الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 874
- بتاريخ: 03 - 04 - 1950
صور من الحياة:
قلوب من حجر!
للأستاذ كامل محمود حبيب
قال لي صاحبي: خرجت من الدار - منذ أيام - وقد شغلتني حاجات الدار والولد، واكتنفتني شواغل الوظيفة، فأنا بينها مضطرب العقل موزع الذهن، لا أستقر على حال ولا أقيم على رأي؛ فانطلقت مفزعاً علي أجد متنفساً في الشارع ملهاة لخاطري ومسرحاً لفكري. ورحت أضرب في أنحاء المدينة لا أبتغي هدفاً ولا أصبو إلى غاية، أقلب النظر في حياة المدينة وفي قفزات الحضارة وفي مشاغل الناس. . . فما راعني إلا أن أرى كلباً ملقى على الطوار يئن أنيناً خافتاً فيه الألم والاستسلام، ويرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والخوف، فنظرت فإذا ساقه مكسورة وإذا الدم ينزف متدفقاً في شدة وعنف، وإذا الناس يمرون بازائه في غير عناية ثم يندفعون كل إلى هدفه، وما فيهم من يعبأ بالجريح الطريح على الطوار. ونبض قلبي بالرحمة واختلج فؤادي بالحنان فاندفعت إليه. . . ولكن ولشد ما آلمني أن أراه ينبح نباحاً عالياً متواصلاً، وأن أجده يجر نفسه بعيداً، وفي نظراته الخوف وعلى سماته الفزع! فقلت لنفسي (يا ويح قلبي! لأمر ما فزع مني هذا الكلب الجريح!) ورحت أروضه في هدوء، وأذلله في عطف، حتى اطمأن إلي وسكن رعبه فاستكان واستسلم، وأنا في حيرة من أمره أجيل فيه البصر والفكر معاً؛ وتراءى لي أنه يحدثني حديث صديق حبيب، وسمعت من وراء أناته كلمات ترن في مسمعي كأنها تقول (آه يا صاحبي) كم في هذا الناس من يغرك بمظهره ويخدعك بروائه، تراه يزهو في ثيابه ويتألق في بهائه، تخشع النفس من هيبته، ويعنو القلب لأبهته، ويستأسر الفؤاد لصعره، على حين أن في إهابه روح خنزير وفي رأسه عقل حمار! أما قصتي - يا سيدي - فهي أنني غيرت ساعة من الزمان وأنا طريد صبي من أولاد الشارع يقذفني بالحجارة في غير ذنب جنيته، ويضربني بالعصا في غير جرم اقترفته؛ لا يزيده فراري إلا تشبثاً بي، ولا يدفعه نباحي عن أن يستأسد علي، ولا يصرفه تحرشي به عن أن يوسعني أذى وتعذيباً. ونظرت إلى وراء لأرى عذري فرأيت إنساناً تخلى عن إنسانيته فبدت فيه حيوانية جياشة تبطش بالعقل والحيلة. ولا عجب - يا سيدي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع
فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية! وراعتني شراسة الصبي فانطلقت أشتد في غير وعي ألتمس الخلاص والمهرب فقذفت بنفسي في عرض هذا الشارع أريد أن أخترقه، وهو - كما يرى - مكتظ مزدحم بالعربات والسيارات والترام جميعاً، فصدمتني سيارة كسرت ساقي ثم مرقت مثلما يمرق سهم عن قوسه. . . مرقت وخلفتني هنا أنادي غير مستمع. واستطعت - في لمحة واحدة - أن أرى السيارة التي أبطرها الغنى فرأيتها تفهق بالكبرياء وتشرق بالغطرسة وتزهو بالنعمة، ورأيت فيها رجلاً واحداً يقودها. . . رجلاً تعرى عنه الإنسانية لينحط إلى أوضع مراتب الحيوانية. . .
ورنت الكلمات الحزينة في مسمعي تصاعد من وراء أنات الكلب الجريح، تخترق شغاف قلبي وتسيطر على نوازع نفسي، فتشغلني عن حاجات الدار والولد والوظيفة، وتجذب خيالي إلى الوراء. . . يوم أن كنت صبياً أعاني قسوة أبي وأقاسي غلظة زوجته التي ليست أمي، يوم أن لبثت نيفاً وعشرين يوماً موثقاً إلى فراشي لا أبرحه إلا لماماً، أجد برحاء المرض ولوعة الوحدة، أفتقد القلب الرحيم الذي يعطف، واليد الرفيقة التي تواسي، لا أستطيع أن أبوح بالشكوى التي ترفه عن النفس، ولا أطمع في أن أرى الطبيب الذي يطب للمرض. . . ثم هدأت سورة المرض ساعة فتسللت إلى المستشفى وفي رأيي أني طرت إلى الدار التي أجد فيها شفاء دائي وشفاء نفسي.
ووضع الطبيب يده ثم رفعها وهو يقول (عملية!) فانطويت على نفسي أحدثها حديثاً فيه الطمأنينة والرضا فقلت: (الآن أفوز بإحدى الحسنيين: إما الموت، فأشفى من داء الحياة. . . الحياة التي تصفعني منذ زمان - بالعنت وتعصرني بالشدة، وإما البرء من سقام أمضني طويلاً فأعيش فتى فيه القوة والفتوة، لا يعجزني أن أكسب قوت يومي) واستسلمت.
وفي المستشفى رأيت عجباً من العجب، رأيت أجساماً مريضة ينهكها السقام، ونفوساً سقيمة يقتلها اليأس، وقلوباً قاسية يصرعها الشره. وتنشقت روائح متناقضة تصاعد في أرجاء الحجرة فتملأ أنفي فتتقزز لها نفسي. وسمعت أصواتاً مدوية يجأر بعضها بالشكوى ويرتفع بعضها بالصياح. . . أصواتاً تصك السمع وينخلع لها القلب. ووهت عزيمتي فراودتني نفسي أن أفر من هذا المكان الموحش تحت سترين من الليل ومن الهدوء، غير أن الألم حال بيني وبين أن أفعل فاستسلمت.
هذا هو المستشفى، الدار التي كانت تتراءى في خيالي مهبط الرحمة ومسكن الشفقة لأنها أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . هذه الدار نفضت عن نفسها الآن عبار الحيال المموه فبدت أمام ناظري سجناً يضيع المرض في ظلماته، ويتيه السقيم في مضلاته، وتتلاشى الصيحات المدوية في فجاجه، ثم لا يحس واحد فيه الحنان ولا العطف!
أسدل الليل سجوفه وأنا أتقلب على فراش خشن قذر، وعيناي لا تجدان من الكرى، وإن روحي لتفزع مما يتراءى لها من أخيلة شيطانية مخيفة، وإن قلبي ليضطرب من أنات تحوم حواليه في هدأة الليل خافتة حيناً وصارخة حيناً، وإن نفسي لترتاع من أثر الرهبة والفرق، فشملني خوف أورثني الأرق الممض، ومضى يومان. . .
وفي حجرة العمليات أحسست بالمخدر يسري في عروقي فيستلبني الحركة والحس، وشعرت ببرد الراحة والخمود يتدفق في مفاصلي، ثم اغتمرت في سبات عميق.
وحين انجابث عني وطأة المخدر استشعرت ألماً عاتياً يعركني عركاً شديداً. . . ألماً طاش له صوابي وبدا فيه ضعفي، فندت عني صيحة ارتجت لها أركان المكان، فخف نحوي الممرض يأمرني في كبرياء وقسوة أن أخفف من غلوائي وأن أهدئ من ثورتي، وأرغمني على ما لا تهواه نفسي ولا يرضاه ضعفي، ثم قدم إلي قطعة من قماش قذر وأرادني على أن أحشو فمي لتمنع الصوت عن أن يرتفع، وتكتم الصيحة فلا تدوي، فألقيت السلم خشية أن ينالني عنته وهو فظيع، أو يصيبني بطشه وهو قاس.
ولأول مرة في حياتي علمت أن الممرض في المستشفى الحكومي رجل جبار النزعة غليظ الكبد جافي القلب، مرن على الجفوة ودرب على القسوة. وهو - إلى ذلك - صاحب السلطان المطلق في المستشفى، وصاحب الرأي الأعلى في العنبر، وصاحب السيطرة العارمة على المريض، والمرضى يأخذون ما يعطي الممرض في غير نقاش، ويذرون ما يكره في غير تمنع، ويأتمرون بما يأمر في غير تردد، ثم هو لا يفعل شيئاً إلا أن يستلب المريض من طعامه، ويسرق السقيم من دوائه، وينزع عن المستشفى ثوبه السماوي الذي تسربله منذ أن أقيم. وهو في الحكومة خادم مطيع، وفي رأي نفسه السيد الذي لا يخضع إلا للدرهم ولا يتعبد إلا للدينار، يرتدغ - دائماً - في حماقته لأنه أمن الرقيب.
وأنشب الألم أظفاره الجافية في جسمي فما تمالكت نفسي عن أن أقضم قطعة القماش القذرة بأسنان فتية حادة، فأحسست برائحة النتن تصاعد من ثناياها، فألقيت بذات بطني على صدري وإلى جانبي الممرض ينظر ثم لا يمد يداً. ونظرت إليه نظرات فيها التوسل والرجاء فقال لي في كبر:(هات كذا قرشاً وأنا أزيح عنك الخبث) فأشرت إليه من خلال آلامي أنني لا أملك شيئاً، فانصرف عني وخلفني أعاني ضنى الألم ومضض القذارة. ومضت أيام.
واستصرخته - ذات مرة - ليعينني على بعض شأني فما ألقى إلي السمع، فنزلت من على السرير أتحامل على نفسي، فما برحت أن دارت بي الأرض فاقد الوعي لا أجد الرحمة في قلب ولا أحس الشفقة في فؤاد.
وغبرت أياماً في الدار التي أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . غبرت أياماً أعاني الوحشة وأقاسي الضياع، لم تهف نفس أبي نحوي ولا رفت علي أبوته.
آه لطالما قضيت الليل سابحاً في أمواج من العبرات. . . عبرات الشباب العابس الحزين حين ينطوي عنه أحب الناس إلى نفسه وأقربهم إلى قلبه.
وجاء عمي - بعد أيام - يزورني فتكلم لسانه كلاماً طويلاً ولكن يده لم تبض بدرهم واحد أشبع به نهم الممرض أو أستجدي عطفه، فودعته - حين ودعني - بعبرات قلبي.
وجاء الطبيب يزورني، فهمس الممرض في أذنه بكلمات دفعته إلى أن يكتب على بطاقتي (يخرج اليوم!).
آه! ما للقلوب الإنسانية قد تحجرت فصفرت من الإنسانية وخلت من الرجولة! أأخرج من المستشفى إلى الشارع ولما أتماثل للشفاء؟ وطردت - بعد ساعة من المستشفى. . . من الدار التي أنشئت على عمد من الإنسانية السامية لتمسح على أوجاع الفقير والعاني بيد رقيقة طيبة. . . خرجت لألقي بنفسي على طوار الشارع أرمق الناس بنظرات راجفة فيها الضيق والألم.
لا عجب - يا قلبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
كامل محمود حبيب
نظرات في الأدب والفن
بحث مقدم إلى مؤتمر اليونسكو
للأستاذ إبراهيم جمال الدين الرمادي
قبل أن نلقي هذه النظرات الجديدة على الأدب والفن نحب أن نتساءل ما هو الأدب وما هو الفن. أما الحديث عن الأدب من الناحية اللغوية فأكبر الظن أنه حديث معاد قد قتل بحثاً وتمحيصاً كما يقولون، ولكن هذا لا يمنع أن نلم بهذا الحديث إلماماً. فقد قيل إن كلمة أدب أصلها دأب والدأب هو العادة وقد جمعت على آداب على حد قولهم آبار في جمع بئر كما يقول نلينو. وقيل إن كلمة أدب من المأدبة وقيل غير ذلك أما الحديث عن الأدب من الناحية التعريفية فهناك تعريف يكاد يجمع عليه جمهور الأدباء وهو أن الأدب أن تجمع من كل شيء بطرف، فلا يصح للمرء أن يكون أديباً إلا إذا كان ذا معرفة بالمعارف العامة سواء كانت في اللغة وفروعها من نحو وصرف وبلاغة، أو كانت في الدين من قرآن وتفسير وحديث، أو في الفلسفة والسياسة والأخلاق؛ بل لقد تجاوز التعريف في عصر من العصور كل هذه الحدود فشمل المعرفة بألعاب النرد والشطرنج وما إليها. ولست أكتب هذا البحث لأتحدث عن الأدب بهذا المعنى إنما أكتبه لأتحدث عن الأدب من الناحية المعروفة في جميع اللغات وهو أنه الشعر والنثر.
والحديث عن الفن من الناحية اللغوية أكبر الظن أنه حديث معاد أيضاً، ولكن لا بأس من أن نلم به إلماماً ونعرض له عرضاً. فالفن في اللغة النوع، والأفانين الأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه. والرجل المتفنن هو الرجل ذو الفنون، وأفتن الرجل في حديثه أو في خطبته بمعنى جاء بالأفانين. والفن في اللغات الأوربية هو المقدرة والبراعة في أداء عمل من الأعمال كالنحت أو الرسم؛ أو هو الملكة التي ترتفع عن الملكات الإنسانية المعتادة في أداء لون من الألوان.
والحديث عن الفن من الناحية التعريفية حديث طويل مستفيض لكن قبل أن نخوض في هذا الحديث نحب أن نفرق بين لونين من ألوان الفن: الأول هو الفن المجرد والثاني هو الفن الجميل. أما الفن المجرد فهو الناحية التطبيقية والمرانية للعلم؛ فالصباغة مثلاً فن لعلم الكيمياء لأنها تطبيق ومران على المواد الكيميائية. والبناء مثلاً فن لعلم الهندسة لأنه تطبيق
ومران على الرسوم الهندسية وهلم جرا. ولهذا أطلقت كلمة فن على كثير من الحرف والصنائع كالتجارة والحدادة والتدريس والخطابة. ولكن الفن الجميل هو الترجمة عن الشعور بالجمال أو بالقبيح. وتنقسم الفنون الجميلة إلى الحفر والنحت والتصوير وهي فنون تمتع النظر فهي فنون بصرية، وإلى الموسيقى والشعر وهي فنون تمتع السمع فهي فنون سمعية. وقد جاء في لاروس أن الفن معروف عند العامة من الناس بجمع أو تركيب أشياء محسوسة بوساطة اللمس أو السمع لغرض الانتفاع منها مادياً أو أدبياً؛ فالصائغ مثلاً يجمع حبات الدر النضيد وقطع الذهب البراق كيما يصوغ منها قلائد وأقراطاً ابتغاء الزينة. وقل مثل هذا عن النجار الذي يصنع من قطع الخشب مناضد ومقاعد جميلة ابتغاء الجلوس وابتغاء الزينة بعد ذلك. أما في الموسيقى والشعر والحفر فالأمر يختلف فيها عنه في الصياغة والبناء؛ فالفنان لا يؤدي عمله ليترجم عن عاطفة جاشت في صدره أو لإحساس خلج قلبه، وهذا العمل قد لا يجدي نفعاً للإنسانية مثلما يجدي مقعد النجار أو بيت المهندس. ونعني بالفائدة الفائدة المادية لا الفائدة المعنوية، لأن الشعر والموسيقى فوائد معنوية كبرى لا يمكن أن يتطرق إليها النكران أو يرقى إليها الشك. . .
وأحب هنا أن أسجل ملاحظة لابد منها عن هؤلاء الشعراء أو أولئك الموسيقيين الذين يتكسبون بفنهم والذين يتخذون الفن وسيلة لعيشهم وذريعة إلى قضاء مآربهم؛ فهؤلاء الشعراء الذين يقفون على أعقاب الملوك والخلفاء والأمراء يكيلون لهم المديح كيلا براء من الفن، لأنهم لا يفكرون فيه بقدر ما يفكرون في العطايا والهدايا! حدثني بربك أي فن يتمثل في هذا البيت:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار=فأحكم فأنت الواحد القهار!
حدثني بربك أي فن يتمثل في هذا البيت وفي أمثاله ثم قل لي ألا يهدم هؤلاء الشعراء صرح الفن هدماً ويحطمونه تحطيماً. . .
هل فعلوا كما فعل لودفيج بيتهوفن عندما دعا إلى تأليف لحن موسيقي يصور انتصارات نابليون وعظمته وقوته وجبروته لقاء قدر عظيم من المال فألف هذا اللحن ثم لم يلبث أن لاح أمامه شبح الفن فمزق اللحن تمزيقاً.
العمل الفني إذاً تعبير عن شعور الفنان؛ ولكن ينبغي أن نقرر هذه الحقيقة وهي أن الذوق
يلعب في الفن دوره، ولكنه مع هذا يلتقي عند جل الفنانين التقاء جمال وروعة وبهاء. وقد عرف بودلير الذوق أنه تطلع إنساني نحو جمال أسمى. وينبغي أن نقرر هنا حقيقة أخرى وهي أن الفن ليس تقليداً للطبيعة كما كان يظن أرسطو إنما هو إبراز ما هو جميل في الطبيعة وحذف كل ما هو مشوه، فقد يرى الرسام شجرة من الأشجار ويريد أن يرسمها فلا يرسمها بهيئتها التامة وشكلها الكامل إنما يرى من الفن أن يقلم بعض أفنانها ويقطع بعض أوراقها حتى تخرج أكثر ملاءمة للفن الجميل.
