الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 870
- بتاريخ: 06 - 03 - 1950
بين المهد واللحد
الكلمة التي ألقيت في تأبين الأستاذ علي محمود طه
بالمنصورة
سادتي أقرباء علي طه، وأصدقاء علي طه:
نحن هنا في البلد الذي خرج فيه إلى نور الوجود. ونحن هنا في البلد الذي رجع فيه إلى ظلام العدم!
نحن هنا في البلد الذي قدم إليه المهد مزبناً بأوراد الربيع، مشرقاً ببسمات الحب، محفوفاً بنظرات الأمل؛ ونحن هنا في البلد الذي أعد له اللحد مكللاً بأزهار الخريف، مللاً بعبرات الأسى، مودعا بحسرات الذكرى!
نحن هنا في البلد الذي نشأ علياً على حب الجمال، وهيأ علياً لرسالة الشعر ووجه علياً إلى طريق المجد. وضرب فيه على السمع الواعي، وحكم فيه على اللسان البليغ!
من هذا الشاطئ شاطئ المنصورة ركب الملاح زورقه الهائم، ثم مخر به العباب في خضم الحياة. تارة يختفي، وتارة يظهر. فإذا اختفى غاب مع (الأشباح والأرواح) في جزر الأرخبيل أو على جبل الأولمب؛ وإذا ظهر شوهد على سواحل كليو باترا يردد اللوعة والأنين، أو على جندول البندقية يرجع الشوق والحنين، أو في بحيرة كومو
بمجد الحب والجمال في صور الناس ومجالي الطبيعة.
وكذلك كان في كل بحر يجري فيه، وفي كل ساحل يدنو منه: يرسل الأنغام العذبة من قيثارة المرح، ويبدع الصور الجميلة بريشته الفنانة، وينقح الصدور المكروبة بنسماته الشعرية السحرية التي تسري هموم النفس وتهوٌن متاعب الحياة.
ثم غام الأفق في وجه الملاح، وثارت الأعاصير على جوانب الزورق، فكلت الذراع وسكن المجداف وتمزق الشراع. وفي يوم من الأيام السود ألقى في ساحل المنصورة حطام الزورق وجثة الملاح
وفي حفرة ضيقة من القبرة المنهومة ثوى القلب الكبير، وذوى الأمل النضر، وهمد الجناح المحلق.
في هذا البلد الوفي الحبيب عرفت علي طه وأحببته، منذ تسعة وعشرين عاماً وأحببته منذ
عرفته. كان لقاؤنا الأول على هذه الضفاف الخضر في أصيل يوم من أيام أغسطس من السنة الحادية والعشرين من هذا القرن. وكان علي لا يزال طالباً في مدرسة الفنون والصناعات، يكابد ألم التناقض بين ما وجه إليه بالفطر، وما جمل عليه بالاكتساب؛ بين النوازع الأدبية التي يجدها في نفسه، والمسائل العلمية التي يتلقاها في درسه؛ بين الناس الذين يتخيلهم في الذهن، والناس الذين يتمثلهم في الخارج؛ بين مطالب الجسد التي تربطه بالأرض، وتوازي الروح التي تجذبه إلى السماء.
كان يقضي طرفي نهاره في قهوة ماتيو بشارع البحر ينظر في كتاب مرة، ويكتب في ورقة مرة؛ ثم يذهل عن الكتاب والورقة ويرسل بصره إلى الأفق البعيد، ثم يرده إلى نفسه وينطوي عليها انطواء الفيلسوف المفكر أو الشاعر الحالم. فإذا جلس إليه أحد ثقاته أخذ ينفس عن صدره المكظوم بالحديث عمن يحب أو بالشعر فيمن يحب. وحبه يومئذ كان حب الفنان الخيالي يجعله بالتنزيه والحرمان منبعاً للألم ومبعثاً للشكوى ليرهف به شعوره ويغذي عليه شعره.
قلت له ذات يوم: ما بالك يا علي وأنت في زهرة العمر ونضرة الصبى حزين الشعر ضائقاً بالناس والحياة؟ فهل تشكو من مرض؟ فقال علي، وما زلت أذكر ما قال: إنما أشكو مرض الاغتراب. يخيل إلي أني من قوم آخرين ومن بلد آخر، فإنا لا أزال أشتاق إلى القريب المجهول، وأحن إلى الوطن النازح. ويشتد بي النزوح أحياناً فأتمنى لو أطير، وأن ضلوعي قفص من حوله يأبى أن ينفرج.
ثم انقضى ذلك العهد وانقضت معه تلك الحال الغريبة. ودخل علي في زحمة الحياة وغمار المجتمع فأزدهر الوجه الشاحب، وانبسط المحيا الكثيب، وابتسم الشعر الحزين؛ وتشعبت في نفسه أصول الجمال والحب، فامتد في نظره الجمال إلى العمل والخلق والسلوك، واتسع في قلبه الحب للخير والأخاء والمروءة. ولذلك عاش ما عاش في سلام نفسه، وعلى وثام منع الناس.
وتأكدت بيني وبين علي أسباب المودة فعرفته في جميع حالاته، وخبرته في أكثر ملابساته، فلم أره يوماً قبض يده عن معروف، ولا بسط لسانه بأذى، ولا طوى صدره على ضغينة.
كانت لذته في أن يفعل الخير لأنه إنسان بفطرته، وكانت متعته في أن يقول الشعر لأنه
فنان بطبعه. وفيما عدا فعل الخير وقول الشعر كانت حياته أشبه بحياة الطائر الغرد في سماء الربيع الطلق: انتقال من غزل إلى شدو، وارتحال من جو إلى جو.
كان علي طه أكرم الله مثواه طاغي الشخصية ولكنه طغيان الروح؛ مستبداً بالحديث ولكنه استبداد النبوغ يجلس الجالس إليه ويطيل الجلوس ويكرره، ولكنه في كل جلسة يجد نفسه في حضرة رجل ممتاز. وامتيازه كان من طلاوة حديثة وشجاعة رأيه وصراحة قوله وعفة لسانه وحرية ضميره وخلوص قلبه. كان في صرامة الرجل ووداعة الطفل، فلا يسع من يلقاه إلا أن يجله، ولا يملك من يعرفه إلا أن يحبه.
وكان شعره صورة لشخصه ومرآة لنفسه. نقرأ فكأنما نقرأ في قلب مفتوح، وننظر فيه فكأنما ننظر في أفق منير. أجمل ما فيه الصدق، وأقوى ما فيه الجمال، وأعظم ما فيه الحب. والصدق والجمال والحب هي عناصر الرسالة الفنية التي أداها علي طه.
كان شعره صافي الأسلوب لأنه صافي القلب، متسق الألفاظ لأنه الخلق، مشرق المعنى لأنه مشرق النفس. وإن من المصائب التي يرفض لها الصبر ويضيق بها العزاء أن نستعمل (كان) في الحديث عن علي طه أنه باق ما بقيت العربية، مذكور ما ذكرت العروبة، خالد ما خلد القرآن.
ولست اليوم بسبيل الكشف عن عبقريته في فن الشعر في فن الشعر ولا عن مكانته في تاريخ الأدب، إنما هي عبرات مما بقي في المآقي جئت أسكبها على ثراه، وزهرات من الروض الذي كان يحبه جئت أنثرها على قبره.
رحم الله الفقيد العزيز أوسع الرحمة، وعزى عنه الأمة العربية أجمل العزاء، وعوض الأدب الرفيع من فقده خير العوض.
حمد حسن الزيات
علي محمود طه
حياته من شعره
الأستاذ أنور المعداوي
كانت بيئة ظلت عليه بما يشتهي، وحرمته أكثر ما يطلب وقيدت قدميه فما يستطيع أن يندفع، وطوت جناحيه فما يستطيع أن يطير. . . ولم يكن واحداً من هؤلاء الذين يرضون بالقيود ويخضعون بالأصفاد، ولئن رضى بالأولى وخضع للثانية في تلك الفترة التي يتنزى فيها شباب الروح والجسد، فلأنه كان نتاج مجتمعه ووليد بيئته. ومن هنا اشتكت روحه وتعذب جسده وضجت بخيبة الرجاء أمانيه!
اشتكت روحه من وطأت القيد وسطوة السجان، وتعذب جسده من قوة الغريزة وغلبة الحرمان، وضجت أمانيه وهو يتطلع إلى الأفق البعيد وبين جنبيه رهبة المشفق من مستقبل مجهول. . . وانعكس هذا كله على فنه: أنات متصلة ينقلها إليك شعر تكاد تشم فيه رائحة الدموع؛ شعر مظلم إن عثرت فيه على البسمة المشرقة فهي التماعة البرق الخاطف في سماء داكنة، تظلل حواشيها ألوان من السحاب والضباب! واستمع إلى هذه الشكاة الأولى في الصفحة الثالثة والثلاثين من (الملاح التائه) من قصيدة عنوانها (غرفة الشاعر):
أيها الشاعر الكئيب مضى الليل
…
وما زلت غارقاً في شجونك
مسلماً رأسك الحزين إلى الفكر
…
وللسهد ذابلات جفونك
ويد تمسك اليراع وأخرى
…
في ارتعاش تمر فوق جبينك
وفم ناصب به حر أنفاسك
…
يطغى على ضعيف أنينك
لست تصغي لقاصف الرعد في
…
الليل ولا يزدهيك في الإبراق
قد تمشى خلال غرفتك الصمت
…
ودب السكون في الأعماق
غير هذا السراج في ضوئه الشاحب
…
يهفو إليك من إشفاق
وبقايا النيران في الموقد الذابل
…
تبكي الحياة من الأرماق
أنت أذبلت بالأسى قلبك الغض
…
وحطمت من رقيق كيانك
آه يا شاعري لقد نصل الليل
…
وما زلت سادراً في مكانك
ليس يحتوي الدجى عليك ولا
…
بأسى لتلك الدموع في أجفانك
ما وراء السهاد في ليلك الداجي
…
وهلا فرغت من أحزانك؟
فقم الآن من مكانك واغتنم
…
في الكرى غطة الخلي الطروب
والتمس في الفراش دفئاً ينسيك
…
نهار الأسى وليل الخطوب
لست تجزى من الحياة بما
…
حملت فيها من الضنى والشحوب
إنها للمجون والختل والزيف
…
وليست للشاعر الموهوب!
لقد حدثناك عن المزاج الكئيب في شبابه الباكر وها هو بين يديك في البيت الأول، وحدثناك عن الطبع الحزين في حياته الأولى وها هو يطل عليك من البيت الثاني. وزد على الجفون الملتهبة من السهد، والأصابع المرتعشة فوق الجبين، والفم الناضب من رحيق الحب، والشعور الطافح بمرارة الأنين! وأي شباب هذا الذي يشغل عن الرعود حين تقصف وعن البروق حين تسطع، بتلك الغرفة الصامتة وهذا السكون العميق، يرقب بروحه الغافية ضوء المصباح الشاحب شحوب الأمل، وبقايا النيران في الموقد الذابل ذبول الحياة؟! يمر عليه النهار فيعصف بقلبه الغض وكيانه الرقيق عصف الرياح العاتية بالنبتة الواهية، وينقضي عليه الليل وهو حائر في مكانه من الغرفة الصامتة لا يطمئن، ولا شيء في عينيه غير الدموع، ولا شيء في فكره غير السؤال عما وراء السهاد. . . ولا جواب!
وأي شباب هذا الذي يفزع من وحشة اليقظة إلى أحضان الكرى ينشد الأنس الأنيس في ظلام الأحلام، ويلتمس في الفراش شيئاً من الدفء ينسيه برد الأسى وتجهم الأيام؟! هوه ذلك الشباب الذي خلق للضنى والشحوب، وخلق لهذا المزاج الرومانسي الضارب في مجاهل الغيوب!. . . ومرة أخرى تعال نستمع إليه وهو ينثر بين أيدينا خفقات قلبه، في هذه الأبيات التي نقتطفها من قصيدة عنوانها (قلبي)، في الصفحة الحادية والخمسين من (الملاح):
يا قلب: مثل النجم في قلق
…
والناس حولك لايحونا
لولا اختلاف النور والغسق
…
مروا بأفقك لايطلونا
فاصفح إذا غمطوك إدراكاً
…
واذكر قصور الآدمينا
أتريدهم يا قلب أملاكاً
…
كلا. . . وما هم بالنبيينا
هم عالم في غيه يمضي
…
مستغرقاً في الحمأة الدنيا
نزلوا قرارة هذا الأرض
…
وحللت أنت القمة العليا
عباد أوهام ما عبدوا
…
إلا حقير منى وغايات
ومناك ليس يحدها الأبد
…
دنيا وراء اللانهايات
يا قلب كم من رائع الحلك
…
ألقك في بحر من الرعب
كم عذت منه بقية الفلك
…
وصرخت وحدك فيهيا قلبي
ومضيت تضرب في غياهبه
…
وترد عنك المائج الصخبا
تترقب البرق المطيف به
…
وتسائل الأنواء والسحابا
وخفقت تحت دجاه من وجل
…
كالطير تحت الخنجر الصلت
وعرفت بين اليأس والأمل
…
صحو الحياة وسكرة الموت
يا قلب عندك أي أسرار
…
ما زلن في نشر وفي طي
يا ثورة مشبوبة النار
…
أفلقت جسم الكائن الحي
حملته العبء الذي فرقت
…
منه الجبال وأشفقت رهبا
وأثرت منه الروح فإنطلقت
…
تحسو الحميم وتأكل اللهبا
وعجبت منك ومن إبائك في
…
أسر الجمال وربقة الحب
وتلفت المتكبر الصلف
…
عن ذلة المقهور في الحرب
يا حر كيف قبلت شرعته
…
وقنعت منه بزاد مأسور؟
آثرت في الأعلال طلعته
…
وأبيت منه فكاك مهجور
وصحوت من وهم ومن خبل
…
فإذا جراحك كلهن دم
لجت عليك مرارة الفشل
…
ومشى يحز وتينك الألم
والأرض ضاق فضاؤها الرحب
…
وخلت فلا أهل ولا سكن
حال الهوى وتفرق الصحب
…
وبقيت وحدك أنت والزمن
وصرخت حين أجنك الليل
…
متمردا تجتاحك النار
وبدا صراعك أنت والعقل
…
ولأنتما بحر وإعصار
ما بين سلمكما وحربكما
…
كون يبين ويختفي كون
وبنيتما الدنيا وحسبكما
…
دنيا يقيم بنائها الفن
أنظر، هنا زفرة تأخذ مكانها في الطليعة من هذه الزفرات، زفرة مصدرها أن الناس لا يحفلون به وهو الشاعر الموهوب. والإشارة إلى حقه المهضوم تطالعك في البيت الأخير من (غرفة الشاعر) في لمحة عابرة، ولكنها تواجهك هنا في وقفات متأنية متتابعة. . . لقد كانت حياة علي طه كما استخلصناها من صحبته بالأمس وكما نستخلصها من شعره، كانت فراغاً موحشاً في أيامه الأولى بقدر ما كانت امتلاء مؤنساً في أيامه الأخيرة. حرمان من المرأة وحرمان من الشهرة: وهذا هو الفراغ الذي يحيل الحياة جحيماً لا نسمة فيه تنعش زهرة الفن ولا قطرة ماء تروي شعلة الجسد هناك رجل قد يحل إرضاء الجسم في حياته محل الاسم تبعاً لمركب النقص ومركب التعويض، أي أنه إذا حرم متعة من المتع أمكن أن يستعيض عنها بمتعة أخرى تشعره أن الحياة ليست قفراً في كل مكان وليست فراغاً في كل آن. . . فإذا فقد ذيوع الصيت مثلاً أو شيوع الذكر ونباهة الشأن، فإنه يستطيع أن يشغل عن اللذة النفسية بلذة أخرى حسية، تتمثل في تلك الصلات التي تعمل في ميدان الجنس حيث تستنفذ القوى الكامنة بين شعاب الغريزة. ولك أن تعكس القضية من وضع إلى وضع حين تقوم المعنويات مقام الماديات، لتتم عملية الاستبدال بين طاقة إنسانية تقنع بواقع الحقائق وبين طاقة أخرى تقنع بما وراء الحقائق من أوهام.
لو وجد علي طه المرأة في إبان شبابه لسكن الجسم القلق وخبت الجذوة المتأججة وخفتت الصيحة الساخطة على مرارة الحياة. ولو حصل على الشهرة لأستقر القلب الحائر واطمأن الفكر الشارد وفترت الصرخة العاتبة على إدراك الناس. ولكنه حرم كلتا المتعتين فعاش غريباً في دنياه. . . غريباً بالقلب والفكر والروح!!
