المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 873 - بتاريخ: 27 - 03 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٧٣

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 873

- بتاريخ: 27 - 03 - 1950

ص: -1

‌الشيوعية على المصطبة

من عادتي في المجلس ألا أتكلم إلا مضطراً، كأن أحيا فأرد، وكأن أسأل فأجيب؛ أما إذا خليت لطبعي فأني أحبس لساني عن الكلام، وأجعل أذني لكل متكلم. لذلك تركت أخوان المصطبة يخوضون في كل حديث، ويعلقون على كل حادث: فمن حديث الباشا العظيم الذي يكره فلاحيه ومستأجريه على أن يتبرعوا بأقوالهم لأعمال الخير ثم يعلن التبرع باسمه على وجوه الصحف وهو لم يشارك فيه من ماله بقرش، إلى حديث النائب المحترم الذي قطع العهود على نفسه لدائرته أيام الانتخاب أن يجعل لهم البحر طحينة، والحياة كلها متاعاً وزينة؛ فلما وضعوه على كرسي مجلس النواب ظل موضوعاً عليه كالجرة الفارغة لا تنضح حتى بالمش! إلى حديث الشيوعية التي تعد الفقير بالغنى، وتمني الشقي بالسعادة، وتزعم أنها تنصف الفلاح من أمثال هذا الباشا الطماع، وتؤمن الناخب من أشباه هذا النائب الخداع. وحينئذ قال الشيخ مصباح للشيخ مفتاح وهو يحاوره في خير الشيوعية وشرها:

لعلك لم تسمع الكلمة التي أذاعها (الأستاذ) بالراديو منذ أيام، في

الشيوعية والإسلام. إنك لو سمعتها لكسعت أملك باليأس ورجاءك

بالخيبة. إن الشيوعية لا تملك الناس أرضاً ولا توسع عليهم رزقاً، ولا

تهيئ لهم حرية. فبهت الشيخ مفتاح ونظر إلي نظرة المستفهم المشدوه.

فقلت له: صدق الشيخ مفتاح! إن الشيوعية تأخذ لنفسها إلا الناس،

وتدعو إلى باطلها لا إلى الحق. إنها لا تسوي بين الخلق في الغنى

والحرية، وإنما تسوي بينهم في الفقر والعبودية. تجعل الغني فقيراً

بانتزاع ما يملك، ولا تجعل الفقير غنياً بامتلاك ما يستأجر. تصادر

الأرضين لتكون خالصة لها من دون المواطنين، ثم تستغلها بتسخير

الأيدي العاملة فلا تعطي الزارع غير أجرته، ولا تؤجره إلا على

حسب قدرته. فهي تنزع منك يا مفتاح نصف الفدان الذي تستثمره،

لتصبح كعلى رمضان الذي يستأجره. ذلك فضلاً عن كفرها بالدين

ص: 1

الذي رضيه لك الله، وإباحتها للزوجة التي ربطها بك الشرع.

فقال الشيخ مفتاح وهو يكرش من وجهه ويزم بأنفه ويستعيذ بربه: كل شيء تغني الحيلة فيه إلا نصف الفدان! إن عقيدتي في نفسي، وإن نخوتي في رأسي، وليس في العالم قوة تستطيع أن تعبث بهما إلا برضاي. أما الملك وهو الضمان والأمان والمتعة والغبطة والمنزلة والغاية، فليس إلى الاحتفاظ به مع الشيوعية من سبيل. فقال الفتى محجوب وهو يضرب بيده على يد فأسه: إنك تعارض الشيوعية لأن لك نصف فدان، فأما الأجير الذي لا يملك من دنياكم غير هذه الفأس فكيف يعارضها وهو لا يتصور أنه ينقلب إلى حال أدنى من هذه الحال؟ قالوا للقرد: إن الله سيمسخك. فقال: لعله يجعلني غزالاً!

فقال الشيخ مفتاح: وإذا أقطعتك الحكومة ستة قراريط؟ فصاح محجوب وصاح معه جميع الجلوس: حينئذ نلعن الشيوعية في كل صلاة، ونحاربها بكل قوة، يا أخي، ملكونا تملكونا!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌عبد العزيز البشري

بمناسبة ذكراه السابعة

للأستاذ منصور جاب الله

بين تخوِّن الظروف وطغيان الحوادث، عدا الموت قبل سبع سنين على نابغة البيان العربي في عصره، فطويت صفحة المغفور له الشيخ عبد العزيز البشري بعد ما أمضّه المرض الوجيع وأضناه حقبة من السنين.

وإذ قضى الشيخ البشري في مارس من عام 1943، كانت المجزرة العالمية ما تبرح طامية صاخبة، تفرّق المنايا باليمين والشمال، وتلعق الدم بالأيدي والأرجل جميعاً، ومن ثم مضى شيخنا إلى برزخه غير مذكور إلا من قلة عرفوا فضله ولم يجحدوه، ودرسوا أدبه ولم يجتووه.

ويوم مات أستاذنا لم ترسل في تمجيده المقالات الضافية، ولا القصائد الباكية، لا عن كنود ولا عن نكران، وإنما هي (الاستحالة المادية) التي جاءت بها تلك الحرب الزبون فحدّت من حجم الصحف وصيرتها أشبه ما تكون بنشرات عسكرية تكاد تكون مقصورة على أنباء المعارك وأخبار الانتصارات والهزائم!

وكذلك كان البشري هو الأديب المصري الواحد - إذا لم تخن الذاكرة - الذي لم يعقد له حفل تأبين يتوافى إليه أصُدقائه ليرسلوا فيه المقال شعراً ونثراً. وما بنا أن نرد هذا إلى قصور أو إهمال، فالعذر القائم إنما ينصب على الحرب وويلاتها، فالحرب هي التي جنت على الشيخ البشري يوم وفاته، وهي التي جنت على ذكراه فغدا اليوم في المنسيين، وضاع في أطوار الزمن أدبه الرفيع، وذهبت أصداء تلك الضحكات التي تكاد تخلع الأشداق إذ يرسل دعاباته ومفاكهاته بأسلوبه الذي لا يُبارى.

عرفت البشري عن كثبُ وصادقته زماناً إذا قيس إلى العمر الإنساني عد طويلاً، وكان بيننا في الإسكندرية جيرة قريبة، ومن خلال مجاورتي لهذا الرجل عرفت الكثير عن أديب من أدباء العربية الذين قل أن يجود بمثلهم الزمان.

كان رحمه الله من حواريي المدرسة الأدبية المحافظة التي نشأت في أعقاب الثورة العرابية، تأثر أكثر ما تأثر بأسلوب المرحوم إبراهيم المويلحي بك، ثم بأسلوب ابنه محمد

ص: 3

المويلحي من بعده، وأسلوب (المويلحي الصغير) يبين أكثر ما يبين في كتاب (حديث عيسى بن هشام) وكان الشيخ البشري يرى في هذا الكتاب البيان العربي المثالي، وقد طالما سمعته يقول: وددت لو أكتب سطراً في مثل أسلوب حديث عيسى بن هشام! وكان هذا القول تواضعاً منه رحمه الله فقد بصرنا به في بعض كتاباته يحلق ويحلّق حتى ليكون المجّلى على أستاذه ويقنع أستاذه بأن يكون مع المصلين!

وعبد العزيز البشري - كما يعرف سائر الناس - نشأ في بيت علم ونعمة وحفاظ، فأبوه الشيخ سليم البشري شيخ جامع الأزهر في عهد من أينع عهوده، ولقد أراد ابنه على أن يكون من شيوخ الأزهر، فلم يشأ (البشري الصغير) أن يخالف عن تقاليد أسرته فانخرط في سلك طلاب الجامع العتيق على تكره منه واستثقال، فقد أخذته أضواء النهضة الحديثة التي كانت تتوامض أضواءها في أفق الأزهر بين الحين وبعد الحين، وهو إذ يحضر جلسات الدرس إنما كان يحضرها بجسده، أما ذهنه فكان يشرد بعيداً، إذ يقلب الطالب الشاب عقله ولسانه في بلاغة المويلحي التي تطالعه بها كل أسبوع صحيفة (مصباح الشرق) وكذلك فتن شيخنا البشري بالأدب وعزف عن حلقات الفقه في الأزهر الشريف، ودأب على مراسلة الصحف الأدبية القائمة حينذاك، حتى إذا ظفر بإجازة العالمية أبى أن يكون في عداد مدرسي الأزهر شأن أنداده وإنما انكفأ إلى وزارة المعارف ليعمل محرراً فنياً فيها.

وكان رحمة الله شديد الولوع بالفن، أغرم به من مشرق الصبا، وكانت له صحبة ومخالطة بأهل صناعة الغناء، وحدثنا فيما حدثنا أنه وقد أدرك من كبار المطربين عبده الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي وعبد الحي حلمي وإضرابهم، كان لا يفوت مجلس من مجالسهم المونقة، ولكن ما كان ينفذ إلى هاتيك المجالس وهو ناشئ صغير إلا بشق الأنفس، لأن الناس في ذاك العهد كانوا ما يبرحون على الحفاظ والاحتشام، ودون مجالس اللهو حفظة وأحراس!

وقال لنا رحمة الله إنه كان في صباه يمضي الليل ساهراً، ولا ينام إلا غراراً مع مطالع الصبح، فتحطم من ذلك جسمه، وتضعضعت في الكهولة صحته. وكذلك طوى الأعوام العشرة الأخيرة من حياته مريضاً ما يكاد ينقه حتى تعاوده العلة فيرتكس حتى وطأتها

ص: 4

ويستحث شبح الموت والموت منه بعيد!

وإذ كان الشيخ البشري موظفاً حكومياً، فقد قيدته الوظيفة الحكومية بأمراس من حديد، واشتد شعوره بالقيد الحكومي بعد أن عين قاضياً شرعياً، فما كان يستطيع الكتابة بتوقيعه الصريح؛ بيد أنه وقد خشي أن تنسب مقالاته إلى غيره من الكتاب، كان يعمد إلى مطالعة كل مقال يكتبه على ملأ من الصحاب ممن يتذوقون الأدب، فإذا دفع المقال للنشر وطالعه الناس من مصبحهم في صحيفة سيارة، أدركوا أن هذه الجزالة اللفظية وهذا الترف البياني وهذا الترصيع الإنشائي، كل أولئك من صنعة عبد العزيز البشري!

ورسائل (في المرآة) التي كانت تنشرها صحيفة (السياسة الأسبوعية) قبل خمسة وعشرين عاماً، فترن رنينها، وتحدث دويها، وتتصل رجفتها الأدبية أسبوعاً بعد أسبوع لم تكن ممهورة بتوقيع عبد العزيز البشري، ولكن قارئاً من القارئين لم يكن لينسبها لغير عبد العزيز البشري.

وكان أسلوب البشري وسطاً بين الترسل والسجع، وكانت فواصله بعيدة المدى، ولكنها تتقاصر حينما يمزح أو يداعب. ولما أراد أن يسوي من مقالاته المبثوثة في الصحف كتاباً أذكى النساخين في المكتبات العامة فجمعوا له قدراً صالحاً مما كتب، فقد كان - أحسن الله إليه - لا يحتفظ بشيء مما يكتب، ثم جعل ينخل مقالاته نخلاً ويغربلها بغربال دقيق، حتى استوى له كتاب (المختار) في مجلدين. ومن حق التاريخ على الشيخ البشري أن نقول إنه لم يحرف في مقالاته شيئاً، فهي كما نشرت لوقتها في الصحف لم يغير منها حرفاً.

وقال البشري الشعر في شبابه الأول، وكان ينشر قصائده في جريدة (الظاهر) التي كان يصدرها المرحوم محمد أبو شادي بك، هجواً في المغفور له الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد تشييعاً منه للمرحومين مصطفى كامل ومحمد المويلحي، ثم أجبل ثلاثين عاماً أو تزيد، ولكن قبل بضعة عشر عاماً أسمعنا قصيدة باكية قالها رثاء في صديق له مات وهو في مشرق العمر وريق الشباب، ثم لم يقل بعدها شعراً إلى أن وافاه الأجل المقسوم.

وبعد وفاة الشيخ البشري جمعت إحدى دور النشر مقالاته التي لم يضمها (المختار) وطبعتها للناس طبعاً أنيقاً فكان ذلك وفاء لذكرى أديب أجدى على الأدب الشيء الكثير، ولكن هذا المجهود الفردي لا يكافئ أدب البشري، فهناك قصائده في صحيفة (الظاهر)

ص: 5

ودعاباته في مجلة (الكشكول) ويومياته في (السياسة الأسبوعية) وكل هذه تبين خصائص أدب البشري، بما يتميز به من فكاهة وعمق وتدسس إلى مداخل الأشياء، لو أن هذه الذخيرة جمعت لأجدت على الأدب ولأفادت الأدباء.

رحم الله شيخنا البشري فقد كان أديباً ملء إهابه، وأفسح له المقام في دار المقام.

منصور جاب الله

ص: 6

‌فيرون

زعيم الشكاك اليونان

للأستاذ محمد محمود زيتون

ولد فيرون بن بلستارك الفقير حوالي سنة 365 ق. م. في (إبليس) بلد السفسطائي، (فيدون تلميذ سقراط. اشتغل نقاشاً منذ نعومة أظفاره، وانصرف عن النقش إلى الفلسفة؛ غير أنه نشأ ومات فقيراً، وعمره تسعين عاماً.

وقد ذهبت الآراء في (فيرون) مذاهب شتى، محور ارتكازها جميعاً أنه صاحب مذهب الشك الأخلاقي الذي نسب إليه وعرف به وهو (الفيرونية الذي امتد في المكان والزمان ودار مع الفلك حتى انقسم شطرين: الفيرونية القديمة، والفيرونية الحديثة. ومجرد التسمية يقفنا على أن فيرون هو الجد الأول للشك وزعيم الشكاك اليونان.

عرف (فيرون) بالتقوى والورع، وعاش مع أخته وكانت أعقل منه. كم كانت تشفق عليه، وترثي لسلوكه العجيب، وتناقضه في الحياة: فقلما كان يوجد في داره، وقلما كان يرى بين صحب أو رفاق، وكثيراً ما كان يحب الخلوة بنفسه وارتياد الحدائق النائية، والأماكن التي لا يؤمها الناس. وكان من عادته أن يترحل دون أن يعلم به أحد، فيسير كيفما اتفق إلى حيثما اتفق، غير عابئ بشيء ولا مكترث لشيء. حكى عنه (ديوجين لائرس) أنه كان مرة في سفينة تتقاذفها الأمواج، وتتلاعب بها العواصف، حتى أوشك الركاب على الغرق، فهاجوا وماجوا، واضطرب حبلهم، وتوقعوا الموت في أحضان البحر، وشحبت وجوههم. أما فيرون فلم يبال ولم يهتم، بل استمر في برود تام وهدوء لا حد له، ثم وقف يقول (ذلك هو الهدوء الذي يجب أن يمنحه العقل والفلسفة لأولئك الذين لا يريدون أن يستسلموا للخطوب).

وكان صديقه (انكسارك) في صحبته يوماً فسقط في مستنقع، فلم يعبأ به (فيرون). ولم يمد له يد المساعدة بل تركه ومضى في سبيله لا يلوي على شيء، وبقدر ما لامه الناس وأوسعوه ذماً وتقريعاً، هنأه انكسارك على ثبات جنانه، وعصمته من التألم.

ويقول عنه (شيشرون) إنه لم يفرق بين الصحة التامة والمرض الأليم. وكان سواء عنده أن يعيش وأن يموت، وكثيراً ما كان يجري على لسانه قول (هوميروس) (ما أشبه الناس

ص: 7

بأوراق الشجر) وقوله الآخر (أما أنت فستموت بدورك، فلماذا تتحسر؟ مات قبلك (باتروكل) وهو خير منك)، واتخذ شعاره (لا شيء أفضل من شيء).

كان (فيرون) محباً للرحلات، اصطحبه (انكسارك) في حملة الإسكندر إلى الشرق، فعرف أخلاق الهنود وطقوسهم وعاداتهم، فتركوا في نفسه أبعد الأثر. ويقال إنه عرف الكثير من العادات والأخلاق الشرقية عند السوريين والميديين والمصريين والفرس.