فالفن إذاً كدوحة سامقة قد رسخت أسافلها في الطبيعة وامتدت فروعها في الخيال. ولما كان الشعر قسيماً للنثر والشعر، والنثر مكونان للأدب والأدب فن من الفنون فإني أوثر أن نتحدث بعض الشيء عن تعريف الفن عند الفلاسفة والعلماء. قال أفلاطون الفن عبارة عن إظهار ما هو غامض في الطبيعة. وقال أستاذه أرسطو الفن تقليد للطبيعة. وقال فرنسيس بيكون الفن روح الفنان مضافة إلى الطبيعة. وقال ريزنج الفن هو المظهر الخارجي للآلة. وقال أميل زولا الفن هو الطبيعة ترى خلال شعور الفنان. وقال كوزان الفن هو التعبير الحر للطبيعة. وقال تين: الفن إخراج خاصيات الأشياء وإظهارها في شكل بارز. وقال جيته: الفن الجميل كقوس قزح لا يرتسم إلا فوق سطح معتم، ولهذا كان الحزن عنصراً مناسباً للعبقرية.
أما حديث أوسكار وايلد عن الفن فهو حديث ذو شجون: وقد قدم به مجموعة من أقاصيصه الرائعة في الأدب الإنجليزي فقال الفن صانع الأشياء الجميلة. وغاية الفن أن يكشف عن نفسه وأن يخفي شخصية الفنان؛ وما من فنان يشتكي الحدب أبداً. فالفنان يستطيع التعبير عن كل شيء في الحياة. وأرقى الفنون من ناحية القلب الموسيقى، وأرقى الفنون من ناحية الشعور التمثيل، وللفن ظاهر مكشوف ورمز مستور؛ ومن يتجاوز الظاهر يجازف بكل شيء، ومن يفهم الرمز يجازف بكل عزيز والفن ليس صورة الحياة بل صورة المستعرض للحياة وليس للفن نفع على الإطلاق!
ونحن أمام هذه التعاريف المختلفة والتعابير العدة عن الفن نكاد نخرج بنتيجة واحدة، وهي أن الفن ترجمة عن الجمال والقبح سواء اتصل هذا الجمال أو القبح بالعالم الداخلي وهو النفس، أو العالم الخارجي وهو الطبيعة. والفن وأعني به الفن الجميل لا يسعى وراء منفعة
ولا يجري وراء غاية سوى اللذة الفنية التي يشعر بها الفنان.
وقد قال جوليان هكسلي رئيس لجنة التربية الثقافية بمؤتمر اليونسكو إن الفن إبداع فردي يقام فيه وزن للكيف والقيمة والفنون جزء من المعنى الثقافي للحياة أما العلم فيهدف إلى وحدة المعرفة وإلى إثراء كمي في العالم. ولكن جوليان فإنه أن يذكر هذا الفن الذي يمكن أن تتذوقه الأمم جميعاً وهو الفن الذي سنتحدث عنه بعد حين. لكن قبل الحديث عن الفن بمعناه الواسع أحب أن أتحدث عن الأدب بوصف الشعر فناً من الفنون.
من الباحثين من ينظر إلى الأدب عندما يؤرخه نظرة زمانية فيقول هذا أدب جاهلي وهذا أدب أموي وهذا أدب عباسي وهلم جرا أو هذا أدب كلاسيكي وهذا أدب رومانتيكي. ومن الباحثين من ينظر إلى الأدب عندما يؤرخه نظرة مكانية فيقول هذا أدب مصري وهذا أدب أندلسي وهذا أدب عراقي أو هذا أدب ريفي وهذا أدب ايرلندي وهلم جرا. . .
ومن الباحثين من ينظر إلى الأدب عندما يؤرخه نظرة تجمع بين الزمانية والمكانية. والفريق الذي ينظر إلى تاريخ الأدب نظرة زمانية إنما يجري الزمان الذي يمر عليه والأحداث التي تحدث له. والفريق الذي ينظر إلى تاريخ الأدب نظرة مكانية ينكر أثر الزمان؛ فالزمان لا وجود له، والمكان هو الاسم للظرف المادي أو الوجودي. والبيئة المادية مؤثرة في الأدب من حيث أنها وعاء محسوس يؤثر تأثيراً حاسياً مادياً عملياً يمكن إحساسه ويمكن قياسه وربما تأثر هذا الفريق بفكرة إلغاء الزمان أو بفكرة الزمان الوجودي إن أردت الدقة في التعبير؛ تلك الفكرة التي دعت بعض الفلاسفة إلى إلغاء الحاضر إلغاء. فالطفل لا يدري متى ينمو ولا كيف ينمو؛ والكلمة التي يتفوه بها الإنسان في الحاضر لا تلبث أن تكون ماضية فلا يمكن أن تجزم بوجود الحاضر. هذا في الفلسفة. أما في الأدب فالزمان اعتبار لا أكثر ولا أقل عند هذا الفريق. والبيئة هي المؤثر الأول في الأدب؛ فبيئة بلاد العرب تختلف عن بيئة مصر، ومن ثم كان أدب بلاد العرب يختلف عن أدب مصر: أما الفريق الثالث كما قلت فهو الفريق الذي يقف وسطاً بين المذهبين فتارة يميل إلى جهة اليمين وتارة يجنح إلى جهة اليسار!
وعندي نظرة جديدة إلى الأدب والفن بل إلى تاريخ الأدب والفن أيضاً، وهذه النظرة لا تعبأ بالزمان ولا تعبأ بالمكان ولا تعبأ لشيء مطلقاً قدر ما تعبأ بذاتية الأدب وذاتية الفن.
والشيء الذي أدعو إليه هو أن أوجد أدباً عالمياً يمكن أن يقرأه المصري ويقرأه الفرنسي ويقرأه الإنجليزي ويقرأه الأمريكي فيعجب كل منهم به، وأن أوجد أدباً عالمياً أيضاً فيقرأ رجل القرن العشرين نتاج أدب القرن الأول أو ما قبل القرن الأول فيعجب به أيضاً وأنا عندما أُريد أن أوجد هذا الأدب لا أوجده من العدم لأنه موجود فعلاً. فلا يزال كتاب التراجيديا يأكلون من فتات مائدة هوميروس كما يقولون. وما زلنا نقرأ الإلياذة والأوديسة فتعجبنا هذه العواطف المتطاحنة وهذه الانفعالات الصاخبة في شعرهما. ولا زلنا نقرأ شعر الغزل المصري القديم فنجد فيه رقة وعذوبة وجمالاً. ويكفي أن أذكر قطعة غزلية مصرية قديمة لتكون دليلاً على هذا القول ومن احتاج إلى أكثر من ذلك فليرجع إلى كتابي شعراء الحب في العالم. اسمع قول الشاعر
(إذا قدمت خفق قلبي وطوقتها بذراعي فشعرت بالسعادة في أعماق قلبي. وإذا دنت مني وفتحت ذراعيها إلي شعرت كأن أزكى روائح العطور تغمرني. فإذا أدنت شفتها من شفتي ولثمتني فهناك السكر ولا خمر!)
ومن الشعراء العرب من تحدث عن سقيا الخمر بالنظرات وعن رضاب حسناه برود وما شابه هذا مما لا داعي لتفصيله في هذه العجالة.
بل من منا من لم يقرأ قصيدة لامارتين البحيرة التي صور فيها أوقات الهوى مع حبيبته جوليا فوق صفحة البحيرة الرقراقة وتحت أضواء النجوم! المتألقة في السماء الزرقاء وبين إيقاع لمجاديف وهمسات الأمواج فلم يعجب بلامارتين وقصيدته قدر أو أكثر من إعجابه ببركة البحتري ووصف معالمها وأركانها!
بل من منا من لم يقرأ قصائد أدجار ألن يو المترجمة أو ماشوز الشاعر الأمريكي الرائع ولاسيما في الغزل فلم تنضح عيناه بدمعة ولم يتأوه قلبه بحسرة ولم يتحرك لسانه بآهة!
بل من منا لم يقرأ شكسبير ومسرحياته الروائع التي اقتحمت البلاد جميعاً ووجد فيها الشرقي والغربي أشخاصاً يشعرون بشعوره ويحسون بأحاسيسه؟! بل من منا من يسمع أقوال لقمان الحكيم منذ فجر الزمان وحكم الفرس فلم يعجب بالحنكة والخبرة ودرس الزمان! بل من منا من لم يقرأ حكم طرفة وزهد المعري وأبي العتاهية الذي يصدق على كل آن ومكان؟ إن الناس مهما اختلفت أذواقهم وطباعهم فإنهم لابد ملتقون سواء رضوا أم
لم يرضوا في الإنسانية. فغرائزهم واحدة وتفكيرهم في منشأه واحد. ولهذا كان أقرب أبواب الأدب الذاتي إلى ذوق العالم بابا الغزل والحكمة، لأن الأول يختص بالعاطفة والثاني يختص بالعقل. أما الأبواب الأخرى في الشعر فتتأثر بعوامل أخرى أكثر وضوحاً وبياناً. . . وكان أقرب أبواب الأدب الموضوعي إلى ذوق العالم أدب القصة والمسرحيات.
بينت حتى الآن أن هنالك أدباً عالمياً نعجب به جميعاً، ولكني أحب أن أقرر شيئاً وهو أنني لا ألقى بهذه لنظرة لتكون قضية مسلماً بها فهذا لا يكون في الأدب. لأن الأدب لا ينتهي عند قرار كما هو الحال في العلم، فنحن عندما نقول مثلاً إن قيس ليلى زعيم مدرسة شعر الحب العنيف، وعمر بن أبي ربيعة زعيم مدرسة شعر الحب الصريح، لا نعني من لفظة مدرسة المعنى المعروف في الفلسفة مثلاً. فأنا أعرف شعراً لقيس ليلى يدخله في دور الفاحشين، وأنا أعرف شعراً لعمر بن أبي ربيعة يدخله في دور المتورعين. فالمسألة في الأدب ميل غالب بدلاً من أن نترك الأدب كالبحر الخضم الذي ليس له شاطئ وليس له قرار. فعندما أقول إذن إن هناك أدباً عالمياً لا أعني أن هذا الأدب يجب أن يعجب جميع أفراد العالم، إنما أعني أن الإعجاب يكاد يكون الميل الغالب بين الأمم نحو هذا الأدب. وهذه الفكرة موجودة في الطبيعة أيضاً فعندما نقول منطقة الغابات المدارية تليها منطقة السافانا لا نعني أن النباتات تأتي عند حد فتختلف اختلافاً عظيماً وهو الاختلاف بين الغابات المدارية والسافانا، إنما تتدرج النباتات المدارية حتى تصبح من نباتات السفانا. فليس الخط الفاصل بين المنطقتين إذن إلا خطاً وهمياً يعصم من الالتباس، وهكذا الحال في الأدب فالقضايا ليست إلا قضايا تقريبية إن صح هذا الضرب من التعبير عند المناطقة.
إذن فهنالك أدب عالمي لا يدرس بالزمان ولا بالمكان؛ وإذن هنالك شعراء عالميون لا يدرسون بالزمان ولا بالمكان؛ بل هنالك شعر عالمي إن أردت أن تكون أكثر دقة، فالشاعر قد يبدع حيناً؛ وقد يسف حيناً آخر، وقد يرتفع تارة إلى آفاق البلاغة وينحدر تارة إلى أعماق الركاكة لاختلاف مزاجه وتباين عاطفته. ومهمة الأديب في العصر الحديث بل مهمة اليونسكو في العصر الحديث يجب أن تكون البحث عن هذا الأدب وهذا الشعر لنشره بين الناس جميعاً وترجمته بجميع اللغات. فأوديب الملك مثلاً استمرت تغزو الأدب الأوربي زمناً طويلاً فتأثر بها كورني وفولتير وفيكتور هيجو، ومسرحية فاوست لكرستوف مارلو
تأثر بها جيته فيما بعد ولازالت تمثل حتى اليوم على المسرح فيعجب بها الجمهور إعجاباً شديداً ويتعجب منها ومن الشياطين العابثة بالأرواح عجباً عظيماً. بل لم نذهب بعيداً ونحن نجد إقبال الجمهور المصري على السينما الغربية وهي فن من الفنون يزداد على إقباله على السينما العربية بأضعاف وأضعاف.
وكما أدعو إلى أدب عالمي أدعو إلى موسيقى عالمية يحاول الموسيقار الحديث بل تحاول هيئة اليونسكو إبرازها إلى الوجود. ولست أعني بالموسيقى العالمية هي تلك الموسيقى الصاخبة الداوية في المراقص أو الفالس والتانجو والرومبا والفوكس تروت إنما أعني الموسيقى التي تطمئن إليها النفوس جميعاً سواء ارتفعت إلى تصوير شوبان وشوبير وتشيوفسكي أو انحدرت إلى صفير الصافر أو زفير الزافر أو عزيف العازف على الناي على ضفاف البحيرة أو حافة الغدير! فقد يصفر الفلاح الرقيق الحال في نايه فيخرج منه نغم حلو طروب يهز أوتار القلوب يعجب الفلاحين في مصر والمثقفين في مصر كما يعجب الفلاحين والمثقفين من القوزاق في روسيا أو غير روسيا. ومهمة اليونسكو إذن هي البحث عن هذا النغم ومهمة الموسيقيين من وراء اليونسكو البدء في العمل.
وحينئذ يمكن أن تتفاهم الشعوب وحينئذ يمكن أن تتآلف الأرواح بين الشعوب ويتجنب العالم قدر الاستطاعة الحروب لا لشيء إلا لأن الأمم استطاعت أن يفهم بعضها بعضاً عن طريق الأدب والفن.
إبراهيم جمال الدين الرمادي
فيرون
زعيم الشكاك اليونان
للأستاذ محمد محمود زيتون
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وفضلاً عن ذلك، فأن التوقف لا يؤدي إلى الغاية التي ينشدها فيرون، فإذا كانت تلك الغاية هي السعادة. والسعادة شعور النفس بها عند الانتقال من ضدها وهو الشقاء، فإن انعدام الشقاء انعدام للشعور بالسعادة، وصدق الشاعر (وبضدها تتميز الأشياء). وفيرون إنما سعد ليشقى.
ثم إنه لم يفهم الألوهية، ولم يحاول فهمها، وقد أوتي وسيلة الفهم وهي العقل، وبذلك عطلها وأسقطها من حسابه، أما الخضوع للعرف والدين والقانون خضوعاً آلياً فذلك مما لا يبرره عقل صحيح لأنه إذ يعترف بأنها أمور اتفاقية اصطلح الناس عليها فيما بينهم فقد اعترف ضمناً بأن للفرد حظاً مشتركاً في إقامة صرح القانون، فما أشبه فيرون هنا بعابد الصنم وهو من صنع يده.
وشك عندي في أن فيرون قد تأثر كثيراً بالمذاهب الهندية القديمة، وآية ذلك ما يقوله (فيكتور كوزان (كانت الحقيقة المطلقة عند (كاريكا هي الإفطار المطلق) كما أن الآلام عند البرهميين لا تأتي إلا من الآمال، فالتزموا العزلة، والفارق مع ذلك واضح بين الفيرونية والسفسطائية: كان السفسطائي منكراً لكل شيء، ولكن فيرون لم ينف ولم يثبت. والسفسطة هدم العلم، والشك الفيروني توقف، والسفسطائيون كانوا يبتغون العز والجاه والأناقة وزهد فيرون كل ذلك. وهم لم ينتهجوا نهجاً حين يسفسطون، وهو على نهج واضح حين يشك.
وفيرون كان تلميذاً لمترودور (لا نستطيع أن نعرف شيئاً بل نحن لا نستطيع أن نعرف إن كنا نعرف أو لا نعرف) وهو أيضاً تلميذ لديمقريطس القائل (نحن لا نعرف من الحقيقة إلا ما يعرض لنا بحسب الحالة التي عليها أبداننا، وبحسب طبيعة ما يرد على حواسنا وما يصدر عنها).
والفارق بعيد أيضاً بين فيرون وسقراط. فقد كان كاهن إيليس شكاكاً بينما كان فيلسوف أثينا مؤمناً اعتبر سقراط العلم ورده إلى العقل، ورد إليه الأخلاق. أما فيرون فقال باللاأدرية وردها إلى الحس، ورد إليها تعليق الحكم. وكان سقراط مضطهداً بينما كان فيرون محترماً. وكلاهما - مع ذلك - زهد الحياة، وبشر بتعاليم جديدة أثر الشخصية في بثها أشد وأقوى من الثورة والدعوة، وكلاهما خضع للعرف، ولم يجار العامة في ديانتهم. توسل سقراط إلى السعادة بالعلم والفضيلة، وتوسل لها فيرون باللاأدرية واللامبالاة.
وأفلاطون اتهم الحواس التي لا يملك فيرون غيرها. وأنكر أفلاطون الجزيئات وهي الموجودات عند فيرون، حقائق الأشياء هي المثل عند أفلاطون، وهي غير معروفة إطلاقاً عند فيرون. والسعادة عند أستاذ تيمون في اللامبالاة، وعند أستاذ أرسطو في الموت، وهو التطهير، الخير عند فيرون وتلميذه صريع الشر وهو عند سقراط وتلميذه متحقق في أعماق النفس تحس به.