ولابد هنا من سؤال يفتح أمام السائلين باباً من أبواب الحقيقة المستترة وراء الظواهر الفنية في حياة هذا الشاعر، وهذا هو السؤال: لم حيل بينه وبين الشهرة فلم يظفر بالمجد الأدبي الذي كان يتطلع إليه ويحلم به ويتمناه؟ هل كان شعره في مرحلة شبابه الأول دون المستوى المنشود لتحقيق مجده في سجل الشعر وترديد اسمه على أفواه الناس؟ كلا، فلم يكن شعره في تلك المرحلة دون المستوى المنشود بحال من الأحوال، بل لقد كان من أجمل الشعر واحفله وأصدقه بوثبات الأداء، ولكن كان فيه جانب نقص حال بين الشاعر وبين فرصة الظهور. . . لقد كان علي طه يدور بأكثر شعره حول محور ذاته شأن المنطوين
على أنفسهم من شباب ذلك الحين، ولقد شغلته نفسه عن الالتفات إلى ما حوله من شؤون المجتمع وأحداث الحياة، وأجبرته بيئته وطبيعته على أن ينظر في أمر هذه النفس قبل أن ينظر في أمر غيرها من النفوس، في وقت أقام الميزان للشعر الاجتماعي وكاد يهمل ما عداه. ومن هنا تخلف شعر النفس الإنسانية أو شعر الذاتية الفردية عند علي طه وأمثاله من الشباب، ليتقدم شعر العاطفة الاجتماعية أو شعر النزعة القومية عند شوقي وأمثاله من الشيوخ. . وغطى هؤلاء على أولئك من هذه الناحية وحدها لأنهم كانوا الصدى المعبر عن كيان جيل كامل من المصريين؛ ذلك الكيان الذي كان قوامه رصد الأحداث وتسجيل الهزات وتحريك الهمم وإشعال النفوس!
ولقد كان علي طه معذوراً في أن يشغل بأمر نفسه عن أمر مجتمعه لأنه فنان، فنان لم يهيء مجتمعه غير القيود التي أدمت منه الجناح واستنفذت جل وقته في تضميد تلك الجراح! وهذه هي الناحية التي غفل عنها الدكتور طه حسين حين اكتفى بتسجيل الظواهر الفنية دون أن يرجع إلى ما وراء الظواهر من أسباب. . وهذه هي كلماته عن الشاعر في هذا المجال، نسوقها إليك من الصفحة السادسة والستين بعد المائة من الجزء الثالث لكتاب (حديث الأربعاء):(وأريد أن أضيف إلى ما يعجبني في شعره أنه حلو الأسلوب جزل اللفظ، جيد اختيار الكلام، وإن لألفاظه ومعانيه رونقاً أخاذاً تألفه النفس وتكلف به وتستزيد منه، وأن في شعره موسيقى قلما نظفر بها في شعر كثير من شعرائنا المحدثين، وأنه قد استطاع أن يلائم إلى حد بعيد، لا بين جمال اللفظ وجمال المعنى فحسب، بل بين التجديد والاحتفاظ باللغة في جمالها وروائها وبهجتها وجزالتها. كل ذلك ظاهر في أكثر ديوانه لا أكاد أستثني منه إلا هذه القصائد التي قيلت في المناسبات ولم يوحها الشعور الطبيعي للشاعر! فشاعرنا ترجمان الطبيعة، وترجمان الإنسان إذا اتصل بالطبيعة وظل في فيافيها أو فتن بجمالها، ولكنه ليس شاعر الجماعات ولا ترجمانها، شاعرنا مغن، شخصيته أقوى من بيئته، وليس قصاصاً بيئته أقوى من شخصيته)!
لقد خرج الدكتور من شعر علي طه الأول لأنه في ذلك الحين لم يكن شاعر الجماعات، وهذا حق. . . ولكنه اكتفى بالتسجيل والإشارة دون البحث والتعقيب، مع إن المفتاح كامن بين طوايا العبارة التي أعلن فيها عدم إعجابه بشعره الذي نظمه في عدد من المناسبات،
كامن في قوله بأن تلك القصائد لم يوحها الشعور الطبيعي للشاعر! الواقع إن (الشعور الطبيعي) لم يوح شعر المناسبات في ديوان شاعرنا الأول، وهذه لمسة جد موفقة من الدكتور الناقد، ولكنه أدار المفتاح في ثقب الباب ولم يفتح. . . لقد كان عليه أن يرجع إلى طبيعته النفسيه في ذلك الحين وما اكتنفها من عوامل البيئة وتأثير النشأة ليربط بين النتائج والمقدمات، ولو رجع لنفذ إلى أغوار الحقيقة التي تزيح الستار عن (الشعور الطبيعي) حين يجيد التعبير عن (المناسبة الذاتية) دون غيرها من المناسبات!
وبقي سؤال آخر ننتظر أن يتردد في بعض الأذهان، وهو إننا قد أشرنا إلى إن الجمهور القاريء في الربع الأول من هذا القرن كان لا يستهويه شيء كما يستهويه الأدب الحزين المعبر عن مزاجه الحزين. فكيف يتفق هذا الرأي مع قولنا بأن علي طه لم يستطع أن يحتل مكانه في مقدمة الصفوف مع إن شعره القاتم كان حرباً باجتذاب هذا المزاج القاتم عند قارئيه؟!. . الحق أن موقف الشاعر في ذلك الحين كان يختلف كل الاختلاف عن موقف الكاتب الأديب، وحسبك إن الجمهور القاريء كان يقبل على الآثار النثرية الباكية وينصرف عن الآثار الشعرية التي يتطرق إليها طابع البكاء. قدم إليه قصة فيها الفاجعة وفيها المأساة، وقدم إليه قصيدة فيها أحوال المجتمع ومطالب الحياة، يتهافت على هذه كما يتهافت على تلك، وحسبك دليلاً إن المنفلوطي قد أرضى تلك الأذواق بنثره وإن شوقي قد أرضى بشعره نفس تلك الأذواق، على مما بين الوجهتين من تباين واختلاف! ومرد هذه الظاهرة إلى إن الشعر كان مطالباً في تلك الفترة بأن يكون اللسان الصادق للحالة الاجتماعية والسياسية، كان مطالباً بأن يكون ترجمان المشاعر القومية العامة في وقت كانت النفوس تتحرق ظمأ إلى استرجاع الحرية المسلوبة والاستقلال الضائع والوطن المغتصب، ذلك لأن الشعر كان أكثر إلهابا للشعور من النثر، وحسب النثر أن يعبر عن المشاعر الفردية التي ران عليها الحزن في نفوس الشباب وخيم عليها الأسى والانقباض!
ولابد من التفرقة بين الكتابة الأدبية في ذلك الحين وبين الكتابة الصحفية، لأن النثر الصحفي كان يقوم بواجبه القومي إلى جانب الشعر، ونحن نقصر الحديث على الإنتاج الأدبي في النثر دون سواء. . .
ومن هنا حيل بين شاعرنا وبين الشهوة، ومن هنا على أذواق الناس وموازين الناس، هذه
الثورة السافرة التي بدأبها المقطوعات الأولى من قصيدته. . أما بقية المقطوعات فليست إلا ترديداً لتلك الأنغام الباكية التي كانت رجع الصدى لفنون من الحرمان من المرأة، ولقد كان خلو حياته من الشهرة والمرأة كما سبق أن قلنا لك، مبعثاً لهذا الشعور العميق بأنه وحيد في دنياه، يعاني قسوة الوحدة وحرقة الاغتراب:
والأرض ضاق فضاؤها الرحب
…
وخلت فلا أهل ولا سكن
حال الهوى وتفرق الصحب
…
وبقيت وحدك أنت والزمن!
ومرة أخرى ينعى على الناس جحودهم للمواهب وتنكرهم للنبوغ، وتشعر أنه طريد الظلم وإهدار القيم، ويأخذ على الشرق غفلته عن تقدير النابهين وبخاصة في مصر التي لا يلقون فيها غير الشقاء. . هناك في قصيدة عنوانها (الطريد) في الصفحة الثامنة والسبعين بعد المائة من (الملاح التائه) ونقتطف منها هذه الأنات:
شقى أجنته الدياجي السوادف
…
سليب رقاد أرقته المخاوف
ترامى به ليل كأن سواده
…
به الأرض غرقى والنجوم كواسف
إلى أين تمضي أيها التائه الخطى
…
يساريك برق أو يباريك عاصف؟
رأيتك في بحر الظلام كأنما
…
إلى الشاطيء المجهول يدعوك هاتف
تخوض الدجى سهمان والنجم حائر
…
يسائل: من ذاك الشقي المجازف؟
طريداً يفر الوحش من وقع خطوه
…
ويغرب عنه الصل والصل واجف
كأن إله الشر يقتحم الورى
…
أو إن الردى في برده الرث زاحف
فواعجباً! لم تحمل الأرض مثله
…
ولا طاف منه بالدجنة طائف
يخاف الثرى مسراه وهو يخافه
…
وبينهما يسري الدجى وهو خائف
ترى أي سر في الظلام محجب
…
أليس له من نبأة القلب كاشف؟
أجبني طريد الأرض أنى يهزني
…
إليك هوى من جانب الغيب شاغف
فردد ذاك الطيف صوتاً محبباً
…
إلى كلحن رددته المعازف
وقال أجل إني الطريد وأنه
…
لسر تهز القلب منه الرواجف
أتسألك الأفلاك عني أنا الذي
…
رمته الدياجي والرعود القواصف؟
أجل: إن ذاتي يا نجي تنكرت
…
لعينك لكن القلوب تعارف!
وما أنا إلا من بني الأرض نأبى
…
مقيم عذابي والشقاء المحالف
وما كان هذا النوء والموج والدجى
…
ليرهب نفساً حقرت ما تصادف
سواء لديها أشرق الفجر أم سجت
…
غياهب في سر الدجى تتكاثف
أيجحد في الشرق النبوغ ويزدرى
…
ويشقى بمصر النابهون الغطارف؟
يجوبون أفاق الحياة كأنهم
…
رواحل بيد شردتها العواصف
طرائد في صحراء لا نبع واحة
…
يرق ولا دان في الظل وارف
ألا إن لي قلبي طعيناً تحوطه
…
عصائب تنزو من دمى ولفائف
أقلته أحنائي ذماء ولم أزل
…
به في غمار الحادثات أجازف
كما رف نسر راشه السهم فارتقى
…
خفوق جناح وهو بالدم نازف!
من يصدق أن صاحب هذا الشعر هو علي طه؟ ومن يصدق أن الدنيا التي ودعها وهي على شفتيه إبتسامة عريضة قد استقبلها يوماً وهي في عينيه دمعة عريضة محرقة؟ هكذا كان! وجوهر شخصيته أنه لم يخلق للدموع وإنما خلق للبسمات، ولم يخلق للقيود وإنما خلق للتحرر والانطلاق. ومفتاح شخصيته أنه كان في شبابه الأول من صنع بيئته وأنه كان في شبابه الأخير من صنع نفسه. . أي أن بيئته بالأمس كانت أقوى من إرادته فأخضعت تلك الإرادة وقررت مصيره في غمار الحياة، وأن إرادته بعد ذلك قد تغلبت على بيئته فحطمت أغلال تلك البيئة وهيأت له أن يختار مصيره برضاه!!
لقد كانت الحرية ملتقى أحلامه وحديث أمانيه، وكانت الحرية في رأيه هي ذلك النبع الفياض الذي تتطهر في مياهه الآم الجسد والروح، ولن تتطهر آلام جسده وروحه إلا إذا ظفر بشيئين: المرأة والشهرة. . وفي سبيل هذين الشيئين ظل يكافح الأمواج والأنواء طيلة ثلاثين عاماً حتى بلغ المرفأ، وحين بلغ المرفأ بزورقه المجهد بعد رحلة مضنية، استطاع أن يعب من هواء الحرية وأن يتنفس بملء رئتيه وأن يبتسم في وجه الأيام. ومن وراء هذه البسمة المشرقة راح يتطلع إلى ماضيه، ولم يملك حين اطلع على الماضي المظلم من فوق قمة الحاضر المضيء، لم يملك إلا أن ينظر إلى العمر الذي ضاع نظرة الساخر الشامت أو نظرة الظافر المنتصر! وارجع إلى قصيدته في (بحيرة كومو) لتدرك كيف كان ينظر إلى حياته فيما قبل الثلاثين:
شاعر النيل طف بها
…
غنها كل مبتكر
الثلاثون قد مضت
…
في التفاهات والهذر!
أنور المعداوي
الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة
للدكتور محمد البهي
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين
لم يختلف موضوع البحث النفسي في الحديث عنه في القديم، فقد كانت (النفس الإنسانية) وما زالت موضوع هذا البحث منذ أن عرف الإنسان الباحث استقلال بحثه عن تعاليم الكهان في الجماعات البشرية الأولى إلى عصرنا الحاضر. والجانب الذي يفترق به أحد النوعين عن الآخر هو فقط في النظرة التي يعالج بها موضوع (النفس). فبينما كان يتجه القدامى من المعالجين للنفس الإنسانية. . وكذا من سلك طريقهم من علماء القرون الوسطى - إلى محاولة الكشف عن (حقيقتها): ما هي؟ وهل لها استقلال ذاتي عن الجسم؟، وعن مصدرها وعن مصيرها: هل هي من عالم الأزل وسترد إليه؟ أم تنسب إلى عالمنا الذي نعيش فيه؟ وعن أقسامها وعن أنواعها: منها ما هو خير، ومنها ما هو شرير، ومنها ما هو مزيج من الخيبة والشرية. . . إلى غير ذلك من التساؤل الميتافيزيقي، خاضعين في الإجابة والشرح لما كانت تقول به فلسفة (ما بعد الطبيعة) تحت تأثير آراء التعاليم الدينية الأولى على نحو ما يذكر في علم القصص الديني القديم (الميثولوجي)، بينما كان ينحو بحث القدامى هذا النحو إذا بالمحدثين يعدلون عن هذا الاتجاه الميتافيزيقي في تحديد مشاكل النفس وتفسيرها إلى اتجاه آخر يجعل من أحوال (النفس) الخارجية التي تخضع للملاحظة الإنسانية أو التجربة العلمية موضوع الشرح والتعليل والعمل السيكولوجي على العموم.
ولسنا الآن بصدد ذكر العوامل التيس دفعت المحدثين إلى مخالفة منهج القدامى ونظراتهم في ميدان البحث النفسي، لأن ذلك موضوع آخر يطرق فيما بعد.
وإذا كانت نظرة المحدثين في معالجتهم (النفس) تجاوزت حقيقتها إلى ما يصح أن يسجل من أحوالها على العموم فقد استعاضوا كذلك عما ألفه القدامى من الحديث عن (مبدأ) النفس و (معادها) وعما اعتاد هؤلاء أن يرسموه من طريق لحياتها، من كونها: تبتديء بالهبوط من أعلى وتنتهي من جديد بالصعود إلى ذلك الأعلى والخلود فيه، استعاضوا عن ذلك بوضع خط سير آخر: بدايته البدائية، ونهاية الرشد والنضوج.
فتحدثوا عن تطور للنفس، وعن مراحل هذا التطور. وعنوا ببحث الطفولة ومظاهرها
كمرحلة أولى في هذا التطور، وكذا ببحث البلوغ النفسي أو العقلي كمرحلة أخيرة له. واستخلصوا من مظاهر المرحلتين خصائص متقابلة، وأرجعوا خصائص كل مرحلة منها إلى قوانين عامة، لها من الاعتبار والقيمة العلمية ما للقوانين النفسية الأخرى - المنتزعة من مجال بحث آخر - أما الحلقة الوسطى التي تقع بين هاتين المرحلتين في سير التطور النفسي - وهي من سن السابعة إلى سن الرابعة عشر تقريباً - فلم يروا لمظاهرها ما يجعلها مستقلة تماماً عن مظاهر المرحلة السابقة عليها ومظاهر الأخرى اللاحقة لها؛ بل وجدوا فيها من خصائص كل من المرحلتين ما ليس على سبيل الانفراد أيظاً. ولذا اعتبروا هذه الحلقة من حلقات تطور الإنسان معبراً، ونظروا إليها كمرحلة انتقال من طور قائم بذاته إلى آخر مستقل عنه تماماً. ومن هنا ندرك: لماذا عنوا ببحث الطفولة الإنسانية ثم ببحث البلوغ العقلي أكثر من عنايتهم ببحث المرحلة الوسطى بينهما.
