الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 872
- بتاريخ: 20 - 03 - 1950
(من وحي الاستقبال)
لم يكن استقبال مصر لصاحب الجلالة ملك الأفغان لونا من ألوان
المجاملة التي تصنعها الرسميات في استقبال كل عظيم، ولم تكن
الحفاوة به مظهرا من مظاهر السياسة التي تفرضها الأوضاع نحو ملك
من الملوك، وإنما كان الاستقبال على حرارته والحفاوة على بهجتها
نتيجة طبيعية لشعور أصيل، مبعثه هذه القرابة الروحية العميقة بين
قلوب شعبين مجتمعين حول دين واحد وأبلغ الدلالة على مثل هذا
الشعور هو أن الملك (الأفغاني) لم يكن ضيفا عظيما على الشعب
المصري، بقدر ما كان الملك (المسلم) ضيفا كريما على مصر
المسلمة!!
وإذا رحت تعدد أواصر القربى على شعبين يلتقيان على الجوار أو يفترقان لبعد الديار، فلن تجد أصدق ولا أجمل من أواصر الدين والتقليد واللغة. . . ومدار الصدق فيها أو مدار الجمال أن آصرة منها قد تغني عن الآصرتين، حين لا يكون هناك بد من وجود بعض الفوارق بين تلك الأواصر الثلاث! فاللغة قد تحل محل التقاليد والدين حيث يرجى التقريب بين شتى الميول والأهواء، وقد يقوم الدين مقام اللغة والتقاليد حين ينشد التوحيد بين مختلف العواطف والنزعات، وقد تحقق التقاليد كثيراً من تلك الأمور حين لا يكون الدين واللغة تراثا مشتركا بين الشعوب. ولكن أثر الدين في التقاء النفوس على التآزر والتضافر والإيثار والحب، هو أقوى الروابط الإنسانية وأحفلها بصفات الألفة ومقومات البقاء، لأنه العاطفة الكامنة بين الجوانح كمون الحياة نفسها بكل ما فيها من معاني الوجود الأزلي الذي لا تحده العصور!
وحسبك دليلاً على أثر العاطفة الدينية ما كان يحسه كل مسلم هنا نحو محنة إندونيسيا أو محنة الباكستان. . . آماد وأبعاد، ولغة غير اللغة ووطن غير الوطن وتقاليد غير التقاليد، ولكن الدين وحده قد غطى على كل هذه ليكشف عن شيء واحد: هو هذا الشعور المشترك
بمرارة الظلم ووطأة القيد وقداسة الكفاح، يعقبها الأمل الموحد بزوال الغمة وانقشاع الظلمة وانتصار الأحرار. . وليس من شك في أن تلك الدفقات الشعورية المتسامية قد انثالت على خاطر الضيف العظيم وهو يشهد التفاف القلوب المسلمة من حوله، حتى إنه يتحدث عن تلك الدفقات المنثالة بمثل هذه الكلمات:(إنني لأشعر شعوراً عميقا بأن في الإسلام قوة كامنة في تعاليمه ومبادئه، وإن نظاما فيه هذه القوة لا يمكن أن يقهر، وإن الأحداث التي يشهدها العالم ستحرك هذه القوة العظيمة الكامنة بين المسلمين)!
كلمات فيها كل الحق الذي يؤيده تاريخ الإسلام وتؤكده صفحات ماضيه. . وإنها لكلمات من شأنها أن تهز جمود الحاضر وتشعل جذوته الخابية وتنعش روحه الغافية، وتفتح عيون بعض الناس على كثير من الحقائق التي نسيتها بفعل المطامع والضغائن والأحقاد! نعم؛ إن في الإسلام قوة كامنة كما يقول صاحب الجلالة الأفغانية، قوة من طبيعتها ألا تقهر إذا صفت الضمائر وخلصت السرائر وشرفت الغايات، ولكن أين نحن من هذا كله ومأساة فلسطين قد قدمت الدليل كل الدليل على أن بعض الأيدي لا تريد أن تتصافح، وأن بعض الرؤوس لا تريد أن تتسامح، ولو ضاع في سبيل تلك الأثرة البغيضة كل مجد من أمجاد العروبة وكل قرية من قرى فلسطين وكل مبدأ من المبادئ والأخلاق؟!
إن هذه الروح المثالية التي تجلت في حديث صاحب الجلالة الأفغانية عن قوة الإسلام التي لا تقهر، لجديرة بإيقاظ بعض الضمائر التي سمحت لهذه القوة بأن تقهر وهي على أبواب تل أبيب!!
أ. م
الأزهر بين القديم والجديد
للأستاذ سليمان دنيا
إلى مجال الفكر الصائل على صفحات (الرسالة) الغراء أحول مجرى ذلك الصراع الفكري الذي دار على صفحات الأهرام بين مقال الأستاذ محمود الشرقاوي الذي عاب فيه على الأزهريين تمسكهم بمؤلفات العصر المملوكي التي تتسم بالركاكة والحشو والتعقيد والجمود، والذي تمثل فيه بقول الشاعر:
عذيري من قوم يقولون كلما
…
طلبت دليلا: هكذا قال مالك
ودعا فيه إلى الأخذ بالأقدم والأقوم من مؤلفات الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والخامس الهجريين.
ومقال الأستاذ محمد علي مخلوف الذي ذهب فيه إلى أن في مؤلفات العصر المملوكي من العلم النافع والأدب المفيد ما ينمي في النشء ملكات البحث والجدل والقدرة على التصرف في المناظرة. وأنها والحالة هذه، وبعد أن بذل الأزهريون جهودا موفقة في تنقيحها وتهذيبها، لا ينبغي لنا العزوف عنها واللجوء إلى سواها. واستشهد لوجهة نظره بقول الإمام المراغي.
(إني على بغضي لأكثر الكتب التي ألفت في العصور المتأخرة أكره من الطلاب أن يعجزوا عن فهمها، لأن فيها خيراً كثيرا، ودقائق لا يصح الجهل بها)
وختم مقاله متمثلا بقول ابن دقيق العيد
يقولون هذا عندنا غير جائز
…
ومن أنتمو حتى يكون لكم عند؟
وفي رأيي أنه لا خير للأزهر في أن تقتصر دراسته على مؤلفات الفترة الواقعة بين القرنين الثاني والخامس الهجريين، تلك التي يسمونها (عصر المسلمين الذهبي) ولا في أن تقتصر دراسته على مؤلفات العصر المملوكي ون اشتملت على كل علم نافع، وعلى كل أدب مفيد، وحتى لو بلغت جهود الأزهريين في تنقيحها وتهذيبها الغاية التي ليس بعدها من غاية.
وإنما الخير كل الخير للأزهر في أن تكون دراسته مستوعبة تتناول المؤلفات منذ عرف المسلمون التأليف والتدوين. تدرسها وتتبين أسلوبها ومنهجها وموضوعاتها.
ثم تنتقل إلى فترة تلي ذلك وتصنع بها نفس الصنيع، ثم تنتقل إلى فترة ثالثة، وهكذا مل تزال تنتقل من فترة إلى فترة ومن عصر إلى عصر حتى ينتهي بها المطاف إلى مؤلفات العصر الراهن. وهي في تضاعيف كل ذلك تبين الصلات بين الآراء والنظريات، وتعقد المقارنات بين العصور والفترات.
ينبغي - في رأيي - أن يفصل الأزهر كل ذلك ليؤدي واجبه نحو كل عصر من العصور وعهد من العهود، وليؤدي أيضاً نحو نفسه، إذ ليس واحد منها أولى من ما عداه بكده وجده، بأن يستوقفه عنده ويصرفه عن غيره.
إن العلماء من غير الأزهريين لا يحقرون عهداً من العهود، ولا يزورون عصراً من العصور وإنما يعطون كلا ما هو جدير به من عناية واهتمام، حتى إنهم ليدرسون الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ، ليعرفوا أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، والموضوعات التي استرعت انتباهه فأخضعها لتفكيره وبحثه.
إنهم يفعلون ذلك مع وثوقهم بأن الإنسان الأول كان بدائيا في أسلوب تفكيره وطريقة بحثه، ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يدرسوه ليضعوا للعقل الإنساني سجلا كاملا، نستطيع أن نتبين فيه مراحل تطوره، وعوامل نضجه، وأسباب تقدمه، ولم يمنعهم أيضا من أن يشبعوا ميولهم المتعطشة لمعرفة كل ما يمكن معرفته، ميولهم التي تحاول أن ترسم للكون والإنسان صورة أقرب ما تكون إلى الصحة والصدق، ولم يمنعهم ثالثا من أن يتوقعوا علم ما لم يكونوا يعلمون على يدي هذا الإنسان الأولى الذي كان أسبق منهم وجودا واستجلاء لمشاهد الكون، واستمتاعا بمنافعه.
إنهم يدرسون أرسطو ويترجمون كتبه إلى شتى اللغات، ويشيدون بمآثره وفضله وسبقه رغم ما أثبت العلم الحديث فساد كثير من آراءه ونظرياته. وإنهم ليقسمون الزمن إلى عصور فيقولون - العصر القديم، والعصر الوسيط، وعصر النهضة، والعصر الحديث، ويدخلون تحت كل قسم من هذه الأقسام طائفة من الأبحاث والنظريات والأشخاص، ويدرسون كل طائفة من هذه الطوائف على حدة، ويعكف بعض الدارسين على أحد هذه العصور، أو على شخصية من شخصياته أو على نظرية من نظرياته، ليتخصص فيها ويسبر غورها ونجلو غامضها، ويعكف بعض آخر على جانب آخر وهكذا حتى يتوزعوا
جميع هذه الآراء والنظريات وتلكم الشخصيات ويلموا بأطرافها بحثا وتمحيصا ونقدا وتدقيقا. وهم في تضاعيف كل ذلك يعقدون المقارنات، ويتبينون الروابط والصلات، ويكشفون عن الأصل والفرع، والتابع والمتبوع، والناسخ والمنسوخ، والزائف والصحيح، ويخرجون من كل ذلك بسلسلة مترابطة من الأفكار والمعلومات ممتدة بامتداد الزمن متصلة باتصاله.
وإنه ليلذ العالم الضليع أن يلم بأطراف الزمن ويتعرف صنوف التفكير وألوان الرأي في المسألة الواحدة، ويشوقه أن يتعرف وجهة نظر الأقدمين ووجهة نظر المحدثين وأن يقول حين يعلم أو يؤلف أو يناظر، كانوا قديما يعتقدون فيها كذا، ولكنهم الآن يعتقدون فيها اعتقاد غيره، ثم يبسط وجهة نظر كل فريق ويناقشها، وفرق كبير بين عالم هذا شأنه، وآخر يلقى حكمه في نفس المسألة ناقصا مبتورا، يدل على عدم دراية بما انتهى إليه أمر المسألة وآخر مرحلة من مراحلها، وجهل تام بما قبل ذلك، وبصنوف التفكير التي تواردت عليها، ولولا الدراسة المستوعبة المتطورة ما نشأ ما يسمونه تاريخ النظريات أو تاريخ العلوم
خبرني بربك!، إذا كان هذا هو شأن العلماء مع أفكار متضاربة متناقضة يقوم بعضها على أنقاض بعض، فما بال علماء الأزهر يقطعون الصلة بين أفكار متآخية متساندة، يشد بعضها أزر بعض ويسدلون الستار على كل جوانبها ويطمسون معالم الزمن في مراحل نموها وتطورها ما عدا جانبا واحدا من جوانبها أو ما عدا فترة زمنية محدودة من فترات عمرهاالمتطاول راحوا يختلفون أي هذه الجوانب الكثيرة، أو أي الصلة بين أفكار متآخية متساندة، يشد بعضها أزر بعض ويسدلون الستار على كل جوانبها ويطمسون معالم الزمن في مراحل نموها وتطورها ما عدا جانبا واحدا من جوانبها أو ما عدا فترة زمنية محدودة من فترات عمرهاالمتطاول راحوا يختلفون أي هذه الجوانب الكثيرة، أو أي هذه الفترات الزمنية أولى بأن نقصر عليه جهودها، ونخصه بعنايتنا ودراستنا وتدريسنا!؟
على رسلكم، فليس بعض جوانب الفكرة أولى بالدرس والتمحيص من البعض الآخر، ولا بعض الفترات الزمنية أحق من سواها بذلك. ادرسوا كل جانب، ولا تقطعوا صلتكم بعصر من العصور، وما كان الإمام المراغيبمقولته تلك إلا حريصا على أن تكون دراستكم مستوعبة لا يفلت منها عصر من العصور حتى اشدها كراهية وبغضا، لا أن يكون عصر
من العصور مهما يكنله من خصائص ومميزات تسمو به على كل ما عداه، هو كل علومكم، ومنه وإليه بدؤكم وانتهائكم!
سليمان دنيا
عضو بعثة الأزهر بإنجلترا
الجارم الشاعر
الأستاذ عبد الجواد سليمان
(الوفاء في شعره)
في شعر الجارم ركن من الأركان العامرة يكاد يجزم كل من قرأ شعره في أجزاء من ديوانه الأربعة، وتتبعه في كل ما أذاعه أو نشرته له الصحف في أواخر أيامه أنه أكثر الشعراء المحدثين نظما في هذا الميدان، ذلكم هو (شعر الوفاء) والوفاء صفة إنسانية تجيش بها العاطفة اليقظة التي تهيم بحب من أحبت. وقد كان مظهر هذه الصفة في شعر الجارم وفاؤه لمليكه، والوفاء للملوك ولاء، وولاء شاعرنا هو ذوب نفسه المؤمنة وعصارة وجدانه الصادق، سجله في عشرات القصائد ومئات الأبيات في شتى المناسبات الملكية السعيدة. ثم وفاؤه لوطنه الصغير مصر ووطنه الأكبر الشرق، ثم وفاؤه لأصدقائه من شعراء وعلماء وعظماء وأساتذة يحييهم عن حب وتقدير أحياء، ويظل حافظا لودهم باقيا على عهدهم فيرثيهم بعد مماتهم رثاء يترجم عما ينطوي عليه قلبه لهم من حب ومودة وإخلاص؛ هذا إلى وفائه لمعاهده التي ورد فيها موارد الثقافة والمعارف يشيد بفضلها وينوه بذكرها ولا يتنكر لها؛ للغته ينافح عنها ولدينه يذود عنه.
وسنقصر هذه الكلمة على النوع الأول من الوفاء (والوفاء بمعنى الولاء) الذي آثر به الجارم الجالسين على عرش مصر فأدى لهم ديناً في جيده من شعر يبقى على الدهر خالداً توقعه قيثارة الولاء وتهتف به ألحان الخلود.
لم تفت الجارم مناسبة ملكية أو عيد من الأعياد (المصرية) إلا قيد لها أوابد فكره وتغنى فيها ببيان عذب وسحر مبين. وكيف يفوت الجارم شيء من ذلك وقد غمره مليكه بفيض من إحسانه فقربه منه، وأصغى إلى شعره ينشده بين يديه، وأغدق عليه فضله وأسبغ عليه إنعامه؟
ففي قصيدة له سماها (التاحية الكبرى) قالها بمناسبة تولي الفاروق سلطته الدستورية يصف الجارم هذا اليوم التاريخي العظيم، فيجعله متوجاً على الأيام حتى إن الأيام التي سبقته في الوجود لتأسف على تقدمها عليه، ويود كل يوم منها لو حالفها حسن الطالع فتأخر ظهوره قليلا ليحظى بالشرف الذي ناله هذا اليوم؛ ثم تغبطه الأيام بعده فيتمنى كل منهما لو سعد
فسبق في صحيفة المقدور ليدرك المجد الذي أدركه يوم الفاروق وأنى لكل منهما أن يبلغ ما أراد أو ينال ما تمنى؟
هذه العاطفة الجياشة بالولاء يخطها الجارم شعراً فيقول: -
يوم غدا بين الدهور مملكا
…
يوما إليه مهابة ويشار
الأمس أن تقدم خطوة
…
وغداً إطار صوابه أستئخار
يوم جثا التاريخ فيه مدونا
…
لله ما قد ضمت الأسفار
ثم يلتفت إلى المليك العظيم فيقول: -
يكفيه أن ينمى لأكرم سدة
…
سعدت بها الأيام والأمصار
بيت له عنت الوجوه خواشعا
…
كالبيت يمسح ركنه ويزار
وإن الصورة الحية الناطقة التي صور فيها التاريخ جاثياً على ركبتيه خاضعاً ذليلاً ليدون محامد هذا اليوم، ويتلو صحفاً مطهرة من أسفاره لتدل على الطبع الشعري الأصيل والخيال الواسع في الجارم الذي يرهف سمعه وحسه للحوادث فيسجلها ويعبر عنها من قلبه فلا يبدو فيها أثر الصنعة والتكلف.
وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) في البيت الأخير لمن التوريات الطريفة التي لا تنقاد إلا لشاعر ملك ناصية البلاغة وقبض على أزمة التصرف في فنون القول ليختار منها ما يهز القلوب ويبهر البلغاء، فقد لائم فيها الجارم بين خيال شعري جميل ونفحة روحية استقاها من نبع ثقافته الدينية، فالحج ركن من أركان الإسلام، والحجاج في حجهم يزورون الكعبة وهي البيت الحرام قبلة المسلمين ثم يطوفون حولها ويتمسحون ببعض أركانها خاشعين لله قد عنت وجوههم؛ متجردين إلا من لباس التقوى.
والشعراء يدونون التاريخ بلغة الشعر لأنهم لا يقرون على سرد الحوادث جافة مجردة بل يلقونها في أفواف من تلك النفحات القدسية التي آثرهم الله بها، ويرسلونها أنفاسا شعرية تلين ما جف من حوادث التاريخ.
والجارم في أبياته الآتية يسير على هذا السنن الشعري، فهو يلم فيها بما كانت عليه حال مصر قبل محمد على جد الفاروق، من ضعف وتدهور، وجهل وفوضى، ثم كيف انتعشت وتقدمت عندما تولى أمرها جد الأسرة العلوية، فضم الصفوف ووحد القوى، فبعثها من
مرقدها فهبت متحفزة متوثبة تخطب المجد وتنشد الحياة الحرة الكريمة، ثم يذيل هذه الأبيات ببيت حكمي ضمنه مقابلة طريفة حيث يقول: -
العلم يخفق للزوال سراجه
…
والعدل مندك الذرا منهار
والناس في حلك الظلام يسوقهم
…
نحو الفناء تخبط وعثار
فبدا (محمد كم) فهب صريعهم
…
حيا كذاك البعث والإنشار
والتفت الرايات حول لوائه
…
ودعا الغفاة إلى المسير فساروا
وأعاد مجد الأولين بعزمه
…
إيرادها لله والإصدار
إن النفوس تضيق وهي صغيرة
…
ويضيق عنها الكون وهي كبار
ووفاء الجارم الشاعر من نوع الوفاء الراكز في النفس الممزوج بغرائزها الذي لا يفارقها ولا يتخلى عنها في ساعة من ساعاتها. وهل يخرج الإنسان على طبعه الذي طبع عليه أو يحيد عن فطرته التي فطره الله عليها؟ إنه لو حاول ذلك مرة لخانته طبيعته فجاء شاذاً مقلداً، يفضحه تقليده ويدل عليه شذوذه ولا يخفى على الناس تكلفه. ووفاؤه لمليكه يلهمه في عيد ميلاده أبياتا جديرة أن تسمى بحق (شعر الولاء) عندما يؤرخ لهذا اللون من الشعر في أبواب الأدب العربي المعاصر.
ففيها يصور (الفاروق) أستاذاً يلقن دروس الوفاء، وقد اتخذ النيل منه مجلس التلميذ؛ فتعلم من المليك الوفي لبلاده الوفاء بمائة وخيراته كل عام؛ وماؤه بالفاروق أعذب مورداً من ماء الحياة، بل إن ماء الحياة أثاره من مائه: -
النيل بالفاروق أعظم مورداً
…
ماء الحياة ثمالة من مائه
علمته صدق الوفاء فأصبحت
…
تتحدث الدنيا بصدق وفائه
ومنحته خلق العطاء فغردت
…
صداحة الوادي بفضل عطائه
يصف الجارم في بيتين بعد ذلك مليكه بأنه رجل الدين والدنيا فيأتيان بمنجاة من الزلل إذ يقول: -
الدين والأخلاق ملء جنانه
…
وجلالة الأملاك ملء ردائه
يهتز في برد الشباب كأنه
…
سيف يدل بمائه ومضائه
حالف الجارم التوفيق في هذين البيتين كشاعر يمدح ملكاً؛ فلم يزل كما زل شاعر المأمون
من قبل عندما امتدحه بقصيدة قال فيها:
تشاغل الناس بالدنيا وزبرجها
…
وأنت بالدين عن دنياك مشغول
حتى إن المأمون لم يرتض منه لنفسه هذا المديح حيث أظهره مظهر رجل من رجال الدين الزاهدين الذين نسوا حظهم من الدنيا فقال: ويحك، هلا قلت كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز: -
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه
…
ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
ثم هو يؤكد هذا المعنى في مناسبة عيد الجلوس، فاخراً بدولة الفروق القوية التي أصبحت بفضل ملكها وتمسكه بأهداب دينه موئل الإسلام وملاذه فيقول: -
ملك من النور قد ضاءت دعائمه
…
كأنما شيد من هالات أقمار
ودولة ركز الإسلام رايته
…
فيها على طود تاريخ وآثار
وفي مناسبة تهنئته بعيد الفطر فيقول: -
إذا اصطنع الله امرأ جل سعيه
…
وعمت أياديه وطابت نقائبه
به ازداد دين الله عزاً ورددت
…
منابره آلائه ومحاربه
وقور بدرس الدين يطرق خاشعاً
…
من النسك يرجو ربه ويراقبه
بجانبه الشعب الوفي يحوطه
…
وترحمه أعضاده ومناكبه
تحلى به عصر الرشيد وعزه
…
وسالف عهد الراشدين وذاهبه
ثم يوفق إلى هذا المعنى الجليل في مناسبة أخرى منشداً في الفاروق: -
قدوة للشباب قد عرف الجي
…
ل طريق الحياة من خطواته
مرة سامقاً على صهوة الخي
…
ل وأخرى مطامناً في صلاته
وفي غيرها في سهولة وإشراق قائلا في مملكة الفاروق:
شهدت بمطلعك الحيا
…
ة تفيض بالنعم الزواخر
ورأت مخيل دولة
…
فوق النجوم لها معابر
وتطلع المحراب في
…
جذل وأشرقت المنابر
واستبشر الدين الحني
…
ف بخير من يحيي الشعائر
ومدينة (رشيد) بلد الجارم قد شرفت بزيارة ملكية سعيدة؛ فلم تنسه غمرة الفرح التي عمت
بلده بشرف الزيارة حق الوفاء لمليكه بل يسجل ولاءه في هذه المناسبة فيخلع على رشيد ثوباً قشيباً تزهو به على الأيام بين البلدان. فبزيارة الملك لرشيد أصبحت طريقها تبراً وكانت قبل تراباً: -
جزت الطريق فصارت
…
تبراً وكانت تراباً
ونخيلها اهتز طرباً تشوقا إلى طلعة المليك:
والنخل ماست ومالت
…
تشوقاً واجتذابا
قد هزها الشوق حتى
…
كادت تجاري الركابا
وثغرها قد تفتحت أساريره، وبسم عن ثغور - فواحة بالعطر - بسمة حبيب أذهلت حبيبه عن لومه وعتابه: -
والزهر ينضح عطراً
…
بين الربا وملابا
له ابتسام حبيب
…
أنسى المحب العتابا
وطبيعة رشيد السحرية شاركت أهل رشيد الحفاوة بالملك، فتطامنت هضابها وحنت رقابها وكانت قبل الزيارة عالية شامخة، والبحر لا ينتظر حتى يرده الفاروق بل هو يسعى إلى بحر مثله ليستقبله لأنه أكثر منه عطاء وأسخى جنابا والنيل قد سار فخوراً مدلا بسيفه الفروق فوق متنه: -
تطامنت هضبات
…
ماذا أصاب الهضابا
كانت تسامي الثريا
…
واليوم تحني الرقابا
والبحر يدنو ويعلو
…
تطلعا وارتقابا
لما تلقاك قلنا
…
لاقى العباب العبابا
فاروق أعظم نفساً
…
منه وأسخى جنابا
يزجي السحاب ثقالا
…
وأنت تزجي الرغابا
والنيل ينساب تيهاً
…
بين المروج انسيابا
ثم يصور رشيد وقد خرجت شيباً وشباناً تجتلي طلعة المليك، ورنت مآذنها وقبابها تتمنى أن تخوض مياه النيل للقيا المليك لو قدر لها ذلك: -
لولا السفين لهامت
…
(رشيد) تعدو وثابا
وأقبلت وهي ترنو
…
مآذناً وقبابا
تود خوضا إليه
…
لو استطاعت ذهابا
ثم لا يترك هذه الظواهر من غير أن يعلل لها تعليلا نفسياً يظهر فيه أثر ثقافته ومعرفته بالنفوس وطبها فيقول: -
والشوق إن غال نفساً
…
لا تستطيع غلابا
وولاء الجارم لمليكه المحبوب لم ينسه حتى في أشد حالات سروره وفاءه لأبيه الملك الراحل، وذلك شأن النفوس الكريمة ذات البداهة الثاقبة، وإن من وفى للغائبين كان وفاؤه للحاضرين أولى وأجدر؛ فالمغفور له الملك فؤاد أعلى من قدره واستمع إلى شعره، فتراه هنا يستطرد إلى ذلك في إلماعة لبقة تنبعث من منابع نفسه قائلا: -
أبوك راش جناحي
…
حتى لمست السحابا
وكان يصغي لشعري
…
وكان شعري عجابا
وفي قوله (وكان شعري عجابا) إشارة من الإشارات الدقيقة الخفية إلى ما كان عليه الملك فؤاد من تذوق للشعر، وهي إشارة تعفي الجارم من مؤاخذته على الفخر في مقام مدح الملوك، ولعل تعبيره هنا (بكان) يشفع له ويجعل السامعين يتحسرون معه على أيام شبابه الخوالي.
أما وفاء النفس الطاهرة، وولاء القلب الواله الذي لا ينسى الجميل والإحسان؛ وأما دموع الوفاء الساخنة وزفراته الحارة، وأما ولاء الرعية للملوك فاستمع إلى الجارم يتلوه في رثاء الملك فؤاد لتعرف كيف يكون حزن الأوفياء ورزؤهم فيمن وفوا لهم: -
حملوه وإنما حملوا آ
…
مال شعب بزهرها الغصن تندى
حملوا حامي الحقيقة
…
والدين كما تحمل الملائك عهدا
ما على الدهر مرة لو توانى؟
…
أو على الدهر ساعة لو تهدى
قد نعينا فردا به كان عصراً
…
وفقدنا عصراً به كان فردا
إنما الناس بالملوك وأعلى ال
…
ملك شأواً ما كان حباً وودا
يا مليكي والحب يطحن نفسي
…
كلما قلت: خف قال: سأبدا
أين تلك الهبات للعلم تزجى؟
…
وجميل العزاء بالحر أجدى
نحن لله راجعون وكل
…
بالغ في مجاله العمر حدا
غير أن الفتى يغالبه الدمع فلا يستطيع للدمع صدا ثم يعلل نفسه، ويخفف من حزنه على الملك الراحل، بذكر الفاروق - وفاء له - في مقام الولاء لأبيه، فهو أمل الشعب المرجى، قد قرأ خطه في ملامحه وعلق آماله على مليكه وسلطانه.
أمل الشعب في خليفتك ألفا
…
روق أحيا آماله وأجدا
قرأ الشعب في ملامحه الغ
…
ر سطور المهنى وأبصر جدا
ورأى فيه نبعة المجد والنب
…
ل أبا مفرد الجلالة وجدا
لم يجد للعلا سواه مثيلا
…
ولبدر السماء إلاه ندا
لقد صدر الجارم في قصائد ولائه عن طبعه الشاعري، فلم يقهر المعاني أو يحشر الألفاظ بل أنثالت عليه المعاني في تداع طبيعي وانقادت له الألفاظ آخذا بعضها برقاب بعض، وواتته القوافي طيعة لينة فكان ذلك كأنه من قصده ابن قنيبة في قوله (والمطبوع من الشعراء من سمح بالشعر واقتدر على القوافي، وأراك في صدر بيته عجزه وفي فاتحته قافيته وتبينت على شعره رونق الطبع ووشى الغريزة. . .) ولعل سر نجاحه في هذا الباب صدق عاطفته وقوة شعوره، فإن صدق العاطفة وعمق الشعور يكسبان الأسلوب صفة القوة متى كان صاحبها قوي السلطان اللغوي خبيرا بفن التعبير وما نظن أن حظ الجارم من هاتين المنزلتين قليل.
وبعد فهذا ولاء الجارم لعرش بلاده هتف به في شعره وشدا به في بيانه بعد أن آمنت به نفسه فجعله فرضاً لازماً به عليه وعلى الشعب فقال: -
إذ الشعب والاه فذلك فرضه
…
وإن فداه فذلك واجبه
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الكاظمي
لم يطل مكث الشيخ عبد المحسن الكاظمي في العراق فقد هاجر منه إلى مصر سنة 1897م وهو في السابعة والعشرين أو الثانية والثلاثين واستقر به المقام في القاهرة سنة 899م والتاريخ يحدثنا أن الكاظمي ترك العراق مرغما من قبل السلطات الحاكمة وقد كان تركه هذا أشبه شيء بالهرب. ويقول الذين أرخوا هذه الفترة من حياته. أنه اضطهد بسبب اتصاله بالسيد جمال الدين الأفغاني عند مروره بالعراق لأنه تأثر بمبادئه واقتبس من آرائه فغضبت عليه السلطات واضطرته إلى مغادرة العراق. ير أن الذي وجدناه في ديوان الكاظمي لا يدل على مناهضته للسياسة العثمانية يوم كان في العراق بل وجدناه شاعرا مؤيدا لهم هاتفا بمجدهم؛ وقصيدته (حرب الحياة الباقية) المنشورة في الجزء الأول من ديوانه دليل واضح على تأييده للعثمانيين وحثهم على محاربة الأوربيين وبخاصة دول البلقان متى ثارت عليهم في أواخر القرن التاسع عشر ومن هذه القصيدة:
حماة العلي قد حان حصد الجماجم
…
أقيموا العلي واستأصلوا كل هادم
حماة العلي طال السكوت فعاذر
…
إذا نطقت أسيافكم في الجماجم
خصومكم ضلوا وطاشت سهامهم
…
وما وسموا إلا بشر المياسم
رعاياكم يا آل عثمان أصبحوا
…
ملوكا وملك البغي ليس بدائم
أرى دول البلقان طالت أنوفها
…
على دولة آثارها في المخاطم
والقصيدة طويلة وكلها مدح واستنهاض. ولا نستطيع أن نفسر هذا المنحى الذي نحاه الكاظمي إزاء سياسة الأتراك إلا بالعطفة وحدها وهي التعصب للإسلام؛ فهو إذن لا يعدو هذه العاطفة الإسلامية التي أنسته كل شيء فلم يقف في طريقه ما عاناه العراق من تدهور ومآس في ظل الحكم العثماني.
ولا نريد أن نحاسب الكاظمي على هذا الموقف الذي وقفه ما دام منبعثا عن حسن نية وصفاء عقيدة. على أنه موقف واحد سبقته مواقف لا ترضي العثمانيين، وتلته مواقف أخر فيها الشدة والصرامة عليهم. أما الأولى فدليلها السخط الذي انصب عليه فاضطر إلى
الهرب، وما يرويه المؤرخون من أن له مذكرات قذف بها في نهر دجلة. وأما الثانية ففي ديوانه المطبوع ما يكفي للتدليل عليها؛ ففي الديوان قصائد كثيرة نظمها في مصر وفيها دعوة إلى الحرية وتنديد بسياسة الأتراك منه وانتهاء حكمهم له، ورغبة ملحة في أن يحكم العراقيون أنفسهم بدلا من أن يحكمهم أي أجنبي. وهذه العواطف التي تنساب في قلب الكاظمي تجدها ماثلة في قصيدته (ذكرى الفتوح) وقد نظمها يوم حملت له أنباء هزيمة الأتراك من العراق.
