المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 871 - بتاريخ: 13 - 03 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٧١

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 871

- بتاريخ: 13 - 03 - 1950

ص: -1

‌الإسلام والمذاهب الهدامة

الإسلام هو السلام الإلهي على هذا الكون. شرعه الله وهو العليم الخبير ليكون للناس جميعاً دستوراً كاملاً تصلح عليه شؤون الفرد وأمور الجماعة من كل جنس وفي كل عصر وعلى كل أرض.

جعل فيه أفضل ما في الديمقراطية، وأعدل ما في الاشتراكية، وأجمل ما في المدنية؛ ثم كشف لرسوله الكريم عن أطوار النفس البشرية في طوايا الغيب فدعا دعوته الخالدة لتكريم الإنسان وتنظيم العمران وتعميم الخير وتحقيق السعادة من طريق التوحيد والمؤاخاة والمساواة والحرية والسلام. فالتوحيد سبيل القوة، والمؤاخاة سبيل التعاون، والمساواة سبيل العدل، والحرية سبيل الكرامة، والسلام سبيل الرخاء. وتلك هي الغايات التي ترجو الإنسانية بلوغها عن طريق النظم السياسية والمذاهب الاجتماعية فلا تتكشف أمامها بعد طول الجهاد وقرط الجهد إلا عن سحاب خلب وسراب خادع.

ثم علم الله جلت حكمته وعز شأنه أن الفقر من أمراض المجتمع المحتومة ما دام في الناس القادر والعاجز والقانع والطامع والسابق والمتخلف، فعالجه علاجاً لو دأب عليه المسلمون لعاشوا أخوة متعاطفين متناصرين تجد فيهم الفقير ولا تجد فيهم المحروم، وترى بينهم الضعيف ولا ترى المظلوم ، لأن دينهم جعل بين الغني والفقير سبباً هو البر، وأنشأ بين القوي والضعيف نسباً هو الرحمة. ولو أخذ به المصلحون لوقى العلم شر هذه النحل الهدامة التي تثير بين الدول النزاع والحرب، وتنشر بين الأمم القلق والثورة. ذلك العلاج الإلهي هو الوساطة بين الأغنياء والفقراء على أساس الاعتراف بحق التملك، والاحتفاظ بحرية التصرف، فلا يدفع مالك عن ملكه، ولا يعارض حر في إرادته. إنما جعل للفقير في مال الغني حقاً معلوماً لا يكمل دينه إلا بأدائه. ذلك الحق هو الزكاة وهي الركن الثالث من الأركان الخمسة التي بني عليها الإسلام. وليست الزكاة بالقدر الذي يخفى أثره في حياة الفقير، فهي ربع العشر في المال وما يقدر بنحو ذلك في غيره. فإذا جبيت الزكاة بالأمانة على حسابها المقدر، ولا جاهلاً في عمل. ذلك العلاج الذي عالج به الإسلام الفقر فيه البر والرحمة من صاحب المال، والرضا والقناعة من صاحب العمل، والرعاية والحكم من صاحب الحكم. وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون الخيرة من أمرهم؛ ولكن أصحاب النحل الخبيثة وذوي المطامع الخسيسة لم يرضهم في الزمن الغابر،

ص: 1

ولا يرضيهم في الزمن الحاضر، أن يعيش الناس وادعين راضين في ظلال النظم المشروعة، فهبوا يعارضون أوامر الله ووصايا الرسل بتسليط الغرائز وتحكيم الشهوات وإثارة الفتن، فتمردوا على الدين، وتحللوا من القيود، وقال القرامطة:(لا حقيقة في هذا الوجود وكل أمر يباح) بذر هذه البذرة الملعونة في الشرق الإسلامي بابك الخرمي في القرن الثالث من الهجرة، ومن بعده عبد الله بن ميمون، ومن بعده الحسن الصباح شيخ الجبل، وأغروا بثمارها المحرمة عباد اللذة ورواد المنكر من ضعاف العقول وصغار الأنفس، وأمعنوا في الغي والظلال، واشتركوا في النساء والأموال؛ وفي سبيل ذلك نشروا الإرهاب، وبددا النظام، وزعزعوا الأمن.

كان أولئك الطماعون الخادعون يقترفون هذه الكبائر تحت ستار من الدين والخلق: فبسلطان الدين كانوا يشيعون الإلحاد، وباسم الخلق كانوا ينشرون الإباحية. ولكن للإسلام منبعين من كتاب الله وسنة رسوله لا يزالان يتفقدان بالصفاء والطهر والعذوبة؛ فإذا تلوثت مجاريه البعيدة بمثل هذا الدنس أقبل الفيض الإلهي فجرف تياره القوي كل عفن، وطهر ماؤه النقي كل رجس.

وفي هذا العصر الحديث تجددت المزدكية والبابكية باسم الفوضوية والشيوعية، فقامتا تدعوان باسم الإنسانية إلى الإلحاد والإباحية سراً وعلانية. تقول الشيوعية للإسلام: إن ربك ظالم لا يعرف العدل، جائراً لا يعرف المساواة، مستبد لا يعرف الحرية. لا يعرف العدل لأنه يقول: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، وأنا أريد أن يكون الرزق مشاعاً ينال كل أمريء ما يشاء. ولا يعرف المساواة لأنه يقول: ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات، وأنا أريد أن يكون الناس في كل أمر سواء. ولا يعرف الحرية لأنه قيد كل شيء بقيد: قيد الرزق بالملكية، وقيد المرأة بالزوجية، وقيد تصرف النفوس بالعقيدة والخلق، وقيد تداول الأموال بالوقف والإرث. أما أنا فأقول: كل شيء مشاع، وكل أمر مباح، وكل إرادة طليقة،. حرمت الملكية، ومحوت الأسرة، وألغيت الجنسية، وأنكرت الوطنية، وجعلت المزارع والمصانع والنساء وسائل للإنتاج العام: آخذ من كل حسب كفايته، وأعطى كل حسب حاجته. على الناس أن يعلموا، ولهم أن يأكلوا. . أما أن يكون للأفراد أملاك تغنيهم عن الإنتاج، وللآباء أبناء يشغلونهم عن العمل، والولد ولد الدولة. وليس بين الرجل

ص: 2

ووطنه، ولا بين الولد ووالده، إلا كما يكون بين القطعان والمرعى، أو بين الحملان والكبش! ذلك يقوله الشيوعيون في الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً

يزعم الشيوعيون أنهم أعلم من الله بأحوال خلقه، وأعدل منه تقسيم رزقه؛ فهم لذلك ينكرون دينه، ويغيرون شرعه، ويحاولون أن يهدموا كل ما أنتجته القرائح وخلقته القرون ليبنوا على أنقاض ذلك كله شيئاً لا يقولون صراحة ما هو، ولا يرون الناس جهرة كيف هو؛ وإنما يضربون من دون الأسداد والحجب، فلا يقع في الأسماع منه إلا ما يريدون هم أن يقع! وفاتهم قبل أن يلغوا الفضائل والعقائد والقيم أن يلغوا العقول حتى يصدق الناس أن هذا الشيء الذي يذكر في السر، ويدبر في الظلام، ويبذل في سبيله الأموال والأنفس والثمرات والجهود إنما يقصد به العدل المطلق والخير العام، ولا يقصد به طغيان بشر على إله، وسلطان دولة على عالم!

ليست الشيوعية عقيدة تقوم على الخير، ولا طريقة تعتمد على الحق، ولا رسالة تؤدى بالمعروف، إنما هي أطماع من عمل الشيطان ووسوس بها جماعة من مغامري الروس كابدوا استبداد القيصرية، وقاسوا استعباد الأرستقراطية، فلم يكادوا يثلون عرش المستبد، ويقوضون صرح المستبد، حتى أدركهم مركب النقص، وأخنتهم صورة الانتقام، فتقاسوا بينهم جبروت القياصرة وصلف الأشراف، وسخروا كل ما تنتج العقول وتخرج المصانع وتنبت الأرض للجيوش والأسلحة ليتخذوا عباد الله كلهم عبيداً، ويجعلوا أرض الله كلها لهم ضيعة! حزب من ستة ملايين قيصر قد أعد الحديد والنار والدمار والقلق والفزع والاضطراب والفوضى لتنفيذ هذه الخطة وبلوغ هذه الغاية! فهل يقدر الله أن تنهزم القوى الخيرة أمام هذا الشر، وتنخزل المبادئ الصالحة عن هذا الفساد؟ حاش لله أن يؤتى ملكه غير البر، وأن يورث أرضه غير الصالح؛ فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

إن العقلية العربية معمرة فلا تقبل الهدم. وإن العقيدة الإسلامية نيرة فلا ترضى الظلال. وإن النحل الهدامة التي انتشر ظلامها حيناً في سماء العراق إنما كانت خارجة عن الإسلام طارئة على العرب. وإن الشرق العربي سيظل بفضل عقليته وعقيدته آمناً من كل سوء، نابياً على كل فتنة.

ص: 3

أحمد حسن الزيات

ص: 4

‌عود على بدء

خيانة امرأة

للأستاذ كامل محمود حبيب

كتبت في العدديين 865و 866 من (الرسالة) الغراء قصة (خيانة امرأة) وهي قصة سمعتها بقلب يهتز من أثر الصدمة وعيتها بفؤاد يضطرم من أثر الفجيعة، وحفظتها في عقل يختلج من أثر الحيرة؛ ثم ظللت أياماً أنازع عنها الرأي وأدفع عنها القلم وأدع عنها الخيال؛ شفقة على صاحب القصة أن يراها مسطورة بين يديه فيرى فيها - دائماً داء قلبه وأذى روحه، فلا يتسرب إليه النسيان؛ فتكون كلماتي غذاء يتأرث به ضنا روحه، وحطباً تتوهج به لوا عج نفسه. ولكن صاحبي كان يلح في أن أهديه إلى الرأي الذي عزب عن فكره، وأن بالصواب الذي ندّ عن عقله، فأهبت بصاحبي وأحبائي من قراءة (الرسالة) أن يعينوه بحل فيه الصواب والعقل، فتدفق على فيض من رسائلهم وفيها آراء أعرض بعضها هنا، لي الأسلوب والأداء، ولأصحاب الرسائل الرأي.

كتب الأديب عبد الفتاح إسماعيل القبيبي بفرشوط بعد مقدمة طويلة من التحايا الطيبة الشكورة يقول:

. . . والحق إني قرأت قصة (خيانة امرأة) فأحسست بعقلي يختنق، وشعرت بصدري ينقبض، وشملني هم ألح علي أياماً فما استطعت أن أجد ربح الحياة الطيبة أو أحس نعيم الهدوء الجميل، فضاقت علي نفسي. واستشعرت كلماتك تساقط على كبدي شواظاً من نار يسلبني القرار والعقل، فظللت حيناً مستلب اللب مأخوذ الرأي لا أثبت على فكرة، ولا أستقر على خاطرة. فما بال صاحبك وهو قد وجد لذع المصيبة في قرار قلبه وأحس مس النكبة في أغوار نفسه، ورأي المرأة التي حباها بالهوى والحب، وخصها بالحنان والعطف، وفضلها على كثير من ذوي قرابته، وعق في سبيلها أباه وأحفظ أهله. . . رآها تثلم شرفه في عبث وضيع، وتخدش كرامته في استهتار حقير، فلا عجب إن جاءك ينثر عبرات قلبه بين قلبه يديك الرفيقتين وينفض أتراحه أمام روحك المتألقة؛ فهو غريق أعوزه الملجأ فنفر عله يتفيأ ظل عقلك، ومحترق أعجزه المهرب ففزع نحوك يستلهم الهدى من قلبك. فالتمس له عذراً. . . أو، لا. . . فهو كان يعلم أن صاحبته عاشت في دار أبيها تنعم بالحرية التي

ص: 5

يزينها الشيطان ويزوقها الهوى، ولكنه لم ير بعقله الأعور أنها تخلبه بكلام مفوِّف جميل هو مما يزخرف الخداع والمكر، وأنها تستميله بصناعة أهل المدينة وتجذبه ببضاعة أهل الحضر؛ وهو فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل، خلو من خداع المدينة بعيد عن لؤم الحضارة؛ فخلطها بنفسه على حين قد عنه أنها تتصنع طهارة تستر رجساً، وتموه عليه ببراءة مصنوعة تواري خسة، فارتدع في نزوة من نزوات الشباب وانحط قلبه في غمرات الطيش، ليجني - بعد حين - ثمرات نزقه مأساة جارفة تعصف بآماله وتطوي أمانيه وتهدم سعادته.

ولست أدري كيف يطمئن الرجل في دار تضم امرأة دنست عرضه وامتهنت كرامته؟ ولا كيف يرغم نفسه على أن يبذل في سبيلها درهماً واحداً من مال أصابه بالجد والتعب فيطعمها ويكسوها. . .؟

ولا كيف يرضي أن يحميها في داره من غوائل الحياة وهي رجس من عمل الشيطان، عبثت بحرمته وانتهكت شرفه؟ ولا كيف يطيق أن يراها تضطرب أمام ناظريه وهو يحمل لها في نفسه بغضاً واحتقاراً؟ فماذا إذن يمسكه من أن يقذف في وجهها بالكلمة المحرمة فيلقي بالخائنة الوضيعة إلى الشارع. . . إلى الذئب.

أما أحباؤه - أبناؤه - فسيجدون في المربية عزاء وسلوه. . والمربية الحصيفة تستطيع أن تكون أماً وخادماً.

وجاء في رسالة الأديب نيازي علي مرزوق بكلية اللغة العربية ما يأتي:

لا معدى لصاحبك - يا سيدي. . . عن أن يحل عقدة الزواج ويلقى الخائنة إلى فجاج الشارع، فإن حرمان الصغار من عطف الأمومة أيسر من أن يرى الرجل شرفه وهو يلطخ بالدنس ثم يقف حياله عاجزاً ضعيفاً لا يدفع عن نفسه ضيماً ولا يرد أذى. والنساء غيرها كثير فليتزوج من أخرى طاهرة المنبت شريفة الأصل نبيلة الأرومة فيجد فيها زوجاً تصون عرضه وتحفظ كرامته، ويجد الصغار في كنفها العطف والحنان.

وللأديب محمد محمود عبدة بالمنصورة رأي يشبه رأي الأديب نيازي.

وكتب الأديب السيد عوض الجعفري بقنا يقول:

قد تظن - يا سيدي - أن صعيدياً مثلي يقرأ قصة (خيانة امرأة) فيفقد عقله ويطير صوابه

ص: 6

وتتأجج فيه الحيوانية الثائرة التي لا تعرف إلا الدم. . . الدم الذي يغسل الشرف الرفيع مما لوثته به امرأة حمقاء ساقطة، ولكني أترفق بصاحبك فأهديه إلى سواء السبيل في غير عنف ولا شدة. والرأي عندي أن يذرها في الدار تخدم أولاده وهي حبة قلبه ونور عينيه؛ ثم يهجرها فلا يميل إليها؛ وبجانبها فلا يهفو نحوها، ويحتقرها فلا يرعى حقها، ويراقبها في دقة خشية أن تتمادى في الغواية أو تندفع في الطيش، ثم يكتم الخبر في نفسه لا يحدث به أحداً ولا ينشره على أبيه. ولا بد أن يعلم صاحبك أنه إن طلق زوجته تناثر الخبر ولاكته ألسن في القرية فيها الحفيظة والغيظ، ونالته شماتة القريب وأصابه تهكم الغريب. وإذا بلغ أبنائه مبلغ العقل وجدوا من يعيرهم بما جنته الأم فيحسون مس الذل وعار الخطيئة، وتعمل في نفوسهم عوامل متضاربة تقتل فيهم هبة العقل، وتنزع عنهم دوافع السمو، وتخلع عنهم أسباب الترفع. ويعيش الواحد منهم عمره وفي خياله الجرم الدنيء يلاحقه فيضيق بالحياة ويضيق بالشرف. وقد تسول له نفسه أن ينتقم من مجتمع جاهل أحمق حمله عبء جناية لم تقترفها يده.

وإذا بقيت الأم في الدار لم يتناثر الحديث ولا تطايرت ريبة ولا شاع شك، فيحفظ الزوج - إذ ذاك - على نفسه عزتها؛ ويبقى على الأولاد حنان الأم، ويجنيهم مرارة اليم، ويوقيهم لذع الضياع.

ولست أنصح بأن يتزوج مرة أخرى لأنه إن فعل جمع على نفسه همين وضرب نفسه بالضرتين وقتل قي المرأتين.

وإنه ليتراءى لي أن صاحبك لن يطمئن إلى امرأة من بنات حواء بعدما عانى من خيانة الزوجة. فلا معدى له - إذن - من أن يعيش زوجاً كالعزب أو عزباً كالزوج يستعذب الوحدة في سبيل رضا أولاده، ويستمرئ النأي عن النساء خيفة أن تنتابه الظنون وتتوزعه الشكوك.