وقاسوا على الطفل في مرحلة الطفولة الأولى - وهي من السنة الأولى إلى السنة السابعة - الإنسان البدائي في مرحلة البلوغ الجنسي، وهو كل إنسان لم ينضج نضوجاً عقلياً ونفسياً حسب معاييرهم. صنعوا ذلك لوجود الشبه في المظاهر النفسية بين الأثنين. وكلمة:(الطفولة) إذن عنوان على عدم الرشد، وتقبل تماماً - كما ذكرنا - البلوغ العقلي النضوج الإنساني.
وتبع علماء النفس في تقسيم الإنسان إلى فرد بدائي غير رشيد وآخر بالغ أو ناضج حسب تحديدهم لمظاهر النوعين علماء الاجتماع في تقسيم الجماعة الإنسانية إلى بدائية أو فطرية وأخرى ناضجة أو متحضرة. وراعوا في تقسيم الجماعة على هذا النحو نفس المقاييس التي عرفت لعلماء النفس.
ونهج منهج النفسيين والاجتماعيين مؤرخوا العقائد الدينية في موازنتهم بين الأديان. فجعلوا منها ضرباً بدائياً وآخر راقياً.
وقصدوا بالأول ما كانت معتقداته تصور مظاهر الطفولة، وبالثاني ما كانت معتقداته ووصاياه تمثل مظاهر البلوغ العقلي للإنسان. فاستعاروا التقسيم لموضوعهم وكذا الأساس الذي قام عليه من علماء النفس أيظاً.
وبالحديث عن مظاهر الطفولة عند النفسيين سنعرف بطريق المقابلة مظاهر الرشد أو
البلوغ العقلي عندهم، ويمكن بالتالي عن طريق الاسترسال تصور الجماعة البدائية والجماعة المتحضرة عند علماء الاجتماع، وكذا أخذ صورة، عن الديانة البدائية والأخرى الراقية عند علماء الأديان.
وفي الحديث عن مظاهر الطفولة النفسية سنقصر الكلام على بعضها - كأمثلة فقط - مما لبيانه أثر في توضيح الإسلام كدين وهو هدف هذا الحديث. سنقصر الكلام على وصف:
1 -
إدراك الطفل في مرحلة الطفولة - من السنة الأولى إلى السابعة -،
2 -
وجدانه،
3 -
صلته بالعالم الخارجي،
4 -
سلوكه وتصرفاته،
5 -
أحكامه وتقديره،
1 -
إدراكه:
في الجانب الإدراكي: يقف إدراك الإنسان في مرحلة الطفولة الأولى عند حد المحسوس من الأشياء. ثم ما يدركه من مظاهر الشيء هو الشيء على الحقيقة عنده. وهكذا:
(ا) جزء الشيء يعبر في نظره عن الشيء كله، وهو كأنه هو:
فالبرتقالة مثلاً لا يدركها بكل مقوماتها من شكل، ولون، وطعم، وغير ذلك من خصائصها التي تتصل بألياف البرتقال وعصيره مثلاً بل بما ينجذب إليه إدراكه من ظاهرها فلونها الأصفر الفاقع كاف عنده في تميزها عن فاكهة أخرى.
(ب) والإجمال هو التفصيل في رأيه: فلون البرتقالة - في المثال السابق - يحمل في طيه بقية العناصر الأخرى التي لها دخل في ماهية البرتقالة من شكل، وحجم، وخشونة أو نعومة في الملمس، ومذاق في الطعم. . . إلى غير ذلك.
(ج) والشيء وأثره أو لازمة من لوازمه واحد في نظره.
فلقد لوحظ إن طفلاً في سن الرابعة يقبض على شعاع الشمس حتى لا تخرج من الغرفة قبل أن تجيء أمه التي أخذ يناديها لترى الشمس حبيسة بين ذراعيه. كما لوحظ من طفل آخر في سن الخامسة من عمره أنه أخذ يصيح ويبكي. فلما سأله أبوه المصاحب له عن سبب بكائه أراه ما سقط على يده قائلاً له، إنها دودة من دود القز، تلدغه. ولم يتبين أبوه
طبعاً إلا بعض خيوط القز، إذ ذلك هو الموجود فعلاً على يد صغيره. لكن في إدراك الطفل؛ دودة القز وخيوطها سواء، ولذا منح الخيوط خصائص الدودة، وهو اللدغ.
وإدراكه إذن للشيء الخارجي على هذا النحو إدراك ناقص، لأنه لم يقف على الشيء كما هو في الواقع. ولذا لا يستطيع إدراك حقيقته، وهي ذلك القدر العام الذي تشترك فيه جملة من الأشياء الخارجية والذي يحمله كل شيء منها خلف ظاهره أو على حد تعبير المناطقة وراء (مشخصاته). كما لا يستطيع من باب أولى أن يدرك ما يجمع مفردات العالم كلها من (معنى الوجود) أو مما يسميه المناطق (بالجنس الأعلى). وبالتالي لا يدرك ما وراء ذلك من (الحقيقة العليا) التي هي مصدر الوجود كله وهو الله المعبود. فالله المعبود وراء كل ما يحس، لا يدرك عن طريقه أية حاسة من الحواس يتصور ذهناً فقط. ولأنه وراء المحسات كان كلياً، ولأنه مصد الآحاد كلها والمجمع الأخير لها كان فردا واحداً.
والإنسان البدائي في الناحية الإدراكية يشبه الطفل في مرحلة طفولته الأولى. يقف بإدراكه عند حد ما يدرك بالحس من الأشياء ويغريه منها ما هو أشد ظهوراً فيها من لون، أو حجم دون ما لها من ذوات وقيم.
وجزء الشيء عنوان للشيء عنده؛ يعبر عن حيوان ما لو سئل - بحكاية له من صوت أدركه عن طريق السمع، أو بوصف آخر أدركه بإحدى الحواس الأخرى.
وقلما يتناول وصفه عناصره المتعددة فضلاً عن ماهيته وحقيقته.
ولأنه يقف في إدراكه عند حد المحسوس كان إلهه دائماً كائناً محساً مما يقع في بيئته الجغرافية ووطنه المحلي. وليست القيمة الذاتية للمعبود هي التي دفعت ذلك الإنسان البدائي إلى عبادته - لأنه لم يصل إلى تلك القيمة بعد - بل الصدفة وحدها هي التي ساقته لما عبد وأله.
وإذا كان جنس من الأجناس البشرية - كقدماء المصريين، واليونان، والأمم الآسيوية القديمة، أو شعوب أواسط أفريقيا وأستراليا اليوم - يحتل في سكناه رقعة واسعة وجدنا في تاريخه في عهود ضعفه عدة معبودات ، لا تخرج عن كونها كائنات محسة، ووجدناها موزعة في تلك الرقعة حسب جماعاته.
وكثيراً ما يكون تكتل طوائفه وجماعاته ناشئاً عن اتحاد الاتجاه نحو عبادة كائن معين،
وليس عن سكنة إقليم بالذات أو انتساب إلى قبيلة بعينها.
وأهم ما يحدد الوثنية أن المعبود فيها محسوس. أما أنه متعدد أو متغير، أو غير مستمر النفع أو الضر، أو خلاف ذلك مما يذكر في خصائص الوثنية فمن لوازم هذا الجانب الرئيسي فيها، وهو كون المعبود محسوساً. إذ من طبيعة المحسوس أن يكون متعدداً بحكم تشخصه. وعن هذا التشخص كان تغيره، وبالتالي كان غير دائم.
وهكذا يجعل مؤرخو الأديان وثنية أي شعب عنوانا على ضعف الجانب الإدراكي فيه ووثنية الفرد عنواناً على بدائيته، للسبب الذي ذكرناه من وقوفه عند حد المحسوس فيما أعتقد وعبد.
والديانة الفارسية (الزرادشتية) - لأنها قامت على تأليه إلهين معنويين هما الخير والشر، أو الفضيلة والرذيلة - تعد في نظر هؤلاء المؤرخين أكثر رقياً من الوثنية، اكن مع ذلك أدنى من الديانة الموحدة. لأن إدراك التابعين لهذه الديانة الآرية إن تجاوز المحسوس إلى ما وراء لم يستطع أن يبلغ الغابة هناك، لم يستطع أن يصل إلى ما يجمع هذين المعبودين. وما يجمعهما هو (الحقيقة العليا) التي لها اسم الله والتي يجب أن تقتصر العبادة عليها وحدها دون ما يليها من موجودات أدناها.
فالديانة الفارسية أشبه بحلقة وسطى بين البدائية - وهي الوثنية - والأخرى الراقية - وهي الوحدة.
ولو سلكنا مسلك مؤرخي الأديان عند الموازنة بين دين وآخر، واعتبرنا ما وضعوه من مقاييس للتفرقة - غاضين النظر عن حجية الوحي - لو سلكنا هذا المسلك في توضيح قيمة الإسلام لأرانا هذا الذي عرفناه الآن في الحديث عن جانب من جوانب الطفولة الإنسانية أن الإسلام في تحديده (لله) المعبود جل جلاله يمثل حسب مقاييس البلوغ العقلي في نظر الإنسان نهاية الرشد والوضوح.
فالله في نظر الإسلام وراء الموجودات جميعها وفوق العالم كله. يخطو الإدراك الإنساني في تصوره خطوات: من وقف بإدراكه عند الحس لم يكن تقدم إليه إلا الخطوة. ومن تجاوز الحس إلى معنى مشترك بين جملة المحسوسات لم يبلغه بعد. . حتى إذا نفذ بإدراكه وراء جزئيات العالم عن طريق الترقي في التفتيش عما يجمع الكائنات كلها يكون قد
أقترب في تصوره منه، ومع ذلك قلما يكشف عن ذاته وحقيقته كما هي.
فهذه الخطوات في الإدراك بعد الظاهر المحس من الأشياء لا نكون في نظر علماء النفس إلا من الرشيد. وكلما كثرت خطوات الرشيد في إدراكه كلما كان أكثر اكتمالاً في معنى الرشد والنضوج.
وصف الإسلام (الله) بأنه واحد في مثل قول القرآن الكريم: قل هو الله أحد. . . ليس كمثله شيء. . . ولم يكن له كفواً أحد. . . وإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. ووضعه بذلك يدل على أن له الوضع السابق. إذ الوحدة المطلقة التي تعطيها هيئة التركيب في هذه الآيات الكريمة لا تكون إلا لمن انتقى عنه التشخص أولاً، ومعنى الاشتراك فيه ثانياً. وذلك هو الموجود المطلق.
فالوحدة هنا دليل على الإطلاق أو عدم القابلية للتحديد، كما أن التشخص هناك في الوثنية آية على التعداد والكثرة.
وبعض المسيحيين الذين ألهوا عيسى الرسول عليه السلام يضفون على المسيحية كديانة سماوية - عن طريق تأليههم عيسى - بعض خصائص الوثنية، لا من حيث الاعتقاد بإلهين أحدهما الأب والآخر الابن، لكن أولا وبالذات من حيث أن أحدهما يحده الحس والتشخص وهم بذلك يحرفون الكلم عن مواضعه ويستبدلون بآيات الله صنعة الإنسان.
محمد البهي
رؤيا مرزا
للكاتب الإنجليزي يوسف أديسون
بقلم الآنسة ماهرة النقشبندي
حينما كنت في مدينة القاهرة العظيمة وقع في يدي عدد من المخطوطات الشرقية التي لا يزال بعضها معي، ووجدت من بينها واحدة عنوانها رؤيا ميرزا، بعثت قراءتها في نفسي سروراً لأحد له. وقد عزمت على نشرها للقراء عندما لا أجد ما أسلبهم به وسأبدأ بالحلم الأول الذي ترجمته بالحرف الواحد كما يلي:
عندما حل اليوم الخامس من الشهر القمري الذي لا أزال أقدسه كعادة أجدادي، اغتسلت وصليت الصبح ثم تسلقت تلال بغداد لأقضي سحابة اليوم في التأمل والتعبد. وبينما كنت أتنزه على قمم الجبال، رحت في شرود، أفكر في تفاهة الحياة البشرية، وتنازعتني الفكر، وقلبت الأمور على وجوهها فلم أجد الإنسان إلا ظلا ولا الحياة إلا حلماً طويلاً. وبينما أنا في تأملي وقد سرحت النظر إلى قمة صخرة لا تبعد عني كثيرا، رأيت رجلاً في ثياب راع يحمل في يده آلة موسيقية رفعها إلى شفتيه وبدأ يعزف عليها حينما نظرت إليه. كانت الأنغام رائعة شجية مختلفة الإيقاع تنساب في رفق ولين وعذوبة لا توصف وكانت عن كل ما سمعته إذناي من موسيقى، وذكرتني بالأنغام السماوية التي لا تعزف إلا للأرواح الصالحة عند رحلتها الأولى إلى الفردوس لتنسيها آلام النزع الأخير وتعدها للسعادة التي تنتظرها في ذلك المكان البهيج. فأحسست كأن قلبي يذوب وكأنني أفني في ذهول خفي.
لقد كنت أعلم أن هذه الصخرة يسكنها جني، وإن بعضهم قد أطربته موسيقاه الساحرة، غير أنني لم أسمع أب العازف قد ظهر للعيان. وفيما أنا ذاهل عن نفسي بما آثرت هذه الأنغام الشجية في رأسي من أفكار، ولكي يتيح لي لذة محادثته أشار إلى بيده حينما نظرت إليه مشدوداً لأقترب من مجلسه، فدنوت منه باحترام يليق بمكانه كائن غير بشر. ولما كانت أنغامه الشجية قد أخضعت قلبي بكليته فقد ركعت على قدميه أنتحب. فابتسم لي بسمة يشع منها اللطف والحنان جعلته قريباً إلى نفسي، غير مخيف لناظري، وطري ما اعتراني من خوف وفزع عند قدومي إليه. وأخذ بيدي ورفعني عن الأرض قائلاً: ميرزا! لقد سمعتك وأنت تناجي نفسك فاتبعني. وقادني بعد إذ إلى نقطة في الصخرة وأوقفني فيها وقال: ألق
بنظرك إلى الشرق واخبرني ماذا ترى؟ قلت: أرى وادياً عظيماً يمر فيه تيار هائل من الماء. قال، ' ن هذا الوادي هو جزء من تيار الأبدية العظيم. فسألته ما السبب في إن التيار الذي أراه ينبع من ضباب كثيف من طرف، ثم يتلاشى في ضباب كثيف في الطرف الآخر؟ قال؟ إن ما تشاهده هو ذلك القسم من الأبدية الذي ندعو بالزمن ونقيسه بواسطة الشمس، ويمتد من بداية الدنيا إلى نهايتها. حدق الآن في هذا البحر الذي تكتنفه الظلمات من جميع جهاته وأخبرني هما تجد فيه. . إنني أرى جسراً في منتصف التيار. قال: إن هذا الجسر الذي تراه هو حياة البشر، فإنظر إليه جيداً. وبعد إعادة النظر الدقيق وحدته مؤلفاً من ستين دعامة وعشر أخرى منفردة وبعض الدعامات المخربة التي إذا أضفناها إلى تلك تجعل المجموع يربي على المائة. وفيما كنت أحصي الدعامات أخبرني الجني أن الجسر كان مؤلفاً في البداية من ألف دعامة، ولكن فيضاناً مدمراً جرفها وترك الجسر في حالة الخراب التي تراها. فسألني عما أجد فوقه فقلت: أرى جمهوراً من الناس يمرون عليه وأرى سحابتين سوداوين معلقتين فوق نهايته. وبع أن أعدت النظر ثانية رأيت بعض السائرين يسقطون من الجسر إلى التيار الهائل الذي تدفق في أسفله. وبعد كثير من الفحص والتدقيق لاحظت مزالق لا تعد وضعت في الجسر بصورة خفية، وحينما يطأها المارون يسقطون منها إلى التيار فيبتلعهم حالاً ويختفون. وكانت هذه الفتحات الخفية واسعة عند مدخل الجسر بحيث أن كثيراً من الناس كانوا يسقطون فيها حال خروجهم من الغيوم. وتأخذ في الضيق عند منتصفه ولكنها تتضاعف وتقترب من بعضها عند اقترابها من نهاية الدعامات المنفردة. لقد وجدت أن عددا قليلاً جداً من الناس هم الذين استطاعوا الاستمرار في سيرهم نحو الأعمدة المخربة ثم سقطوا تباعاً منهوكي القوى متعبين من ذلك السير الطويل.
وقضيت بعض الوقت في تأمل ذلك البناء العجيب وما بان فيه من مواضع مختلفة غريبة. وقد ملأ قلبي الأسى لرؤية بعضهم يسقطون على حين غرة وهم في أوج السعادة والمرح فيتشبثون بكل ما تقع عليه أيديهم لإنقاذ أنفسهم.