وأرسطو يقول بالاعتدال في كل الأمور، وفيرون يقول بالتوقف والحياد، وإزاء هذا المذهب الفيروني العجيب يقف تيمون يناجي أستاذه فيقول:
(فيرون: أيها الكهل النبيل! حدثني كيف وبأي وسيلة عرفت سبيل التخلص من نير المذاهب المستعبدة، والتعاليم السفسطائية الباطلة؟ حدثني كيف حطمت قيود الباطل، والاعتقاد التقليدي. وأنت الذي لم يأل جهداً في البحث عن طبيعة الهواء الذي يحيط ببلاد اليونان، وعن طبائع الأشياء وعن غايتها التي تنتهي إليها جميعاً).
ونرى من هذا كيف أن طرافة المذهب الفيروني ترجع إلى جريان المذاهب السابقة عليه في دمه، واستحالتها إلى لون جديد انتبه له المفكرون بعد أن نصلت الأنسجة السفسطائية وبهتت ألوانها.
على أن الشك من مستلزمات الفكر الحر ومن موجبات تقدمه، فأنبياء الله ورسله داخلهم الشك، آمن إبراهيم عليه السلام بربه، ولكن لم يطمئن قلبه حتى رأى من آيات الله ما رأى، وموسى عليه سلام الله ناجى ربه:(رب أرني أنظر إليك) ومحمد عليه الصلوات قال (أنا أولى بالشك من إبراهيم) ونحن ألسنا أولى بالشك من الأنبياء؟. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزالون تسألون عمن خلق الله، فقولوا: إن الله خالق كل شيء، وهو قبل
كل شيء، وبعد كل شيء). وإذن فلا تنافي بين الشك والدين، كما لا تنافي بين الشك واليقين، لأن اليقين لا يزال بالشك كما يقول العسكري.
ومن فلاسفة الإسلام من اتخذ الشك المنهجي عكازاً إلى نور اليقين وزعيمهم فخر الرازي، فقد كان أستاذنا المرحوم (كراوس) المستشرق الألماني يعتبره زعيم المتشككين في الإسلام. وقد اصطنع المنهج الشكي أو الشك المنهجي حجة الإسلام أبو حامد الغزالي كما هو واضح في كتابه أو اعترافاته (المنقذ من الضلال). وعند الواقفية من الجهمية مسحة من الشك في تعاليمهم لاتصال جهم بن صفوان بالشكاك الهنود، وسميت بالواقفية لأنها لم تقل بأن القرآن مخلوق أو ليس.
وكان الغزالي يعمل للعامة اعتباراً فوضع (إلجام العوام عن علم الكلام) وكتب السيوطي (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام) وما أكثر تآمر الجهل والجمود على العلم والحرية، فقد اتخذ ديكارت منهجاً للشك بغية الوصول إلى الحقيقة والكشف عن القوانين العامة للعلوم وثار على خزعبلات المشايخ هيئة كبار العلماء في عصره. وكانت ثورته الفكرية قوامها هدم احتكار العلم فافتتح (المقال عن المنهج) بقوله (العقل أكثر الأشياء توزعاً بين الناس بالعدل) وإذ خشي انقضاض العلماء الرسميين عليه قال (من أحسن الهروب عاش سعيداً) وكان لقواعد منهجه في الشك أبعد الأثر في توجيه الفكر الإنساني إلى أبعد الغايات، وتابعه (كانت الذي نقد العقل، وبيكون الذي هدم (أصنام العقل) ليبني على أنقاضها منهجاً جديداً للتفكير والبحث في العلوم. وكذلك (بيل و (مونتني و (هيوم وغيرهم من الشكاك المحدثين والأقدمين.
هذا هو نفوذ المذهب الفيروني في كل ما جد من بعده من أفكار حصرناها على نطاق واسع جداً يضيق المقام هنا عن ذكر تفاصيله وتفاريعه. أما أثر فيرون فقد كان مباشراً في تلاميذه الذين انخرطوا في مدارس للشك لكل واحدة لونها وصبغتها، وإن كانوا يسمون كانوا رواد الحقيقة، فلما حاولوها ولم ينالوها سموا تحيروا وتوقفوا حيالها سموا فعلقوا أحكامهم، فسموا لم يطمئنوا إلى وجود الحقيقة التي أشكلت عليهم.
وكان أركاسيلاس وكاريناد أشهر المدرسة الاحتمالية، وكان أنسيدام وأغريبا أشهر المدرسة الجدلية، ثم جاءت أخيراً المدرسة التجريبية التي اشتهر فيها مينودوت وسكستوس من
الأطباء الشكاك أو الشكاك الأطباء الذين كانوا حرباً على الفلاسفة والمناطقة والفيازقة ورجال الأخلاق وانتهوا إلى مذهبهم التجريبي في الشك الذي يقضي بالخضوع لتكاليف الطبيعة والرضوخ لقوانين الوطن وعوائده ومزاولة بعض الفنون، واتباع ما تأتي به الظواهر.
محمد محمود زيتون
أحاديث عن جنوب الجزيرة
للأستاذ طه أحمد السنوسي
برهوت:
ذكر الإمام أبو محمد عيسى الأندلسي في كتابه عيون الأخبار حكاية كان من بينها هذه العبارة: (ولكن سر إلى اليمين إلى واد في عدن يقال له (برهوت) وفيه بئر. . . ويقول أبو محمد عبد الله الطيب بن عبد الله بن أحمد أبي مخرمة في مؤتنف الجزء الأول من تاريخ ثغر عدن بعد أن أورد حكاية الإمام أبي محمد عيسى الأندلسي:
(كذا نقله عنه القاضي محمد بن عبد السلام الناشري في كتابه الموسوم بموجب دار السلام في صلة الوالدين والأرحام، والمشهور أن برهوت واد بحضرموت، وأن أرواح الفجار تأوي في بئر برهوت، فإن صح ما ذكره الأندلسي أنها بعدن، فلعله السبب في اختصاص عدن بخروج النار الطاردة للناس إلى المحشر.
. . . ومن هنا نفهم أن ابن أبي مخزمة قد بنى استنتاجه باختصاص عدن بخروج النار الطاردة للناس إلى المحشر على كلام الأندلسي من أن برهوت واد في عدن، وهو كلام واه لا يستند إلى حقيقة، وابن أبي مخزمة نفسه يعلم أن برهوت واد بحضرموت، ويقول إن ذلك مشهور، ولكنه يريد أن يتلمس سبيلاً لتعليل علة اختصاص عدن بخروج النار، فيستوقف ما ذكره الأندلسي، ويتلمس منه علة واهية متداعية الأركان. . .
أما القزويني فيقول في كتابه (عجائب المخلوقات) إن بئر برهوت على مقربة من حضرموت. . .
أما الذي أريد أن أقوله هو أن برهوت في حضرموت على مقربة من قبر سيدنا هود عليه السلام، وهو كهف من الجير، وقد قامت منذ قديم الزمان شتى العقائد والخرافات حول هذا الكهف، وقد صدقها المؤرخون العرب، كما أخذها عنهم الكتاب الغربيون دون تعقيب أو تحقيق. . .
وقد حقق صاحبا كتاب (حضرموت) وهما درميلن وويزمان البحث في بئر برهوت ذاك، وعللا الروائح الخبيثة التي تنبثق منه بأنها ناشئة عن تبول الخفاش الذي يقطن هذا البئر، ثم عن التحلل الصخري فيه، وكانت هذه الروائح الكريهة مصدر اعتقاد بأنها نذير بموت
الكفار، بل إن البئر نفسها في المعتقدات القديمة مستكن أرواح الكفار، وأرهب نقطة على سطح الغبراء.
جنوب شبه الجزيرة في كتاب (الإسلام في العالم):
وقد اطلعت منذ أمد ليس ببعيد، على كتاب بالإنجليزية للدكتور زكي علي تحت عنوان (الإسلام في العالم) وقد توقفت تجاه ما كتبه الدكتور الفاضل عن جنوب الجزيرة العربية في فصل (تحرير الإسلام) فرأيته يقول ما تعريبه:
بلاد العرب الإنجليزية:
بالرغم من أن اسم بلاد العرب الإنجليزية لم يظهر رسمياً في أطلس جغرافي، فإنها توجد في الحقيقة وتغطي أقاليم عربية كبيرة وهامة على الساحل الجنوبي لبلاد العرب ومنفذ البحر الأحمر وعلى طول ساحل الخليج الفارسي، وكذا عدن ومحمية عدن مشتملة حضرموت ومسقط وعمان ومشيخة قطر والكويت وإمارة البحرين تحت الإدارة البريطانية.
عدن:
وتقع شبه جزيرة عدن على الساحل العربي قرابة مائة ميل شرق باب المندب، وكانت عدن مضافة كممتلكة بريطانية في عام 1939، وكانت سابقاً محكومة من الهند، بيد أنها أصبحت مستعمرة بريطانية في أبريل 1937، وهي تحكم المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وتمتلك أهمية استراتيجية عظيمة، فهي كائنة كجبل طارق للبحر الأحمر، وقد سما مدخل قناة السويس بعدن إلى مركز ذي أهمية تجارية، وهو مخرج قيم للتجارة مع بلاد العرب والبلاد القريبة، وهو أيضاً يشمل جزيرة بريم ومحمية عدن مقسمة إلى قسمين: محمية عدن الغربية ومحمية عدن الشرقية، والأولى تحتوي على تسع عشرة سلطنة، وسلطان لحج رئيس المحمية الأول وتشمل محمية عدن الشرقية حضرموت (محتوية دولة القعيطي لشهرا والمكلا ودولة الكثيري لسيام) وسلطنة مهرة لكش وسوكترا وسلطنات الواهيدي لبيرعلي وباليهاف ومشيخات أركاوهورا. . وسلطان شهر والمكلا هو رئيس محمية عدن الشرقية، وحضرموت هي الأكثر أهمية والأحسن نظاماً لهذه المساحات، وحددت
حضرموت من الشرق بسلطنة المهرة ومن الغرب بسلطانات الواهيدي.
ومن الاتصال الطارف بالعالم الخارجي والنضارات الحديثة ما هو داخل في هذا البلد الصحراوي، وكل هذه السلطنات تقع في محمية معاهدة الصداقة مع الحكومة الإنجليزية، وتحت إدارة المستوطنين الإنجليز أو الحكام - كما في عدن -)
ولسنا نعلم فيما نعلم هذا التقسيم الذي وضعه الدكتور المؤلف لعدن شرقية وغربية، وهل الإنكليز في نظره قد اتخذوا جنوب الجزيرة محمية واحدة أطلقوا عليها محمية عدن، ثم قسموها قسمين: الشرقية والغربية؟ وهل يجوز أن نمحي أسماء حضرموت ولحج وغيرها لنضع فوقها اسم عدن، ما دام الإنجليز يحتلون عدن الصغيرة.
ويرى الدكتور زكي على أن محمية عدن (الغربية) تحتوي على تسع عشرة سلطنة، ونحن نعلم أن سلطنات جنوب الجزيرة عشرة سلطنات، فلو زدنا - على رأي الدكتور - عدد سلطنات محمية عدن (الشرقية)، فنظن أن المجموع سيكون أربعين أو خمسين سلطنة.
وبعد ذلك أقول إن ما ذكرته من كلام صاحب (الإسلام في العالم) قول أدعه لأهل الجنوب ليروا فيه رأيهم.
فقرات عدنية:
. . . يقول الشيخ أبو مخرمة: (أعلم أن عدن بلدة قديمة يقال أن قابيل لما قتل أخاه هابيل خاف من أبيه آدم، ففر من أرض الهند إلى عدن وأقام هو وأهله بجبل صيره، وأنه لما استوحش بمفارقة الوطن غيره، تبدى له إبليس ومعه شيء من آلات اللهو كالمزامير ونحوها، فكان يسليه باستعمالها، فهو أول من استعمل ذلك على ما قيل). . . وإن كان إبليس أول من استعمل آلات اللهو في عدن، فكان من المحقق أنها تصير في أيامنا هذه آلات شر وشؤم لا آلات فن بديع، وعلى حد قول أبي مخرمة ليس من الضروري أن نثبت أن إبليس هو أول من استعمل تلك الآلات وهو الذي كان يلهي قابيل (لما قتل أخاه هابيل وخاف من أبيه آدم).
والذي نريد أن نقوله إن عدن هذه التي كان لها التاريخ الطويل القديم، قد بدأت اليوم نهضتها نابضة حية وستجلوها الأيام عن قريب في ثوب قشيب من الحضارة والمدنية والرقي.
ولقد سعدت بكلمات الأستاذ الفاضل أنور المعداوي عن نهضة عدن حيث قال في إحدى تعقيباته بالرسالة الزاهرة: (الله يشهد أنني سعيد بهذه النهضة؛ لأنها وثبة رائعة من وثبات الشباب العربي في جنوب الجزيرة، ومتفائل بها كل التفاؤل، لأنني أومن كل الإيمان بأن النهضات الأدبية ما هي إلا مقدمات طبيعية لنهضات أخرى). .
ويمتاز الشباب العدني بالوعي العربي والشعور الصميم، ويقص لي أحد الشبان العدنيين المخلصين ما صنعوه باليهود بمناسبة فلسطين، فيبعث إلي ويقول:(وهاك بعض مناظر لمنازل اليهود المحروقة التي دمرناها هي وساكنيها مع أننا لا نملك سلاحاً؛ لأن السلاح في مستعمراتنا ممنوع، وإذا اكتشف أحد من السلطة أن لدى أحدنا مسدساً يأخذه مباشرة ليقضي في السجن بعض السنين، وعندما نشبت الحرب في فلسطين، أضربنا وكان ذلك في يوم الأربعاء 20 ديسمبر سنة 1948 وقمنا بمظاهرات إلى حارة اليهود - عليهم اللعنة - وعندما شاهدونا في هذه المظاهرة أغلقوا منازلهم وجلسوا في منافذهم مستعدين للقتال، مع أنه من المسموح لهم أن يحملوا السلاح، ونحن العدنيين ليس لدينا سوى عصيان الكشافة، وعندما ظهرنا في أول سكة من سكك اليهود وهي بالقرب من سكة شركة الطيران رميت القوارير فوق رؤوسنا، وأصيب منا اثنان، وعلى هذا دارت الدائرة عليهم، وأخذنا كمية من البترول وأحرقنا جميع سياراتهم الفخمة، وكان ذلك بالمساء، أما في الصباح فقد خرجنا أيضاً في مظاهرات أخرى وقد خرج إلينا الجنود البريطانيون بأسلحتهم ومصفحاتهم على أهبة الاستعداد لتدميرنا، فلم نبال بشيء من هذا كله ومضينا وعندما مررنا بسكة من سكك اليهود لاحظنا الجند الإنكليز، ولكن يهودياً من فوق نافذته أخذ غدارته أطلق ثلاث رصاصات على ضابط بريطاني فقضى عليه، ومن ثم سمح الإنكليز لنا بالهجوم، وكان النصر حليف العدنيين تلك الثلة العربية الموفقة. . .)
المحميات على لسان الجفري:
أسدل ستار من التمويه والخطأ على (المحميات) وتسميتها ووجودها، لذا رأيت أن أورد في هذه الأحاديث نص ما ذكره السيد الجفري مستشار عظمة سلطان لحج عنها في مذكرة سلطنة لحج التي قدمت إلى الوزارة المصرية في 18 فبراير سنة 1948: (تقع مملكة اليمن في الركن الجنوبي من جزيرة العرب، وإلى الجنوب منها تقع محمية عدن، وسلطنة
لحج وسلطنة حضرموت إلى إمارات أخرى اشتهرت على ألسنة بعض الكتاب منذ عهد غير بعيد باسم (المحميات) وهي تسمية لا تطابق الوضع السياسي الصحيح لتلك البلاد التي يتمتع كثير منها بنوع من الاستقلال والحرية.
وقد كان لهذه التسمية الخاطئة أسباب ودوافع، بل أغراض ومطامع؛ فلاشك أنه مما يسر بريطانيا أن تمنح ما ليس لها بحق حين يقال إن هذه المحميات تابعة لها خاضعة لسلطانها، فذلك كسب استعماري كبير تطمع أن تناله، كما أن بعض الذين يحاولون توجيه السياسة اليمنية يرجون من وراء هذه التسمية أن يقع في وهم العرب أن تلك السلطنات أو الإمارات المستقلة في جنوب شبه الجزيرة هي أجزاء من مملكة اليمن اقتطعها الاستعمار عن وطنها الأم ليفرض عليها سيادته، وسلطانه ومن الحق والواجب أن تعود إلى أحضان اليمن كما كانت.
وقد وقر هذا المعنى الخاطئ في نفوس كثير من الناس، وساعد على استقراره انعزال هذه السلطنات أو الإمارات في ركنها الجنوبي منطوية على نفسها لا تحاول دعاية في بلاد العرب ولا في غير بلاد العرب.
على أن بعض الدعايات المعادية قد نشطت منذ قريب لتشويه الوضع السياسي لسلطنة الجنوب تحقيقاً لبعض ما أشرنا إليه من الأغراض والمطامع، بدأ ذلك جلياً حين تقدمت سلطنة لحج وإلى الأمانة العامة لجامعة الدول العربية طالبة قبولها عضواً في الجامعة، أو تمثيلها في بعض لجانها الثقافية، فقد بدر يومئذ صوت معارض يزعم أن سلطنة لحج (محمية) لا يسوغ لها الانضمام إلى الجامعة، وأنها ليست إلا جزءاً متقطعاً من بلاد اليمن لا يسوغ أن يكون له ممثلون في الجامعة).