وبعد موت (الإسكندر) عاد إلى وطنه وأسس مدرسته حوالي سنة 321 ق. م. وقد أكبره مواطنوه فلقبوه (الكاهن الأكبر) وأقاموا له تمثالاً بعد موته، ثم إنه عاصر (أرسطو)، وعرف كتبه وتناقش مع ابن أخيه (كالستين)، وتتلمذ لصغار السقراطيين والميغاريين خاصة، وتذوق مذهب (ديمقريطس) عن طريقهم وتعلم على يديهم الجدل، ولكنه بغض إليه، وعرف السفسطائيين وعاصرهم وصاحبهم وواطنهم، ووقف على أسرار الشرق وروحانيته. وبذلك استوعب التراث الفلسفي من منابته الأولى.

والمعروف أن (فيرون) لم يكتب شيئاً عن مذهبه، ولم يلق محاضرات، وكل ما كتبه قطعة فنية للحث على الغزو منحه الإسكندر عليها عشرة آلاف قطعة من الذهب. وكل ما انحدر إلينا عنه نذر يسير في مقطوعات احتفظ بها معاصروه وتلاميذه وعلى رأسهم (تيمون الوفي.

وقد لخص (أرسطقليس مذهب فيرون تلخيصاً وافياً فقال: (فيرون الإبلى لم يترك مكتوباً، ولكن تلميذه تيمون يقول: إن من أراد أن يكون سعيداً فليعتبر ثلاثا: ما الأشياء في ذاتها؟ وما موقفنا حيالها؟ وماذا نجني من وراء ذلك؟ الأشياء كلها بلا استثناء غير حقيقية على الإطلاق، وليست أحكامنا ولا مشاعرنا بقادرة على أن تمثل لنا الحق أو الباطل. لذا وجب ألا نركن إلى الحواس ولا العقل. وإنما يجب أن نظل بدون رأي لا نجنح إلى ناحية دون أخرى. بهذا لا يتطرق إلينا الألم، فإذا عرض لنا شيء وجب ألا نثبته أو ننفيه، وألا نثبته أو ننفيه معاً، وعلى هذا الوجه نصل إلى تعليق الحكم 1 ينتج تعليق اليقين ' ثم ننتهي إلى الطمأنينة التامة '

ولكي نزيد ذلك بياناً نتساءل مع تيمون ونجيب مع فيرون فنقول:

أولاً: ما الأشياء في ذاتها؟

ص: 8

يقر فيرون بأن الوقت نهار، وأنه حي يرزق، وأنه يرى بعيني رأسه، وأن ذلك الشيء يلوح له أبيض، وأن العسل يبدو له حلواً، وأن النار تحرق كما يرى، ولكن هل الشيء في ذاته أبيض، وهل العسل حقاً حلو، وهل من طبيعة النار أن تحرق؟؟

يجيب فيرون: لا أدري.

فهو لا ينكر المرئيات والمسموعات وسائر المحسوسات، ولكن ما حقائقها؟ لا يدري. فالحواس هي كل ما يملك فيرون من هذه الدنيا، وهو يعتز بها ويؤيدها بقوة، وظواهر الأشياء وأعراضها هي كل ما يدرك من معرفة. ولكن هل هذه الظواهر هي هي بعينها حقائق الأشياء؟ كلا، فما الحقائق إذن؟ لا يدري. ولهذا يقول (تيمون)(إن المظهر ملك حيثما وجد) فإذا كان ذلك هو أمر الأشياء، فلنسأل مع تيمون هذا السؤال الثاني:

ثانياً: ما موقفنا حيال الأشياء؟

كل الناس أو على الأقل (فيرون) يستطيع أن يثبت للشيء صفة، وأن ينفي عنه نفس الصفة بمقدار واحد، لأن النفي والإثبات في كفتين متعادلتين لا مرجح لأحدهما دون الآخر: الشهد حلو، والشهد ليس بحلو. هذان الحكمان لا يثبتان في العقل، لأن أحدهما يمحو الآخر، فلا يعود لهما وجود، كالنار تختفي في الخشب الذي تلتهمه. فلا يمكن القول بأن هذا الشيء شريف أو سخيف، وأنه صحيح أو غير صحيح، وأن هذا الشخص هو تيمون أو غير تيمون. لماذا؟ لأن الأضداد متعادلة في تقلبها على الأشياء، ليس فقط في المحسوسات بل في المعنويات أيضاً من فضيلة ورذيلة وعدل وظلم وغير ذلك. ولا يمكن القول بأن الشهد أحلى من العنب، لأن التفضيل يتضمن الإثبات، ولا يمكن القول بأن الشهد ليس أحلى من العنب، لأن ذلك يتضمن نفي الحكم عن شيء وإثباته لآخر. والنفي والإثبات لا وجود لهما لأنهما متعارضان، وبالتالي يفني أحدهما الآخر.

فالأحكام المضافة إلى الأشياء والمعاني لا وجود لها في الواقع، وكذلك الأحكام المسلوبة منها، سواء كانت تقريراً أو تقديراً، لأن الناس في عرف فيرون (إنما يخضعون في أحكامهم للقانون والعرف. فيجب أن نلتزم الحياد التام من هذه الظواهر والأعراض، والخير كل الخير في تعليق الحكم). هذا هو الموقف التوقفي الذي يريده لنا فيرون حيال الأشياء، فماذا نفيد من ذلك؟ هذا هو السؤال الثالث والأخير فلنسأل:

ص: 9

ثالثاً: ماذا نجني من تعليق الحكم؟

لا يشغل الناس في حياتهم إلا التردد بين الشيء وضده، والحيرة بين الخير والشر. وهم كثيراً ما يجلبون الهم والغم لأنفسهم بأنفسهم فيتألمون أنهم محرومون مما يعتقدون أنه الخير الذي إن وجدوه أشفقوا من أن يفقدوه، ثم هم يتألمون لأنهم مرتكبون لما يعتقدوا أنه الشر الذي إن أصابهم تحسروا على أن قد ارتكبوه، فلا هم بالخير فائزون، ولا هم من الشر سالمون. فالرغبة حرمان، والحرمان ألم، والألم إتيان، والإتيان رغبة. فاجتنب الاعتقاد بالخير والشر تختفي كل الوساوس والهواجس، فإن الشك هو الخير الحق، ومتى استراح الناس من كابوس الخير والشر، فليضربوا بالحياة كيفما شاءت لهم الحياة، لا يفرحون ولا يحزنون، يأكلون حين يجوعون، ويشربون حين يظمئون، لا يطمحون ولا يتحسرون. راحتهم في أنهم لا يبالون، لأنه لا شيء في الحياة ذو بال.

هذا هو فيرون يعلق الحكم وينفي الأضرار ويتجاهل الخير والشر فيشرع لا يبالي بشيء ولا يهتم بشيء، لأن شيئاً بالغاً ما بلغ لم يعد يطرف عينه، أو يهز عطفيه ولو سقط انكسارك ولو أوشك هو على الغرق.

الشرور واقعة، ولكن لا نستطيع ولا يستطيع أحد أن يبيدها، وما على المرء إلا أن يخفف من وقعها عليه، وأن يهون على نفسه منها. وليعيش كسائر الطغمة الدهماء، خاضعاً لقوانين الدولة وعوائدها ودينها، لا يثور عليها، فقد لاقى سقراط جزاء ثورته، فامتلأت النفوس خوفاً ورعباً، وتجمدت الإرادة خنوعاً ومسكنة، حتى قال تيمون (أما نحن فلا نخرج عن العرف). وبهذا التوقف الاعتقادي نصل إلى الطمأنينة التامة والسعادة المطلقة حيث لا شر ولا ألم. وهل السعادة إلا غياب الألم؟ وهل ينشد الإنسان إلا السعادة؟ وهل من سبيل إليها إلا في تعليق الحكم وعدم المبالاة؟

(فالأشياء مظاهر لا ندري حقائقها، فلنقف منها على الحياد غير مبالين بشيء فنستريح ونطمئن ونسعد).

وإذا كان فيرون يلتمس السعادة في الشك، فإنه ينخرط في سلك المفكرين بهذه الطرافة الغائية التي أفسحت له مكاناً بينهم؛ ذلك بأن الناس إنما يختلفون في وسائلهم إلى غاياتهم أكثر من اختلافهم في غاياتهم. ولشد ما يكون الاختلاف إذا اتحدت الغايات. وإذا كانت غاية

ص: 10

الغايات عند الجميع هي السعادة، فقد توسل لها سقراط بالعلم، وأفلاطون بزكاة النفس، وأرسطو بالحكمة، وأبيقور باللذة، وديوجين بالفوضى، أما فيرون فوسيلته تعليق الحكم أو اللاأدرية. ولهذا يقول (وادنجتون في كتابه عن (فيرون والفيرونية):

(إن أساس مذهب فيرون أنه اتخذ من الشك آلة للحكمة والاعتدال والعزلة والسعادة) أي أن فيرون اتخذ من الشك آلة للشك.

يقول الجرجاني (الشك هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاك) وذلك هو اللاأدرية عند فيرون.

ويستطرد الجرجاني يقول: (وقيل الشك ما استوى طرفاه، وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما) وعند أبي البقاء وقيل الشك اعتدال النقيضين عند الإنسان وتساويهما، وذلك قد يكون لوجود أمارتين متساويتين عنده بالنقيضين أو لعدم الأمارة فيهما) وذلك هو تعليق الحكم عند فيرون.

ويقول الجويني: (الشك ما استوى فيه اعتقادان، أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما إلى درجة الظهور الذي يبني عليه العاقل الأمور المعتبرة) وذلك هو الشك الاعتقادي عند فيرون.

ويقول التهاوني (الظن عند الفقهاء: التردد بين أمرين استويا واستدل على ذلك بذكر هذا المعنى في (الحواشي العضدية) وفي (السلم)، وعلى ذلك فالشك مرادف للظن. وجاء في (كليات أبي البقاء)(الظن يكون معناه يقيناً وشكاً، فهو من الأضداد كالرجاء يكون خوفاً وأمناً، وفي الحديث القدسي: أنا عند ظن عبدي بي، بمعنى اليقين والاعتقاد).

ومادام الشك مرادفاً للظن، والظن يقين وشك، فالشك يكون معناه اليقين، واليقين عند أبي هلال العسكري (هو سكون النفس بما علم) وذلك هو الطمأنينة التامة غير فيرون.

ومن هذا نرى أن مذهب فيرون ليس من السفسطائية في شيء، وبذلك يكون ابن حزم مخطئاً إذ اعتبر اللاأدرية مذهباً سفسطائياً، واللاأدرية ليست مع ذلك إلا جزءاً من (الفيرونية) الذي يتلخص في ثلاث وثلاث:

ما الأشياء في ذاتها؟. . . لا ندري

فما موقفنا حيالها؟. . . تعليق الحكم

ص: 11

فماذا نجني من ذلك؟. . . الطمأنينة

على أن تعليق الحكم وعدم المبالاة ليسا من أساليب الحياة في قليل ولا كثير. إذ التقدم ظاهرة الحياة، وكل شيء في الوجود يسعى إلى كماله ويتوق إليه، ويشقى به، أما التوقف فنكوص على الأعقاب، ونحن في حركة دائمة ما دمنا نفكر حتى لقد قال (ديكارت)(النفس تفكر دائماً ' والسكون في نظر (هرقليطس) هو الموت والعدم، ونحن لابد لنا من أن نختار يميناً أو شمالاً ? وصدق السيد المسيح عليه السلام:(من لم يكن معي كان علي).

(للكلام بقية)

محمد محمود زيتون

ص: 12

‌صور من الشعر الحديث في العراق

للأستاذ إبراهيم الوائلي

الزهاوي

ويحتج الشاعر على هذا المنع:

بأي كتاب أم بأية سنة

أصد مهاناً عن طريقي وأمنع

ولكن هذا الاحتجاج الصارخ لما يقابل بشيء غير التجسس ورفع التقارير إلى السلطات الحاكمة:

فما نبسوا لي بالجواب وإنما

أعدوا جواسيساً ورائي تتبع

تراقب أفعالي وكل عشية

إلى (يلدز) عني التقارير ترفع

ويتضح لنا أن الشاعر كان قد ذهب إلى تركيا مع رفاقه مطالبين بالحرية ورفع الظلم عن البلاد العربية وبخاصة العراق وقد كان لهذه المطالبة صدى معكوس في الدوائر الحاكمة. ويتضح لنا أيضاً أن الشاعر كان ذا خطر يخشى منه الحكام ويخافونه فلم يأمنوا جانبه إذا بقي في تركيا هو ورفاقه ولم يأمنوا جانبه إذا عاد إلى بلاده حراً طليقاً لذلك أعدوا له الأرصاد وبثوا له العيون وضيقوا عليه منافذ عيشه حتى أرجعوه محوطاً بالقوة التي لا ترحم وبالجواسيس الذين لا ذمة لهم، ولم يكن نصيب أصحابه بأقل من نصيبه فقد نفي كل واحد منهم إلى مكان وأبعد إلى منأى وعومل بمثل ما عومل به الشاعر. وهنا نترك مجال التعبير للشاعر نفسه يحدثنا عن مشهد من أشق المشاهد وأفجعها عليه وهو مشهد التوديع وما يبعثه من أسى ولوعة، مشهد الشاعر يودع أصحابه بقلب واجف مضطرب ودمع سخي متدفق، ومشهد أصحابه وهم يودعونه بمثل ما ودعهم به وكل واحد منهم محوط بفريق من الشرطة يسرعون به في طريق النفي والإبعاد:

أودعهم والقلب ممتلئ لهم

حناناً وجفن العين بالدمع مترع

يشيعهم قلبي يسير وراءهم

وقلبهم يمشي ورائي يشيع

يحيط بنا من كل صوب وجانب

فريق من (البوليس) يسعى فيسرع

نبعد منفيين كل لبلده

وما ذنبنا إلا نصائح تنفع

إذاً فلم يكن ذنب الشاعر حين لاقى ما لاقاه هو وأصحابه إلا الدعوة إلى الإصلاح ورفع

ص: 13

الحيف عن الشعوب المكبلة بالأغلال.

وتنتهي هذه القصة المؤلمة بالاستنكار لهذا الوضع الجائر ولتحمل الأذى والظلم، ووصف ما كان يلاقيه الشاعر من تهديد بالموت الذي هو خير من هذه الحياة الداكنة:

إلى أي وقت نعبد الظلم خشية

فنسجد للقوم البغاة ونركع

حملنا الأذى حتى حنى من ظهورنا

وقيل لنا لم يبق في القوس منزع

يهددني بالموت قوم وأنه

لدون الذي من عسفهم أتجرع

وللموت خير من حياة مهانة

يرى الحر وجه السوء فيها ويسمع

ويرسم لنا الزهاوي صورة أخرى لهذا الظلم. وقصة من تلك القصص التي تتجدد كلما تجدد والي أو حاكم. قصة الأحرار المشردين، والسكاكين التي تشحذ كل يوم، والرعية التي تساق سوق الأغنام، والرشوة التي قضت على معالم العدل وغيرت مجرى القوانين. كل ذلك نجده في قصيدته (الظلم والعدل):

تأن في الظلم تخفيفاً وتهويناً

فالظلم يقتلنا والعدل يحيينا

يا مالكاً أمر هذي الناس في يده

عامل برفق رعاياك المساكينا

لهوت عنا بما أوتيت من دعة

فابيض ليلك واسودت ليالينا

ثم يستعرض بكاء الأرامل وتقتيل الشباب، وقسوة الولاة والرشوة وضياع العدل:

كم من نسوة قتلت ظلماً بعولتها

فصرن يهملن دمعاً قبله صينا

وكم شباب من الأحرار قد هلكوا

وللإرادات قد صاروا قرابينا

قست قلوب ولاة أنت مرسلهم

كأنما الله لم يخلق بها لينا

تراهم أغبياء عند مصلحة

وفي المفاسد تلقاهم شياطينا

وضاع في الملك عدل يستظل به

ما بين إغماض مرشي وراشينا

إن الرعية أغنام يحد لها

عمالك المستبدون السكاكينا

ولكن:

ما جاءنا الشر إلا من تهاوننا

ما عمنا الظلم إلا من تغاضينا

إن في ديوان (الكلم المنظوم) كثيراً من هذا النغم الثائر الحزين الذي يتدفق عن حرارة ولهفة وينبع من أعماق النفس، وكله لا يختلف من حيث العاطفة المشبوبة والموسيقى

ص: 14

اللفظية. ونكتفي بهذا القدر الذي سقناه مما نظمه الزهاوي أيام الاستبداد لنتحدث عن شعره بعد إعادة الدستور ولنرى موقفه من هذا الحادث العظيم في تاريخ الدولة العثمانية.