وافتتحت الآنسة (مجهولة) بطرابلس - لبنان، رسالتها بعتاب حاد فتقول فيه!

. . . وأعجب العجب أن تبحث مشكلة المرأة فتستفتي القراء وحدهم دون القارئات على حين أن لمجلة (الرسالة) قارئات من ذوات الرأي. وللمرأة في مشاكل الدار رأي لا يتخلف - أبداً - عن رأي الرجل، وللسيدة في مسائل الأسرة عقل يسمو - غالباً - على عقل

ص: 7

الرجل. ولكن لا عتب عليكم، فأنتم - أيها الرجال - ما زلتم تنظرون إلى المرأة بعين الاحتقار ظناً منكم أنها تخلفت عن الركب فلا تستأهل أن تجاذبكم الرأي ولا أن تناقشكم الفكرة، ميراث أورثتموه - منذ زمان - فتدفق في دمائكم وعز عليكم أن تطرحوه جانباً لتواجهوا الحقيقة التي تبتدي لكل ذي عيني. ولا ريب عندي في أن المرأة العصرية هي والرجل على سواء واحد في سعة الأفق وأصالة الرأي وحصافة العقل.

ثم راحت تدافع عن الزوجة الخائنة دفاعاً حاراً عنيداً يتراءى من خلاله التعصب الجارف للجنس، فقالت: وليست القضية هي مسألة الشرف والكرامة و. . . مما نسمع من كلمات رنانة طنانة تستهوي القلب وتستميل الأذن، ولكنها قضية زوجة صحبت زوجها سبع سنوات ثم تصبح - في لمحة واحدة - طريدة تتلقفها الشوارع في غير رحمة، ويتجاذبها الذئاب في غير هوادة، وهي قضية صغار الزغب الحواصل يفتقدون - على حين فجأة - حنان الأم ونور السعادة في غير ذنب ولا جريرة.

ولا عجب أن تلقي اللوم كله على الزوجة وحدها حين خانت زوجها، لأنك رجل. أما أنا فلا أبرئ الزوج مما اقترفت زوجته فإن في كثير من الأزواج حماقات تدفع الزوجات كارهات إلى أن يرتدغن في حمأة الرذيلة.

أما قولك إن المرأة المتعلمة كالثعلب فرأي تعرى عن الحقيقة، لأن العلم دريئة تنقذ المرأة - دائماً - من حبائل الرجل، وعزة تسمو بها إلى الترفع والإباء، وحصن يحميها شر المكيدة الخادعة. وأنت تعلم أن المرأة المتعلمة صعبة المراس شديدة الحفاظ على حين أن المرأة الجاهلة سهلة المكسر لينة المجس.

والرأي عندي أن يصبر الرجل فستجبر الأيام الكسر وترأب الصدع، وعلى الزوج أن ينصح الزوجة في هدوء ويعاتبها في رفق ثم يسدل على الماضي ستاراً كثيفاً من النسيان. ولا ريب عندي في أن الزوجة ستسعى جهدها إلى مرضاة الرجل وتتوب عن الغي وتستغفر عن الزلة، ثم تبدأ حياة جديدة فيها الاستقامة والاستقرار وفيها الإخلاص والوفاء.

وكتب الأستاذ عمر عودة الخطيب رأيه في العدد 869 من (الرسالة) وهو ينتهي إلى ما انتهى إليه من قالوا بفراق الزوجين.

وقرأ صاحبي ما كتب أصحاب الرسائل، فنظر إلي نظرات ثم أطرق وقال وكأنه يحدث

ص: 8

نفسه. . . فماذا قال؟

كامل محمود حبيب

ص: 9

‌الإسلام في ضوء البحوث النفسية الحديثة

- 2 -

للدكتور محمد البهي

أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية أصول الدين

وليست وحدة الله في الإسلام هي وحدها أمارة هنا على رقي الإسلام - جرياً على مقاييس الرقي التي وضعها الباحث النفسي استنباطاً من الموازنة بين الطفولة الإنسانية والبلوغ الإنساني - بل مطالبة الإسلام كذلك بوحدة الجماعة الإنسانية عن طريق محو الفوارق، أو إضعافها على الأقل، التي توزع الناس إلى شيع وطوائف، سواء أكانت هذه الفوارق تتصل بالجنس والقبيلة أو بالعوامل الجغرافية أو الاجتماعية أو الثقافية. . . أو غيرها. إذ من لوازم خصائص إدراك الطفل - وكذا الإنسان البدائي - على نحو ما أشرنا من ارتباطه بالمحسوس تقيد صاحبه بالمحسوس الذي في محيطه، لا يوليه الأفضلية فحسب، بل يهبه مزايا الوجود كله، إذ الوجود في واقع الأمر عنده هو ذلك المحيط الذي يعيش فيه.

وعلماء الاجتماع - بالقياس على هذا - يصفون شعباً من الشعوب بالبدائية إذا كان متكوناً من طوائف أو قبائل تقف كل طائفة أو كل قبيلة عند حد وجودها الخاص لا تتجاوزه إلى ما فوقه من معنى الوطن أو الدولة، إذا الإدراك عند مثل هذا الشعب لم يخترق بعد تلك الحجب الظاهرة التي جعلت منه طوائف أو قبائل.

2 -

الوجدان:

تتجاوز الآن الجانب الإدراكي للإنسان في مرحلة طفولته الأولى إلى جانبه الوجداني. نراه في هذه الناحية أيضاً يقف عند حد المحسوس: فانفعالاته التي تتنوع إلى لذة وألم: والتي يعبر عنها مرة بالبشر والتهلل أو الضحك كثيراً وأخرى بقبض أسارير الوجه والحزن أو البكاء كثيراً، ترجع إلى ما يدركه مما حوله إدراكاً حسياً فحسب: فهو يفرح بلون الدمية التي يلعب بها لا بقيمتها الذاتية، ويتودد لزميله في ليونة وبشر ليلعب بلعبته أو ليفوز بها لا بما يدركه في الزمالة أو الصداقة من معنى يربط أحد الزميلين بالآخر ويجعل كلاً منهما يسر للقاء الآخر أو التحدث إليه. وهو يحزن - وكثيراً ما يبكي - عند مفارقته لزميله

ص: 10

ولكن ليس لما يوجبه معنى الزمالة عند الفرقة بل لفقده لعبة الزميل التي كان يلعب بها في حضرته.

تستهويه الحلوى ولكن لا يغريه التبشير بالجنة، ويخيفه العقاب المادي كالضرب أو الحرمان ولكن لا ترهبه الخشية من الله. فرحه وتألمه إذن لما يبدو من الشيء لا من ذات الشيء وجوهره:

(أ) فوجد أنه مادي، لا يثيره إلا ما هو مادي. ولذته وألمه ماديان مرتبطان أشد ارتباط بالشيء المادي؛ بما يرى فيه، أو يتذوق منه، أو يلعب به. . . الحصول عليه يسبب لذته والحرمان منه يسبب الألم عنده.

حياته هي في الكل والشرب والاستمتاع بالمتع الحسية. لا يعرف من الحياة إلا لوناً واحداً هو هذا اللون. أما انقسام الحياة إلى دنيا وعليا؛ إلى رخيصة وسامية؛ إلى حياة الماديات وحياة المثل والمعنويات فلم يدركه بعد. لم يصل بعد إلى لذة معنوية وشقاء معنوي.

(ب) كذلك يغلب على وجدانه طابع التطرف وعدم الاعتدال: فكثرة حركة الطفل ونشاطه في هذه الحركة عند الفرح، وكثرة بكائه أو شدة صياحه عند الشيء المخيف المرعب تعبر عن هذا التطرف في درجة الوجدان في هذه المرحلة.

والإنسان البدائي كذلك يثيره من الشيء مظهره المادي: يندفع نحو كبير الحجم أو بارق اللون في بشر وسرور، ويبكي - إن لم يول هرباً - مما لم يعهده من قبل.

لا يعرف الجزاء بنوعيه إلا المادي منه. ولهذا يسير المستعمرون بالجهات المتأخرة في الحضارة في معاملة أهل مستعمراتهم من البدائيين طبق هذه الحقيقة النفسية: فإذا أنعموا على إنسان منهم أنعموا عليه بزاهي اللون أو عظيم الحجم مما يلبس أو يؤكل. ونرى لذلك إن أكثر هداياهم إلى الزعماء هناك عبارة عن تيجان من الزجاج الملون يجمع بين كبر الحجم وبريق اللون. كما أن عقابهم ينحصر فيما يؤلم ألماً مادياً كالضرب أو الحرمان من الأكل مثلاً. أما قائمة الشرف وكذا القائمة السوداء مثلاً فلا تعرفان كضربين للجزاء عند البدائيين.

وعبادة هؤلاء - والعبادة مظهر من مظاهر الوجدان - تتمثل في تقديم القرابين المادية لمعبوداتهم مما يؤكل أو يشرب في بيئتهم عادة. بل أساس تخيرهم للمعبود نفسه مادي

ص: 11

أيضاً، هو إما نفع مادي أو ضر مادي. وفند - العالم الألماني - في كتابه علم النفس للشعوب يذكر أن الصدفة وحدها هي السبيل الأول لتعيين الآلهة في الديانات الوثنية. على معنى أن حادثاً ما يقع صدفة للفرد أو الجماعة من الناس في مكان معين أو عند شيء معين فيصبح هذا الحادث سبباً في عبادة الفرد أو الجماعة لذلك المكان المعين أو لهذا الشيء المعين، إما ترقباً لمنفعة منه أو طلباً لدفع مشقة تصدر عنه. على حسب نوع الحادث الذي وقع:

فالصحراء كانت تعبد عند قدماء المصريين رجاء أن تدفع عنهم غضبها، وهو تلك الأتربة التي كانت تثيرها العواصف فتغطي الزرع أو تتلف الضرع. و (النيل) كان يقدس منهم كذلك حتى لا يتخلف خيره من ماء وطمى. والصدفة وحدها هي التي جعلت من قدماء المصريين عباداً للصحراء والنيل، وهي أنهم استوطنوا هذه الرقعة من العالم فارتبطوا في حياتهم المادية بهما. بدليل أن غيرهم من الشعوب القديمة ممن سكنوا بقاعاً أخرى - في آسيا مثلاً - لم يعرفوا عبادة النيل والصحراء، ذلك لأن حياتهم المادية لم ترتبط بهما يوماً من الأيام.

وعلى نحو ما رأينا من عدم الاعتدال في وجدان الطفل يسيطر على وجدان البدائي طابع الغلو والتطرف كذلك: هو كثير القهقهة إن سر بشيء ما، كثير النواح والصياح إن تألم من شيء ما. إن أقبل ففي غير احتياط، وإن ولى ففي غير احتياط أيضاً. كثير الشكوى قليل الصبر على ما يؤلمه، كثير الزهو قليل الاتزان في نشوة فرحه.

لكن الإسلام لم ير الحياة في لون مادي فقط؛ بل جعل أسمى نوع من المتعة واللذة في رضا الله، وأقسى نوع من العقاب في غضبه.

الإسلام عاب الذين يشترون الحياة الدنيا بالآخرة، ولم ير البر في أن تتجه الوجوه قبل المشرق والمغرب ولكن فيما وراء ذلك من الإيمان بالله واليوم الآخر. . . إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة. . .

ورسول الله محمد بن عبد الله عليه السلام كان إذا ضحك ابتسم ولا يقهقه، وإذا بكى - كما

ص: 12

حصل عند دفنه ولده إبراهيم - دمعت عيناه فقط. يطلب القرآن الكريم من المؤمنين عدم الجزع والهلع عند المصيبة بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين) وفي قوله جل شأنه. (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) فجعل علامة الإيمان بالله - وهو دليل النضج الإنساني والبلوغ العقلي كما سنرى - الاعتدال في الوجدان وعدم التطرف فيه إن في حالة الألم أو في حالة اللذة.

3 -

الصلة بالعالم الخارجي:

وإذا انتقلنا من دائرة الوجدان بعد الإدراك في حياة الإنسان في مرحلة طفولته الأول إلى صلة هذا الإنسان بالعالم وجدنا أنه يغلب عليه في هذه الصلة طابع الذاتية والأنانية.

(أنا) هذه الذات، هي الدافع لكفاحه في هذا العالم وهي هدف هذا الكفاح فيه. ويحاول بأسلوب وبآخر أن يمنع الاشتراك فيما يحصل عليه ولو كان مع من هو مصدر الإعطاء من أب أو أم مثلاً.

ولأنه لا يستطيع أن يدرك غير هذا العالم المحس فأهدافه التي يحاول أن يبلغها فيه لا تتجاوز ما يحس منه. كذلك لا يسعى إلى تحصل المثل الرفيعة؛ لا يسعى إلى تحصيل الفضيلة والقيم الأخلاقية. لا يسعى إلى التضحية في سبيل الغير لأنه لم يعترف بالغير بعد. لا يسعى إلى أداء الواجب نحو الجماعة لأنه لم يدرك معنى الجماعة الآن. لا يعرف معنى الزهد، فضلاً عن أن يسعى لتحقيقه. قد يعاف الشيء ولكن لا يزهد فيه.

وما أشبه الإنسان البدائي بالطفل في هذه المرحلة الأولى من مراحل تطوره. لا يعرف البدائي أيضاً حدوداً لمطالب نفسه، ولا دافعاً في الحياة غير ذاته. ذاته كل شيء، وكل شيء في الوجود هو لذاته. إن عبد قلما يعود على ذاته الخاصة من نفع أو اتقاء لما يقع عليها من ضرر. وإن حارب فللغنيمة، وإن هرب من الحرب فلإنقاذ حياته. وإن صادق أو عادى فلمنفعة في المصادقة أو المعاداة.

لا يعرف معنى الوطن فيفديه بالنزول عن بعض ما يملك أو بإجهاد نفسه في سبيله. وما دام لم يعرف الوطن أو الجماعة فتركيز كفاحه لتحقيق مطالبه الخاصة لا ينشأ عن اختيار منه، حتى كأنه آثر نفسه على وطنه أو جماعته عندما نراه يكافح لذاته فقط؛ بل ذلك عن

ص: 13

غير إرادة منه بدافع اضطراري من ذاته. إذ الاختيار إنما يكون عند الموازنة، والموازنة لا تكون إلا بعد إدراك لشيئين فأكثر. كأن يدرك أن له ذاتاً، وأن هناك غيرها في العالم من الجماعة أو الوطن، وأن هناك علاقة بين ذاته وهذا الغير تقوم على أداء واجبات نحو هذا الغير وأخذ حقوق من هذا الغير. ولكنه لم يدرك بعد أنه (منفصل) في هذا العالم وفي بيئته، إذ لم يزل يرى أن كل ما في الكون هو، وأن الكون لا يتعدى ذاته.

وعلى هذه الحقيقة النفسية عند البدائيين تقوم سياسة الغربيين المستعمرين في عصرنا الحاضر. يلبون المطالب الشخصية للأفراد، ويقسمون الرقعة الضيقة الواحدة إلى سلطنات أو إمارات ودويلات، ويساعدون رؤساء الإمارات أو السلاطين على تحقيق رغباتهم التي لا تنتهي ولو كانت عبئاً على الصالح العام، وينمون في ذواتهم وأشخاصهم معنى الزهو الخيلاء بما يضعونه تحت تصرفهم من مفاتن هذه الحياة. حتى لكأنهم لا يسمعون من الواحد منهم إلا ترديده: أنا! أنا! في كبرياء أجوف - تجاه الوطنيين فقط -.

وعن هذا الطريق السهل الذي لا يكلفهم شيئاً يأخذون ما ينفق فيه المستعمر عرقه أو ما تزهق في سبيله نفسه من غلات الحاصلات الزراعية والمعادن المستخرجة من أرض الوطنيين المستعمرين.

لكن الإسلام نادى بمصلحة الجماعة وجعلها في الصف الأول إذا تعارضت مع مصلحة الفرد. فرض على الفرد واجبات نحو نفسه ونحو جماعته، وجعل مبدأ (أن لا ضرر ولا ضرار) شعاراً لتعرف هذه الواجبات. بل أكثر من ندائه بالحرص على الجماعة ورعايتها رغب المؤمنين في أن يضحوا بما لهم من نفس ومال وولد في (سبيل الله). وليس سبيل الله إلا إعزاز الجماعة. إذ القربى إلى الله هي المشاركة في إسعاد الغير عن طريق تخفيف آلامه واطمئنان نفسه: فالنصيحة للغير قربى، وبذل المال له قربى، ودفع الضرر عنه قربى، وستر عرضه قربى، والقول المعروف قربى، والتسرية عن نفسه قربى. . . وهكذا. وكلما تعاون الفرد مع الفرد ورأى أن الفرد وجوده وكيانه وجود الأخر واستقراره تقوت الجماعة، إذ إنها تكون حينئذ كالبنيان الذي يشد بعضه بعضاً.