وكان بعضهم ينظر إلى السماوات غارقاً في تفكير عميق، وفي خلال تلك التأملات والذهول يتعثر ويسقط ثم يتوارى عن النظر.
وكانت الجماهير منهمكة في اللحاق بالدمى التي كانت تشع بالنور في عيونهم وترقص أمامهم، وعند ما يحسبون أنهم بالغوها تزل أقدامهم فيقعون في العمق غارقين. وبين هذه الأشياء المحيرة لاحظت إن بعضهم يحملون سيوفاً وآخرين يحملون مباول وهم يروحون ويجيئون فوق الجسر يدفعون بعض الناس خلال المزالق التي لا تبدو واضحة في طريقهم والتي قد ينجون منها لو لم يدفعوا إليها قسراً.
ولما رأى أنني منهمك في تتبع هذا المنظر المحزن أخبرني أنني قد تأملت طويلاً وقال: حول عينيك عن الجسر واسألني عن الشيء الذي لم تدركه. فسألته وأنا مصوب نظري إلى العلاء عما تعني تلك المجموعة من الطيور التي تحوَّم بصورة مستمرة فوق الجسر وتقف عليه من حين إلى آخر؟ إنني أرى نسوراً وعقباناً وغرباناً، وكثيراً من المخلوقات المجنحة، أرى بينها صبياناً مجنحين يجثمون مزدحمين في وسط الأعمدة. قال الجني: هؤلاء هم الحسد والطمع والخرافات واليأس والحب وما شابهها من المطامع والآلام التي تفيض بها حياة البشر.
وند عن صدري تنهد عميق وقلت: يا للأسف! لقد خلق الإنسان سدى. يدفع للشقاء ثم للفناء. يعان يفي حياته المضنية الآلام الجسام ثم ينقض عليه الموت ويزدرده، لقد تحركت الرأفة في قلب الجني فأمرني أن أترك هذا المنظر المؤلم قائلاً كف عن النظر إلى الإنسان في أول مرحلة وجوده ومسيره إلى الأبدية، وسرح طرفك في ذلك الضباب الكثيف الذي يحمل التيار إليه الأجيال الفانية، فنقلت بصري إلى حيث أمرني (ولا أدري هل كان الجني الطيب قد بعث فيه قوة فوق العادة أو أزاح قسماً من الضباب الذي كان يبدو أولاً شديد الكثافة حتى لا تستطيع العين اختراقه).
رأيت الوادي ينفتح من نهاية القصية إلى محيط عظيم في وسط صخرة من الناس تقسمه قسمين متساويين، ولا تزال السحب تغطي نصفاً منه بصورة لم تدعني أكتشف شيئاً منه. أما النصف الثاني فكان يبدو جلياً كمحيط كبير تناثرت فيه جزائر لا يبلغها المد مزروعة بالفواكه والرياحين يفصلها عن بعضها آلاف من البحار الصغيرة المتلألئة. وكان في استطاعتي أن أرى أناساً عليهم ثياباً من سندس وإستبرق تزين رؤوسهم الأكاليل يتريضون خلال الأشجار ويتمددون عند المنابع الصافية أو يستريحون إلى فراش من الأزاهير.
وسمعت أنغاما ساحرة مشوشة من تغريد الطيور وخرير المياه وأصوات بشرية وآلات موسيقية. فملأ هذا المنظر البهيج روحي بالسعادة ونفسي بالأمل وتمنيت لو كان جناحا نسر لأطير إلى هذا الوادي السعيد؛ ولكن الجني أنبأني أن الطريق الوحيد إليه طريق الموت الذي كنت أراه يفتح في كل لحظة فوق الجسر. واستطرد قائلاً ' ن خلف هذه الجزر التي تبدو لعينيك نقية خضراء نملأ وجه المحيط بعددها الذي يفوق ذرات الرمل على ساحل البحر، تمتد عشرات الآلاف من الجزائر حيث لا يدركه نظرك أو تتصوره مخيلتك تلك هي مساكن الصالحين بعد الموت يحلون بها تسربلهم السعادة السرمدية ويحف بهم السرور الدائم كل حسب ما قدم وأخر وما امتاز به من فضيلة ومنزلة وهم موزعون على الجزائر التي تعمها المسرات المتنوعة موافقة حسب ما يشاءون وما يلذ لهم لإتمام هناءتهم فيها. وكل جزيرة فردوس أعد للأبرار الأطهار من بني البشر. فهلا تستحق هذه المساكن يا ميرزا النضال لفوز بها؟ وهل تبدو الحياة مفعمة بالتعاسة وهي تعطي هذه الفرص لنيل مكافئة كهذه؟ وهل الموت مخيف وهو الذي يحملك إلى هذه الحياة الطليقة التي لا يعكر صفوها كدر؟ فلا تحسب إن الإنسان خلق سدى، وفي انتظاره تلك الحياة السرمدية. وحملقت بتلك الجزر وقلبي مفعم بسعادة لا يحدها حد. وأخيراً رجوته أن يكشف لي عن السر الذي يكمن خلف الغيوم التي تحجب الطرف الآخر من صخرة الماس.
فلم يجبني الجني فالتفت بعد لحظة إليه لأكلمه فلم أجده؛ واستدرت إلى المنظر الذي تأملته ذلك الوقت الطويل فرأيت بدلا ًمن التيار الموار وأعمدة الجسر والجزر السعيدة وادي بغدات العريض تمر فيه الثيران وقطعان الغنم والجمال ترعى الكلأ في دعة وأطمئنان.
ماهرة النقشبندي
الجارم الشاعر
الأستاذ عبد الجواد سليمان
وعدت القراء أن أعود إليهم على صفحات الرسالة الغراء لنجول جولة مع الجارم في شعره علناً نعطي صورة ولو تقريبية لمقدار حظه من هذه الموهبة الشعرية التي يسكبها الله في بعض قلوب عباده فيلهمون القول، ويتفرجون بفيض من الحكمة يصوغونه نظيماً شعرياً يتفاوتون في بلاغته تفاوتاً يخضع لنصيب كل شاعر من التهيؤ والملكة وسعة الإطلاع، فإن الشعر عاطفة وفكرة، وإحساس وخيال، أو هو كما عرفه بعض الغربيين بأنه (الحقيقة التي تصل إلى القلب رائعة بوساطة العاطفة) أو هو (عرض البواعث النبيلة وساطة الخيال):
أو هو كما يقول الجارم نفسه: -
الشعر عاطفة تقتاد عاطفة
…
وفكرة تتجلى بين أفكار
الشعر ' ن لامس الرواح ألهبنا
…
كما تقابل تيار بتيار
الشعر مصباح أقوام إذا التمسوا
…
ثورة الحياة وزند الأمة الواري
الشعر أنشودة الفنان يرسلها
…
إلى القلوب فيحيا بعد إفقار
والباحث في شعر الشاعر لن يصل إلى نتائج صحيحة أو يأتي بحثه قريباً من كبد الحقيقة إلا إذا كان (ديوان الشاعر) أمامه لا يفارقه لحظة، يقلب صفحاته، ويتنقل بين قصائده وينعم النظر بين أبياته، ويطيل التأمل والوقوف عند كل معنى من معانيها مراعياً في تقديره وإصدار أحكامه للشاعر أو عليه كل ما أحاط به من ظروف وملابسات خاصة وعامة عندما نظم قصيدته؛ ومقدراً المناسبة التي قالها فيها والغرض الذي يرمي إليه، ثم يخلص من ذلك إلى الجمع بين المتشابه، والتأليف بين المتقارب، ثم يستنبط جمعه ما هو بصدد الوصول إليه من حقائق عامة ونظريات أدبية هامة، ويسوق من شعر الشاعر الشواهد التي تؤيد دعواه، ومن النقاد السابقين أدلة تدعم قضاياه.
والجارم في ثقافته وسط بين المدرسة القديمة التي يمثلها القدامى من أدباء دار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي وهما مشتقتان من مصدر الأزهر: وهذه المدرسة القديمة ترتكز في دراستها على القرآن وحديث الرسول والآثار القديمة من دواوين الشعراء في عصور
العربية الزاهرة، وكتب الناقدين من أضراب عبد القاهر وأبن رشيق والآمدي والعسكري وغير هؤلاء؛ والمدرسة الحديثة التي يمثلها الأعلام ممن تعلموا تعليماً مدنياً وجنحوا في دراستهم إلى الآداب الغربية ينهلون من حياضها ممن هم على شاكلة لطفي السيد وقاسم أمين وفتحي زغلول ومن سار سيرتهم واهتدى هديهم.
فجاء الجارم في شعره حلقة الاتصال بين المدرستين، ينظم في الحوادث الجلي والمناسبات التاريخية فتسمع فيه شعراً فيه الطابع البدوي والموسيقى العربية، والألفاظ المنتقاة فتخاله رجعياً قديماً وتحسبه ما يقول إلا معاراً، ثم لا تلبث أن تسمعه ثانية فتسمع شاعراً متصرفاً في شعره سامياً في خياله فتلمح روح العصر قد بدا ناطقاً في قصائده مرئياً في أبياته.
فهو مثلاً في إحدى مدائحه الملكية عليه آثار المدرسة القديمة وتأثره بمهج القدماء من الشعراء عندما يقول: -
أقبس الروح من شعاع الراح
…
والثم الحسن في جبين الصباح
وأبعث اللحن من سمائك ياش
…
عر ونافس به ذوات الجناح
وانهب الحسن من خدود العذارى
…
واسرق السحر من عيون الملاح
إلى أن يقول: -
إيه يا شعر أنت سلوى في الدنيا
…
إذا ضاق بي فسيح البراح
وفي مثل هذه المناسبة وفي قصيدة أخرى يطل عليك الجارم من مدرسته الحديثة فتبدو على شعره سمات الثقافة الغربية ودراسته الحديثة فقول في الفاروق: -
هو الأمل البسام رف جناحه
…
فطارت به من كل قلب بلابله
هو الكوكب اللماح يسطع بالمنى
…
وتنطق بالغيث العميم مخايله
ترى بسمة الآمال في بسماته
…
وتلمس سر النبل حين تقابله
يفديه غصن الروح ريان ناضراً
…
إذا اهتز في كف النسائم مائله
فإن الأمل البسام، وطيران البلبل من القلوب، وسطوع الكواكب بالمنى، وبسمة الآمال واهتزاز الغصن المائل في كف النسائم، وجريان (النسائم) على هذا الوزن في الجمع كلها من التعبيرات العصرية، ووليدة اصطلاحات المدرسة الحديثة في اتجاهات دراستها.
والجارم في كل شعره أو على الأقل في الغالب الكثير منه لا تكاد تفارقه هذه الصفة التي
يمثل فيها مدرستي الأدب القديمة والحديثة ويصل بينهما ما يكاد ينقطع.
وهناك صفة أخرى يتميز بها الجارم في شعره، تلكم هي (قدرته على التصرف) في نظمه في مختلف الأغراض، ولعله اكتسب هذه الميزة من كثرة ما قرأ وطول ما توفر على الدراسة والبحث مع حسن استعداد وصفاء وطبع وإدامة النظر في أشعار من سبقوه، ولن تكفي مطلقاً لخلق شاعر حسن التصرف كثرة القراءة وحدها؛ فما أكثر من المكثرين من القراءة، ولكن ما أقل من نجده من بينهم قد توافرت له أداة حسن التصرف في القول؛ بل لابد أن يعزز كثرة القراءة تهيؤ من خيال خصيب وذوق سليم وطبع صاف على نحو ما قال الجرجاني (إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه، فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان) أو على نحو ما يقول بكر بن النطاح (الشعر مثل عين الماء إذا تركتها اندفنت وإن استهنتها هتنت) وكما يقول أحمد حسن الزيات في كتابه (دفاع عن البلاغة)(ىلة البلاغة الطبع الموهوب والعلم المكتسب).
فالجارم الذي يجود خياله بصورة للحرب العظمى تعج بالدماء وتتطاير فيها الأشلاء فتشبع منها العقبان في البر والحيتان في البحر، وتعبر عنها هذه الأبيات: -
طاحت بأهل الغرب نار الوغى
…
وهبت الريح بهم زعزعا
طاف عليهم بالردى طائف
…
فاخترم الأنفس لما سعى
وصاح فيهم للنوى صائح
…
فصمت الأسماع مذ أسمعا
قد غصت الأرض بأشلائهم
…
وأصبح البحر بهم مترعا
وآن للعقبان أن تكتفي
…
ولآن للحيتان أن تشبعا
هو نفسه الجارم الذي يلين ويرق فيسيل ظرفاً وحلاوة في لهو - لحسن تصرفه - فيقول: -
يا سارقات الصبح طال ليلي
…
فديتكن بعض هذا الدل
هل جاز في دين الغرام ذلي
…
من لي بأن ألقى الصباح من لي؟
باللمح أو باللمس أو باللثم
فيكن ذات حسب ودين
…
مشرقة الطلعة والجبين
كأنها إحدى الظباء العين
…
من عاذري فيهن من معيني
عيل بها صبري وطاش حلمي
حديثها سلافة النديم
…
وخلقها تواضع اليتيم
فديتها من ملك كريم
…
تعرف فيها نظرة النعيم
أنقى وأصفى من نطاف الغيم
وإن المعاني التي تتضمنها هذه الأساليب (سارقات الصبح، دين الغرام، طاش حلمي) من المعاني البديعة المبتكرة التي تدل على حسن تصرف الشاعر. وإن تشبيه الحديث بسلافة النديم والخلق بتواضع اليتيم، من التشبيهات الجليلة الرائعة.
وهو نفسه الجارم الذي يبكي أمير الشعراء (شوقي) ويصور فجيعة مصر والشعر فيه تصويراً مقدرة الجارم على التصوير الشعري فيقول: -
مات يا طير صادح تسجد الط
…
ير إذا رجع الصدى تحنانه
نبرات تخالها صوت داوو
…
د بلفظ تخاله تبيانه
مات شوقي وكان أنفذ سهم
…
صائب الرمي من سهام الكنانة
أبك للشمس في السماء أخاها
…
وإبك للدهر قلبه ولسانه
وابكه للنجوم كم سامرته
…
مالئات بوحيها آذانه
وابك للروض واصفا ًيخجل الرو
…
ض إذا هز باليراع بنانه
وابكه للخيال صفوا نقياً
…
إنه كان في الورى ترجمانه
ملأ الشرق موت من ملأ الشر
…
ق حياة وقوة وزكانه
ثم ينتقل بحسن تصرفه - من تصوير هول المصيبة بوفاة شوقي وخسلرةمصر والشرق العربي فيه، إلى تصوير قومية شوقي وحبه لمصر وتعلقه بكل ما هو مصري من نبل وخضرة وخمائل، وأنه يعشق من أجل مصر النيل والجزيرة وجسر إسماعيل وعين شمس و. . . و. . . فيقول: -
كان صبا بمصركم هام شوقاً
…
برباها وبثها أحزانه
دفن اللهو والصبا في ثراها
…
وطوى من شبابه عنفوانه
هي بستانه فغرد فيه
…
وحبا كل قلبه بستانه
يحرس الفن في ظلاله نواحيه
…
ويرمي عن دوحه غربانه
يعشق النيل والخمائل ته
…
تز بشطيه خضرة ولدانه
يعشق النيل والجزيرة تغر
…
يه وقد لف حولها أردانه
يعشق الجسر والسفائن تهفو
…
حوله كالحمائم الظمآنة
ويحب السواد من عين شمس
…
ملئاً من روائه أجفانه
ثم يطلع علينا الجارم بعد ذلك بصورة جديدة - دون أن يعدم سعة الحيلة وحسن التصرف - صور فيها شوقي إماماً لمن ينشدون الخلود ومثلاً أعلى لمن يتوقون لحسن الذكرى وطيب الأحدوثة يحتذ به كل من تصبو نفسه إلى ذلك فيقول: -
هكذا كل من يريد خلوداً
…
يجعل الكون كله ميدانه
هكذا فليسر إلى المجد من يشا
…
ء ويرفع بذكره أوطانه
ثم يلم بأخلاق شوقي بأبيات ستة يجمع فيها مكارم الأخلاق التي يتسابق أعزاء الرجال في تحصيلها لتزداد بها عزتهم حصانة وقوة فيقول: -
خلق كالندى وقد نقط الز
…
هر فحلى وشي الرياض وزانه
وصبا يملأ الزمان ابتساماً
…
وحجا يملأ الزمان رزانة
وسماح يلقى الصريخ بوجه
…
تحسد الشمس في الضحى لمعانه
شمم في تواضع وحياء
…
في وقار وفطنة في لقائه
وحديث حلوه روعة الشعر
…
فلو كان ذا قواف لكانه
ويقين بالله ما مسه الضعف
…
ولا طائف من الشك شانه
ثم ينتقل بعد ذلك - وعماده حسن تصرفه - إلى مناجاة شوقي في حنان شعري وأسف على فراقه ودعاء له من قلبه مع اعتذار واعتبار قائلاً: -
أيها الراحل الكريم لقد كن
…
ت سواد العيون أو إنسانه
نم قليلاً في جنة الخلد وانعم
…
برضا الله واغتنم غفرانه
كيف يوفى الشعر من ملك الشع
…
ر وألقى لغيره أوزانه
ورثاء البيان جهد مقل
…
للذي خلد الزمان بيانه
نهج من المناهج القويمة السليمة رسمه الجارم بطبعه الشعري الأصيل وسار عليه فكان
موفقاً فيما نظم من قصيدة. أليس هو النهج الذي رسمه عبد العزيز الجرجاني للشاعر وأوصاه بالتزامه ليسلم من الزلل فقال (ولا أمرك بإجراء أنواع الشعر كله مجرى واحداً ولا أن تذهب بجميعه مذهب بعضه بل أرى أن تقسم الألفاظ على رتب المعاني، فلا يكون غزلك كافتخارك، ولا مديحك كوعيدك، ولا هجاؤك كاستبكائك ولا هزلك بمنزلة جدك. . .