لم نجد للزهاوي قصائد كثيرة في مناسبة الدستور وإنما كل الذي وجدناه لا يصل إلى ما وصل إليه ذلك الذي نظمه أيام الاستبداد؟ وهذا المقدار القليل كاف لأن يفسر لنا مذهب الشاعر وموقفه حيال الدستور وهو موقف الفرح المستبشر والراضي المطمئن. ففي (الكلم المنظوم) قصيدة عنوانها (التعاون) قالها بعد إعلان الدستور - أو بالأحرى إعادته - وتلاها يوم انعقدت جمعية الاتحاد في بغداد، والقصيدة لا تتجاوز خمسة وعشرين بيتاً نجتزئ منها ما يأتي:

حزب التعاون في الدنيا هو الناجي

نمشي على ضوئه في ليلنا الداجي

قد أفلحت أمة في قصده نهجت

فأنه للترقي خير منهاج

إن الذي أصبحت عيني تشاهده

قد أبهج القلب مني أي إبهاج

قد أعلنت للورى حرية فمضى

زمان سخرة ذي آمرو (قرباج)

وأطلقت كل نفس من أسارتها

هذا الذي كان يرجو نيله الراجي

ثم يؤرخ هذه المناسبة:

فقال في وصفها شعري يؤرخها: (تحرر الناس من أسر وإحواج) ويصادف هذا التاريخ سنة 1326 هـ.

وقصيدة أخرى عنوانها (عيد ومأتم) قالها في هذه المناسبة وقد صادف أن مات رجب باشا صديق الشاعر أيام إعادة الدستور فجمع الشاعر بين الفرح والحزن:

عم البلاد سرور لا يكدره

إلا وفاة أبي أحرارها رجب

أفراحنا برزا يا ناقد اختلطت

فقلت: قد طابت الدنيا ولم تطب

ليس هذا الذي تحدثنا عنه بقريب على الزهاوي وقد نفي وشرد وأبصر بعينه ما يجري في العراق وغير العراق من سوء المعاملة وما تعانيه هذه الأقطار من فقر وجهل وما يقع على الأحرار والأبرياء من تنكيل واضطهاد. ليس بغريب على الزهاوي أن يثور على عبد الحميد وولاته وأن يستبشر بعودة الدستور ولكن الغريب أن عبد الحميد الذي يقول فيه الزهاوي:

ص: 15

أيأمر ظل الله في أرضه بما

نهى الله عنه والنبي المبجل

وجدناه في شعر الزهاوي حامياً للدين الإسلامي رافعاً منار الشريعة كما في قصيدته (الفتح الحميدي):

نهنيك بالفتح المبين الذي به

تسامى منار للشريعة واستعلى!!

ولنا أن نعتذر عن الشاعر بما فسرنا به موقف الكاظمي من العاطفة الدينية التي استجاب لها الزهاوي حين رأى انتصار عبد الحميد على أوروبا الشرقية فاهتز لهذا الانتصار كما اهتز له غيره من الشعراء. وإلا فأي رافع لمنار الشريعة ذلك الذي حاد عن سنن النبي والكتاب؟.

إبراهيم الوائلي

ص: 16

‌عدو الشعب الجاشنكير

للأستاذ عطية الشيخ

تتمة

في قلعة الكرك:

وقف إعرابيان على باب قلعة الكرك واستأذنا في الدخول على الناصر ذاكرين أنهما من مصر. فلما مثلا بين يديه كشف ابن قراسنفر لثامه فعرفه السلطان وقال له: محمد؟ فقال لبيك يا مولانا السلطان، وقبل الأرض وقال لابد من الحلوة، فصرف السلطان من حوله، وآنئذ حدثه محمد باتفاق أبيه مع قبجق وأستدمر على مناصرته، وسلم إليه كتاباً من الثلاثة الموالين مضمونه لوم الملك على النزول عن العرش ووعده برجوع ملكه إليه، فلما قرأه قال يا محمد، ما لهم قدرة على ما اتفقوا عليه، فإن أمراء مصر والشام قد اتفقوا على سلطنة بيبرس، والشاعر يقول:

كن جريا إذا رأيت جباناً

وجباناً إذا رأيت جريا

لا تقاتل بواحد أهل بيت

فضعيفان يغلبان قويا

ولن يتم لنا الحال إلا بالحيلة وحسن التدبير والمداراة والصبر على الأمور، وأرسل مع ابن قراسنقر جواباً لأبيه نصه:

(بسم الله الرحمن الرحيم: حرس الله تعالى نعمة المقر العالي الأبوي الشمسي ومتعنا بطول حياته، فقد عملنا ما أشار به وما عول عليه. . . وهذا الأمر ما ينال بالعجلة. . . وإن حضر إليك من جهة المظفر أحد، وطلب منك اليمين فقدم النية أنك مجبور واحلف، ولا تقطع كتبك عني) وهكذا بدأ الناصر يتصل سراً بمن يستطيع إفساده من الأمراء وأعيان الدولة.

عقارب السعاية

وأخذت عقارب السعاية تعمل بين المظفر والناصر، توغر بطانة كل قلب صاحبها ليسرع إلى الوقيعة بالآخر، حتى بعث المظفر للناصر بالكرك يطلب ما عنده من الخيل والمماليك، ويهدده بالنفي إلى القسطنطينية إن لم يجب، فغضب الناصر غضباً شديداً وقال: (أنا خليت

ص: 17

ملك مصر والشام لبيبرس، فما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي ومملوك لي، ارجع إليه وقل له! (والله لئن لم يتركني، وإلا دخلت بلاد التتار وأعلمتهم أني تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي، وهو يتابعني ويطلب مني ما أخذته) فأغلظ له رسول بيبرس القول حتى اشتد غضب الناصر وصاح به، ويلك! وأمر أن يرمى من سور القلعة. ثم ثاب إلى رشده واكتفى بحبسه، ثم طرده ماشياً من الكرك، وقد استغل الناصر ما حدث لاستدرار عطف الناس فكتب إلى جميع الأمراء بالدولة المصرية وإلى النواب بالبلاد الشامية كتباً سيرها مع العربان يستنكر سلوك بيبرس معه، وفي آخر كل جواب (إما أن تردوه عني وإما أن أسير إلى بلاد التتار لاجئاً مستغيثاً).

بداية النهاية

كانت الأفكار مهيأة من قبل عند أمراء الشام بزعامة قراسنقر فكتبوا إلى الناصر بأنهم طوع أمره، أما أمراء مصر وقوادها فأخذوا يهربون إلى الكرك وينضمون إلى الناصر بمماليكهم وأموالهم وأسلحتهم، تاركين أولادهم بمصر، فبدأ الشك يساور بيبرس، وارتاب في جميع المماليك بسبب ذلك، وزاد الأمر حرجاً أن البرجية، وهم أعوان بيبرس استغلوا ظروفه الحرجة وأخذوا يظهرون جشعهم، ويطلبون ثمن إخلاصهم، ثم استبد الخوف بيبرس وارتاب في أخلص الناس إليه، وقبض على كثير من الأمراء والمماليك، وقطع رواتبهم وأرسل كتاباً شديد اللهجة إلى الملك الناصر ليعيد من هرب إلى مصر، وأغلظ فيه وأفحش على غير عادته، ولكنه الضعف دائماً، وحرج المركز، يسببان الشعور بالنقص، فيعوض الإنسان هذا الشعور، بالتكبر والتعالي مرة، ويبذىء الألفاظ مرة أخرى، وبالوعيد والتهديد آناً آخر، وقد أشارت بطانة الناصر عليه، أن يرد على بيبرس رداً ليناً إمعاناً في الخديعة، حتى يتم الاستعداد، وينفض عنه الجميع.

رد مخادع

كتب الناصر إلى بيبرس جواباً على طلبه من هرب من الأمراء هذا نصه: (المملوك محمد بن قلاوون يقبل اليد العالية المولوية السلطانية المظفرية أسبغ الله ظلها، ورفع قدرها ومحلها. . . لما علم المملوك بوصولهم أغلق باب القلعة وسيرت إليهم ألومهم على ما

ص: 18

فعلوه. . . وعلمت أنهم إنما هربوا خوفاً على حياتهم، واستجاروا بالمملوك، والمملوك يستجير بظل الدولة المظفرية. . . والمملوك يسأل كريم العفو والصفح الجميل، والله تعالى قال في كتابه الكريم، وهو أصدق القائلين (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين).

عرش يتهاوى

وصل هذا الجواب للملك المظفر فاطمأن خاطره، واستنام إلى الخديعة، ولم يقرع له ناقوس الخطر إلا كتاب وصل إليه من الأفرم نائب دمشق بأن الناصر خرج من الكرك بقضه وقضيضه، وأن كل أمراء الشام قد انحازوا إليه بعساكرهم وأموالهم، وأن منابر الشام بدأت تدعو للناصر ومنعت اسم بيبرس من الخطبة، وشاع خبر خروجه في مصر، فازدادت حركة الهرب والانحياز إليه من المماليك والأمراء، ثم أخذ المظفر يرسل الجيش تلو الجيش لمحاربة الناصر فيفر الجنود والأمراء ويلتحقون بجيش الناصر في الشام.

يجني عليه اجتهاده

هال المظفر ما يدور حوله، وشعر بحرج مركزه فرأى تجديد البيعة لنفسه، واستدعى الخليفة، وحلف بين يديه الأمراء، واستكتبه عهداً جديداً ليتلى في المساجد على مسامع الشعب، ونسخة العهد:(إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي إلى أمراء المسلمين وجيوشها (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وإني رضيت لكم بعبد الله تعالى الملك المظفر ركن الدنيا نائباً عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية وأقمته مقام نفسي لدينه وكفاءته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحكمت بذلك الحكام الأربعة، واعلموا رحمكم الله أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا صاغر عن كابر، وقد استخرت الله تعالى ووليت عليكم الملك المظفر فمن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى أبا القاسم ابن عمي صلى الله عليه وسلم. وبلغني أن الملك الناصر ابن السلطان الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم وشتت

ص: 19

شملهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية لسبي الحريم والأولاد، وسفك الدماء وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك. . .

وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي اللواء الشريف. . .

ولما قريء هذا العهد على منابر مساجد القاهرة وبلغ القارئ اسم الناصر صاحت العوام نصره الله نصره الله، ولما وصل إلى اسم الملك المظفر صاحوا لا لا، ما نريده، وقامت ضجة وحركة في القاهرة ومصر بسبب ذلك.

حتى ختنه وصديقه

كان بروغلي قائد قواد بيبرس وزوج ابنته لما رأى العسكر والقواد يفرون إلى الناصر طلب إلى المظفر أن يقود الجيش بنفسه فتعلل بيبرس بكراهيته للفتنة وسفك الدماء، واكتفى بتجديد البيعة وعهد الخليفة، فلم يرق ذلك في نظر بروغلي، وقال له على لسان الرسول (يا بارد الذقن هل بقي أحد يلتفت إلى الخليفة؟) ثم هرب مع جيشه وانضم للناصر وإذ ذاك سقط في يد المظفر وعلم بزوال ملكه، وظهر عليه اختلال الحال وأخذ خواصه يلومونه على أخطائه، ككل ملك يأفل نجمه فيكثر ناقدوه وتعد حسناته سيئات، وكان أكثر لومهم له في إبقائه سلار، وإغضائه الطرف عنه، مع أن جميع ما حصل من اختلال الدولة بسببه؛ فإنه لما فاتته السلطنة وقام بيبرس فيها حسده على ذلك، ودبر عليه، واشترك في إثارة الفتنة مع دسائس الناصر (وبيبرس في غفلة عنه فإنه كان سليم الباطن لا يظن أن صديقه يخونه).

ويل للمغلوب

بلغ من انحلال أمر بيبرس أن العوام كانوا يعلنون سبه في الشوارع، ويهتفون به تحت أسوار القلعة، فلم يجد بداً من أن يكتب للناصر بتنازله عن الملك وقال في كتبه (إن حبستني عددت ذلك خلوة، وإن نفيتني عددت ذلك سياحة، وإن قتلتني كان ذلك شهادة) ثم فكر في ترك القاهرة خلسة والسفر إلى أسوان للاحتماء ببلاد النوبة، لأنها من قديم مهرب لمن هوى نجمه من أمراء مصر وحكامها (فكأنما نودي في الناس بأنه خرج هارباً، فاجتمع العوام وعندما برز من باب الإسطبل صاحوا به وتبعوه ثم تجاوزا الحد في إهانته وشتمه

ص: 20

بل أخذوا يقذفونه بالحجارة.

في ساعة العسرة

عز على مماليك بيبرس السبعمائة ما فعلته العامة بسيدهم فثارت ثائرتهم، وهموا بوضع السيف فيهم، ولكن بيبرس الذي لاقى ما لاقى في سبيل خدمة الشعب والمحافظة على ماله لم يقبل أن يسيء إلى أحد، ونهاهم عما هموا به، وطلب إليهم أن ينثروا ما معهم من الذهب على العامة لينشغلوا بجمعه عن السب والإهانة والجري وراء الركب، وقد نفذ مماليكه أمره، وأخرج كل منهم حفنة من الذهب ونثرها على الشعب، ولكن العامة لم تلتفت للذهب ووجدت في القسوة على هذا العزيز الذي ذل مغنماً أكبر من الذهب؛ وبذئ الألفاظ دائماً أشهى إلى نفوس العامة من كل طعام آخر، فاستمروا يعدون خلف الملك، وهم يسبون ويصيحون؛ ولما علم خطباء المساجد إلى الوجه القبلي أسقطوا اسمه من الخطبة، وأعلنوا على المنابر اسم الملك الناصر.

لعن الله الدنيا:

كان أتباع المظفر يتناقصون كلما أوغل في السير للجنوب وما وصل إلى إخميم حتى كان أكثر مماليكه قد فارقه، فانثنى عزمه عن الوصول إلى أسوان وعاد أدراجه في طريقه إلى السويس ليذهب منها إلى بلاد الشام. وأرسل السلطان في طلبه بعض الأمراء برياسة قراسنقر فأدركوه في غزة وأراد من بقي حوله من المماليك أن يدافعوا عنه ليخلص من الطلب فقال (أنا كنت ملكاً وحولي إضعافكم ولي عصبة كبيرة من الأمراء وما اخترت سفك الدماء) ومازال بهم حتى كفوا عن القتال وسلم نفسه لقراسنقر وكذلك سلم مماليكه السلاح. . . وفي طريق عودة الجميع إلى القاهرة لمقابلة الناصر قابل الركب في الخطارة بمديرية الشرقية رسول آخر من الملك، أنزل المظفر عن فرسه، وقيده بقيد أحضره معه فبكى وتحدرت دموعه، فشق ذلك على قراسنقر وقال: لعن الله الدنيا! يا ليتنا متنا وما رأينا هذا اليوم! ورمي قلنسوته على الأرض من شدة الألم، مع أن قراسنقر كان أكبر الساعين ضد المظفر والعاملين على زوال ملكه. وبلغ الناصر ما أظهره قراسنقر من العاطفة نحو بيبرس فطلبه ليقتله، ولم يجد مجالاً للخلاص إلا الهرب إلى بلاد الشام. وليت شعري كيف

ص: 21

يعاقب الإنسان على عاطفة أثارتها حوادث دامية يتفتت لها الجلمود الأصم.