الإسلام نصح بالزهد في هذه الحياة. وليس الزهد إلا وضع حد بين مطالب الذات ومطالب الغير. ليس إلا وضع نهاية لرغبات الذات. ولذلك كان كفاحاً لتلك الرغبات. هو كفاح يتجه

ص: 14

نحو الذات نفسها بعد إن طغت مطامعها وزاد جشعها في عهد الطفولة الإنسانية، وقد يمتد أجلها سنوات في حياة الإنسان.

وإن شئنا قلنا إن الزهد هو تحويل الكفاح في الإنسان من الدائرة الانفرادية أو الأنانية الأولى إلى الدائرة الجماعية. ليس الزهد عبارة عن موقف سلبي في الحياة وتعطيلاً لقوة الكفاح والسعي في الإنسان، فقد كان محمد بن عبد الله زاهداً وكان مع ذلك في مقدمة المكافحين.

4 -

السلوك

وإذا تركنا هذه الظاهرة النفسية التي ذكرناها الآن كإحدى ظواهر الطفولة الأولى للإنسان إلى الحديث عن سلوكه في هذه المرحلة وجدنا طابع الوقتية من جهة والتقليد من جهة أخرى يسيطران على هذا السلوك:

(ا) ينتقل الطفل في هذه المرحلة بسرعة من حال إلى آخر. لا يلبث تمسكه بالشيء طويلاً ولا يبقى إعجابه فترة زمنية واضحة، كما لا يستمر تألمه من الحرمان وبكائه على فقد الشيء طويلاً كذلك. يقبل البدل والعوض في يسر وسرعة لكن بشرط أن يكون هذا العوض أكثر إغراء له بكبر حجمه أو بكثرة لمعانه أو بشدة تفاوته في اختلاط الألوان الزاهية، وإن كان ضعيف القيمة قليل الجودة.

لذا ينعدم الإيمان بشيء هنا في هذه المرحلة. وبالتالي لا يوجد كفاح من أجل العقيدة أو المبدأ. إذ مأخوذ في طبيعة الإيمان أنه ليس التصديق فحسب، بل الاستمرار فيما يصدق به الإنسان. وتختلف درجات المؤمنين حسب تفاوتهم في هذا الاستمرار لا حسب التصديق والإقرار.

الثبات على الشيء أو على المبدأ ميزة الرشيد من الإنسان. والتحول عن الشيء ميزة الطفل في طفولته الأولى أو ذلك الإنسان البدائي، وهو ذلك الذي لم تكتمل إنسانيته بعد. . .

سبب ذلك أن العالم مشحون بالمحسات أو الماديات والطفل مرتبط بما هو مادي محس أيما ارتباط لا يستطيع الانفكاك عنه إلى الآن. فهذه المادية اللانهائية للعالم لا تخلو من مغريات كثيرة تشغله في صحوته ويقظته، وهو منجذب نحو آحادها لا يلبث عند واحد منها إلا

ص: 15

بمقدار ما يجذبه الآخر.

أما الرشيد فقد استطاع أن يقف على قدميه في هذا العالم يتخير منه مل يريد. إن أقبل على شيء ما أو أدبر عن شيء ما فعن إدراك فتصميم. لاختياره سبب وعلة. فهو يقف عند ما اختار، ما دام سبب الاختيار قائماً على نفسه. وقلما يتغير السبب إذا كان عن تفتيش وروية - شأن من بلغ بلوغاً عقلياً -.

(ب) كذلك يخضع الطفل في سلوكه لعامل التقليد: يخالف اتجاهه السابق في السير تقليداً لمن هو أكبر منه. لا يستطيع الإجابة عن سر تحوله سوى أن فلاناً - الأب أو خلافه - هكذا صنع:

والبدائي لا يختلف عنه في سلوكه: يتميز بكثرة التحول والتنقل، ثم باتباع التقليد فيه. لا يطول عجبه ولا تطول صداقته ولا زمالته. لا يستمر حزنه وبكائه، يضحك وما زالت الدموع في مقلته أو على خده. صديقه بالأمس عدوه اليوم.

يأتي من التصرفات ما يناقض بعضه بعضاً. ولو فتشنا في سبب تناقضه وجدناه التقليد فيما أتى به.

وما عللنا به سلوك الطفل هناك هو ما نعلل به سلوك البدائي هنا. كلاهما في هذا العالم كمن وقف في مهب الريح، يدفع في سيره دون أن يستطيع اختيار اتجاه معين. إن بدأ بالسير لا يعرف متى يقف؟ وأين يكون

إن الإسلام قام على دعائم فالإيمان أولها في نظره. لا لأنه أساس يتفرع عليه غيره من مبادئ أخرى؛ بل لأنه في الواقع الفيصل في الحياة الإنسانية. هو أمارة على انتقال الإنسان من مرحلة أدنى إلى أخرى أرقى منها في تطوره.

لم يثن الإسلام على المؤمنين به وحدهم لأيمانهم؛ بل احترم كذلك أهل الكتاب ممن لم يحرفوا الكلم عن مواضعه. أما غير أهل الكتاب من الوثنيين، أما أهل الكتاب الذين بدلوا دين الله فهم أمامه سواء في عدم انتقاله من حال الطفولة الإنسانية إلى حال الاكتمال والرشد الإنساني. لا يحق لهم إذن عهد ولا ذمة.

الإسلام وإن شاد بالإيمان فأشادته بذلك الذي جاء نتيجة الروية واستقلال الفكر ووليد النظرة الحرة، لا ذلك الذي أساسه التقليد. (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم

ص: 16

يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون). يريد من الإيمان ذلك الذي هو عنوان الرشد الإنساني.

أما الإقرار نتيجة التقليد فهو بالأحرى أمارة الطفولة، لا يلبث صاحبه أن ينتقل مما أقر به أولاً إلى الإقرار بشيء آخر تدفعه إليه مغريات العالم ومفاتنه الظاهرة. . (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون). أولئك هم البدائيون في الإنسانية، هم أطفال ولو بلغوا الحلم.

5 -

الحكم والتقدير

ومما يتصل بهذا الجانب النفسي الذي عالجناه الآن - وهو السلوك الإنساني في مرحلة الطفولة - جانب آخر له أهميته وهو طابع الحكم أساس وزن قيم الأشياء عند الإنسان في هذه المرحلة أو من هو شبيه له.

(أ) يغلب على حكمه طابع التذبذب والتردد، لأنه في حكمه على الشيء دائماً متغير في نظره: فبينما يقدر الشيء للونه إذا به ينفر منه لمذاقه. وبينما يقبل على والده أو أمه بالتقبيل - إن أخذ من أحدهما قطعة من الحلوى مثلاً - إذا به يثب بالضرب على من يناديه منهما للنوم أو يدعوه للهدوء والسكينة.

هو لم يختبر ما نال إعجابه أولاً ثم نفر عنه ثانياً ليقف على شيء ثابت فيه، وهو ماله من حقيقة وكنه حتى يكون الحكم عليه مرتبطاً بماله من هذه الحقيقة. ولم يعرف بعد أيضاً في أبيه معنى الأبوة وفي أمه معنى الأمومة حتى يربط تقديره لأحدهما بذلك المعنى الباقي فيه.

(ب) ولم يستوف في وزنه للشيء عناصر التقويم فيه، إذ الجزء للشيء يعبر عن نفس الشيء في تصوره وإدراكه - كما ذكرنا ذلك أولاً -.

فتقويمه إذن للشيء تقويم له بجزئه، وبجزء تأثر به هو، وقد لا يكون من مقومات ذات الشيء: فكراهيته لإنسان لأنه أدرك فيه مغايرة البشرة لما ألف رؤيته من الناس، وحبه لإنسان لأنه أعطاه ما يهواه لا يتصل ذلك بتقويم الإنسان بما هو يه إنسان.

هنا تتقدم الثقة العامة بأحكامه وتقديراته، لأن أساسها متغير وسريع في تغيره كذلك.

وتقديرات الإنسان البدائي، وإعطاؤه القيم للأشياء لا يتفاوت في الطابع الأساس عما يعرف للطفل في مرحلة طفولته الأولى من التغير وعدم الثبات:

ص: 17

يجري في التقدير وراء ما يتصل بأنانيته أو ما يدركه من ظواهر الأشياء دون ما يتصل بذات الشيء وجوهره. يبدو ذلك في تصرفاته المتقلبة - كما رأينا -.

لا يعرف مقياساً عاماً في وزنه وتقديره أنه لم يهتد بعد إلى الحقائق. وقلما يصل إلى حكم استوعب فيه عناصر الحكم الصحيح عند الرشيد.

لكن الإسلام طلب أن يكون التفتيش والاختيار والروية أساس الحكم: يقول تعالى مخاطباً المؤمنين: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). ويقول مخاطباً رسوله الكريم: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون). فلم يرض أن يكون الظاهر المدرك الأول وهلة أساس الحكم ثم العمل والتصرف.

وهكذا في كل جانب من جوانب الطفولة الإنسانية - في الطفل مرحلته الأولى أو في الإنسان البدائي - لو وقعنا على مظاهره وعرفنا بطريق المقابلة بظاهر الرشد والنضج العقلي وحدنا الإسلام يمثل منتهى الرقي حسب معايير الإنسان. ومع ذلك ليس من صنع إنسان كامل، لأن هذا الإنسان الكامل لم يكن حقيقة واقعة ولم يزل بعد فكرة، وسيظل فكرة ومثالاً فقط. الإسلام وحي من الله الذي هو فوق التجديد الإنساني، إذ هو سر الوجود وسيبقى سر الوجود ما دامت السماوات والأرض، وما دام الإنسان يعيش ويبحث.

محمد البهي

ص: 18

‌الشاعر العاصي.

. .

للأستاذ محمد محمود زيتون

ولد أحمد العاصي رحمه الله وغفر له - بفارسكور في صيف سنة 1903. وكان أبوه من كبار التجار فيها، وماتت أمه، ولم يتجاوز السادسة من عمره. وقد بدت على الغلام بشائر النبوغ، فعني به أبوه، حتى ألحقه بكلية الطب، وما زال يحصل دروسه حتى انتابته حالة عصبية، وهو في السنة الثالثة، فقضي بلبنان ثلاثة أشهر عاد بعدها خفيفاً من بعض ما جثم على نفسه.

ولما بدأ العام الدراسي عدل عن الاستمرار بكلية الطب، والتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب، وقرأ (تأملات ديكارت) على الفيلسوف الفرنسي لالاند، وراقته الدراسات الفلسفية لهذا جد العاصي في أن يعوض معايبه بالانطواء على نفسه، مل حتى الحديث بل صار يحيا في حياة كأنه في مغيب ولا سيما خلود الروح والتفاؤل والتشاؤم، والموت والحياة، وفي أيام الدراسة وضع رواية (غادة لبنان) ثم نشر (ديوان العاصي) سنة 1926، ولما حصل على الليسانس سنة 1929 عين موظفاً بالجامعة المصرية (جامعة فؤاد الأول).

كان العاصي مثال الشخصية المتناقضة، فإذا ضحك أضحك حتى لتكاد الجمادات يضحكن معه، وغدا حزن ضاقت عليه الدنيا بما رحبت، واسودت من حوله الحياة، فغلبت عليه نزعة النفور، وتمكن من نفسه الشعور بالنقص، ولا سيما أنه كان قميئاً خفيض الصوت لا يكاد يبين. يقول عن نفسه:

أبن عشرين عذبته الليالي=وأطاحت بعزمه المشبوب

لم يذق لذة الحياة ولكن

ذاق أنواع قاصمات الخطوب

ساهم ساكن معنى مروع

في شباب مقنع بمشيب

إن تحدثه قد يجيب بصمت

أو بهمس أو شارة أو دبيب

ومداومة الاطلاع. وزادت ظروفه العائلية من حدة نفوره من أبيه الذي تزوج من غير أمه بعد موتها، وهجر أخويه واعتزلهما وأقام بالقاهرة.

وكان لشيرشون أثر قوى في تسعير جذوة نفسه: قرأ كتاب (كتاب وأخذ يقرأ في صمت عن الموت حتى لقد كان يضع خطاً بالقلم الأحمر تحت كل كلمة (الموت) في الكتاب.

ص: 19

وبعد أن غمرته هذه الدراسة السوداء كتب خطاباً على الصفحة الأولى من الكتاب قال فيه (إلى من يهمهم أمري: جبان من يخشى الموت، ومن لا يرحب بهذا الملك الكريم الذي هو لي كالرائحة الزكية. . . أحمد العاصي).

وتملكته فكرة الانتحار، فلم يجد عنها مصرفاً، حتى أنه كان يفكر ويمعن لا في العدول عن الانتحار ولكن في اختيار أيسر السبل إليه، وأخفها وطأة عليه. وقف على كوبري محمد علي ذات مساء ونظر إلى الأمواج، واستب أن يلتف بها، ويحتضن الموت، ولم يكد يهم بذلك حتى راجعته سيدة إفرنجية كانت تتمشى ساعتئذ خلفه، فعدل ولكنه آثر الموت عاجلاً أو آجلاً، فأوى إلى فراشه وبخع نفسه بمادة كاوية ظلت تحرق حجرة نومه من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة من اليوم التالي حيث اندلعت ألسنة الدخان من خلال النوافذ، ولم يكد المارة يقتحمون المنزل حتى رأوا هيكلاً بشرياً صار هشيماً

وهكذا آثر الموت الزؤام على الحياة الباسمة، ولقي ربه سنة 1930. أما شعره فكان مرآة هذه النفس الجامحة الجاحمة، وهو يمهد لديوان شعره بهذه العبارة الصريحة: (ألمت بي محنة من محن الدهر ألزمتني العزلة حيناً فشعرت بحاجة حادة لأن أشغل نفسي بقول الشعر فيما شغلني من شؤون الحياة من قبل. . .) وصدر له ديوانه أمير الشعراء أحمد شوقي بك بأبيات منها:

هذا شباب السحر يلمح ماؤه

من جدول (العاصي) ومن ديوانه

ويقول منها:

ويكاد يلمسك السرور يراعه

وترى يد الأحزان حول بيانه

يشكو الزمان لنا، ويالك يافعا

ناءت بميعته هموم زمانه

ولتعلمن إذا السنون تتابعت

إن التشكي كان قبل أوانه

وهذا الشاكي الذي فارق الحياة غير آسف عليها، ولم يبلغ السابعة والعشرين، عاش نهباً للألم الدفين، واليأس اللافح، وكانت أضالعه مرجلاً للصراع العاطفي العنيف، وأبواب ديوانه صورة من ذلك كله، فثمة باب الأدب، ويشمل ما قال من شعره في عهد الاطمئنان - كما يدعي - وما هو باطمئنان وباب النقمة، ويشتمل على ما قاله في عهد المحنة والتبرم بالحياة؛ ثم باب الغزل والفخر وفيه شعر المديح وتشريح الهم؛ ثم باب للمتفرقات من الشعر

ص: 20

الذي قاله في أوقات متباينة، وختم ديوانه بمأساة هو بطلها وسماها (قصة الموت).

قرأ صاحبنا للفلاسفة القدامى منهم والمحدثين، فأوغل في الأعماق متدبراً متفكراً عله يثوب إلى نفسه التي افتقدها، ولكنه راح يتعجل (سر الحياة) فارتدعن حجابه الكثيف، لا يدري غير شيء واحد هو أننا:

نحن نسعى في فلاة، لا نرى

غليها والكل يغري بالسراب

وأن الناس نوام فإذا ماتوا انتبهوا، وعلى الناس أن يعودوا من حيث جاءوا، وهكذا يدعوهم العاصي:

يا بني الأرض إن منها نشأتم

فارجعوا حيث كنتمو في أمان

ويمضي الشاعر يفلسف الحياة وخداعها، وعيش الناس فيها، والمنى التي من دونهم المصاعب، وحقيقة الإنسان، وما أوتي من عقل يتباهى به الناس، وإن لم بكن فيه شفاء من جهالة، ثم يتهكم بهؤلاء الذين يتحدثون عن الآخرة:

يا صاحبي لقد تحدث بعضهم

عن عيشة أخرى وعن أخبارها

لله درهموا، فهل قد جاءهم

يا صاحبي البعض من زوارها

وينقلب بعد ذلك على الإنسان شيخ الجاحدين:

خير هذي الأرض يسعى نحوه

وهو ما زال زعيم الناقمين

ويعاود التفكير في سر الحياة الذي لن يدركه الإنسان إلا أن يترك هذا العالم المسترذل:

نحن سر في الدهر، والدهر سر

هو عنا مستر محجوب

نحن في العيش كلنا ككرات

قذفتها - كما تشاء - الخطوب

لهذا صار عبداً للملذات، وبمحرابها سيضحي ويمسي، فلئن سألته كيف استعبدته اللذة أجاب:

ضقت بالهم فانتقمت لنفسي

باللذة من همومي وبؤسي

وهكذا قهر الدهر، فانتهب اللذة، وانتقم لنفسه مما ترزح تحته من أرزاء، فوجد في النسيان ما يباعد بينه وبين مواقع الصراع.