بل ترتب كلامك مرتبته وتوفيه حقه، فتلطف إذا تغزلت، وتفخم إذا افتخرت، وتتصرف للمديح تصرف مواقعه، فإن المدح بالشجاعة والبأس يتميز عن المدح باللباقة والظرف؛ ووصف الحرب والسلاح ليس كوصف المجلس والمدام؛ فلكل واحد من الأمرين نهج هو أملك به طريق لا يشاركه الآخر فيه).
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية
(3)
مناهج الأدلة لأبن رشد
الأستاذ كمال دسوقي
والبحث الثاني في بعث الرسل ذو شقين: الأول إثبات الرسالات - والثاني في أن قد جاء بها إلى الناس واحد منهم ويجب تصديقه. وهذا أيضاً قد أراد المتكلمون إثباته بالقياس والحكم من الشاهد إلى الغائب بأن قالوا إن من حق الملك القادر المريد المتكلم أن يبعث رسولاً إلى عباده، كما أن من واجب الناس متى ظهرت على الرسول علامة الملك وصدق الدعوى أن يصدق ما جاء به. ويعترف أبن رشد أن هذا الدليل (ظهور المعجزة) مقنع ولائق بالجمهور وهو مقصد الشرع - ولكنه يناقش ما يكتنفه من اختلال في أصوله ككيفية معرفة صدق الرسالة بأن يقول لنا الشرع على لسان الله إن من علامات رسلي كذا وكذا - أو أن يستدل العقل من تلقاء ذاته على صحة هذه المعجزة. أما الأول فمحال، وأما الثاني فله مقدمتان: هذا الرسول قد أظهر معجزة: كل من أظهر معجزة فهو نبي - فصدر المقدمة الأولى الحس والتسليم بأفعال حقيقية (لا خيالية ولا وهمية) تظهر على أيدي المخلوقين لا بسحر أو شعوذة - وصحة المقدمة الثانية تتبنى على الاعتراف بوجود الرسل في المقدمة الأولى وبالتأكد من حقيقة المعجزة وصاحبها. ويحمل أبن رشد على مبدأ جعل إرسال الرسل جائزاً في العقل - فإن الجواز جهل وتشكيك في المقدمة الثانية يجعل أن المعجزة يمكن الإحساس بها أو امتناع تصديقها - وباعث الرسول يمكن أن يكون زيداً أو عمراً - فمن طبيعة الجائز أن يكون أو ألا يكون - ونحن نسلم بطرف منه لأنه الذي حدث فعلا ًبينما نجهل الآخر - وكون ما حدث من طرفيه قد كان أولى من الآخر يجعله بعد حدوثه ضروريا وواجباً. وهذا ما يريد لأبن رشد؛ فإن العقل حتى مع هذه الضرورة والوجود لن يأخذ المعجزة دليلاً على الرسالة - مهما كان إلهياً - غل بأن يعتقد أن مثل هذه الخوارق لا تحدث إلا من فاضل غير كاذب ول ساحر. ويعمد فيلسوفنا بعد هذا التطبيق على رسالة الإسلام ومعجزة القرآن - وكونها رغم أنها من جنس الأفعال المعتادة معجزة بنفسها لا يصرف الناس عن الإتيان بمثلها يعني أنها السهل الممتنع.
ويحاول أخيراً إثبات صدق نبوة محمد (صلعم) بحجة من مبدئين: (1) تواتر الرسل قبله
(2)
أن هؤلاء يعلمون الناس بوحي من الله وينتهي من تواتر وجودهم وصدق معجزاتهم إلى إثبات نبوتهم (98 - 100).
وعند بحثه للمسألة الثالثة في القضاء والقدر (104) يبين أنها مشكلة عويصة تتعارض فيها دلائل السمع وحجج العقول.
فمن الآيات ما يدل على أن كل شيء بقدر وأن الإنسان مجبور على أفعاله بينما هناك آيات توضح أن للإنسان اكتسابا بفعله وأنه ليس مجبوراً على أفعاله. وربما يظهر هذا التعارض في الآية الواحدة. ولهذا انقسم المسلمون إلى فرقتين: (1) المعتزلة التي اعتقدت اكتساب الإنسان لأفعاله. (2) والجبرية التي تناقضها بالقول إن الإنسان مجبر على أفعاله.
أما موقف الأشاعرة فكان كعادتهم دائماً التوفيق بين الآراء فوافقوا أن الإنسان كسباً ولكن المكتسب والكسب مخلوقان لله. . والإنسان بقولهم هذا لابد مجبور على اكتسابه. وهذا هو سر الاختلاف في هذه المسألة. فمع تعارض السمع تتعارض أيضاً الأدلة العقلية. . فإذا فرض وخلق الإنسان أفعاله فمعنى ذلك أن هناك أفعالاً لا تجري على مشيئة الله، فكأن هناك خالقاً غير الله، في حين أن المسلمين أجمعوا أن لا خالق غيره. . وإذا فرض أنه مجبور فلا وسط هناك بين الجبر والاكتساب.
لكن أبن رشد يرى أن الشرع إنما قصد الجمع بين الاعتقادين على التوسط إذ أن الأفعال المنسوبة إلينا إنما تتم بإرادتنا مع إرادة الله. . وما الإرادة إلا شوق يحدث لنا عن الأمور التي من خارج والتي سخرها الله. فأفعالنا تجري على نظام محدود لأنها مسببة عن تلك الأسباب التي من خارج. وهذا الارتباط بين أفعالنا والأسباب التي من خارج والتي خلقها الله داخل أبداننا هو القضاء والقدر. . الذي كتيه الله على عباده ولا يعلم بهذه الأسباب إلا الله وحده الذي عنده علم الغيب (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية. فبهذا يكون من الواضح أن لنا اكتساباً وأن جميع مكتسباتنا بقضاء وقدر سابقين.
. . وتناول في البحث الرابع مسألة الجور والعدل. وقد جاءت الشعرية في هذا الصدد بضد ما صرح به الشرع فزعموا أنه إنما أتصف بالعدل والجور لمكان الحجر الذي عليه في أفعاله من الشريعة. فمتى فعل الإنسان شيئاً هو عدل بالشرع كان عادلاً. . والضد صحيح. ومن ليس مكلفاً فلا يوجد في حقه فعل هو جور أو عدل وذهبوا من ذلك أنه ليس
ثمة شيء عدل في نفسه أو جور في نفسه، وهذا عند أبن رشد خطأ فاحش؛ لأنه لا يوجد خير وشر كل بذاته. . فكيف لا يكون الشرك بالله جوراً ولا ظلماً إلا من جهة الشرع، وانه لو ورد في الشرع باعتقاد الشريك كان ذلك عدلاً. . وهذا خلاف المسموع والمعقول وصدق الله حين وصف نفسه في كتابه ونفى الظلم عن ذاته العلية (وما ربك بظلام للعبيد) أما قوله أنه يظل من يشاء ويهدي من يشاء فلا يحمل على معناه الظاهري ، وإنما المشيئة التي تهيئ قوماً للظلال بطبعهم وليس في هذا جور، لن حكمة الله اقتضت أن يكون بعض الناس أشراراً بطبائعهم. . والأسباب المترتبة من خارج لهداية الناس قد تكون مظلة لبعضهم. وإنما أراد الله بهذه الآيات المتعارضة أن يبين أنه خالق كل شيء الخير والشر. . لكنه يخلق الخير لذات الخير. ويخلق الشر من أجل الخير؛ وعلى ذلك يكون خلقه للشر عدلاً منه ولعل مثال النار أصدق الأمثلة على صحة هذا القول.
ولكن شتان بين عدل الله سبحانه وتعالى وعدل الإنسان. فالإنسان يعدل ليستفيد بالعدل خيراً في نفسه. . وتعالى يعدل أن ذاته تستكمل بذلك العدل بل لأن الكمال الذي في ذاته اقتضى أن يعدل. ز
أما المسألة الخامسة ففي المعاد وأحواله. ز اتفقت كافة الشرائع في جوهر وجود المعاد وإن كانت قد اختلفت في الصور التي مثلت بها للجمهور. . فمن الشرائع ما جعله روحانية للنفوس ومنها ما جعله الأجسام والنفوس معاً.
اتفق على أن للإنسان سعادتين أخروية ودنيوية. ولما كان الإنسان أشرف الموجودات، وأنه غاية الإنسان التي تميزه دون سائر الحيوان إنما في الحياة الناطقة، فالنفس الناطقة جزءان جزء عملي وجزء علمي. ولأجل كمال الإنسان يجب أن هذين الجزئين الفضائل العلمية النظرية أي الخيرات والحسنات. وقد نصت الشريعة بتقرير هذه الأمور فعرفت من الأمور النظرية معرفة الله والملائكة والموجودات الشريفة والسعادة.
إذا كانت النفوس زكية يتضاعف زكاؤها عند الموت. . وإذا كانت خبيثة زادت خبثاً. . ولقد اتفقت الشرائع أيضاً في تعريف هذا الحال للناس وتسميتها السعادة الأخرى والشقاء الآخر. . ومن الشرائع ما لم تمثل هذه السعادة وذلك الشقاء إنما صرحت بأحوال روحانية. . ومنها ما مثلت بالمحسوسات لتكون أشد تفهيماً للجمهور فمثلت مكاناً تنعم فيه الأجساد هو
الجنة وآخر تقاد فيه الأجسام الشقية هو النار. . وذلك مثل شريعتنا الغراء فهي أتم إفهاماً لأكثر الناس وأكثر تحريكاً لنفوسهم لأن التمثيل الروحاني لا يثير نفوس الجمهور مع أنه يقبل عند المتكلمين المجادلين.
وبحسب فهم أصول المعاد ينقسم أهل ملتنا ثلاث فرق: الأولى رأت أن ذلك الوجود واحد بالجنس وإنما يختلف الوجودان بالدوام والانقطاع. . وأخرى اعتقدت بروحانيته. . وطائفة رأت أنه جسماني غير أن الجسمانية تختلف عنها الآن لأن هذه بالية وتلك باقية. ولكن الكل مجمع على بقاء الجنس (ص123) وأن الله سوى بين النوم والموت في تعطيل فعل النفس.
وقبل نهاية الكتاب نرى فيلسوفنا يعرج على ما يجوز تأويله شرعاً وما لا يجوز. وهو يرى ألا يصرح بالتأويل وبخاصة ما يحتاج إلى برهان لغير أهله وهم القادرون على البرهان والاستدلال بالمنطق. فتمثيلنا للعامة نعيم الآخرة بالجنة وأنهارها وفاكهتها أجدى في الحث على الفضيلة من أن نشككهم في الجزء المادي.
وهو برى أن من النصوص ما يجب على أهل البرهان تأويله وإلا كفروا. . كما يجب على العامة على الظاهر وتأويله كفر.
كمال دسوقي
دمعة الحسناء
الأستاذ حسن كامل الصيرفي
دموعك أغلى من أمنيات
…
فصوني دموعك يا غالية!
ولا تحزني للغيوم الثقال
…
تمر بأجوائك الصافية
ولا تحسبي ظلمات الحياة
…
تمتد أمواجها الطاغية
فشمسك تحلم في خدرها
…
بهجة غدوتها الصاحية
ستنفض عنها خمول الدجى
…
وتنهض سافرة لاهية
وترسل فوق عراء الوجود
…
خيوط أشعتها كاسية
وتوقظ من غمرات السكون
…
أمانيك الحلوة الغافية
وتختال في موكب من ضياء
…
تبدد أشجانك الداجية
صباحك ينبوعه القدسي
…
يفيض على روحي العافية
فكيف تظنين أن الظلام
…
ستخلد رايته الساجية
يد الفجر تعقل ما ترهبين
…
وتطلق أطيارها الشادية
وتمسح أعيننا الدامعات
…
وتشفى جراحاتنا الدامية
* * *
رأيتك تبكين في غشية
…
من اليأس موحشة قاسية
كأنك زنبقة في الدجى
…
تقطر أنداؤها الباكية
فأحسست كف الظلام العتية
…
تطفئ أحلامي الزاهية
تمزق ستر الدجى والسكون
…
وتقلق أنجمه الراعية
وتعث في خفقات القلوب
…
كوامن أشجانها الماضية
فذودي عن النفس أشجانها
…
تعيدي ابتسامتك الشافية
وإن عبست في السماء الغيوم
…
فضني بأدمعك الغالية
فما قطرات دموع الحسان
…
سبحة الخالق السامية
إذا فرطت حبة من عراها
…
تدك لها الأجبل الراسية
وتغلق أبواب فردوسه
…
وتنصب أنهارها الجارية
وتسكت أطيارها الصادحات
…
وتخفت أصداؤها السارية!
غيوم
للأستاذ إبراهيم الوائلي
في ظلال الكروم ترقد كأسي
…
وعلى الشاطئين مشرق أنسي
ومع الطير والنسائم يمر حسن
…
على الزهر بين لثم وهمس
كان أمسى معطر الأفق نشوا
…
ن فيالي وبالأحلام أمسي
صور لا تزال تخفق في قلبي
…
وتنساب في قرارة حسي
أتملي بها مع الفجر طيفاً
…
وأناجي ظلالها حين أمسي
أيها الغارس الكروم وحسبي
…
منك في الشاطئين أفضل غرس
سائل الظالم عن تهاويم روحي
…
وتأمل على البراعم نفسي
كرمتي والضفاف والزورق الن
…
شوان يجري مع النسيم ويسري
والندامى وربة الشعر والأرغن
…
والحالمات في طيف عرس
عالم كان لي وعاد ضباباً
…
يترامى على مواكب يأسي
نغمة هومت على الليل سكرى
…
ثم أغضت على بقية جرس
وتلاشت مع الرياح وذابت
…
ذوبان الندى بلفحة شمس
أين مغنى الهوى - أين دنيا السم؟
أين تلك الضفاف
…
حاليات الصور؟
والبيع الوريف
…
فتنة للنظر
وانعطاف الغصون
…
دانيات الثمر
وائتلاق النجوم
…
في ظلال القمر
والرحيق المذاب
…
نهلة للبشر
عالم كان لي
…
وامحى واندثر
جف دمع الكروم
…
مات لحن الوتر
* * *
ما جنى الزهر في البراعم حتى
…
كفنته لوافح وسموم؟
والطيور المنغمات فريعت
…
وتلاشى الغناء والترنيم
رصدتها الشباك من كل فج
…
فهي في عالم الذهول تهيم
لا وكور تأوى إليها سوى الأشو
…
اك تدمي والخاطفات نحوم
منسر يلتوي وينقض صديا
…
ن وظفر مخلب محموم
يالدنيا من الجمال تعرت
…
فإذا كل ما يلوح وجوم
جنت العاصفات فإنتثر الزهر
…
وأغفت على الرمال الكروم
والغصون المهومات على النهر
…
عراها الذبول والتحطيم
لا الينابيع مثلما كن بالأمس
…
عذاب ولا النسيم نسيم
هجر الحقل شاعر الحقل واختا
…
لعلى أيكه غراب وبوم
وانطوى الفجر في الضباب وحال
…
ت دون إشراقة الصباح غيوم
فإذا الأفق ساهم الوجه مكدو
…
د كأن الصباح ليل بهيم
أبن دنيا الهوى
…
يابقايا الشباب؟
هل لما قد مضى
…
رجعة أو مآب؟
فهزت العين حلسم
…
توارى وغاب
في زوايا الربا
…
في السواقي العذاب
في ارتعاش الكؤوس
…
في غناء الرباب
ومضة أشرقت
…
فاحتواها الضباب
فاشبحي يا جفون
…
في الذماء المذاب
إن دنيا المنى
…
خفقة من سراب
إبراهيم الوائلي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
تأبين الأستاذ علي محمود طه بالمنصورة
كان يوم الخميس الماضي يوم وفاء المنصورة لأبنها الذي أنجبته وأهدته إلى عالم الشعر والخلود، شاعر مصر الراحل المغفور له علي محمود طه. فقد نظمت جماعة الأدباء هناك حفلاً لتأبينه لم يكن مقصوراً على المنصوريين، بل قصد إليه من القاهرة جمع من الأدباء والكبراء كما خفت إليه أسرة تحرير (الرسالة) في صحبة أستاذنا الكبير الزيات.
