المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 875 - بتاريخ: 10 - 04 - 1950 - مجلة الرسالة - جـ ٨٧٥

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 875

- بتاريخ: 10 - 04 - 1950

ص: -1

‌أدبنا في السماع!

كانت الإذاعة ليلة ألامس مفتوحة على آذان العالم كله. وكان الحفل مقاماً للسمر والترفيه في دار من دور العلم، فلم يشهده إلا أستاذ أو طالب أو رجل بين ذلك. وكان المغني يرسل النغم حلو الإيقاع صافي الرنين، فيشيع الطرب في النفوس، ويبعث اللذة في المشاعر؛ ولكنه كان قبل أن يقف وقفته الفنية لدى التقطيعة أو الترجيعية، تنفجر حلوق السامعين بالآهات المدوية فتطغى عليه كما تطفي زمجرة العاصفة على سجع الحمامة!

(آه)، أو (عاه)، هو الصوت الجماعي الذي تنشق عنه الحناجر الطروبة في مجلس الغناء فيكون عند انطلاقه أشبه بهزيم الرعد أو خوار الثور، ثم يكون عند ارتداده أشبه بتفجع المحزون أو توجع المريض. وتلك شعيرة من شعائر الطرب ينفرد بها المصريون من بين خلق الله في الشرق والغرب!

رغبت الكاتبة الفرنسية (فلنتين دسان بوا) أن تشهد حفلة من حفلات أم كلثوم. فلما خرجت من مسرح الأزبكية سئلت عن رأيها في الغناء العربي والموسيقى المصرية، فقالت: والله لقد أختلط الأمر على فلم ادر أفي مسرح كنت أم في مستشفى! فلو كنت في مسرح فلم كانت هذه الآهات؟ ولو كنت في مستشفى فلم كانت هذه القهقهات؟ ولو كان السامعون يضجون من فرط الإعجاب والسرور، فلم كانوا يقذفون المغنية بالطرابيش لا بالزهور؟!

والحق أن مجلس الغناء عندنا نمط من المجالس عجيب! في مجالس التثقيف والتكريم أو التأبين يهيمن على غرائز الناس ضابط من الوقار المطبوع أو المصنوع فلا تكاد تميز فيها الجاهل من العالم، ولا الجلف من المذهب، ولا الأحمق من الرزين؛ ولكن مجالس اللهو تحدث في الأعصاب ضربا من النشوة، يخف فيكون حماسة، ويثقل فيكون عربدة. والطرب في مصر أكثره من الوزن الثقيل! يستخف الطبع المرحة حتى يخرجها عن التكليف، ويبعدها عن الحشمة! لذلك صارت حفلاتنا الغنائية كما ترى وتسمع: زفير وشهيق، وصفير وتصفيق، وحركات في القيام والقعود، كحركات اليهود في برص القعود. ثم تلويح بالأذرع، وتنافس في الزياط، وتراشق بالنكت، حتى أصبح التهريج والضجيج سنتنا في السماع، فلا يجيد المغني الغناء إلا فيه، ولا يحسن السامع الإصغاء إلا به! ولقد ذهب مغنينا الأكبر إلى العراق - وكنت هناك - فلما وجدهم يسمعون في سكون، ويتمتعون في وقار، ظن إنهم لا يطربون، ففتر نشاطه وتعثر فنه!

ص: 1

فاتقوا الله يا قوم في سمعتنا المدنية، فلقد كنا نسمع المغني وحدنا بين أربعة جدران، فأصبحنا اليوم نسمعه مع كل إنسان في كل مكان!

أحمد حسن الزيات

ص: 2

‌البحث عن المطلق

للأستاذ صبحي شفيق

بديهي أن كل فنان يعتمد في تصوير مجالاته الفنية - بما تستنفذه وتبعثه من تجارب - على رمز من الرموز. فالفظ، واللون، والنغم، كلها وسائل تهدف إلى المعنى الحائش خلفها، فليست هي غايات في حد ذاتها، لأنها تضمحل في ذات الوقت الذي يصل أثرها إلى الآخرين، تتلاشى تماما من عالم الحس، بعد أن خلقت في وجداننا صوراً مترابطة تمام الترابط، متجسمة تمام التجسم، هي عالم الفنان الذي نشاركه هذه المشاركة الوجدانية.

وحينما نعجب بهذا الأثر أو ذاك، لا نفطن إطلاقاً إلى مشكل نقدي يمكن خلف حكمنا العام هذا. إننا نعكس الآثار الفنية على أنفسنا، وقد نسينا هذا الذي خلقها: أي طريق قطعها من اجل الوصول إلى هذه الصورة الخالصة التي نتملاها في لحظات؟. . أي إحساس ملك كيانه حتى تمت هذه المشاركة لوجدانية؟. . ولو حاولنا رد هذا التساؤل إلى أصوله في النفس الفنانة، لأضفنا الكثير إلى ذواتنا المتذوقة، ولأخرجناها من موقعه الحكم الذاتي، والنقد التأثري، إلى مجالات أخرى أهمها تحديد قيمة الأثر الفني مجردا من الأهواء: فكيف يكون ذلك؟. .