غير أنه ينصح بالزهد فيها، وكسر شرة النفس، ويقول:

حسبكم ما سد جوعاً أو صدى

أو فيكم عاجز عن ذا وذاء

ص: 21

كل أطماع الفتى من عيشه

ضلة أوقعه فيه هواه

وهو إذ يبذل هذه النصيحة يزجي بين يديها خبرته بالحياة:

لقد فعل الخير فصار بخساُ، وطلب العلم فهان في نظر الناس.

ويتأثر العاصي بأفلاطون في نظرية المثل حيث كانت النفس خيرة فهبطت إثر إلى عالم الرجس والفساد بعد إن (كانت الدنيا صفاء خالصاً).

وتمضي هذه العاصفة التي زعزعت من خواطر العاصي، وتغلغلت أصداؤها في قرارة حسه حتى إذا هدأت قليلاً، اطمأنت نفسه بالإيمان فقال:

آية الله بدت في خلقه

في جمال نحن في الدنيا عبيده

وفي قصيدة أخرى عن الإيمان أيضاً يدعو إلى التضرع بالقوة، ويعيب على القائلين بأن الزمان رمى فلاناً (فماذا للزمان وللنزال) وجدير بهم أن يعترفوا بضعفهم وعجزهم من ملاقاة الهموم المتوالية. ولكن يخفف همنا هذا التوالي، وخير من لوم الدهر أنا نضرع إلى الله.

ما شاء الله! هذه لمحات الإيمان تنبثق من لحظة إلى أخرى على الشاعر المسكين، ولو أنها وجدت إلى جواره الصديق الطبيب لعاد إلى حسه المرهف على الأدب والحكمة بأسمي المثل، ولشفى أنفس الناس ونفسه مما يجد ويجدون.

وفي قصيدة (الأقدام) التي يمنحها من أعماق اللاشعور، يحث غيره على المجد والمعالي بينما يزجي نفسه إلى الموت على عجل، وكأني به يتخيل نفسه حين يقول:

(والمرء فوق فراش الموت منطرح)

ثم يقول راضياً عن الأيام، منتظراً الرحيل في الأبدية:

دعني أقضي بها عهدي وأرحل من

دهر لدهر، وإن العمر أجيال

ويقول مرة أخرى في سر الحياة:

وإذا الموت أتى فاستقبلوا

ركبه، وليهن فيكم من يراه

وهو يستوحش الناس، ويدعوا إلى اعتزالهم لما يتباينون فيه من الأحكام على الأشياء والأفعال، ويقول:

رب أمر خلته حمقاً وقد

خاله الناس حكيماً ومصيباً

ص: 22

رب فعل أنت تأتيه لكي

تطرب الغير فتلقاه غضوباً

رب رأي كان عذباً ناضجاً

عد من يأتيه خداعاً كذوباً

فلتخل الناس يحيون كما

قد أرادوا ولتعش فيهم غريبا

ليست العزلة عنهم وحشة

أنت بالعزلة قد تحيا طروبا

إن من أكثر من أصحابه

لا يرى من الدنيا يوما رطيبا

إن سوءاً من أخ أو صاحب

منهن ما بين الاثنين الحروبا

كان العاصي يستشعر في نفسه بغضا متبادلاً بينه وبين الناس وإن كان لاوجود له في عالم الواقع. فليس اختلاف الناس فيما بينهم في أحكام القيم إلا دليلاً على حيويتهم، وبغير ذلك لا يتميز خير من شر، ولا حق من باطل، ولا جميل من قبيح، والذكاء أو العقل في نظرة علماء النفس إنما هو (التكيف بالبيئة) وإذن تكون العزلة نتيجة لاضطراب النفس، وارتباك العقل، وعلامة على تخلف الفرد عن ركب الجماعة.

حياة كلها يأس وشقاء، وبؤس وهموم، وأنفاسه موزعة بين حسرة وزفرة ونقمة:

فإن تكن الليالي مثل هذا

فإن الأمن عندي في اعتزالي

وصاحبنا - مع ذلك معذور، والمجتمع الذي حوله مسئول عما انتابه، ومأخوذ بجريرته التي ارتكبها، فلو أنه لقي في صحراء العيش واحة للصداقة تروح عن نفسه، لفض همومه، وسلك مع السالكين إلى المجد الذي طالما داعب طموحه، وهو الفيلسوف المفكر، والشاعر المرهف، ولكنه يقول:

ضاعت سعادة نفسي، وانبرى أملي

ونال ما بي من جسمي فأضناني

إني ظمئت إلى خل ليؤنسني

فلم أجد مؤنساً ما بين خلاني

فعدت للهم عل الهم يؤنسني

إن كان في الهم أنس الواله العاني

فلم يستجب له أحد، وذهبت صرخاته مشلولة الأصداء:

قولوا لسارية الآلام في كبدي

هل تقصرين، فإن الهم أبلاني

واحنوا علي إذا ما الهم أرقني

وباركوني إذا ما الصبر وافاني

ولا تكونوا على نفسي إذا جزعت

فإني مرجع نفسي لإيماني

لهذا كله حلت له العزلة بدار (لا يزور ولا يزار)

ص: 23

أهيم بوحدتي، وبقرب نفسي

فود الناس حل به البوار

وحسبي أنني غرد طروب

بأفكاري، وما في ذاك عار

فلا عجب إذا نقم على الحياة، وعلى الناس، وعلى نفسه إذ يقول:

يوقد النقمة في قلب الكريم

سوء ما يلقى من الدهر اللئيم

وإذا تحطمت النفس اعتل الجسم، فلا راحة، ولا انسجام، واختل التوازن بين القوى في كيان الفرد.

مجمع الآلام حسمي ياله

من صبور وحمول وكظيم

بل يروي هوة فاصلة بينه وبين الناس، ينكرهم وينكرونه لما يحس في نفسه من نقص:

أخالني وأخال الناس ترمقني

عجيب خلق يحير الناس مرآه

ولو تراني مأخوذاً ومستلباً

لخلتني موكلاً بالغيب أرعاه

ويقيني أن شاعرنا غير صادق إذ يقول:

لكنني وخطوب الدهر تعصف بي

ثبت على كل ما في الدهر ألقاه

ألقى الهموم وتلقاني وأتركها

يوما وتتركنني: كل لمثواه

هذه مغالطة نفسانية، وتعويض داخلي، ليت له قوة التأثير في نفس شاعرنا، ولكنه صريعاً منطول ما أوهت عزائمه الهموم التي قعدت بهمته، فأخلد إلى الأرض. قال:

شعرت بالهم حتى لا أحس به

وقد تفيد فتى في الهم سكرته

أتى الزمان بدائي ثم أعجزه

دواء دائي، وضاقت عنه همته

يا قوم ليس تفيد المرء همته

إن أقعدته بهذا الدهر لوعته

وكما ضاق صاحبنا بالخل الوفي، ضاق أيضاً بالعيش الهنيء، وهو أظمأ ما يكون إليه، ولكن أين هو: -

ولعيش هانئ بي ظمأ

بالغ للنفس ما بعده ري

يا بني الدنيا ويا عشاقها

ويكمو أين هو العيش الهنيء

ثم يعود إلى لوعته تساوره ويساورها، ويحاول أن يزحزحها عن كاهله فيكل عنها، فيغالط نفسه مرة أخرى، ويدعي الثبات أمام ويلات الزمان.

لا ينثني عنه الزمان ولا يني

عن نيله، وهو الكمي الأمرد

ص: 24

ويتحدث بعد هذا الصراع، وهو يجر أذيال الهزيمة:

وما أنا إلا بعض هم تجسمت

معانيه حتى أصبحت جسداً يجري

يقولون أين العزم قلت مضت به

هموم عدت يوماً على العزم والصبر

كأن صروف الدهر بيني وبينها

وما أحد يدري قديم من الوتر

فتى في إهابي ضاق صحن فؤاده

بجيش من الآلام في ضحوة العمر

ويأبى الأسى المضني فراق صريعه

إلى أن يراهم أودعوه ثرى القبر

ذلك بأن الموت طبيبه الذي سيشفيه من داء العيش:

أنا في الدهر حائر كيف ألقي

أي أنس بما به فأطيب

كيف أهنا بالعيش، والعيش عندي

مرض، والممات عندي الطبيب

ولطالما بحث عن همه ليعالجه، فما يرى إلا سحائب من دخان الهم يضيق بها صدره. ومما يزيد في ضيقه أن الناس إذ يريدون أن يخففوا عنه زفرة أو محنة أو لاعة أو نقمة إنما يلفظون بكلمة (أنت واهم) فما تفتح مغلقاً، ولا تأسو جرحاً.

إني لأبحث عن همي فأخطئه

لكن أشم فؤادي وهو يحترق

كأن صدري وما ضمت أضالعه

حصن إليه جيوش الهم تستبق

قالوا وهمت، ونال الوهم بغيته

مني فهل وهموا في القول أم صدقوا

وفي قصيدة أخرى يقول:

قالوا: اصطبر، قلت أن الصبر قد نفذا

فما يف أخوهم إذا اتأدا

قالوا اعتزم، قلت ضاق العزم وانفردت

بي البوائق حتى أوهت الجلدا

ما حيلة المرء إن مال الزمان به

إلا رضى بأسى يفري له الكبدا

أرعى همومي، وترعاني ولا أحد

يحنو علي، فألقى فيه معتمدا

ويتذكر العاصي ليالي أنسه، ويداعب ذكريات عزه، ويتمنى لو تسكت عنه الهموم ويهدأ قلبه المتمرد:

فإن كان في هذا غد طاب لي غد

وإلا فصبري في غد متمرد

فقد سار بي شوطاً بعيداً عن المنى

وما هو للسير الطويل معود

فيل غد لا وافيت إلا بنصرتي

فإن حياتي في يمينك يا غد

ص: 25

وهذا آخر الشوط الذي استسلم عنده الشاعر من شدة الإعياء. وباب الغزل الذي طرقه أحمد العاصي يفضي بنا إلى تيارين أحدهما قبل العاصفة العاطفية التي جمحت به، والآخر وهو يتخبط في دياجير تلك العاصفة. وعلى كل حال فإنه عشق لا لشيء إلا لأن له قلباً كسائر قلوب الناس، وكل ما بينه وبين غيره أنه أحد هؤلاء الذين فشلوا في الحب فكان هذا الفشل ضفثاً على إبالة. فهو يقول:

خبري يا أمة العشق: فتى

زار يوماً ساحة العشق فضل

على أن باب الفخر يتم عن فترو من التجلد سبقت المحنة التي استعصت عليه:

لعمركمو ما في إلا معاند

لدهري صليب الجانبين صؤول

ويمضي في هذه القصيدة معبراً عن حبه الخير وفعله المعروف:

أحب فعال الخير والصدق شيمتي

وفي حكمتي قائد ودليل

وإن رام مني الدهر مالا أوده

رددت جموح الدهر وهو ذلول

ولعل الأبيات التالية تنبئ عن مسلك الشاب الطموح الذي لا يلوي على شيء وهو بسبيل المعالي من الأمور:

وما السير للعلياء إلا لذاذة

لنفس فتى ما حل عقدته الدهر

إذا ما ركبت الليل فالمجد مطلبي

وسيري مد ليس يتبعه جزر

أهم فلا أبقى لدي النفس مطلباً

واصبح والآمال في ساحتي كثر

فأما ملذات النفوس فإنني

أرى أن سعي المرء في أثرها نكر

ويستطرد في هذه القصيدة مستنكراً أن تعوقه عن مطلبه السامي بنت كرمه (تضيق بها في الدهر أخلاقي الزهر) أو أن يهيم بغانية لأن:

لنا عزة من دونها كل مطلب

وهمة نفس ضاق في أمرها الدهر

وليس بنا للناس إلا محبة

وليس بساح القلب من أجلهم غمر

ونسى لهم حتى نقيم ضعيفهم

وننهض من يهوي بعزمته الفقر

وهكذا كل الفضائل الاجتماعية من رد الظالم وإيواء الشريد وبغض اللئيم وحب الناس جميعاً، ونزعة الخير غالية على شاعرنا في فترة اطمئنان نفسه وهدوءه انفعالاته.

ودأبي فعل الخير حتى لو أنني

سئلت لما أدري لمن أنا فاعل

ص: 26

وما بي حب للحياة وإنما

أعيش لتحيا في حماي الفضائل

فهو كهف للخيرات وحمى الفضائل. ويشهد معاصروه من زملائه بما كان له من آراء صائبة عند مناقشة أساتذته، وهو يسجل هذا فيقول:

أدفع القول فلا أبقى فتى

سامعاً لي لم يصر من تبعي

وأرى الحق فلا أتركه

ضائعاً ما بين قوم ضيع

تعرف الأقوام عني أنني

أسمع الأقوام ما لم يسمع

وأغلب الظن أن لهذا البيت الأخير صلة بما وقع بينه وبين أستاذه الدكتور طه حسين بك يوم اعترض أحمد العاصي أثناء إحدى محاضرته، فلم يسمع الأستاذ واستمر يحاضر، فحسب العاصي أن الدكتور يحتقر هو يغضي عنه، فحز ذلك في نفسه وامتلأ غيظاً، فلم تكد تنتهي المحاضرة حتى هب العاصي محتجاً على الدكتور كيف يسأله فلا يجيب، فأخبره بأنه لم يسمعه ولو كان سمعه ما تردد في الجواب في الجواب والنقاش ولا سيما مع أحمد العاصي بما عرف عنه من قوة الحجة، وإجادة الجمال، ومع ذلك أصر العاصي على احتجاجه، والدكتور يخفف عن نفسه ويطيب خاطره على الرغم من خفوت صوت العاصي، ويقول:

أنافي العلم غلام لو ذعي

وإذا ما قلت فالرأي معي

ومن ثنايا الديوان يخرج الشاعر المتمرد المنطوي على نفسه إلى عالم الناس جريئاً قوياً ثبت الجنان حقاً، فيعبر عن آمال مصر في جامعتها، ويحفز الهمم في حماسة الشباب، مفضياً عن محنة هو:

لا يصد المرء عن أغراضه

محنة تزجي إليه أو سقم

ويؤذيه أن يرى ما بين بني قومه من شقاق، فيعتب عليهم في رفق:

تريدون بالشحناء نيل مرادكم

وترجون الاستقلال بالأقوال

ويؤثر أن يختم ديوانه بقصة الموت، وهي تلك الساعة الرهيبة التي يستعجل فيها ملك الموت، مرحبا بة، ويستحثه على الصعود إلى العالم الباقي بروحه ليخلص من الأرجاس الدنيوية والهموم القائمة:

ساعة يؤنسني فيها الملك

هامساً هيا لمن قد أرسلك

ص: 27

قائلاً لا تخش سوءاً يا فتى

هاهو المركب قد هيأت لك

سر حثيثاً لا تمانع إنما

في غدر تثني على من أوصلك

واسع بالروح إلى المولى ولا

تذكر الدنيا فليست منزلك

ثم يمضي: -

هاهي الحدباء قد جهزها

لك من قبلك للموت سلك

فاشدد العزم وهيا لترى

لذة كبرى وتحيا كملك

ثم يتخيل نفسه في وادي الموتى حيث يبعث منه برسالة إلى الأحياء فيقول:

كم أنا رافه هنا بحياتي

وبما عندنا من اللذات

كل ما نشتهيه تحت يدينا

ولنا ما نشاء من طيبات

هذا هو الشاعر العاصي الذي نفث في قيثارته أنفاسه، ووقع على أوتارها نبضات قلبه فجاءت ألحانه صادقة في التعبير عن وجدانه. لم يتكلف الشعر ولم يكن إلا كالسيل يندفع نحو غاية عنيفاً غاية العنف، ثم يمضي بعد ذلك كالجدول المنساب بين فحيح النيران في جوف الظلام.

نعم صدق العاصي في التعبير عن أحاسيسه ومشاعره، وبرع حقاً في اقتناص كل انفعال تردد بين جوانبه، فتصيد له الغنم المناسب، وقيده في شعره الحر الطليق، فواتاه اللفظ، وأسعفه اللحن، ودانت له القافية، فما نبا عن ذوق ولا كباقي خطاه. ولو كان للشاعر المرهف رفيق يفضي إليه بغمرات نفسه، لاستطاع أن يطرح من أثقاله، ويروح من همومه، ولكنه للأسف - كان كالضمآن في بيداء اللانهاية: حرم عطف الصديق، وحنو الشقيق. وأنس الرفيق، وجافاه الحبيب، وانطوت آماله وعكف على اللذات، وفلسف الأحزان كما أراد.

