناية بها، فماذا تفعل الآن. . . .؟

نحن نطل اليوم على عهد جديد تأخذ العلائق فيه صوراً جديدة فيها من صحة المعرفة وحسن التفاهم ما يملؤنا ثقة بالمستقبل وإيماناً به، وشعوراً بالوحدة والعمل لها في جميع ما تقضي به مصالح القطرين، وفي كل ما لا ينبغي إلا أن يكونا متحدين في بطيعة (الجوار) إذا لم يكن إلا هذا ما يملي بوجوب هذه الوحدة في اتجاه الحس والشعور، وفي تبادل المنافع والمصالح. وأما وقد كان هناك من مستلزمات الوحدة ما يجعل الجوار في آخر قائمة العلائق من لغة ودين وأدب وعروبة ونيلٍ زاخرٍ هادرٍ متدفق يصور الرباط المقدس بين بلدين أشد ما يكونان تلازماً وارتباطاً. أما وقد كان كل ذلك فقد توفرت بواعث توحيد الأمتين كما يتوحد النيل قطرةً إلى قطرةٍ وموجةً إلى أخرى وفياً إلى فيض. ولكن على أي أساس يقوم؟ إن شيئاً من سيرة مصر الأولى في السودان لن يعود إليها والحالة كما هي من تفكك في علائق الأدب وتباينٍ في وجهة التفكير - هذا كلام صريح لا مكان فيه للتأويل - وإنا لنرى قبل ل شيء أن تقوم الصلات على الأدب في بعض ما تقوم عليه، ولن يمر على ذلك عهد إلا ويجيء من بعده ما يكفل للقطرين الشقيقين أن يدفقا على مجرى واحد كما يفعل النيل. لا أن تظل نقرأ ونسمع بإلحاح مصر في سبيل السودان، فنعجب لها وهي

ص: 51

لا تعرف عنا شيئاً صحيحاً. فان من الخير لنا ولا أن نلتقي الآن على الفكر ونتصل على الأدب من أن نظل هكذا لا صلتُنا بصلة ولا تعارفنا بتعارف، ولا انفصالنا بانفصال. ففي مصر (روابط) للأدب وفيها مجامع للعلم، وعندها شباب مثقف، وفيها صحف كثيرة، فكم هو أنفع لها وأجدى للسودان أن تعنى صحفها بشئونه فتأخذها بالمعالجة، وتكب عليها بالدرس، وتتناول أدبه بالنقد والتحليل فتقارب بين الأدبين وتلائم بين الذوقين. وكم هو خير لنا ولها وأكفل للوحدة، وأبقى على المعرفة أن تبعث البعوث العلمية والأدبية - والاقتصادية كما فعلت الآن - فتحقق من حلم الوحدة بالعمل، وتخرج بأقوالها إلى التنفيذ

ام درمان - سودان

التيجاني يوسف بشير

ص: 52

‌الأنتكيرة هي أنكلتيرة

للأستاذ عبد المتعال الصعيدي

نعود إلى الكتابة في هذا الموضوع مقتنعين بعد مراجعات طويلة بصحة رأينا أن الأنتكيرة في النص الذي نقلناه عن لسان الدين بن الخطيب في كتابة (الإحاطة) هب انكلتيرة وهي بالقاف بدل الكاف (انتقيرة) اسم مدينة ذكرها ياقوت في معجمه، فقال إنها حصن بين مالقة وغرناطة. ومنها أبو بكر يحيى بن محمد بن يحي الأنصاري الحكيم الانتقيري من أصحاب غانم، روي عنه إبراهيم بن عبد القادر بن شنيع إنشادات قال: كنا مع العجوز الشاعرة المعروفة بابنة ابن السكان المالقية، فمر علينا غراب طائر فسألناها أن تصفه فقالت على البديهة:

ملا غراب بنا

يمسح وجه الربى

قلتُ له مرحباً

يا لون شعر الصبا

وقد ذكر القلقشندي في صبح الأعشى (ص 269 ج5) الحادثة التي ذكرها لسان الدين بن الخطيب، فقال إنه لما هلك الهُنْشة بن بطرة سنة 751هـ في الطاعون الجارف ولي ابنه بطرة، وفر ابنه القمط إلى بَرْشَلونة، فاستجاش صاحبها على أخيه بطرة فأجابه، وزحف إليه بطرة فاستولى على كثير من بلاده، ثم كان الغلب لقمط سنة 768هـ، واستولى على بلاد قشتالة، وزحفت إليهم أمم النصرانية، ولحق بطرة بأمم الفرنج الذين وراء قشتالة في الجوف بجهة الليمانية وبرطانية إلى ساحل البحر الأخضر وجزائره، فزوج بنته من أبن ملكهم الأعظم المعروف بالبنس غالس وأمده بأمم لا تحصى، فملك قشتالة والقرنتيرة، واتصلت الحرب بعد ذلك بين بطرة وأخيه القمط، إلى أن غلبة القمط وقتله سنة 772هـ واستولى القمط على ملك بني أدفونس أجمع، واستقام له أمر قشتالة، ونازعه البنس غالس مالك الإفرنجة بابنه الذي هو من بنت بطرة، وطلب له الملك على عادتهم في تمليك ابن البت، واتصلت الحرب بينهما، وشغله ذلك عن المسلمين، فامتنعوا عن أداء الإتاوة التي كانوا يؤدونها إلى من كان قبله، وهلك القمط سنة 781هـ

وهذا النص الذي ذكره القلقشندي فيه ما يمكن به الاهتداء في أمر أمة الأنتكيرة التي وصفها لسان الدين بن الخطيب، ولكن فيه غموضاً في سرد تلك الحوادث لبعدها عن

ص: 53

القلقشندي، وقد كانت حوادث جديدة في عصره لم يتقرر أمرها ولم تدون في كتاب من كتب القوم الذين كانت في بلادهم وقائعها

وإنا نسوق من تاريخ هؤلاء القوم الحوادث التي اكتنفت هذه الحوادث التي وردت في ذينك الكتابين (الإحاطة) ز (صبح الأعشى) معتمدين في ذلك على كتاب تاريخ ملوك فرنسا لمونيغورس الفرنسي من مؤرخي القرن التاسع عشر الميلادي، وعلى كتاب تاريخ إنجلترا الجورجي زيدان

كان أدورد الثاني ملك إنجلترا زوجاً لايزابيلة أخت كرلوس ملك فرنسا (1322 - 1328م) فأرسل إليه أدورد الثاني ابنه برنس غالس ليهدي إلى فرنسة دوقية غيانة، فسافر إلى فرنسا وأدى ما كلفه به والده

ثم انقضى عهد أدورد الثاني على إنجلترا، وقام بعده ابنه أدورد الثالث وهو ابن إيزابيلة أخت كرلوس ملك فرنسة، وكان كرلوس قد توفي وقام بعده على ملك فرنسة ابن عمه فيلبس دوولواس، فنازعه أدورد الثالث هذا الملك، ورأى أنه أحق به منه لأنه ابن أخت كرلوس، وأما فيلبس فليس هو إلا ابن عمه، وقد أعان أدورد الفلمند على فليبس وحملهم على مبايعته بملك فرنسة سنة 1340م، ويقال إنه في ذلك الحين تقلب ملوك إنجلترا بملوك فرنسة وحملوا أسلحتهم