عسى بغداد يوقظها بياني
…
فتقرأ فيه أبكار المعاني
مضى أمس فلا يرجى لأمس
…
مآب أو يؤوب القارظان
فلا العهد الذميم له بباق
…
ولا الذكر الحميد لنا بفان
ونجد الشاعر يعبر بوضوح عما كان يعانيه في العراق من اضطهاد العثمانيين له وأنه لم يستطع أن يجاهر بآماله وخواطره حتى إذا استقر به المقام في مصر وانتهت دولة الأتراك من العراق لم يجد ضيقا في مجال التنفس ولا حرجا في البوح بما يكنه لبلاده.
هل الزوراء تعلم ما عراها
…
غداة دنى النفير وما عراني
أبوح بما أكن وكنت دهرا
…
أحاذر أن أبوح بما أعاني
ويهتز الشاعر بشرا حين استراحت بغداد من الأتراك.
أتاني أن بغداد أريحت
…
فلا كذب البشير بما أتاني
أريحت من ليال كن ناراً
…
فمن بكر تشب ومن عوان
ورد لها التراث فلا بعيد
…
ينازعها التراث ولا مدان
ثم يدعو بغداد إلى الاستمرار في الجهاد وبحثها على السير في طريق الاستقلال.
أعيذك غرة البلدان من أن
…
تخوري في جهادك أو تواني
إذا نامت ظباك فقل سلام
…
على تلك المنازل والمغاني
بنوك الغر أم (جنكيز) أحرى
…
بهذا الملك من قاص ودان
فسيري لا سرت لك غير بشرى
…
يسيل بها لديك الرافدان
ويكرر هذه العاطفة في قصيدة عنوانها (أنين وحنين) وأولها شعر تقليدي الأسلوب ولكنه لا يخلو من عاطفة الشاعر المحب لوطنه ولبلادة. وبعد هذا الحنين والشوق يبكي مجد بغداد
الغابر وتاريخها الذهبي أيام بني العباس.
أين تلك القصور والدور أضحت
…
حيث أضحت مقابراً وسجونا
ما ذكرنا تلك الليالي إلا
…
وبكينا هارون والمأمونا
ثم يخاطب بغداد بأبيات تدل على حزنه الكامن وتفجعه بما جرى على بغداد من نكبات.
اقصري الشكوى يا ربوع المعالي
…
رب شكوى سرت فكانت أنينا
لم يخنك الأمين يوم تولا
…
ك ولكنك ائتمنت الخئونا
كان للعدل من ثراك نصيب
…
عبثت فيه أثرة الحاكمينا
ومن الملكين من لا يرى الم
…
لك سوى آلة تقيه المنونا
يستفز القانون والدين لكن
…
لا يراعي دينا ولا قانونا
ومثل هذه القصيدة قصائد أخرى تتشابه معهما في الدوافع والإحساس وفي العاطفة الصادقة التي يثيرها الحنين إلى الوطن والتطلع إلى الحرية المحروبة أمام الغشم والاستعمار
ونجد الكاظمي في قصائد غير قليلة يمدح الملك الحسين وأولاده ويشير إلى ثورتهم على الأتراك وأعمالهم كما يجب أن يكون عليه الشعر السياسي بل يجتاز هذا إلا قليلا ويترك شاعريته تنطلق في آفاق المدح وإطراء الممدوحين ومواقفهم في سبيل العرب والأمة العربية. غير أن هذه القصائد لا تخلو من العطفة القومية التي تجري في عروق الشاعر وتتبلور في أفكاره وتأملاته فهي تفيض بالشعور العميق لتأييد الثورة العربية على الأتراك. ونترك استعراض هذه القصائد لطولها وما فيها من مدح وثناء يكاد يكون مكرراً مسموعا ولما فيها من لهجة قاسية على الأتراك مكتفين ببيتين من قصيدة عنوانها (هذا الحسين) ويعني الحسين بن علي ملك الحجاز آنذاك
أمطرت بالبيض الذكور مطهرا
…
أرض بها عاث الشرير ودنسا
ونجابك البيت الحرام وللورى
…
أمل بأن تنجي ظباك المقدسا
من هذا الذي درسناه يتضح لنا أن الكاظمي صاحب عقيدة دينية راسخة القواعد لا يرضى لها أن تذل وتخضع لأية عقيدة أخرى، وعاطفة قومية عنيفة لا يريد لها أن تتصاغر لأية أمة أخرى ولو كانت من المسلمين. وهو في كلتا الحلتين واسع الآمال والأبعاد لا يحتويه العراق - وإن كان وطنه الحبيب - ولا الجزيرة العربية - وإن كانت مهد العرب - بل
كان يخفق بجناحيه في آفاق العروبة أينما حلت وأيان أقامت، وفي دنيا المسلمين مهما اتسعت رقعتها. على أن الكاظمي شاعر إنساني يحب الخير للبشر جميعا ولكن الحديث عن إنسانيته لا يستقيم لنا في هذا البحث المحدود.
بقي أن نشير إلى شيء له علاقة بالموضوع الذي نتحدث فيه وهو أن الكاظمي لم يشر إلى عودة الدستور في تركيا ولم يتحدث عنه بخير أو شر كما سنرى ذلك عند الزهاوي والرصافي ولاسيما أن إعلان الدستور اتفق أيام كان الكاظمي في مصر التي كانت منفصلة عن الخلافة العثمانية. وفي حيث لا يخشى الشاعر بأس أحد. يضاف إلى هذا أن إعلان الدستور كان بأمر من عبد الحميد ذلك الرجل الذي مدح مع من مدح في قصيدة (حرب الحياة الباقية) التي أشرنا إليها في صدر البحث. ولعل الكاظمي قد قال في ذلك شيئا ولكنه لم يصل إلينا.
الزهاوي
لا نريد أن نترجم لجميل صدقي الزهاوي ترجمة تاريخية. ولا نريد أن نتتبع حياته المادية كيف قضاها، وكيف كان يحياها. بل نريد أن نتحدث عنه كما تحدثنا عن الكاظمي فلا نتجاوز شعره ولا نلم إلا بالسياسي منه. وندع هذا الشعر نفسه يصف لنا جوانب من حياة الشاعر في بغداد وفي تركيا وما لاقى من اضطهاد وتشريد بسبب دعوته إلى التحرر من حكم العثمانيين فكان ثائرا حانقا شديد اللهجة على خصومه أيام استبدادهم، ثم هادئا مطمئنا كبير الأمل يوم أعيد الدستور. وفي ديوانه (الكلم المنظوم) دليل واضح على ثورته واستيائه من سياسة العثمانيين ودعوته الجريئة إلى التخلص منهم. وشعره هذا لا يخلو في كثير من المواطن من الناحية القصصية التي يتحدث بها عن حياته وما كان يلاقيه من الجواسيس والحكام وما ينزلون من بلاء على كل بريء يدركونه؛ فدولة الأتراك في ذلك الوقت - كما يراها الزهاوي - دولة همجية تعبث بالعراق وسوريا واليمن وتجوز على هذه الأقطار وتستنفذ خيراتها بلا وازع ولا ضمير، والسلطان لا يرتضي ري ناصح ولا يستجيب لمشورة أحد، ولا يعمل بما أنزله الله وما صدع به النبي الكريم. نجد هذا في قصيدة عنوانها (حتام تغفل) وقد نظمها أيام طغيان عبد الحميد وقبل إعلان الدستور بسنوات قليلة. ومنها:
ألا فانتبه للأمر حتام تغفل
…
أما علمتك الحال ما كنت تجهل
ويسير على هذه الوتيرة في أبيات غير قليلة يدعو فيها أمته وشعبه إلى التكتل والنهوض والثورة على حكومة الأتراك ثم يصف هذه الحكومة فيقول:
وما هي إلا دولة همجية
…
تسوس بما يقضي هواها وتعمل
فترفع بالإعزاز من كان جاهلا
…
وتخفض بالإذلال من كان يعقل
ولا نريد أن نتعرض للبيت الأخير بالنقد من الوجهة اللفظية واعتماده على الصناعة والتقليد فنقول: أن الشاعر كان نحويا حين رفع وخفض، وكان بديعيا حين طابق بين الجهل والعقل. لا نريد هذا وإن تكن الموسيقى اللفظية من أهم العناصر في الشعر - وإنما يكفينا هذه الصورة اللفظية التي يضعها الشاعر في إطار الواقع عن تلك الحكومة التي أساءت إلى نفسها وإلى غيرها، هذه الصورة تبرز لنا في هذا البيت وفي غيره من أبيات هذه القصيدة، فالدولة العثمانية دولة مستبدة همجية كما سبق، وحكامها وولاتها.
إذا نزلوا أرضا تفاقم خطبها
…
كأنهم فيها البلاء الموكل
ولم تسلم منهم البلاد العربية وأقطارها.
فمدت إلى سورية يد عسفهم
…
تحملها من ظلمهم ما تحمل
وبغداد دار العلم قد أصبحت بهم
…
يهددها داء من الجهل معضل
وسل منهم القطر اليماني إنه
…
يبث بما يجري عليه وينزل
ثم يتحدث عن السلطان عبد الحميد ونترك مجال التصوير للشعر وحده:
وذي سلطة لا يرتضي رأي ناصح
…
إذا قال قولا فهو لا يتبدل
أيأمر ظل الله في أرضه بما
…
نهى الله عنه والنبي المبجل
فيفقر ذا مال وينفي مبرأ
…
ويسجن مظلوما ويسبي ويقتل
ثم يلتفت إلى عبد الحميد فيهدده ويتوعده بسوء العاقبة:
فيا ملكا في ظلمه ظل مسرفا
…
فلا الأمن موفور ولا هو يعدل
تمهل قليلا لا تغظ أمة إذا
…
تحرك فيها الغيظ لا تتمهل
وأيديك إن طالت فلا تغترر بها
…
فإن يد الأيام منهن أطول
ونحب أن نستمع إلى الزهاوي وهو يقص علينا ما لاقاه في تركيا من عنت واضطهاد وما
قوبل به هو وصحبه من مراقبة شديدة وتجسس بغيض، ثم إرجاعه إلى بغداد مقهورا ونفي أصحابه الذين كانوا معه، بحد هذا كله في قصيدته (أين المفارق) وقد نظمها سنة 1317هـ ونترك أول القصيدة آخذين ما فيها من وصف للظلم والجاسوسية، وما فيها من احتجاج شديد وجهه الشاعر إلى خصومه فلم يفده شيئا:
ويممت دار الملك أحسب أنني
…
إذا كنت فيها نازلا أتمتع
وإني إذا ما قلت قولا يفيد في
…
مصالحها ألغيت من هو يسمع
ولم أدر أني راحل لمحلة
…
بها الفضل مجذوم الذراعين أقطع
إلى منزل فيه العزيز محقر
…
إلى بلد فيه النجيب مضيع
ويحاول الشاعر أن يعود إلى وطنه بعد ما شاهده من الغدر والخيانة والظلم الذي استغلقت فيه منافذ الحرية ولكنه لم يستطع العودة كما يشاء لأن الشرطة والجواسيس حالوا بينه وبين ما يريد:
ولما رأيت الغدر في القوم شيمة
…
وأن مجال الظلم فيهم يوسع
وأن الكلام الحق ينبذ جانبا
…
وأن أراجيف الوشاية تسمع
خشيت على نفسي فأزمعت رحلة
…
إلى بلدي من قبل أني أصرع
وهل راحة في بلدة نصف أهلها
…
على نصفه الثاني عيون تطلع
ولكنني لما تهيأت صدني
…
عن السير (بوليس) ورائي يرح
(للكلام صلة)
إبراهيم الوائلي
المسرح المصري
للأستاذ محمود سامي أحمد
احتكار الفن
أعود اليوم إلى موضوع المسرح المصري، لأكتب في ناحية أخرى غير تلك التي تناولتها في مقالتي السابقة، ناحية كان لها أثر كبير في ركود ناحية المسرح. ويؤسفني أن أقول أن الممثل هو سبب هذا الموت أو ما يشبه الموت الذي حل بالمسرح.
كان في مصر نهضة مسرحية رائعة فيما قبل عام 1930، وكان من أهم أسباب هذه النهضة تلك المنافسة القوية التي كانت قائمة بين الفرق التمثيلية المختلفة، فكانت كل فرقة تنتقي أحسن ما كتبه مؤلفو الغرب من مسرحيات، وأقوى ما يكتبه المؤلفون المصريون، بل كانت تجتذب إليها كبار الكتاب ليكتبوا للمسرح وذلك لتفوز بإقبال الجمهور دون الفرق الأخرى. وأظن أن الكثيرين منا يذكرون تلك المنافسة القوية بين فرقتي رمسيس وفاطمة رشدي، وتلك المنافسة الشديدة بين فرقتي الريحاني والكسار.
لم يكن التمثيل في ذلك الوقت قاصرا على لون بعينه، بل كانت المسارح المختلفة تعرض ألوانا شتى، من مآسي إلى ملهاة إلى أوبرا أو أوبريت، وهكذا كان الجو المسرحي جوا نابضا بالحيوية والنشاط.
أما بعد أن تكونت الفرقة القومية ثم المصرية فالحالة تغيرت وتطورت، ولم يكن هذا التطور نحو النهضة، وإنما حدث العكس، فقد انحط المسرح، وركدت ريحه، وحل به ما يشبه الموت إن لم يكن الموت نفسه.
وقد عجب كثير الناس كيف يموت المسرح بعد أن تكونت فرقة تعينها الحكومة بالمبالغ الطائلة نسبياً، وتجمع كل نابغة ونابغ من الممثلين؟ والحق إن هذه الأسباب نفسها هي سبب تدهور المسرح.
والمسألة بسيطة واضحة، فقد أحس الممثلون أنهم أصبحوا من موظفي الحكومة، ولم يعد أحد منهم يخشى على عيشه، فانتابهم الكسل، وفقدوا الدافع إلى العمل والتبريز، ولم تعد هناك فرقة أخرى تنافس الفرقة المصرية بعد أن جمعت أكثر الممثلين، فاحتكرت الفن، وأصبحت تعمل في السنة فترة لا تزيد عن أربعة أشهر أو خمسة، ثم يقضي أعضاؤها ما
بقي من شهور العام في النوم اللذيذ والكسل الحلو، وكلنا يسمع سنويا في الصيف عن الاستعداد الضخم للموسم المقبل، فإذا ما حل الشتاء وبدأت الفرقة عملها، إذا بالجمل يتمخض فيلد فأرا هزيلا لا حياة فيه. وكيف نرجو نهضة من فرقة لا تقدم في الموسم الكامل إلا روايات تعد على أصابع اليد الواحدة، ثم تعيد فيما بقي من الموسم القصير روايات سبق أن مثلت مرارا وتكرارا حتى ملها الجمهور؟
هذا الاحتكار هو أول معول هدم صرح المسرح المصري.
رسالة الفرقة المصرية:
المفروض أن للفرقة المصرة رسالة، ورسالة ضخمة تتناسب وما يجتمع فيها من كبار الممثلين.
والمفروض أن رسالة الفرقة هي العمل على رفعشأن المسرح المصري بتقديم أروع ما كتبه المؤلفون المسرحيون بين مصريين وأجانب.
والمفروض أيضا أن الفرقة لم تكونها الحكومة للكسب، وإنما كونتها للقيام بأعباء هذه الرسالة الثقافية الكبيرة.
فهل أدت الفرقة فيما سلخت من أعوام رسالتها؟
يحز في نفسي أن يكون الجواب بالنفي.
وأنا لا أبني فشل الفرقة في أداء رسالتها على قلة الإيراد، فهذا آخر ما يجب النظر إليه، وإنما أبني هذا الفشل على ما تقدمه الفرقة من روايات.
كم رواية تاريخية قدمتها الفرقة في تاريخها الطويل؟
لن أستطيع أن أبخس قدر الفرقة فأدعي أنها لم تقدم شيئا من هذه الروايات، ولكن ما قدمته منها ضاع في غمار ما قدمته من مسرحيات فاشلة أو سوقية تقوم على التهريج من نوع المهازل فهذا النوع أجدر به أن يمثل في دور الرقص والفن الرخيص.
وأين رسالة الفرقة وهي تعيد روايات مثلت قبل تأليفها، والمفروض أنها ما كونت إلا لتقدم نوعا آخر من الروايات غير ما كانت تقدمه الفرق الأهلية؟ لا شك أن الفرقة مقصرة.