وحججتا إلى البلد الجميل الذي أنبت صديقنا الفقيد لنلقى روحه الهائم على منبته ومثواه. وقد رأيت المنصورة لأول مرة فأحسست كأني آلفها من قبل كما أحسست عند أول لقاء للصديق الراحل. وفد عدنا منها وما زال خيالها ماثلاً في نفسي، كما أن روح عزيزنا الشاعر سيظل خالداً في عالمنا خلود شعره وذكراه.
نظمت جماعة أدباء المنصورة حفل التأبين، وأشرف عليه الأستاذ علي بك الهاكع رئيس الجماعة ومراقب التعليم بالمنصورة، وكانت مشاركة وزارة المعارف متمثلة في رئيس الحفل وكلمة وزير المعارف وحضور الأستاذ أحمد خيري بك وكيل الوزارة وفي المكان نفسه وهو المدرسة الابتدائية، وهي التي تلقى فيها الشاعر الفقيد دراسته الابتدائية.
بدئ الحفل - بعد الافتتاح بآي الذكر الحكيم - برسالة بعث بها الأستاذ علي أيوب بك وزير المعارف الأسبق، أبدى فيها الأسف لعوائق حالت بينه وبين الحضور، وقال فيها: كان فقيدنا شاعراً بفطرته وطبعه، أديباً بإحساسه المرهف وعواطفه الجياشة وذوقه المصفى، إلا دراسته للهندسة قد تركت أثرها في أدبه وشعره، ومن هنا كان شغفه بالموسيقى ونزوله على ما يقتضيه حسن الأداء وجمال التوقيع، والموسيقي تمت إلى العلوم بأقوى سبب، بل إن هذه العلوم هي أساسها الأول ودعامتها الكبرى. وكانت له ميوله السياسية واتصالاته الحزبية، ولكنه أبى إلا أن يكون قومياً في شعره السياسي مثالياً فيما ينظم أو يقول.
وأشار الأستاذ الهاكع - في كلمته - إلى اعتزاز المنصورة بشاعرها الأصيل، قائلاً أن روحه الفنية لم تقبع في موطنه وإنما فاض بسحره على البلاد العربية وامتد إلى الغرب،
فعلي طه إنسان عالمي، وسيظل شراعه الرمزي جائباً الآفاق إلى ما شاء الله.
وألقى الأستاذ عدلي الصيرفي كلمة سعادة عبد السلام فهمي جمعة باشا رئيس مجلس النواب، وقد عبر فيها عن شعوره نحو صديقه الشاعر وألمه لفقده.
وقام الأستاذ محمد سعيد العريان فألقى كلمة معالي الدكتور طه حسين بك وزير المعارف، قال فيها: آسف كل الأسف لأن الظروف لم تتح لي أن أشهد اجتماعكم وأن أعرب عن حبي وإعجابي بالشاعر العظيم، وعن حزني وحزن الذين يتذوقون الأدب ويكلفون بالشعر الرفيع على فقده. وهي كلمة قصيرة تشبه الاعتذار بالبرقيات السخية. وقد كنا نود أن نسمع كلمة فياضة في علي طه من طه حسين عميد الأدباء ولكنا لم نظفر إلا بهذا الاعتذار العاجل والتقدير المجمل من معالي الوزير. . ونحن نكبر عميدنا أن نخليه من العتاب في هذا الموقف لعدم أداء ما كان يقتضيه. .
وتحدث أحمد حسن الزيات فتمثل في حديثه وفاء الصديق وجمال البيان مع وضوح الصورة التي رسمها الشاعر في عبارات موجزة موفية. وترى كلمة الأستاذ قي صدر هذا العدد من (الرسالة).
وكان ختام النثر كلمة حبيب الزحلاوي، قال: إن فقيدنا كان له إلى أحبابه المعجبين بشعره أحباب الخصوم، وإنه - الزحلاوي - كان من الفئة الثانية عذ خاصمه خصومة أدبية خلت من الشوائب. وليسمح لي الأستاذ الزحلاوي. وقد أشاد بالخصومة الأدبية وأثرها الطيب في الصداقة، أن (أخاصمه) في بعض ما جاء بكلمته من قوله الشاعر (أحببته في خلائقه وسجاياه في مرحه وبوهيميته. .) فالكلمة الأخيرة ذات ظلال غير لائقة بالمقام.
وقد جنح الأستاذ إلى القضايا بالعقلية أكثر مما عني بأن يندي كلامه بماء العاطفة. فجاءت كلمته غير خطابية. .
أما الشعر فقد ألقى منه ثماني قصائد للأستاذ محمد عبد الغني حسن وعلى الفلال ومحمد مصطفى حمام والسعيد يوسف والدكتور عزيز فهمي المحامي ومحمد فهمي عبد الغني سلامة والدكتور سعيد أبو بكر. وقد دل الشعراء في مجموعهم - لا جميعهم - على أن مكان الشاعر المحتفل بتأبينه لا يزال شاغراً. . فقد كان أكثر ما أنشدوا من الشعر الوسط وما دونه. .
أما قصيدة الأستاذ عبد الغني حسن فهي جيدة، منها قوله:
يا أيها الملاح ما لك لم تعد
…
الشاطئ المهجور بعدك مظلم
وقف الندامى فيه لم تهتف بهم
…
شفة ولم يضحك بسامرهم فم
يترقبون هناك عودة شاعر
…
قد لفه البحر الخضم الأعظم
وضعوا الأكف على العيون ليرقبوا
…
وتنظروك على الرمال وخيموا
لكنما طال المدى بوقوفهم
…
فاستوحشوا من بأسهم واستسلموا
قل للرفاق الحالين تيقظوا
…
ودعوا الأماني الكواذب عنكموا
حلم من الأحلام عودة ذاهب
…
لاتحلموا بمجيئه لا تحلموا
وكذلك كانت قصيدة الفلال، ومنها قوله:
على حسبك والذكرى مبرحة
…
أني عجزت وعجزي فيك إكبار
يا فارس الشعر والجندول آتية
…
وجرسها في مغاني الشرق سيار
ومالئ النيل آيات مخلدة
…
كيف احتوتك ببطن الترب أشبار
ومنها:
يا ملهم الطير حلو السجع كيف ترى
…
من بعد فقدك تحبي السجع أطيار
شبا يراعك كم في الطرس أطربها
…
كأنه من فم القمري منقار
وإن كان لا يعجبني التشبه في البيت الخير، فالشاعر حقاً يكتب بشبا يراعه ولكن القمري.؟
على هامش الرحلة
ركبنا بعد انتهاء حفلة التأبين ودفعنا إلى قصر الأستاذ عميد الرسالة بضيعته القريبة من مدينة المنصورة. وان علينا في أول المر وجوم من ذكرى الفقيد الذي رحلنا للمشاركة في تأبينه ولكن كان معنا الأستاذ محمد مصطفى حمام. . . وكيف يكون معنا حمام ولا يتبدل هذا الحال؟ هذا الأستاذ الزيات الذي كان يغالب دموعه وهو يلقي كلمته في الحفل لم يلبث أمام غزوة حمام الفكاهية ان استسلم ونشط للإيناس، وزادت بشاشته إذ حللنا.
جعل حمام يحدثنا حديثاً عجباً من كل لون! ولكنه أفاض في الرواية عن جماعة من الظرفاء تميزوا بطابع خاص أو كان لكل منهم طابعه الخاص، ولكنهم يجتمعون في صفة مشتركة هي غزو مجالس الكبراء وكسب مودة هؤلاء وعطفهم ورفدهم بما يأتون من الملح
وما يحسنون من الدعاية وأساليب التهريج، من هؤلاء من مات كالشيخ عبد الحميد النحاس ومنهم لا يزال على قيد الحياة ولا شك أن حياة هؤلاء جديرة بالكتابة عنها فهم يمثلون لوناً يشبه ما ذخرت به كتب الأدب من أمثال (الأغاني و (العقد الفريد) وغيرهما، وللكتابة عن هؤلاء المعاصرين قيمة خاصة من حيث ملابساتهم العصرية واتصالاتهم برجالات العصر الحديث، وما يقترن بذلك من مفارقات وطرائف في الأدب والسياسة والاجتماع. وقد أشرنا على حمام أن يكتب هذه الذكريات ويجمعها في كتاب أو كتب، ولكنه يقول: يخيل غلي أن الحديث عنهم لا يحلو إلا شفوياً. والواقع أن حمام يتقمص الشخصية التي يتحدث عنها ويضيف إليها نفسه. . فإذا حكى أن فلاناً قال فالقائل هو حمام!
وإذا رأى إن ما يقصه لم يحدث في المجلس التأثير المطلوب ارتجل ما يصل به إلى ما يريد من التأثير ناسباً إياه إلى من يتحدث عنه! فهو وضاع فنان لا يشق له غبار. . وكذلك كان الروات والمؤلفون في القديم على ما يخيل إلي. فأكثر ما نقرأه من قصصهم ونوادرهم موضوع، لم يقصد به الكتب وإنما قصد به الفن. ولك أن تعتبره خيالاً على نحو الواقع، يشبه في ذلك فن القصص العصري. ونعود إلى حمام وطرائفه التي أغرقنا في سيلها المتدفق. حكي عن أولئك الظرفاء أنه التقى في بلده بإمام المسجد، فرآه يحمل بعض العنب في قرطاس، فبادره بقوله: ما هذا يا مولانا؟ عنب! ولماذا لم تشتر بطيخة بدل هذا العنب؟ ألا تعلم ما للبطيخة من مزابا لا توجد في العنب أو غيره؟ عنك عندما تقصد إلى الفكهاني لشراء البطيخة، يقف لك في احترام وتقلب أنت البطيخ، فيراك الناس فيقبلون يجاملونك بانتقاء بطيخة جيدة، وبعد الشراء يأمر الفكهاني صبيه ليحملها وراءك وقد يتطوع لذلك أحد الناس وقد يكون وجهاء البلد. وفي هذه الحركة مظاهرة ذات شأن، إذ يعلم الناس إن الشيخ قد اشترى بطيخة! فأين من هذا آقة العنب التي تأخذها وتذهب لا يدري بها أحد. . .
وإنه لمن الوجاهة أن تسير وشيخ البلد يحمل لك البطيخة. وعندما تقترب من باب الدار تنادي: يا ولد! تعال خذ البطيخة. وتلتفت إلى حاملها قائلاً بأعلى صوتك: تفضل! والله تفضل! ولا تخش شيئاً فإنه لن يتفضل. وبذلك يسمع الجيران ويعلمون إن الشيخ كريم يدعو بعزم شديد، كما يعلمون أنه يبر أولاده فيشتري لهم البطيخ. . وتدخل البطيخة الدار فيهرع إليها الأولاد، هذا يركلها، وذا يدحرجها، وذاك يزاحم أخاه عليها، وذلك يصيح: بابا
أتى ببطيخة! وأنت من وراء ذلك كله تنظر مغتبطاً، ثم تصيح: هاتوا السكين! ويكون قطع ثم قضم ونحت. ويبقى القشر واللب فالأول تقطعونه للدجاج أو تتفضلون به على دجاج الجيران، والثاني تجففونه وتقلونه وتتسلون به أنتم وضيوفكم نحو أسبوع. . . هكذا تقضون أسبوعاً حافلاً بالمرح والمسرة جديراً بأن يسمى (أسبوع البطيخة) فيا سيدنا الشيخ أين من هذا كله آقة العنب التي يلتهم كل منكم حبات منها فتذهب في الحال لا يبقى لها ذكر ولا أثر؟!
وشملت طرائف حمام نوعاً من الناس نراه ظافراً مقدماً عند الكبراء وغيرهم، ولا مزية لأحدهم ظاهرة ولا كفاية تبرر ما يلقونه من نجاح وتقدير، هذا أحدهم في مجلس رجل من رجالات الدولة يقول له صاحب المجلس وهو يعلم أنه لا يحسن شيئاً مما يطلب منه: أنشدنا قصيدة من شعرك.
لست شاعراً
قل لنا زجلاً
لا أقول الزجل
أقرأ ما تيسر من القرآن الكريم
- لست من أهل القراءة
فيقول الكبير: إذا كنت لا تنظم الشعر ولا الزجل، ولا تقرأ القرآن مع ما أنت عليه من زي علماء الدين، فبأي حق تجلس معنا، يا. . . . وما بعد (يا) هو المزية التي من أجلها يجلس صاحبنا في مثل ذلك المجلس!!
وقد أعدى حمام بقية الأخوان، فصار الجميع يتسابقون في الدعاية والتندر. كنا في حديقة المنزل نمتع الأنظار بمرأى الأشجار والأزهار، ولكن الأستاذ حبيب الزحلاوي - وهو إلى أدبه تاجر حديد - لا يرفع طرفه عن (ماكينة) ملقاة في أحد الأركان، كل منا يسأل عن هذه الشجرة أو تلك الزهرة، أما الأستاذ الزحلاوي فيسأل عن (الماكينة) فيبادره الأستاذ أنور المعداوي: لماذا تسأل عنها؟. . . أتريد أن تشتريها! ويبدي الأستاذ كامل حبيب رغبته في شراء (ماكينة) مثلها فينعم الأستاذ الزحلاوي فيها النظر أنه يريد أن يشتريها ليبيعها للأستاذ كامل!
ونمر ب (كوبري) المنصورة، فيتأمله الأستاذ الزحلاوي ويبدي ملاحظات عليه، فيقول له الأستاذ الزيات: أتريد أن تشتريه؟ وهذا (الكوبري) يسير القطار من فوقه فمن يشتره يكن القطار داخلاً فيه وبذلك يبذ من يشتري الترام!
ولا بني الأستاذ الزحلاوي عن النظر إلى ما يصادفنا في الطريق من الآلات الحديدية والتحدث عنها. . فيقترح عليه الأستاذ الزيات أن يبادل الأستاذ نقولا الحداد اسمه الثاني فيصير اسمه (حبيب الحداد) بعد استئذان الأستاذ نقولا الزحلاوي. . .
عباس خضر
البريد الأدبي
إلى الأستاذ كامل محمود حبيب
أنا يا سيدي من المعجبين بما تكتب وما تنشر، وقد أزداد إعجابي بهذه الصور التي ترسمها ريشتك الساحرة على صفحات الرسالة الغراء ، والتي تنقلها من صميم الحياة والواقع.
غير أن قصتك الأخيرة (خيانة امرأة) كانت من غير الواقع أو هكذا خيل إلي، فقد تحدثت فيها عن مأساة رجل أحب فتاة مثقفة وتزوجها، ثم ساوره الشك في إخلاصها له فراقبها، ويروي قصة اكتشافه لخيانتها بقوله (ومرض رئيسي يوماً فتغفلت رفاقي في المكتب، وتسللت من الديوان، تسللت لأجد زوجتي في داري تجلس إلى رجل غريب على سريري في غرفة نومي، وأفزعني المنظر، فصرخت من أعماق قلبي (آه المرأة المتعلمة كالثعلب تمكر بصاحبها حتى يقع في شباكها ثم لا تلبث أن تذيقه وبال غفلته وحمقه. وخرجت من الدار وقد ضاقت الأرض عليُّ بما رحبت وضاقت علي نفسي. . .)