أحمد طه السنوسي
صور من الشعر الحديث في العراق
للأستاذ إبراهيم الوائلي
الرصافي
لا نستطيع أن ننكر ما للرصافي من أثر كبير في نهضة الشعر الحديثة في العراق وما لصوته من الصدى المدوي في دنيا العرب، فقد حمل قيثارة الشعر يداعب أوتارها المتنوعة ويرتل عليها أنغامه المختلفة هاتفاً بمجد أمته منادياً بوحدتها واستقلالها داعياً لتخفيف آلام الإنسانية المعذبة الحائرة في بيداء الحياة.
كانت أنغام الرصافي تنبعث من أعماق القلب حيناً ومن آفاق العقل حيناً آخر؛ فهو حين يندمج بالحياة الاجتماعية ويواكبها في ساعات الألم ولحظات الهدوء ويستوحي عاطفته وإحساسه فتستجيب له العاطفة ويواتيه الإحساس فيترجم تلك الانفعالات نغماً حزيناً باكياً ولحناً مرح المقاطع هادئ النبرات، وحين يخلو إلى الطبيعة في عزلة من صخب المجتمع وضوضاء البشر يستلهم عقله وتفكيره ويعرج إلى آفاق السماء فيصف الكون وما فيه من صور وأعاجيب ونجوم وأفلاك، ويهبط إلى الطبيعة من حوله فيتحسس جمالها ومنابعها وما فيها من فنون وروعة ويتمتم ويتغنى ويفصح عن خلجات وجدانه بما يواتيه من تعبير وأداء.
كان الرصافي عاطفياً حساساً حين ينظم في السياسة والاجتماع، وحين يتغزل ويمدح أو حين تصفو له الأجواء لحظة من لحظات العمر. وكان وجدانياً حين يصف الطبيعة وما فيها من مباهج وصور ومنابت وأطيار وجداول ومروج، أو حين يصف حريقاً أو مخترعاً جديداً. وكان فيلسوفاً حين يتجرد إلى عقله وتأملاته الكونية، ولكنه في الثانية والثالثة يخاتل حياته ويخالس طبيعته فلم يؤلف من وصفه وفلسفته ما يناهض تيار العاطفة وتموجات الإحساس فقد خلق الرصافي عاطفي النبع يتحدث إلى قلبه ويتحدث قلبه إلى موسيقاه ومن ثم تعبر هذه الموسيقى عن خواطر وأحاسيس تمثل روح الشاعر وقلبه وما في هذه الروح وهذا القلب من صور حية نابضة بالحركة والألوان.
ويجب أن نحدد مسارب هذه العاطفة عند الشاعر ونسير معها إلى ينبوعها الأكبر لنضيق دائرة البحث في مركز واحد.
إن عاطفة الرصافي تستمد صورها من السياسة والاجتماع والغزل والمدح وما يشبه هذه الألوان. ولكن الينبوع الأكبر لعاطفة الشاعر هو السياسة والمجتمع إذ فيهما تبدو هذه العاطفة جلية واضحة وتكثر صورها الشعرية. أما موطن هذه العاطفة في أكبر ينابيعها فهو ذلك القلب الذي تفتح في دنيا كثيرة الصخب قائمة لآفاق عارمة الزوابع، دنيا تعبث بها سياسة قاسية هوجاء ومسلطون جائرون فلا عدل ولا إصلاح ولا علم ولا حرية؛ فقر وحرمان، وظلم واستهتار، وخضوع وذل، ووشاية ورشوة، وسجون ومعاقل، وشباب يقدمون قرابين على مذابح الشهوات، وسياط تتخضب بدماء المتون والظهور في المدن والقرى، وطبقات لا يؤلف بينها منهج ولا نظام. تلك هي دنيا العراق حين أطل عليها الرصافي فكان من البديهي أن يتأثر ذلك القلب ويتألم ويعبر عن تأثره وألمه بعد أن اكتملت الأداة عند صاحبه وطاوعته الموسيقى اللفظية أحسن مطاوعة. وهكذا ثار الرصافي وندد بالسلطان والولاة ووصف السجون وما فيها من ظلام وتعذيب، ودافع عن المرأة والعامل والفلاح.
وإذ نحن بصدد البحث هنا في شعر الرصافي الذي نظمه أيام الاستبداد العثماني وحين عودة الدستور فلا يسعنا إلا أن نقصر البحث على ما نحن بصدده تاركين الألوان الأخر إلى فرصة ثانية.
لاشك أن الرصافي مر في أدوار عدة من تاريخه السياسي أو مرت به أدوار سياسية متعددة مختلفة فقد نشأ النشأة الأولى في بغداد وهو محدود الفكر ضيق الشعور لا يعبر إلا عما تقع عليه عينه في بغداد وما حواليها ولا يتأثر إلا بما يسمع من الأحاديث ويقرأ من الصحف والمجلات وهي قليلة في ذلك الوقت. ثم طاف بالبلاد العربية وبخاصة سوريا وفلسطين، وسافر إلى تركيا وشاهد مواطن البذخ والترف على البسفور والدردنيل فأثرت في نفسه تلك الفوارق الاجتماعية بين رعايا مغرقين في تيار الذل والحرمان وبين أسياد يعيشون في أبراج الذهب والحرير، بين رعايا مكبلين بالحديد والأغلال وحكام تتمرغ أنوفهم بعطر الحياة وتدوس أقدامهم أشلاء العبيد الصاغرين فإذا الرصافي يثور على الظلم والاستبداد، وإذا بهذه العاطفة التي كانت حبيسة في أفق ضيق محدود قد تغيرت وتبلورت بهذا الأفق الرحب ومشت في ركاب الحياة الواقعية الصريحة تندد بالخليفة الجائر والولاة المستبدين
وتنفخ روح الثورة في الجماهير المظلومة الصاغرة. ثم جاء دور الأحرار ودعاة الدستور فاتصل بهم الرصافي وشاركهم في شعورهم وأيدهم في مواقفهم حتى إذا أعيد الدستور تلقاه فرحاً مستبشراً وحياه بأكثر من قصيدة ومجد زعماءه وأنصاره. حتى إذا كانت نهاية الأتراك على يد الاحتلال الإنكليزي في الحرب العالمية الأولى أخذت عاطفة الرصافي تموج وتضطرب وتثور ولا تستقر لأنها أحست بلفحة النار تسري في الوطن العراقي الجريح، وتتمشى في الأفق العربي الداكن، وتتمدد في البلاد الإسلامية المنكوبة؛ فمن حق الرصافي أن يثور ويضطرب حين وجد الحياة داكنة مدلهمة تعصف بها الزوابع والأعاصير من كل جانب وتعبث بها السياسة العثمانية الجائرة. ومن حق الرصافي أن يهدأ ويطمئن حين عاد الدستور فعادت الحرية إلى طلابها وشداتها. ومن حقه أن يعود إلى ثورته وجيشانه حين جاء الإنجليز فاتحين مستعمرين وظلوا فاتحين مستعمرين يعدون ولا يفون، ويأخذون ولا يعطون، ويشاركون في كل رأي ويتدخلون في كل أمر وفي كل مرفق. فكان بديهيا أن يقف الرصافي منهم موقف الساخط الثائر، وكان بديهيا أن يحن إلى الأتراك وقد ذاق حلوهم كما ذاق مرهم ولم يجد من الإنجليز ما ينسيه عهدهم. وهذا هو السر الذي جعل الرصافي يعيش أواخر عمره وقد سدت عليه منافذ الحياة وضاقت دونه مسارب العيش إلى أن ودع الحياة بين خصوم يتهمونه بالنزعة التركية والتمرد على بعض العادات، وبين أصدقاء معجبين فهموا شعره وقدروا فيه عاطفة الشاعر العميق الإحساس الذي يملي أفكاره ونزعاته ولا تملي عليه الأفكار والنزعات.
إن خصوم الرصافي يأخذون عليه تودده للأتراك في بعض المناسبات ومدحه لبعض ملوكهم وولاتهم ودفاعه عنهم في بعض حروبهم، وبكاءه عليهم حين تقلص ظلهم من العراق إلى جانب ثورته عليهم. ثم مواقفه التي لا ترضي بعض الحكام في تاريخ العراق الجديد وقد فات هؤلاء الخصوم أن عاطفة الشاعر - كأي شاعر أصيل النبع - لا يمكن أن تستقر على حال أو تجنح إلى شاطئ واحد بل هي متنقلة متحولة من الشمس إلى الظل ومن الجبال إلى السهول كالطائر الذي لا تسع جناحيه الآفاق ولا يستقيم له وكر.
إن الشاعر العاطفي الحساس قد ينظر إلى الحياة والأشخاص وما حوله من الصور والألوان نظرة تختلف عن غيره من سائر الناس فقد يحس باللذة في موطن الألم، وبالجمال في
موطن القبح، وبالصخب في مجال الهدوء، وقد تنعكس هذه الصور عنده وما عليه إذا غضب الناس أو رضوا مادام يعيش في عالمه ويستجيب لقلبه وعاطفته. وبمثل هذا الرأي نستطيع أن ندافع عن الرصافي في مواقفه التي كبرت على خصومه وظنوا أن بها استخفافاً ببعض المظاهر الاجتماعية وخروجاً على بعض التقاليد ناسين أن الشاعر الذي يستوحي خلجات نفسه وهواجس قلبه لا يقيم وزناً لمذهب (بلوتارك) الذي يريد من الشاعر أن يكون أخلاقياً فحسب!!. وليس الرصافي واعظاً على منبر أو خطيباً في مسجد. وحتى الوعاظ والخطباء قد يكون لهم من اللحظات ما يشعرون فيه بوجود آخر غير وجودهم الديني فكيف الشعراء؟
وإذا كان لابد من الدفاع المادي عن مواقف الرصافي السياسية التي أغضبت بعض الناس فأن الدراسة التحليلية لشعره كفيلة باستجلاء الحقيقة لأن شعره يدل على أنه لم يكن ليستجيب للأفراد على حساب الجماعات أو يرضخ للتنويم المغناطيسي يفعل به ما يشاء فجميع مواقفه التي فسرها الخصوم تفسيراً سطحياً لها ما يبررها وليس فيها ما يؤيد دعم هؤلاء الخصوم كما سيأتي، ولو أراد الرصافي لنفسه موقف المصانع الموارب - أن في عهد الأتراك أو عهد الإنجليز - لكانت حياته المادية غير التي قضاها.
يضاف إلى هذا أنه لم يكن وحده مؤيداً لسياسة الأتراك - وهي سياسة في مجال الدستور - بل شاركه في مجال التأييد الزهاوي والكاظمي وشوقي وحافظ وغيرهم حتى بلغ من تأييد حافظ للأتراك تهجمه على الثائرين في الحجاز على الدولة العثمانية.
إن الرصافي قد أدى رسالة الشعر في حق الشعر. وأدى رسالة الشعر في حق العراق والبلاد العربية، وأدى هذه الرسالة في حق المسلمين والإنسانية عامة.
هذه كلمة موجزة عن حياة الرصافي السياسية كما وجدناها في شعره وفي الظروف والملابسات التي رافقها والأدوار التي اجتازها وقد وقفنا منه موقفاً يتردد بين التحليل والدفاع مستندين في ذلك إلى طبيعة الشعر وعنصره العاطفي وإلى السياسة التي كانت آنذاك في تبلبل واضطراب، وسنترك للنماذج التي سنختارها وندرسها تعزيز الرأي وإيضاح الدراسة مقتصرين من هذه النماذج على مرحلتي الاستبداد وعودة الدستور ثم ما قاله الشاعر في مدح الأتراك ومقدار صلة هذا المدح بالواقع الذي يبرره والظروف التي
تحتمه.
للرصافي قصائد كثيرة في الثورة على الاستبداد العثماني وفي ثورته عنف وشدة. وقصيدته (إيقاظ الرقود) أبلغ دليل على هذه الثورة العنيفة فقد جاء فيها:
إلى كم أنت تهتف بالنشيد
…
وقد أعياك إيقاظ الرقود
فلست وإن شددت عرا القصيد
…
بمجد في نشيدك أو مفيد
لأن القوم في غي بعيد
إذا أيقظتهم زادوا رقادا
…
وإن أنهضتهم قعدوا وئادا
فسبحان الذي خلق العبادا
…
كان القوم قد خلقوا جمادا
وهل يخلوا الجماد من الجمود؟
هؤلاء هم قوم الرصافي وأبناء وطنه كما يراهم فهم لا يتنهون من غفلة ولا ينهضون بعد قعود ولا يثورون على حكومة جائرة عانية فهم كالجماد الذي لا يحس. ثم ينتقل إلى وصف هذه الحكومة وينذرها بعاقبة الظلم والجبروت:
حكومة شعبنا جارت وصارت
…
علينا تستبد بما أشارت
فلا أحد دعته ولا استشارت
…
وكل حكومة ظلمت وجارت
فبشرها بتمزيق الحدود
ويشير إلى أن هذا الجور والسكوت عليه لم يكن سببه إلا الجهل حتى أدى هذا الجهل إلى تحكم عبد الحميد:
سكنا من جهالتنا بقاعا
…
يجور بها المؤمر ما استطاعا
فكدنا أن نموت بها ارتياعا
…
وهبنا أمة هلكت ضياعا
تولى أمرها عبد الحميد
وهنا تشتد الثورة في نفس الشاعر وتطغي العاطفة الحانقة فيخاطب عبد الحميد بلهجة عنيفة:
أقول وليس بعض القول جدا
…
لسلطان تجبر واستبدا
تعدى في الأمور وما استعدا:
…
ألا يا أيها الملك المفدى
ومن لولاه لم يك في الوجود
أنم عن أن تسوس الملك طرفا
…
أقم ما تشتهي زمرا وعزفا
أطل نكر الرعية خل عرفا
…
سم البلدان مهما شئت خسفا
وأرسل من تشاء إلى اللحود
تنعم في قصورك غير دار
…
أعاش الناس أم هم في بوار
فانك لن تطالب باعتذار
…
وهب أن الممالك في بوار
أليس بناء يلدز بالمشيد؟
للكلام بقية
إبراهيم الوائلي
الشعر المصري في مائة عام:
علي الليثي
للأستاذ محمد سيد كيلاني
1822 -
1896
- 1 -
ولد الشيخ علي الليثي بمدينة القاهرة. وقد نسب إلى الإمام الليث لأنه كان يقيم في مطلع حياته في ضريحه.
التحق الليثي بالأزهر وظل مشتغلاً بطلب العلم حتى وفد على مصر الشيخ السنوسي الكبير قاصداً أداء فريضة الحج فاتصل به وأخذ عنه الطريق وحج معه. ولما عاد إلى مصر لم يفارقه بل سافر معه إلى جنبوب، وأقام هناك مدة يطلب العلم. ثم فارقه وعاد إلى مصر واتصل بأم عباس باشا الأول فجعلته شيخاً على مجلس دلائل الخيرات عندها ثم اتصل أيضاً بالأمير أحمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا الكبير وشقيق الخديوي إسماعيل فاعتقد فيه وأطلعه على خزانة كتب عديدة.
وقد اتهم بالاشتغال بفنون السحر والشعوذة والزايرجة والإخبار عن الغيب والكشف عن الطالع وغير ذلك مما هو مشهور عن المغاربة. فنفي إلى السودان في عهد سعيد الذي أمر بجمع كل من يأكلون أموال الناس بمثل هذه الخزعبلات وإبعادهم إلى السودان. فبقي هناك مدة من الزمن ثم عفي عنه فرجع إلى مصر.
والظاهر أنه كان قد عرف الخديوي إسماعيل حينما كان يتردد على منزل أخيه الأمير أحمد رفعت وذلك في عهد سعيد. فلما تولى هذا الخديوي قرب الليثي إليه وجعله هو والشيخ علي أبا النصر نديمين له يحضران مجالس أنسه وتزول الكلفة بين الحاضرين فيتبسطان في القول ويملآن المجلس فرحاً وسروراً بالنوادر المطربة والفكاهات المضحكة. وقد بلغ من شغفه بهما أنه خصص لهما قاعة بالديوان الخديوي يجلسان فيها كأنهما من المستخدمين. وقد تقرأ في الوقائع المصرية مثل هذه العبارة: (قصيدة فائقة للشيخ علي الليثي المنشئ بديوان المعية السنية) وتقرأ مثل هذا عن الشيخ علي أبي النصر، فتظن
أنهما كانا يقومان بالكتابة الإنشائية والواقع أنهما لم يزاولا الكتابة قط، إنما هو لقب منح لكل منهما.
وقد تمتع الليثي بجاه كبير في عهد الخديوي إسماعيل. فكان الناس يلجئون إليه متوسلين به ومتشفعين في قضاء الحاجات. وظل الشاعر محتفظاً بمكانته في أيام الخديوي توفيق. وكان قد انضم إلى الحركة العرابية فلما قضي عليها نظم قصيدة تبرأ فيها من تهمة العصيان فعفا عنه الخديوي وزاده قرباً منه.
ولما بنى الخديوي توفيق قصره في حلوان كان ينتقل إلى ضيعة الليثي بشرق اطفيح ويقيم عنده يوماً. ولهذا اعتنى الليثي بضيعته فشيد فيها قصراً وغرس الحدائق والكروم.