ثم اتصلت الحروب بين أدورد الثالث وملوك فرنسة، وقد أرسل إليها ابنه أدورد برنس غالس (أوف ويلس) وكان يعرف بالأمير الأسود لسواد دروعه وأسلحته فاستولى على بعض أقاليمها، وأسر ملكها يوحنا لوبون سنة 1355م ثم أقام فيها حاكماً عليها، وقد بعث في مدة إقامته بها حملة إلى أسبانيا لمساعدة بيدرو الظالم فتحمل بسببها ديوناً كثيرة أدت إلى اعتلال صحته، ثم حارب محاربة أخرى فاز بها، ولكنه لم ينل جزاء عليها، ثم حدث ما ألجأه إلى السفر إلى إنجلترا، فمات بها عن ولد اسمه ريكاردوس فضعفت شوكة إنجلترا في فرنسو، ولم يبق إلا قليل منها في طاعة أدورد الثالث، وقد أثر فيه موت ابنه حتى مات حزناً عليه سنة 1376م بعد وفاة ابنه بسنة وخلفه ورتشرد الثاني (ريكاردوس) ابن الأمير الأسود وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قد قام في فرنسة كرلوس الخامس (1364 - 1380م) واستعان في أمره بالفارس المعروف (براتراندد غسقلين) وما زال يترقى هذا

ص: 54

الفارس حتى صار أمير الجيوش الفرنسية، وجرت له حروب مع الإنجليز أسروه فيها ثم ردوه إلى بلاده، فأرسله كرلوس إلى إسبانيا سنة 1366م ليعاقب بطرس لوكريل (الجبار) ملك قسطيلة (قشتالة)، وكانت رعيته قد كرهته، وثقل ظلمه عليها، فخلعه وولى بدله أخاه هنري داتر نستمارة، وقد اصطحب دغلسقين معه في تلك الغزوة عصابات من الجنود التي كانت قائمة بحفظ البلاد الفرنسية التي تركت للإنكليز، فلما انقضت مهمتهم تجمعوا أحزاباً، وصاروا يعيثون في أرض فرنسة، فأنقذها دغسقلين منهم بأخذهم معه إلى إسبانيا وإلحاقهم بجند هنري الذي أقامه ملكاً عليها

وكان يعاصر ملوك فرنسة وإنكلترا المذكورين من ملوك قشتالة الفونس الحادي عشر (1312 - 1350م) وبيدرو (135 - 1368م) وهنري الثاني (1368 - 1379م) ولا شك أن الفونس الحادي عشر هو الهنشة ابن بطرة الذي ذكر القلقشندي أنه مات في الطاعون الجارف سنة 751هـ وهي توافق سنة 135م، وأن بيدرو هو بطرة بن الهنشة الذي ملك بعد أبيه في هذه السنة إلى أن قتل سنة 772هـ على ما ذكره القلقشندي وهي توافق سنة 1370ن، ولعل قتله كان سنة 770هـ لأنها هي السنة التي توافق سنة 1368م، وأن هنري الثاني هو أخوه القمط الذي ذكر القلقشندي أنه مات سنة 781هـ وهي توافق سنة 1379م

وقد كانت المنافسة قائمة في ذلك العصر بين فرنسة وإنجلترا، ولكل من الدولتين أنصار من الدول الأوربية، وكانت أحوال السياسة ف هذا العصر قائمة على هذه المنافسة، فلما قان النزاع على ملك أسبانيا بين ابني الفونس الحادي عشر (بيدرو وهنري) أنضم بيدرو إلى إنجلترا، وانضم هنري إلى فرنسة، ولا شك أن تلك الحملة الفرنسية التي أرسلها كرلوس الخامس فرنسة كانت من المساعدات التي لقيها هنري (القمط) حينما التجأ إلى ملك برشلونة، فأمده بجيش من عنده وزحف على أخيه بأمم من النصرانية كان منها تلك الحملة الفرنسية لأن تاريخها الميلادي (1366م) يوافق السنة الهجرية التي ذكر القلقشندي أن القمط تغلب فيها على أخيه بطرة (سنة 768هـ)

أما الإنكليزية التي وجهها لبرنس غالس (أوف ويلس) إلى أسبانيا حينما التجأ إليه بطرة بن الهنشة فكانت بعد الحملة الفرنسية السابقة وبها تمكن بطرة من خلع أخيه القمط والاستيلاء

ص: 55

على ملك أسبانيا إلى أن قتله أخوه القمط سنة 772هـ أو سنة 1368م والفرق بينهما سنتان على ما قدمنا، وجنوده هذه الحملة هي جنود الانتكيرة التي أعجب ابن الخطيب في كتاب (الإحاطة) بقتالها، ولا يصح بعد هذا شك في أن الأنتكيرة هي أنكلتيرة كما هو رأينا

عبد المتعال الصعيدي

ص: 56

‌في تاريخ الأدب المصري

4 -

ابن النبيه

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

تتمة

المدح والغزل أهم ما طرقه من الأغراض، أما الوصف فانه يأتي عرضاً غير مقصود، وقد وصف لنا ما تبتهج به نفسه من مُتع كما ذكرنا، وأما الرثاء فهو جيد وإن كان قليلاً، وهو يجيد الرثاء والعزاء، استمع إليه حين يرثي ويعزي قائلاً:

الناس للموت كخيل الطراد

فالسابق السابق منها الجواد

والموت نقاد، على كفه

جواهر يختار منها الجياد

مصيبة أذكت قلوب الورى

كأنما في كل قلب زناد

يا ثالث السبطين خلفتني

أهيم من همي في كل واد

ويا ضجيع الترب أقلقتني

كأنما فرشي شوك القتاد

دفنت في الترب ولو أنصفوا

ما كنت إلا في صميم الفؤاد

خليفة الله اصطبر واحتسب

فما وهى البيت وأنت العماد

في العلم والحلم بكم يقتدي

إذا دجا الخطب وضل الرشاد

ولعل الظروف التي أحاطت به لم تلجئه إلى الهجاء، ولذ لا نعثر عليه فيما بين أيدينا من شعر

- 6 -

يمتاز شعر ابن النبيه بالسهولة والرقة والعذوبة، سهولة تذكرنا بديباجة البحتري العذبة في نقاء والسلسة في امتناع، وهو مع سهولته يرتفع عن الأسلوب العامي إلا في النادر جداً، حين يجد التعبير العامي هو التعبير الذي يؤدي المعنى الكامن في نفسه تماماً، ولكنه مع ذلك يهذبه ويشذب أطرافه حتى يعلو ويرتفع. وهناك ظاهرتان أخريان فيه: أولاهما استخدامه كثيراً من الكلمات الفارسية في شعره، ولعل لمعيشته بالجزيرة وقربه من بلاد الفرس، ولحبه التجديد والتظرف أثراً في ذلك كبيراً، فأنت تسمع في شعره كلمة الملاذ

ص: 57

معرب اللاد وهو قماش حرير لطيف جداً، وتسمع كلمة الكلهبند وهي مركبة من كله وهو اسم لما يلبس فوق الرأس وبند وهي بمعنى رابط، ومجموعهما اسم لما يشد به ما على الرأس إلى الذقن لئلا يقع، ويستعمل كلمة جوكانه بمعنى صولجانة وغير ذلك. وأخراهما ما تراه في شعره كما تراه في شعر غيره من المصريين من حب للبديع وافتتان بأنواعه وفنونه؛ ولقد أغرم شاعرنا بتلك الأنواع البديعية، ولاسيما الطباق والاقتباس وحسن التعليل واللف والنشر ومراعاة النظير والجناس والتلميح، كقوله:

تبسم عن منظوم در، فان

تكلمت جاءت بمنثور

وقوله:

إن جنحوا للسلم فاجنح لها

ما خدع الحرب بتقصير

وقوله يصف الخمر:

بكر إذا ابن سماء مسها لبست

ثوب الحباب حياء منه واتشحت

وقوله:

فالناس بين بنانه وبيانه

في نعمتين رغائب وغرائب

وقوله:

عزيز يوسفي الحس

ن لم يُشر ولم يسجن

قد ابيضت به عيني

وللمهجور أن يحزن

ولقد كان حينما يمدح القاضي الفاضل يتأنق ويجتهد الاجتهاد كله في الصناعة اللفظية شأنه في ذلك شأن غيره ممن اتصل بالقاضي ومدحه، ولقد نظم فيه قصيدة استخدم الاقتباس في كل أبياتها واقتبس من سورة المزمل إذ قال:

قمت ليل الصدود إلا قليلا

ثم رتلت ذكرهم ترتيلا

ووصلت السهاد أقبح وصل

وهجرت الرقاد هجراً جميلا

مسمعي كل عن كلام عذولي

حين ألقي إليه قولاً ثقيلا

وفؤاد قد كان بين ضلوعي

أخذته الأحباب أخذاً وبيلا

قل لراقي الجفون إن لعيني

في بحار الدموع سبحاً طويلا الخ

وعلى هذا المنوال نسج قصيدته، وذلك غير مستغرب على رجل يخاطب القاضي الفاضل

ص: 58

الذي كان زعيم الطريقة التي تعني بالصناعة والبديع. غير أنه لا ينبغي أن نظن أن استخدامه البديع أضاع من جمال الشعر أو حط من قيمته، فشاعرنا لبق يجيد استخدام البديع من غير أن يؤثر في جمال الشعر وروعته. هذا ولشاعرنا بعض موشحات ليست بقوية ولا رائعة، وهي أضعف من شعره العادي، وأحدها ينطق بدون إعراب، ولعل محاولته في الموشحات لم تنجح فانصرف عنها ولم يكثر من الموشحات، كما أنه خرج على أوزان الشعر العربي القديم قليلاً حينما كان يقول شعراً من الدوبيت، وهو وزن لم يستعمله العرب القدماء وغنما اخترعه المولدون

- 7 -

فاتني أن أذكر لك اسم شاعرنا، وأنه أبو الحسن علي بن الحسن بن يوسف بن يحيى، ويلقب بكمال الدين، ويكنى بابن النبيه، وفاتني أن أقول لك: إنه كان حاضر البديهة حسن التعليل، ويذكرون من ذلك أنه رأى الأشرف يوماً يرتعش بالحمى، فنظم على البديهة وأنشده:

تباً لَحماك التي

كست فؤادي ولها!

هل سألتك حاجة

فأنت تهتز لها؟

ومرة انكسر يراع الأشرف وهو يكتب فالتمس غيره فلم يجد فقاله له: أقلامك يا كمال قليلة، فنظم ارتجالاً قوله:

قال الملك الأشرف قولاً رشداً=أقلامك يا كمال قلت عددا

ناديت لطول كتب ما تطلقه

تحفى وتقط فهي تفنى أبدا

ومرة غُنى بين يدي الملك العزيز دوبيت بالعجمية معناه أنه جعل الليل برد دارا للحبيب ليحجب الشمس، فاستحسن المعنى وأرسل إلى وزيره أن يأمر الشعراء بالعمل في ذلك، فأنشد كل منهم ما ورد عليه، ودخل ابن النبيه على الوزير، فطلب منه أن يعمل في ذلك، فاستمهله فأبى فقال:

قلت لليل إذ حباني حبيباً

وغناء يسبي النهى وعقارا

أنت ياليل حاجبي فامنع الصب_ح وكن أنت يا دجى برد دارا

وبرد دارا فارسي معرب معناه الحاجب، والغناء بالفارسية قد يفسر لنا وجهاً من الوجوه

ص: 59

التي أدخلت الكلمات الفارسية في شعر ابن النبيه، ولسرعة بديهته تلك كان الملك الأشرف كثيراً ما يطلب منه قول الشعر ارتجالاً في أي موضوع يعن له

سكن ابن النبيه نصيبين، وهي مدينة في شال الجزيرة بعد أن غادر مصر، وبعد نحو ستين عاماً من مولده (إذ أنا نعلم تاريخ ميلاده على وجه التعين) مات ابن النبيه في اليوم الحادي والعشرين من جمادي الأولى سنة تسع عشرة وستمائة

(تم البحث)