لنرجع إلى فناننا ذاته. إننا نجده مهموماً، وهمه لا ينقطع، من أجل الوصول إلى فن خالص. يريد أن يكون فناننا قبل كل شئ، وأثره يريده كذلك فناً قبل كل شئ، ولابد من طريق يسلكه. لابد من اتجاه يتحدد امامه، وكلما جال ببصره في الماضي وجده لا يعطيه الكثير، وكلما اتجه إلى المستقبل، وجد الناس أخلاطا متمايزة، كل منهم يريده فناناً على هواه الخاص، يعطيه ما يوائم مزاجه وحده دون سواه فكيف يعبر وهذا الضجيج يحتاج كل ملكاته ويسلمه إلى قلق واضطراب شديدين؟. .

وفنانا لا يجهل ما يراد منه إنه يعرف أن عليه توصيل ما يضطرب في دحيلته. . وهذا حقاً مشكل هين حي نتأمله من الخارج، ولكنه كل شئ لدى الفنان. ومع توافر وسائل الأداء، ونضوج الموضوع، فإنه يتردد، يتردد كثيراً فإن الصورة النهائية التي تنهي إليها مجالاته العاتية، نسميها في يسر: أثراً فنيا. . ليست إلا هذا الشيء الذي يحنو عليه بكل ما يجرفه من مشاعر، يريدها شيئاً كاملا لا تشوبه شائبة تنجم عن نقص هنا، أو عثرة هناك،

ص: 3

فهو في كلمة واحدة، يريد أن يصل إلى فن خالص. .

وإزاء هذه الرغبة التي يعرفها كل فنان، يترسب في طواياه شعور بالواجب، عليه أن يكون (أميناً) في التقاط كل الانفعالية لحركات وجدانه المحلل هذا الذي تصل إليه صور المدركات الحسية، وصور كل التجارب التي ينفعل لها، مستمدة قيمتها لا مما تطبعه في الدفعة الواحدة، ولكن من هذه التجزئة التي تحدد الأجزاء متتابعة، وتربط الصور ربطاً متسقاً، تبرز التجربة وتجسمها بما يكتنفها من نتوء وسطوح ومنحنيات.

وهنا يحدث الصراع بين موضوعين متعارضين: فلو ساير وجدانه وحده لعقد هذا العنصر الآخر الكامن في نفسه، وهو الذي سميناه واجب الفنان، فمسئوليته عن الأثر تجعله يقف إزاء طواياه المستترة وعالمه الآخر: هل كل شئ يقال؟. . هل يعبر عن هذا الشكل الجائش؟. . ولو عبر عن هذا فهل يصل إلى الفن الخالص الذي يريد؟. .

وفناننا لم يصل إلى موضع التقاء بين خطين متعارضين: بين الفن الخالص والمسئولية. . هو متردد بعض الشيء لأنه لم يكتشف طريقه بعد وها هو ذا يجد كل هذا التوتر النفسي قد تبلور في رغبة أخرى غامضة كحلم، ولكنه اخطر من كل ما مر بعوامله المتشابكة الكثيرة الاهتزاز: هذه الرغبة: ما هي؟. وكيف يلقى أمانيه فيه؟. لقد سمع النقاد يرددون: أتخذ لك طابعاً. غلف أثرك بغلاف شكلي يشتمل على الشكل والجزء في آن. أبرزه في قالب يتوفر فيه عنصر التناسق!. . . وهنا يواتي فنانا الحائر هذا النوع من الارتياح يعرفه السائر في الطريق المجهول حينما يلمح فجأة الضوء الخافت يكشف له الخطوط الممتدة مرمى البصر ينبثق منها الأمل القريب.

ولكن: أثره وجد آماله في هذا؟.

لقد أراحه هذا في الناحية واحدة، وكان قاصراً عليه دون مناحيه كفنان، هي ناحية الشكل، ناحية الظل البادي في هذه الزاوية، والخافت المتدرج في الأخرى، والنور الملقى بضوئه في سائر الأجزاء. أما الداخل؟؟. أما هي الكيان نفسه،. أما في المضمون الفني. فما زال إحساسه قلقاً، ولكن بهارج الزينات التي يضيفه الطابع على ما حوله، قد أنسته حيرته بعض الشيء.

وما دام يتحسس الشكل، فيده لم توضع إلا على الأبعاد الوهمية للفن دون الداخل. تلك التي

ص: 4

يحاول بعض النقاد تحديد الأثر بها. وإخضاعه للتجزئة على هذا القياس، كما يصل إلى النمط المتسق الذي يخدع المتذوق تمام الخديعة فهم يدركون حقيقة كامنة في الفعل المليء بالقوى، الفائض بالطاقات الحيوانية، هذا الفعل الذي نسميه مشاركة الوجدان. وهذه الحقيقة المرتبطة بكل هذا، هي الراحة النفسية التي يحسها الآخرون. فنجدهم يرددون في لهث متقطع: أعطوه ما يرتاح إليه نحن أيضاً.