ولما تولى الخديوي عباس أعرض عن الليثي، ولا عجب في ذلك. فقد كان صاحبنا في العقد السابع من عمره على حين كان الخديوي في الثامنة عشرة. ثم إن عصر الليثي كان قد انتهى فأقام في ضيعته وكان كثير من الأدباء يزورونه هناك أو في داره بباب اللوق فيكرم مثواهم ويحسن لقاءهم. وبقي على ذلك حتى مات في عام 1896.
شعره
لا يوجد بين أيدينا ديوان الليثي. ولا نعرف أنه قال شعراً قبل عصر إسماعيل. وقد اعتمدت في حديثي عن شعره على ما نشر في الوقائع المصرية. وتنبعث شاعريته في عهدي إسماعيل، وتوفيق.
قال يمدح الخديوي إسماعيل:
أنعم بطيب ليال لحن كالغرر
…
في جبهة الدهر تسمو عن سنا القمر
بها تزف الأماني في مواكبها
…
لكل راج ويرعاها أخو السمر
علا بها الدهر شأناً وهي تتحفه
…
بحلية المجد حتى فاز بالوطر
قد قلدت كل جيد من بدائعها
…
وأنعمت بمراد السمع والبصر
كأنها والليالي الغر سالفة
…
ليلات قدر توافينا على قدر
وقفت أمام هذه الأبيات وحاولت أن أستكشف ما حوته من المعاني فلم أظفر بشيء. واجتهدت في إخراج الصورة الشعرية التي تخيلها الرجل حينما نظم هذه القصيدة فلم أخرج بصورة ولا شبه صورة. ليال لحن كالغرر بها تزف الأماني لكل راج. وما معنى
قوله (ويرعاها أخو السمر) ولم خص أخا السمر؟ (علا بها الدهر) وهنا كرر كلمة الدهر. وهذه الليالي تتحف الدهر بحلية المجد. فما معنى هذا؟ وكيف فاز الدهر بالوطر؟ وما هو المعنى الطريف في قوله (وأنعمت بمراد السمع والبصر)؟ ثم قال (كأنها والليالي الغر سالفة) فكرر كلمة (الغر). لاشك في أن هذا لغو لا طائل وراءه. وهذه الأبيات على طولها لا تحمل غير معنى تافه جداً. يريد أن يقول إن هذه ليال سعيدة فأسهب على غير جدوى.
وقال:
وكيف ولا خديوي مصر ألبسها
…
ثوباً من الطول مأموناً من القصر
تجر أذيال إعزاز بمقدمه
…
حتى بها مصر سامت كل مفتخر
وفاخرت كل إقليم يناظرها
…
وقد جرى النيل عند الفخر بالخبر
فأي معنى تحمله هذه الأبيات؟ أراد الرجل أن يقول إن البلاد فرحت بقدوم الخديوي وابتهجت بعودته فلم يوفق في إبراز هذا المعنى البسيط في ثوب قشيب. فجعل الليالي تجر أذيال إعزاز وقال (حتى بها مصر سامت كل مفتخر) ثم كرر هذا المعنى في قوله:
(وفاخرت كل إقليم يناظرها) وما هو المعنى الطريف أو الصورة الشعرية التي في قوله (وقد جرى النيل عند الفخر بالخبر)؟ لن نخرج من وراء هذا الكلام بفائدة لا كثيرة ولا قليلة.
ثم قال:
أهلا بمقدم روح القطر من سعدت
…
به الرعية واستولت على الظفر
مليكنا المفرد الساري إلى نسق
…
في العدل مسراه أعيى كل مقتدر
لقد خلعت على الألقاب ثوب علا
…
وشرفت بك بين البدو والحضر
حتى غدا أعظم الألقاب مفتقراً
…
إليك كي يرتقي في عالم الصور
ولو يقول بلغنا قدر قدركم
…
أهدى اللسان ثناء الآي والسور
ومفهوم أن يقول إن الرعية سعدت بمقدم الخديوي. أما قوله (واستولت على الظفر) فغير مفهوم ولا مقبول ولا مما يستقيم ولا مما يستساغ. ومعنى البيت الثاني تافه. وأراد أن يقول في الأبيات الثلاثة الباقية إن الألقاب ارتفعت بالخديوي وتشرفت فأنى بهذا المعنى الضئيل في ثلاثة أبيات كلها عبث وهراء.
ثم قال:
فلا عدمنا أياديك التي عظمت
…
في مصر حتى غدت للملك كالأسر
وازينت بقدوم جاء يقدمه
…
طير المسرات بين الزعر والزهر
وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً
…
فاق الدراري سنا في رائق الدهر
والبيت الأول تافه المعنى. أما البيت الثاني فإنه جمع بين تفاهة المعنى وضعف التأليف. ولا أظن شاعراً يحترم نفسه يقول (بقدوم جاء يقدمه). والبيت الثالث خلو من المعنى.
ثم قال:
والأنس دار بأقداح السرور وقد
…
حيا الرعية واستملى أخا النظر
فكل ذي فكرة أبدى نتائجها
…
في مدح علياك لكن غير مبتكر
تملي عليه معانيك الحسان فما
…
يجيد شيئاً سوى تنظيم منتثر
لازال ذا الدهر يسعى في رغائبكم
…
وما أردتم مراد الدهر والقدر
أما قوله (والأنس دار بأقداح السرور) ففيه صورة من حياة الندماء التي لازمته في ذلك الوقت. وقوله (حيي الرعية واستملى أخا النظر) خلو من كل معنى. والأبيات التالية تافهة المعنى.
وقال:
والملك يبسم عن عدل يقارنه
…
تمام فضل وإحسان مدى العصر
ما أختال ذا القرفي برد الأمان بكم
…
وكف بالصفو كف البغي والكدر
وردت باريس سر الود تعلنه
…
وقد صدرت حميد السعي والسير
وعدت في فتية فاقوا النجوم سناً
…
منك استمدوا وهم في الدهر كالغرر
ومعنى البيت الأول قد تقدم قبل ذلك بأبيات. وكذلك صورة ابتسام الملك فقد وردت في قوله (وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً). وليس في الأبيات التالية من المعنى ما يستحق الذكر. وقد امتازت هذه الأبيات دون سائر القصيدة بظهور الصنعة اللفظية فيها. فهناك طباق بين (أمان) و (بغي) وبين (صفو) و (كدر) وجناس بين (كف) و (كف). وطباق بين (ورد) و (صدر).
وأول ما نلاحظه على هذه القصيدة أن الشاعر كرر بعض المفردات فذكر كلمة (الدهر)
ستة مرات. وقد كرر ذلك بعض التعابير. ومثال ذلك قوله (تسمو عن سنا القمر) و (فاق الدراري سنا في رائق الدهر) و (عدت في فتية فاقوا النجوم سنا) وقوله (وكل ثغر غدا بالبشر مبتسماً) و (الملك يبسم عن عدل يقارئه). كما كرر بعض المعاني على تفاهتها فإذا أضفنا إلى ما تقدم ضعفه المتناهي في الصياغة استطعنا أن نقول إن الليثي لم يك شيئاً في عهد إسماعيل.
والآن ننتقل معك يا علي لنرى كيف كنت تقول الشعر في زمن توفيق.
بعد أن فشلت الثورة العرابية شرع المصريون يتبرءون منها ويتنصلون من تبعتها. ومن كان منهم قد انضم إلى صفوفها أخذ ينتحل المعاذير ويذكر أنه اضطر إلى الانضمام إلى الثوار تحت الضغط والإرهاب. ولعبد الله فكري قصيدتان طويلتان نظمهما عقب الاحتلال البريطاني نفي فيهما ما نسب إليه من ميله إلى الثوار. ولليثي قصيدة أنشأها في هذا الغرض. ولكن الليثي في قصيدته يبدو أنبل نفساً وأسمى شأناً من عبد الله فكري. وقبل أن نتكلم عن قصيدة الليثي نريد أن نشير إلى ملاحظة صغيرة؛ وهي أن العلاقة بين الشاعر وبين الخديوي إسماعيل كانت قد فترت في الأيام الأخيرة من حكم هذا العاهل. والدليل على ذلك أن الليثي كان قد شد رحاله إلى ضيعته. وهناك وصلت إليه قصيدة من عبد الله فكري يبشره فيها بخلع إسماعيل. ومما جاء فيها قوله:
واقرأ على الشيخ الجليل تحية
…
مقرونة بالشوق والتبجيل
وقل البشارة مصر ولي أمرها
…
توفيقها من بعد إسماعيل
ولو لم يكن عبد الله فكري يأنس في الليثي ارتياحاً لمثل هذا الأمر لما أسرع يزف إليه ذلك النبأ، وجعل من خلع إسماعيل بشارة يبعث بها إلى الليثي. والدليل على ذلك مذكور في نفس هذه القصيدة وهو:
حتى إذا استأنست من تصديقه
…
بعلائم التكبير والتضليل
فانهض به في الحال نهضة مسرع
…
للعود لا يلوي على تعليل
وعلائم التكبير والتهليل لا تبدو إلا ممن يطغى عليه الفرح والسرور. هذه مقدمة أتينا بها تمهيداً للكلام على قصيدة الليثي التي نظمها بعد هزيمة العرابيين والتي بدأها بقوله:
كل حال لضده يتحول
…
فالزم الصبر إذ عليه المعول
يا فؤادي استرح فما الشأن إلا
…
ما به مظهر القضاه تتنزل
رب ساع لحتفه وهو ممن
…
ظن بالسعي للعلا يتوصل
قدر غالب وسر الخفايا
…
فوق عقل الأريب مهما تكمل
غاية العقل حيرة وعقال
…
واللبيب الذكي من فد تأمل
وهذا كلام لا يقال في قصيدة يريد ناظمها أن يعتذر فيها عما نسب إليه من تهمة خطيرة، ويتبرأ من ذنب عظيم، ويطلب الصفح والمغفرة وهذا الاستهلال أليق بقصائد الرثاء، ففيه حث على التزام الصبر، وحض على الرضى بالقضاء والقدر. ولم يكن المقام يستدعي ذلك. فقد كان الخديوي توفيق في حالة فرح وسرور يعد انتصاره على أعدائه واطمئنانه على عرشه وملكه فكان من المناسب أن يبدأ الشاعر قصيدته بالتهنئة أو الاعتذار. ولكنه لم يفعل ذلك بل افتتحها بهذه الأبيات التي يظهر عليها طابع الحزن والأسى والاستسلام الذي يتمثل في قوله:
يا فؤادي استرح فما الشأن إلا
…
ما به مظهر القضاء تنزل
فمم استوحى الليثي هذه الأبيات؟ وما هو الدافع النفسي الذي حرك لسانه وأنطقه بهذا المطلع؟ ومن هذا الذي خاطبه بقوله (فالزم الصبر إذ عليه المعول)؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نذكر أن الأحوال في أوائل عهد توفيق لم تكن تسمح بعقد مجالس الأنس والطرب التي لا تظهر مواهب الليثي في غيرها فلم تكن العلاقات بين الشاعر والخديوي في السنوات الأولى من حكمه كالعلاقات التي كانت بينه وبين إسماعيل إبان عظمته ومجده. ولو كانت الصلة قوية بين الليثي والخديوي لصحبه إلى الإسكندرية فيمن صحبه من خاصته. ويتضح من هذا المطلع الحزين الباكي أن الشاعر انضم إلى صفوف العرابيين اعتقاداً منه أن حركتهم ترمي إلى صيانة الوطن والدفاع عنه ضد الإنكليز. والليثي أزهري، والأزهريون قد انضووا تحت لواء العرابيين مدفوعين بالنعرة الدينية والعاطفة الوطنية فمن المعقول أن يحذو الليثي حذو إخوانه ويندمج في صفوف العرابيين. ويشجعه على ذلك ورود الأنباء الكاذبة المنبئة بانتصار الجيش المصري وانهزام الإنجليز.
ولاشك في أن الليثي قد خاطب نفسه في هذه الأبيات وحثها على الصبر، وحضها على
الرضى بما جاءت بها المقادير وبكي عليها ما أصاب البلاد من الكوارث والخطوب.
ثم قال:
كيف ننسى وحادثات الليالي
…
فاجأتنا بكارث ليس يحمل
أذهبت أنفساً وغالت نفيساً
…
وذوي مربع الحظوظ وأمحل
كان أقليمنا رياض صفاء
…
فيه للواردين أعذب منهل
للكلام صلة
محمد سيد كيلاني
رسَالَة الشِّعر
في درب العمر
(لا تصافح كل من لاقيت في طريقك. . .)
(إن من الناس من يحب أن لا تمد)
(إليهم يداً، بل مخلباً ناشباً. . . . . .)
زرادشت: نيتشه
للآنسة فدوى طوقان
أتيت درب العمر مع قلبي
…
أغرس زهر الحب في الدرب
غرق الناس بأشذائه
…
تنهل في دفق وفي سكب
ليغمر الصحب بعطر الهوى
…
فينعموا في فيئه الرطب
فبعثروا زهري بأقدامهم
…
ووطئوه في الثرى الجدب!.
وارتج قلبي خلف صدري أسى
…
ولج في دق وفي وثب
فقلت: في أهلي وفي أخوتي
…
غني عن الخلان والصحب
وخلتني ملأت منهم يدي. .
…
وخلتهم قد ملأوا قلبي. .
وفلم يطل وهمي حتى هوى
…
خنجرهم، وغاص في جنبي!
وضحكت نفسي في سرها
…
هازئة مني، ومن حبي
وسرت مع قلبي وحيدين، لا
…
شيء سوى الأشواك في الدرب
نابلس
فدوى طوقان
أخاف أن أنسى.
. .
للأستاذ عمر النص
يد الأيام. . . كم أخشى
…
على دنياي من غدرك
مضى الحلم. . ولم ينج
…
سوى ماضي من أسرك
فما آثرت أن أطغي
…
ولا تقت إلى سحرك
بل ارتحت إلى اليأس
…
وقلت أفر من شرك
مضى الحلم. . . ولم تبق
…
سوى ذكراه في نفسي
أخاف أخاف من يوم
…
يميت فراغه حسي
واصحوا فوق أنقاض
…
من الأوهام والحدس
تذل الزهو في حدقي
…
وتلقى السم في كأسي!
تركت الأرض للناس
…
ورحت أعيش في جرحي
فلم أرتح إلى ليل
…
ولم أركن إلى صبح
يريد الدهر أن أنسى
…
فهلا كف عن نصحي؟
وهل أبقى لي اليوم
…
سوى الوحشة والقبح!
أخاف أخاف أن أنسى
…
ويذهب رونق الماضي
وأن يستيقظ القلب
…
على سأم وإرماض!
إذا ما هزه الشوق
…
وأقبل بعد إعراض
تلفت يذكر الأمس
…
فلم ير غير أنقاض!
أخاف أخاف أن يطوي
…
ظلام اليأس ليلاتي
ويتركني على الأرض
…
بلا ماض ولا آت
سليب العزم. . . أستجدي
…
من الحرمان أبياتي
إذا ما أومأ الفجر. . .
…
نثرت عليه فلذاتي!
أخاف أخاف من عيشي
…
تؤود النفس أعباؤه
وتعصف بالذي أبني
…
من الأحلام أنواؤه
إذا ما قلت: لن أنسى
…
ولن يفلح إغراؤه. .
رمت أشواكه كبدي
…
وعاثت فيه أقذاؤه!
فديتك أيها القلب
…
أأنت نراع من ذهرك؟
أأنت تخاف أن تنسى
…
أأنت تشك في صبرك. .
لقد جد بك النأي
…
فماذا كان من أمرك؟
وقد روعك الدهر
…
فكاد يجن من كبرك!
فديتك أيها القلب
…
فقد أذكيت بي البأسا
قهرت الغم. . . والأيا
…
م. . والنسيان. . واليأسا
ورحت تجدد العهد
…
ونحضن ذلك الأمسا
وكدت تستمر الدهر
…
فكيف تخاف أن تنسى؟!
دمشق
عمر النص
الأدب والفن في أسبُوع
للأستاذ عباس خضر
عمل عظيم:
أذكر بمزيد الغبطة والسرور قرار مجلس الوزراء الذي يقضي بمنح زوجة وولدي المرحوم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني معاشاً قدره ثلاثون جنيهاً على أن يؤول نصيب الولدين عند بلوغهما سن الرشد إلى الزوجة. وهكذا تتحقق مسعى الإنسان العظيم عميد الأدباء الدكتور طه حسين بك، وهذا القرار يعتبر مبدأ جديداً في تقدير الأدباء تقديراً خالصاً من أي اعتبار لغير أدبهم وأثرهم في خدمة البلاد.
ولقد كان من أشنع الجحود أن تهمل أسرة الكاتب العظيم - وليس لديها ما يوفر لها العيش الكريم اللائق بها - دون رعاية الدولة وعنايتها.
ولقد هزني ذلك القرار الحكيم وبعث إلى فؤادي نشوة، إذ استشعرت فيه أمرين إلى جانب أثره في تخفيف أعباء العيش عن أسرة الأديب الراحل، الأول أنه محا عن مصر سبة العقوق لأعلامها الأدباء، والأمر الثاني أننا صرنا إلى حال يتجه فيها أولو الأمر إلى الحق الصرف، وقد اعتدنا أن نرى تدخل الحزبيات في المنح والمنع.