أحمد أحمد بدوي

ص: 60

‌صور من أدب السودان

قصيدة نقدية

للأستاذ عبد الله عبد الرحمن

العروبة

تنكر من وادي العروبة مورد

فلا الزهر مُفتر ولا الغضن أملدُ

ولا ماؤه ينساب بين رياضة

ولا الطير في أفنانهن تغرد

وقفتُ على الوادي مليا فهزني

وبدد شملي شمله المتبدد

مضى متنبيه وحسان دوحه

وغاب معريه الحكيم المجدد

أسائله: أين الذين تحدثوا

اليك وفي هذا المكان ترددوا

على ظلك الضافي جلوس وكلما

أهاب بهم داعي السماحة أنشدوا

أحمد زكي باشا

كأن لم يكن شيخ العروبة نازلاً

به ولهاً من علمه متزود

زكي! نصير العرب في كل موطن

بهول، وماضيها الذي تتقلد

عليك سلام الله أحمدُ، هامداً،

وأستغفر المولى، فما الفضل يهمد

وكان الرجال العبقريون إن قضوا

بما لهمُ من شامل النفع خلدوا

لقد كنت برا بالعروبة كلها

وفي نصرها قد كنت لا تتردد

إذ طلع الغرب الحديث بآية

من العلم كبرى وازدهاه التفرد

عمدت التاريخ تسأله حكمه

وأثبت أن العرب من قبل مهدوا

فساحوا وطاروا في السماء ويممت

سفينهم الكونَ الجديد وأصعدوا

الفوضى

وفوضى على الأكوان جرت ذيولها

وبات يعانيها مَسود وسيد

مظاهرها في كل نادٍ، وإنما

عواقبها موت الشعور المؤكد

فشت في زمان فاض غدراً بأهله

ودب إلى آدابهم فيه مٌرقد

لنا لغة أما بنوها فأنكروا

فضائلها والمنكر الحق ملحد

ص: 61

همو جهلوا منها علوماً كثيرة

وفاتهمو منها المعين المجدد

وما قدروها في اللغى حق قدرها

وكانوا أناساً للأباعد أخلدوا

وآياتها في كل يوم وليلة

تثنى، ولكن بالمحامد تفرد

أرادوا، وظلم ما أرادوه بين،

بما لم يكونوا فاعلين ليحمدوا

إذا نظروا للأقدمين مقالة

ولم يفهموا، قالوا: كلام معقد

وإن لمتهم يوماً أشاحوا بوجههم

وأرغوا كما يرغى البعير وأزبدوا

همو زعموا أن الزمان مؤخرٌ - وما لزمان في تأخرنا يد

ولكنه لما وهى حبل خُلقنا

مشينا كما يمشي الأسير المقيد

لقد مُنيت أم اللغات بفتيةٍ

طعام على أعلامها تتمرد

وقد أشربوا حب الأعاجم فانبروا

إلى هذه الفصحى سهاماً تسدد

تواصوا بسرٍ وهو كتمان فضلها

وقالوا بأنا معشر لا تقلد

وقالوا لقد ضاقت عن العصر حاجها

وفي وجهها باب الثقافة يوصد

وقالوا بأنا أنجبتنا معاهد

وأوحت إلينا يا بني العصر جددوا

وما هو تجديد فنكبر أمره

ولن دعاوى منهمو وتزيد

وهل ينبغي التجديد إلا لعالم

له في فنون الضاد رأي مسدد؟

قضى زمناً في البحث والدرس جاهداً

فقرت له الفصحى بما هو مًورد

حوى قصبات السبق في جيله وهل

حوى قصبات السبق كسلان قٌعْدُد

أقول لمن قالوا شهدت لها وقد

تغاليتَ فيها. لكن الله يشهد

وهل كان إلا الله داع لرفعها

وبنائها إلا النبي محمد

أرى الخرق يزداد أتساعاً بثوبها

وعارٌ علينا ثوبها يتقدد

تمسك قوم بالجديد فاتهموا

وعُلق بالعادي قوم فأنجدوا

وبين الفريقين استحرت كما ترى

حروب. وخوفي أنها ليس تخمد

فما لبني الضاد الكريم تفرقت

بهم سبل والحق لا يتعدد

ومرشدهم ضل الطريق فما عسى

يكون سوى الخسران إن ضل مرشد؟

الشعر

ص: 62

لعمرك إن الشعر أضحى مخنثاً

قوافيه من تحنانها تتأود

وأصبح غثاً في الركاكة ضارباً

بسهم، وعما سنت العُرب يبعد

وأمعن في لين وبخس مطالبٍ

وكاد على أيدي التشاعر يجمد

لقد خمدت بالقوم نار حميةٍ

تلظى، وخوفي أنها ليس توقد

فحتى متى تغفى الجفون على القذى

وحتى متى نُعنى بما ليس يحمد

إذا ما أسود الغاب خلت ذئابها

تعيث فان الحرث والنسل يفسد

لقد هاجني أني أرى الروض باسما

ولست أرى فيه بلابل تغرد

وقد هاجني أني أرى الربع مقفراً

وليست له أنفاسنا تتصعد

إذا الشعر لم يترك بقلبك روعة

فلا هو سيار ولا هو جيد

وإن هو لم ينهض بأعباء أمةٍ

فذاك هراء ميت قبل ينشد

وإن أنت لم تذعن لآيات سحره

فقل إنني بين الخلائق جلمد؟

إذا ما شياطين النفاق تمردت

بأرض فباسم الشعر في الأرض تطرد

كتاب العصر

ولا أكذب الرحمن، في العصر أنجم

حماة لها، من غيرة تتوقد

وصيابة أدت أمانة قومها

وقامت على ضوء (الرسالة) ترشد

يطالعنا (الزيات) فيها بنافعٍ

من القول لا يطغى ولا يتقيد

(وهيكل) في أثوابه أي كاتبٍ

خصيب إلى خير الأساليب يعمد

ولله طه بن الحسين فانه

على نثره الفذ الخناصر تعقد

وان تذكر الكتاب فاذكر غريبهم

(شكيباً) ففي آثاره ما يخلد

حمى حوزة الدين الحنيف وغادرت

جواثبه الدنيا تقوم وتقعد

شعراء العصر

(ومطران) يسمو للخيال مصعيداً

فيألفه وحشية المتأبد

ويعجبني شعر (الهراوي) فإنه

رصين قويم ليس فيه تجعد

جميل الزهاوي والرصافي كلاهما

هو اليم في آذيه يتزبد

ص: 63

أقاما بأرض الرافدين ليرفدا

وودا لو أن الناس طرا تبغددوا

السودان

وكانت لنا في غابر الأمس نهضة

مباركة لا اللهو منها ولا الدد

فعبد الرءوف و (الخطيب) كلاهما

له بيننا الفضل الذي ليس يجُحد

هما حركا منا النفوس وأنشرا

علوماً على أضوائها اليوم نصعد

وقد طالما هزا النفوس بطيب

من القول يرضاه الوليد وأحمد

ولاحا على الخرطوم نجمي مغارفٍ

به وعوادي الدهر إذ ذاك تولد

وفي اليوم قد شابت وشب وليدها

ومارسها منا كبير وأمرد

وذلك عهد قد سعدنا بظله

لو أن الكريم الحرفي الدهر يسعد

فآليت لا أنسى له فضل نعمة

علي، وللإحسان مني ممجد

أولئكم الكتاب آساس نهضة

وكنز ثمين للثقافة يرفد

هم العائشون في نفوس كثيرةٍ

وفي كل قطر من صنائعهم يد

تخيرتهم بين الأنام لفضلهم

وأكبرتهم إن كنت للناس أنقد

إلى العرب

بني العرب في السودان والشرق كله

بكم ولكم يوري زنادي ويصلد

أفيقوا فان الوقت سيق مجرد

عليكم ووقت الناس في الغرب عسجد

إذا لم نشخص داءنا فدواؤنا عسير وفي إغفاله ما يهدد

يهدد نهضات بدت في شبابنا

جديداً وخوفي أنها سوف ترقد

علوم اللسان لو علمتم كثيرة

وفي جهلها ترك لما هو أوكد

وأولها أن تروي الشعر ناصعاً

عن العرب لا يسمو إليه المولد

وأن تقتل الألفاظ فهماً وتنتقي

أحاسنها يوم الكتابة تقصد

فيا ليت شعري هل ملأتم وطابكم

من العلم حتى تكرموا وتمجدوا؟

هلموا نوادي العلم في كل بلدة

تقول لكم إن الطريق معبد

إلى حاملي الأقلام من كل ملة

إلى العرب في أي الأماكن توجد

ص: 64

نظمت لكم مما أحس قوافيا

لعل أماني اليوم يأتي بها الغد

وهيهات يسمو للكرامة في الورى

أديب عن الإنتاج في الفن يقعد

فان تنصروا العرب الأكارم تنصروا

وإن تخذلوها فالبقية تفقد

أناس متى ما تطلب مشبهاً لهم

طلبت من الأشياء ما ليس يوجد

الخرطوم - سودان

عبد الله عبد الرحمن

ص: 65

‌قصة أميرة مصرية

للأديب حسين شوقي

جلس الإله أوزيريس قاضي قضاة (الأمنتي) وهو الذي يحاسب الموتى في أعمالهم في الحياة الدنيا، إلى مكتبه يراجع ملفات بعض الموتى، وكانت نافذة المكتب تشرف على حدائق (الأورو) الغناء حيث حجم الزهور أضعاف حجم زهورنا الأرضية، ولكن أوزيريس لم يبال المنظر الجميل الذي أمامه، لأنه كان مشغولاً بمراجعة قضايا الموتى، وقد استلفت نظره على وجه خاص الملف الآتي، وهو لخادم شاب من أهالي منفيس. يقول صاحب الملف:

أنا (سبدو) بن (واخ) كنتُ خادماً في قصر الأميرة العظيمة تتا بمنفيس. . .

أي أوزيريس! سيد (الأمنتي) إني أنشر قصتي بين يديك: أنا (سبدو) بن (واخ) هربتُ من المدينة وذهبت إلى الصحراء، حيث قتلت نفسي بيدي لتأكل جسدي الوحوش حتى لا أبعث، لأني لا أرغب في هذا البعث، بل لا أستحقه. .

وكتبتُ هذه الوثيقة خشية أن أبعث على الرغم مني، وذلك بأن يعثر البدو على جسدي قبل أن تفترسه الوحوش فيحنطوه شفقة منهم. . . فإذا بُعثتُ أي أوزيريس! فعاقبني أشد العقاب. . .

إن أقاربي يستطيعون أن يقدموا إليك القرابين ابتغاء مرضاتك والتماس عفوك، ولكن لا تسمع إلى توسلاتهم، لأني مذنب شديد الذنب لا أستحق الشفقة. . .

كنتُ بستانياً لدى الأميرة تتا، وهي سيدة عظيمة تعيش بقصرها في عزلة عن العالم منذ أن فقدت زوجها في إحدى الحروب النوبية، ولم تكن لها تسلية غير ابنتها (شفيت)، وهي فتاة جذابة خلابة نضيرة، أشبه بزهرة اللوتس عندما تتفتح في الفجر. . . . .