محاكمة:

مثل المظفر بين يدي السلطان، وقبل الأرض فعنفه الناصر، وأخذ يعدد ذنوبه على مسامعه ويقول:(تذكر وقد رددت شفاعتي في حق فلان، واستدعيت نفقة في يوم كذا فمنعتها، وطلبت مرة حلوى بلوز وسكر فمنعتني، ويلك! وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي) فلما فرغ كلام السلطان قال المظفر: وإيش يقول المملوك لأستاذه؟ فقال السلطان: أنا اليوم أستاذك وبالأمس طلبت إوزاً مشوياً، فقلت إيش يعمل بالإوز؟ أيأكل عشرين مرة في النهار ثم طلب السلطان وتراً ليخنق به بيبرس أمامه فالتمس المظفر وضوءاً ليتوضأ، ثم خنق المظفر حتى كاد يتلف، ثم ترك حتى فاق وأخذ الملك يعنفه ويزيد في شتمه، وكرر الخنق والإفاقة والتعنيف حتى مات المظفر تحت العذاب فأنزل إلى الإسطبل على درابزين وغسل وكفن ودفن خلف قلعة الجبل وأخفى قبره، وكذلك مثل الملك بابنته وزوجه وصادر أموالهما وحتى جواهرهما بتحريض بطانته، وعلى قمة هذه المأساة وقف الشاعر يقول:

تثني عطف مصر حين وافى

قدوم الناصر الملك الخبير

فذل الجشنكير بلا لقاء

وأمسى وهو ذو جأش نكير

إذا لم تعضد الأقدار شخصاً

فأول ما يراع من النصير

عطية الشيخ

مفتش المعارف بالمنيا

ص: 22

‌في تقسيم النفس

التوافق الفكري

بين سيجموند فرويد والغزالي

للأستاذ نور الدين رضا الواعظ

قد يبدو غريباً إذا قلنا، إن التقسيم الثلاثي الجديد للجهاز النفسي من قبل العلامة فرويد لم يكن حدثاً جديداً، ولا إبداعاً علمياً، لأنه سبق أن تطرق إليه العلامة الغزالي فعندما نقول هذا القول لا يعني أننا نمقت فرويداً ونتعصب للغزالي، أو نريد أن نحط من قيمة فرويد العلمية حتى نرفع من شأن الغزالي لأن كلاً من العلامتين في غنى عن المدح والقدح. ولكننا نريد أن نبحث عن الحقيقة أينما وجدت ونتخذ (خذ الحكمة ولا يضرك من أي وعاء خرجت) لأن التفكير العلمي يقتضي التجرد عن التزمت، والابتعاد عن التعصب، وإلا اختل (التوازن العلمي) الذي يجب السير بهداه، أثناء البحث والتنقيب عن الحقائق العلمية. . .

وعناصر التقسيم الثلاثي لجهاز النفس عند فرويد هي:

1 -

ألهو - وهو ذلك الجانب من النفس الذي يسود فيه مبدأ اللذة. . . بمعنى أن فيه كل الغرائز الفطرية والميول والنزعات الأولية (أو الحيوانية) التي ورثها الإنسان من حياته البدائية ومستقر هذه النزعات هو اللاشعور. وأساسها (الغريزة الجنسية) بمعناها الواسع التي (تشمل كل ما يهدف إلى اللذة في الكائن الحي).

(وألهو في بحثه عن اللذة يخبط خبط عشواء لا يعرف المنطق ولا التبصر ولا وزن الأمور، وإنما هو يندفع في قوة وعنف لإرضاء دوافعه وإشباعها لا يرعى حرمة ولا يكف لحظة).

2 -

الأنا. هو الجانب الشعوري من النفس، وهو يدين بمبدأ الواقع، ويتكون من تحول جزء من (ألهو) نتيجة الاتصال بالحياة الخارجية، أي أن هنالك (عملية تفاعلية بين مبدأ اللذة المتمثل في ألهو. . ومبدأ الواقع المتمثل في الأنا، تنتهي بتكوين الأنا تدريجياً). والأنا يقوم بأعماله وفق المنطق والعقل، خلافاً لما عليه (ألهو). ويتأمل في عواقب الأمور

ص: 23

ونتائجها، ويزنها بميزان الدافع. . والأنا يطابق ما يسمى بالنفس أو الذات الشعورية). الأنا الأعلى. وهو بمثابة المرشد للنفس ينصحها ويهديها سبيل الرشاد، ويساعد الأنا في صراعه مع ألهو، وينهال عليه بموج من الترغيب والترهيب، ليصمد أمام نداءات (ألهو) الشهوانية، ويردها على أعقابها. والأنا الأعلى يتكون من الدوافع الدينية الموروثة، والتعاليم الأخلاقية، وعن العادات المشتقة من الأبوين، والمربين وعن أوامرهم ونواهيهم.

فيظهر من كل هذا إن الأنا هو الجزء المعذب من النفس لأن كلاً من ألهو والأنا الأعلى يضغطان عليه، هذا بطلباته الشهوانية الهمجية، وذاك بطلباته المثالية الرفيعة. ومن الطبيعي أن الأنا يقف حائراً بين هذه الأصوات المرعبة التي تزن في أذنه فلا يؤمل له الفلاح إلا إذا تمكن من إيجاد توازن في نفسه بين هذه الدوافع والأصوات. . فإن لم يجد توازناً بين هذه الدوافع، فإن العاقبة ستكون وخيمة عليه.

وعناصر النفس عند الغزالي ثلاثة كذلك: ولكن يجب أن نصرح، أن جوهر التقسيم مختلف بينه وبين فرويد. . وهي:

1 -

الأمارة بالسوء من النفس: ويراد بها ذلك القسم من النفس (الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان) والتي (تركث الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان وهي مذمومة غاية الذم. . . لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى فأنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء).

2 -

اللوامة من النفس:

ويراد بها ذلك القسم من النفس الذي (لم يتم سكونه، ولكنه صار مدافعاً للنفس الشهوانية ومعترضاً عليها، لأنه يلوم صاحبه عند تقصيره في عبادة مولاه) والنفس اللوامة محمودة (لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات).

3 -

المطمئنة من النفس:

(وهي التي سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات) وهي لطيفة ربانية روحانية. وهي المدركة من الإنسان، والمخاطبة؛ والمعاتبة، والمعاقبة والمطالبة. جريانها في البدن وفيضانها فيه، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت، فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به.

ص: 24

ولإيضاح علاقة هذه الأقسام الثلاثة من النفس ببعضها، يورد الإمام الغزالي عدة أمثلة، نقتبس منها مثالاً واحداً. . . نوضح به العلاقة القائمة بين هذه الأقسام من النفس:

(إن مثل نفس الإنسان أعني النفس اللطيفة - أو (الأنا) على حد تعبير فرويد - كمثل ملك في مدينته ومملكته، لأن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها؛ وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعمال، والقوة العقلية - أي النفس المطمئنة (أو الأنا الأعلى) على حد تعبير فرويد. . . له كالمشير الناصح والوزير العاقل. . والشهوة. . أي النفس الأمارة بالسوء أو (ألهو) على حد تعبير فرويد. . كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة.

والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد السوء (ألهو) الجالب للميرة، كذاب خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح، وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدته وعادته منازعة الوزير الناصح (أي الأنا الأعلى) في آرائه وتدبيراته، حتى أنه لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة. كما أن الملك في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره ومستشيراً له ومعرضاً عن إشارة العبد الخبيث مستدلاً بإشارته، على أن الصواب في نقيض رأيه حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً ومأموراً مديراً لا أميراً مديراً استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه.

كذلك النفس متى استعانت بالقوة العقلية المدركة (المطمئنة) أو (الأنا الأعلى) وأدبت حمية الغضب وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى. . تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة يقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة، كان كمن قال الله تعالى فيه (أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم).

فلست أدري، بعد هذا. . هل أنا مصيب في قولي إن الغزالي قد تطرق إلى التقسيم الثلاثي للنفس قبل أن يتطرق إليه فرويد أم لا؟!

نور الدين رضا الواعظ

كلية الحقوق. بغداد

ص: 25

‌من أدب الشباب

خذلان

يا صديقي العزيز:

لشد ما أتألم حين أتصور وجهك الهادئ المنبسط تغضنه يد الألم،

وروحك الوادعة الساكنة تعصف بها نوبة من الشجي المرير وأنت

تقرأ هذه الخطاب!. . . ولشد ما يزداد ألمي حين أذكر إنني كاتب هنا

السطور وباعث هانه الآلام!!

أنا يا عزيزي ذلك الإنسان الذي كان يحشد لك في رسائله كل رائع وجميل، ويقطف البسمات من ثغور الناس ليحيلها إلى كلمات تبعث المسرة في نفسك، وتوقظ النشوة في عواطفك، وتحمل إليك من معرض السعادة أجمل الصور وأنضر الألوان!!

ولكن الذي يشجعني أيها العزيز أن ما أذكره الآن حقائق لها في دنيا الشعور صيد كبير، وما أجدرنا أن نحترمها مهما كانت قاسية!!

يا صديقي العزيز ما أظن أن فترة في تاريخ صداقتنا الغالية تظفر منك بالاهتمام والتقدير مثل تلك الفترة التي كنا نعمل فيها جادين لدخول مسابقة أدبية عقدتها إحدى الهيئات الثقافية بالقاهرة!

لقد كنا إذ ذاك في لغة الطبيعة نسرين لا ينظران غير الأفق، ولا يجيدان سوى التحليق؛ وفي لغة الصداقة قلبين عرف الحب فيهما نعمة الخلود، وعرف الوفاء بهما نعمة البقاء. وكنا كما شاءت لنا أحلام الشباب، وما أروع ما تشاء تلك الأحلام وتريد!

وما أظن أن يوماً في تلك الفترة ترعاه ذكراك مثل ذلك اليوم الذي كنا نتسابق فيه إلى بائع الصحف لنقرأ رأي لجنة التحكيم في نتاجنا الأدبي الباكر!

لقد تخاطفنا الجريدة إذ ذاك من يد البائع وراحت نظراتنا تنهب صفحاتها في سباق جنوني. . . وتحت عنوان خاص تلاقت نظرتان: أما نظرتك فقد استحالت إلى إطار من الأمل المشرق يضم في حناياه ذلك الاسم المحبوب الذي يزهو في قائمة الفائزين؛ وأما نظرتي فقد ارتدت مذعورة لتدفن أساها في فيض من الدموع. . الدموع التي أرسلها قلبي لتنوب

ص: 26

عنه في مأتم الخذلان!!

آه يا صديقي لقد جفت دموعي إذ ذاك والتفت إليك وعلى ثغري ابتسامة قلقة هي أشبه ما تكون بممثل يصعد خشبة المسرح لأول مرة!! ورحت أشد على يدك في حرارة بل، وامتد ثغري إلى جبينك يترجم التهنئة إلى لغة القبلات!

آه يا صديقي لقد عدت أنت إلى منزلك لتضيف إلى أمجادك صفحة ناصعة، وانزويت أنا في منزلي أتلمس معاني الخذلان في هذا الوجود!!

النجوم تتراءى أمام عيني وكأنها تستعطف الليل أن يسدل عليها أستار الغيوم. . أجل فلاشك أنها تستشعر الخذلان أمام هذا البدر المشرق الذي لا يفتأ يزهو عليها بأضوائه الألاقة الزاهية.

ولكن ألا يجوز أن يكون هذا البدر هو الآخر مخذولاً ينشر العزاء في رحاب الليل، وأن تكون تلك النجوم دموعه الحارة الذليلة! أجل فلاشك أنه يستشعر الهوان إلى جانب الشمس تلك التي لا تزال تميس بأنوارها كلما أقبل النهار. . أيها الليل إنني أنا الآخر مخذول! ألا يوجد لديك مكان يسعني لأذرف فيه دموعي!!

تلك يا صديقي هي الخواطر التي كنت أتقلب على لظاها في ذلك المساء القلق حتى حمل إلي البريد صباح ذلك خطاباً منك كان ولاشك أثراً من آثار تلك الأحلام التي أغفت أفكارنا الشابة في رحابها الرخية الوارفة!! وها أنت ذا تقول في خطابك: (الآن يا صديقي آمنت أن الصداقة تفعل المستحيل. إنها السائل العجيب الذي يستحيل فيه الصديقان إلى إنسان واحد، وتستحيل فيه آمالهم الرحيبة إلى أمل واحد! أجل يا أخي لا تتردد في قبول ذلك الرأي فأنت أول دليل ألتمسه له. ألم أفز أنا وتخفق أنت في مسابقة واحدة، وبالرغم من ذلك كنت أحس النشوة الغامرة ترعش أناملك وأنت تشد على يدي والفرحة، الفائرة تلهب شفتيك وأنت تقبل جبيني. . لقد كنت أود أن أشكرك أيها العزيز ولكني سوف أشكر الصداقة - الصداقة التي تفعل المستحيل!!).

وهنا يا عزيزي أيحزنني أن أقول لك أن هذه الحرارة التي تحدثت عنها لم تكن إلا حرارة القلب الذي يحترق، وأن هذه الرعشة لم تكن إلا رعشة الطائر الذبيح، وأن اسمك الكريم، أسمك الذي كنت أهتف به حين أراك مثلما يهتف العاشق بأغنية كانت ترددها حبيبته. .

ص: 27

اسمك هذا لم يكن ثقيلاً على نفسي مثلما كان ذلك اليوم. لقد خيل إلي أنه اغتصب ذلك المكان الذي كنت أهيئه لاسمي أنا وتربع فيه ولكن على أنقاض أمل نضير!!

أنا أحبك يا صديقي؛ هذا لاشك فيه، ولكني قبل ذلك أحب نفسي تلك هي الحقيقة التي ضلت طريقها إلى قلوبنا وتركتها تعبد الوهم في دير الأحلام!

حسب الصداقة يا أخي أنها أحالت ذلك الشعور بالخذلان، ذلك الشعور الذي يلون الوجود بألوان المقت والكراهية حسبها، أنه تحيله إلى بسمات لا يفيدنا أن تكون مسرحية؛ فالواقع يا صديقي أن العالم مسرح كبير!

المنصورة

محمد أبو المعاطي أبو النجا

ص: 28

‌رسَالًة الشِّعر

أشواق حائرة!.

للآنسة فدوى طوقان

ماذا أحس؟ هنا، بأعماقي

ترتج أهوائي وأشواقي

بي ألف إحساس يحرقني

متدافع التيار، دفاق

ألف انفعال، ألف عاطفة

محمومة بدمي، بأعراقي

ماذا أحس؟ أحس بي لهفاً

حيران يغمر كل آفاقي

جفت له شفتاي وارتعشت

إظلاله العطشى بإحداقي

نفسي موزعة، معذبة

بحنينها، بغموض لهفتها

شوق إلى المجهول يدفعها

متقحماً جدران عزلتها

شوق إلى ما لست أفهمه

يدعو بها في صمت وحدتها

أهي الطبيعة صاح هاتفها؟

أهي الحياة تهيب بابنتها؟!

ماذا أحس؟ شعور تائهة

عن نفسها تشقي بحيرتها!.

قلبي تفور به الحياة وقد

عمقت ومدت فيه كالأمد. .

فتهز أغواري نوازعه. .

صخابة، دفاقة المدد. .

ويظل منتظراً على شغف. .

ويظل مرتقباً على وقد. .

أحلام محروم تساوره

متوحد في العيش منفرد!

ويود لو تمضي الحياة به

للحب، مصدر فيضها الأبدي!

وهناك تومئ لي السماء وبي

شوق إليها لاهف عارم

فأحس إحساس الغريب طغى

ظمأ الحنين بروحه الهائم

وأرى كواكبها تعانقني

بضيائها المترجرج الحالم

تهمي على روحي أشعتها

وتلفه بجناحها الناعم

فأود لو أفني وأدمج في

عمق السماء ونورها الباسم!

مالي يزعزعني ويعصف بي

قلق عتي، جائح الألم

تتضارب الأشواق حائرة

في غور روحي، في شعاب دمي

ص: 29

الأرض تعلق بي وتجذبني

وتشد قبضتها على قدمي!

وهناك روحي هائم شغف

بالنور، فوق رفارف السدم

مستحقر للأرض تفزعه

دنيا التراب وهوة العدم!