أما عميد الأدباء - رعاه الله - فماذا أقول فيه؟
لقد قلت إبان توليته وزارة المعارف بعد أن أجملت برنامجه كما فهمناه من كتاباته ومحاضراته - قلت إننا لن نتوانى عن مطالبته بتنفيذ هذا البرنامج، وداخلني عند ذاك شيء من الإشفاق وأنا أستحضر ما عهدنا من بلادة الرسميات، فقلت: ليس كل ما يكتبه الكاتب يستطيع تحقيقه إذا ولي الأمر. فالكاتب يضع المثل والتنفيذ شيء آخر، ولكنا نرجو أن يعمل ما وسعه العمل. قلت ذلك وأنا لا أتوقع أنه سيصنع ما صنع من عظائم الأمور ولما يمض غير قليل. أما الآن فإنني أكرر أني لا أدري ماذا أقول فيه. ولكني أرى الرجل قد زهد في ثناء الكلام فاتخذ من الأعمال مثنيات لا ترائي ولا تنافق.
وكثيراً ما يداخلني شعور بأن لا أسرف في الحديث عن الدكتور طه حسين لأن مكان معاليه في الوزارة يثير التهمة بالملق، وليس كل الناس يعلم أني بعيد عنه. ولكن ما حيلتي؟ هل أقول له مثلاً: لا تعمل على تقرير معاش لأسرة المازني وتعليم أولاده بالمجان في
التعليم العالي؟
الحقيقة أننا حين نتحدث عن طه حسين فإننا نتحدث عن (معنى) أو (مثل) أتيح للبلاد أن تظفر به في هذه الفترة من حياتها المضطربة. ألسنا إذن نتحدث عن نعمة الله فينا؟
المعوقات الثقافية للأدب:
ابتدأت محطة لندن العربية إذاعة سلسلة من الأحاديث لمعالي الدكتور طه حسين بك في موضوع (معوقات الأدب الحديث) وقد أذيع أول هذه الأحاديث يوم الجمعة الماضي، وقد تناول فيه واحداً من هذه المعوقات، وهو الخاص بالثقافة، فقال: إنه يأتي من أن الثقافة ليست منتشرة في الشرق العربي كما ينبغي، فالتعليم لا يزال محدوداً، وقراء الأدب تبعاً لذلك قليلون، فالكاتب لا يجد صدى كبير لما يكتب، ولا يجد ما يغنيه من الكسب المادي. وقد كان الأدباء في القديم وفي أوائل الحديث يتكسبون بأدبهم من الأمراء والكبراء، أما الأديب المعاصر فقد عزف عن ذلك واتجه إلى الاعتماد على أدبه في كسب عيشه، وإن كان الأدباء قد اضطروا إلى الرجوع إلى الحماية بعض الشيء، وهم يكتبون في الصحف ويعملون في خدمة الدولة لأن الأدب وحده لا يقوم بحاجتهم، والأديب في حاجة إلى أن يفرغ لأدبه، يقرأ كثيراً ويكتب قليلاً، فلو كثر القراء وأغنوا الكاتب عن اللجوء إلى الوسائل الأخرى لكان للأدب في الشرق العربي شأن آخر. وهناك ناحية أخرى لهذه المسألة، وهي أن ثقافة الأدباء وثقافة القراء قليلة التنوع، وذلك آت من طريقة التعليم، فإن التعليم في الشرق العربي لا يتيح للمتعلمين إلا تعلم لغة أجنبية واحدة أو اثنتين، فالكاتب الذي لا يلم بالثقافات المختلفة لا يتعمق موضوعه؛ والمثل الأعلى في ذلك أن يكون في الأمة من يترجمون إلى لغتها كل ما يجد في الأمم الأخرى من ألوان الثقافات، فيجد الأدباء والقراء من هذه الثقافات ما ينمي أفكارهم ويوسع آفاقهم.
حفلات زحلاوية:
أشرت في الأسبوع الماضي إلى كلمة الأستاذ حبيب الزحلاوي التي عقب بها على ما جاء خاصاً به، وعلى غير ما يخصه، فيما كتبته عن حفلة تأبين المغفور الأستاذ علي محمود طه بالمنصورة.
وأسارع أولاً فأشكره على ثنائه، وأذكر فضله فيما هيأ لنا من جو المرح والدعاية في تلك الرحلة بسعة صدره وقوة أعصابه الحديدية.
وأوثر أن أعرض عما تطاير في كلمته من شرر أورى وخبا دون أن يصيب هدفاً، فمن المفهوم أني لم أحذ حذوه في الخصومة كما قال، إنما هي مشاكله في التعبير، كما أني لا أشعر بحاجة إلى إقناعه بأني أتقنت (القفش والتنكيت) وما أنتظر منه دعوة إلى مزيد من انتباه وإتقان - أوثر أن أعرض عن ذلك كله، لأقصد إلى جلاء المعالم الأدبية فيما تناوله.
يقول أني تعثرت في الخطوة الأولى، ويزعم (أن الذي يتعثر ويكبو في الخصام قد لا يهتدي إلى السبيل المؤدي إلى الفوز والنصر) مهلاً يا صديقي! ولا صارماً في حكمك هكذا. . فإن الذي زعمته تعثر وكبا والذي هو أنا قد ينهض من عثرته وكبوته ويأخذ في السبيل إلى النصر. . إلا أن يكون ذلك مستحيلاً في منطقك الحديدي! ثم ما هي العثرة أو الكبوة التي أضلتني سبيل نصر ليس في بالي وحسباني؟ ألأني قلت إن وصفك للشاعر الذي اجتمع الناس لتأبينه بالبوهيمية غير لائق بالمقام! كنت أحسب أن هذه الإشارة تكفي، وقد تلطفتُ أيضاً فوصفت كلمتك التي ألقيتها بالحفل، حفل التأبين، بأنها لم تند بماء العاطفة. فجئت تقرر مذهباً جديداً في التأبين يسوغ أو لعله يوجب أن لا يقتصر على ذكر محاسن الشاعر والإعراب عن عواطف الأسى لفقده، بل لعل هذا المذهب الجديد يلغي المراثي من الأدب ويمنع التأسي والتفجع، فإنك تقول (ما جئت أبكي صديقي الراحل، ثم ما قيمة البكاء على الميت؟ وهل إذا نديت كلامي بماء العاطفة كنت أضفت صفة جديدة إلى الصفات التي اجتمعنا للاحتفال بها) فلم جئت إذن يا صاحبي؟ ألتقول إن الشاعر كان عربيداً ماجناً؟ وبذلك أضفت صفة جديدة إلى الصفات المحتفل بها! وأكسبت الحفل قيمة أي قيمة! إذ أخرجته عن ندب الندابين وبكاء البكاءين إلى. . . إلى ماذا يا ربي؟! أأقول إلى شتم الشاتمين؟ يا أستاذ زحلاوي، إن حفلات التأبين إنما تقام للتأبين أي ذكر محاسن الفقيد وتعديد مناقبه، وحفلات التكريم هي أيضاً تقام للتكريم لا للتهزيء، فإن بالغ قوم في هذا أو ذاك إلى درجة الكذب واختراع صفاته غير موجودة في المؤن أو المكارم فهذا شيء آخر غير ما كنا فيه بالمنصورة، وهو خروج عن الأصل لا حاجة بنا إلى زجه في مناسبتنا الكريمة اللهم إلا إن كنت تريد أن تبتكر نوعاً من الحفلات طبقاً لمذهبك السالف
الذكر، حفلات لا عهد لأحد بها، وهي جديرة بأن تنسب إلى مخترعها فتسمى حفلات زحلاوية. .
وما ذنب الشعر يا صديقي حتى كدت تصهره بنارك أو تعالجه بالمطرقة والسندان وهو فن رقيق كالأزهار تتلقاه المشاعر كما يلمس البنان الزهرة في رفق وحنان؟ فالشاعر صاحب القصيدة الجيدة يتخيل أصحاب الشاعر قد ذهلوا لأنه غادر الشاطئ وأوغل في اليم، فوقفوا مذهولين يحلمون بعودته، ولكن الذاهب لن يعود.
قل للرفاق الحلين تيقظوا
…
ودعوا الأماني الكواذب عنكمو
حلم من الأحلام عودة ذهب
…
لا تحلموا بمجيئه لا تحلموا
فماذا يضيرك يا سيدي من أن يقال إن هذا كلام جيد؟ هل عيبه أنك ألقيت كلمة في الحفل يجب أن تسطع شمسها فتحجب سائر النجوم والكواكب؟
ورأيتك يا صديقي تأتي بأقباس من كلمة الأستاذ الزيات وتطلب مقارنتها بما قلت أنت لتخرج بالنتيجة التي أردتها وهي أنك رسمت معه (الخطوط الرئيسية لمن يتوفر على دراسة الشاعر الصديق علي محمود طه) وقد علمنا ما قاله الأستاذ الزيات، فهل وصفك الشاعر بالبوهيمية والعربدة هو الذي كمل هذه الخطوط دون كل ما قيل في الحفل من نثر وشعر؟!
هلا رسمت مستقلاً خطوط هذه الدراسة، ولعلك تفعل الآن وأنت في حل من أن تذكر عن الشاعر الفقيد كل ما تريد في غير مقام التأبين، وقد ذكرت أنك تعرف عنه كثيراً، وإني أفترض فيك الكفاية، فهيا. . . وأرجو لك الهداية إلى سبيل الفوز والنصر.
معرض الفن الأسباني:
يقوم هذا المعرض الآن في قصر إسماعيل على شاطئ النيل وهو يمثل الفن الأسباني في الرسم والتصوير والنقش والنحت في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويحوي أعمالاً فنية لفناني هذه الفترة الأسبانيين وعلى رأسهم الفنان العظيم (جوبا) الذي تحرر من الجمود في عصره وعبر بحرية تامة عن نوازعه الإنسانية وثار على الأوضاع وسخر من أهل الرذائل والنقائص، يعبر عن كل ذلك بريشته كما يعبر الكاتب بقلمه ومن هؤلاء الفنانين أيضاً (جوليو أنطونيو) الذي تعمق طبائع الإنسان مع
الوضوح والصفاء، ومنهم (زو كواجا) الذي يتميز بالقوة والثقة والتجديد، و (دالي) الذي أبدع جمالاً أروع من الوقع في لوحته (المرأة في النافذة).
ويشعر الإنسان في هذا المعرض أنه أمام حرارة فائرة ونصاعة باهرة، ولا أخال كلتا الصفتين إلا منحدرتين من الدم العربي الأندلسي الذي لا يزال متغلغلاً في تلك البلاد، فالحرارة الفائرة هي حرارة الشرق، والنصاعة هي البيان العربي المشرق قد تحول على الريشة إلى خطوط وألوان. وإنك لتقرأ في هذه الأعمال الفنية قصائد ومقالات، أبدعها قصائد الغزل. . فالمرأة تمثل أهم اللوحات والتماثيل، وهي المرأة العربية بسحنتها وسماتها مع ما اكتسبته هناك من النضارة الزهراء والبشرة البضة الملساء، وترى فيها غزل عمر بن أبي ربيعة وأصحابه كما ترى نسيب العذريين ممثلاً في تعبيرات النفس المحبة والعواطف المتأججة.
وتبرز في هذا الفن الأسباني الناحية الاجتماعية والإنسانية أكثر من مظاهر الطبيعة، فالغالب فيه تحليل النفس الإنسانية واستخراج الموضوعات المختلفة من صورة الإنسان. مثل (أهوال الحرب) و (الثورة) و (محاكم التفتيش) وغيرها. ويبدو فيها تمجيد الإنسانية العالية ونقد الأوضاع المنحرفة والسخرية منها. ولكنني حرت أمام صور المصارعة الثيرانية، فإني أقشعر من هذه المناظر وأشعر بوحشيتها، ولكن لم أجد على اللوحات تعبيراً يماثل ما بنفسي، بل أجد الأمر على خلاف ذلك، وكل الطاقة الفنية منصبة على المهارة في إبراز الأوضاع المختلفة لهذه المصارعة، ولكنني لست أسبانياً، والفنان الأسباني إنما يعبر عن شعور الأسبانيين في اعتزازهم بهذه (الفروسية) ومع هذا فقد كنت أرجو أن أجد هناك فناناً يرتفع عن هذه الظاهرة القومية إلى ذروة الإنسانية. . .
عباس خضر
البَريدُ الأدَبي
حول الأزهر: على رسلكم يا سادة
في عدد مضى من (الرسالة الغراء) أعطيتك صورة مجملة عن البرامج الدراسية في الأزهر - معاهده وكلياته - وقلت إنها لم تقم على أسس تربوية سليمة. وصورت لك ما يعانيه الطالب من ويلات ومشاق في تحصيل علومه وترجيع ضمائرها وحل طلاسمها ذلك لأن الجانب الأكبر في فهم تلك العلوم يقع على كاهل الطالب. فلا نعدو الحقيقة إذا اعتبرناها طلاسم تقوم على المعاياة والمماحكات اللفظية والجدل العقيم. واليوم أحدثك عن أمر عجب يبين مدى ما يعانيه الطلبة من إرهاق وإهمال.
كنا ننتظر أن تكون هيئة من مدرسي الأزهر لتبحث في تهذيب العلوم الأزهرية وتنقيحها، بل لتتقدم بمؤلفات حديثة وافية تتسق وتقدم العصر وتتفق ورقي الحياة، لا يشوبها شيء من التعقيد المخل، ولا شائبة من التعقيد الممل. وإنما تيسر المعلومات للطالب وتبسطها أمامه خالصة سائغة يتقبلها ونفسه راضية مطمئنة هذا هو الطريق السليم الذي كان ينبغي أن يسير عليه مدرسو الأزهر. ولكن يظهر أنها مهمة شاقة لا قبل لهم بها. وما لهم ولهذه الجهود وقد ألفوا هذه الحياة المريحة وتحرروا من التبعات التي يؤاخذ بها زملاؤهم في وزارة المعارف. وأخذوا يباركون هذه التركة الخالدة التي حفظتها لهم الأجيال ليتقبلوا في نعيمها العريض. أبعد هذا تنتظر أن يضطلع هؤلاء بالإصلاح المنشود؟ يبدو أن هناك سراً خفياً يصرف تفكيرهم عن كل هذا الذي نتحدث عنه. وإلا فأين ثمرات خمسة عشر عاماً بين جدران الأزهر؟
على أني لست أعرف سبباً في التمسك بحرفية تلك العلوم والحرص عليها. مع أن ذلك طعن صريح في عقولنا وتفكيرنا وثقافاتنا؛ أفليس فينا من يستطيع أن يؤلف في تلك المواد كتباً قيمة؛ ثم أليس يجدر بنا أن ننشئ في الأزهر مدارس فكرية حديثة. كل ذلك في الإمكان ولكن سيقولون ليس في الإمكان أبدع مما كان. وما ترك الأوائل لنا شيئاً. وجوابنا عليهم ما قاله الجاحظ (إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه ما يريد أن يفلح) وأقول إن الدراسة الأزهرية تخلف عقداً نفسية، وتترك وراءها آثاراً قائمة من اليأس المبرح والهم المقيم. ومن هنا نستطيع أن نكون رأياً وهو أنه ليس من البعيد أن
يكون تقاعد الأزهريين عن التفكير في إصلاح الأزهر إنما هو ثمرة لتلك الحياة الطويلة التي قضاها كل واحد منهم في الأزهر.
ولا أدل على ذلك من أن معظمهم يعلم أولاده في المدارس لماذا؟ لأنه ذاق الأمرين في الأزهر. فلا ينبغي أن يتعثر الولد بدوره في حياة مظلمة لا يعرف لها نهاية.
وبعد، فإن مما يؤسف له أن ينتهي بنا الحال إلى هذا الموقف المخجل. ونترك الطلبة تعاني الآلام من تلك الكتب العتيقة. ونشغل بسفاسف الأمور فتتعالى صيحاتنا بأن يكون لمدرسي المعاهد حق التدريس في الكليات. على رسلكم يا سادة فقد أضحكتمونا كثيراً، وشر المصائب ما يضحك.
أزهري عجوز
بيت للفردوسي:
للفردوسي الشاعر الفارسي الذائع الصيت بيت في الشاهنامه يكاد يعتبر من أجمل وأروع أنواع المبالغات الشعرية في الأدب الفارسي إن لم يكن أجملها وأروعها إطلاقاً. . . فهو إذ يصف الخيمة التي ضربت في ساحة المعركة لأحد أبطال روايته وأحسبه (اسفنديار) يقول ما مؤداه:
(إن أعلى الخيمة قد بز القمر في ارتفاعه. . . وإن أسفل الرمح - أي العمود المقام في وسط الخيمة والذي بلغ في علوه رقماً فلكياً كما علمنا - قد اخترق الأرض من أعلاها إلى أسفلها، ثم نفذ من بين قرني الثور مستمراً في طريقه، ولم يكتب له التوقف والاستقرار إلا على ظهر الحوت. . .
والنص الفارسي لهذا البيت الرائع:
فروشد به ماهىء برشد به ماه
…
بن نيزو قبسهء باركاه
وقد نقلته إلى العربية فقلت:
أدرك الحوت وجاز القمرا
…
أسفل الرمح قباب الخيم
الترجمة حرفية، وكل جزء من بيت الفردوسي يقابله الجزء نفسه في النص العربي. . . نمير أن القول الفصل هنا لأستاذنا المبجل أديب الشرق الكبير الدكتور عبد الوهاب عزام
بك حفظه الله للعرب والشرق أجمعين. . .