هذه الحياة كانت آفاق الشاعر العاصي وحده، لأنه اعتصرها بعيداً عن الناس واستدار حول نفسه في إطارها من الداخل. غير أنه لم يحفل بالطبيعة في كثير ولا قليل. نعم لقد عطل جميع منافذ إحساسه عن مجال الكون، وما له يرى ويسمع وهو في (كهف أفلاطون) ليس أمامه فيه إلا أشباح الفناء وقد ظنها حقائق تجسمت حتى أخذت تخايله في حياة كلها مظلم صامت. الطبيعة الحسناء، والقاهرة وضواحيها، والفجر والربيع والسماء والماء والجداول

ص: 28

والضفاف، والزهور الحسان. . . لم يكن لهذه التهاويل ظلال في جوانب الشاعر المتمرد، فخلا منها شعره، وكان كدودة القز تغزل خيطها في محبس الظلام حتى يؤذن لروحها أن تهيم كالفراشة في مسبح الضياء.

ومهما يكن من شيء، فتلك شاعرية لها ميزتها التي تكفل لصاحبنا (شخصية) في الشعراء الخالدين، من أوضح عناصرها وأبرز معالمها، ما قاله أمير الشعراء فيه:

ولتعلمن إذا السنون تتابعت

أن التشكي كان قبل أوانه

محمد محمود زيتون

ص: 29

‌صور من الشعر الحديث في العراق

للأستاذ إبراهيم الوائلي

تمهيد

كانت بداية النهاية في كانون الثاني (يناير) من السنة 1256 حين هاجم هولاكو أسوار بغداد ولم يفد معه عرض الصلح الذي تقدم به ابن العلقمي وجاثليق النصارى.

وفي اليوم العاشر من شهر شباط (فبراير) من السنة نفسها استيقظت بغداد فإذا بها أمام تيار عارم لا يقف عند حد ولا يريد أن يقف عند حد. تيار من الوحشية التي تستعذب دماء الناس وتستمرئ لحومهم وإذا بالسيف والنار يقدمان لهذا الجائع موائد من الدماء واللحوم يدوسها بأقدامه ضاحكاً ساخراً. والناس من أهل بغداد وما جاور بغداد حيارى واجمون يعصف بهم الرعب ويجرفهم الخوف وتشتد بهم العاصفة من كل جانب فلم يجدوا من أن يودعوا خليفتهم الذي استسلم وخضع. ومجدهم الذي توارى واحتجب وحريتهم الإسلامية التي انتهكت وأهينت. ولم يجدوا بداً من أن يستقبلوا فاتحاً متغطرساً سفاكاً مستبيحاً، كل ذلك على مضض منهم وكره. واستسلمت بغداد لحد السيف وأسلمت تراثها لألسنة النار وأمواج النهر، تلك تلتهم وهذه تبتلع، وانطوى العصر الذهبي بعظمته فلم يعد التاريخ يسمع غير الهمسات الخفيفة والنأمات العابرة والصدى المبحوح وحتى هذا الصدى أخذ يختنق تحت وطأة العجمة الطاغية والوحشية الحمقاء. ولوحقت اللغة العربية وآدابها في كل مكان وطوردت في كل مرفق تجتث أصولها وتشذب فروعها ويغرس مكانها الجهل والعماية.

وبقيت بغداد وسائر المدن العراقية تغط في نومة طويلة أحقاباً وسنين سماها المؤرخون (الفترة المظلمة) ولم يخطئ المؤرخون في هذه التسمية فقد كانت هذه القرون التي مرت على العراق زاخرة بالجهل والتأخر والانحطاط والانتكاسة العميقة فلا عدل ولا إصلاح ولا أدب ولا دراسة ولا تعليم، الأخيال باهت يلوح بين جدران المساجد والبيوت في الحواضر العراقية، وإلا لمحات قليلة لا تقع من تأريخ الأدب الصحيح على مكان إذا استثنينا العلوم الدينية والتاريخية التي لم تركد كل الركود. بالرغم من ذلك كله فإن اللغة العربية في العراق بقيت تصارع وتكافح وتهدأ حيناً وتثور حيناً آخر، تكافح عدواً عنيداً لا يكتفي بما يبتزه من خيرات ومنافع بل يحاول القضاء على هذا الطابع الذي تتميز به الأمة - وطابع

ص: 30

كل أمة لغتها كما يقولون - وكانت هذه اللغة تدرس وتقرأ ولكن نطاق ضيق محدود، وتجد من يحدب عليها ويرعاها ولكن في مجال غير فسيح؛ فبعد أن كانت بغداد هي مركز العصب الحساس للغة العربية وآدابها أصبحت في هاوية بعيدة الغور في غفوة الزمن، وبعد أن كانت البصرة في مربدها والكوفة في منبرها تنتجان وتتباريان أخلدتا إلى السكون والدعة، ولم يعد التاريخ يسجل للعربية علماً وأدباً إلا قليل مما تنتجه بعض المدن كالحلة والنجف والموصل وكان هذا الإنتاج بين تأليف لا عمق فيه ولا دقة، وشعر لا عاطفة فيه ولا تصوير، ونثر تشمئز اللغة من تراكيبه وأسلوبه. يجرف ذلك كله تيار من التقليد والمحاكاة. تقرأ للشاعر فلا تقع عينيك في ألفاظه إلا على الطلول والدمن، ولا تهيم معه إلا في حاجر وذي سلم؛ وهو بعيد عن ذلك في بيئته وحياته الاجتماعية. وتتطلب معانيه فلا تجد إلا وهي باهتة خابية لا حياة فيها ولا حركة ما عدا شعراء قليلين كان لهم نصيب من الشعر الجيد.

حتى إذا جاء القرنان الثاني عشر والثالث عشر للهجرة أخذ الشعر يتمطى بعد غفوة ويصحو بعد رقدة، لم يستطع أن يزيل عن جسمه غبار السفر البعيد أو يتخلص من بقايا التعب فلم يسلم من تبعات التصنع والتقليد. ومن أشهر شعراء هذه الحقبة كاظم الأزري ثم العمري والأخرس وحيدر وجعفر الحليان، والسيد الحبوبي وغيرهم كالشيخ جواد الشبيبي والشيخ جعفر الشرقي. وكان هذا العصر إيذاناً بعصر جديد وبنهضة شعرية جديدة نشط فيها الشعر وتحلل من القيود الصناعية والزخرف اللفظي، وانطلق من عقال التقليد في أغراضه ومواضيعه وفي أخيلته ومعانيه فواكب السياسة في أدوارها المختلفة وساير المجتمع في تطوره ودعا إلى الإصلاح والتحرر ومقاومة الاستعمار.

هذه النهضة الشعرية المباركة تلتقي عندها عوامل عدة وتقف إلى جانبها أسباب كثيرة، منها ما هو داخلي يعود إلى البيئة والطبيعة والثقافة المحلية، ومنها ما هو خارجي يعود إلى الاستعمار الذي خيم على العراق فحرك نفوس الشعراء، وإلى النهضات العلمية التي بدأت تنمو في مصر وسوريا، والصحافة العربية في هذه البلدان بما كانت تنقله من وعي وتبثه من علم وأدب.

فالبيئة العراقية حساسة ثائرة، والطبيعة متقلبة متحولة: شتاء قاس، وصيف شديد، وربيع

ص: 31

معتدل قصير العمر، وخريف عام كثير الرياح والزوابع، وأنهار تكاد تجف في الصيف وتطغى في الشتاء والربيع، وصحار خاوية لا نبت فيها ولا ماء، ومروج خضر تمتد بامتداد البصر. هذه الطبيعة بألوانها وصورها وخيرها وشرها معرض يطوف الشاعر في أرجائه فيتأثر وينفعل ثم يغني انفعالاته قصائد تحكي هذه الطبيعة وتصور انقباضها وانبساطها وسكونها وثورتها وكل ما فيها من مختلف ومتشابه.

وأما الثقافة المحلية فقد كانت في حدود الدين واللغة العربية في كتبها الصفر وفي بقايا التراث العباسي يستقي من مخطوط قديم أو من مطبوع جاءت به المطابع الهندية والإيرانية وندت به المطابع التركية إلى جانب ما تنتجه المطابع السورية والمصرية والعراقية في ذلك العهد ولا شك أن هذا الإنتاج كان محدوداً قليلاً، لذلك كانت الثقافة العراقية في أواخر القرن التاسع عشر لا تتجاوز الأفراد متفرقين في بغداد والحلة والنجف والموصل؛ حتى إذا أخذت الطباعة تنتشر والمطبوعات تتيسر أخذ الأدباء العراقيون يتسابقون إلى اقتناء الكتب العربية الدسمة واستيعابها والإفادة منها فتجاوز الأدباء حدود الأفراد وكثر الشعراء على ضفاف الرافدين، وكانت الذهنية العراقية تدفع الشاعر والأديب إلى التمحيص والاختيار فلا يقرأ الغث ولا يحفل بالرديء. هذا إذا كان الشاعر موهوباً قد هيأته الطبيعة وكونت فيه عنصر الشاعر تكويناً سليماً، لذلك كان الشعر العراقي فيما مر من القرن العشرين صافياً مشرق الألفاظ مركز الأداء إلى جانب معانيه الدقيقة وأخيلته السامية.

والاستعمار الخارجي كان يتمثل آنذاك في سلاطين العثمان وولاتهم ضباطهم وجنودهم يحكمون دنيا العراق السخية ويبتزون خيراتها ويفرضون أتاوتهم على كل إنسان بالقوة والسوط ويجندون أبناء العراق لحروبهم ومعاركهم، ومن يقعد عن الجندية يدفع البدل المرهق الذي تفرضه السلطات كما تريد، وتذهب هذه الخيرات إلى ليالي البسفور والدردنيل وإلى قصر يلدز وغيره. ويبقى العراق رازحاً تحت وطأة البؤس والفاقة والأمراض والطواعين. وكان من جراء ذلك أن انتشرت الرشوة وكثرت الإقطاعات بأيدي نفر من الزعماء يماثلون الولاة والحكام لتسلم لهم إقطاعاتهم ونفوذهم. هذه الصور والألوان يستعرضها الشاعر العراقي كل يوم فيتأثر وينفعل ويثور ويردد ثورته في قصائد يقذف بها

ص: 32

كالحمم الملتهبة.

وأما الصحافة - ونعني بها الصحافة التركية والعربية في مصر وسوريا - فقد كانت ذات نصيب كبير في إيقاظ الشعر العراقي ونهضته بما تحمله من العالم الخارجي وبما تتحدث عنه من تقدم ووعي في الأمم الأخرى وفي الشعوب العربية كمصر وسوريا؛ ففي مصر كانت النهضة قد نشرت أجنحتها وتناولت معظم المرافق والحقول، وفي سوريا كان الوعي القومي قد رسخت قواعده وتزكت مبادئه نتيجة لاحتكاك العقلية السورية بالنتاج الفكري الغربي وكان الأدباء العراقيون على صلة بهذه التيارات يتبعونها ويتطلعون إليها ويقرؤون ما يصل إليهم باستيعاب ورغبة فيحسون نهضة العالم ويشعرون بما في البلاد العربية من يقظة وتوثب، ويتألمون لما في العراق من تأخر وتخلف، وليس العراق بأقل من غيره قابلية للنهوض والتقدم فلا يلبثون حتى يرددوا ألمهم أناشيد هنا وهناك فيرن صداها قبولاً واستحساناً في دنيا العراق، وصخطاً وحنقاً في قصور المستعمرين وكان لابد من هذه الأناشيد من منابر تذيعها على الملأ وهذه المنابر هي بعض الصحف التي في العراق، ولكنها كانت تضيق في معظم الأحيان عن نشر هذه الصرخات المدوية حذراً من الولاة والحكام، وما تضيق عنه هذه الصحف تتناقله صحف مصر وسوريا آنذاك فيذيع في الأقطار العربية ومنها العراق.

بهذه العوامل وغيرها اندفع الشعر العراقي إلى مواكبة العصر الحديث وتصوير الآم المجتمع والدفاع عن حرية العراق والبلاد العربية عامة.

بعد التمهيد الذي قدمناه نحب أن ندرس ثلاثة من شعراء العراق في العصر الحديث هم الكاظمي والزهاوي والرصافي ندرسهم في مجال الشعر السياسي فقط، وفي عهد الاستبداد الحميدي وبعد إعلان الدستور فحسب؛ ثم نشير إلى مواقفهم الإيجابية من العثمانيين والظروف التي دعت إلى ذلك. وقبل أن تحدث عن هؤلاء الشعراء نحب أن نشير بإيجاز إلى تاريخ الدستور العثماني.

لعل الرجل الوحيد الذي شغلته فكرة الدستور وناضل من أجلها هو مدحت باشا الذي نفاه عبد الحميد إلى الطائف من الحجاز وسجن هناك ثم اغتيل في العاشر من نيسان، (أبريل سنة1883 م) وكان مدحت ثمرة طيبة ندت بها تلك الشجرة المرة فاشتغل بالسياسة وتقلد

ص: 33

مناصب كباراً في أوربا وسوريا والعراق وقد ساءت أن يرى الجهاز الحكومي في تركيا يسير على غير انتظام، والولايات التابعة للحكومة العثمانية ترسف في أغلال العبودية والذل وتدفع الإتاوات لحكام جائرين، ففكر أن يضع حداً لهذا الاستبداد. كان ذلك أيام حكم السلطان عبد العزيز، والصدر الأعظم محمود نديم، وشيخ الإسلام حسن فهمي. وكل واحد من هؤلاء لا يبالي من أين جاء المال وبأي وسيلة يجمعه. في مظاهرة كبرى قام بها مدحت على رأس جمهور كبير هتف المتظاهرون بسقوط الصدر الأعظم وشيخ الإسلام فلاذا بالفرار. وطلب المتظاهرون إسناد الصدارة إلى مدحت فاكتفى السلطان بتعيينه وزيراً بلا وزارة، ولكن المفكرين وعلى رأسهم مدحت لم يكتفوا بذلك فألحوا بوضع الدستور الأمر الذي نتج عنه عزل السلطان عبد العزيز ومبايعة ابن أخيه السلطان مراد سنة 1876 م. وفي هذه السنة انتحر عبد العزيز وجن مراد وانهارت قواه العقلية بعد اعتقال طويل وتألم مدحت لهذا الحادث فاتصل بعبد الحميد ولي العهد فوعده بالغيرة على الدستور - إن ولي السلطة - وبالتنازل عن العرش إن استعاد مراد قواه العقلية، واسند الملك إلى عبد الحميد. غير أنه بعد أيام قليلة بيت الغدر لمدحت ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئاً بسبب الحوادث التي جدت في أوربا التي اضطرته إلى استشارة مدحت في أمر الدستور. وفي 24 أيلول (سبتمبر) سنة 1876 م تألفت لجنة من الوزراء والعلماء والقادة فقررت تأليف مجلس للشيوخ وآخر للنواب وشرع تدرس مواد الدستور وأسندت الصدارة العظمى إلى مدحت في 19 تشرين الأول (أكتوبر) من السنة نفسها وقبل هذه التعيين باغتباط عظيم في تركيا والبلاد الخاضعة للنفوذ العثماني لما كانت تنتظره من إصلاح على يد مدحت؛ ولكن عبد الحميد أخذ يضع المصاعب في طريق مدحت ويسوف بإعلان الدستور فلم يكن من مدحت إلى أن هدد بالاستقالة قائلاً في خطاب له:

(إننا لم نخلع السلطان عبد العزيز إلا طمعاً في الوصول إلى هذه الغاية المقدسة) ومن ثم اضطر عبد الحميد إلى إعلان الدستور وأصدر إرادته بهذا في يوم 12 من كانون الثاني (يناير) سنة 1877 فأطلقت المدافع ابتهاجاً بهذا الحادث العظيم وأعلن الشعب فرحه وسروره لأن الأمة أصبحت مصدر الحكم ولها الحق في ممارسة شؤونها الداخلية والخارجية. وأخذ مدحت يعمل على تنفيذ مواد الدستور ويسترضي جميع الطوائف

ص: 34

والطبقات؛ ولكن عبد الحميد أحس بخطر مدحت، وفجأة أمر بنفيه إلى أوربا بتهمة الخيانة العظمى وكان إذ ذاك في حدود الخامسة والخمسين فثار الأحرار والمفكرون لهذا المآل وكثرت المظاهرات احتجاجاً على مصير مدحت فلم يطل مكثه في أوربا وأعيد إلى الشرق والياً على سوريا بينما كان عبد الحميد ينكل باتباع مدحت ويبعد عن الأستانة كل من شارك في أعمال الدستور. وكثرت الاضطرابات حتى وقعت الدولة التركية بين مطامع الإنكليز والروس وانتشر المبشرون الأوربيون في الساحل السوري وفي فلسطين. وثار مجلس النواب مطالباً بمحاكمة محمود نديم الصدر الأعظم فغضب عبد الحميد وأصدر أمره بحل المجلس النيابي وإلغاء الدستور وذلك في 13 شباط (فبراير) سنة 1788م ثم أرغم على إعادته سنة 1908م وفي فترة الثلاثين سنة بين الإلغاء والإعادة كان عبد الحميد يتربع على قمة الاستبداد فنفي كل وطني غيور، وقضي على كل ضمير حر، ولم يبقى معه إلا شرذمة من خشارة الأدنياء والمنافقين يتقلبون في المناصب بينما كانت الأمة تتدهور حالتها والبلاد العربية وبخاصة العراق - تقاسي كل ألوان الفقر. وانعدمت الحرية في كل مكان وكثر الأرصاد والجواسيس يتعقبون كل جمعية ويتابعون كل قافلة، وغصت السجون بالأبرياء وضرب نطاق من حديد على المطبوعات والصحافة والبريد.