روحي يلوب بدار غربته

عطشاً إلى ينبوعه السامي

فهناك أصداء يسلسلها

سوت السماء بروحي الظامي

وهنا هنا في الأرض يهتف بي

صوت يقيد خطو أقدامي

صوتان، كم لجلجت بينهما

يتنازعان شراع أيامي

وأنا كيان تائه. . قلق. .

يطوي الوجود حنينه الطامي!. .

نابلس

فدوى طوقان

ص: 30

‌إلى الحبيب

للشاعر الشاب طالب الحيدري

صاحب (ألوان شتى)

إلى القدح الذي تحطم على شفتي

إلى الوتر الذي أغفى على يدي

إلى الربيع الذي ألهمني ديواناً من الشعر

إلى الذي قال: أنالك. . وسرعان ما انقلب!

هموم نفسي تكاد تقتلها

فهل لقاء به أعللها؟

إن غراماً أقام في كبدي

أقسم بالله ليس يرحلها

آمنت أن القلوب أبردها

أقفرها من هوى وأعطلها

وأن أفكارنا التي صدئت

يرهفها حبنا ويصقلها

وأن هذي الجسوم أصدقها

صبابة في الغرام أنحلها

ما لجفون الملاح أفترها

أصرعها للفتى وأقتلها!

وليلة بتها على علل

غيري من الناس ليس يحملها

شهرتها: لا السكون يغمرها

ولا هلال الدجى يكللها

وسادتي: والأنين يحرقها

يطفئها الدمع إذ يبللها

يا هاجري لو وصلت لازدهرت

نفس على الملتقى معولُها

تلك اللييلات هل ستذكرها

ذاكرتي أم أنت سوف تغفلها؟

لي طلعة أثر السهاد بها

والهجر حتى لكدت تجهلها

أبعد هذا الغرام تهجرني

خابت إذن ساعة أُؤملها

تحمل النفس فوق طاقتها

تفديك تلك التي تحملها

عدت على العكس لا الهوى قبل

نعلها بيننا وننهلها

ولا الليالي كالعهد ساهرة

نقطعها لذة ونقتلها

ص: 31

ولا الأحاديث كلها أمل

يسكرنا عذبها وسلسلها

ولا الأويقات وهي غالية

نشربها بيننا ونأكلها

ولا المواعيد وعي باسمة

في الليل أو في النهار نجعلها

ولا الترانيم وهي راقصة

نبعثها في الهوى ونرسلها

ولا الأماني التي نحققها

ولا الصعاب التي نذللها

ولا العيون التي نكحلها

ولا الخدود التي نقبلها

نفسي وهي التي أضن بها

بل وعلى غيرها أفضلها

ثق أنني في الهوى أقدمها

وفي سبيل اللقاء أبذلها

نفسي فدى خصلة مجعدة

كان نسيم الصبا يرجلها

نفسي فدى ريقة معطرة

أرشفها خمرة وأنهلها

كأنها والعبير يغمرها

حديقة قد ذكا قرنفلها

نفسي فدى مقلة معربدة

يثملني سحرها ويثملها

كنت إذا استغرقت أهدهدها

كطفلة أمها تدللها

نفسي فدى وجنة موردة

كنت متى أشتهي أقبلها

بحمرة الجلنار أصبغها

بماء الورد الرياض أغسلها

صلني فنفسي يكاد يسقمها

هجرك، لا، بل يكاد يقتلها

عللت نفسي بالصبر مجتهداً

هيهات فالصبر لا يعللها

بغداد

طالب الحيدري

ص: 32

‌اللقاء الأخير

للشاعر الروسي إيفان تورجنيف

ترجمة الآنسة سلوى الحوماني

كنا حبيبين سعيدين. . . ثم جاءت اللحظة المشئومة فافترقنا كالأعداء.

وكرت سنون عديدة. . وفي ذات مرة، عندما كنت أزور المدينة التي يسكن فيها حبيبي، علمت أن اليأس من لقائي قد حطمه.

ذهبت إليه، ودخلت عليه، وتلاقت أعيننا.

ولأياً استطعت أن أعرفه. . يا لله! أي مرض خبيث قد عصر حبيبي؟. . شحوب. . ارتعاش. . ذبول

ورأيت جسم حبيبي يذوب تحت ثوبه المهلهل

بدا لي في قميصه الممزق كأن جسمه الواهي لا يستطيع تحمل ضغط الثوب. . وبجهد مد إلى يده المرتعشة التي تنوء بحمل عظامها، ونفث بضع كلمات غامضة. . خرجت حائرة تتعثر بين السلام والملام

وكان لهاثه يكاد يمزق صدره الهزيل المضني. . وكذلك إنساناً عينيه تقلصا حتى كادا أن يتلاشيا

وتفصدت من عيني حبيبي الذاويتين عبرتا أن تكسرتا على وجهه الشاحب

انفطر قلبي لمرأى حبيبي. وجلست إلى جانبه يتنازعني الألم والرعب من شبح المرض الجاثم عليه.

وداخلني شعور عميق بأن هذه اليد التي تصافح يدي ليست يد حبيبي، وخيل إلي أن امرأة طويلة كاللانهاية، صامتة كالأبدية، باهتة كالعدم تجلس بيننا. . هي ملتفة من رأسها لقدميها بكفن كبير، عيناها الحادتان الغائرتان الشاحبتان تحدقان في الفضاء، وشفتاها الصارمتان المطبقتان الباهتتان لا تنفرجان عن كلمة. هذه المرأة لمست أيدينا. . ووفقت بيننا إلى الأبد، نعم هو الموت الذي وفق بيننا!

سلوى الحوماني

ص: 33

‌الأدب والفنّ في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

سيرة الجيل الجديد في الأزهر

نشرت في العدد السابق من (الرسالة) ما تلقيته من الطالب (ضياء الحائر بكلية الشريعة) متضمناً شكواه من كتب الدراسة الأزهرية. ولم أتوسع في التعليق عليها، انتظاراً لما عسى أن يبدي من آراء ووجهات نظر تنير جوانب الموضوع ونستطيع أن نتبين في ضوئها اتجاه الرأي العام الأزهري فيه.

ولم ألبث حتى جاءت الرسائل تترى من الطلبة، تعبر عن الارتياح لإثارة الموضوع، وتهيب بي أن أجيل القلم فيه، وتفيض بالألم والشكوى مما يعانونه منها. وكتب بالعدد الماضي من (الرسالة) اثنان يعطفان على (ضياء الحائر) ويؤيد إنه فيما أبداه، كما كتب الأستاذ سليمان دنيا مقالاً عالج فيه الموضوع على نحو يقوي جانب تلك الكتب، وسيأتي الكلام على ما تضمنه هذا المقال بعد النظر في رسائل الطلبة الذين يستصرخون، وهم الجيل الجديد الحائر الذي ينبغي أن يتوجه الاهتمام إليه، عسى أن يؤخذ بيده ليسير نحو مستقبل يرجى له وللثقافة الإسلامية على العموم.

يقول (ص. أ. ج بمعهد طنطا) في رسالته الطويلة: (قرأت اليوم العدد781 من مجلة الرسالة وتصفحت خطاب الأستاذ الحائر فشممت منه رائحة العواطف المحترقة والمشاعر المحتضرة، واطلعت على تعليقك على كلمة (الحائر) وأغلب ظني أنها من الحيرة التي تكتنفنا جميعاً وكان الواجب عليه أن يعبر بلفظ (الحائرون) لأن البلية طامة) وينقل إلى عبارات من الكتب المقررة منها، ما قاله صاحب النهاية المقررة على طلبة السنة الثانية الابتدائية بعد أن عرف التيمم:(والأصل فيه آية وإن كنتم مرضى أو على سفر وخبر جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهورا، وسوغ الاستدلال بهذا الخبر قرينة سياق الامتنان وكذا الانتقال إلى التخصيص بعد العموم إذ مفهوم اللقب مع القرينة حجة كما صرح به الغزالي) ومنها ما جاء في كتاب آخر (ولضاب الذهب الخالص ولو غير مضروب عشرون مثقالاً وهو لم يتغير جاهلية ولا إسلاماً والمثقال اثنتان وسبعون حبة وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال) ثم يقول: (وليس الأمر

ص: 35

مقصوراً على كتب الفقه، وإليك عبارة من كتاب البلاغة بالنص:(فإن قيل هو أي وجه الشبه مشترك فيه ضرورة اشتراك الطرفين فيه فهو كلى ضرورة أن الجزئي يمتنع وقوع الشركة فيه والحسي ليس بكلى ضرورة أن كل حسي فهو موجود في المادة حاضر عند المدارك ومثل هذا لا يكون إلا جزئياً ضرورة فوجه الشبه لا يكون حسيا قط - قلنا المراد بكون وجه الشبه حسياً أن أفراده أي جزيئاته مدركة بالحس كالحمرة التي تدرك بالبصر جزيئاتها الحاصلة في المواد) أواه! أواه من أي التفسيرية وما فعلت بعقولنا وما أنهكت من جسومنا وهدت من قوانا إن كان قد بقي فينا شيء من قوة!).

ولا أريد أن أطيل بعرض محتويات بقية الرسائل، وهي من (أحمد السيد خضر طالب بكلية الشريعة) و (فتحي محمد عبد الحافظ بمعهد طنطا الثانوي) و (السيد عوض محمود الجعفري بمعهد فاروق الثانوي) و (رفاعي خاطر بكلية الشريعة).

وكلها تعبر عن القلق والحيرة والألم، وتفصح عن التطلع إلى التعديل والإصلاح ومسايرة الزمن، ومما يقوله الطالب فتحي عبد الحافظ (هذا رأينا نحن الطلاب وأما رأي أساتذتنا الأفاضل فيكفيك أننا كنا نقرأ هذا الموضوع أمام أحد الأساتذة الإجلاء فكان جوابه أن هذا كلام ليس له ظل من الحقيقة، وحجته في ذلك أن هذه العلوم المعميات تفتق الذهن وتوسع مدارك الفهم، وكيف تأخذ رأي أستاذ عاشر هذه الكتب طول حياته وأصبحت هي غذاءه الوحيد؟).

وأنا والله لا أدري كيف تفتق تلك المؤلفات الذهن وتوسع مدارك الفهم! كيف يدرك الطالب في السنة الثانية الابتدائية أن الذي سوغ الاستدلال بالخبر قرينة سياق الامتنان إلى آخر ما صرح به الغزالي. . حتى يكون ذلك مدعاة إلى تفتيق ذهنه وتوسيع مداركه؟ ثم ما (لضاب الذهب) الخالص مضروباً أو غير مضروب، وما الشعيرة المعتدلة التي لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال؟ ما هذا وأمثاله، مما وضع في العصور الماضية، من إفهام ناشئين في القرن العشرين بمصر حيث يتعامل الناس بالجنيه والقرش والمليم! وهذه البلاغة من قال بأنها بلاغة وصاحبها لا يكاد يبين؟.

هل المقصود من دراسة تلك المؤلفات ما فيها من علم أو هي نفسها المقصودة؟ فإذا كان العلم هو الغرض فلماذا يصرون على حبسه بين جدرانها المغلقة، ولماذا لا يستخرج ما فيها

ص: 36

من (الخير الكثير) ويجلي لأهل العصر في أسلوب العصر، ويوجه الجهد الذي يبذل في فهم العبارات الغامضة إلى ألوان المعرفة المتعددة أو إلى التطبيق على مسائل الحياة العصرية الواقعة.

يذهب الأستاذ دنيا إلى أن (الخير كل الخير للأزهر في أن تكون دراسته مستوعبة تتناول المؤلفات منذ عرف المسلمون التأليف والتدوين، تدرسها وتتبين أسلوبها ومنهجها وموضوعاتها) ويقيس ذلك بأن العلماء من غير الأزهريين يدرسون الإنسان الأول في عصور ما قبل التاريخ ليعرفوا أسلوب تفكيره وطريقة بحثه والموضوعات التي استرعت انتباهه فأخضعها لتفكيره وبحثه الخ. فهل يريد الأستاذ أن يدرس الطلاب جميعاً من البدء إلى النهاية على نمط أساتذة قليلين معنيين بدراسات خاصة؟ وهل يريد أن تكون الدراسة بالأزهر كلها تاريخ مؤلفات وطرائق مؤلفين!

نحن أمام علوم ذات حقائق معينة، فهل ندع هذه الحقائق لندرس عبارات المؤلفين ونجهد في تفسيرها أو نعمد إلى الحقائق نفسها فنكشف عنها وندنيها من الإفهام والعقول وننميها بإضافة ما استحدث بعدها؟ لقد عالج الأستاذ الموضوع معالجة فيلسوف يجلس في البرج العاجي، معالجة بعيدة عن الواقعية والأغراض التربوية.

سألت في كلمتي السابقة: (هل انتفع الأزهريون بما حصلوه من العلوم الحديثة وما رأوه من طرائقها في ثقافتهم الأزهرية الأصيلة!) وأنا لا أقصد السؤال عن فائدة العلوم الحديثة في ذاتها، كما فهم بعض من كتبوا إلي، وإنما أعني أثرها في عرض العلوم الشرعية والعربية بالأزهر، ولماذا لم يحتذ الأساتذة الأزهريون حذوها في تأليف علومهم بحيث تكون قريبة المنال ملائمة للعصر داعية إلى التجاوب فيها مع البيئات الأخرى. إن هذه العلوم الحديثة روافد للتثقيف العام بالنسبة للأزهريين، وقد جرت في الأزهر ومعاهده على أيدي المصلحين العصريين، فاستفادوا منها ولاشك، ولكن لا يزال بينها وبين العلم الأزهري الصميم من شريعة ولغة حاجز قائم، إذ لا يزال هذا العلم على حاله القديم لم يتأثر بطرائق العلوم الحديثة. وأنا أعتقد أن باب الإصلاح الحقيقي في الأزهر ما زال مغلقاً، ولم تدخل شمس الإصلاح الحديث إلى ذلك العلم الأزهري الصميم إلا من كوى ضيقة، نفذت هذه الشمس إلى النحو قليلاً، فلم يعد الطالب يبدأ بإعراب (بسم الله الرحمن الرحيم).

ص: 37

أما علوم الشريعة وما يسمونه (بلاغة) فلا تزال في ظلام دامس من طرائق العصور الماضية التي لا تتفق مع العصر الحاضر.

والأمر كله يتلخص في أمرين، الأول الكتب القديمة المعقدة التي يفرض إدراك مراميها الخفية المستعصية على طلاب يتلقون معارف كثيرة، مختلفين عن أسلافهم على الأقل في أن الأسلاف كانوا متفرغين لها غير مطالبين بتحصيل ما جد من العلوم والمعارف، والأمر الثاني هو وقوف العلماء المحصلين لهذه الكتب أنفسهم عندما وقفوا عليه منها، معرضين عن تنميتها بما يلائم واقع الحياة الحاضرة.

ولا يقتصر ضرر ذلك على طلبة الأزهر، بل هو يمتد إلى المحيط الإسلامي كله، لأن استغلاق الدراسة الإسلامية في الأزهر يباعد بين هذه الدراسة وبين المتعلمين في خارج الأزهر لأنهم يجدونها صعبة المنال بل مستحيلة التحصيل، فكان من ذلك انفصال عقلية المتعلمين المسلمين من غير الأزهريين عن الحقائق الإسلامية. وهذا من أسباب عدم التجاوب بين المجتمع وأبناء الأزهر.

بعد كتابة ما تقدم وصلتني رسائل من حضرات (جمعة الباكي بكلية الشريعة ومحمد عبد العزيز عمر طالب بمعهد أسيوط وعبد الصبور الغندور ومحمد السعيد بكلية الشريعة) ويظهر أن ما تضمنته سيحملني على معاودة الكتابة في الموضوع. وعلى ذلك يعتبر الباب مفتوحاً. . .