لقد أحببتها لأول وهلة. . إن قلبي كاد يثب من صدري حينما دنوت منها يوماً في الحديقة، وقد نزلت الأميرة تقطف بعض الزهور التي تحبها، وليس غريباً أن تحب الأميرة الزهور، فهي شبيهة بها في نضارتها. . . ساعدتها في القطف حتى لا يدمي الشوك أناملها الطفلة. . . شكرتني الأميرة الصغيرة في ذلك اليوم بابتسامة ساحرة دون أن تنظر إلي، لأني حقير ممعن في الحقارة بالنسبة إليها، وكنتُ فوق ذلك دميماً بل دميماً جداً. . .

ص: 66

أي أوزيريس! كم عذبني الحب! إن شياطينك القادرة لم يكن في استطاعتها أن تفعل بي مثل ما فعل الحب. . .

كنت أقضي الليل مؤرقاً، بل مختبئاً وراء الأشجار عند نافذة الأميرة، أتلمس رؤيتها. .

كم ليال لذعني فيها البرد القارس وأنا في مخبئي أشتهي ضم ذلك الإنسان الجميل، ولكن بلا أمل، كما يشتهي الهر ضوء القمر وهو منعكس على المستنقع، وقد حسبه لبناً في طبق. . .!

ولقد أصبت بغيرة شديدة من جراء هذا الحب. . بلغ من غيرتي على الأميرة أني كنت أغضب حينما تنظر هي من نافذتها إلى القمر، لأني تخيلت أن القمر يبتسم لها ويغازلها. . صعقت يوماً بنبأ خِطبة الأميرة إلى أحد أقارب فرعون. . . فكرت في أول الأمر أن أقتل نفسي، ولكن الغيرة التي أنشبت مخاليها في قلبي، أمرتني بقتل الأميرة قبل أن أقتل نفسي، حتى لا ينعم بها أحد. . .

وإليك أوزيريس كيف نفذت جريمتي:

نزلت الأميرة يوماً إلى الحديقة تقطف زهراً، فدنوت منها أساعدها وقلت:

اميرتي، إن عندي سراً عظيماً، هل تأذنين لي أن أفضي به إلي؟

قالت في شيء من الاهتمام: وما هذا السر؟

قلت: عثرت على كنز عظيم يحوي أساور من الذهب، وأقراطاً من الفضة، وخواتم من اللازورد. . . فقاطعتني قائلة في اهتمام شديد هذه المرة، لأن للنساء ضعفاً أمام الحلي كما تعلم

- وأين الكنز؟ إلي به!

قلت: إذا شئت يا أميرتي ذهبت بك إليه.

قالت: وهل مكانه بعيد؟

- قلت: كلا! إنه على مسافة قليلة من القصر

قالت: أين هو؟

قلت: في الصحراء

قالت: لنذهب على الفور، اذهب فناد وصيفتي لتصطحبنا. .

ص: 67

قلت: أرجو أن تأتي وحدك يا سيدتي، إذ يجب أن يبقي أمر الكنز مكتوباً، لأن فرعون لو علم به استولى عليه؟؟

قالت: إذن هيا بنا. .

سرنا في الطريق، وكنت أثناء المسير أود أن أضمنها إلي، ولكن كان لجمالها روعة نهتني عن ذلك. .

ولما بلغنا مكاناً خالياً في الصحراء، أدخلت الأميرة في نفق حفرته بالأمس على سعة مقبرة في جانب الجبل، ثم قلت: إليك الكنز! ولما دخلت الأميرة متشوقة إلى رؤيته، أغلقت عليها النفق بحجر ضخم كنت أعددته بالأمس أيضاً لهذا الغرض، ثم غادرت المكان تواً حتى لا تضعف نفسي في آخر لحظة فأعود عليها. . هاهو ذا جرمي أي أوزيريس! ولكني تمكنت من أن أحرم أي إنسان مساسها والتمتع بها، حتى أنتم معشر الآلهة حلت بينكم وبين الوصول إليها، فقد حرمت الأميرة من التحنيط بهذه الطريقة التي ماتت عليها، فهي لن تبعث في العالم الآخر! وبينما كان أوزيريس منهمكاً في قراءة هذه الوثيقة الغريبة، إذا ولده هوروس الشاب يقبل عليه يطلب منه شيئاً فالتفت إليه أوزيريس وناوله الوثيقة وقال:

اقرأ: أي عقاب يستحقه هذا الرجل؟

فتناول هوروس الوثيقة في امتعاض لأنه لم يأت لهذا الغرض، ولنه ما كاد يبدأ في تلاوتها حتى أهتم اهتماماً عظيماً، وما كاد يتمها حتى ألقى بها جانباً على المكتب وخرج يعدو، ناسياً مطلبه من أبيه:

فتبعه أوزيريس وهو يصيح:

إلى أين؟ إلى أين؟

فقال هوروس: إلى النفق الذي فيه الفتاة فلعلعي أبعثها!

كرمة ابن هانئ

حسين شوقي

ص: 68

‌البريد الأدبي

وصية بارتو الأدبية

نذكر أن مسيو لوي بارتو السياسي الفرنسي الكبير الذي قتل في أكتوبر الماضي في مرسيليا إلى جانب الملك اسكندر الربي، قد أوصى بمعظم تركته إلى الأكاديمية الفرنسية التي كان من أعضائها. وفي الأنباء الأخيرة أن الأكاديمية قد قررت بصفتها منفذة لوصية مسيو بارتو، أن تخصص من ريع التركة ثلاث جوائز أدبية كبرى الأولى باسم الفقيد نفسه، وتمنح لأعظم كاتب في العام، والثانية باسم مدام بارتو وتمنح لأعظم كاتبة، والثالثة باسم مكس بارتو ولد الفقيد الذي قتل في الحرب دون الثلاثين، وتمنح لأعظم كاتب من الشبان دون الثلاثين

هذا ومن جهة أخرى فقد تقرر أن تعرض المجموعات الأدبية والفنية التي تركها بارتو للبيع بالمزاد. وتحتوي هذه المجموعات التي أنفق بارتو في جمعها طول حياته على تحف نادرة من مخطوطة ومطبوعة وصور وتماثيل وغيرها

بين الخالدين

توفي أخيراً أحد (الخالدين) أعني عضواً من أعضاء الأكاديمية الفرنسية، وهو المؤرخ الكبير لينوتر توفي في التاسعة والسبعين من عمره بعد حياة حالفة بالبحث والتأليف والكتابة؛ وكان حتى آخر لحظة يقوم بتحرير فصله التاريخي الممتع في جريدة (الطان) تحت عنوان (التاريخ الصغير). وظهر فصله الأسبوعي كالعادة بعد يوم وفاته. ولينوتر اسم مستعار للمؤرخ، واسمه الأصلي هو لوزان تيودور جوسلان. وكان لينوتر من أعلام تلك المدرسة التاريخية الحديثة التي عنيت بالتحقيق والاستقصاء في الدقائق والتفاصيل الشخصية والاجتماعية لأنها ترى فيها أهم ما يلقي الضياء على طبيعة الحوادث والأشخاص، ومن زملائه في تلم المدرسة فونك برنتانو عضو المجمع العلمي، وبيير دي نولهاك عضو الأكاديمية. واشتهر لينوتر بالأخص بكتاباته عن الثورة الفرنسية وعن الشعب الفرنسي والحياة الفرنسية في ذاك العصر، وله في ذلك عدة مؤلفات ورسائل قيمة. منها (أسر ماري انتوانيت وموتها)(المقصلة ومنفذو الأحكام أيام الثورة)(الملك وثورة لافندي)(دي شاربت) وله مجموعة عنوانها (القصور القديمة والوثائق القديمة). وكان