(العراق - أربيل)
أحمد مصطفى
إلى الأستاذ الجليل أزهري عجوز:
باقة من الورد والرياحين، قطفتها من خفقات قلبي، ومن خلجات روحي، ومن أصداء نفسي، أقدمها إليك، يا من أحسست بضيقي، ولمست حيرتي، وعرفت مبلغ ما أعانيه من ألم واضطراب. فيالك من إنسان كريم، قد أفعم قلبه بالخير والحب والمروءة، فأفضيت على فيضنا من نورك يشرق علي في محبسي، وأنار جوانب مظلمة في نفسي، وأضاء أنحاء معتمة في حياتي، ويعلم الله أنني ما تأثرت لرسالة في حياتي، كما تأثرت بهذه الرسالة!
ماذا أقول - أيها الملك الرحيم - الذي لم يفتك أن ترشدني إلى الطريق السوي، وهو أنه لابد من الصبر، فحياة الأزهر هي هذه الحياة! نصيحة كريمة من أب كريم، فأنى لي بالشكر أزجيه إليكم، وإن الكلمات على كثرتها وتزاحمها، لتضطرب في نفسي، وتتعثر في قلمي، وإني أعتقد أنكم ستقدرون ضعفي فتعتبرون العجز عن الإعراب إعراباً.
شيء واحد - أي أستاذي الكريم - لا يزال يحيرني، ومعذرة إن أنا جشمتك سماعه، وهو: لم يشقى طلاب القرآن مع أن الدين يسر؟ ثم ما هي رسالة الأزهر؟ وما هي مهمة العالم الديني؛ أهي حفظ المتون والشروح وغيرهما، أم هي خدمة الدين واللغة؟ فإن كانت الأولى فما أحقرها رسالة وما أدونها؟ وإن كانت الثانية، فلم لا نتسلح بالعزيمة القوية، وننظر في البرامج نظرة تربوية، تفيد الطلاب، وتعود عليهم وعلى الدين وعلى العالم أجمع بالخير العظيم؟
إنه ينبغي ألا ننحى باللائمة على الكتب العقيمة، ولا على المؤلفين القدامى؛ فإنهم على أية حال، بذلوا جهداً مشكوراً ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهم لم يكلفونا بأن ندرس كتبهم ولا أن نحفظ عقولهم في أدمغتنا، بل ينبغي أن يلام هؤلاء الشيوخ لوماً عنيفاً لأنهم عالة على غيرهم، ولأنهم قتلوا أعظم ما يملكه الإنسان وهو العقل. وأقول قتلوا، ولا أقول عطلوا لأنني اعتقد اعتقاداً لا يرقى إليه ريب أننا معشر الأزهريين لم نعمل بشيء من
الدين مطلقاً، بل أضعنا العمر فيما لا يجدي، ونسينا أن الزمن يسير، وأن الدنيا تدور، وأن العالم يعيش الآن في عصر الذرة، وقطعنا كل صلة لنا بالعالم الخارجي، وصرنا كالذي يقول فيه القائل:
لو قيل كم خمس خمس لاغتدى
…
يوماً وليلته يعد ويحسب
ولهذا ولتخلفنا عن الركب نجد أن الشيوخ أنفسهم توجهوا وجهة أخرى غير الأزهر، ونسوا أن الله سيحاسبهم أشد الحساب على هذه الأمانة التي بأيديهم، وعلى الدين الذي أضاعوه، بجمودهم وعصبيتهم العمية.
وثمة ظاهرة أخرى يجب الالتفات إليها، وهي أن قاصدي الأزهر من مختلف الجنسيات، وأن الأجانب يلاقون صعوبة شديدة في فهم العبارات، فينفرون من التعليم ويمقتونه، فإذا ما رجع هؤلاء السفراء إلى بلادهم فلابد أن يكونوا أشد مقتاً وشنآنا. وكم سمعت من كثير منهم كما سمع غيري عبارات الألم، لأنهم يريدون أن ينتفعوا ويفهموا ويتثقفوا، لا أن يصموا ويحفظوا فقط، ولعلهم على حق كبير في هذا؟
أبتاه هل يعود ذلك اليوم الذي أرى الأزهر فيه وقد تبوأ مكانته السامية بين الجامعات، ونشطت فيه الحركة العلمية وآمن به الشيوخ قبل غيرهم، وأمه الأغنياء قبل الفقراء، وأشرق بضيائه على العالم في هذا العصر، كما أشرق بنوره من قبل. . وقت أن كان ولاشيء معه من المدارس أو الجامعات!
معذرة - أيها الأب النبيل - إن أرهقتك بسماع كلمتي هذه، المملة، وأتعبتك قبلاً بالكتابة إلي، عذري أريحتكم الكريمة، التي أبت أن تستولي الحيرة علي والامتحان قد أزف وعطفكم وحنانكم الذي دفعكم إلى الكتابة إلي، فأزحتم عن كاهلي عبئاً ثقيلاً، وهماً طويلاً، وإني لمتدرع بعونه تعالى بالصبر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.
والسلام عليكم - أبتِ - ورحمة الله
الأقصر
ضياء
إحصاء عن التعليم
عدد طلبة الجامعتين والتعليم العام
أذاعت وزارة المعارف بياناً عن عدد طلبة وطالبات جامعتي فؤاد وفاروق، وعن عدد المدارس المختلفة وما تضمه من التلاميذ والتلميذات.
ويؤخذ من البيان أن عدد طلبة الجامعتين يبلغ 17 ، 384 في مختلف الكليات، من هذا العدد 16 ، 332 من البنين، و1052 من البنات.
المدارس الأولية. . .
وإن جملة المدارس الأولية 4263 مدرسة، منها 748 مدرسة تابعة للوزارة وتضم 95 ، 094 من التلاميذ و67 ، 397 من التلميذات. و3515 مدرسة تابعة لمجالس المديريات وتضم 351 ، 242 من التلاميذ و285 ، 658 من التلميذات ومجموع ما في هذه المدارس جميعاً 799 ، 39 تلميذاً وتلميذة.
ورياض الأطفال
ويبلغ عدد مدارس رياض الأطفال 52 مدرسة؛ تضم 13 ، 301 من البنين والبنات.
والمدارس الابتدائية
وعدد المدارس الابتدائية للبنين 548 مدرسة منها 239 مدرسة تابعة للوزارة وتضم 75 ، 689 تلميذاً و309 مدارس حرة وتضم 81 ، 140 تلميذاً.
أما عدد المدارس الابتدائية للبنات فهو 220 مدرسة منها 75 تابعة للوزارة وتضم 19 ، 711 تلميذة و145 مدرسة حرة 24 ، 327 تلميذة.
والمدارس الثانوية
وعدد المدارس الثانوية للبنين 132 مدرسة، منها 65 تابعة للوزارة وتضم 44 ، 943 تلميذاً، و67 مدرسة حرة تضم 13 ، 17 تلميذاً.
وعدد المدارس الثانوية للبنات 21 مدرسة، منها 10 تابعة للوزارة وتضم 5336 تلميذة و11 مدرسة حرة تضم 1133 تلميذة.
المعاهد الأخرى
وهناك 14 مدرسة لفنون التطريز تضم 3261 تلميذة، و14 مدرسة للثقافة النسوية تضم
2444 تلميذة، و31 مدرسة للتجارة الليلية تضم 5974 طالباً، و9 مدارس للتجارة المتوسطة تضم 3842 طالباً، و10 مدارس للزراعة المتوسطة تضم 1901 من التلاميذ، و23 مدرسة صناعية تضم 8360 طالباً، و17 مدرسة للتربية النسوية تضم 2024 تلميذة، و10 مدارس أولية راقية للبنات تضم 1385 تلميذة، و15 مدرسة للمعلمات الأولية تضم 1898 طالبة، و11 مدرسة للمعلمين الأولية تضم 1719 طالباً، ومعهد واحد متوسط لإعداد المعلمات ويضم 32 طالبة، و3 معاهد عليا للمعلمات تضم 1121 طالباً، و9 معاهد عليا للمعلمات تضم 851 طالبة، و8 معاهد عليا فنية تضم 2253 من الطلبة.
الكتب
من وحي فلسطين
تأليف الأستاذ أحمد رمزي بك
بقلم الأستاذ كامل السواقيري
كانت مأساة فلسطين، وما ترتب عليها من نتائج صدمة عنيفة للأمة العربية، وضربة قاصمة للكيان العربي دفعت الكتاب والمؤرخين لتحليل أسبابها، وبحث نتائجها ومحاولة علاجها.
وانبرت أقلامهم تصور الفاجعة، وتصف الكارثة، وتلفت أنظار الساسة والزعماء في الأقطار العربية إلى ما يتهدد العالم العربي من أخطار جسيمة بسبب قيام دولة إسرائيل التي أنشأتها بريطانيا، واحتضنتها أمريكا واعترفت بها وجعلت منها دولة ذات حدود.
ومعظم هؤلاء الكتاب لم يكتبوا عن المأساة إلا بعد حدوثها ولم ينهوا الأذهان إلا بعد أن وقعت الواقعة، ودهمت الكارثة.
ولكن هناك كتاباً كانوا بعيدي النظر، ثاقبي الفكر، درسوا المقدمات، ورتبوا النتائج، وتنبئوا بالأحداث قبل وقوعها، وأحسوا بالخطر قبل حدوثه فكاشفوا أممهم بما في الجو من سحب، وبصروها بما تضمر الليالي، ونبهوها إلى السبيل الذي تنهجه لدرء الخطر، والحيلولة دون حدوثه فلم تشعرهم الآذان الصاغية ولا القلوب الواعية وفي طليعة أولئك الكتاب الاماجد علم من أعلام الأدباء في مصر، وحجة من أفذاذ التاريخ في هذا العصر، وركن من أركان النهضة العربية هو الأستاذ أحمد رمزي بك الذي أتاحت له خبرته ودرايته أن يلم بالمشكلة الفلسطينية، ويستقصي أسبابها ودوافعها ويتنبأ بهذه النتيجة التي وصلت إليها حيث كان قنصلاً عاماً لمصر في فلسطين وشرقي الأردن مدة تقرب من ثلاثة أعوام استطاع في غضونها، وهو العالم الأديب، أن يدرس ويحقق بعقل المؤرخ، وخيال الأديب، ونظر السياسي نواحي المشكلة وأخذ يومئذ ترسل الصرخات في أجواء العالم العربي، ويديح المقالات، ويذيع الأحاديث والمحاضرات ليوقظ الأمة من سباتها، ويحذر الساسة والحكام في هذا الشرق العربي من الخطر الصهيوني الرابض في فلسطين، ويهيب بأشبال العروبة
أن يستأصلوا شأفته، قبل أن تمتد جذوره، ولم يكن ذلك الخطر يومئذ قد تفاقم أمره أو استفحل شره على الصورة التي نراها الآن.
ثم جمع الكاتب الفاضل تلك المقالات، وزاد عليها أبحاثاً لم تنشر ونسقها وأخرجها كتاباً سماه من وحي فلسطين.
وقد صدر الكتاب بمقدمة جليلة لمؤرخ نابه الذكر، وسياسي عظيم الخطر هو العلامة الكبير الأستاذ محمد توفيق السلحدار بك. وقد تصفحت الكتاب فوجدت المؤلف يحلق في أجواء بعيدة، ويتنقل في رياض متعددة، ويطرق نواحي مجهولة، ويضيء جوانب مظلمة ويقدم للقراء طعاماً شهياً، وماء نميراً من أدب قيم وفن رفيع، وحكمة سامية وفلسفة عالية وتوجيه سديد وإرشاد نافع، فتقرأه أدبياً يعلو خياله ومؤرخاً يصدق حكمه، وجغرافياً تتضح مصوراته، وفيلسوفاً تصدق نظرياته، ومرشداً تؤثر عظاته، وعالماً يغوص بك في أعماق المجهول.
فهو لا يكتفي بسرد الوقائع - وتسجيل الأحداث، وإيراد الحجج التي تؤيد أقواله، وتدعم آراءه، ولا يقف عند رواية الحوادث وتسلسلها بل يحلل الدوافع، ويحلي ما غمض، ويوضح ما اسبتهم حتى لترى الحقائق ظاهرة أمامك ظهور الشمس في رائعة النهار.
ولعل أهم ظاهرة برزت في ثنايا سفره هي الصراحة المطلقة التي اتسم بها أسلوبه حين نعى على الشرق انحلاله وتخاذله، وتهافت أبنائه على المصالح الذاتية، وتكالبهم على المنافع الشخصية مما أضعف عندهم المثل العليا والقيم الروحية، وجعلهم في معزل عن ضياء العلم، ونور الحضارة فلم يجاروا العصر الذري يعيشون فيه، ولم يسايروا الزمن بل ظلوا جامدين أمام عصر الآلة، قانعين بالسير على الخطوات التي عفا عليها الزمن.
(أن الشرق العربي الذي عاش مدة من الزمن تتناوبه السياسات والأهواء المختلفة نتيجة لتنازع الدول الكبرى والذي استمر أهله ينعمون بتجانس في الميول والآمال والأغراض فقنعوا بالسير على خطوات الحضارة الزراعية البطيئة والاكتفاء بالقليل قد ووجه بحقيقة جديدة هي ظهور الصناعة الآلية المعتمدة على العلم والمال.
إن مجيء الصهيونية تستعمر بلاد العرب كان بمثابة هزة عنيفة لهذا الشرق النائم فهل تكفي لإيقاظه من سباته حتى يقف ويستعد لمواجهة هذا الخطر الجديد ليدفعه بالقوة التي
تتفق مع تاريخه القديم وأثره في قيادة هذا العالم).
وهو حين ينعى على قومه تخبطهم في خضم السياسة، وتيههم في صحاري الضلالات وارتجالهم في علاج المشكلات، لا يحاول تثبيط الهمم، ولا إضعاف العزائم بل يريد إيقاظ روح العمل، وبث الكفاح، ويدعو إلى استجلاء العظة والاعتبار بالدروس التي تلفتها هذا الشرق خلال ربع قرن من الزمان.
ويقسو قلم الكاتب، وتلتهب عباراته حين ينكر على الشرق إهمال الكفاءات العلمية والآلات الحديثة التي تمخض عنها القرن العشرون مع أن الحرب في هذه الأيام صراع فكري، ونضال عقلي، قبل أن تكون حرب طائرات ودبابات وقنابل ومتفجرات.
(أننا إزاء قوة تتطلب حشد كل ما لدينا من وسائل تحتم علينا أن نقف لمحاربتها بعقل وفكر وإرادة ولا يكون ذلك بغير العلم. العلم الذي هو قوة ثورية هائلة والذي يمكن صاحبه من القدرة والغلبة والانتصار. نعم سيكون العلم سلاحاً قاطعاً فيصلاً لحل مشاكلنا معهم).
ويشفع للكاتب في قسوته صدور كلامه عن قلب مفعم بالوطنية الصادقة، زاخر بالإخلاص للعروبة، فياض بالإيمان الثابت. ولذا نجده يرسم الطريق للوثبة العربية، والنهضة الإسلامية، مذكراً سكان هذا الشرق بمجدهم الغابر، وعزهم السالف وقوتهم المرهوبة يوم أظلتهم جميعاً راية الإسلام، ورفرفت عليهم أعلام الوحدة، وجمعتهم أواصر الدين.
ونورد هنا بعض الأبحاث التي تناولها الكتاب.
1 -
فلسطين بين العرب والصهيونية 2 - أثر الكفاح من أجل فلسطين في يقظة العرب 3 - رأس النقب وخليج العقبة 4 - مصر العربية 5 - الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي 6 - العالم العربي والسياسة الدولية 7 - وحدة العالم الإسلامي في البحثين الأول والثاني يعرض الكاتب تاريخ الحركة الصهيونية والدوافع إليها، والأهداف التي ترمي إليها اليهودية العالمية من إنشاء وطن لليهود في فلسطين، ودعائم الاقتصاد اليهودي والوكالة اليهودية، وموقف بريطانيا من العرب واليهود. والصناعة اليهودية في الشرق. ثم يعقد مقارنة بين المعسكر العربي والمعسكر الصهيوني والقوة التي يستند إليها الجانبان. ومدى ما يمكن لكل قوة أن تفعله، وأساليب الحياة عند الجانبين، وإظهار الخطر الصهيوني، ونظرة اليهود للشرق.
يستهل المؤلف البحث الأول ببيان أهمية موقع فلسطين الجغرافي ومركزها الحيوي، وتوسطها بين أجزاء العالم العربي فيقول:(أنه يتوسط العالم وتظهر أهميته للعرب لأنه يقسم بلادهم شطرين الشطر الأسيوي والشطر الأفريقي فهو يتحكم في مصير الأمة العربية، وبوسعه أن يحول دون تحقيق أهداف الجامعة العربية) وينتقل بعد ذلك إلى بيان الروابط المتينة والأواصر القوية التي تجمع بين مصر وفلسطين وهي ناحية على جانب من الأهمية فيقول (من العبث الكلام عن هذا فهو معروف ثابت، وأهم منه أننا في مصر ننسى أو نحاول أن ننسى حقيقة ثابتة واضحة هي أن مصر وفلسطين عاشتا أكثر من ثمانية قرون معاً ولا يذهب المؤلف إلى العهود الفرعونية بل يقول (إن فلسطين عاشت مع مصر طوال الأيام الطولونية والإخشيدية والفاطمية وفي عهود الدول الأيوبية والتركية ودولة الجراكسة).