وأخيراً أستدعي مدحت إلى المحاكمة وحوصر قصره بأزمير فسلم نفسه إلى السلطات وحوكم في قصر (يلدز) بتهمة اغتيال عبد العزيز ولم يجده الدفاع عن نفسه فنفي مكبلاً بالحديد إلى الحجاز وسجن في الطائف مع رفاقه وفي اليوم العاشر من شهر نيسان (أبريل) سنة 1883م لقي حتفه مسموماً ودفن في الطائف وبعد دفنه أمر عبد الحميد بإحضار رأسه للتأكد من موته وكان الأمر كما أراد.

هذه الفترة العصيبة التي اشتهرت بعبد الحميد كانت مثار قلق وتذمر في البلاد العربية وكان العراق يعمل دائباً للتخلص منها والثورة على الاستبداد وكان في طليعة الثائرين أكابر الشعراء وفي طليعة هؤلاء الشعراء: الكاظمي والزهاوي والرصافي حتى انتهى الاستبداد وعاد الدستور فرحب به الشعراء مشاركين إخوانهم من الأحرار، وبعد هذا فماذا نحن واجدون في شعر هؤلاء الثلاثة حيال هذه الفترة وما بعدها؟ ذلك ما سندرسه في دواوينهم التي بين أيدينا.

ص: 35

(يتبع)

إبراهيم الوائلي

ص: 36

‌حول حديث أهل القليب

إلى الأستاذ محمد أبو رية

للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي

قال ابن عمر: اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له: تدعوا أمواتاً؟ فقال (ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون).

وعن عائشة، قالت: إنما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقول حق) وقد الله إنك لا تسمع الموتى.

انتهى ما أورده الإمام البخاري في صحيحه في 23 - كتاب الجنائز - 87 - باب ما جاء في عذاب القبر. وقال أستاذ الدنيا في علم الحديث (الحافظ ابن حجر العسقلاني) في كتابه قاموس السنة المحيط (فتح الباري) ما نصه:

هذا مصير من عائشة إلى رد رواية ابن عمر المذكورة. (وقد خالفها الجمهور في ذلك، وقبلوا رواية ابن عمر، لموافقة من رواه غيره عليه) وأما استدلالها بقوله تعالى - إنك لا تسمع الموتى - فقالوا: معناها لا تسمعهم سماعاً ينفعهم، أو لا تسمعهم إلا أن يشاء الله. وقال السهيلي:(عائشة لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد قالوا له: يل رسول الله! أتخاطب قوماً قد جيفوا؟ (فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم). قال وأما الآية فإنه كقوله تعالى - أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي - أي أن الله هو الذي يسمع ويهدي.

وبعد كلام طويل في كيفية عذاب القبر قال:

(تنبيه) وجه إدخال حديث ابن عمر وما عارضه من حديث عائشة في ترجمة عذاب القبر أنه لما ثبت من سماع أهل القليب كلامه وتوبيخه لهم، دل إدراكهم الكلام بحاسة السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس، بل الذات، إذ الجامع بينهما وبين بقية الأحاديث أن المصنف أشار إلى طريق من طرق الجمع بين حديثي ابن عمر وعائشة، بحمل حديث ابن عمر على أن مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسئلة، وحينئذ كانت الروح قد أعيد إلى الجسد. وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسئول يعذب. وأما إنكار عائشة فمحمول على غير وقت المسألة. فيتفق الخبران. أهو قول الحافظ.

ص: 37

أقول؛ وهذا الحديث لم ينفرد به ابن عمر، بل جاء في صحيح الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال، وكنت رجلاً حديد البصر، فرأيته، وليس أحد تزعم أنه رآه غيري. قال: فجعلت أقول لعمر أما تراه؟ فجعل لا يراه. قال: يقول عمر سأراه وأنا مستلق على فراشي. ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس. يقول هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله. قال: فقال عمر فو الذي بعثه بالحق، ما أخطئوا الحدود التي حد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجعلوا في بئر بعضهم على بعض. فأنطلق رسول الله عليه وآله وسلم حتى انتهى إليهم فقال (يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ قال عمر: يا رسول الله! كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ قال (ما انتم بأسمع لما أقول منهم، غير انهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئاً)

وجاء في صحيح مسلم أيضاً عن انس بن مالك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك قتلى بدر ثلاثاً، ثم أتاهم، فقام عليهم، فناداهم، فقال:(يا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني قد وجدتم ما وعدني ربكم حقاً) فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقال: يا رسول الله! كيف يسمعوا (كذا) وإني يجيبوا (كذا) وقد جيفوا؟ قال (والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما قول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا قليب بدر.

قال الحافظ في الفتح: ولم ينفرد عمر ولا ابنه بحكاية ذلك، بل وافقهما أبو طلحة. وللطبراني في حديث بن مسعود مثله بإسناد صحيح. ومن حديث عبد الله بن سيدان نحوه، وفيه قالوا يا رسول الله! وهل يسمعون؟ قال:(يسمعون كما تسمعون ولكن لا يجيبون). وفي حديث ابن مسعود (ولكنهم اليوم لا يجيبون).

ومن الغريب إن في المغازي لأبن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد عن عائشة مثل حديث أبى طلحة. وفيه (ما انتم بأسمع لما أقول منهم) وأخرجه أحمد بإسناد حسن. فكأنها رجعت عن الإنكار لنا تبث عندها من رواية هؤلاء الصحابة لكونها لم تشهد القصة.

وهذا الذي دعا معالي الدكتور طه حسين بك أن يدع رواية عائشة ويأخذ برواية هؤلاء

ص: 38

الصحابة في كتابه (الوعد الحق) وهو القول الحق الذي وهاهو الأستاذ محمود أبو رية في عدد الرسالة رقم 865 بغير حق والسلام.

محمد فؤاد عبد الباقي

ص: 39

‌عدو الشعب الجاشنكير

للأستاذ عطية الشيخ

علية

ما احسن قول المنفلوطي في المصلحين: (إنهم أنصار الخير والشر أنصار اشد منهم قوة، واكثر عدة عدداً، وهم دائماً هدف لغضب الملوك، لأنهم يثيرون ثائرة الشعوب عليهم؛ وغضب النبلاء لأنهم يحتقرون نبلهم؛ ويزدرون مجدهم وعظمتهم؛ وغضب الكهنة، لأنهم ينمون عليهم رياءهم وكذبهم؛ وغضب العامة؛ لأنهم يصادرون أهوائهم وشهواتهم، أي أن العالم كله حرب عليهم من أدناه إلى أقضاهن وقلما تنتهي حياتهم إلا بمثل ما انتهت به سقراط الحكيم وهومير الشاعر وأفلاطون الفيلسوف من قتل أو صلب أو حبس أو تشريد، ولا ذنب لهم إلا انهم احبوا البشر، وعطفوا عليه، وتألموا لألمه، وبكوا لبكائه. . .)

أقول هذا وأنا أتذكر مأساة بيبرس الجاشنكير، ذلك الملك الذي يقول فيه المؤرخون:(كان ثابتاً كثير السكون والوقار، جميل الصفات، ندب إلى المهمات مراراً عديدة، وتكلم في أمر الدولة مدة سنين، وحسنت سيرته، وكان يرجع إلى دين وخير ومعروف، وله أوقاف إلى وجوه البر والصدقة) ولا تزال بعض المدارس والآثار في القاهرة تحمل اسمه إلى اليوم، واصله من مماليك المنصور قلاوون، ثم صار في أيامه من أعيان الأمراء، وترقى بعده حتى صار أمير القاهرة ثم استدارا، وقد أشار باستدعاء الناصر بن قلاوون للسلطنة بعد قتل الملك المنصور لاجين، فكافأه المنصور بأن اقره استدارا على عادته، فأتفق مع نائب السلطنة سلار، وأخذا في تدبير الملك بهمة ونشاط كفيلين للملكة، وكان بيبرس مخلصاً جداً للملك الناصر، وفاء لأبيه الملك المنصور قلاوون الذي كان أستاذه وسيدهن ولكن بطانة السوء، أوغرت قلبه عليه حسداً وبغضاء ولم تكتف بإثارة الملك حتى أثارت الشعب

وليت شعري لم يولع اللثام بمحاربة الكرام ويحسدونهم، ويتربصون بهم الدوائر، ويقعدون لهم كل مرصد ولا يتركون فرصة إلا افترضوها، ولا فرية إلا دبجوها، ولا نار فتنة إلا اشعلوها، ويا ليت شعري لم يحتضن الرؤساء دائماً الأخساء الدساسين، يقربونهم، ويرفعون شأنهم؟ أما يعلمون أن الضعيف لا يكون مخلصاً ابداً، والذي خبث لا يخرج إلا نكداً؟ ومن العجيب إن اكثر الحكم والأقاصيص قليت في الوقيعة والنميمة والوشاية والدس، ولكن كم

ص: 40

آذان لا تسمع، وقلوب لا تتعظ وليس كابن آدم يلدغ من الجحر سبعين مرة لا مرتين.

في سنة 700 هـ وصل إلى القاهرة وزير ملك المغرب في طريقه إلى الحج، واجتمع بالسلطان الناصر وبالأمير بيبرس الجاشنكير وبالأمير سالار نائب السلطنة، فأكرموه وأنعموا عليه وعظموه غاية التعظيم. وفي بعض الأيام جلس الوزير المغربي بباب القلعة مع بيبرس، وحضر بعض كتاب النصارى، فتوهم المغربي بباب القلعة مع بيبرس، وحضر بعض كتاب النصارى، فتوهم المغربي بأنه مسلم، فقام إليه مسلماً معظماً، ولما علم أنه نصراني قامت قيامته وهاج هائجه، ودخل على السلطان مع بيبرس وتحدث في أمر اليهود والنصارى، وانهم في بلاد المغرب غاية الذل والهوان (لا يركبون الخيل، ولا يستخدمون في الدولة) أنكر على المصريين سماحهم للنصارى واليهود بلبس الثياب الفاخرة، ركوب الخيل، واستخدامهم في أكبر المناصب وتحكيمهم في رقاب المسلمين. واكثر من الكرم في هذا الباب، وذكر أن عهد ذمتهم قد انتهى سنة 600 هـ، وقد أثر كلامه في السلطان والأمراء ولكن لم يأخذ أحد على عاتقه تنفيذ ما أشار به المغربي إلا بيبرس، لانه كان أكثرهم تديناً، فجمع النصارى واليهود، أعلنهم انهم لن يستخدموا في الجهات السلطانية، ولا عند الامراء، وكلفهم باختيار عمائم تخالف عمائم المسلمين، فلبس النصارى عمائم زرقاء، ويشدون زنانيرهم في أوساطهم، ويلبس اليهود عمائم صفراء وحدد بالتنفيذ (22 رجب سنة 700 هـ) للظهور بزيهم الجديد. وقد عرضوا على بيبرس (الأموال الكثيرة الخارجة عن الحد ليعفوا من ذلك فلم يقبل) فنفذوا الأمر في الميعاد مرغمين، في جميع بلاد المملكة من دنقلة إلى الفرات، والى هذا الحادث يشير الوداعي بقوله:

لقد ألزموا الكفار شاشات ذله

تزيدهم من لعنة الله تشويشا

فقلت لهم ما ألبسوكم عمائم

ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا

ويقول شمس الدين الطيبي:

تعجبوا للنصارى واليهود معاً

والسامريين لما عمموا خرقا

كأنما بات بالأصباغ منسهلاً

نسر السمار فأضحى فوقهم ذرقا

سرت في الشعب موجة حماس ديني، واجب السلطان بحمية الجاشنكير وأنعم عليه بدخل

ص: 41

الإسكندرية مدة مقامه فيها للرياضة والنزهة، وأراد بيبرس إن يتخذ يداً أخرى عند المسلمين فأمر في 702 بأبطال عيد الشهيد بمصر، وكان عند النصارى تابوت فيه إصبع، يزعمون أنه من أصابع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه هذا التابوت؛ فكان النصارى يجتمعون من سائر النواحي إلى شبرا في 8 بشنس من كل سنة قبطية، ويحتفلون بهذا العيد (وكانت تثور فيه فتن وتقتل خلائق) وترتكب موبقات، وتستباح الحرمات، ويكثر اللهو والفجور، حتى قيل أن تاجراً واحداً باع خمراً في هذا العيد باثني عشر ألف درهماً. وقد شق أبطال هذا العيد على النصارى، وظاهرهم الأقباط اللذين اظهروا الإسلام وذهبوا إلى بيبرس وعرضوا عليه أموالا كثيرا، وخوفوه من عدم طلوع النيل، فلم يلتفت لكلامهم، وابطل هذا العيد إلى يومنا هذا.

في سنة 703 وصل إلى دمشق رجل من بلاد التتار يقال له الشيخ براق روي عنه حوادث خارقة للعادة، ومعه نحو مائة فقير لهم هيئة عجيبة، وعلى رأسهم قلانس لباد مقصوص فوقها عمائم، فيها قرون من لباد تشبه قرون الجواميس وأجراس، ولحاهم محلقة، وشواربهم مرسلة، ولبسهم لبابيد بيض، وقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب البقر، وكل منهم مكسور الثنية العليا، وشيخهم جريء مقدام قوي النفس له محتسب يؤدب كل من يترك شيئا من سنته. وكان غازان ملك التتار يحترمه ويجله، ولكن بيبرس رأى في سنة الرجل مخالفة لسنة الإسلام، فطلب من السلطان منعه من الديار المصرية فرجع إلى بلاده وفيه يقول سراج الدين الوراق:

جتنا عجم من جو الروم

صور تحير فيها الأفكار

لها قرون مثل الثيران

إبليس يصيح فيهم زنهار

كان قد وقع بالقاهرة زلزال عظيم سنة 702 دمر كثيراً من المساجد والمدارس فاخذ بيبرس يصلح ما تهدم ويجدد ما تقوض، ولم يكد ينتهي من إصلاح ما أفسده الزلزال حتى بدأ في سنة 706 ينشئ الخانقاه الركنية، التي لا تزال إلى اليوم بشارع الجمالية بالقاهرة، وتعرف باسم شارع بيبرس، وقد ذكرها المقريزي في خططه (ص 416 ج 2) فقال: (هي أجل خانقاه بالقاهرة بنياناً، وأوسعها مقداراً، وأتقنها صنعة (وقرر بها 400 صوفي وبنى بجانبها رباطاً كبيراً لمائة جندي مرابط ولمن أخنى عليه الدهر من كرام الناس، وبنى في الجانب

ص: 42

الآخر من الخانقاه قبة لقبره، رتب فيها درسا للحديث النبوي، وجهز الخانقاه بمطبخ يعد طعاماً للنازلين (من الخبز واللحم والحلوى كل يوم (وقد تم بناؤها سنة 709 هـ

كان الجاشنكير حي الضمير، متأجج العاطفة الدينية راسخ العقيدة، شديد الخوف من الله، لذلك كان يدقق تدقيقاً عمرياً في مصرف كل درهم من دراهم بيت المال، حتى كان يحاسب السلطان نفسه على كل شيء، ويمنع عن القصور السلطانية ما يرى فيه إسرافا وتبذيراً، وكان من الممكن أن يرضى السلطان بهذا لعله إن الدافع إليه شريف، وإن القائم به من أخلص إليه، وهو الذي استدعاه إلى كرسي الملك، ولا يزيد عن كونه مملوك أبيه، وأن الأمين على مال الدولة إذا عفت يده وطهرت سرت الطهارة في جميع مرافق الدولة ودواوين الحكومة، وامتلأت الخزائن وزكت النفوس، وثبتت دعائم الدولة، وخمدت بواعث الفتن، وفشا الرخاء في الأمة وأمكن الإصلاح، وكل أولئك من عومل تثبيت الملك، وصيانة العرش، واتساع العمران في الدولة.