مسابقة المجمع اللغوي:

احتفل مجمع فؤاد الأول للغة العربية بإعلان نتيجة مسابقته الأدبية لسنة 1949 - 1950 بدار الجمعية الجغرافية الملكية يوم الأحد الماضي فألقى الأستاذ إبراهيم مصطفى كلمة عبر فيها عن سرور المجمع بهذا اليوم الذي يعد من أيامه ومواسمه. وتحدث عن مكافأة المجمع على الإنتاج الأدبي فقال إنها كانت في أول الأمر هبات من نفوس كريمة ثم رصد لها المجمع في ميزانيته 800 جنيه كل عام. ثم تحدث عن موضوعات هذه المسابقة فقال إنها كانت تشمل القصة والبحث الأدبي، فأما القصة فإن المجمع لم يتلق من آثار المتنافسين ما يرضاه لسمو هذا الفن. وأما البحث الأدبي فقد شمل تحقيق كتب عربية قديمة وقد فاز منها أربعة حققها دارسون مجدون قادرون، وفاز في الدراسات الأدبية بحث عن (رفاعة

ص: 38

الطهطاوي) وهو أحد الموضوعين اللذين حددهما المجمع ليلتفت بالكاتبين إلى درس أدبنا الحديث.

وقد عرف الأستاذ بالكتب المحققة الفائزة ومكانتها الأدبية، كما عرف برفاعة الطهطاوي موضوع الدراسة الفائزة ثم أعرب عن اغتباطه بفوز السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) قائلاً إنها أول فائزة بجائزة من المجمع. وقد فات الأستاذ أن أول فائزة بجائزة من المجمع هي السيدة سهير القلماوي على بحثها في ألف ليلة وليلة. ثم قال إنه يأمل أن يجد في المجمع اللغوي زميلات يعملن مع الأعضاء العاملين. . . ولعل الأستاذ يتيح بذلك للسيدات المطالبات بالحق السياسي أن يطالبن أيضاً بالحق اللغوي. . . ولعلهن بعد أن ينلن هذا الحق يرضين عن نون النسوة التي كن يطالبن المجمع اللغوي بإلغائها. . .

ولم يدع الأستاذ إبراهيم مصطفى النحو، أو لم يدعه النحو، فعندما أراد أن يزجي التهنئة إلى الفائزين جعل يخرج كلمة (تهنئتي) هل من إضافة المصدر إلى فاعله أو من إضافة المصدر إلى مفعوله، وعلى هذا الإعراب يكون المعنى (نهنئ أنفسنا).

ويلاحظ أن الكلمة في مجموعها كانت (سائحة) إذ لم يوجه الأستاذ همه إلى ناحية أدبية يأتي فيها بغير ما يشبه تقارير اللجان، ومن أمثلة هذه الناحية ما ألقاه الدكتور طه حسين بك في تقديم إحدى المسابقات الماضية عن (البحث الأدبي) وما ألقاه الأستاذ العقاد في تقديم إحداها عن (مدارس الشعر المعاصر) وما ألقاه المرحوم المازني في إحداها أيضاً عن (الشعر الوسط).

وبعد أن فرغ الأستاذ إبراهيم مصطفى من كلمته، وقف الأستاذ عبد الفتاح الصعيدي مراقب المجمع فأعلن نتيجة المسابقة كما يلي:

يمنح الأستاذ عبد السلام محمد هارون الجائزة الأولى المخصصة للنشر والتحقيق وقدرها مائتا جنيه عن مجموع جهوده القيمة في تحقيقه ونشره لكتابي الحيوان للجاحظ ومجالس ثعلب لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب.

تمنح جائزة ثانية للتحقيق والنشر قيمتها مائتا جنيه على أن تقسم مناصفة بين السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) لتحقيقها ونشرها رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وبين الأستاذ طه الحاجري لتحقيقه ونشره كتاب البخلاء للجاحظ، تقديراً لما بذلاه في تحقيقهما

ص: 39

من مجهود.

يمنح الأستاذ أحمد أحمد بدوي الجائزة المخصصة لأحسن دراسة لرفاعة الطهطاوي بك وأثره في وضع المصطلحات الأدبية، وقدرها مائتا جنيه عن بحثه (رفاعة الطهطاوي بك) تقديراً لما بذل فيه من جهد قيم.

عباس خضر

ص: 40

‌الكُتُب

جنة الحيوان

تأليف الأستاذ طه حسين بك

للأستاذ إبراهيم محمد نجا

(الفن للفن) و (الفن لخدمة المجتمع)، نظريتان تؤثران أعمق التأثير فيما ينتجه الأدباء والفنانون المعاصرون من ألوان الفن والأدب، من حيث طبيعة هذا الإنتاج، والمنابع التي ينبع منها، والمؤثرات التي يتأثر بها، والأهداف التي يهدف إليها. ولكل نظرية من هاتين النظريتين أدباء وفنانون يتشيعون لها، ويخضعون في إنتاجهم لمناهجها المقررة، ومبادئها المحررة، وأهدافها المرسومة، إن صح أن يخضع الفنانون والأدباء للمناهج والمبادئ والأهداف!

فالذين يذهبون في إنتاجهم مذهب الفن للفن يتسم إنتاجهم بالذاتية، ويمتاز بالتجارب الخاصة. وهم لا يريدون بإنتاجهم شيئاً غير التنفيس عن مشاعرهم وأحاسيسهم بالتعبير عنها تعبيراً يكفل لأنفسهم الهدوء والراحة، بعد القلق والعناء، دون أن يقصدوا إلى إمتاع الناس أو نفعهم، وإن كان أدبهم في ذاته يحقق بعض ذلك أو كله للناس.

والذين يذهبون في إنتاجهم مذهب الفن لخدمة المجتمع يعرضون في هذا الإنتاج لما يفيض به المجتمع الذي يعيشون فيه من المشكلات الكثيرة المتنوعة، سواء أكانت هذه المشكلات مادية أم مذهبية أم نفسية. ولا يبغون من وراء ذلك إلا أن توجد الحلول المناسبة لهذه المشكلات فيتحقق بذلك نفع الناس وخدمة المجتمع ولا يعنينا هنا أن نوازن بين أدب هؤلاء وأدب أولئك، وإنما يعنينا أن نذكر هذين اللونين من ألوان الأدب والفن لنقول إن القراء يختلفون اختلافاً شديداً في الإقبال على هذا اللون دون ذاك؛ فبعض القراء يؤثر اللون الذاتي الذي يحقق له المتعة النفسية الكاملة، ويكلف به، ويقبل عليه، وبعضهم الآخر يؤثر اللون الاجتماعي الذي يجد فيه صدى قوياً لحاجاته المادية، ومطالبه الاجتماعية، ويعرض عن سواه مما لا يجد فيه شيئاً من ذلك.

نعم، ولكن هناك لوناً فريداً من ألوان الأدب استطاع أن يلائم بين هاتين النظريتين ملاءمة

ص: 41

قوية ناجحة، فاستطاع بذلك أن يجمع هاتين الطائفتين المختلفتين من القراء على الإقبال عليه، والإعجاب به، والتشييع له؛ لأنه جمع بين المتعة الفنية الكاملة التي يحققها التعبير الرائع، والتصوير البارع، والعرض الخلاب، والمنفعة الاجتماعية التي يجلبها تصوير المشكلات الاجتماعية المختلفة تصويراً دقيقاً، والدعوة القوية إلى حياة تقل فيها المشكلات إن لم تنعدم، وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية، والحرية الإنسانية، على نحو يرتفع بالحياة البشرية عن المستوى الذي نزلت إليه.

وهذا اللون نادر في أدبنا العربي المعاصر. ولا يوجد في هذا الأدب ما يمثل اللون الفريد النادر كما يمثله أدب طه حسين في كتبه الكثيرة المنوعة.

من هذه الكتب التي تمثل هذا اللون من ألوان الأدب، كتاب (جنة الحيوان) الذي أخرجه عميد الأدب العربي للناس منذ قريب. وهذا الكتاب إنما هو صور نفسية دقيقة لبعض الشخصيات المعاصرة التي عرفها الكاتب العظيم معرفة خبرة وتجربة ثم صورها بقلمه الساحر القدير هذا التصوير الدقيق الذي يخلع عنها ما تصطنعه من العظمة، وتتكلفه من المظاهر، فتبدو أمامنا عارية إلا من مباذلها ونقائصها.

ومن خلال هذا التصوير الدقيق لتلك الشخصيات المعاصرة تظهر لنا الأفكار الإنسانية السامية، والمبادئ الاجتماعية النبيلة التي يعتنقها الكاتب العظيم عن يقين وإيمان، ويدعو إليها في قوة وإخلاص. وقد أصبحت هذه الأفكار والمبادئ في غنى عن التعريف بما أذاع عنها الأستاذ العميد، ودعا إليها في الصحف والمجلات والمنتديات.

وموقف الكاتب من شخصياته التي يصورها في هذا الكتاب يختلف تبعاً لطبيعة هذه الشخصيات، ومكانها من نفسه.

فهو يسخر من بعضها سخرية مرة، ويتهكم به تهكماً لاذعاً، كما يبدو في حديثه عن (ثعلب) و (الطفل) وأمثالها من الصور النفسية والنماذج البشرية. وهو يداعب بعضها مداعبة محرجة، ويعاتبه عتاباً مؤثراً، كما يبدو ذلك في (حديث القلوب) وهو في كل ما تحدث به في هذا الكتاب، صاحب القلب الإنساني الكبير الذي يقول بعد أن يعرض لما تشقى به بعض الأسر من دفع نفقات التعليم، ولما يفعله بعض كبار وزارة المعارف الذين تعلموا على نفقة الدولة، ثم يريدون أن يحرموا غيرهم من أن يتعلموا على نفقة الدولة كما تعلموا:

ص: 42

(اللهم اشهد إني ما ذهبت قط إلى الجامعة أو إلى وزارة المعارف إلا كانت هذه القصة ملء قلبي، وإلا ذكرت أني كنت سعيداً حين تعلمت على حساب الدولة، فمن الحق أن أتيح بعض هذه السعادة لأكبر عدد ممكن من شباب مصر، ولو استطعت لأتحتها لهم جميعاً. ومن يدري فما لم نستطعه أمس قد نستطيعه غداً. ولابد أن يبلغ الكتاب أجله، ولابد لمصر من أن تظفر بحقها من العدل في يوم من الأيام).

هذه كلمات لا يقولها إلا من كان ممتلئ النفس بحب الإنسانية، قوي العزم على العمل لتحقيق العدالة الاجتماعية. بل هذا اعتراف لا يصدر إلا عن صاحب (الأيام) وأمثاله من ذوي العظمة النفسية، والضمائر الحية.

وأسلوب طه حسين في هذا الكتاب هو أسلوبه في كل ما كتب. . . أسلوب سهل المفردات، واضح التركيب، ينساب في حرية، ويسترسل في طلاقة. وميزة هذا الأسلوب كامنة في موجاته الموسيقية الطويلة التي هي من خصائص الموسيقى التصويرية، ولهذا استطاع طه حسين أن يصور بهذا الأسلوب ما يشاء من المشاعر والأفكار تصويراً دقيقاً رائعاً مؤثراً. ومن عجائب هذا الأسلوب أن القارئ حين يقرؤه يظن بنفسه القدرة على الإتيان بمثله، فإذا حاول ذلك انقطع وتحير، وأنه يحتفظ بكل خصائصه الفنية حتى حين يتناول مشكلات المادة، وشئون المعيشة، ومطالب الموظفين!.

ونستطيع أن نقول إن أسلوب طه حسين هو خير نموذج للشعر الحر الذي يخلص من قيود الوزن الموحد، والقافية المشتركة: ولهذا فقد استطاع صاحب هذا الأسلوب أن يجعل نثره شعراً. . . شعراً موزوناً مقفى سواء أراد ذلك أم لم يرده؛ فقد بدأ الفصل الذي عقده في كتابه وسماه (الفانيات) بهذه العبارات المنثورة التي ننسقها تنسيق الشعر، ونسميها (طيف)، ونوردها فيما يلي:

من أين أقبلت يا ابنتي؟

من حيث لا تبلغ الظنون!

ماذا تريدين يا ابنتي؟

أقول ما لا تصدرون!

كيف تقولين يا ابنتي؟

أقول ما لا تصدقون!

أسرفت في الرمز يا ابنتي

بل مالكم كيف تحكمون؟

وينظر الشيخ حوله

فلا يرى من يحاوره

ص: 43

وينكر الشيخ نفسه

ولا شكوك تساوره

فقد رأى شخصها الجميل

تظله هذه الغصون

ولم يزل صوتها الضئيل

يثير في نفسه الشجون

وكانت الشمس قد تولت

كالأمل الخائب الكذوب

وظلمة الليل قد أظلت

كاليأس إذ يغمر القلوب

أما بعد، فخلاصة ما يقال في هذا الكتاب أنه صور نفسية دقيقة لبعض الشخصيات المعاصرة، وأنه يجمع بين التصوير الفني الذي يحقق للنفس المتاع، والهدف الاجتماعي النبيل الذي يجلب للناس الخير. ولهذا فقد لازم بين النظريتين المختلفتين، وجمع بين الطائفتين المختصمتين!

وليس ذلك بعزيز على عبقرية طه حسين، ومقدرته الفنية الفائقة.

إبراهيم محمد نجا

ابن المعتز

وتراثه في النقد والأدب والبيان

سفر جديد ألفه الأستاذ محمد عبد المنعم خفاجي الأستاذ بكلية اللغة العربية، ونشرته مكتبة الحسين التجارية بأرل السكة الجديدة بمصر لصاحبها محمود توفيق، في أربعمائة صفحة من الحجم الكبير على ورق أبيض مصقول.

تناول مؤلفه فيه، هذا العالم الفذ، والشاعر العبقري، والكاتب البليغ، والناقد الأديب، والعالم المجلى في حلبة العلم والعلماء، والمؤلف الممتع فيما كتبه من مؤلفات وبحوث؛ في تفصيل واسع، وتحليل دقيق، لحياته وشخصيته وشعره وأدبه وأثره في النقد والبيان.

وهو أول كتاب في الأدب العربي، يؤلف وينشر في حياة ابن المعتز الخليفة العباسي م 296هـ وآثاره الفنية والأدبية والعلمية ويمتاز بدقة البحث وعمق الفهم والاستنتاج وكثرة المصادر وتنوعها وتعدد ألوان التجديد في الدراسة الأدبية.

وقد صدره مؤلفه بكلمة عن عهد الفاروق الزاهر، وفيض رعايته وتشجيعه وعطفه على النهضة الفكرية والعلمية والأدبية في وطننا الخالد وفي شتى بلاد الشرق العربي.

ص: 44

ولاشك أنه سفر نفيس، جدير بالاهتمام وبعناية القارئ وحرصه على اقتنائه.

وفيات الأعيان لابن خلسكان

يعد هذا الكتاب موسوعة تاريخية قيمة، ومرجع من أوثق المراجع في تراجم الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي منذ فجره إلى القرن السابع. ويعد مؤلفه من خيرة من كتبوا في التراجم من حيث تحري الدقة في البحث، والأمانة في النقل، وذكر المراجع التي يأخذ عنها، وعدم تحكيم عواطفه الخاصة في كتاباته. ولعل مرد هذه الخصائص يرجع إلى طول اشتغاله بالقضاء. غير أن هذا الكتاب قد أصابه من التحريف، ورداءة الطبع، وندوة بسخه ما جنى على قيمته، ونال من مكانته، كمرجع من أهم المراجع التاريخية للباحث. وقد توفر على مراجعة هذا الكتاب، وتحقيق نصوصه وضبطها، وشرحها ووضع فهارس له فضيلة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد وتسنى له إخراجه في سبعة أجزاء. والعمل الجدير بالتنويه والشكر هو دقة فهارسه وشمولها. ومن أهم ما تحتاج إليه أمثال هذه الموسوعات هو الفهارس الدقيقة الشاملة فهي بمثابة المعالم التي تحدد المواقع وترشده إلى الأهداف وتعيين السالك في فجاجها، تعصمه في مناهاتها من الضنى أو الضلال. وقد ركز أستاذنا - جهده فيما يستحق الجهد من عمل هذه الفهارس، فقد وضع فهرساً عاماً تناول فيه الأعلام بحسب اسم الشخص وأبيه وجده وما اشتهر به من كنية أو لقب. وفهرساً للقرون يذكر فيه شخصيات كل قرن، ثم فهرساً للطبقات العلمية يذكر فيه كل طبقة على حدة - طبقة الشعراء والمغنيين والقضاء والولاة والمتكلمين وغيرهم كل طبقة في إطار فهرسها الخاص، ثم فهرساً بالكلمات التي ضبطها المؤلف نفسه من نسبة أو اسم بلد أو علم غريب أو كلمة لغوية أو مثل. فمتى يتاح لذخائرنا أن تبعث ولتراثنا أن يحقق وينشر؟

محمد عبد الحليم أبو زيد

ص: 45

‌البَريدُ الأدَبي

الأدب المنتحر

الأدب العربي - اليوم - يقاسي محنة مريرة، ويعاني تجربة قاسية، أسأل الله أن يجتازها بسلام.