ويتحدث عن الخطر الصهيوني، ويوجه اللوم للذين يقللون من شأنه، ولا يصارحون الأمة بحقيقته لتقاومه فيقول:
(والحق أن الاكتفاء بالنبوءات لم يعد يكفي في حياة عالم دائم الحركة والتطور والتنقل ومع ذلك وقف جماعة من أهل هذا الشرق يحاولون الإقلال من شأن الحركة الصهيونية ومراميها وأهدافها وكان الواجب عليهم وضع الحقائق ظاهرة واضحة أمام جماهير الشعوب العربية، وكان فرضاً عليهم تفتيح الأذهان والعمل على جمع الشمل وحشد القوى المبعثرة، وتركيزها جميعاً نحو غرض واحد هو محاربة الصهيونية بأسلحة القرن العشرين. وكان أول عبء على المخلصين هو تفهم هذه الحركة ومراميها ثم الانتقال مرة واحدة إلى العمل المجهد الشاق وهو الأخذ بأسلحة الخصم لإمكان التغلب عليه. ولم يكن هذا السلاح سوى الأخذ بأنظمة جديدة لكيانها الاقتصادي أي الخروج من الحياة التي ألفناها إلى تنسيق نظام صناعي ومالي وثقافي يتفق مع القرن الذي نعيش فيه لكي ندخل المعركة ونحن على قدم المساواة في التنظيم والتعبئة والتسليح وهذا ما لم نوفق في الوصول إليه) وعن نظرة الصهيونية للشرق وسخريتهم من استقلال شعوبه يستشهد بما أدلى به موسى شرتوك وزير خارجية إسرائيل حالياً ورئيس القسم السياسي في الوكالة اليهودية في عهد الانتداب أمام لجنة التحقيق سنة 1946.
(البلاد العربية فقيرة، وعدد سكانها قليل، ولا صناعة فيها، وزراعتها متأخرة جداً ومواردها غير مستغلة، فاستقلالها السياسي إذن لا قيمة له ولا معنى؛ لأنه لا تطور ولا نماء فيها، والاستقلال الحقيقي هو استمرار النماء والبناء والتطور.
وعن رأيهم في أقطار الشرق يقول: (أن هناك حقيقة يجب أن ندركها تماماً وهي أن الصهيونيين ينظرون للشعوب العربية والشرقية كافة نظرة الأوروبي للشعوب التي لم تنضج بعد ولم تستكمل وعيها وفهمها لحقيقة الأشياء).
وهكذا يمضي الكاتب في كتابه متنقلاً من بحث إلى بحث ومن موضوع إلى آخر في أسلوب يمتاز برشاقة الألفاظ، ورصانة الكلمات، وجمال التعبير، ودقة الأداء ويقدم للقراء ثمار دراسته العالية، وثقافته الواسعة.
وبعد فأظنني قد قدمت للقراء لمحة عن هذا السفر الجليل وما به من عرض تاريخي، وتوجيه سياسي، ولا يسعني في ختام كلمتي إلا أن أعرب لحضرة المؤلف الفاضل عن تقديري لمجهوده العلمي فيما رجع إليه من أسانيد، وما قرأ من مراجع وأوجه لحضرته جزيل شكري على ما قدم لأمته من آراء، وما رصع به جبين العروبة من حلي، وما ألبسه للوطن العربي من حلل لن تبليها الأيام.
كامل السواقيري
ليسانس كلية دار العلوم - جامعة فؤاد الأول
القَصَصُ
حديقة الذكرى
للكاتب الفرنسي جي دي موباسان
للأستاذ زكريا أحمد قليبو
قال جون بربدللي: لقد خانني الحظ قليلاً.
قضيت زمناً طويلاً في أيام العزوبة شاهدت فيها حرباً شعواء استطعت خلالها أن أكون واسع الخطى فوق أجساد الموتى دون شفقة ولا رحمة، وذلك دأب الطبيعة البهيمية، فقد لمعت حقائق جلية وآلام غامضة وخيانة خفية كانت سبباً في إثارة هذا العالم وبلبلة أفكاره حيث فتح هذا الباب السري على مصراعيه لنقاسي فيه ما قد قدر أن يكون. إنه لأمر جلل وخطب مدلهم وداء عضال أخذ يزداد تعمقاً وتشبثاً فكأننا نستحق هذا الجزاء فلا وزر من لسع هذا الشوك وقد ازداد التشبث واضطرمت النيران ووضعت الحرب أوزارها مما جعلنا نهذي كهذيان الممسوس، وصارت الأرواح تحوم فوق الأجساد تئن وتتألم، فساد الحزن البلاد وكدنا خلاله أن نفقد وعينا وإحساسنا لولا أن رضنا قلوبنا على مقاومة هذا التيار الجارف الخطير وتحطيمه.
أجل، لقد نجحت تلك المقاومة، وإنها لصورة باهرة من صور الحياة.
ويجول في خاطري شيئان يؤثران في إحساسي العميق لولا أن العاطفة قد تخفف عني شيئاً من هذا التهيج والانفعال السريع، وسأسرد لك شيئاً واحداً من هذين، وهو حادث خيالي قد انطبع في مخيلتي وطالما يعاودني كأنه حصل لي بالأمس.
أنني أتجاوز الخمسين من العمر ولقد كنت يومئذ شاباً في ريعان الشباب ينتابني شيء من الأسى والأرق وكثير من أحلام الشباب التي كادت تذهب مع الرياح.
لقد شغلني ملهى كان يتألق بغاداته الحسان حيث كنت كثير التردد عليه.
وهذه الحياة على ما يكتنفها من غموض حافلة بالجمال وأي جمال. الجمال الذي لا يسير على أسلوب واحد، بل الذي يتغير باستمرار.
وفي يوم من الأيام نهضت باكراً وأخذت أتجول في حديقة الأطفال في لوزيمبرغ، كانت
تلك الحديقة جداً جميلة على رغم تقادم عهدها، يكتنفها سور مزركش بديع التركيب يتوسطها صفان منفصلان على خط واحد من الأشجار التي شذبت أوراقها بانتظام وتحف بها الأزهار على أنواعها المختلفة، تلك الأزهار التي تفتقت أكمامها كأنها تبتسم للحياة، فحياها الندى بقطرات انتثرت عليها كأنها الماس لمعاناً، فيالها من حديقة غناء يطيب التنزه فيها والجلوس تحت ظلال أفنانها، وكان أحد أركانها يغص بخلايا النحل المصنوعة من القش والتي تنفصل عن بعضها بمسافات متباينة حيث تنقذ الشمس من ثقوبها الصغيرة ويعطر أريجها جميع أرجاء الحديقة، والنحل تحلق فوق تلك الخلايا ولها دوي مستمر، وعمالها يخضعون لأمر سيدتهم مسالمين في أعمالهم، وذلك مثل أعلى في منهاج الحياة.
ولشد ما دهشت لمنظر الحديقة الخلاب فصرت أختلف إليها في أغلب الأحايين وخصوصاً في الصباح، وأجلس حيث يطيب لي الجلوس أطالع بعض الكتب، فتغمرني النشوة وتدور في رأسي الأماني الحلوة التي يهفو لها قلبي الظامئ إلى ري من طمأنينة، فأرى خلالها الوجدان اليقظ والانفعالات النفسية الجياشة بالعواطف السامية والمثل العليا، وبينما أنا غارق في تلك الأحلام إذ رمقت خيالاً يقترب من مدخل الحديقة فأدركت بأنني لست الرجل الوحيد الذي يتردد إليها، فنهضت من مكاني لأتحقق من هذا الخيال وإذا به رجل مسن ينتعل حذاء فضي اللون ويرتدي لباساً أحمر ضارباً إلى الصفرة قليلاً، وعلى رأسه قبعة من الصوف يبرز منها زغب كالريش، هزيل الجسم مقطب الوجه تظهر عليه إمارات الكبر، وعيناه متوقدتان كأنهما تنظران بحذر شديد، وبيده عصا مزخرفة مقبضها من ذهب تدل على أنها تذكار قديم، فاسترعى انتباهي ذلك المنظر، وبدا السرور على محياي، فاسترقت الخطى خلف جدار تغطيه أوراق من الشجر، وأخذت أراقبه عن كثب.
وحدث في صباح يوم من الأيام أن التقينا في المكان نفسه، فقبعت تحت شجرة متستراً بأوراقها، وقد اعتقد في نفسه أنه الوحيد في هذا المكان، فبدأ يشير إشارات واحدة تلو الأخرى ثم عن أسرار متعارفة، وأعقبها انحناء وقفز إلى الأمام قليلاً، ثم عاد إلى مكانه محتفظاً بمركزه، وأخذ يترنح كأنه وريقة غصن ينفخها النسيم، فدهشت من هذا الرقص الشاذ الهزلي، ثم أعقبها بحركات قوية فوق طاقة جسمه الهزيل كأنه ألعوبة من الورق تطيرها الرياح أنى تشاء، لا تستقر على أية حالة. فبقيت في مكاني ذاهلاً من هذا الفصل
المضحك أسائل نفسي عمن فقد وعيه منا أهو أم أنا. . .
وسرعان ما توقف عن الرقص وتقدم وانحنى في التحية كأنه أحد الممثلين البارعين فوق المسرح، ثم ارتد خطوات إلى الوزراء وقد ارتسمت على محياه ابتسامات تعبر عن قلبه الساذج، وأشار بيده نحو صفي الأشجار الجميلة.
وبعد ذلك استأنف خطاه باهتمام. ومنذ ذلك اليوم لم أتخلف عن هذه الحديقة قط لأشاهد تمثيله العجيب حيث كان لا ينقطع عن تمرينه الخاص صباح كل يوم، وقد حفزتني الرغبة للتعارف به، فاندفعت إليه بالتحية قائلاً أنه ليوم سعيد يا سيدي، فرد علي التحية قائلاً أجل أنه ليوم سعيد حقاً، ومنذ تلك اللحظة أصبحنا صديقين وفيين، وعرفت قصته فقد كان الراقص الأول في الأوبرا منذ عهد لويس الخامس عشر؛ وعصاه الجميلة كانت هبة من الكونت دي كلير يمونت، وكان عندما يتحدث عن الرقص تغمره النشوة والفرح.
وذات يوم أسر لي حاجة في نفسه، قال - لقد تزوجت لاكاستريس وسأحضرها معي كي تراها إذا رغبت في ذلك، فهي لا تأتي مبكرة إلى هذا المكان، وهذه الحديقة التي نتمتع برؤيتها هي مبعث أمانينا ووحي ذكرياتنا، وهي حديقة بعيدة العهد قل أن تشابهها حديقة أخرى.
وكثيراً ما كنت أتردد وزوجي إلى ذلك المكان في وقت الظهيرة يومياً. وفي يوم من الأيام نهضت باكراً، وأخذت أتجول من مكان إلى آخر ومن شارع إلى شارع، إلى أن حان وقت الظهيرة، فاستأنفت العودة إلى الحديقة المعهودة حيث الجو ثمل حافل بالرقص والسرور فرأيت الحبيبين العاشقين، امرأة مسنة ترتدي ثياباً سوداء، وصديقي المحب الذي كان له اليد الطولي في ذلك الاحتفال المهيب. وكانت تلك الراقصة لاكاستريس حيث كانت حاذقة بفن الرقص، فهي عشيقة الملك ومحظية الأمير.
وما إن انتهى ذلك الاحتفال اتخذنا مقعداً فوق غصن شجرة جميلة، وكان الفصل ربيعاً. لقد هب النسيم على الغصون مشبعاً بروائح الزهور المعطرة، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية لتحيي تلك الزهور، وقد انعكست أشعتها فوق ما يظللنا من أوراق الشجرة نافذة من خلالها إلى دوائر صغيرة، بينما ثوب لاكاستريس الأسود قد تحول إلى بريق شديد حيث الجو هادئ والحديقة خالية وصوت العربات يسمع باستمرار.
قلت للراقص الأول:
ألا توضح لي شيئاً عن هذا الاحتفال؟
فقال: - الاحتفال هو ملكة الرقص ورقص الملكات، أما تعلم أن الرقص قد فقد بهاءه وجماله منذ ذلك الحين. . . وصار يتمتم بعبارات غامضة لم أفهم شيئاً منها. وقد اضطرب في وضعه، ونزل عن الغصن وسارت أمامه عشيقته لاكاستريس، فحدقت ببصري إليهما، وأنا مضطرب النهى فاقد الإحساس والشعور، فاعتراني الحزن لمنظر ذلك الشبح المحزن، وسبحت في فكر عميق.
فاستمرا واقفين لحظات، وقد أتما دورة الرقص، وأخيراً ابتسما ابتسامتهما المعروفة، وتعانقا عناقاً حاراً، وتنهدا تنهدات عميقة، ثم فارقتهما.
وغادرت المدينة بعد ثلاثة أيام، ولم أعد أراهما، فرجعت إلى باريس بعد سنين ورأيت الحديقة وقد خيم عليها الذبول، وساءلت نفسي عن حالة هذين الزوجين الحبيبين وما كان من أمرهما بعد ذبول تلك الحديقة الغناء، هل توفيا أم لا يزالان على قيد الحياة، وهل يرقصان في مكانهما المعهود؟. . .
لقد عاودتني تلك الذكرى، واستقرت جروحها في فؤادي، وإني لأرى فيها أغواراً عميقة لمصابيح الروح التي تعبر عن خلجات نفسي، عرفت الحياة وآمنت بأنها متاع الغرور، وكيف!. . .
لا أستطيع القول، ستجده مضحكاً جداً بلا ريب. .
زكريا أحمد قليبو
مدرس ومدير مدرسة الحكمة بفلسطين
أقصوصة رمزية:
الليل. .!
للأستاذ عبد العزيز خانقاه
ارتعد الطفل خائفاً مذعوراً، فالتصق بصدر أمه الحنون. . فكأن معجزة حدثت فأنطقته:
- أماه! إنني خائف. .
فأجابت الأم:
ليس هناك ما يدعو إلى الارتياع يا صغيري. .
وما هذا الصوت الرهيب الذي ينبعث من بعيد؟
انه نباح كلاب وعواء ذئاب!!
ولم تعوي في مثل هذا الوقت؟
شراسة وجوعاً. . . نم يا حبيبي!!
ألا تعوي في غير هذا الوقت؟
في الليل غالباً. . .
وفي النهار؟
قلما. . .
عجباً!! أتعلمين يا أمي العزيزة الأسباب؟
نحن الآن في جوف الليل. . . والظلام مخيم. . فنم. .
ولم ينطق العواء البعيد من الكلاب والذئاب ليلاً. .؟ هاأنذا أسمعه. . انه مفزع يا أماه!! أليس كذلك؟
بلى. . وان ضوء النهار الرائق يخنق الأصوات الناشزة القذرة. . وفي الليل حين يتلبد الجو بغمائم خانقة، ويهبط القتام. . وتعمى البصائر ووقر فظيع يصيب آذانها، فيحلو لمثل تلك المخلوقات البغيضة أن تنبح وتعوي وتطلق صراخها المزعج. .
وهل تأكلنا إذا خرجنا إليها؟
أجل. . بعد ما تنشر في الكون الهلع وتبذره في القلوب ويزرع في النفوس القلق والزعزعة، عند ذاك. . . من الأفضل أن ترقد يا ولدي!
والطفل كان فاغر الفم، جاحظ العين، يرمق في لهفة شديدة، أمه وهي مسترسلة في حديثها وحين كفت عنه. . . عاد إلى تساؤله بقلب أكثر إصراراً فقال:
ليس يأتيني الرقاد، فالخوف قد زال بعضه من نفسي، فحدثيني يا أماه هذا الحديث الشيق! كلما جن الليل، بل أعيديه على مسامعي، فذلك خير وأولى من الاستغراق في النوم اللذيذ!
فضمت الأم وليدها إلى صدرها، تمطره قبلاً خالصات طافحات بالإعجاب، فقالت:
بورك فيك يا بطلي الصغير. فاسمعني، وإليك بقية الحديث. . .
كلي آذان، فأنا مصغ بكليتي. . .
أجل. . . عندما تتزعزع تلك النفوس يلج فيها الانهيار والشلل، فتنكفئ على وجهها عائدة، تلوذ بالهزيمة؛ وهي في منتصف الطريق فلا تلبث أن يغلبها الإعياء ويأكلها الهلع. . . فتقبل الذئاب الضارية والكلاب العابثة الجائعة فتلتهمها وتأتي عليها في هنيهات من الزمن قصار. .
ولكن. . أليس هناك من يقارعها ويناصبها العداء ويقف في وجه الزوبعة؟
بلى، يا فلذة الكبد. . بيد أن البعض منهم قد دنت آجالهم فلقوا حتفهم، فضمتهم الأكفان والبعض الآخر مازال يصارع في بطولة بقوة وبطش ولكنهم. .!
أراك يا أماه، ركنت مرة أخرى إلى السكوت. . ولكن ماذا؟. .
انهم يرتقبون انجلاء الليل. . لتزول هذه الغمة. .
وهل لا نزال في الليل. .؟
نعم. . إنه ليل طويل. .
وهل لا ينجلي هذا الليل الكريه الأسود؟
كيف يا بني؟ فكل ليل يطل عليه فجر منير ويغمر الكون من بعده، نهار مشرق، عيق الشذى!؟
ومتى ذلك يا أماه؟ أني لفي شوق إليه لجوج. . .
صبراً. . . نم يا صغيري. .
لا، لا، لن أنام، سأرتقب ذلك الفجر يا أماه!!
عراق - كركوك
عبد العزيز خانقاه