ص: 69

لينوتر أيضاً صحفياً بارعاً جم الإنتاج يكتب في اشهر الصحف والمجلات. ولبث أعواماً طويلة يكتب مباحثه في (الطان) بعنوان (التاريخ الصغير) وقد انتخب عضواً بالأكاديمية في ديسمبر سنة 1932. واستقبلت الأكاديمية نبأ وفاته بالمراسيم المعتادة، وألقي مديرها العامل المسيو هنري بوردو خطاب التأبين للمؤرخ الرال؛ ومما قاله: (إن لينوتر قد تبوأ في عالم المباحث التاريخية مركزاً خاصاً، فهو يتعلق بالأشخاص، والنوادر، والحياة الخاصة، والتفاصيل المغرية أكثر ما يعني بالحوادث وملحقاتها؛ ولقد كان يتمتع بموهبة يحسده عليها كثير من القصصيين: هي موهبة الحياة)

جائزة جر نجوار

لمجلة جر نجوار الفرنسية جائزة سنوية قدرها خمسة آلاف فرنك تمنح كل عام لأحسن أثر (إخباري)(ريبورتاج) يصدر في العام. وقد منحت هذه الجائزة خلال مأدبة عشاء أقيمت جرياً على العادة السنوية لمسيو مارسل جريول عن كتابه الذي ظهر أخيراً عن الحبشة وعنوانه (حارقو الإنسان). ومسيو جريول من العلماء الشبان، تلقى دراسة علمية عالية، وتخصص في مباحث الأجناس البشرية، وساهم في عدة بعثات علمية رسمية أرسلت إلى السنغال والحبشة وغيرهما؛ وله أسلوب علمي جذاب بما يسبغه عليه من البساطة والطابع الصحفي

عيد الربيع القومي في سورية

عقد فريق كبير من طلبة الجامعة السورية والمدرسة التجارية والمدارس الثانوية العالية اجتماعاً بحثوا فيه مشروع إقامة عيد قومي في الربيع، وقد أطلقوا عليه اسم (عيد الربيع القومي)

وسيكون هذا اليوم من الأيام التاريخية، إذ يسير الشباب بشكل مواكب تمثل أزاهير دمشق، وبعض مواكب تمثل مجد العرب الغابر على شاكلة أعياد الربيع في فرنسا

وسيقوم الشاب الأديب السيد أحمد القباني الطالب في مدرسة التجارة العليا برحلة إلى المنطقة الشمالية للاجتماع بإخوانه الشباب والطلبة في الشهباء والبحث معهم في هذا الصدد لجعل هذا العيد عيداً قومياً شاملاً تشترك فيه سائر المناطق السورية في ربيع كل عام

ص: 70

(عن الجزيرة)

بلاطة أثرية تكشفها السيول في نابلس

كان من جراء السيول التي اجتاحت نابلس أن شف التراب عن بلاطة تاريخية عظيمة الشأن

وقد اهتمت دائرة الآثار في فلسطين بها وأوفدت لجنة فنية فعاينتها وقررت نقلها إلى المتحف وتكليف رجال الفن بترجمة ما نقش عليها

وقد ظهر حتى الآن أن هذه البلاطة نقلت من مكانها الأصلي المجهول حتى الساعة لتبني في السور حيث وجدت، وقد صرح أحد السامريين أن الكتابة المنقوشة عليها هي الوصايا العشر، وقد كتبت بالغة الآرامية التي كتبت بها توراة السامريين

ولا يزال علماء الآثار يفدون المشاهدة هذه البلاطة التاريخية

التي ربما كشفت عن مدينة يهودية قديمة في شرقي نابلس

(عن الأرز)

هل للراغب الأصبهاني ترجمة وافية؟

احتجت إلى ترجمة الراغب الاصبهاني صاحب المفردات (وللمفردات شهرة ومكانة تداني شهرة القاموس ومكانته) و (الذريعة) و (تفصيل النشأتين) و (محاضرات الأدباء) وغيرها من المصنفات الجليلة، ففتشت فيما بين يدي من كتب التراجم، فلم أقف إلا على هذه النتف الصغيرة التي لا تروي غليلاً:

قال الزركلي في الأعلام:

هو أبو القاسم الحسين بن محمد بن المفضل، أديب كبير من العلماء من أهل أصفهان (وتسمى أصبهان) مات سنة 502. من كتبه محاضرات الأدباء الخ. .

وقال بغية الوعاة:

(هو المفضل بن محمد الأصبهاني الراغب المصنفات؛ كان في أوائل المائة الخامسة، له مفردات القرآن، وأفانين البلاغة، والمحاضرات وقد وقفت على الثلاثة، وقد كان في ظني

ص: 71

أن الراغب معتزلي حتى رأيت بخط الشيخ بدر الدين الزركشي الخ ما نصه: ذكر الإمام فخر الدين الرازي في تأسيس التقديس في الأصول، أن أبا القاسم الراغب من أئمة السنة وقرنه بالغزالي، قال: وهي فائدة حسنة فان كثيراً من الناس يظنون أنه معتزلي)

وأثبت مثل هذا في آخر الطبعة الميمنية للمفردات نقلاً عن كشف الظنون وغيره، وروي مثله السلطان محمد صديق خان في البلغة

ولم أجد أكثر من ذلك، فأرجو ممن وقف له على ترجمة وافية، أن يتفضل فيبعث بها إلى (الرسالة) أو يرشدنا اليها، ولست أظن أن مثل الراغب تنسى ترجمته أو تضيع!

دمشق

علي الطنطاوي

حول محطة الاذاعة اللاسلكية

. . . مدير مجلة (الرسالة) الغراء

. . . . . . . . . . . وبعد، لقد نشرتم تحت عنوان الإذاعة

اللاسلكية العربية بعدد 75 من مجلتكم فقرة تهم عالم الراديو،

فإنني أشكركم على اعتناكئم هذا، حيث نهتم الرأي العام

المصري لمسألة جديرة بالاهتمام. حقيقة أن المحطة المصرية

لا تفي بالمقصود لأنها على ما أظن محطة إسلامية قبل كل

شيء. وبما أن مصر هي اليوم حاملة لواء الأدب العربي فان

أنظار المسلمين قاطبة متجهة نحو ذلك الوطن المحبوب.

ليست القاهرة قاعدة لمصر فحسب، بل هي عاصمة العالم

الشرقي الباسط جناحيه على أفريقية وآسيا

ص: 72

إذن ليست المحطة المصرية محطة محلية، بل هي محطة واسعة النطاق، وجدير بمصر أن تكون لها محطة إذاعة تباهي بها أرقى الأمم. وبها تتغلب موجاتها الفائضة بالفصحى على الموجات الأعجمية كي تنال الحظ الوافر من الأثير. إلا يكفي العالم الغربي استعماره الأرض حتى يبغي الاستحواذ على الأثير؟

لهذا كله أرغب من ولاة الأمور بتلك الديار الشاسعة تحسين محطتنا العربية كي يعم نفعها، فاقترح عليهم واحداً من اثنين

1 -

تغيير طول موجة المحطة المصرية لأنها تشاركها في طول الموجة محطة بروكسيل ول من المحطتين لها 630 كيلو سيكلا، ويجب أن يكون بينهما تسعة ك. س على الأقل كيلا تمتزج الأصوات، فليختاروا لها مقياس محطة تكون أبعد من المحطة البلجيكية وأضعف منها قوة كمحطات النرويج مثلاً التي يوجد بينها من لا تزيد قوتها عن نصف كيلو وات كمحطة بودوي التي يبلغ طول موجتها 235. 1

2 -

أو على المحطة المصرية إن أبت إلا طول موجتها أن تجاري محطة هويزه الهولندية التي تجعل قوتها 7 كيلووات نهاراً و50 كيلو وات ليلاً