لكن هل يهم ذلك في شيء بطانة السوء التي تظهر للسلطان ما يحب، وتضمر ما يكره، وتريد أن تشبع ولو جاع الشعب، وتملأ خزائنها ولو خوي بيت المال، ولا تعيش إلا إذا أبعدت السلطان عن شعبه والمخلصين له، ونشرت جواً من الإرهاب يشغل كل امرئ عن نفسه، وقد اتفقت بطانة السوء عند الناصر، والحاسدون بيبرس الجاشنكير على ما وصل إليه عند الشعب من مركز ممتاز، ومكانة عالية، ومقام رفيع، والمرتزقة الذين يلتقطون الفتات، ويتصيدون الفضلات ويعيشون عيالاً على مال الأمة، واللصوص والمرتشون الذين قطعت أمانة الجاشنكير أرزاقهم، وخربت بيوتهم، فإما الكسب الحلال، وإما الجوع والفقر المدقع - اتفق هؤلاء جميعاً على إقصاء بيبرس والكيد له، وأخذوا يقلبون الأمور للسلطان، وينتجعون مراتع الباطل، ويبتغون الفتنة، ويشيمون بروق المكائد، وساعدهم على تحقيق بغيهم صر سن السلطان، وقلة تجاربه، فبدأ قلبه يتغير على بيبرس أكبر المخلصين له، والحافظين لدولته، والمتفانين في خدمته. وما أشد الحقد إذا غرس في الصغر واخذ ينمو ويترعرع مع الكبر.

كان بيبرس وسالار كفيلي المملكة والقائمين بأمرها، وقد أعانهما على حسن التفاهم في العمل أخوه في الخدمة وزمالة في ساحات الجهاد، ومحبة من طول الصحبة، ورأت البطانة

ص: 43

أن أول واجب عليها للوصول إلى مآربها. إفساد ما بين الكفيلين، وضرب كل منهما بصاحبه، فسولت لها نفسها أن توقع بين سفيه من اتباع أحدهما وسفيه من أتباع الآخر، حتى يجر كل صاحبه إلى المخاصمة، وهي حيلة شيطانية لا يتقنها إلا من تربى في أغطان الفتن، وقد نجحت المؤامرة في شخصي الطشلاقي على البرواني أمام باب القلعة في حضور الأمراء؛ فشكا البرواني إلى بيبرس فأستدعى الطشلاقي ليعاتبهن فأساء في الرد وأفحش في القول، فأستل بيبرس سيفه ليضربه به ولكن الأمراء تكاثروا عليه ومنعوه منه، فأمر بيبرس بنفيه إلى دمشق، وأخذ سالار يرجوه في الإبقاء على حليفه، وبيبرس يأبى ويمدد مساوئه، وأثيرت المسألة في حضرة السلطان فأراد استغلالها لإثارة الفتنة بينهما، ولكنه لم يفلح، لأن سلار التزم الصمت وكان فيه دهاء وذكاء وحسن تدبير، فعلم أن وقوع الخلف بينهما، يجعل بنهايتهما، لأن الملك بدأت تظهر فيه رغبة جامحة للاستئثار بالملك والاستبداد به، وكان ذلك بدافع من خاصته وإشارة من بطانته لحاجة في أنفسهم.

وفي سنة 707 جمع الملك بعض خاصته وعلى رأسهم بكتمر ويلبغا وأيدمر، وأمر بتدبير مؤامرة لاغتيال بيبرس وصديقه سالار، واتفق الجميع على تنفيذها، بعد إغلاق أبواب القلعة على البرجية وكلهم صنائع بيبرس، وبلغ الخبر سلار وزميله، فأمرا بأن يرد أبوابها، ويطرقها دون أن يغلق أقفالها، ويمر بالمفاتيح على السلطان كالعادة، ليظن إنها أغلقت، ففعل ذلك، ثم استدعى بيبرس بكتمر زعيم المتآمرين وأطلعه على ما بلغه فسقط في يده وتبرأ منه من المشاركة في ذلك ونست المؤامرة إلى السلطان، وحلف له أنه سيكون معه عليه، ولم يبارح منزله حتى لا يشك، وانتظر السلطان ومن معه حضور بكتمر لتنفيذ المؤامرة فلم يحضر، فبعث في إحضاره فوجده في بيت الجاشنكير فعلم أنه غدر به وأفشى سره، وتوقع المكروه من بيبرس وسلار، فأرسل بعض البطانة تستنجد بالشعب لينقذه مما وقع فيه) فلم تفتح الأسواق وخرج العامة والأجناد إلى تحت القلعة، وأرسل بيبرس بعض الأمراء ليحولوا بين الملك وبين النزول من القلعة والاتصال بالعامة. وضاق الملك ذرعاً بموقفه فأرسل إلى بيبرس) إن كان غرضكم في الملك فما أنا متطلع إليه فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم) فرد عليه بيبرس (أن السبب هو من عند السلطان ومن المماليك الذين يحرضونه) وأخذت الرسل تغدو وتروح بين السلطان وبيبرس بمثل هذه المعاني.

ص: 44

(يتبع)

ص: 45

‌رسالة الشعر

ضراعات!

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

يا صبح تزهو بنور من محياها

ويا نسيم الصبا تهفو برباها

كلاكما نال منها وهي هانئة

ما يبتغيه، ولم أنعم بجدواها!

لم تعطني من نعيم الحب أيسره

إن اليسير كثير من عطاياها

ما بالها منعتني ما أؤمله

وما أؤمل شيئاً غير لقياها؟

وكيف ضنت على نفسي ببلسمها

من دائها، وهي تدري سر بلواها؟

وكيف نادى بها قلبي لترحمه

فما استجابت لقلبي حين ناداها؟

فقلت للقلب ينسى أنها ظلمت

فما عصاني؛ لأن القلب يهواها

وكيف أرسل شكوى الروح في نغم

يدمي القلوب ولا تصغي لشكواها؟

يا ليتها حين حينما ضنت على زمني

بقربها، علمتني كيف أنساها!

وليتها تركت في القلب متسعاً

لغيرها، عله يهوى فيسلاها

يا من أحن إليها وهي نائية

ومن ترفرف روحي حول مغناها

يا من على الورد تقضي الليل نائمة

ويسهر الليل فوق الشوك مضناها

ومن بعثت أغاريدي مولهة

بحبها، فهداها الحب مسراها

ومن سكبت لها قلبي لتبصره

دمعاً، فتعرف سر الدمع عيناها

ومن جعلت حياتي كلها نغماً

من أجلها، فبكاني حين وافها

رحماك! ما أنا إلا نسمة خطرت

على صباك، وحيته فحياها

رحماك! ما أنا إلا همسة عبرت

إلى هواك، وناجته فناجاها

رحماك! ما أنا إلا حيرة نظرت

إلى سناك، ونادته فغشاها

قضى الزمان على روحي بغربتها

عن مهد حبي فأبكاني وأبكاها

هل تذكرين زماناً في الهوى ذهبت

أيامه كالرؤى؟ آها لها آها!

إذ تبعثين بنجوى الروح باكية

فيهجس القلب إذ يصغي لنجواها

وما التقينا سوى روحين رفرفتا

على رسائل حب قد بعثناها

ص: 46

تذكري كلمات في رسائلنا

يمضي الزمان، ولا يمضي بمعناها

تذكري كم سهرنا الليل نكتبها

ونسكب القلب دمعاً في ثناياها

حتى إذ انتهينا من قراءتها

عدنا إليها كأنا ما قرأناها

تلك الرسائل ما زالت تؤرقني

لأنها سر ليلات سهرناها

تلك الرسائل ما زالت تعذبني

لأنها وحي أيام أضعناها

أضعتها، أنت! لكني وهبت لها

قلبي ليحفظ في الأعماق ذكراها

أضعتها، فتركت الروح ضائعة

تبكي، وقد فقدت في الحب مأواها

هلا تذكرت عهداً كنت أحسبه

يبقى، فكان كأوهام بنيناها

أقسمت أنك لا تنسينني أبداً

واليوم أسأل: من يا قلب أنساها؟

أواه منك ومن حب وهبت له

أيام عمري، فأضناني وأضناها!

هواك يا جنتي نار مولهة

تمشي على كبدي، أو في حناياها

هواك فاضت به نفسي فرحها

والكأس تهتز إن فاضت حمياها

هواك يا أخت روحي حين أسعدها

غنت، وناحت لديه حين أشقاها

وما على النفس من لوم إذا صرخت

لما استقر بها سهم فأدماها!

هواك جمل أشعاري وحبها

إلى قلوب ترى الأشعار دنياها

فكل قلب شقي الحب ناح بها

وكل قلب سعيد الحب غناها

لولا الهوى ماتت الأشعار في خلدي

ولم أكن لأذوق الحب لولاها

مهما صنعت فلن أنسى الهوى أبداً

فالحب أمنية قلبي تمناها

إذا رعيت حياتي فهي يانعة

على يديك، وعين الحب ترعاها

وإن أبيت، فآهاً كلما صرخت:

ما كان اظلمها! ما اكن أقساها

إبراهيم محمد نجا

ص: 47

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

تعليم اللغة العربية في الباكستان

دعا سعادة السيد عبد الستار سيت سفير الباكستان في مصر جمعاً من الأدباء والكبراء إلى حفلة شاي بفندق (سمير أميس) يوم السبت الماضي، لاستقبال محمد علي علوبه باشا سفير مصر في الباكستان. وقد قدم السفير الباكستاني السفير المصري بكلمة طيبة نوه فيها بجهود الموفقة في تنمية العلاقات وتوثيق المودة بين البلدين. ثم وقف علوبه باشا فتحدث عن أمة الباكستان وما يربطنا بها من مصائرها في المستقبل. وتناول موضوع اللغة العربية ففصله على الوجه الآتي:

قال: إن شبه القارة الهندية التي انقسمت إلى الهند والباكستان، نحو اثنتين وثلاثين لغة كل منها مستقلة عن الأخرى لأنها لغة إقليم لا يعرفها إقليم آخر، غير أن هناك لغة سائدة هي الأردية وهي التي تميل الباكستان بعد استقلالها إلى اتخاذها لغة رسمية بدل الإنجليزية التي كانت لغة الاستعمار؛ وهناك عدد كبير يتكلمون اللغة العربية الفصيحة، منهم من يجيدون الخطابة بل يحفظون أشعار شعرائها كالمتنبي وغيره، ومنهم من يجد عشراً في التحدث والتخاطب بها ولكنه يقرؤها ويكتبها، وهناك مؤلفون يؤلفون بالعربية في الفقه والتفسير والحديث. وقد زرت جماعة من هؤلاء العلماء فأبدوا رغبتهم الشديدة في أن ينتشر تعلم اللغة العربية في الباكستان قائلين إننا نريد إن نتعلم لغتكم لا لأنكم عرب بل لأنها لغة القرآن. وبين سعادته مزايا انتشار اللغة العربية في البلاد الشرقية من حيث الثقافة والاجتماع والاقتصاد، وقال: أنه إذا كان هناك من يهتم ب (الاسبرانتو) للتقريب بين أمم العالم فإن اللغة العربية هي (إسبرانتو الشرق).

وتحدث علوبه باشا عن اهتمام الحكومة الباكستانية بتعليم اللغة العربية وأشار إلى إن في كراتشي معهداً خاصاً بها تحت رعاية وزير المعارف ثم قال: رأيت إزاء ذلك كله إن اقترح على حكومتي إنشاء مدراس ابتدائية مصرية في مدن الباكستان تكون نواة لمدارس ثانوية أخرى، مهمتها نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، واتفقت مع أولي الشأن هناك إن تكون بعثات الطلبة الباكستانيين إلى الأزهر والجامعة وسائر المعاهد المصرية من

ص: 48

خريجي تلك المدارس فقط. وقد رحبت الحكومة الباكستانية بهذا المشروع وأبدت استعدادها لمعاونته والمساهمة فيه. ورأيت إن مهمتي قد انتهت بذلك فقد وضعت الأسس لبرنامج العلاقات الثقافية بين مصر والباكستان، وغاية الرجاء إن تتحقق أهدافه. ولعل سعادته يشير بانتهاء مهمته في الاستقالة التي قدمها ولا يزال مصراً عليها. ثم قال إن لجنة تكونت في القاهرة من أعضاء بالمجمع اللغوي وأساتذة في الجامعة والأزهر لوضع أسس وقوانين لتكوين (جمعية الثقافة العربية بالشرق) غايتها تنمية العلاقات الثقافية العربية بين أمم الشرق وخاصة مصر والباكستان، ورجا أن تنال هذه الجمعية رعاية المسؤولين من العلماء والرؤساء والزعماء وعلى رأس الجميع جلالة الفاروق.

ويلاحظ إن علوبة باشا أنهى الحديث عند اقتراحه إنشاء مدارس مصرية في الباكستان، ولم يقل لنا ماذا تم فيه وما مصيره لدى الجهات المصرية، ولم يكن بحاجة إلى أن يقول ذلك، فنحن نعلم إن هذه المقترحات لم يقع فيها برأي، لا في وزارة المعارف ولا في الأزهر.

وأريد أن أقول أولا إن وزارة المعارف المصرية في هذه الظروف تواجه مسائل ومشاكل في نشر التعليم بمصر تستغرق كل ما في وسعها، ومع ذلك لا ينبغي أن ينصرف عنها الأمل فيما يتناسب من الفرص وما يأتي من الزمن، أما الأزهر فما أرى له عذراً في التواني عن نشر رسالة التعليم الإسلامي وتيسيره لطلابه في أية بقعة من بقاع الأرض، فهذه هي مهمته الأساسية باعتباره أكبر جامعات إسلامية في العالم وباعتباره إن الإسلام لا يتقيد بالحدود الجغرافية بل يعد ديار المسلمين المنتشرة في أنحاء الأرض كلها داراً واحدة.

وأريد ثانياً أن أخلص من ذلك لأتوجه إلى الحكومة الباكستانية فأسوق الحديث إليها: لماذا لا تنشئ بينها وبين مصر ما يسمى في وزارة معارفنا ب (التعاون الشرقي) على غرار المتبع مع البلاد العربية من إيفاد الأساتذة المصريين إلى معاهدها للتدريس فيها. ومصر لن تظن الباكستان بعدد من الأساتذة تمشياً مع ما تيسر عليه من تنمية الروابط الثقافية بينها وبين الشقيقات على رغم أزمة المدرسين القائمة في مصر، ومن حسن الحظ إن أولى الأمر لم تصرفهم هذه الأزمة عن تلك المسؤوليات التي يجب أن نمد النظر إليها بعيداً عن الموضع القريبة التي لا تجازها أبصار بعض المواطنين. . . وإنما تواجه الأزمة بالإكثار من إعداد المدرسين لا بالحيلولة دون إعداد منهم هنا وهناك تؤدي أغراضاً لابد منها.

ص: 49

فمن الخير أن لا تنتظر حكومة الباكستان حتى تنشأ المدارس المصرية المقترحة، فقد يطول هذا الانتظار، لانشغال وزارة المعارف، وللمتوقع أو الواقع من تراخى الأزهر. . . ومن تعجيل الخير أن تبادر هي بتنظيم الأمر في مدارسها ومعاهدها وتطلب من تريد من الأساتذة والمدرسين، وعلى مصر أن تلبي.

الإنعاش الاجتماعي في الإسلام

ينظم قسم الخدمة العامة بالجامعة الأميركية سلسلة من المحاضرات موضوعها (الإنعاش الاجتماعي في مصر ووسائل تحقيقه) كان منها يوم الجمعة الماضي محاضرة للشيخ عبد الوهاب خلاف بك عن (الضعفاء والفقراء والمرضى وما دبر به الإسلام شأنهم والوسائل التي تحقق سياسة الإسلام فيهم).

بدأ الأستاذ المحاضرة بمقدمة فحواها إن كل أمة فيها فقراء ومرضى وضعفاء وإن هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وإن الاختلاف بين الأمم في ذلك إنما هو في نسبة من في كل منها من هؤلاء، وانه لا بد أن تكون لكل أمة سياسة حكومية وسياسة شعبية للعناية بهم لأنهم أعضاء في جسمها وفروع من شجرتها.

وقد أطال في هذه المقدمة البديهية. والأستاذ الشيخ خلاف خطيب ممتاز يحسن إلقائه وسلامة لغته وعباراته المختارة مع ارتجال لا توقف فيه ولا تلكأ، وبهذه الصفات اجتاز مرحلة تلك المقدمة دون أن يمله السامعون. . ولكنه لما دخل في صميم الموضوع - بعد فوات نصف الوقت - وفاء حقه إذ مخضه جيداً حتى أخرج زبدته قال: إن الإسلام عني بالفقراء والضعفاء والمرضى فوضع لهم سياستين لتدبير شؤونهم، سياسية وقائية وسياسة علاجية، فالوقاية تقوم على أمرين، الأول أن الإسلام أوجب على كل من يستطيع العمل أن يعمل وألا يعيش عالة على غيره، وأورد في ذلك آيات وأحاديث، منها قول الله تعالى:(فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول اللهم ارزقني وهو يعلم السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة). الأمر الثاني أن الإسلام قسم كل أمة إلى عدة أمم صغير هي الأسر، وأوجب تضامناً بين أفراد الأسرة كفرض نفقة العاجز على الموسر.