أنا لا أفهم السر في قصر عمل الفرقة على نوع واحد من المسرحيات، وهي الفرقة الغنية بعناصرها الفنية، فلم لا تتكون من هذا العدد الضخم فرقتان أو أكثر، فرقة تعمل باستمرار
في القاهرة وفرقة تجوب الأقاليم المختلفة؟ ولماذا لا تتشعب منها شعبة للملهاة وثانية للمأساة وثالثة للأوبرا والمسرحية الغنائية؟
إن كان غرض الفرقة أن تقتصر رسالتها على الكسب المادي فلتنشأ إلى جانبها فرقة أخرى لا تهدف إلا إلى عرض الروائع المسرحية الخالدة، غير ناظرة إلى كسب مادي أو إلى أي عراقيل فنية. لتكن فرقة تجارب تثبت أقدام الأنواع الجديدة، فإذا ما استساغها الجمهور عرضت الفرقة المصرية منها وهي واثقة من إقبال الجمهور، فوجود فرقة التجارب هذه أمر واجب حتم لرفع شأن المسرح المصري.
وإني لأرجو أن يأتي اليوم الذي أغشى فيه مسرح هذه الفرقة فأراها تقدم عددا من المسرحيات ذات الفصل الواحد مثلا، أو أراها تعرض مسرحيات مما ترفض الفرقة عرضه الآن، فإن الفرقة المصرية ترفض الكثير من أروع المسرحيات محتجة بأن الجمهور لن يقبل عليها. ويكفي أن يعلم القارئ أن الفرقة رفضت مسرحيات لهنريك إبسن النرويجي مؤسس المسرح الحديث وأستاذ برناردشو، كما رفضت مسرحيات لسومرست موم الكاتب الإنجليزي العظيم.
المسرح والسينما:
وقد يدعي البعض أن السبب فيما حاق بالمسرح إنما هو انتشار السينما، فهي تتفوق على المسرح بوفرة مناظرها وتنوعها، واستطاعتها الجمع بين كبار الممثلين في صعيد واحد، وبرخص أسعارها بالنسبة للمشاهدين لإمكان عرض الرواية مئات المرات دون أن يدفع للممثلين أجر عن كل مرة، ثم لأنها اجتذبت كبار ممثلي المسرح بما تدفعه لهم من أجور عالية.
وهذه مغالطة، مغالطة ضخمة، لجأ إليها المتقاعسون عن العمل على رفع شأن المسرح، لأنها أسهل حجة يبعدون بها اللوم عن أنفسهم.
وما المسرح والسينما إلا كالرسم والتصوير، فإذا كان التصوير الفوتوغرافي قد قضى على الرسم بالفحم أو بالزيت، فإن السينما يمكن أن تقضي على المسرح. فالمسرح بالنسبة للمشاهدين شيء فيه حياة وروح لأنهم يرون الممثلين أمامهم بأشخاصهم، أما السينما فهي خيالات تعتمد على شيء كثير من خيال الجمهور ليوهم نفسه بأن أشخاصها أشخاص
حقيقيون. ولهذا يفضل الناس الذهاب إلى المسرح، فالشخص يذهب إلى دار السينما في كثير من الأحيان، ولكنه إذا أراد أن يحتفل بمناسبة ما وأراد قضاء سهرة خاصة خارج البيت فإنه يقصد المسرح.
وكذلك الحال بالنسبة للممثلين فإنهم يفضلون العمل في المسرح على العمل في السينما، وكل مطلع على أخبار الفنانين يسمع عن انصراف بعض ممثلي السينما في أمريكا وأوربا إلى المسرح بعض الوقت إرضاء لميلهم الفني، لأن المسرح يغذي فيهم الحاسة الفنية.
الرواية المسرحية:
لا جدل في أن الرواية المسرحية هي أحد الأعمدة التي يقوم عليها فن التمثيل، لذا يجب العناية بالتأليف المسرحي أكبر العناية حتى يظهر بيننا المؤلفون المسرحيون الذين يعتد بأعمالهم. وإني لا أنكر أن في مصر بعض مؤلفين ممتازين، ولكن ليس بالقدر الواجب توافره. والكتابة المسرحية تختلف عن أنواع الأدب الأخرى في أنها قائمة على الحوار، وإن بنائها يختلف اختلافا كليا عن القصة أو القصيدة مثلا، فالمسرحية لها قواعد خاصة يجب أن يلم بها المؤلف، فهي له كالنحو للكاتب لا يمكن أن يكتب كتابة سليمة إلا بمعرفته، كذلك لا يستطيع مؤلف أن يكتب مسرحيات صحيحة من وجهة النظر المسرحية إلا بدراسة هذه القواعد.
ولما كان أدبنا العربي لم يعمل في هذا الميدان إلا في السنوات الأربعين الأخيرة، فليس فيه أساس يبني عليه المحدثون، فواجب علينا لمن نطلع على ما كتبه الغربيون في هذا النوع، وأن نطلع على الكتب التي ألفت في دراسة المسرحية.
ولما كان عدد من يعرفون اللغات الأوربية قليلا في مصر، فإني أرى أن من واجب وزارة المعارف، ولجنة ترقية التمثيل، والمعهد العالي لفن التمثيل العربي، ودور النشر المختلفة، أن يتكاتفوا جميعا وينشروا ترجمات روائع المسرحيات من مختلف اللغات، وترجمات لكتب الفن المسرحي.
ومن الغريب حقا، أن دور النشر، وهي تعرض في الأسواق كل يوم عشرات من الكتب، أهملت المسرح والمسرحيات، ولم تنشر منها إلا أقل القليل، وهو أمر غريب، غريب حقا أن تتكاتف دور النشر جميعا على إهمال المسرح هذا الإهمال المشين.
ترجموا المسرحيات الجيدة، وأنا الكفيل بأننا سنرى بيننا بعد بضع سنوات عددا كبيرا من المؤلفين المسرحيين المجيدين.
وسائل النهوض بالمسرح:
وأخيرا، ألخص ما يجب علينا عمله لننهض بالمسرح المصري من كبوته فأقول:
انشروا حب المسرح بين أفراد الشعب وخاصة طلبة المدارس، وأكثروا من الفرق التمثيلية ليكون بينها تنافس يدفعها إلى الكمال، انشروا بين الناس ترجمات صحيحة جيدة لأروع المسرحيات ولأكبر ما كتب عن فن المسرح.
هذا هو السبيل، وهو بين واضح لمن يريد العمل على نهضة المسرح؛ أما غير ذلك فلغو باطل لا خير فيه.
محمود سامي أحمد
عدو الشعب الجاشنكير
للأستاذ عطية الشيخ
- 2 -
صرخة الشعب
ما أحسن قول شوقي في رواية كليوباترا:
أنظر الشعب ديون
…
كيف يوحون إليه
أثر البهتان فيه
…
وانطلى الزور عليه
ياله من ببغاء
…
عقله في أذنيه
وما أحقر عقل الجماهير ومنطقها، وما أكثر ما ترى شعبا من الشعوب، لمجرد فرية مزورة يعادي حبيبه، ويحب عدوه وينصر خاذله، ويخذل ناصره، ويصدق المحال، ويستبعد الحق. وصدق من قال أن الشعوب تقاد من عاطفتها لا من تفكيرها، وهكذا استطاع بعض البطانة أن يثير الشعب على بيبرس ومن معه. ولعل الشعب عطف على السلطان بغريزة مناصرة الرئيس على المرؤوس، والأب على الابن، أو لصغر سن السلطان، واستنجاده بهم، فتحركت فيهم النخوة التي تحمي من استجار.
وأيا كان سبب ذلك فسأنقل الرواية التاريخية بلفظها ليعرفها القارئ الكريم كيف كانت الأمة مصدر السلطة في ذلك العصر: (لما رأى العامة أن الملك الناصر قد وقف بالرفرف من القلعة، وجنود بيبرس وسلار تحاصره، حنقوا وصرخوا، وحملوا يدا واحدة على الأمراء، وهم يقولون: يا ناصر يا منصور، الله يخون الخائن، الله يخون من يخون ابن قلاوون، فأرسل بيبرس عدة مماليك لينحوا العامة ويفرقوهم، فاشتد صياحهم، وهجموا عليهم، وأفحشوا في حقهم، فخشي قائدهم من تكاثر العامة، وأخذ يلاطفهم، وقال لهم: طيبوا خاطركم فإن السلطان قد طاب خاطره على أمراءه، وما زال يحلف لهم حتى تفرقوا، وعاد قائد السرية بيبرس وعرفه شدة تعصب العامة للسلطان، فلم يسعه هو ومن معه إلا استعطافه، فأرسلوا إليه يقولون إنهم مماليكه وفي طاعته ولا يريدون إلا إخراج الشباب الذين يوقعون بينه وبينهم، فرضي السلطان بإخراج زعماء الدس إلى الشام، ودخل الأمراء عليه وقبلوا يده فخلع عليهم وركب معهم وطاف بالقاهرة لتطمئن قلوب العامة).
لم يحمد الدساسون المغبة:
عادت المياه إلى مجاريها، وحمد كل الله على ما انتهت إليه الفتنة، ولكن بطانة السوء لم تحمد الله على ذلك، فما زال بيبرس أمينا على خزانة الدولة، وسلار مصرفا لشئونها وهم محرومون من شهوة المال، وشهوة الحكم، فوجدوا في إخراج زعماء الفتنة مادة جديدة لإشعال أحقاد الملك على بيبرس، فأخذوا يتباكون على استبداد الأمير بيبرس بملكه حتى يجبره على نفي بعض خاصته، وعلى تحكمه في مأكل الملك وملبسه ومشربه وشهوة نفسه، حتى أن الملك يبيت (في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه إلى القدس. . . وقد ضاق صدره، وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس وسلار عليه، وعدم تصرفه في الدولة كما يريد، حتى أنه لا يصل إلى ما تشتهي نفسه من المأكل لقلة المرتب له! فلولا ما كان يتحصل له من أملاكه وأوقاف أبيه ما وجد سبيلا لبلوغ بعض أغراضه).
إلى الصيد:
بلغ الضيق منتهاه بالسلطان، وكاد يختنق هما وغما فخرج في سنة 708هـ من القلعة، وجاز النيل إلى البر الغربي، وأقام حول الأهرام يتصيد عشرين يوما، وهناك دبرت مؤامرة ثالثة خلاصتها أن يظهر الملك رغبيه في الحج مع عياله ثم يهرب إلى قلعة الكرك، وفي هذه الجهة النائية تعد نيران ثورة تلتهم بيبرس وسلار ومن معهما، ومهد لذلك بإرسال خطاب مزور باسم سلار وبيبرس إلى قائد قلعة الكرك ليسلمها للملك عند حضوره.
حج مبرور:
أعلن الملك رغبته في الحج مع عياله، وشرع الأمراء في تقديم الهدايا على العادة، من الخيل والإبل، والتزم عرب الشرقية بالشعير اللازم للدواب. وفي 25رمضان نزل السلطان من القلعة ومعه جميع الأمراء، وكانت البطانة لا تألوا جهدا في استغلال الشعب ضد بيبرس، مخترعين القصص مفترين الأباطيل عما يضايق بيبرس ملكه، حتى اعتبر الشعب نفسه مسؤولا عن إنقاذ الملك وحمايته من هذا الأمير المستبد القاسي، وأراد الشعب أن يعلن في توديعه الملك إلى الحجاز مقدار حبه له واستعداده للتضحية بكل شيء في سبيله (فخرج العامة حوله وحاولوا بينه وبين الأمراء وهم يتباكون ويتأسفون على فراقه ويدعون له
تحميد العودة) حتى وصل إلى بركة الحاج، فعاد المودعونجميعا من العامة والأمراء، وبيبرس وسلار يتعجبان مما سمعا من العامة ولا يعلمان أن الدس مستمر من البطانة إلى الشعب.
إلى الكرك:
بعث السلطان أهله إلى العقبة، وظل هو مدة بتصيد بالصالحية ثم سار في طريقه إلى الحجاز. ولما صار في أقرب نقطة إلى الكرك عرج عليها، وأرسل من استدعى أهله من العقبة، وأمر بإخراج كل من في ناحية الكرك من الأهالي، وبعث بقائد القلعة وحاميها إلى مصر ليخبر بيبرس أنه قد انثنى عزمه عن الحج واختار الإقامة بالقلعة، ورد معه كل الهدايا التي أهداها إليه الأمراء بمناسبة حجه، وأخذ الأمراء المصاحبون له في الحج يبكون ويحاولون إرجاعه عن عزمه فلم يفلحوا، فعاد الجميع إلى مصر محزونين. ولما لام بيبرس نائب القلعة على تسليمها للملك أطلعه على الخطاب المحرر باسمه واسم سلار، وبالبحث ظهر أنه مزور، دسه عليهما الطنبغا الكاتب، بتحريض من بطانة السلطان.
حرب القلم:
طلب الناصر علاء الدين بن الأثير الكاتب وأمره أن يكتب لبيبرس وسلار وأمراء مصر الكتاب الآتي: (بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله الجنابين العاليين الكبيرين بين الغازين المجاهدين، وفقهما الله تعالى توفيق العارفين، أما بعد فقد اطلعت على قلعة الكرك وهي من بعض قلاعي وملكي، وقد عولت على الإقامة فيها، فإن كنتم مماليكي ومماليك أبي، فأطيعوا نائبي ولا تخالفوه في أمر من الأمور، ولا تعملوا شيئا حتى تشاوروني، فأنا ما أريد لكم إلا الخير، وأنا ما طلعت إلى هذا المكان إلا لأنه أروح لي، وأقل كلفة، وإن كنتم لا تسمعون مني فأنا متوكل على الله والسلام) وصل الكتاب فاجتمع الأمراء بدار بيبرس، وقد طار صوابهم لهذه الألاعيب، وكتبوا إلى الملك بعد التشاور الجواب الآتي:
(ما علمنا ما عولت عليه، وطلوعك إلى قلعة الكرك وإخراج أهلها، وتشيعك نائبها، وهذا أمل بعيد. فخل عنك شغل الصبى، وقم واحضر إلينا، وإلا بعد ذلك تطلب الحضور ولا يصح لك، وتندم ولا ينفعك الندم، فيا ليت لو علمنا ما كان وقع في خاطرك وما عولت
عليه، غير أن لكل ملك انصرام، ولانقضاء الدولة أحكام، ولحلول الأقدار سهام، ولأجل هذا أمرك غيك بالتطويل، وحسن لك زخرف الأقاويل. فالله الله حال وقوفك على هذا الكتاب يكون الجواب حضورك بنفسك ومعك مماليكك، وإلا تعلم أنا ما نخليك في الكرك، ويخرج الملك من يدك والسلام).
تنازل مصطنع:
لما قريء الكتاب على الناصر تبسم وقال: لا إله إلا الله! كيف أظهروا ما في صدورهم! ثم أمر بإحضار آلة الملك مثل العصائب والكوسات والهجن وكل ما كان عنده من شارات الملك وسلمها للرسول. وقال له: قل لهم ما أخذت لكم شيئا من بيت المال، حتى الهدايا أرجعتها إليكم، ولن أعمل سلطانا، فدعوني في هذه القلعة، منعزلا عنكم إلا أن يفرج الله تعالى أما بالموت وأما بغيره. وسلم كتابا بالتنازل عن السلطنة، وعاد الرسول إلى مصر ودفع الكتاب لبيبرس وسلار وسلمهما شارة الملك، (فلما قرأ الكتاب قالا:(لو كان هذا الصبي يجئ ما بقي يفلح، ولا يصلح للسلطنة، ولا نأمن غدره).
تشاور وبيعة:
اجتمع بيبرس وسلار وسائر الأمراء بدار النيابة بالقلعة، واستدعوا الخليفة وقضاة المذاهب الأربعة، وقرئ كتاب الناصر، وشهد الأمراء الذين عادوا من صحبته بتنازله عن العرش فأثبت ذلك، وبحثوا فيمن يصلح للسلطنة بعده، واختلفوا بين سلار وبيبرس فأنهى سلار الخلاف بأن قام وبايع بيبرس، فقبلها الأخير مكرها (وجلس على تخت الملك وهو يبكي بحيث يراه الناس) واشترط لقبوله الملك أن يبقى سلار نائب السلطنة، فقام الأمراء إليه حتى قبلها ولبس خلعة النيابة.