ذلك أن نفراً من المبتلين بداء التقليد يطلعون علينا كل يوم بصورة من صور الإفلاس الكبرى، والمجاعة العاطفية.

فتراهم يحاولون تقليد المذاهب الغربية الهاربة من نعيم الحياة الحاقدة على المجتمع، المنزوية في كهوف من الأوهام العاجزة المريضة.

وفي لبنان مجلة تقرأ في كل عدد من أعدادها نماذج من تلك المذاهب، وأنا أورد ثلاثة نماذج من تلك الصور البشعة للأدب البغيض.

أحدها من قصة عنوانها (مواطن جديد) قال كاتبها في أولها:

(آه. . تنبعث من زاوية الكوخ فيرفع الرجل رأسه، ويرنو إلى زوجته القابعة على بقايا حصير، ثم يتطلع إلى وجهها الشاحب الباهت ويتساءل (هكذا) - ما بك؟. - الجنين، أحس ألماً شديداً في أحشائي، يبدو أن ساعة الوضع قد دنت، إن الشقي يتأهب للنزول إلى الحياة، ليأخذ نصيبه من الألم والعذاب، نصيبه من الشقاء والبؤس. . . ويدير ببصره إلى باب الكوخ، ظلام. . الظلام يكتنف الكون. . . لا. . . الأكواخ. . . فقط. . . إن كلمات زوجته تهبط على رأسي كالمطارق فهلا كفت عن الشكوى؟

أمعك عود ثقاب؟!. . يلتفت الزوج. . إن النور الضعيف الذي كان ينبعث من ذبالة السراج قد مات. . . تلاشى. . فملأ السواد جانب الكوخ. . انطفأ. . ويمد الرجل يده إلى جيبه، لا شيء. . إنه مثقوب. . الجيب الآخر. . فتصطدم ببعض الأجسام الصغيرة يعرف بينها علبة الثقاب لكنه يتمهل فلا يخرج يده. . بل ظل يعبث بتلك القطع ويمر بأصابعه على أطرافها، هذه القطعة التي جوانبها ملساء. . فلس. . وهذه الصغيرة التي بأطرافها نتوء. . أربعة. . أما هذه الكبيرة قليلاً. . فعشرة. . خمسة عشر فلساً. إنه يتفحصها للمرة العاشرة دون أن تزداد قليلاً. يقولون إن النقود تأتي بالنقود والذهب يأتي بالذهب، أما النحاس؟ وينهض الرجل متثاقلاً فيتحسس بأقدامه الأرض. . . . . . ويحمل الرجل

ص: 46

السراج متذمراً ويهزه بيديه هزاً عنيفاً.

نضب. . الغاز نضب. . إن السراج خال من الغاز. تئن الزوجة. . ويطلق الزوج ضحكة قصيرة. . - حتى الغاز أيضاً. . هه

تضحك وأنا أتألم

أجل أضحك وأنت تتألمين. يجب أن نضحك ونحن نتألم، هكذا يريدوننا، أما الشكوى فكأي شيء آخر في الحياة محرمة علينا. . (يريدوننا أن نضحك ونحن نموت)

وهكذا تمضي القصة مفككة لا هدف لها، كاذبة على الحياة، متفلسفة في جو لا تعيش فيه الفلسفة، زائغة عن القصد. .

أما النموذج الثاني فشعر بديوان (نعش تائه) للطفي جعفر أمان يقول فيه:

ليل. . ومقبرة. . ومنبوذ بلا خفق طريح

هفت الرؤوس لنعشه. . وتنفست صمتاً وريح

في كأس جمجمة يريق شبابه يأساً جريح

فترف نازفة النطاف بحتفها ولهى تصيح

بُعث العدم. .

في جنة تلظى يلف ربيعها فجر أصم

أنبته حياً. . فأزهر واضطرم

وأرقته عطراً أغم

ناراً ودم

والقصيدة كلها غموض وتفسخ وألفاظ لا معنى لها ولا رواء، أما ثالث النماذج فبعنوان

(حزني) لمنير وبس يقول فيه:

بي حزن عميق، مظلم

يحتضر في ضباب ابتسامي فيضيع

تجف في عطش

في خلاء اكتفائي

يحتضر فيضيع

ص: 47

عذب، حنون، كأنفاس الحبيبة

كرطوبة الضباب يغمر الأزهار

به سكون، به دموع، به حنان، به حنين عذب

أعذب من آلام المخلص، فالآن قوة وظفر

أما حزني فنغم هائم في نسيان

شعاع يتلاشى في نور، ضعف يرتعش في حياة

حزني أنين، بليد، بليد، كالأحلام، كالرقاد

أنفاس قبور. . لقاء حبيب. . ودموع أم أنين

مدنية. . بليد. . بليد كالنعاس)

إلى آخر هذه السفسطة البليدة.

غائب طعمة فرحان

حول مقال الجارم الشاعر:

قد اطلعت في الرسالة الغراء بالعدد (872) بتاريخ 20 مارس سنة 1950 على مقال الأستاذ عبد الجواد سليمان بعنوان الجارم الشاعر وقد سرني هذا البحث القيم الذي يدل على وفاء الباحث لأستاذنا الجارم بيد أن الأستاذ ذكر البيت الآتي:

بيت له عنت الوجوه خواشعاً

كالبيت يمسح ركنه ويُزار

وقال: (وإن التورية التي تضمنتها كلمة (البيت) لمن التوريات الطريفة الخ. . .) وأنا أخالف الأستاذ فيما ذهب إليه، وأرى أنه ليس في البيت تورية ولكن فيه تشبيه مرسل، يشبه الشاعر البيت العلوي الكريم بالبيت الحرام الذي يمسح ركنه ويزار. والتورية هي أن يذكر لفظ له معنيان قريب وبعيد ويُراد البعيد اعتماداً على قرينة خفية ولذلك تسمى (الإيهام) أيضاً لأن الأديب أو الشاعر يقصد بالتورية أن يوهم السامع أنه يريد أمراً غير ما يقصده فيدفعه إلى التأمل والتفكير ليدله على براعته ولهذا اشترط أن تكون القرينة خفية ومن أمثلة التورية قول المعري:

إذا صدق الجد افترى العم للفتى

مكارم لا نخفي وإن كذب الخالُ

ص: 48

أراد بالجد الحظ وبالعم عامة الناس وجماعتهم وبالخال المخيلة. وقد أوهمنا المعري انه يريد الجد والعم والخال أقارب الإنسان مع أنه لا يريد ذلك.

إبراهيم عبد الفتاح

ص: 49

‌القَصَصُ

أقصوصة عراقية

بدور ابنة عمي

للقصاص العراقي شاكر خصباك

صحيح أن بدور لم تكن تعدو عن كونها ابنة عمي، ولكنني مع ذلك كنت أحبها بقدر محبتي لوالدتي وهي كل ما أملك في الحياة. كيف أنسى تلك اللهفة التي كانت تلهب نفسي إلى رؤيتها ورؤية أبوي حين كنت أقوم بمهام وظيفتي الحكومية في (البصرة)؟ وعندما عدت إلى بلدتي لقضاء إجازتي السنوية. . رباه، كيف يغيب عن خيالي ذلك الموقف؟! لكم أثار منظرها في نفسي من غبطة وحبور حين تهادت نحوي في خفر وألقت علي تحية اللقاء بلسان لعثمة الحياء ووجه أضرجه الخجل! ولأول وهلة كذبت عيني وأنا أتفرس فيها مأخوذاً، قبل عشرة شهور فقط خلفتها طفلة ساذجة، أما هذه فامرأة، امرأة فاتنة تتضوع سحراً وإغراء! أهي بدور حقاً هذه الشابة الرائعة ذات القامة الفارعة والجسد الممتلئ والنهدين المتوثبين؟! سبحانك اللهم. .!

لكم تمنيت في تلك اللحظة لو تطول الإجازة لأستمتع بالحياة الهنيئة في هذا الجو العائلي الجميل الذي يظلله بالحنان المضطرم أبواي العزيزان، وتنيره بالبهجة بدور العظيمة. أية أيام تلك التي هنئت بها في مطلع عودتي؟! لقد طفح قلبي بسعادة مشرقة. . سعادة فياضة لم أذق لطعمها مثيلاً في الإجازات السابقة، ووجدتني مسوقاً إلى الاهتمام ببدور أكثر من أي وقت مضى. ولست أدري ما الذي أوحى إلي أنني كنت مقصراً في محبتها أثناء الأعوام المنصرمة مع أنني محضتها أعظم الحب كما لو كانت شقيقتي الوحيدة، عندما انتقلت إلى منزلنا وهي في السابعة من عمرها عقب وفاة أبويها وكأن هذا الخاطر كان مدعاة لي لتلافي ذلك التقصير فاندفعت في رعايتها اندفاع المهووس في شكه، وشغفت بمرآها شغف الطفل بلعبه! وكنت أحس بينبوع من الهناءة يتدفق في قلبي حين أراها تخطر في الدار بوجهها الطاهر الصبوح وشعرها الأشقر الطويل وقوامها الأهيف الرائع.

لا أذكر كم من الأيام لبثت أنهل من ينبوع السعادة الفياض، عندما بدأ ذلك الينبوع يفيض

ص: 50

شيئاُ فشيئاً حتى جفت مياهه. ولعلها كانت أياماً طوالاً في حساب الزمن لكنني أحسست كما لو كانت يوماً واحداً. ولا أعلم أيضاً متى بدأ النبع يجف؛ أفي تلك الساعة التي لمحت فيها مهدي متكئاً على سور السطح المشرف على دارنا وعيناه مثبتتان على سطح منزلنا كأنه يترقب ظهور شخص معين؟ أم في تلك الأمسية التي وافيت فيها بدور إلى السطح فألفيتها متشاغلة عن العمل ترصد سور السطح المجاور في لهفة وقلق؟ أغلب الظن أنه بدأ يجف في تلك الأمسية، فلا زلت أتصور كيف حدقت إلى الناحية التي تتجه إليها أنظارها فارتسمت في خيالي في التو صورة الشاب المتكئ على السور وفي عينيه شوق حائر. وانبعث في أعماقي شعور داخلي يشي بوجود صلة تربط الاثنين.

وبين يوم وليلة تفتحت عيناي على حقائق مرة. . إن بدور لم تعد تلك الصبية الحيية الهادئة التي عهدتها بالأمس. . كل همها اليوم أن تبدو جميلة فاتنة! في الصيف الماضي لم تكن تعبأ بالوقوف أمام المرآة. . وفي هذا الصيف دأبت على مناجاتها دون كلل أو ملل. ماذا جرى بالله يا بدور؟! ماذا جرى؟!

لم يكن الأمر مغلفاً بغموض يعوزه التأويل. . إنه مهدي. . ذلك الشيطان! كانت تنذر أوقات فراغها للتبرج له. . له وحده. . وكانت تخلق الأعذار الواهية لتخف إلى السطح وتنشر زينتها أمام عينيه. وكم اختلست إليها النظر وهي تخطر على مرأى منه في رشاقة وخيلاء، وتطلق موجات الإغراء من مكمنها في الشعر الساحر. . تارة تتهدل بعض خصلاته على جبينها فتلقي برأسها إلى الوراء في دلال متكلفة إبعادها، وطوراً تتدلى ظفيرتها على الصدر الأشم فتقذف بهما إلى كتفيها في حركة فاتنة، وحيناً تتناثر الشعيرات المتوهجة كأشعة الشمس على وجهها تغمره القبلات فتمد إليها يدها وتداعبها في حنان. بدور. . بدور. .، لماذا اخترت مهدي من دون الناس جميعاً لتغرقيه بفيض فتنتك؟؟ إنه لم يكن أهلاً للاختيار فهو شاب سيئ النوايا لا يعرف للحب الصادق معنى. وكنت كالزهرة العبقة المتفتحة في مطلع الشمس فاشتهاك كما تشتهي الفراشة الزهرة الزاهية، وكما تنبذ الفراشة الزهرة بعد أن تمتص رحيقها بتمتع الشباب العابثون من طرازه بالفتاة ردحاً من الزمن لينبذوها بعد حين، وقد أشفقت عليك من هذا المصير التعس يا بدور، فلماذا تجاهلت غرضي، لماذا؟

ص: 51

كان غاية همي أن أصرفها عن سلوكها الشائن الذي لم أشك لحظة واحدة أنه سيوردها موارد الهلاك، فعقاب زلة القدم لا رجوع فيه، لكنها تسلحت بالصمم حيال نصائحي المتواصلة. بدور، إن التعرض لأنظار شاب غريب بهذه الهيئة الفاضحة مضر بسمعة العائلة، بوسعك أن تلبسي هذا المظهر أمامي فأنا ابن عمك ولا حرج عليك في ذلك، ولكن مهدي شخص غريب. . بل إنه شاب خبيث يا بدور، أفلا تفهمين؟! أرجوك. . أرجوك يا بدور. . تجنبي فضوله.

لكنها لم تتجنب فضوله، كانت على يقين أنني عاجز عن الوقوف في وجه نزواتها عجز الطير المقصوص الجناحين عن الطيران. فالواجب المنزلي يقتضيها الصعود إلى السطح كل عصر لتنظيفه وتهيئة أسرة النوم وبذلك تتهيأ لها رؤيته. وكانت تلك الحقيقة الكاوية تلذع مشاعري بنيران الغيظ، فأحس كلما غدوت على فراشي ليلاً بوخز يلسع ظهري كما لو كنت راقداً على حزمة من الشوك. وذات أمسية، بينما كنت مستلقياً على الفراش وذهني عاكف على مراجعة غرامها الطائش تراءى لي أن أسلوب اللين الذي أعالج به طيشها لن يجدي شيئاً، وقرَّ في عزمي أن أهجر ذلك الأسلوب. وفي صباح اليوم التالي أمرتها بلهجة حازمة أن تتلفع بالعبادة كلما ظهرت على السطح. ولم يخف على ما بدا على صفحة وجهها من تجهم واحتجاج وإن لازمت الصمت ولم تفه بكلمة اعتراض. ولكنني كنت كمن ينتظر أن يهجر البلبل التغريد ويمتنع الريحان عن نشر أريجه!

ومضت أيام. . .

وكان من عادتي أن أبرح الدار في مساء كل يوم لأتنزه في شوارع المدينة بصحبة صديقي زكي، ثم أعود أدراجي حين يهبط ستار الليل، وخرجت تلك الأمسية في ساعتي المحددة، وبدلاً من أن استصحب صديقي زكي تجولت في الشوارع منفرداً، ثم قفلت راجعاً - قبل ميعادي - وكانت رغبة قوية تدفعني نحو المنزل. . . وتلك لحظة لن تمحى صورتها من مخيلتي أبداً، حين ظهرت أمام بدور، وجمدت في مكانها كالتمثال وراحت ترسل إلي النظر في ذهول يشوبه الرعب كما لو كنت عفريتاً انشقت عنه الأرض تعالى فوقها بهامته! وكان كل شيء كما تجسم في أعماقي منذ البداية. . . كانت تخطر على السطح بدون عباءة وشعرها الأشقر منثور على كتفيها في إهمال يثير كوامن الإعجاب كأنها إحدى حوريات

ص: 52

البحر المنطوية في ضمير الأساطير.