أما السياسة العلاجية فهي ما جعله الله الفقير في مال الغني من حق معلوم، وهي سياسة

ص: 50

اشتراكية عادلة، تجعل للفقير حقاً في مال الغني لا حق الاعتداء على ماله؛ جعل الإسلام إحياء المواسم والأعياد بالتصدق على المحتاجين، وجعل كفارة الآثام معونة الفقراء والمساكين، والآثام دورية لا تخلو منها تصرفات الإنسان فكفارتها كذلك لا تنقطع، وجعل الإسلام خمس الغنائم للفقراء والمساكين، وقضى بان التركة التي لا وارث لها تضم إلى بيت المال لتنفق في وجوه الخير.

ثم قال الأستاذ المحاضر: هذه التعاليل لِمَ لم تثمر؟ وبعبارة أخرى لماذا نرى حال المسلمين الآن اكثر سوءاً من غيرهم مما يوهم أن الإسلام لم يعن بأمر ضعفائهم وفقرائهم، ولكن الإسلام هو البريء المتهم وهو مظلوم من اهله، مثله مثل الطبيب الذي يصرف الدواء ولكنه المريض يهمل تعاطيه، ولو أن تلك الوسائل التي وضعها الإس

اشتراكية عادلة، تجعل للفقير حقاً في مال الغني لا حق الاعتداء على ماله؛ جعل الإسلام إحياء المواسم والأعياد بالتصدق على المحتاجين، وجعل كفارة الآثام معونة الفقراء والمساكين، والآثام دورية لا تخلو منها تصرفات الإنسان فكفارتها كذلك لا تنقطع، وجعل الإسلام خمس الغنائم للفقراء والمساكين، وقضى بان التركة التي لا وارث لها تضم إلى بيت المال لتنفق في وجوه الخير.

ثم قال الأستاذ المحاضر: هذه التعاليل لِمَ لم تثمر؟ وبعبارة أخرى لماذا نرى حال المسلمين الآن اكثر سوءاً من غيرهم مما يوهم أن الإسلام لم يعن بأمر ضعفائهم وفقرائهم، ولكن الإسلام هو البريء المتهم وهو مظلوم من اهله، مثله مثل الطبيب الذي يصرف الدواء ولكنه المريض يهمل تعاطيه، ولو أن تلك الوسائل التي وضعها الإسلام نفذها المسلمون لما رأينا هذا الجيش الجرار من المحاويج.

وفصل ذلك التقصير بقوله: إن الإسلام لما أوجب هذه الوجبات قسمها قسمين، قسماً جعله من وظيفة الدولة كالزكاة، وقسماً تركه لسخاء الناس لتربية النفوس وتعويدها السخاء وابتغاء أن تسود روح التراحم والتعاون بين أفراد الأمة، أما الأول فقد أهملته الحكومات الإسلامية مع إن إيتاء الزكاة من الخمس التي بني عليها الإسلام، فإن كانت الضرائب التي تجبى تشتمل على الزكاة فلما لا تصرف إلى وجوهها ومصارفها المعروفة؟ والقسم الثاني أهم يحول دون تحقيقه هو ضعف الوازع الديني، والسبيل إليه هو التربية الدينية ولو أن كل واحد حنث في قسم فكفر عنه لما رأينا فقيراً.

فيجب للإنعاش الاجتماعي أن يبعث مشروع الزكاة المحال على (لجنة) بوزارة الشؤون الاجتماعية - وأن يبعث روح التضامن بين الأفراد.

وثمة ظاهرة أخرى من معوقات الإنعاش الاجتماعي في البيئات الإسلامية، تتمثل في أولئك الذين يحسبون أنفسهم متدينين، أولئك الذين نراهم قانعين قاعدين راكدين، مع إن الإسلام يحث على النشاط واستكمال أسباب القوة والعزة، وهم يدعون انهم متوكلون وإنما هم متواكلون، فالتوكل أن تأخذ بالأسباب وتترك النتائج للمقادير؛ كما يدل على ذلك قول رسول الله للأعرابي:(اعقلها وتوكل).

حيرة الجيل الجديد في الأزهر

ص: 51

جاءتني رسالة من (ضياء الحائر بكلية الشريعة) ولست ادري هل (الحائر) من اسمه أو من حيرته، فإن الموضوع الذي ضمنه رسالته يحيره أو يحير إخوانه طلبة الأزهر، كما أنه يحير كل غيور على رسالة الأزهر التعليمية في هذا العصر؛ وانقل مما كتبه ألي الطالب (الحائر) ما يعرض صلب الموضوع، فيما يلي:

(من المعلوم أن الطالب الأزهري في هذا الوقت العصيب يعصره الهم ويكاد يقضي عليه الحزن. فهو رهن محبسه المعتم، ليفك الطلاسم ويحل الرموز التي تمسك بها شيوخنا كأنما هي وحي يوحى؛ وقد وضعوا للكليات كتباً مطوله لم توضع لعصرنا ولا على نظام مدرسي، وإنما هي أخلاط وأنماط شتى يحللها الطالب وحده ليخرج من بينها لبن خالصاً. . وأنت جد خبير بما يلاقيه المسكين من إعنات وإرهاق يفوق كل وصف، ولعل سيدي يذكر حالة الطالب الأزهري وما يكتنفها من مشاق وصوارف ونوازع ولا أتحرج من القول بان حالتنا على وجه عام سيئة، وغالبيتنا لا تعرف شيئا عن الرفاهية على الإطلاق. في هذا الخضم المائج يقف الطالب مشدوداً حائراً فيما يطلبه الشيوخ منا. وهو دراستنا لهذه الكتب العقيمة وحدنا؛ بمعنى أن الأستاذ لو درس من الكتاب نصفه أو ثلثه فعلى الطالب أن يكمل الباقي وحده، فيكد ويكد حتى يعشى نظره أو يحدودب ظهره أو يفقد صحته وما هو ببالغ مما يريد شيئا، ولقد كان من العدل شيئا ما، ي زمن مضى، إنما يقرأ في جميع السنة الدراسية يعتبر هو المقرر ويؤدى فيه الامتحان، لأنه ما دام الطالب بمعونة المدرس لم يستطع أن يستوعب الكتاب فمن غير المعقول أن يعيه وحده على أي وضع كان. ولا أخالك يا سيدي تظن أن المقروء شيء بسيط، فهو على أية حال بلاء كبير جداً. على أنني لا أكاد اعرف الحكمة في تعيين المدرسين للأزهر ما دام الطالب هو الطالب وهو الأستاذ معاً!)

ولا أريد أن أتوسع في التعليق على هذه الرسالة قبل أن اسمع آراء إخواننا الأزهريين، أساتذة وطلاباً، في قيمة هذه الكتب المعقدة التي تفرض على طلاب العالم في هذا العصر، واسأل: هل انتفع الأزهريون بما حصلوه من العلوم الحديثة وما رأوه من طرائقها، في ثقافتهم الأزهرية الحديثة؟ أما مسألة (المقروء والمقرر) فهي ظاهرة، كتب تتوارث الأجيال الأزهرية فهم عباراتها ومدلولاتها، ليس من العدل أن يكلف الطالب أدراك معمياتها وحده،

ص: 52

فلا هم يجرون على طريقة (التوقيف) القديمة، ولا هم يجعلون المقصود تحصيل العلم من مراجع يتيسر التحصيل منها.

عباس خضر

ص: 53

‌البريد الأدبي

إلى معالي الدكتور طه حسين بك

رجعت إلى عدد من أعداد (مجلتي) التي كان يصدرها الأستاذ أحمد الصاوي محمد لأني تذكرت به شيئا كنت قد اطلعت عليه وانتظرت أوانه وأعجبت بما جاء فيه، حتى آن الأوان وحان البعث وجاء موعد الوفاء. .

هذا العدد هو ذلك الذي صدر في 15 يناير 1935 وهذا الشيء الذي تذكرته هو مقال للأستاذ الدكتور طه حسين تحدث فيه عن كتاب (تحت سمائك الزرقاء للقاضي الفرنسي (شارل بويس باريرا - وهو كتاب كتب عن مصر العزيزة وتلك السماء الزرقاء هي وسماؤها. والذي يهمني اليوم من هذا المقال هو هذه الفقرة التالية التي ختم بها الدكتور هذا المقال الشيق في مؤتنف عام 1935 إذ قال:

(ما أجد هذا الكتاب أن يقرأه المصرين ليروا فيه أنفسهم قبل أن يقرأه الأجانب ليروا فيه المصريين. لو أن إلي أمر التعليم لجعلت هذا الكتاب بعض ما يعرض على الشبان الذين يتعلمون اللغة الفرنسية، فمن يدري لعله يحبب إليهم هذه اللغة لأنه يتحدث إليهم عن أنفسهم؛ ولعله يحبب إليهم قبل كل شيء أن يحاولوا وصف ما يرون وتصوير ما يجدون كما وصف الكاتب ما يرى وكما صور ما يجد. ثم من يدري لعله يثير في نفوسه شيئا من هذا الحياء الخصب ومن هذه الغيرة المقدسة فيقول بعضهم لبعض ما ينبغي أن يحتكر الأجانب وأن كانوا كراماً تصوير مصر من دون المصريين، وما ينبغي أن توحي مصر إلى الأجانب فنوناً من الأدب الرائع شعراً ونثراً وأن تترك أبنائها أو يتركها أبناؤها لا يستوحوها ولا يستلهمونها ولا يقولون فيها الشعر الرائع ولا يكتبون فيها النثر الجميل.

نعم لو أن إلي أمر التعليم لوضعت هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التي تتحدث عن مصر بين أيدي الشباب ولأخذتهم بترجمته وتكرار النظر فيه)

هذا ما قاله معالي الدكتور في عام 1935، ولا ريب أنه يتذكر جيداً، وذاكرته القوية خير شفيع لذلك. والآن وأمر التعليم قد وكل إلى معاليه يحسن بنا أن نذكره بهذا الأمر الهام الذي أشار إليه فيما مضى واخذ على عاتقه أمر تحقيقه لو أن إليه أمر التعليم في مصر. .

ولست أريد بهذه اللفتة الخاطفة ذلك الكتاب الذي ذكر بالذات، وإنما أومئ إلى الرأي وأنوه

ص: 54

بالغرض الذي رمى إليه. والكتب الفرنسية والغير الفرنسية التي كتبت عن مصر بعد (تحت سماءك الزرقاء) كثيرة متنوعة، ومعالي الدكتور هو أدرى بها، فليتخذ ما يشابه بها كتاب القاضي شارل وليضعه تحت الغرض الذي أراده من فقرته السالفة.

إن هذا الرأي هام جداً ولا احب أن أذكر ما عليه من الأهمية وما له من الفوائد الجليلة، فحسبي ما جاء في فقرة معاليه وفي مقالة الذي حوى هذه الفقرة.

فإليه ابعث بهذه التذكرة عسى أن تجد لديه ما ترمي إليه من فائدة للامة وللمتعلمين، وفقه الله إلى كل خير في سبيل هذه الأمة المصرية التي نتنشق نسماتها ونحيا تحت سماءها الزرقاء. .!

أحمد طه السنوسي

الدكتور طه حسين وجمهورية أفلاطون

حكام الدولة المثلى في جمهورية أفلاطون هم الفلاسفة الحائزون لروح الفلسفة وقوتها. . . يقول أفلاطون (ما لم تجتمع الحكمة والزعامة في رجل واحد، لا تستطيع الدولة أن تشفي من أدوائها. . . ولا الجنس البشري) واستطرد قائلاً (إن هؤلاء الفلاسفة بعد أن اجتازوا الامتحان الأول والثاني. . . (جمهورية أفلاطون 415 تلخيص صروف) يجب أن ينزلوا من قمم الفلاسفة إلى ظلمات الكهف والى عالم الناس والأشياء وهنالك يخوضون معمعة الحياة ويصطدمون برجال الحيلة والدهاء، وفي ميادين هذا النزاع يتعلمون من كتاب الحياة المفتوح أمامهم.

قد يؤذي الكفاح أصابعهم، وقد تجرح حقائق الحياة بعض مذاهبهم الفلسفية.

وهاهو اليوم الدكتور طه حسين بك الذي سير أغوار الحياة، واصطدم بغدر الناس ومكرهم وأذى الكفاح أصابعه، وجررت حقائق الحياة بعض مذاهبه الفلسفية، يتولى وزارة المعارف المصرية، أي الدولة القائمة بشؤون التعليم في المملكة المصرية لا في جمهورية أفلاطون، ولا كما يعيش بعقله الكبير وخياله الواسع بالفلسفة اليونانية، بل في دنيا الواقع وفي عام سنة 1950. أمد الله في عمر العلامة العظيم، وهيأ للعرب دولة مثلى تقوم على أكتاف مثل طه حسين.

ص: 55

الدويم - سودان

مصطفى شكري

جنة الحيوان - لمعالي الدكتور طه حسين بك

إذ استطاع الكاتب أن يوقظ وجدانك؛ ويثير انفعالك، ويخلق في نفسك عاطفة نحو ما يعالج فقد أدى رسالته الفنية أبلغ أداء. وإذا قيس كتاب - الدكتور - لهذا المقياس فلا شك أنه يرجح رجحاناً كبيراً. وهو في هذا الكتاب يتناول بعض ما يطفوا على سطح المجتمع من مظاهر شائنة، وأعراض لأمراض خلقية واجتماعية وفكرية؛ ولا يزال - الدكتور - يصور لك ألوانها، ويأخذ بيدك تارة ليطوف بك في ميادينها، وتارة ليرجع بك إلى أسبابها ومنابعها؛ ثم يرسم طريق النجاة من عقابيلها؛ كل هذا وأنت مأخوذ بسحر العرض وإبداع التصوير، وإذا به يعمق شعورك بما يعرضه عليه. ويذكي يقضتك إلى هذه الألوان في محيطنا، ويغذي وعيك الاجتماعي، والفكري. وينشطه ويحيه؛ وإذا وصل بك الكاتب إلى هذا المرتقى فقد أخصب شخصيتك وأرهف حسك.

والدكتور - لم يقصد أن يجرح أشخاصا بقدر ما يهمه أن يعالج أمراضا، ويزيل عيوباً، ويحل مشاكل. فإذا أتخذ هذه الشخصية أو تلك يطلق عليها لفظ - ثعلب - ليلخص لك جوهر هذه الشخصية في هذا اللفظ الواحد الذي كأنه المصباح يضيء لك كل جوانب الشخصية. فيقول: لو رأيته قبل العشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين يقبل متدرجاً كأنه البرمة الهائلة لم ترتفع في الجو كثيراً ولكنها اتسعت عن يمين وشمال، وامتدت من خلف وأمام. وهي تسعى مع ذلك خفيفة لا تكاد الأرض تحس لها ثقلاً لأنها من لحم وعظم، ولم تتخذ من حجر وصخر. ولو رأيته قبل عشرين سنة يا سيدتي لما أنكرت منظره هذا الغريب حين أقبل فحيا ثم تقدم يسعى حتى إذا بلغ مكانه جلس كأنه الكثيب المنهال. فكان الناظر إليه يسأل نفسه لأول وهلة: أيرى إنساناً جالساً أم يرى كومة من الرمل قد استخفى فيها شخص ضئيل لا يكاد يظهر منه إلا تقاطيع وجهه ضئيلة غائرة لولا هذا الصوت الذي يخرج منها ضئيلاً نحيلاً، ولولا هذا الشر الذي يتطاير من عينين صغيرتين لا تفتح عنهما الجفون إلا في بطأ بطيء وثقل ثقيل كأنما يشد بخيط قد ركب في

ص: 56

قفاه. وقام شخص من وراءه يجذبه متكلفاً بين حين وحين يمضي - الدكتور - في تصوير خصائص هذا - الثعلب - الجسمية والخلقية والعلمية بهذا الأسلوب الطيع الذي يشف عن معانيه. ويبرزها كما تبرز المرآة ما يتراءى على صفحتها من الوجوه والملامح. . . أرأيت جمال هذه الصورة التي صورها - للثعلب - في قصره. وضخامة جسمه؟ وما اظرف وأفكه تشبيهه بالبرمة الهائلة التي لم ترتفع في الطول ولكنها اتسعت عن يمين وشمال وامتدت من خلف وأمام. ثم يصوره جالساً بالكئيب. قد لا توافق الدكتور في هذا الرأي أو ذاك، ولكنك لا تستطيع أن تملك إعجابك به في العرض والتصوير والتحليل. هذا هو الجانب الفني في هذه الفصول الممتعة التي ينسقها في كتابه الجديد - جنة الحيوان -.

محمد عبد الحليم أبو زيد

ص: 57