وجاء إليك ينشد الحل فعرضت مشكلته على قرائك. أريد أن أسألك أهذه القصة من واقع الحياة؟ وهل هناك رجل يرى زوجته مع رجل غريب على فراشه. فلا تظهر آثار رجولته وغضبه إلا في خطاب يخاطب فيه نفسه بكلام يشبه الفلسفة؟ أهذا الرجل في الشرق أم في الغرب؟
السيد جليل السيد إبراهيم
بصرع ، عشار
إلى سيدي وأستاذي كمال الدسوقي
كم كنت أتمنى أن يكون لي بيان الأدباء، وأسلوب الشعراء فإنظم لك من كلماتي تاجاً رقيقاً أضعه فوق رأسك المفكر!!
لقد كان لمقالاتكم القيمة أكبر الأثر في نفوسنا الغضة فأقبلنا على مسابقة الفلسفة بقلوب متعطشة بعد أن غرست في نفوسنا حب الفلسفة. وقيمة البحث والإطلاع.
وبالرغم من قيمتها العلمية الثمينة فقد كانت تحوي توجيهات كريمة وإرشادات نافعة، وحثاً إلى التعمق في البحث. وكم كان جميلاً حقاً أن توجهنا إلى المسابقة وتجعل لنا أسوة حسنة
في فيلسوفنا العظيم لطفي السيد باشا إذ كان وزيراً للخارجية ولم تشغله مهام منصبة عن التعمق والتأليف. لقد كنت أنت نعم القدوة الحسنة؛ فإنك إلى جانب تأديتك تلك الرسالة النبيلة. وهي التعليم لا تألو جهداً في التعمق والبحث وتأليف تلك الدرر الثمينة في عالم الفلسفة! فجاء بحثك يا سيدي قيماً للغاية بعد أن نفحت فيه من روحك الوثابة، ونفثت فيه عصارة عقلك الجبار وحيويتك المتدفقة.
ولن أطيل الكلام يا سيدي، فإنك فوق أن تمدح، وفوق أن يثنى عليك. وإذا كان النهار في حاجة إلى دليل كان فضلك وعلمك في حاجة إلى بيان.
فإليك أتقدم بتلك الهمسة من شكري وتقديري. ويكفيك فخراً يا سيدي أنك خلقت عقولاً ناضجة تسعى إلى المعرفة وأوجدت نفوساً متعطشة للبحث.
فوزية مهران عيسى
طالبة توجيهية
حيرة مسجد
أنشئ من نحو عامين بمدينة الأقصر مسجد من أفخم المساجد وأعظمها رونقاً وهو تحفة نادرة المثال، فقد تواءمت فيه قداسة الدين وروعة الفن فكان آية واضحة تنم عن سمو وذوق متأتية سواء من اختمرت الفكرة في نفوسهم ومن أبرزها في عالم الحس، والعيان فهم جميعاً أحرياء بالشكر جديرون بأبلغ الحمد والثناء. ولئن كانت مدينة الأقصر بمظاهرها الفخمة وآثارها العظيمة ومعابدها الكثيرة وذكرياتها الحافلة بالمسجد إلا إنها قد ازدانت بهذا المسجد وازدادت به روعة وجمالاً، وذلك المسجد على ما به من مهابة وقداسة وما اجتمع إليه من جلال بهاء، معطل لم تقم فيه شعيرة من شعائر الدين؛ لأن جهات الاختصاص تتهرب عنه وتتبرأ منه، فوزارة الأوقاف لا تقبل الأشراف على إدارته لأنه لم تحيس عليه أعيان تتقي غلاتها بنفقاته ولا شيء من ذلك. ووزارة التجارة والصناعة وهي التي أنشأته نحواً من أربعين ألف جنيه لا تقبل أن تتحمل نفقات إدارته؛ وحسبها فيما يقال أنها أنشأته وأضافت به إلى مدينة الأقصر مظهراً من مظاهر التجميل والتحسين. ولقد اصبح المسجد حيران متعطلاً عنه بقرض وزارة الأوقاف والخيرات، وتجفوه وزارة
التجارة والصناعة وهي أمه التي أنشأته وتربى في كنفها وتلته بالرعاية، فلما أكتمل بناؤه واستقام صرحه برمت به وتنكرت له فما أحوجه للعطف والرثاء!!
فهل من يدبره رحمة تنقذه من حيرته؟ وهل من نفس خيرة عامرة بالإيمان يهدهدها ويؤثر فيها ويثيرها للخير قوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليم الآخر) الوحي الوحي والبدار البدار فخير البر عاجله والسلام.
علي إبراهيم القنديلي
نشر مخطوطة - تاريخ الموصل
علمت الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية أن المجمع العلمي العراقي ببغداد قرر نشر مخطوطة تاريخ الموصل لأبن زكريا محمد المعروف بابن إياس الأزدي. وقد باشر فعلاً بإعداد المسودات للطبع. وهذا الكتاب من الكتب القيمة التي تظهر نواحي مفيدة من تاريخ مدينة الموصل تلك المدينة التي كان لها شأن ثقافي وسياسي مهم.
شيطانية إمرأة
للأستاذ كامل محمود حبيب
طوت (عليه) أيام الطفولة، أيام كانت تلهو وتلعب في منأى عن قيد التقاليد، أيام كانت تمزح بعيدة عن غل الدار. . .
طوت هذه الأيام فأخذت تشعر بدم الشباب يفور جياشاً في عروقها فيضطرب أمنية في قلبها، ويلمع جمالاً في خديها، ويتألق حياة في خاطرها، فامتدت يدها الغضة ترتب شعرها الفاحم السبط على نسق جميل جذاب، وامتد ذوقها النشوي إلى الأصباغ والعطر تتأنق في الاختيار وتفتتن في التطرية، وامتد خيالها إلى الثياب يخصها بعناية منه وفن، وأبوها رجل فيه الثراء والبذل. فبدت الفتاة في روعة الجمال وجمال الذوق وسمو الفن وخفة الظل، فتنابهتا الأبصار والقلوب وهي في شغل لا يعنيها إلا أن تكشف عن زينتها وروائها لتسمع كلمة إطراء تنفث فيها النشوة أو عبارة تبعث فيها الغرور.
وجلست (علية) حيناً إلى المرآة تحدثها وتستشيرها، ولكن قلب الفتاة الطموح كان يرنو إلى ما وراء المرآة، فما لبثت أن ضاقت بحديث المرآة فامتد بصرها إلى النافذة تريد أن تفزع من وحدة الحجرة إلى أنس الشارع، فما راعها إلى أن ترى في النافذة المقابلة شاباً يجلس إلى المرآة يحدثها حديثاً ضاقت هي به. . . يحدثها حديثاً طويلاً لا يحس فيه الملل ولا الضيق، فتعلق به بصرها. . . والتفت الشاب فرأى الفتاة تحدق فيه فبدت له روعة الجمال وروعة الزينة، فتعلق بها بصره.
وأحست الفتاة في نظرات الشاب معاني تشبع نهم غرورها وتطفئ غلة أنوثتها، فاطمأنت إلى ابتسامته وسكنت إلى تحيته، وراحت تبادله ابتسامة بابتسامة، وتحية بتحية؛ وبينهما من الشارع ومن التقاليد حجاب لا يستطيع واحد من أن يظهره.
لقد كان (بهاء) شاباً في زهرة العمر وجمال الحياة، يتأنق دائماً في زينته وفي لباسه، وكان لا يحس وطأة الحياة ولا يضيق بتكاليف العيش رغم أنه موظف صغير لا يبلغ راتبه إلا بضعة جنيهات؛ فهو أعزب، يسكن حجرة ضيقة رخيصة لا تنضم إلا على فتات من الأثاث، وهو يقنع بالوضيع من الطعام والتافه من الشراب ليوفر لنفسه زينته وألقها، وهو يعيش على نهج الصعاليك من العزاب لا يعنيه إلا أن يبدو أمام الناس في الغالي من اللباس
ولا يشغله إلا ان يستمتع بالرخيص من المتعة.
ولطالما جلس إلى المرآة يهيئ نفسه للشارع مثلما تفعل الفتاة لا هم لها إلا أن تفرط في الزينة أو تبالغ في التطرية. فلما رأى (علية) ترمقه من خلال النافذة تعلق بها بصره وتشبث بها قلبه.
وانطوت الأيام والفتاة تغدو وتروح إلى النافذة ترنو إلى فتاها من ثنايا الشباك، والفتى لا يبرح مكانه إزاء الشباك كأنه جدار أسند إلى جدار. وضاقت الفتاة بهذا الستار الكثيف المنسدل بينها وبين فتاها حين أحست بهوى الشاب ينسلب إلى قلبها برفق ولين؛ وطمعت أن تجلس إليه ساعة من زمان علها تسمع منه أنشودة من أناشيد الغزل الذي يصبو إليه قلب كل أنثى، أنشودة يوقعها شاب على أوتار قلب فتاة؛ أو تطرب إلى لحن من ألحان الغرام يترنم به في رقة فتنتشي له عواطفها وتهتز مشاعرها. . ضاقت الفتاة بهذا الستر فدست إليه من يدفعه إلى أن يتعرف إلى أخيها الأكبر فيجد السبيل إلى الدار. . . إلى (علية)، وتستطيع هي أن تراه وأن تجلس إليه على حين غفلة من أهلها.
ومرت الأيام فإذا (بهاء) صديق أخيها الأكبر، بزوره أصيل كل يوم ويرافقه في نزهاته ويعينه على حاجاته، وسعدت الفتاة بما كان وسعد الفتى.
وطارت الشائعات تقول إن (عطية) قد خطب (علية) إلى أبيها.
وعطية فتى من ذوي قرابتها خشن المجس قوي الأركان وثيق التراكيب، وهو عامل في مصنع، يقضي نهاره في الجهد العنيف لقاء دريهمات لا تسد خلة ولا تدفع غائلة. ولكن والد الفتاة رضي به زوجاً لأبنته. وما كان الأب أن يرد فتى من ذوي قرابته يبذل غاية الطاقة ويستفرغ منتهى الجهد ليكسب قوت يومه، فهو نفسه نشأ - في صباه - نجاراً صغيراً يعاني شظف العيش وشدة الفاقة، فما زال يرغم نفسه على الدأب ويحملها على الجد حتى أصبح الآن - صاحب (ورشة) كبيرة تدر عليه الآلاف والآلاف.
وجاءت الأم تزف البشرى إلى أبنتها (علية) وفي رأيها أن الفتاة ستهتز للخبر فرحاً وتطير له حبوراً، ولكن ما راعها إلا أن ترى في أبنتها الإباء والرفض، وغلا أن تلمس فيها روح الكراهية والبغض، وإلا أن تشهد وقع الخبر عليها عنيفاً وقاسياً. وكيف ترضى الفتاة المدللة بهذا العامل الفقير وهي تراه يدلف إلى الدار بثياب مهلهلة قد لوثها آثار العمل وعاثت فيها
يد الأقذار، فإن حاول أن يتأنق في لباسه بدا مضطرباً يختلج في ثياب فضفاضة لا تتسم بسمة من الذوق ولا سمة من الفن؟ كيف ترضى به ومن أمامها (بهاء) وهو فتى رقيق جذاب يتألق في شعره المرجل الناعم وفي عطره الفواح وفي رباط رقبته الزاهي وفي بذلته النظيفة المنسقة وفي حذائه اللامع وفي حديثه الرقيق وفي. . .
وحاولت الأم جهدها أن تحمل الفتاة على أن تنزل عند رغبة أبيها أو تلقى السلم لرغبة ذويها، فما أفلحت. . .
وجلست الفتاة - ذات يوم - إلى فتاها، تقص عليه قصة عطية وتستثير همته ورجولته وتنفث فيه سموم الأنثى عبرات تتدفق حرى وباردة على خديها لتدفعه إلى غاية. وأسهل الفتى وانقاد إلى أبيها يخطبها فما تأبى الأب ولا تعوقت الأم.
وخرج (عطية) من الدار يجر أذيال الخيبة، وفي قلبه حسرة ما تنطفئ.
وتعقبت الأيام تشيد داراً صغيرة يسعد فيها زوجان وثلاثة أطفال.
وشعر الزوج (بهاء) بأن حاله قد استحالت إلى أخرى فهو لا يطمئن إلا إلى جانب زوجته، ولا يهدأ إلا إلى جوار أطفاله ولا يسكن إلا في كنف الدار، غير أن أمراً واحداً كان يحز في نفسه فيعكر عليه صفاء الدار ويسلبه رونق السعادة بالزوجة والولد؛ أمراً كان ينزع عنه - دائماً - القرار والهدوء: فهو كان يشعر بضيق ذات يده يمسكه عن أن يسد حاجات الدار وعن أن يشبع رغبات المدرسة. لطالما أصابه العنت والضيق مما يحس من فاق وعسر، ولكن زوجته كانت تسري عنه بعض أتراحه بكلمات جوفاء لا يلمس فيها روح التضحية ولا معنى الوفاء. وأخذ الغلاء يطحنه بين فكين من جفاء وقسوة، فجذب ابنته الكبرى من المدرسة لتعمل ممرضة في مستشفى فما أفاد شيئاً، وشعر كأن عيوناً كثيرة ترمقه شزراً وكأن قلوباً حبيبة إلى نفسه تخفق بالازدراء والاحتقار، فضاقت عليه الدار بما رحبت وتبخرت السعادة من أركانها، وتألق الهم في فودية شعرات بيضاء لامعة وارتسم الأسى على جبينه خطوطاً غائرة.
وعز عليه أن يبدو أمام أحبائه يسربل بالضعة والعجز، فامتدت يده إلى أموال الدولة تختلسها ليسد خلة أو يوفي ديناً.
وتيقظت عبن الحارس على يد تمتد في صمت فكبلها بالحديد، وساقها إلى ساحة القضاء؛
وجاء القاضي يمجد الأمانة ويغضي عن الشفقة، ويطري العفة ويتناسى الرحمة.
آه، لك الله أيها الأب المسكين! لو استطعت - في عجزك - أن ترد سغب أبنائك بقطعة يجتزها ما لحمك لقدمتها لهم في رضى وهدوء! ولو استطعت - في فاقتك - أن تطفئ غلة صغارك بسيل من دمك لتدفعه إليهم في غير وناء ولا بطء!
ولكن القاضي تكلم بلسان القانون الذي كتبه رجل، فسجن الأب ليذر من خلفه زوجة وثلاث أبناء لا يجدون العون إلا في دريهمات قليلة هي راتب الابنة الكبرى. دريهمات لا تغني من جوع ولا تسمن من عري.
ورأت (علية) الهاوية من أمامها توشك أن تبتلعها هي وأبنائها حين تداعى مستقبل زوجها وانهارت كرامته وتحطم شرفه، فجلست إلى نفسها وإلى شيطانها ساعات تتلمس الرأي وتحتال الخلاص، فما برحت مكانها حتى انفرجت الغمة عن فكرة.
وعند الصباح انفلتت المرأة من الدار في زينتها إلى (عطية)، الخطيب الذي خرج من دارها - يوماً ما - يجر أذيال الخيبة وفي قلبه حسرة ما تنطفئ. . . لقد تمنعت عليه يوم إن كان عاملاً فقيراً تقتحمه العين وتزدريه النفس. أما الآن فقد أسبغ الجد عليه من فيضه وحبته الحرب من فضلها فأصبح يرفل بالنعمى والنعيم ويسعد بالجدة والثراء.
ورأى الرجل (علية) فهم يستقبلها وعلى شفتيه ابتسامة وفي قلبه نبضة. وجلس الرجل إلى المرأة والشيطان، فما همت من مكانها حتى كان قد استيقظ في قلب الرجل هوى قديم كان قد غمره اليأس فطوا في زاوية النسيان.
وفي مساء اليوم التالي وقف (عطية) أمام المرآة ينفض عنه غبار العمل ويفزع إلى الزينة والعطر، وقد بدت عليه سيما النشاط والسباب ، وفاضت على وجهه علامات الفرح والسرور، ثم انسل خفية إلى دار التي أحب. . . إلى دار علية.
وغير الرجل زماناً يختلف إلى دار (علية) يحبوها بالجزل من العطاء الغالي من الثياب والفاخر من الطعام، لا يدخر وسعاً في أن يتلمس رضاها ويتوخى فرحتها، على حين قد فرغت داره منه ومن عطفه في وقت معاً.