هذا رأيي أبديته لعله يقع موقع استحسان لدى مصر الفتية وحكومتها النبيلة

بو سعادة - الجزائر

بسكر عيسى

ص: 73

‌من روائع الشرق والغرب

محمد إقبال

من رباعياته المسماة (شقائق الطور)

ترجمة الدكتور عبد الوهاب عَزام

1 -

يا قلبي إلام تجهل جهل الفراسة الرعناء؟ إلام تحيد عن سنن العظماء؟ احرق نفسك مرة بنارك. إلام تطوف بنار غيرك؟

3 -

يا رب أية لذة في الوجود؟ كل ذرة هائمة بهذا الشهود. تشق الوردة الفنن النضير، فتبسم فرحاً بهذا الظهور

3 -

سمعتُ الفراشةَ في العدمً تقول: هب لي من الحياة حرقة واضطرابا؛ أذرُ رمادي في السحر، ولكن متعني بالحياة ليلة

4 -

فتحت في ضمير النجوم سبيلاً، وظلت بنفسك جاهلاً، كن كالنواة وأبصر نفسك، لتخرج نخلة باسقة من تُربتك

5 -

ترنم الطائر الغرد على الأفنان، يقول في مطرب الألحان؛ أخرج كل ما في صدركُ صراخاً: آهة أو صرخة أو غناء أو نواحاً

6 -

يضيرك النظر في بستاني العجب، إن لم يكن روحك شهيد الطلب، إني أبينُ عما في ضمائر الأغصان، وليس ربيعي طلسماً من الروائح والألوان

7 -

أنا بين طير المروج غريب أظل وحدي على غصن العش في نحيب. إن تكن رقيق القلب فقف مني بعيداً، فإنما يرشح دمي في أنفاسي تغريداً

8 -

تصب الحياة ألواناً جديدة كل حين، ما الحياة صورة واحدة على مر السنين. فان يكن صورة الأمس يومك فقد حُرمت شرارة الحياة طينتك

9 -

ما علق قلبي بهذا البستان، فمضيت طليقاً من قيود الزمان والمكان. ولكن كريح الصبا سريت، فمنحت الورد اللون والنضرة ومضيت

10 -

إن خمره جعلت خزفي كأس جم، واستسرت في قطرتي فصارت ليم. وضع العقل في رأسي صنماً، وجعل (خليل) العشق ديري حرما

ص: 74

11 -

قل عني للشاعر المفلق، ما جدوى حرقتك إن احترقت كالشقائق؟ لا تصهر نفسك هذه النار، ولا تنير للبائسين الديار

12 -

أنا لا أعرف حسنك وقبحك. فقد جعلت عيارهما خسارتك وربحك. ليس مثلي وحيداً بين بني آدم، إني أرى بعين أخرى هذا العالم

عبد الوهاب عزام

رثاء

للشاعر الإنجليزي اللورد بيرون

ترجمة الأستاذ محمود الخفيف

وهكذا تعدو عليك المنية، فتذهبين في غضارة إهابك وروعة جمالك، كما يذهب كل شيء كتب له الفناء؛ ويعود هذا الهيكل الرشيق وتلك المحاسن النادرة وشيكا إلى التراب!

لئن غيب اللحدُ هذا الجمال، وحللت من الأرض في بقعة يمر عليها الناس لاهين أو ضاحكين، فان هناك عيناً لا تطيق النظر لحظة إلى ذلك القبر الذي يحتويك

سوف لا أسأل بعد اليوم أين موضعك من جوف الأرض، لا ولن أمد عيني إلى تلك البقعة فوق ظهرها. ولْتَنْمُ هنالك الأزهار أو الأعشاب كيفما شاءت، فبذلك لن تقع عليها عيناي

حسبي ما لاقيت دليلاً على أن من أحببت، ومن سأحرص أبد الدهر على حبها، قد تطرق إليها البلى كما يتطرق إلى كل شيء خرج من الأرض؛ وما حاجتي بعد إلى حجر يقام أو علامة تنصب، وكل ما حولي ناطق بأن ما كان بالأمس موضع آمالي، قد أصبح اليوم. . . . لا شيء؟!

ومع ذلك قد أحببتك حتى النهاية في حماسة وقوة، كما أحببتني أنت، يا من ظللت على عهدك طوال تل الأيام السوالف ولا سبيل اليوم إلى تغيرك

إن الحب الذي طبعه الموت بطابعه لن يلحقه الفناء أبداً. فما تطاوُل الزمن بمذهبٍ من حرارته شيئاً، ولا المنافسة بقادرة على استلابه، ولا المين بواجد طريقاً إلى إفساده. وفضلاً عن ذلك فسوف لا ترين ما قد أرتكبه بعد اليوم من هفوة أو تحول أو خطأ

لقد تذوقنا معاً من أيام الحياة أحلاها، أما أمرها فسأتجرعه وحدي، إذن لن ترى عينك بعد

ص: 75

الموت الشمس التي تبعث البهجة في الكون، ولا العاصفة التي تنذر بالظلام والهم

إنني لأحسدك على تلك الضجعة الهادئة، حيث لا تزعجك الأحلام، ولذلك يخيل إلي أن أترك البكاء على موتك. كذلك لن آسف على انقضاء تلك المحاسن الغر، فلم يكن مفر من أن أراها تذوي يوماً بعد يوم أمام ناظري!

إن أسرع الزهور إلى الذبول وأسبقها إلى الفناء، أعظمها تفتحاً وأشدها بهاء، وإن تلك الزهرة التي بذلت صويحباتها تفتقاً ونماء، لتسقط وريقاتها واحدة تلو الأخرى، وإن لم تمتد إليها الأيدي فتقطفها قبل أوانها

وإن رؤية تلك الزهرة وهي تموت ورقة فورقة، لأوجع للقلب، وآلم للنفس، وأدعى إلى الحسرة، من رؤيتها وهي تقتطف دفعة واحدة؛ ذلك لأن أعيننا، نحن بني الأرض، لا تستطيع أن تراقب خطى التحول من الجمال إلى القبح، دون أن يمضها ذلك ويحزنها

وليت شعي هل كنت أستطيع أن أرى جمالك وما حزت من معاني الحسن، يخبو ثم ينطفئ؛ ألا إن الليلة التي تتلو مثل هذا الصباح لأشد ما تكون الليالي حلكة وكدرة

لقد انقضى نهارُك ضاحياً لم تشب صفاءه غمامة، وبقيت حتى النهاية جميلة ناعمة، وكأني بك في موتك العاجل الشعلة تخمد في وهجها دون أن تخبو؛ كذلك الشهب التي تلفظها القبة الزرقاء، أعظم ما تكون التماعاً حين تسق من أعلى السماء

أه! لو أستطيع البكاء ما كنت أبكي من قبل. . . إذا لجرت دموعي غزيرة، على أني لم أكن قريباً منك يوم مت لأقوم إلى جانب سريرك ساعة احتضار، شاخصاً في وجهك في هيام وأي هيام!

هنالك كنت أتناول جسدك بين ذراعي فأضمك ضمة خفيفة رافعاً بيدي رأس المائل المحتضر، كي أشهدك ولو بغير جدوى، على ذلك الحب الذي لن يحسه كلانا بعد!