واستولت علي مشاعر وحشية وانثالت علي سيول من الغيظ الجارف، فانقضضت عليها كما ينقض الوحش الكاسر على فريسة ضعيفة، وجررتها من شعرها إلى غرفة السطح وأقفلت بابها، ثم انهلت عليها ضرباً وركلاً وصفعاً. . . يا إلهي، لم غرست في قلبي هذه العواطف المتدفقة بالشفقة والحنان؟! أفلم تكن تستأهل ذلك العقاب فما الذي دعاني إلى الاحتراق في لهيب ألمها؟! كنت أحس بكل صفعة تهبط على خدها تقفز إلى خدي، وبكل ركلة أسددها إلى جسدها تتحول إلى جسدي وكانت صيحاتها الفزعة رصاصاً يمزق سمعي، ودمعها المتدفق شواظاً يحرق قلبي. ومع ذلك لم يكن بوسعي تلك اللحظة أن أكبح جماح الرغبة الجبارة التي استحوذت علي بالإمعان في إيلامها! كنت كاليائس من الحياة الذي يفضل الموت فيواصل طعن قلبه حتى يكف عن الوجيب.

ومنذ ذلك الوقت لاحت في عيني بدور صورة لمشاعرها الغائرة. . . صورة خطوطها المقت والعناد وإطارها الاستهانة والازدراء وتمادت في غيها كأنها تتعمد معاكستي. وضاعفت عنايتها بزينتها في الساعة التي تتأهب فيها للظهور على السطح استعداداً للقاء الحبيب. وكنت حين أرقبها وهي تقف أمام المرآة وتمشط شعرها في عناية وتمهل ثم تضفره أو تعقصه أو تدعه منثوراً على كتفيها أستشعر موجات من الرغائب المتناقضة تتدافع في صدري. ففي الوقت الذي تتملكني فيه رغبة في قص ذلك الشعر عن آخره، تساورني رغبة أخرى في العناية به بنفسي وتزيينه بيدي. . .!

كنت أبغي لها الخير على أية حال، فلم واجهته بالشر؟! ولماذا كانت تجد لذة في إثارة الألم في نفسي؟! كانت تعلم حق العلم بما تجر علي تلك الساعة من عذاب حين يقترب أوان العصر ويناديها السطح لإعداده. ومع ذلك كانت تحاول أن تذكرني بها جهد استطاعتها لتغذي شعلة عذابي، فإذا ما حان الوقت خفت خطواتها على بلاط الدار حتى لتكاد تتحول إلى رقص، وحلق فوقها نغم غنائي صامت ينبعث من شفتيها في عذوبة ومرح، وتلألأ شعرها وازداد بريقه، واشتدت حركتها ونشاطها، فتروح وتجيء وتدخل وتخرج، وتتعمد المرور على مقربة مني دون أن تنظر إلي أو أن تلقي علي نظرة عابرة كما لو كنت قطعة تافهة من أثاث الدار لا تستوقف النظر، وكانت تلك الخطوات الخفيفة والنغم المرح

ص: 53

والحركة الدائبة والشعر المتوهج تتجمع في مخيلتي وتتجسم حتى لتبدو شخصاً متكاملاً له ملامح مهدي الشريرة وابتسامته الخبيثة التي توحي بالمكر وتبيت الغدر. أيها الناس: من باستطاعته أن يتلقى سلوك بدور في رزانة وهدوء؟! ومن بقدرته أن يشهدها تغازل فتى غريباً أمامه وهو ابن عمها؟! وصحيح أنها لم تبادل مهدي كلمة واحدة، وصحيح أن محاولات مهدي الغرامية لم تتجاوز النظرات المشوقة، كل هذا صحيح، ولكن من في إمكانه أن يضمن تفاديهما الخطيئة إلى النهاية؟! من في إمكانه، من؟!

وبدت لي الحياة مظلمة قاتمة، وانقلبت الأوضاع في عيني، وشرعت أنظر إلى الأمور بعين المستقبل كما لو كانت الكارثة قد وقعت بالفعل. ولم لا تقع؟ إن أية قوة في الأرض لم تكن قادرة على ضبط عواطف بدور وتقويم سلوكها، بينما لبث مهدي قائماً على عهده؛ يترصد ظهورها على السطح ليلتهم شعرها الأشقر وصدرها الناهد ووجهها الفاتن بنظراته الأثيمة. كم مقت ذلك الفتى الخبيث بل الشيطان الرجيم الذي أرسلته أبالسة الجحيم ليعكر هنائي في تلك الإجازة التي بشرتني بادئ الأمر بسعادة طافحة. وأصبحت سجيناً في الدار رهن مخاوفي، ولم أعد أطمئن لوجودي بعيداً عن بدور. فضلت سجن الدار على سجن الشكوك والتهاويل. . وأي سجن؟! كنت أتنزه على السطح في عجاجه الغبار الذي تثيره بدور أثناء الكنس في الوقت الذي يهرع فيه الناس إلى الشوارع الجميلة. وكم كان يشق علي أن أراقبها في تلك اللحظات عندما أرى عباءتها تنزلق عن رأسها بين حين وآخر فتكشف عن شعرها المتوهج بلون الذهب الصافي وتفسح له سبيل الإغراء!

آه منك يا بدور. . كم كنت عنيدة قاسية! لقد أعجزتني. أقسم لك أنك أعجزتني فلم أعد آمل إلا بكف ذلك الوقح عن غزله الصفيق. وفكرت أن أذهب إليه وأستعطفه عله ينصرف عنك. تصوري! أوشكت أن أكون كمن يتوسل إلى اللص ليعيد إليه ماله!

ولكنني وجدت نفسي، حين رأيته صباح اليوم التالي على رأس الزقاق، أجذبه من (ياقة) سترته بعنف وأبادره بلكمة ألقته على الأرض صريعاً وأنا أصرخ مهدداً إياه بالقتل إن لم يكف عن البحلقة في سطحنا. . .

ما أعظم السعادة التي تغمر المرء حينما تستجاب له رغبة قد يئس من تحقيقها، وما أعظم الفرحة التي اجتاحت كياني حينما أقبلت الأمسية التالية فلم يلح لمهدي ظل على السور،

ص: 54

وأمسيت واثقاً أن أثر وعيدي قد سرى في نفسه. ألم تر السجين وهو ينطلق من باب السجن لأول مرة بعد أعوام طويلة طواها بيت القيود والأغلال؟! هكذا كنت حين ارتديت بدلتي على عجل وهرعت إلى دار صديقي زكي لأحتفل بالمناسبة السعيدة بشرب كأس من الخمر بعيداً عن أعين الرقباء. وكم دهش زكي من تلك البهجة التي أشربت جوانبي بالخفة والمرح وأثارت وجهي بالبشاشة والارتياح وهو الذي عهدني كئيباً مغتماً كسجين ينتظر ساعة إعدامه على حد تعبيره ولازلت أذكر كيف كان يرمقني باستغراب وأنا أرفع الكأس إلى ثغري في ضجة وصخب وألقى الفكاهات المحطمة في حماس ثم اندفع مقهقهاً ولازلت أذكر أيضاً أنه سألني في دعابة - وأنا في غمرة نشوتي - إن كنت قد ربحت الجائزة الأولى ليانصيب (جمعية المواساة الخيرية) فانطلقت أحشو إذنيه بمحاضرة طويلة مضمونها أن قيمة المال تافهة بالنسبة للحياة الحقَّة، وأن العواطف المتقدة الجميلة التي تهبها لنا هي الكل في الكل ولا أخاله فهم شيئاً من محاضرتي لأنني كنت كمن يحدث نفسه حديثاً خاصاً.

وتوالت الأيام دون أن يظهر مهدي على السور وتلقت بدور اختفاءه في الأمسية الأولى بهدوء وعدم اهتمام. وفي الأمسية الثانية تسللت إلى صدرها هبة من رياح القلق عبر الفجوة الصغيرة التي تفتقت في أحاسيسها. وأخذت الفجوة تتسع وتتسع على تعاقب الأيام والرياح تتكاثر وتتكاثف حتى ملأت صدرها. وعندئذ انقلبت إلى مخلوقة جديدة لا تمت إلى بدور بصلة سوى الشبه في الملامح والتكوين. أما بدور القديمة. . . بدور بروحها المرحة ووجهها الطلق وعينيها المتألقتين وشعرها المترفع فقد باتت حلماً عابراً في نومة هانئة.

يا لتلك الحياة الجديدة التي ولدت لها. . حياة أشبه بتلك التي تمنح لوليد كتب له العيش في الظلام. كانت تتحرك وتروح وتجيء ولكنها تمثال. . . تمثال نحت رمزاً للكآبة واللوعة والحزن وأصبح منظر شعرها كئيباً قاتماً كأنه يشاركها في مصابها، ولم يعد يذوق للمشط طعماً بل بات يترامى على كتفيها في إهمال ويتجمع على بعضه ويلتف في مذلة وخذلان ولم أكن أتصور أن تخلف غيبة مهدي في نفسها ذلك الأثر، فقد كنت أحسب أن ألمها سيكون كسحابة صيف تحجب الشمس لساعات ثم لا تلبث أن تتبدد سريعاً. ولكن الأمر تبدى لي أعمق مما تخيلته بكثير، وما كان هذا الوضوح إلا ليضرم ألمي ويأسي وموجدتي. ووجدتني في موقف أحسد فيه نفسي على حياتي الماضية. وكان من الواضح أن بدور

ص: 55

تتهمني بإقصاء مهدي. . كانت كل حركة تبدو منها تعلن ذلك الاتهام في صراحة صارخة وكنت أقرأ ذلك الاتهام في عينيها واضحاً سافراً في الأيام الأولى حين كانت تهرع إلى السطح ساعة العصر في لهفة لا تعد لها لهفة الأم وهي تخف لاستقبال ولدها الغائب، وتقف حيال سور المنزل المجاور ترنو إليه بعيون حائرة ساهمة والأسى ينضح من ملامحها. ثم تحول إلي أنظارها لأطالع فيها اتهامها المغلف بالغيظ والمقت والازدراء، كما لو كنت أقرأه في كتاب.

لكنها لم تلبث طويلاً حتى حرمتني من آخر أثر كان يشعرني بصلتي بها فكفت عن مطالعتي بنظراتها الساخطة. ماذا دهاك يا بدور، ماذا دهاك؟! أفيستأهل ذلك الصبي الأخرق الذي لم يكن ليتجاوز مراتب الطفولة كل هذا الحب والهيام؟! أفمن العدل أن يؤدي بك خبثه إلى كراهيتي وأنا الذي رعاك بحبه وحنانه منذ أن وطئت قدماك أرض الدار؟!

وعدت أتمنى أن تحدجني بدور بنظراتها الفياضة بالبغض والازدراء. . . أجل، فقد أصبحت تواقاً إلى أن أحس لنفسي وجوداً في دنياها بأي شكل كان! ولكن ذلك الصمت، وذلك الجمود، وذلك التجاهل. يا إلهي، ليس في طوقي أن أحتمل هذا كله.

وراحت تتحاشى مواضع وجودي في إصرار عجيب، ومضت تتجنب النظر إلي في عناد غريب! ولبثت حائراً معذباً في زحمة العواطف التي تتصارع في نفسي تجاه سلوكها الفظيع. تارة أحس بالغيظ والحقد حين يخطر في ذهني أن صبياً خبيثاً كمهدي استطاع أن يثير في نفسها تلك الزوبعة المروعة. وطوراً استشعر حزناً عميقاً حين أتمثلها تدب في ساحة الدار في تخاذل والصمت والكآبة والذهول تدثرها بغطاء كثيف. وحيناً تسعر بين جوانبي نيران ثورة مكتومة على تلك القوة المجهولة التي تسير أحداث الحياة وتجد اللذة في معاكسة الإنسان وكانت تلك الثورة تخفف عن كاهلي عبء ما أحسه من كراهية واحتقار لنفسي بسبب قسوتي على بدور، إذ تدعوني إلى تبرير سلوكي وسلوك بدور ومهدي وإلقاء التبعة كلها على القوة المجهولة. . . إنني لست ملوماً على تصرفي هذا فأنا مرغم على اتباعه. . . يجب أن أدافع عن شرف الأسرة تجاه أي محاولة لثلمه، وبدور ليست ملومة على سلوكها فهي تحب مهدي. . . ما ذنبها إذا كان قلبها قد هفا إلى ذلك الشاب؟! ومهدي ليس ملوماً على غرامه ببدور. . . لقد عثر على فتاة كاملة الجمال تبادله

ص: 56

الإعجاب فاتجهت إليها عواطفه. إن أي أحداً منا - في الثلاثين - لا يؤاخذ على سلوكه الخاطئ. . . إن الملوم وحده تلك القوة المجهولة التي رتبت مجريات الحياة في صور متنافرة الألوان. أفلم يكن بوسعها أن تحمل بدور على الوقوع في غرامي بدلاً من التعلق بشاب غريب؟! لو حدث هذا لما اضطر أي أحد منا إلى سلوكه الخاطئ، فأنا ابن عمها ولا ضير عليها إن حاولت أن تستولي على عواطفي بأية طريقة كانت، أما أن تحاول اجتذاب شاب غريب ونحن في مجتمع يتزعم القيم الاجتماعية فيه والشرف الجنسي، فهذا هو الخطأ عينه، ولكن هكذا تريد تلك القوة الساخرة.

وظلت الشمس تشرق في الصباح وتغيب في المساء وحياتنا مدثرة بجمودها الكئيب، إلى أن حلت تلك الساعة، وكانت الشمس قد تأهبت للمغيب وبساط السماء الأزرق قد صبغ بحمرة قانية، أشبه بساحة معركة خضبت بدماء المتقاتلين، وكنت أذرع السطح بخطوات متمهلة وبين يدي كتاب أحاول القراءة فيه، في حين انكبت بدور على عملها وهي تتحرك في صمت وجمود كأنها آلهة صماء. وفجأة، وبدون أن أصدق عيني، رأيت مهدي يظهر في موضعه على السور! وتسمرت قدماي في موضعهما وانطلقت أحدق فيه مذهولاً كأنني أشهد حدوث كارثة مروعة لا تدخل في نطاق التصور، ومضى هو يرمقني بنظرات تفيض بالتحدي والازدراء وعلى ثغره ابتسامة احتقار! وجف حلقي حتى تعذر علي أن أبتلع ريقي، وشحب وجهي حتى أخاله بات بلون التراب. وهبت بين جوانحي عاصفة تزأر بالحقد والخيبة والقنوط، وطفت علي رغبة جارفة بتحطيم شيء ما أياً كان!

ثم حولت أنظاري إلى بدور فإذا هي مسمرة في مكانها وهي تحدق في السور منتشية سكرى كأنها في وادي الأحلام لا في عالم الحقيقة، وكان وجهها قد شع بنور ألاق فبدا رائقاً صافياً كسماء الشتاء المدلهمة حين تنقشع عنها الغيوم. ومكثت جامداً في موضعي وأنا أنقل النظر بينها وبين مهدي بفكر تائه وعواطف صاخبة.

ثم بدأت المناظر تختلط أمام عيني ولم أعد أميز ما يجري حولي بوضوح. رأيت بدور تتحرك من موقفها وتنتقل في ساحة السطح بحركة رشيقة كالرقص وعيناها موصولتان بعيني مهدي. ثم اتجهت فجأة نحو السياج المنخفض المشرف على الدار وانحنت عليه، وجن جنوني في تلك اللحظة حين تراءى لي مهدي يتلقفها بين ذراعيه ويغمر وجهها

ص: 57

وشعرها بقبلات نهمة، واندفعت نحوها حانقاً لأنتزعها من بين ذراعيه، ولكنني توقفت بازائها مشدوهاً حين رأيت جسدها يترنح على السياج في عنف، ودوت صرخاتها في أذني فزعة هائلة، ومددت يدي لأجذبها نحوي ولكنها هوت إلى الأسفل.

وحين أفقت من ذهولي وجدتني منحنياً على السياج وأنا أحملق كالمخبول في جثة بدور المحطمة على بلاط الدار، ولم أفهم ماذا حدث بالضبط هل اختل توازنها وهي منحنية على السياج المنخفض فانقلبت على رأسها، أم أنني، أم أنني دفعتها بيدي؟؟ لست أدري - لست أدري!

شاكر خصباك

ص: 58