وأحست المرأة بالرجل يندفع نحوها في حماقة وطيش، فأرادت أن تمكر به رويداً رويداً، فجلست إليه في ساعة من ساعات النشوة والمرح تحدثه قائلة (لست أدري كيف أشكر لك
فضلك، يا حبيبي، وأنت قد غمرتني بنعمة منك سابقة، فما استشعرت فقد الزوج ولا غيبة العائل) فقال الرجل لا (عليك، فإن منتهى أربي أن أفوز برضا قلبك أو أن أظفر ببعض عطفك) قالت (وأنا قد علقتك ولا أخشى إلا أن تمتد يد الأيام القاسية فتضرب بيننا بحجاب لا أستطيع أن انفذ منه ولا تستطيع أنت) قال (أما أنا فإني أحس بعاطفة جارفة تجذبني إليك فلا أستطيع عنك صبرا) قالت (ولكنني أخشى الأيام وأحس بها توشك أن تفرق بيننا) قال (وكيف) قالت (أو نسيت أن زوجي على وشك أن يخرج من السجن) قال (واكنني لا أستطيع عنك صبرا) قالت (إذا فلا مر من أن نتلمس الوسيلة إلى لقائنا دون أن يتطرق الشك إلى قلب زوجي) قال في غفلة (وكيف السبيل؟) قالت في مكر (لا سبيل إلا أن تتقدم - الآن - فتخطب ابنتي الكبرى) فأطرق الرجل يقلب الرأي ولكن المرأة عاجلته في دلال (وإذ ذاك تستطيع أن تدخل الدار متى شئت وأن تجلس إلي في غير ريبة ولاشك) وأطرق الرجل مرة أخرى وان عقله ليدفعه عن الفكرة وأن قلبه ليجذبه إلى المرأة التي أحب، غير أن المرأة استمرت في حديثها (ولا ضير عليك إن فرغت إلى دارك وأولادك، وستجد في هذه الخطة ستاراً يداريك هنا ولا يفزعك عن دارك) ثم مالت غليه في خفقة وشوق وهي تقول (فما رأيك؟) وأحس الرجل بعطر المرأة يخطف عقله ويسلب قلبه فقال (لا بأس، فإنا أوافق) وسميت الفتاة على رجل في سن أبيها.
وترامى إلى الفتاة حديث أمها العاشقة فثارت ولكن الأم هرت فيها هريراً منكراً فإندفعت إلى حجرتها تبكي حظها العاثر.
وحرج الزوج من السجن فما وجد مناصاً من أن يلقي السلم إلى زوجته فبارك الفكرة وفي رأيه أنه سيجد في زوج ابنته عوناً على لأولاء الحياة وغلظة العيش.
ومكرت المرأة بالرجل مرة أخرى فإذا هي تسنزف ماله في غير رحمة ولا شفقة لتدخره لنفسها، وإذا هي تختله عن زوجته وأولاده رويداً رويداً لتستأثر به من دونهم، وصرفته عن عمله، وأرغمته على أن يقتر على زوجته وأولاده.
ثم جاء الزوج يستحث الرجل على أن يخطو خطوات فساح في سبيل إتمام مراسيم الزواج فما أبى ولا تمهل وجاءت المرأة تمكر به - مرة أخرى - فطلق زوجته وطرد أولاده، فما كان له - كرأي الزوجة - أن يتزوج من ابنتها الفتاة الآسرة الجميلة وهو زوج ورب
أسرة، فيضربها بالضرة ويقتلها بالغيرة.
يا عجباً! لقد أرتدغ الرجل في حمأة الجريمة حين أسلس وانقاد إلى امرأة من بنات حواء. لقد كان يصحو من غفلته - بين الحين والحين - فيعقد العزم على أن يحطم قيداً كبلته به هذه المرأة فيعود إلى عمله، إلى داره، إلى زوجته، إلى أولاده، ولكنه كان يعجزه أن ينسى ما ذاق إلى جانبها من لذة الحياة ومتعة النفس، فيهي عزمه ويضعف جلده.
وأرهقت المرأة زوج ابنتها المزعوم بتكاليف الزواج فما استطاع أن يشبع نهم المرأة التي سلبته كل ماله. . . سلبته كل ماله في نزوة من نزوات الحب الآثم. وجلس إليها - في خلوة - ينفض أمامها جملة حاله وينثر على عينيها عجزه وضيق ذات يده ويطلب إليها - في رقة ولين - أن تخفف من طلباتها فثارت به ثورة جارفة، وطردته من دارها وهي تقول (ما أحمقك أيها الغبي! أفكان لي أن أزوج ابنتي الفتاة الرشيقة الناعمة إلى رجل عجوز مفلس مثلك؟).
طردته بعد أن استنزفت كل ماله، وبعد أن ختلته عن زوحته وأولاده. . . طردته بعد أن هدمت داراً فيها النعيم، وبعد أن حطمت أسرة فيها السعادة، بعد أن شردت صغاراً فيهم الطهر. فيا لشيطانية المرأة. . . يا لشيطانية المرأة. . .
كامل محمود حبيب
الكتب
صراع
مجموعة أقاصيص للأستاذ شاكر خصباك
القصة العراقية لم تشهد النور إلا منذ أمد جد قصير. . .
فالمحاولات الأدبية الأولى لإنشاء قصص عراقية كانت تصاب بالإخفاق، أو تنحرف عن الميدان القصصي الفني فتكون أشبه بالحكايات التي لا تمس الواقع، ولا يصلها بالفن القصصي سبب الأسباب.
ذلك لأن تلك المحاولات لم تقم على أساس متين من الدراسة والتفهم العميق للفن القصصي؛ لأن المضطلعين بها لم يكونوا مطلعين على الأدب الغربي، وغير مثقفين ثقافة عامة شاملة. . لأن القصة تحتاج إلى الكثير من الخبرة، والإدراك، والمعرفة، وسبر الحياة وخوض غمارها، ثم تأتي الموهبة القصصية لتبرز لك الفن القصصي مزيجاً من كل هذه الأمور.
وكان الأدباء العراقيون - قبل أكثر من عشرين سنة - يرون القصة المصرية تشق طريقها في ميدان الإنتاج الأدبي. . . وكان هذا اللون الجميل الجديد يدفعهم دفعاً إلى محاكاته؛ فيحاولون تقليده والسير على منواله، من غير أن يفقهوا فن القصص؛ ومن غير دراسة فنية لأصوله.
هذا سبب من أسباب تأخر القصة العراقية. . . ويمكننا أن نضيف إليه سبباً آخر وهو ما يتصل بالأحداث والتقلبات التي هزت العراق في الفترة الأخيرة، وانصراف الناس إلى السياسة وقد كان الشعر مبرزاً في ميدان إيقاد الحماس، وإيقاظ الهمم، وإذكاء نيران الوطنية في القلوب.
أما القصة فلم يكن ثمة مجال لظهورها لعدم وجود قصصيين يملكون ناصية الفن القصصي بحيث يؤثرون في نفوس الجماهير ويوجهونها نحو الوجهة الوطنية الصحيحة. أضف إلى ذلك عدم استعداد الجمهور لقراءة القصص واستساغتها، لأن القصة في مثل هذه الأحوال لا تثير ما يثير الشعر.
ولكن بعض المحاولات القصصية كانت تظهر بصورة حكايات وأحاديث. . . ونحن حين
نستثني رائد القصة العراقية الأول المرحوم محمود السيد صديق الأستاذ تيمور في الجهاد، لا نرى إلا محاولات فاشلة القصد منها العبرة والاتعاظ والإسراف في الخيال.
ثم جاءت بعد ذلك كتابات جعفر الخليلي، وعبد المجيد لطفي، أو حكاياتهما على الأصح، فهذان الأديبان لبعدهما عن تفهم القصة الحديثة، ولجهلهما الأدب الغربي الحديث، فشلا في أول عهدهما ولكن بعض الأمل تسلل إلى القلوب عند قراءة نتاجهما في العصر الحاضر، وهما - بعد كل هذا - مشكوران لأنهما يمثلان مرحلة من مراحل القصة العراقية.
ثم تأتي المرحلة الثانية في قصص شالوم درويش، وذو النون أيوب، فقد استطاع هذان القصصيان أن يرقيا بالفن القصصي العراقي درجات، ويدفعاه إلى الأمام، فقد أصابا حظاً ليس فيه بأس من الإطلاع على القصص الغربي، وتفهما العناصر الجوهرية في الفن القصصي، وكانا يستلهمان الحياة، ولا يشطان في دنيا الرومانسية.
وجاءت المرحلة الثالثة - وهي دور الشباب - فقد بزغ بعض الشبان في سماء القصة، ومنهم يرجى الخير، وعليهم تعقد الآمال. . . ولكنه يخيل إلي أن جريرة الصحافة المصرية الصفراء تلاحقنا ونحن في ديارنا، فتفسد أذواق الشباب، وتتحكم بنزعات بعضهم، وتصره عن العمل الجدي المنظم، وعن التفكير الصادق السليم وعن إدراك الأمور إدراكاً شاملاً واعياً. . ومما لاشك فيه إن الصحف المصرية تطغى على الأسواق العراقية، وإن قصصها المائعة النكراء غير الناضجة ذات تأثير على نزعات الشباب. . وأغلب قصاصي المجلات لا يستلهم الحياة، ولا يراعي مقاييس الفن، بل يستلهم الطبع الفاسد، ويراعي مقاييس المجلات الجائرة. . .
ولكن شيئاً من الاطمئنان يسري في نفسي عندما أجد بوادر السخط عند الشباب العراقي، وعند الذين حصنوا أنفسهم بثقافة ومعرفة واسعتين.
والكتاب الذي اعرضه على القارئ الكريم الآن (صراع) لقصصي عراقي شاب لا أكون مغالياً لو قلت أنه خطا خطوة رائعة موفقة في مضمار القصة العراقية، وهو على رغم بعض المآخذ يبرز بين القصة العربية الناجحة عالي الرأس. . .
والمؤلف شاب، له أحلامه ونزعاته وميوله، ونفس متوقدة حساسة، تستلهم الحياة فيبرز لنا نواحي خافية خير ما يقال فيها إنها تقع في محيطنا ولكننا نتغاضى عنها، لأننا نحفل دائماً
بالحوادث والمفاجئات، بأقاصيص البطولة والشجاعة، أما الحوادث الصغيرة الساذجة الغنية بالأحاسيس، والانفعالات النفسية فإننا نضرب عنها كشحاً، ولا نعيرها أي التفات. . .
ولكن الأستاذ شاكر خصباك يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة في فن الأقاصيص فتراه لا يحفل الحوادث والمفاجئات، بل يخلق من الحوادث الصغيرة الساذجة عملاً فنياً بإطار من التحليل النفسي، وبخلق الجو المشوق الذي يدفعك إلى الاعتراف بأن للكاتب موهبة فنية، ووعياً عاماً في جميع الأمور. . . وأغلب أقاصيص الأستاذ شاكر حافل بهذا النوع من التحليل النفسي. . . وتلك فضيلة أسجلها للمؤلف من غير إجحاف. . .
ففي الكتاب (أقاصيص) أول ما يطلبك فيها، تحليل نفسي موفق، وجو قصصي كامل، وموهبة فنية رائعة، وإذا بتلك الحادثة الصغيرة تحمل إليك ظلالاً من الإحساس، وحياة عامرة بالمشاعر، وحركة في نبض الحس، وتضفي الشعور.
انظر إلى أقصوصة (عذاب) التي أعدها من أروع الأقاصيص العربية تجدها كما قلت لك: حادثة بسيطة، وتحليلاً نفسياً رائعاً وموهبة فنية تنظم الحركة، وتبعث الحياة، وتضفي الظلال. .
وخلاصة أقصوصة (عذاب) أن شاباً كان يتمشى على شاطئ النهر، مرتديا ً بذلة جديدة، يرى طفلاً يصارع الموج، على شفا الغرق. . ويحاول الشاب إنقاذ الطفل، ولكنه يتردد بين خلع ملابسه الجديدة، وإنقاذ الطفل الموشك على الغرق، وبين المضي في طريقه كأن شيئاً لم يحدث، وليش ثمة عين تراه. ويتردد الشاب، ويطيل التردد، حتى يبتلع النهر الطفل، وينقطع صراخه. . ويمضي الشاب في طريقه، ثم تقوده المصادفة إلى نواح نائحات، وبكاء باكين، وسرعان ما يتبن أن النائحات والباكين هم أهل الغريق. . وهناك ينشب الصراع بين ضميره فيعذبه، وتشقيه الهواجس والظنون حتى يحاول الانتحار.
هذا الحادث تصوره ريشة ماهرة في التقاط الصور، واكتشاف مواقع الإحساس. وخلق الصور الإنسانية، والظلال النفسية، فتخلق لنا أقصوصة من أروع الأقاصيص. . .
وهناك أقاصيص بالغة الروعة، وافرة الحظ من النجاح، منها (دكتور القرية) وهي صورة كاملة الملامح، قوية السمات، فيها سخرية لاذعة، وتصوير رائع. ومنها (عجيب) وهي أقصوصة تبرز لك مقدرة الأستاذ شاكر على الخلق القصصي، وبعث الحركة والحياة بما
فيها من انطلاق وعبث الظروف. .
وإلى هنا نقف مع محاسن هذا الكتاب، فما هي مآخذنا عليه؟ يبدو لي أن ميل الأستاذ خصباك إلى دراسة المجتمع يغلب فنه القصصي في بعض الأحايين فتختفي روعة القصة، وينفرط السلك القصصي، وتبدو القصة أشبه شىء بتجربة طبيب نفساني. . ولولا مقدرة الكاتب على إنشاء الفن القصصي لا نهدم صرح أقاصيصه إنهداماً تاماً. .
وكم وددت لو ألقى الأستاذ عن عاتقه ذلك القانون الصارم الذي سنه لنفسه إذن لأنشأ قصصاً رائعة كل الروعة، ولكان غير ما هو الآن في بعض أقاصيصه.
فلأجدر بتلك الموهبة القصصية المتوقدة أن تنطلق في ميدان الحياة من غير قيود، فالأجدر بتلك الموهبة القصصية المتوقدة أن تنطلق في ميدان الحياة من غير قيود، وتسبح في أجوائها من غير وازع، وتلقط الصور من غير تمييز. . وذلك الميل الجارف لدراسة المجتمع يضفي على أشخاص المؤلف بعض الندرة؛ فإنا لا أنكر أن أشخاصه جميعاً موجودن؛ ولكن بعضهم نادر. فالمؤلف يؤمن (بأن العواطف الحبيسة تقود أصحابها إلى الشذوذ الجنسي. .) ونراه ينطق هذا القانون في لهجة ساذجة أثناء أقصوصة من أقاصيصه وه (أحلام ضائعة) فإنظر إليه كيف سخر قصته لأقرار هذا القانون أو هذه البديهية: زاهدة فتاة تعيش في بيئة عراقية محافظة (وفي نطاق من تدابير إسرتها المحافظة، فلا تفسح لها المجال للاتصال بالعالم الخارجي، ولا تسمح لها بمبارحة البيت إلا لماماً. (هذه الفتاة في هذا في السجن العاطفي تخدع جماعة من الشبان، وأحداً بعد آخر، وتوهمهم بأنها تحبهم!!. . وإذا سألت: من أين جاءت هذه الفتاة بهذه الجرأة؟. . أجابك المؤلف: من العاطفة الحبيسة. . هذا شيء معقول. . ولكن التصريح بهذا أضعف الأقصوصة.
و (صراع) و (بداية النهاية) على هذه الشاكلة يحاول المؤلف البرهنة على قانونه. والملاحظ أن بعض الثغرات تبرز في القصة حين يحاول المؤلف الخروج عن الجو القصصي. . ففي (صراع) يعرض علينا المؤلف (فاطمة امرأة متعطشة، قوية الغريزة الجنسية، تتعرف بصبي تحاول معه أن تشبع غريزتها الجنسية ولكن والدة الصبي تكشف ذلك فتأتي ثائرة ساخطة، مزمجرة معربدة. . وفي هذا الجو المكهرب الساخط تسرد فاطمة قصتها محاولة تبرير ذنبها ومسلكها الشائن، فتبرد عند ذلك الأقصوصة والحق أن منطق
الحياة لا يقبل ذلك.
وقصة (صراع) لولا هذا الإقحام الأخير لكانت من غير الأقاصيص. . ويخيل إلى أن شغف المؤلف بدراسة المجتمع، وتبين العلة أفسد عليه الجو القصصي. . نفحن نعرف أن علة وراءها مسبب، ولكن ليست القصة مقالة اجتماعية، تصف العلاج، وتشخص سبب الداء. . ولندع ذكر المبررات لمخيلة القارئ ولتأويله - فالقارئ أولى الناس بمعرفة ذلك، وإدراكه. .
وخلاصة المطاف أن هذا الكتاب بمحاسنه ومساوئه - نصر جديد للقصة العراقية، ومحاولة ناجحة لإنشاء قصص عراقية ناجحة في رأي الفن، وفي رأي الحقيقة،
غائب طعمة فرمان