حرب السماء:
كأن من شيم الأيام عداوة الكرام، وكأن الزمان حليف الأخس، وكأن وظائف السياسة ملعونة منحوسة لا يسعد فيها إلا كل ملعون نحس، فطالما رأينا عوامل الطبيعة تتضافر مع لئام الناس في حرب الكرام، وقلما رأينا الحق في صراعه مع الباطل إلا مهزوما، وكلما صنع اللئيم سنانا لحرب الكريم أنبت الزمان قناة لسنانه، ولولا هذه المشاهدات، ما آمن الناس
بأخرة تنصف المظلوم من الظالم، وتعوض الفضل من المفضول، وما آمن ابن العاص حتى فكر فوجد العرب أقوم أخلاقا من العجم، والعجم أسعد دنيا من العرب، فقال لا بد من آخره تقيم هذا العوج. أقول هذا لأن بيبرس المستقيم العفيف المخلص العفيف النزيه، ما كاد يجلس على العرش حتى بدأ سوء الطالع يلازمه، فقد فشت في البلاد أمراض حادة، وعم الوباء الخلائق، وعز التداوي، وامتنع كل ما يحتاج إليه المرضى، ثم تأخر فيضان النيل إلى شهر مسرى، فارتفع سعر القمح وعم الغلاء جميع السلع، ولم يزد النيل في هذه السنة عن ست عشرة ذراعا فشرقت أرض كثيرة وتوقع الناس مجاعة قاسية، ودبت عقارب السعاية بين الشعب مستغلة الظرف (فتشاءم الناس بطلعة الملك المظفر بيبرس) وصنع العوام أغنية صاروا يتغنون بها وهي:
سلطاننا ركين
…
ونائبنا دقين يجينا الماء من أين
يجيبوا لنا الأعرج
…
يجي الماء ويدحرج
يقصدون بركين ركن الدين بيبرس، وبدقين سلار لأنه كان مغولبا أجردفي حنكه بعض الشعرات، وبالأعرج الملك الناصر لأنه كان كذلك، وقد أخذ بعض المحبين للملك يضربون من يغني هذه الأغنية، فكانوا كالدية المخلصة لصاحبها، رضي الله عنها، إذ سببوا ازدياد الكراهة من الشعب للملك، وولوعه بهذه الأغنية حتى كانوا يغنونها تحت سور القلعة، فوضعت الوحشة بين المظفر وبين عامة الشعب.
أمراء الشام:
تزعم حركة الولاء للناصر، وعدم الاعتراف بسلطنة الجاشنكير، ثلاثة من كبار أمراء الشام. هم قراسنقر نائب حلب، وقبجق نائب حماة، واستدمر نائب طرابلس، وكان أكبرهم وزعيمهم قراسنقر، أما الأفرم نائب دمشق فكان أخلص الناس للجاشنكير إذ كان جركسيا مثله لذلك بايع الأفرم وأرسل إلى الثلاثة السالفين؛ فأما قراسنقر فقال لرسول الأفرم: إيش الحاجة لمشورتنا بعد أن حلف أستاذك وبايع وكان الأولى أن يتأتى، وأما قبجن فقال للرسول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إيش جرى على ابن أستاذنا حتى عزل نفسه! والله لقد دبرتم أنحس تدبير، اذهب إلى أستاذك وقل له الآن بلغت مرادك، وسوف تبصر من يصبح ندمان وفي أمره حيران. وأما استدمر فقال للرسول: اذهب إلى أستاذك
وقل له يا بعيد الذهن وقليل العلم، بعد أن دبرت أمرا ما الحاجة إلى مشورتنا؟ فو الله ليكونن عليك أشأم التدبير وسيعود وباله عليك. ثم اجتمع هؤلاء العصاة الثلاثة واتفقوا على العمل سرا مع الناصر لإعادته إلى الملك وخلع بيبرس وألا يقطع واحد منهم في رأي إلا بمشورة أصحابه.
يتبع
عطية الشيخ
مفتش المعارف بالمنيا
ختام قصة
خيانة امرأة
- 4 -
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي أديب. . . ومن العجب أن يقول: (وهل هناك رجل يرى زوجته مع رجل غريب على فراشه فلا تظهر آثار رجولته وغضبه إلا في خطاب يخاطب فيه بكلام يشبه الفلسفة؟ أهذا هو الرجل في الشرق أم في الغرب؟) هذا كلام فيه سخرية منى لاذعة وتهكم من الفلسفة مرير، فهو يسم الفلسفة بالعجز والفتور ويصورني رجلا خوار العزيمة جبان القلب؛ ذلك لأن صاحبك لم يستطع أن يستشف ما وراء السطور من ثورة جامحة عنيفة تتبدى حينا في عنف وتتوارى حينا في أسى، ولأنك أنت يا صديقي - حين كتبت القصة - جعلت اللص دبر أذنيك فما تحدثت عن شأني وشأنه بكلمة واحدة، وأنا قد نشرت على يديك جملة الخبر فقلت لك إنني حين أحسست بالطعنة القاسية تتغلغل في قلبي هدرت هدير الجمل الهائج غاظه عبث طفل أحمق، فانطلقت صوب الخائن والخائنة أحتدم احتداماً جارفاً، فلم أدع الرجل يفلت من يدي إلا بعد أن صار حطاماً من إنسان ثم قذفت به إلى الشارع وهو لا يكاد يتماسك مما ناله من تورثي وبطشي. ثم اندفعت في فوره الغضب أفتش عن الخائنة - وقد توارت عن عيني - فما راعني إلا أن أسمع صوتاً رقيقاً ندياً يناديني: بابا. . بابا! فالتفت فإذا أبني الأكبر يشتد نحوي على عادته كلما أقبل من روضة الأطفال. . . يشتد نحوي ليتشبث بي ويتعلق بعنقي ويغمرني بقبلاته الحارة، وفاضت مشاعره الطاهرة الجياشة يتوثب الحب من خلالها ويتأرج الصفاء من أضعافها. آه يا قلبي! لقد شعرت بقبلات الطفل تلفني في جو من الهدوء والسكينة وتكبت الثورة العنيفة في قلبي وتستلبني من حيوانيتي العمياء، وضننت أنا بأعصاب الطفل أن تتحطم حين يراني اهجم على أمه في قسوة وعنف أذيقها وبال أمرها، فأمسكت حتى حين. وانطلق الطفل ينادي اخوته فتدفقت رنات صوته في أغوار قلبي نغماً موسيقياً أخاذاً يدفعني إلى هؤلاء الملائكة الصغار. . . إلى أولادي. . . إلى أحبائي. ورأيت الطفل يدور في الحجرات يبحث عبثا عن أخوته في جنون وشغف. لقد أرسلتهم الخائنة مع الخادم إلى دار أختها ليخلو لها الجو
هنا. . هنا في داري، ثم أقبل الطفل وهو يلهث من شدة ألاين ومن أثر الإخفاق. . . أقبل يسائلني عن أخوته فضممته إلى صدري وانتحيت به ناحية ألقي السمع إلى حديث التافه البريء عسى أن أجد فيه سلوة أو عزاء، ولكن. . .
وظللت أياما أدير الرأي في خاطري فما أهتدي وإن بي لنهماً إلى الدم يدفعني إلى أن أحتقر نفسي وأمتهن عقلي لأنني لم أقطع في الأمر برأي منذ أن كان، ولأنني أصغيت إلى صوت قلبي حين رنت في جنباته صيحات طفل بريء. ثم أخذتني ثورة الجهل لأني فتى بدوي الطبع ريفي الشمائل، فعقدت العزم على أمر.
وجلست إلى زوجتي - بعد أيام - وقد ملأني الغيظ بروح الشر وغمرني الكمد بنوازع الانتقام. . . جلست إليها أناقشها في شدة وأجادلها في عنف وفي حديثي سمات الاحتقار وعلامات الازدراء؛ قلت لها (كيف سولت لك نفسك أن تفتحي بابك لرجل غريب يقتحمه في غيبتي؟) قالت (ليس هذا رجلا غريباً عني فهو من ذوي قرابتي جاء يزورني) قلت في تهكم (فجلستما معاً على سريري تتجاذبان حديثاً فيه العفة والطهر) قالت (فأنت الآن تتهكم بي وتتهمني في شرفي) قلت (عفوا! فما كان أجدرني بأن أذر الدار لكما تستمتعان فيها كيف شئتما، وأن أعتذر لكما في رقة وأدب لأنني قطعت صفوة الخلوة) قالت في تنمر (ماذا تعني؟) قلت (أعني أن هذه الدار داري ولا حق لك في أن تفعلي شيئاً إلا أن آذن لك) فضحكت في سخرية ثم قالت (إذن تريد أن تتعبدني. لعلك نسيت أننا هنا شريكان!) قلت (هذا كلام توحي به حماقة المرأة لتوهم نفسها بأنها شيء وما هي بشيء. إن الشركة - يا سيدتي - معناها التعاون فبماذا تساهمين هنا. . . في هذه الدار. . . لتستمتعي بحق الشركة) قالت في غضب (أنت تعرض بي وأنا لا أستطيع أن أصبر على مثل هذا الكلام) قلت (وهل يعبأ مدير الشركة بمن أصابه مس من جنون فحاول أن يستمتع بأرباح الشركة دون أن يساهم فيها بنصيب؟) قالت في تحد (هذه أفكار رجعية تافهة) قلت (ولكنها مبادئي أنا ومبادئ الحياة. إن المرأة التي تمرح فضل في الرجل وترفل في نعمته، ولا تحس الضيق ولا العنت؛ لا بد لها أن تتعبد الرجل في رضا، وتخضع لرأيه في استسلام، وتقر بسلطانه في تواضع. فإن كابرت فهي وضيعة الأصل دنيئة المنبت؛ أولا، فهي حمقاء العقل هوجاء الرأي؛ أولا، فهي ساقطة تافهة. . . ولا معدي لرجل فيه الرجولة عن أن يقيم
عوجها - إذ ذاك بالعصا. . . العصا التي يسلس لها الحيوان الشموس وينقاد. . . أو بالكلمة التي تقذف بها إلى الشارع) قالت (هذا كلام رجل ريفي الطبع ريفي العقل ريفي النزعة لم يهذبه التعليم ولا وشذبته المدنية) قلت (أما أنت فقد هذبك التعليم فنزلت عن الكرامة. وشذبتك المدينة فأغضيت عن الشرف، وصقلتك الحضارة فعبثت بالعرض) فقالت في ثورة جامحة (أنت رجل سافل وضيع) فثار غضبي وتأجج غيضي واندفعت إليها وأنا أزجرها بقولي (اخرسي يا. . .) ثم أهويت عليها بصفعة قوية قاسية طار لها صوابها فانقضت علي تخمشني بأظافر حادة كأنها مخالب نمر فركلتها ركلة قوية فانحطت على الأرض وهي تعوي عواء ذئب ناله أذى شديد فما يمسك عن العواء. . .
وسمع أولادي صيحات أمهم فتدافعوا نحوي، وأفزعهم أن يروا المرأة على الأرض تتلوى مما أصابها من شدة الركلة، فانطلقوا إليها يلقون بأنفسهم عليها يتمسحون بها وهم يبكون في مرارة وحسرة وقد كست وجوههم صفرة الرعب ورانت على نظراتهم علامات الحيرة والفزع، وانصرفوا عني جميعا في إهمال وخوف. ووقفت بازائهم حينا أنظر في ذهول ودهشة، ثم تسللت من الدار وأنا أحدث نفسي (يا عجباً إن في الأم معاني سامية لا يدركها إلا قلب الطفل) وخرجت من الدار أهيم على وجهي وإن كلمات أبي ترن في مسمعي حين قال (وإذا تفلسفت الفتاة في الدار جمحت بها نزوات الطيش فأنكرت وظيفتها وجحدت مكانتها، فتستحيل طمأنينة الزوج إلى فزع ما ينتهي ويحور هدوء الدار إلى ثورة ما تنقضي. إن المرأة التي تلد الفلسفة تلد الهم والأسى والضيق في نفس الرجل. . .)
وعدت إلى الدار في هدأة الليل لأجلس إلى زوجتي أحدثها في صراحة (إن الحياة لن تستقر في هذه الدار إلا أن تبرحيها، فأنا لا أستطيع أن أجد هدوء نفسي ولا راحة قلبي إن رأيتك إلى جانبي. وإذا رفضت، فستدفعني حماقتك إلى أن إلى أن أكشف لأهلك عن فضيحتك. وإذ ذاك أقذف في وجهك - مرغما - بالكلمة المحرمة. تعللي بما تشائين من التعلات، واتهميني بما يروق لك من التهم، ولكن حذار أن تتحدثي لأهلك بحقيقة ما كان) قالت في انكسار (والأولاد؟) قلت (خذي أبني الرضيع وذري الباقين أقوم على حاجاتهم وأسهر على تربيتهم)
وانفلتت زوجتي إلى دار أبيها تصحب أبني لرضيع وحده. * وغبرت أياما وأنا أعيش بين
أولادي أبا وأما، أهيئ لهم حاجاتهم وأعد لهم رغباتهم، ولا أطمئن إلى قلب الخادم وهو غليظ، ولا أرضى عن يدها وهي قاسية. وأحاول جهدي أن أصرفهم عن التفكير في أمهم بالحديث والحلوى واللعب ما أستطيع، فجرفني سيل عارم من الأسى أكتمه في قلبي وأغمض جفني عن قذاه واقضي الليل ساهرا قلقا أقلب الفكر في جوانبه وأدير الرأي في نواحيه، حتى نال مني التعب وأصابني الإرهاق وبدا لعيني أن صغاري يتجرعون كأسا مريرة من اليتم والضياع حين افتقدوا الحنان والعطف. وأحسست بأن الحياة قد اضطربت وأن نظام الدار قد تشعث وأن مالي قد تبدد في غير رحمة. وأصبحت الدار في ناظري جحيما يتلظى أوارها فيكاد يلتهمني أنا وأحبائي دفعة واحدة، أو سجناً ضيقاً يقضقض عظامي وعظامهم معاً.
ولشد ما حز في نفسي أن أرى أبني الأصغر - وهو في الثانية من عمره - يدور في أنحاء الدار - ساعات طوالا - يفتش عن أمه لا يهدأ ولا يستقر وهو ينادي في لهفة وشغف: ماما. . . ماما! ثم يرتد في ذله وانكسار، وقد آلمه الإخفاق وأضناه البحث. يرتد ليلقي بنفسه بين يدي وهو ينادي بصوت باك حزين: ماما. . . ماما! ورحت أبذل غاية الجهد لأهدهد دوافع نفسه وأستغرق وسع الطاقة لأصرفه عن نوازع قلبه، فأعجزتني الحيلة، فأخذت أنظر إليه في لوعة وأسى وإن العبرات لتكاد تتطفر من محجري
وهكذا توزعتني حاجات الصغار وحاجات الدار وحاجات العمل وحاجات العيش، فتقسمتني الشواغل المتضاربة، فتفرطت عزيمتي وتبددت قوتي ولفتني الحياة في إعصار من الضيق والملل.
ووسوست لي نفسي فانطلقت إلى زوجتي في دار أبيها أطلب إليها أن تعود إلى داري لترعى شان أولادي فاستسلمت في خضوع ورضخت في استكانة.
وها أنا الآن - يا صاحبي - أعيش في صراع دائم لا يهدأ ولا يستقر، أعيش بين عدوتي الخائنة، زوجتي، وبين أحبائي الأعزاء، أولادي، لا أستطيع أن أقذف بعدوتي إلى عرض الشارع فأقتل السعادة والأمان في قلوب أحبائي، ولا أستطيع أن أصبر فأراها إلى جانبي تذكرني - أبدا - بغباوتي وحمقي.
كامل محمود حبيب
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
المهرجان الأدبي بالجامعة الشعبية
سموها (مؤسسة الثقافة الشعبية) ولكن ما زال الاسم القديم (الجامعة الشعبية) جارياً على الألسنة، لتقدمه وخفته وثقل الاسم الجديد. . وقد رأيناه على بطاقة الدعوة إلى المهرجان كما نراه في الصحف، ولكن في المهرجان نفسه وعلى الألسنة الخطباء من المشرفين عليها أنفسهم لا يزال اسم الجامعة الشعبية هو السابق الأثير. وكأنهم قد أرضوا طلبة الجامعة (غير الشعبية) بتغيير الاسم (تحريرياً) فقط، حتى لا يشركهم الشعبيون في لفظ الجامعة. . وبذلك انتفى سبب من أسباب (الاعتصام)!