لقد تركتني اليوم حراً طليقاً، ومع ذلك لن يعدا كل ما يمكن أن تصل إليه يدي مما بقي في الوجود من حسن ذكرى إياك كما أفعل الآن

إن ذكراك وهي لي منك ذلك التراث الوحيد، الذي لن تصل إليه يد الفناء، تعاودني في هذا الوجود المظلم المخيف فتزيدني إعزازاً لذلك الحب الذي ضمه القبر، والذي لا أعدل به شيئاً في الحياة، ولن يفضله في نظري سوى أيامه التي قضيناها معاً قبل أن يعدو عليك

ص: 76

الموت

الخفيف

ص: 77

‌الكتب

الأطلال

رواية قصصية مصرية - تأليف الأستاذ محمود تيمور

عرض ونقد بقلم محمد أمين حسونه

ليست (الأطلال) التي أخرجها الأستاذ محمود تيمور أخيراً سوى ثغرة بين مرحلتين في حياة المؤلف القصصية، وأقصد بالمرحلة الأولى فنه الذي يمت إلى الواقعية، وبالمرحلة الثانية نزعته الجديدة إلى التحليلية (السيكولوجية)، هذا فضلاً عن خلوها من سيطرة أية نزعة أوربية

والناقد الحصيف يلمس بين سطور (الأطلال) من عصير الفكر ووضوح الوصف وخصوبة الخيال ما يكفل لها حياة نابضة. وقد عرف الأستاذ تيمور كيف يرتفع بموضوع روايته إلى أسمى من ذلك الفن الرخيص الذي يبدو في قصص غيره، واستطاع أن يضيف إلى جانب مهارته في رسم بيئته، تصويره لشعوره الخاص تحت نقاب شفاف من التورية الفنية، متخذاً شخصية (سامي) مرآة تحجب وراء زجاجها الصقيل الثورة الكامنة المتأججة في فجر حياة كل شاب، حتى تدفعه إلى الخروج من حالة القلق والحيرة إلى عالم الجسم وجحيم الشهوة

بسط المؤلف على لوحته أولاً رسم سامي، وهو من أبناء الذوات الذين يعيشون في القصور المحاطة بالأسوار العالية، تضم جدرانها العدد الوفير من الخدم والخصيان والأتباع، ويأوي إليهم بين يوم وآخر ضيوف تستغرق إقامتهم الأسابيع بل الشهور

وعندما يستطرد المؤلف في وصف نشأة الصبي سامي تتنبه فيه ملكة التصوير، فلا يفوته أن يسجل إعجاب ضابط المدرسة عندما يدعوه إلى داره ليلعب مع ابنته فتحية، وكيف يغرم الصبي بالفتاة وتستهويه رائحة الأنوثة المنبعثة من صورتها، حتى إذا ما شب كان عنفوان اليقظة الغامضة يدب في أوصاله، وتراه في ذات ليلة (أم خضير) - وهي خادمة حنكتها التجارب يستذكر دروسه وفتحية أمامه تخيط ملابسها فتسر إليه (لو كنت مكانك لما جلست هكذا أمام كتبي، بل كنت أجلس إلى جانبها أداعبها واختلس قبلة)

ص: 78

كان في استطاعة سامي بحكم تربيته وبيئته أن ينهر الخادم، أو يزجرها، ولكن المؤلف يضعه في هذا الموقف على أبواب لغز، وكأن كلمات (أم خضير) جاءت إليه من عالم بعيد مجهول، فأيقظت العواطف الراكدة في أعماق نفسه، ودفعتها في طريق محفوفة بالآثام والمخازي

خطوات سامي في هذا الطريق الوعر قلقة مضطربة، فهو موزع الإحساس الجسدي بين فتحية وبين الغانيات وزوجة أخيه تهاني، وشخصيته في الرواية كخطواته غير مستقرة، يبدو أحياناً في هدوء عجيب، وأحياناً أخرى في عنف وشراسة. أما فتحية فيحوطها المؤلف بحالة غموض وإبهام وتجلد أمام الآلام، بحيث لا تتفق شخصيتها مع الواقع، وحالة تحفظ في التعبير بحيث يدفعها في الخفاء إلى كبت عواطفها كبتاً لا يمكنها معه أن تبوح بحب أو ترفع صوتها بشكوى برغم شعورها بالألم وإحساسها بأنها ليست مذنبة في نظر المجتمع. ولو أدرك المؤلف أن العواطف المكبوتة قد لا تخلو من الإحساس لاستكمل النضوج الفني للصورة

وعلى العكس يبدو فن المؤلف واضحاً وأفكاره مستوية وهو يعرض علينا عقب ذلك خيال فتحية غير المحدود، عندما يتراءى لسامي بين ظلال الوعي وساعة هدوء الروح وابتعادها عن إثم الجسد، فهي تتمثل له طهارة كل فكرة وصفاء كل هاجسة، حتى إن المؤلف ليكسو خيالها بإشعاع من روح العطف والحدب على مصيرها. أما تهاني - زوجة أخيه - فهي مثال الفتاة العابثة النزقة لتي لا تبالي بالتقاليد ولا بالأوضاع حتى إن صورتها كانت في عقله الباطن صورة امرأة غاوية قبل أن يفكر في ارتكاب الخطيئة معها، فهي تتمثل له في وجه كل غانية يلقاها، ونفس شخصيتها تتلاشى تماماً في الشهوة النجسة. ولما مات أخوه وأحس أمام جثمانه بالندم يفر وفر يطلب العزلة بعد ضجيج المأتم وانكفأ يستعرض حاله، فقاده حاضره إلى التفكير في فتحية فخرج من صمته هائماً لا يلوي على شيء، بعد أن أحس أن جدران القصر تنهار (كالأطلال)، وأن شبح تهاني يطارده حتى أدرك القرية، وهناك سأل عن فتحية فإذا بها قد ماتت، وإذا طفل يجري أمامه عليه ميسم اليتم ومسحة من جمال فتحية فيحتضنه بعد أن يعرف أنه ابنه ثم يبكي. . . . .

والأستاذ تيمور الذي يجسم يعيني الفنان كل صورة في عالم الأنوار والظلال ينجح نجاحاً

ص: 79

باهراً في وضع شخصية مودة هانم بحيث تتراءى أمامنا بين السطور مثالاً للمرأة التي استسلمت للقدر، فهي لا تشكو ولا تحتج وإنما تترقب أن يلعب القدر دوره في الخفاء فينزع زوجها من أحضان (ضرتها) وأن يعيده إليها سالماً. وحبذا لو أتى المؤلف إلى جانب هذا على طرق (مودة هانم) في اجتذاب زوجها بوساطة السحر أو التنجيم ما دام ينزع في فنه الجديد إلى التحليلية

بين الشخصيات التي رسمها المؤلف شخصية تظهر ثم لا تلبث أن تختفي، هي (أم خضير)، والمؤلف إنما يحركها فقط في المواقف التي تدفع فيها سامي إلى مواطن الإثم، وتشابهها من هذه الناحية شخصية العيوطي - مساعد البستاني - فهي قوية برغم عدم وضوحها، خصوصاً عندما يلتقي به سامي ويطلعه على رغبته في الوصول إلى زوجة أخيه فيجهز له على عادة العشاق في الجيل الماضي زياً نسائياً يتمكن به الوصول إلى خدر الزوجة

ومما يجدر بنا تسجيله للمؤلف أن النزعة الإرشادية يختفي ظهورها تماماً في فنه

ولعل أبرز طابع فيها هو (الصراحة) التي تطبعها من أولها إلى آخرها، وفي الصراحة منجاة من الأدب الأناني الذي تغشاه دائماً سحابة مبهمة من نفس صاحبه فتدفعه إلى إخفاء المعنى جزيئاً، ولكن الصراحة في الأطلال شيء آخر، فهي تسهب في التحدث عن العلاقة الجسدية بحيث تصورنا ضعافاً تحكمنا غريزة الجنس وتطغى على ميولنا وعواطفنا

وتمتاز (الأطلال) بارتباط شخصية سامي بأبطالها ارتباطاً يجعلهم يعيشون في قراره الموضوع لا فوق سطحه

ص: 80