ولكي تثبت الجامعة الشعبية - وأنا على المصرين على ذلك - إنها جامعة حقاً، أراد قسم الدراسات الأدبية لجماعة من الأساتذة يستمع إليها المدعون من أهل العلم والأدب ورجال الصحافة. . ولنا تعقيب في موضوع المهرجان يأتي بعد أن نلقي نظرة على برنامجه.
بعد أن أفتتح المهرجان بالسلام الوطني ونشيد الجامعة الشعبية وقف الدكتور أحمد أمين بك رئيس مجلس إدارة الجامعة، فألقى كلمة قال فيها إن فكرة الجامعة الشعبية ثورة على النظم المدرسية التي كانت تقف عندها وزارة المعارف، فهي تقبل كل راغب في الثقافة غير متقيدة بسن ولا بامتحان دخول، ولا تعلم لتعطي شهادة تسعرها وزارة المالية؛ وهي تيسر الثقافة للعامل في مصنعه وللفلاح في حقله وللبنت في حارتها. . .، وقال إن مهمتها أن تمحو الأمية العقلية، فليس محو الأمية مقصوراً على تعليم القراءة والكتابة، وأن تكون رأياً عاماً ناضجاً يفهم حقائق الأمور ولا ينطلي عليه الخداع والدجل.
وذلك كلام قيم. غير أن الدكتور أحمد أمين بك صور المسألة على أن الجامعة الشعبية هي التي تحقق التثقيف العام المطلوب من حيث تكوين المواطن الصالح والرأي العام الناضج، كان ليس هذا من أغراض المدارس والجامعات التي تعلم الناشئين، وهو يعلم باعتباره مؤسسا للجامعة الشعبية أنها فرصة لمن فاتهم إتمام التعليم في الصغر فهي مكملة لنقص في الثقافة لا محدثه نوعاً جديداً من التثقيف فكل ما فيها - عدا المحاضرات العامة - أقسام تعلم ما يعلم في المدارس العامة والفنية.
وبعد ذلك ألقى الأستاذ السباعي بيومي بك كلمة موضوعها (مشاهد البطولة في الأدب الجاهلي) فتحدث فيها عن حروب العرب وآثارها في أخلاقهم من حيث تكوين البطولة التي تقوم على الشجاعة ورثاء البطل الشهيد وقرى الأضياف. والموضوع من موضوعات تاريخ أدباللغة العربية المعروفة، ولكن الأستاذ أحسن عرضه وتجميع فكرته، كما أجاد اختيار الشواهد التي كانت موضوع الاستحسان ومثار التصفيق.
ثم ألقى الأستاذ مهدي علام بحثاً في (الصداقة في شعر المتنبي) قال فيه إن المتنبي لم يكن له أصدقاء، لأنه كان متعالياً لا يرى أحداً أهلا لصداقته، ولأنه كان متشائماً سيئ الظن في الناس، ولأنه كان ذا أطماع يبغي الوصول إليها فيتخذ الصداقة ذريعة لها ثم يخرج عليها، وعلى ذلك كان البحث جديراً بان يسمى (عدم الصداقة عند المتنبي)
ثم تحدث الدكتور عبد اللطيف حمزة عن (الروح المصري في شعر البهاء زهير) وكان حديثه قيما، ومما قاله أن البهاء كان شعبي النزعة في شعره، وأن هذه الشعبية قوة لم تتح لمعاصريه من الشعراء الذين جروا على التقليد ومحاكاة الأقدمين، أما هو فكان يصور البيئة المصرية ويعبر عن روحها تعبيراً أصيلاً، ومن مظاهر ذلك سهولة شعره واستعمال العبارات الفصيحة الجارية على ألسنة الناس والتي يترفع عنها الأدباء والشعراء ويعدونها ابتذالا، ومن هذا اقتباسه الأمثال العامية، إلى شيوع الدعاية والمرح في شعره.
وألقى بعد ذلك الأستاذ محمد سعيد العريان بحثاً عنوانه (ديمقراطية الأدب) فأتى في الموضوع بمحصول الدراسة الدقيقة وهيأ بعرضه جواً من الإمتاع المعجب. قال إن الأدب عرف أول ما عرف على أنه فن من فنون الجمال أو لون من ألوان الترف العقلي، وظل كذلك مفهومه في أجيال متعاقبة، في العربية وغير العربية من لغات الناس، لا يكاد يتجاوز هذه الدائرة إلا خطوة بعد خطوة في السنين ذوات العدد، حتى التقى في هذا العصر بالحياة الإنسانية في صميمها أو شك أن يلتقي، فإذا هو في حياة الناس عامل ذو أثر، وإذا هو توجيه لهذه الحياة، وتوجيه لهذا الناس، وإذا هو ضرورة بعد ترف، ودعوة إلى الكمال بعد دعوة إلى الجمال، وكذلك عرف الإنسان الديمقراطية أول ما عرفها على أنها مذهب من مذاهب الحكم وصلة من الصلات بين الحكام والمحكومين ثم تطور هذا الفهم على مر القرون، فإذا الديمقراطية رأي وفن من فنون الجدل العقلي، ثم إذا هي تجربة عملية يراق
على جوانبها الدم، ثم إذا هي وعي وإحساس وفكرة إنسانية، ثم إذا هي حكومة وبرلمان وتعاون الحاكم والمحكوم على الرقي بمستوى الحياة الإنسانية. وكذلك صارت الديمقراطية وجداناً إنسانياً عاماً يرتفع بالمستوى العقلي العام للجماعات فوق اعتبارات الغنى والفقر وفوق اعتبارات العرق والدم واختلاف المنشأ والبيئة. وفي هذا العصر التقى الأدب بمعناه العميق الواسع، بالديمقراطية بمدلولها الوجداني الرفيع وصارت ديمقراطية الأدب - ونحن منها على الطريق - أنه فن من فنون المعرفة للسمو بمستوى العقل الإنساني ولون من ألوان الأخوة الإنسانية، ونسف الأبراج العاجية فلا تحجب حقيقة من حقائق الحياة عن ذي عينين.
وانتقل الأستاذ سعيد بعد ذلك إلى مناقشة من يقول بان ديمقراطية الأدب هي أن تكتب للناس بلغة الناس، ومن يقول بأنها انتزاع الموضوعات من صميم الحياة التي تحياها الطبقات الشعبية العامة أو البيئات الدنيا فقال: جميل أن تكون لغة الأديب وأسلوبه وفنه في الأداءبحيث يحس مذاقها الملايين ذات العدد من الناس، ولكن أجمل من ذلك أن يكون الأدب توجيها إلى ما هو أرفع وأرقى وأكمل، فليست المساواة هي الغاية الأولى للديمقراطية ولكن السمو هو الغاية. وقال: ليست الديمقراطية في الأدب هي أن يكون الموضوع ديمقراطيا، فقد يؤخذ الموضوع من طبقة عالية ويعالج على نمط يحقق أهداف الديمقراطية القومية والدعوة إلى الحرية والمساواة والأخوة الإنسانية.
وتحدث الدكتور إبراهيم ناجي عن (القصة في العصر الحديث) فاستعرض تطور فن القصة من الكلاسيكية إلى الرومانتيكية إلى الواقعية. ولوحظ أنه قصر كلامه على القصة في العالم الغربي ولم يعرج على القصة المصرية بقليل أو كثير.
وألقى الأستاذ علي الجمبلاطي قصيدة جيدة وصف فيها حال الطالب بالجامعة الشعبية من حيث تيسيرها له ما يطمح إليه من تعليم وتثقيف، ومنها قوله يخاطب الجامعة:
أنت أعليت فيه أشواقه العل
…
يا فأعلى ما فيه من رغبات
ومشى للجمال يدفعه الشو
…
ق إليه وصادق العزمات
كان لولاك يقطع العيش سأما
…
نا ملول الساعات واللحظات
لا يرى في الحياة غير فراغ
…
مد فوق الحياة ظل السبات
وحبذا لو قصر الأستاذ الجمبلاطي كان قصيدته على الموضوع دون أن يمدح وزير المعارف ورئيس مجلس إدارة الجامعة الشعبية ومديرها العام بنحو نصف القصيدة مدحا غير وثيق الصلة بموضوعها.
وبعد فما موضوع هذا المهرجان؟ ولم أقيم؟ وما مدى صلته بالجامعة الشعبية؟
يجب أولا أن نرحب بأي حفل للأدب في أي مكان، ويجب ثانيا - من باب نسبة الفضل إلى أهله - جهد الأستاذ علي الجمبلاطي مفتش الدراسات الأدبية بالجامعة الشعبية، الذي بذله في إقامة المهرجان وتنظيمه، وقد أشاد به الدكتور أحمد أمين بك في كلمته، وهو جهد بارز يدل على ما وراءه من محاولة إحياء الدراسات الأدبية في الجامعة الشعبية، وقد شاهدنا انصراف الطلبة عنها - وعن سائر الدراسات النظرية في السنوات الماضية حتى لقد أصبح كل جهدها يكاد يكون قاصراً على الصناعات والفنون التطبيقية، وأترك هذه الظاهرة مكتفيا بالتنبيه عليها، لعلهم ينظرون فيها، لمعرفة أسبابها ومعالجتها، وأعود إلى المهرجان.
سمعنا المحاضرات التي ألقيت، وهي ذات موضوعات مختلفة، من أساتذة أجلاء تدعوهم الجامعة إلى إلقاء محاضرات عامة في دار الجامعة، وهذه كل صلتهم بها. وهي موضوعات غير ميسرة أي لم يراع فيها مستوى طلبة الجامعة الشعبية، ولم يراعى هذا؟ وأين هم هؤلاء الطلبة؟ إن الحاضرين هم مجموع المدعوين إلى حفلة الشاي من رجال الأدب والصحافة وغيرهم من المثقفين وكبار الموظفين.
لقد فهمت قبل أن أشهد الحفل انه يمثل الجامعة الشعبية بمعنى أنها أرادت أن تبرز به جهودها الأدبية فيمن يقصدونها من الطلاب، فنرى بعضهم، ولو إلى جانب الأساتذة، يبدي بعض ثمرات الغرس ولكننا لم شيئا من ذلك، فلم نشهد الطلبة حتى في مكان الاستماع. . .
وقد رأينا أن المحاضرات كانت مختلفة الموضوعات، ولكن يلاحظ أن محاضرتي الأستاذ العريان والدكتور حمزة وقصيدة الأستاذ الجمبلاطي تجمعها سمة واحدة ذات ارتباط بفكرة الجامعة الشعبية، وكان موقع الفكرة الشعبية في كل من المحاضرتين والقصيدة. جميلا مناسبا. وهذا يدل على أنه كان يمكن وكان يحسن أن يكون للمهرجان فكرة أدبية معينة تتجه إليها أفكار المحدثين.
عباس خضر
تعقيبات
للأستاذ أنور المعداوي
كتاب عن مصر لجان كوكتو
في الشتاء الماضي حل الكاتب الفرنسي جان كوكتو ضيفاً على مصر، وفي ذلك الحين كتبنا عنه كلمتين في (التعقيبات) وردت في إحداها هذه الفقرات:(ولقد تهيا لنا أن نطلع على أربع رسائل تلقاها من باريس أحد أصدقائنا من بعض زملاء دراسته في السوريون وهي تدور حول كوكتو وفنه ورحلته إلى مصر: رسالتان تحطان من قدره وتحملان على خلقه، ورسالتان ترفعان من فنه وتشيدان بمواهبه، ونحن بين الرسائل الأربع يأخذنا العجب من رجل لا يلقى رأيا وسطا بين المعجبين به والمتحاملين عليه)!
وهذه فقرات أخرى مما قلناه عنه في الكلمة الثانية: (أما مصر فقد قال عنها كوكتو إنها أوحت إليه الكثير؛ لقد انفرد بأبي الهول ساعات في النهار والليل، وصادف من قلبه منزلة حسنة فباح له بسره، أما هذا السر فسيحمله إلى المصريين كتاب يود كوكتو أن يفرغ منه في الشهور المقبلة، كتاب يقبس أسلوبه السحر من وحي النخيل الباسق على ضفاف النيل. . . وكل ما نطلبه إلى الكاتب الفرنسي فهو أن يكون صادقاً في إصغائه لكلمات أبي الهول، أميناً في نقل حديثه ونجواه. إن أبا الهول لا يمكن أن يتجنى على وطنه، لأنه عاصر تاريخه، وأشرف على حضارته، وبارك منذ خمسة آلاف عام مجده الخالد. . . إننا في انتظار كتاب جان كوكتو لننظر فيما إذا كان قد استمع لكلمات محدثه أم انقاد لنزوات هواه)!
قلنا هذا الكلام عن الكاتب الفرنسي منذ عام على وجه التقريب، وبعد أيام من هذا الذي قلناه نقلت جريدة (البورص) الفرنسية كلمتنا الأولى بما فيها من فقرات تسير إلى أخلاق الرجل تلك الإشارة العابرة. . . وليس من شك في أن الكاتب الفرنسي قد اعتذر من لقائنا يوم أن رغبنا في لقائه، حين قرا تلك الفقرات اللاذعة في الصحيفة الفرنسية! ويشهد الله أننا لم نكن متجنين يوم أن نعتناه بسوء الخلق وانحراف الطبع، لأننا لم نقل فيه إلا هذا القليل مما حملته إلينا رسائل مواطنيه، بل لعلنا قد استشرنا الذوق حين أغفلنا الكثير مما جاء بتلك الرسائل، نزولا على حكم المجاملة نحو ضيوفنا من الأدباء. . . ومن هذا الكثير
الذي أغفلناه قصص تصور بعض مظاهر الشذوذ الخلقي في شخصية جان كوكتو وهي قصص لم نكد نشك في صحتها حتى بعث إلينا مرسلوها بصورة فوتوغرافية تمثل الكاتب الفرنسي في أحد الأوضاع الشاذة التي تأباها رجولة الرجال، وقد كتب تحت الصورة الحافلة بكل ما يشين الخلق هذا الاعتراض: كيف تحتفي مصر برجل هذه هي كل مواهبه؟!!
وطوينا هذا الذي وافتنا به لرسائل الفرنسية، واستقبلنا جان كوكتو، واحتفينا به، وأقمنا له المآدب والحفلات. . . وانتظرنا بعد هذا كله أن يقول كوكتو عن مصر كلمة تتسم بالعدل والإنصاف، وإنها لأقل ما كان ينتظر منه ردا لكرم الضيافة واعترفا بالجميل. ولكن الرجل أبى إلا أن يكون نسخة صادقة من صورته الفوتوغرافية. . . وهاهو يخرج كتابه عن مصر، وهاهي الحكومة المصرية تصادر الكتب التي لطخت صفحاته بأسخف ألوان الكذب والافتراء!
ولكن ما جدوى هذه المصادرة والكتاب يقرأ في كل مكان خارج الحدود المصرية؟ لقد كنا نفضل أن لا يصادر هذا الكتاب الهابط ليتاح للأدباء المصريين أن يقرؤوه، عسى أن يتناول أحدهم قلمه ليرد على الكاتب الذي خضع لانحراف طبعه وانقاد لنزوات هواه. . . نقول هذا ونحن نتطلع إلى الدكتور طه حسين، نتطلع إليه لثلاثة أسباب: السبب الأول أن الدكتور يتمتع بمكانة ملحوظة في الأوساط الأدبية الفرنسية، فهو إن تناول قلمه ليرد على جان كوكتو كان لرده أجمل الوقع وأبعد الأثر. والسبب الثاني أن في الكتاب صفحات منصفة لشخصية الدكتور وأدبه، فهو إن تغافل عن هذا الثناء الذي أضفي عليه، كان لرده أبلغ الدلالة على سمعة الأوطان فوق سمعة الأفراد. . . أما السبب الثالث فلا بأس من أن أذكر الدكتور به، حين أطوي من الزمن عاماً أرتد معه إلى ذلك المساء الذي جمعني به على ميعاد؛ لقد دار الحديث في تلك الليلة على ما كتبته في (الرسالة) عن جان كوكتو، وما زلت أذكر تلك الابتسامة العذبة التي ارتسمت على شفتيه، وهو يرغب إلي في أن أكف قلمي عن الكاتب الفرنسي خضوعاً لواجب المجاملة. . . وخضوعاً لهذا الواجب أيضا كففت قلمي عن نشر تلك القصة الطريفة التي قصها علي، حول ذلك العتاب العبر الذي وجهه أليه كوكتو بمناسبة المحاضرة التي ألقاها عن (أوديب في الآداب المختلفة) والتي
حمل فيها الدكتور بقسوة على مسرحية (الآلهة الجهنمية) للكاتب الفرنسي!
من هذا كله ترى أن الأدباء المصريين قد عاملوا جان كوكتو معاملة الكرام لرجل ليس له كرامة. . . وأين هذا من رجل كاميل هنريو عضو الأكاديمية الفرنسية، ذلك الرجل الذي ما كاد يغادر القاهرة إلى باريس حتى كتب في جريدة (الموند) مقالا أثنى فيه أطيب الثناء على مصر والمصريين!
القصة بين قلم الكاتب وطبيعة الحياة
نكتب إليكم هذه الرسالة للاستنارة برأيكم في مسألة جوهرية تتعلق بفن القصة العربية، وقد كانت تلك المسألة مثار جدل عنيف صاخب هنا، بين جماعة من الأدباء هم أعضاء غرفة المعلمين الأدبية (بالمكلا). وكانت أهم مآخذ النقد تتركز في النقطة التالية وهي:
هل من الطبيعي أن يظل شبح المأساة يلاحق فصول القصة حتى نهايتها، ثم لا يكون (لعدالة السماء) دخل في ذلك؟ وهل تكون حوادث مثل تلك المأساة طبيعية في عالم ترعاه عناية الله وتكلؤه قدرته؟ وإليكم فيما يأتي فحوى القصة التي كانت وما تزال مثار جدل عنيف واختلاف كبير، فقد يكون في سردها هنا على الإجمال، بعض النفع:
تجري حوادث القصة في بيئة حضرمية، ولهذه البيئة مميزات خاصة هي في الواقع صورة منعكسة للحياة العقلية والأدبية في هذه البلاد. وتبتدئ القصة في بيت الشيخ (معروف) حيث يجري مع ابنته (علوية) حوار عائلي، يدخل بعده (حامد) ابن عم الفتاة ويطلب إلى عمه أن يربط بينه وبين (علوية) برباط الزوجية. ويتفق في ذلك أن تكون أم الفتاة متوفاة، وان تكون (صفية) زوجة الشيخ (معروف) الثانية، لا تشعر نحو الفتى الشاب (حامد) بالرضى والارتياح، فتشير على زوجها بالتسويف والمماطلة في طلب الشاب ثم يتقدم لخطبة الفتاة الشيخ (خليفة) وهو رجل غني في العقد السابع من عمره. ويقوم بدور الوساطة (عمار) حيث يوفق في مسعاه ويستجيب الشيخ (معروف) لطلبه، بعد أن يكون (الدينار) قد لعب دوره بنجاح في القضية!
وتزف (علوية) إلى بيت الشيخ (خليفة) على كره منها، ويتندر الأدباء في مجلسهم وتنتشر القالة حول الشيخ (معروف) وأطماعه. . . ويضطر الشيخ (خليفة) في الفصل الخامس والأخير إلى تسريح (علوية) بعد أن واجهته بالشتائم وامتنعت عن معاشرته، وعاودها
السقم والمرض، فأشفق ورثى لحالها. ويقع الخبر من الشيخ (معروف) موقعاً أليماً فيعود على نفسه باللوم، ولكن الشيخ (خليفة) يقترح عليه كحل للأمر أن يجمع بين (علوية) وابن عمها (حامد). ويقف (حامد) موقفاً نبيلاً عندما يقبل التضحية، إبقاء على حياة الفتاة المظلومة، وصوناً لكرامتها، وإكراماً لخاطر عمه المنكود!
هذه صورة تقريبية لفصول القصة، وحيث تنتهي تبدأ قضية النزاع والاختلاف، فيرى البعض أن تتلاحق فصول القصة كمأساة حتى الشوط الأخير. بينما يرى البعض الآخر ومنهم المؤلف أن الله وهو أعدل العادلين لن يجعل لمثل هذه (المأساة) صور ما، في عالم تجري حوادثه على قوانين طبيعية عادلة. . . هذه هي نقطة الخلاف عرضناها عليكم بكل أمانة، راجين أن ترشدونا رأيكم على صفحات (الرسالة) الغراء:
(المكلا - حضرموت)
أحمد عوض باوزير
سكرتير الغرفة الأدبية للمعلمين
نود أن نقول للأديب الحضرمي الفاضل رداً على سؤاله، إن هذا الجدل الذي دار بين جماعة من أصدقائه حول هذه القصة جدل غريب. ومصدر الغرابة فيه أن أصحاب الرأي الأول يريدون أن يطبعوا موضوع القصة بطابع المأساة، وان أصحاب الرأي الثاني يريدون أن يخضعوا الموضوع لعدالة الله. . . وكلا الرأيين بعيد عن جوهر الفن القصصي لأنه يمثل منطق القائلين به أكثر مما يمثل منطق الوقائع الطبيعية!
جوهر الفن هو أن نستوحي الحياة وحدها عندما نريد أن نخلق عملا من الأعمال الفنية، والقصة كعمل من هذه الأعمال لا بد أن تخضع لمجرى الحياة في صورتها الواقعية التي لا تنكرها العين ولا يرفضها العقل. . . فالحياة التي ترفرف عليها عدالة الله فيها الخير وفيها الشر، وفيها الفضيلة وفيها الرذيلة، وفيها السعادة وفيها الشقاء، وفيها ما شئت من ألوان المفارقات وضروب المتناقضات. فإذا صورنا الحياة تصويراً صادقاً فمن الطبيعي أن نقبل المأساة المستمدة من واقعها كما نقبل الملهاة، على شرط أن يكون عرضنا لهذه وتلك مسايراً لمنطق الحوادث المألوفة ومطابقاً لطبيعة الأمور كما يألفها الأحياء!
خذ موضوع القصة من هذا الوجود المتحرك أمام ناظريك، ثم اخلع عليها بعد ذلك من أثواب الفن ما يبعد عنها صفة الجمود الذي لا يتفق مع الحركة، ونزعة الخيال الذي لا يلتقي مع الواقع، ولا مبرر بعد ذلك لأن تفرض على موضوع القصة أن يسير في هذا الطريق دون ذاك! إن الحياة وحدها هي التي ترسم خط السير، وتقرر غرض الاتجاه، وتحدد طبيعة الموضوع. . . أعني أننا يجب أن نقتفي أثر الحياة في كل خطوة من الخطوات وكل نقلة من النقلات، ثم نسجل ما شاهدناه كما حدث في الواقع المشهود أو كما حدث في الواقع الذي يمكن أن يكون. فإذا كان مجرى الحوادث في القصة لا يضيق بشبح المأساة فلا ضير من توجيه دفتها نحو هذا الذي نبتغيه، فإذا ضاق بها فلا حاجة بنا إلى أن نحمل الحياة فوق ما يمكن أن تطيق!
والقصة التي يعرضها الأديب الفاضل لا يتنافى موضوعها مع رأي الفريق الأول كما لا يتنافى مع رأي الفريق الأخير، لأن البداية الفنية فيها تمهد لكلتا النهايتين المفتوحتين دون أن يمس جوهر الواقعية بحال من الأحوال. . . ولكن الذي يتنافى مع جوهر الفن القصصي هو أن يصر الفريق الأول على أن تكون الخاتمة مظلمة مع أنها تحتمل أن تكون مشرقة، وأن يصر الفريق الأخير على أن تشرف عليها العدالة الإلهية، وكأنها ليست قصة فنية وإنما هي درس في الوعظ والإرشاد!
حول رسائل الفراء أو رغبة استجابة
كان من رأينا أن نمضي في كتابة هذه الدراسة المطولة لحياة المغفور له الأستاذ علي محمود طه وشعره حتى نبلغ بها أربعة وعشرين فصلا على أن تجمع آخر الأمر بين دفتي كتاب يشير إلى فضل الشاعر العظيم على الشعر العربي الحديث. ولكننا ما كدنا نعد الفصل الثالث عشر للنشر حتى نبهنا أحد القراء الظرفاء إلى حقيقة تستحق التسجيل، وهي أن نرجئ بقية الفصول التي كنا نزمع نشرها على صفحات (الرسالة) حتى لا يفقد الكتاب جدته حين ندفع به إلى أيدي الناس، وحتى لا يستغني الجمهور القارئ بأعداد الرسالة عن شراء الكتاب. . . فكرة ناضجة بلا ريب، وبخاصة ونحن في عصر يلتمس فيه القارئ المصري شتى السبل التي تحقق له قراءة الكتب دون أن يدفع الثمن!!
وإذن فلا بأس أن تستجيب لهذه الرغبة التي تفضل بإبدائها قارئ لا شك انه صديق. . .
ونحن إذ نعمل على تحقيقها إنما نستجيب لرغبة أخرى هي الرد على كثير من رسائل القراء التي تكدست خلال تلك الفترة، والتي ينتظر مرسلوها منذ شهور أن نجيب عما فيها من أسئلة تتعلق بمشكلات الأدب والفن، وليس أمامنا من مجال للإجابة عنها غير أن نعود إلى كتابة (التعقيبات). . . وإنها لعودة محببة تلك التي تتيح لنا أن نتصل بقراء الأقطار العربية من جديد، راجين أن نكون عند حسن الظن شاكرين لهم كريم العاطفة وصادق التقدير.
ولقد كنا نود أن نعرض بالإجابة لبعض الرسائل في هذا العدد لولا ضيق النطاق، فإلى الأعداد المقبلة حيث نعقب على الأسئلة وغير الأسئلة إن شاء الله.
أنور المعداوي
البريد الأدبي
إلى صديقي الأستاذ عباس خضر:
. . . تطيب نفسي بقراءة بعض ما تنشره في باب الأدب والفن، لما فيك من براعة في التقاط (القفشات) وتصيد (النكات) في مجالس الأدب وتسجيلها، ولكم أثنيت عليك ودعوتك إلى المزيد من الانتباه والإتقان.
كأني بك يا صاحبي أردت إقامة دليل يقنعني بأنك (أتقنت الصفة) فعمدت إلى مداعبتي مداعبة حلوة خفيفة الروح والظل ولكن؟. . ولكنها برغم حلاوتها وخفتها، لم يكن لك فيها سوى فضل الناقل المسجل فقط، أما خلق المناسبة للنكات، وتهيئة الجو لها، ولمحها ببراعة فهو راجع (للمعداوي) مرة و (للزيات) مرات، ولإنسان آخر.
وكأني بك، مرة ثانية، أردت أن تحذو حذوي فيمن أخاصم وأصادق من الأدباءفخاصمتني، ولكنك تعثرت في الخطوة الأولى، وأزعم أن الذي يتعثر ويكبو في الخصام قد لا يهتدي إلى السبيل المؤدي إلى الفوز والنصر.
تعال معي يا صاحبي إلى صميم الموضوع بغير خصام، قلت (أني جنحت في تأبين فقيدنا العزيز علي محمود طه إلى القضايا العقلية ولم أعن بتندية كلامي بماء العاطفة)
أجل لقد جنحت إلى العقل في رثاء الصديق الشاعر الذي فقدنا صداقته وشعره، وتعمدت إبراز الصفات والسجايا والخلائق والمزايا التي عرفته بها حساً ومعنى وعدتها، ولعل صفة البوهيمية التي اجتذب بها جل أصحابه كانت أبرز صفاته وأحلاها في حياته الواقعية والخيالية، ولم أنزع إلى محاكاة الشعراء الذين عناهم فيلسوف المعرة بقوله (كذب يقال على المنابر دائما) لهذا قلت في مستهل خطابي (ما جئت أبكي صديقي الراحل) ثم ما قيمة البكاء على الميت؟ وهل إذا نديت كلامي بماء العاطفة كنت أضفت صفة جديدة إلى الصفات التي اجتمعنا للاحتفال بها، أو أن الاحتفال لا يكون ذا قيمة بغير دموع؟ إن البكاء صناعة يعرفها الشعراء البكاءون الندابون. . . الحريصون على استبكاء الناس في المآتم حرصهم على استضحاكهم في الأفراح. ألم تسمع يا صاحبي إلى شاعر من شعراء تلك الحفلة وقد عتب على الله كيف انتزع الورد - أي علي محمود طه - وسأله سؤال اللائم لماذا أبقى على (الشوك) أي على جميع من بقي يمشي على الأرض بعد موت الشاعر!!
ألم تقتبس أبياتا من قصيدة قلت أنها (جيدة) أي فوق الدون والوسط من الشعر الذي أنشده شعراء الحفلة أليس معنى تلك الأبيات، إذا ترجمت إلى لغة النثر هي الإهابة بالناس المترقبين عودة صاحب الملاح من الشاطئ المهجور والقول لهم (لا تحلموا بمجيئه لا تحلموا)
لندع الشعراء جانبا لأنهم في واد غير وادينا، ولأننا نفهم نحن غير الشعراء أن حفلات التأبين إنما تقام لذكر المناقب وغير المناقب التي أحدثت حدثها وتركت أثرها في الناس، واسمع ما قاله (الزيات صاحب الرسالة) في صديقه علي محمود طه، وكيف عرفه وأحبه، وقد رأى انطواء الفيلسوف المفكر والشاعر الحالم ثم كيف لقيه في زحمة الحياة وقد تشعبت فيه أصول الجمال والحب واتسع في قلبه الحب للخير والإخاء والمروءة، وكيف كان طاغي الشخصية مستبدا بالحديث وكان شعره صورة لشخصه ومرآة لنفسه؛ ثم قارن ما ذكرته أنا من صفات عرفتها في الفقيد، في حالتين متباينتين، في الخصومة الأدبية العنيفة، وفي الصداقة الطيبة والعربدة أيضا، تجد أننا اتفقنا - أنا والزيات - في رسم الخطوط الرئيسية لمن يتوفر على دراسة لشاعر الصديق علي محمود طه. وأزعم أن صدر الأستاذ الزيات ينطوي على معلومات في حياة الفقيد الخاصة والعامة، تماثل وتزيد على معلوماتي عنه، وإن من الخير أن نشر تلك المعلومات ليتيسر للباحث الكلام عن الشاعر الذي خلده شعره.
كلمة أخيرة أقولها للأستاذ عباس، إن جميع حفلات التكريم والتأبين في وقتنا الحاضر إنما تقام للإعلان والظهور، وأن ليس للإعلان معنى غير النفاق والرياء والمجاملات الكاذبة، وأن من أوجب واجبات الكاتب محاربة الطبالين والزمارين في حفلات التكريم، والندابين النواحين في المآتم، وأعتقد فيك الكفاءة لشن هذه الغارة.
حبيب الزحلاوي
حول الأزهر - إلى ضياء الحائر
ليس عيبا أن نرى شكاة لطالب نجيب مثلك يا ضياء. يبعثها ضيق بتلك المواد العقيمة التي تدرسها في كليتك. ولكن العجب أن لا تجد هذه الشكاية ومثيلاتها آذانا مضغية لدى
المهيمنين على شئون الأزهر.
إن مناهج الدراسة في كليات الأزهر مبنية على أسس غير سليمة، ذلك لأن العنصر الأول الذي تقوم عليه الحياة الجامعية - وهو حرية البحث - ليس له أثر في تلك الكليات. ولن ترى إلا كتبا - هي بدار الآثار الأولى -. وهذه الكتب يكلف الطلاب دراستها. ويقع العبء الأكبر من ذلك على كواهلهم ولكن ما الحيلة والطالب لا يستطيع فهمها منفرداً؟
إذا فليتسلح ليلتهمها التهاما وليذهب بصره، ولتضعف صحته ولتنهد قواه، وما هو ببالغ شيئا من الفهم الدقيق، والاستيعاب الذي يقوم على التحليل والتفصيل. فطالب الأزهر مثله كمثل شخص لا يعرف (السباحة) ألقيته في (البحر) ثم قلت له اسبح يا عزيزي.
وإذا كان هذا شأن الدراسة في كليات الأزهر - ونحن في عصر التخصص - فما بالك به في معاهده؟ هناك العجب العجاب هناك ما يبعث الحسرة في النفوس، ويطبع اللوعة في القلوب. هناك ويا هول ما هناك: ملكات تقبر، ومواهب تقتل، وعقول تسخر، فأول ما يفاجأ الطالب في أول عام من التحاقه بالأزهر أن يكلف بحفظ ما يتلقاه من علوم. ويدرس دراسة يعوزها التوجيه والإرشاد. ولهذه الطريقة أثرها السيئ في حياة الطالب فلا يلبث - بعد أن تتقدم به الحياة الدراسية - أن يرى ظلالا قائمة تنعكس على حياته. مما يبعث على تشاؤمه وحيرته.
لا بد للأزهر أن ينظر في برامجه نظرة تربوية - على وفق ما تسير عليه وزارة المعارف - وليس بضائرنا أن نقلد ما دمنا نروم الصالح للجيل الجديد؛ فنحن حياله مقصرون جد التقصير، ونحن محاسبون عن ذلك أشد الحساب.
ولدى ضياء: عنى المفكرون وأعلام الثقافة في مصر بإصلاح الأزهر. وكأني بهم قد أسفوا لما لحق بالأزهر من ركود وتخلف عن ركب الحياة. وكانت لهم آراء سديدة لها وجهاتها وأصالتها. ولو أخذ بها لكان للأزهر شأن أي شأن. ومنزلة سامية بين جامعات العالم الحديثة.
أي بني: لا يصلح الأزهر إلا بالمدرس الصالح، والكتاب الصالح ونحن لا نقول عن المدرس إلا أنه - في ثقافته وإنتاجه - مازال عالة على غيره وإلا فإمامنا الكتاب والمؤلفون والمفكرون في مصر أفلا نرى أن جلهم من أبناء الجامعة. تلك التي طغت على
الأزهر ظهرت عليه. والفرق بينهما أنها سايرت العصر وواكبت الحياة، ونهلت من ثقافة الغرب، فوقفت في مصاف الجامعات الأوربية. أما الأزهر - أقدم الجامعات في العالم - فقد على عض كتب القدامى بالنواجذ. ولم يتصرف فيها بشيء من التهذيب والتنظيم. وفضلا عن ذلك فإنه لم يراع ظروف الحياة ولا تقدم العصر. فتأخر عن الصفوف ورجع القهقرى، أما الكتاب الصالح فلن تجده في الأزهر. وتبعة ذلك تعود على المدرسين. يا ضياء لك من اسمك ما يهديك. فلم الحيرة يا بني؟ هذه هي حياة الأزهر فاعتصم بالصبر وسر على بركة الله في الدراسة واستمد منه العون في استذكار دروسك. ولا تجعل للحيرة إلى قلبك سبيلا.
أزهري عجوز
حول (حيرة الجيل الجديد في الأزهر)
شيئان يعيبان التعليم في الأزهر وهما سبب ما يعاني الشباب الأزهري من حيرة وتعب، الكتب الأزهرية العتيقة: وليست مشقتها في تعقيدها فقط بل هي أيضا تفاهتها وخلطها بين مختلف العلوم في سياق واحد وفي بعدها عن الحياة ومجافاتها روح التعليم بل التربية. ثم منهج التعليم نفسه؛ فهو يحرص على قطع الصلة بين المتعلمين والبيئة التي يعيشون فيها ويعني عناية كبرى بالمواد التي تتوقف على الحفظ ويعني في هذه المواد أيضا يحفظ التعريف والشروط والأقسام بينما يهمل النواحي التطبيقية التي تدرب الناشئ على الفهم والإنشاء والجغرافيا والحساب والهندسة والجبر تدرس بصورة شكلية وأكثرها درس في الأقسام الابتدائية ثم يتفرع المنهج للعلوم النظرية الكلامية وفي تلك الكتب التي تعنى بمضغ الألفاظ وإثارة الجدل الكلامي فيما لا جدوى منه
وهذا هو سبب شعور الطالب الأزهري بالغربة عن مجتمعه وإحساسه بعدم القدرة على الاندماج في الناس لأن آراءه وأفكاره ومناقشاته تتأثر بطريقة تعليمه وهي طريقة غريبة على الناس في هذه الأيام - ثم هو يشعر في قرارة نفسه بنقص ثقافته وضيق أفقه في التفكير وعدم قدرته على تعليل الأشياء بعللها الحقيقية. وهذا أيضا هو سر اعتكاف الأزهريين حتى بعد تخرجهم فهم يعيشون في محيط خاص ولا يقربون الناس إلا بحذر.
ويبدو أن الشباب الأزهري بدأ يتمرد على هذا الأسلوب العتيق من التعليم بعد أن كثر المدرسون الأزهريون في المدارس ورأوا نمطا من التربية ونظما من المناهج والكتب خيرا مما درسوا ولعل المسؤولين في الأزهر ومن بيدهم الأمر فيه يستجيبون لصوت الشباب فيتخلوا عن كتبهم التي لم تعد تصلح للتعليم ولا عيب على الأزهر أن يستعين في درس علومه بكتب غير أزهرية مما ألف حديثا في كليات الجامعات الأخرى.
إن هذه الكتب الأزهرية لا جدوى ورائها غير ضياع الجهد والوقت وإنفاق أيام الشباب وزهرة العمر رخيصة في هذا السبيل ولكن هل يقرأ شيوخ الأزهر شيئا من شكوى الشباب؟
معهد سوهاج
عصام الدين شلبي
القصص
حماري الأسود الصغير
للكاتب الأيرلندي يادرباك اوكنير
بقلم الاستاذ محمد فتحي عبد الوهاب
حدث ذلك في كنفارا عندما تعرفت على حماري الأسود الصغير. كان ذلك اليوم يوم السوق. فرأيته واقفا بجوار حاجز لا يبالي بالعالم، ويبالي العالم به. وأعجبت به منذ اللحظة الأولى التي وقعت فيها عيناي عليه. وكنت في رغبة للحصول على حمار. فقد كنت متبرما من التجول على قدمي. ألا يكفي هذا الرفيق الصغير ليحملني وحقيبتي وحاجاتي؟ وفكرت: لعلي أستطيع الحصول عليه بثمن بخس.
ثم سألت عن صاحبه: بيد أني نقبت عنه في كافة أرجاء البلدة قبل أن أجده يتسكع أمام دار العمدة. كيف! يبيع الحمار؟، ولماذا لا يبيعه مادام أنه سيحصل على ثمنه؟ نعم ثمنه إنه لا يرغب في قرش زائد عن ثمنه. لولا هذه الأيام العجاف ما فارقه عنه مطلقا - لا لا خوف منه؟ إنه حمار صغير جميل يستطيع أن يقطع في سهولة عشرين ميلا يوميا. لو استطاع أن يطعمه الشوفان مرة واحدة في الشهر، فلن يفوقه أي جواد!
وجعلنا نتباحث في طباع الحيوان. وما أبرع مدح صاحبه! ليس هنا حمار، منذ أن حلت الحمير بأيرلندا، في مثل نشاط هذا الحمار، وعقله وبعد نظره!
وقال لي ذلك الأستاذ - في المديح (أتعرف عاداته؟ إذا أعطيته حفنة من الحبوب صباحا، فإنه يحتفظ ببعضها عندما لا تكون هناك حبوب - بحق كتب روما السماوية أنه يفعل ذلك) وهنا ضحك أحد الموجودين، فواجهه الرجل قائلا (ما الذي يضحكك أيها الأبله؟) ثم قال لي (أليس من العقل أن يحتفظ بجزء من طعامه؟ ألم يحدث لي في بعض الأحيان أن أكون في حالة عسر فأسطو على طعامه؟ لو لم يكن هذا الحيوان لمت جوعا أنا وأولادي الإثنا عشر)
وسألت في حذر: هل في استطاعة هذا الحمار العاقل أن يميز بين حنطة صاحبه وحنطة جيرانه. فأجاب الرجل (إنه أمين أمانة الكاهن. لو كانت كل الحيوانات مثله، لما كانت هناك حاجة إلى تشييد حواجز أو حفرات أو أسوار. لم تكن هناك حاجة إلى مثل ذلك
مطلقا.)
وتكاثر حولنا جمع غفير، وكان من بينهم أولاد الرجل، ولا أدري أكانوا ألاثنى عشر جميعا موجودين. بيد أن من كان موجودا منهم لا تجد له مثيلا في أية بقعة من بقاع أيرلندا. كانوا مهللي الثياب قذرين كل واحد منهم يفوق أخاه في سوء السلوك. وكانت زوجته واقفة هناك. عارية القدم، بلا قبعة.
وقالت له (أتذكر يابيتر اليوم الذي سبح فيه في النهر وأنقذ ميكلين عندما جرفه التيار؟)
فأجاب (وكيف لا أذكره؟ نعم ياشابي، أتذكرين اليوم الذي دفع لي فيه مبلغ خمسة جنيهات؟) فالتفتت إلي قائلة (خمسة جنيهات. نعم لقد وضعوا في يده خمسة جنيهات ذهبية) فقاطعها الرجل قائلا (أقسم لك هذا ما حدث! لقد كادت الصفقة تتم، وكانت النقود في يدي -).
فقاطعته زوجته بدورها (ولكنه عندما شاهد الحمار المسكين يذرف الدمع لأنه سيفترق عنه، لم يطاوعه قلبه على بيعه، والابتعاد عنه) فصاح زوجها (صه! تكلمي في هدوء. فلا توجد كلمة تقال إلا وفهمها. ألا ترى يا سيدي أذنيه الواقفتين؟)
وبدأت الشراء بجنيه واحد ثمنا لهذا الحيوان البديع. فعوى الرجل قائلا (جنيه!) وصرخت امرأته (جنيه!) وهدر الأولاد في صوت واحد (جنيه!).
كم كانت دهشتهم! وتجمعوا حولي يتفحصونني. وأمسك صبي بسترتي وآخر بسروالي امسكني أصغرهم من عنقي. ووضعت فتاة يدها في جيب سترتي. كانت المخلوقة بطبيعة الحال تحاول أن تبحث إذا كنت حقا أمتلك جنيها - بيد أنها حصلت على ضربة على أذنها بدلا من الجنيه - ولم تكن الضربة من والدها.
كنت قد أعجبت بالحمار إعجابا شديدا. فقد كان وفق ما أشتهي. إنه سيحملني في طريقي. ثم أستطيع بيعه في أي وقت إذا ما شعرت بالضجر منه.
وقلت مرة أخرى (جنيه).
فأجاب الرجل (جنيهان).
وأعولت المرأة وهي تقول (أواه! أواه! حماري الجميل يباع بجنيهين) وانفجرت تنشج في بكاء وعويل.
وألححت قائلا (جنيه).
فقال الرجل (إذن جنيه - وست بنسات لكل طفل).
وتمت الصفقة أخيرا. وناولته الجنيه. وأعطيت ست بنسات لكل طفل من أطفاله المصطفين حولي. وجعلت المرأة تستدعيهم سيتين، ندين، تايمين، وغيرهم ممن لا أذكرهم.
ولم يبق واحد من المتسولين لم يستحضر أولاده. كانوا جميعا يهددون ويصرخون. وكم من الضوضاء أثاروا! اشتكى أحدهم أنه لم يستلم البنسات الستة مع أن النقود كانت في هذه الآونة تحت لسانه. وقال آخر -
ولكن لم يكن أحد يعي ما الذي يقوله الآخر، أو ما يحاول أن يقوله. فقد كان ضجيجهم يطغي على كل شيء.
وندمت لأني لم أدفع للرجل جنيهين في بادئ الأمر، وبذلك كنت أجتنب هؤلاء الحاضرين الذين كونوا عائلة لا نهاية لها.
وأخيرا تركت القرية وحالي حال. كنت ممتطيا الحمار، وقد سار على يمينه صاحبه قابضا على مقوده، ومشت زوجته على يساره، والأولاد يصخبون حولنا.
وتبعنا بعض صبية القرية، كل منهم يزودني بنصائحه. أن الحمار لا يقارنه أسرع جياد السبق، ولذلك يجب أن أكون متيقضا وإلا أفلت مني واختفى إلى الأبد. يجب أن أعطية كذا وكذا من أنواع الطعام. وهكذا كان يخيل للرائي كأنما لم يسبق له أن رأى ما يضحك عليه، إلى أن شاهدني ممتطيا حماري الأسود الصغير.
ولكن لماذا أهتم؟ ألم أحصل على الحمار - الحيوان الذي كنت أود الحصول عليه منذأيام عديدة؟ كيف أستطيع أن أصف مشهد افتراقي والحمار عن هذه الشرذمة. كان كل واحد منهم يشد على يدي تسع مرات. وأخذوا مني عهدا أن أكون لطيفا معه وشفيقا عليه. وان أهبه قبضة من القمح كلما استطعت وأعطيه حفنة من الشعير كل ليلة. وأقسمت لهم ألا أستعمل العصا معه. وعندما افترقنا أرتفع عويلهم بدأه الأب وساعدته الأم وشاركها الأولاد حتى أصبحت الغابة حولي تعج ببكائهم. . . وأخيرا أصبحت وحيدا - وحيدا مع حماري الأسود الصغير؟
ثم انطلق يعدو بي إلى أن خلفنا الغابة. وعندئذ شعرت بأني قد قمت بصفقة طيبة. أين
يستطيع المرء أن يجد حمارا في مثل نشاط حماري الأسود الصغير؟
بيد أنه عندما ابتعدنا عن الغابة، حدثت قصة أخرى. إذ لم يقبل الحمار التحرك خطوة واحدة، ذلك الحمار الفريد! وظننت أنه قد يلين إذا ما دللته بعبارات متملقة، فلم يأبه بي. وفكرت أن أحركه بعصا فلم يتحرك، بل وظل واقفا هناك وسط الطريق.
ومر علينا الناس الذين كانوا في السوق، أقبلوا في حال من البهجة. فنصحوني أن أفعل كذا، وأصنع كذا. بيد أنه عندما نصحني مازح منهم أن أضع الحمار على ظهري، فرغ صبري، وقذفت ذلك الوقح بالحجارة.
وأخيرا، اضطررت أن أترجل وأسحب الحمار في الطريق رغما عن أنفه. وما أكثر الشتائم التي أمطرتها على ذلك اللص الذي باعني هذا الوحش الثمين!
ولكن سرعان ما لاحظت ظاهرة غريبة. رأيت الحمار في حالة عصبية، وبدا لي أنه يجفل من تلاعب الريح بالأفنان. فعندما مر تحت أذرع الشجر النامي على جانبي الطريق، تلاشى كسده، وأصبح من المتعذر كبح زمامه، وقفت أذناه في بادئ الأمر، ثم هز نفسه كما يفعل الكلب عند ابتعاده عن الماء، ثم انطلق كأنه الزوبعة
يا لحظي، لقد كشفت سره.
وقيدته على باب كوخ ثم ذهبت إلى الغابة، وانتزعت كمية من الحشائش وأوراق الشجر، وكونت منها حزمة، ثم وضعتها على مقربة من عنقه، فوق أذنيه.
يا للحيوان المسكين! إنك لن ترى له مثيلا في سرعته لما عدا. فقد كان يظن، بسبب ما يسمعه من موسيقى منبعثة فوق أذنيه، أنه لا يزال في الغابة. وعندما وصلنا إلى باليفهان، قامت القرى لتشاهد الأعجوبة - أنا وحماري الصغير الأسود المتحلي بتاج من أوراق الشجر.
إني لا أزال أملك ذلك الحمار الأسود الصغير، وسأظل أحتفظ به مدى الحياة. لكم رحلنا أميالا طويلة في الطريق الموحشة، وفي مختلف الأجواء. وكان يهتدي إلى طريقه في مهارة، مع أن سيده للأسف قد فشل في ذلك. وإني أعتقد أن المتشرد الصغير كان يعرف أن سيده ليست له المقدرة على الاهتداء. ولكنك لن تشاهد مثل كبريائه عندما ابتعت له مركبة خضراء جميلة وعاد المخلوق المسكين أصغر سنا مما كان، منذ أن قيدته بالمركبة.
محمد فتحي عبد الوهاب