ولا تحدث الراحة النفسية إلا إزاء ما تطبعه فينا الأشياء من شعور بالتحرر، بأنها نازعة أبداً إلى الصورة النقية. قف قليلا أمام منزل سقطت واجهته، وبدا عارياً من كل أتساق. إنك تجده يبدو كخط متكسر، أو كجملة خطوط متكسرة، فمجالاتك البصرية لا تجول في أبعاد فسيحة متسقة. خط يعترضك هنا. زوايا تصدم حرية بصرك هناك. فتجد نفسك قد شعرة بنوع من القلق، نجد نفسك لا ترتاح إلى انطباق الأفق والأرض في ساعات المغيب. وما التحرر الذي نستشعره إلا في كون ما نراه هو هذا الشيء الذي لا يوقفنا قليلا لو عورة هنا. وخطوط هشة هناك إننا نميل للمنحنيات بفطرتنا، نميل إلى الأشياء التي تغلف الجوهر، وكل ما يتفرع منه بغلاف ليس فيه من بروز شوهاء. . . أما الخطوط المتكسرة، فهي تقطع تجاوبنا النفسي، وتعاطفنا نحوه. إننا لا ننتقل معها بمشاعرنا في انسياب ابداً، ولا تحركنا معها مفسحة مجالاتنا النفسية، ولا تجعلنا نستشعر الوحدة في هذا الانحدار الحر. بغير عائق وعلى هذا الأساس تقوم العلائق بيننا وبين شتى الفنون.

وهنا تحدث الخديعة، إذ تختلط المعطيات الحس والوجدان لدى الفنان والمتذوق على حد سواء، فلا تفرقة بين (شكل) و (مضمون)، فهما يحسبان الاثنين أشياء تستوي لدى المتأمل والمعبر بغير افتئات، كلاهما مطلب من مطالب الراحة الوجدانية، وكلاهما تعاطف بلغ أوجه الاتساق.

وحقيقة أننا نجد في هذه الفنون الشكلية الألوان المنسحبة من سطح إلى سطح، في وحدة وترابط تثير انفعالاتنا. ونجد كذلك الأصوات في إيقاعها الرتيب تجرف مشاعرنا، وكذلك الألفاظ في ترادفها وتتابعها تحدث هذا النوع من التعاطف الجمالي ' ولكن كلما نفذنا إلى كنه المسألة، وجدنا كل هذا طلاء. طلاء مروع أشبه بالغشاوة تحجب أعيننا، وتتركنا في حال من تداعي الصور لذيذ، فنحن لا نخرج من كل هذا إلا بالخدر، بالمسكن الوقتي. أما

ص: 5

التيار في عمقه وقوته فلم يصلنا بعد، لأن فناننا كان حائراً في استكشاف المنبع والأصل، كان يضرب في طريق يحيطها الوهم الرومانتي إلى حد الغثيان، وكان كل ما يريده عالق بالشكليات.

ومن هذه لخديعة وجدت الدعوات الكثيرة التي أنهت إلى قالب من قوالب فلسفة الفن، فالفن عند البعض لعب راق، وعند البعض متعة لاذة، وعند البعض حدس غيبوبي، فيكل هذا يخفت المنطق وتستطيل العبارات الشاعرية، ويدور الإنسان مع نفسه في تأمل واستكشاف لما فيها، في تداع نرجسي.

وما كان هذا التضارب في الآراء، إلا حيرة الكائن الحي في فهم مضمون نشاطه. إن هذا الخدر المنطوي في اللاشعور، يريد أن يخرج إلى مجالات الإدراك، ولكنه يتعثر دائماً، ويحدث كل هذا الخلط في تحديد القيم.

لقد كانوا جميعًا، نقاداً وفنانين أشبه براكب السيارة يحاول الوصول إلى بؤرة المرآة التي أمامه، يريد اللحاق بصورته المتجمعة فيها، وحواسه تخدعه، فتهيأ له الحركة الوهمية، بينما المسافة ثابتة بينهما، وكل الخلاف في الزمن القياسي.

كانوا جميعاً غارقين في بؤرة الأبعاد الشكلية، في الحين الذي يحل فيه المشكل يتدرج النظر بين البؤرة ومكان الجالس، بين (الشكل) و (لجوهر)، هذا الذي لا يمكننا أن نمسكه ونضعه في أنبوبة اختبار، ولكن نستشعره في المضمون الخالص.

فكيف نصل إلى هذا! أين نجده؟

إننا نجد الشيء دائماً في طوية موضوعه، ولكننا ننسى هذه الحقيقة الكبيرة، فنعش في الخارج، غافلين عن ملكاتنا التي تستطيع الملاحظة والربط والاستدلال.

وموضوعنا هو كيان النشاط الفني، إنه يمنحنا ما يفسح الطريق على مداها، وفي ذات الفنان الخالقة نلقي مادة بحثنا، فكل ما نريده في الداخل، وفي الداخل دائماً.

وما دمنا قد بعدنا عن الأبعاد الخارجية، فإنا نلقي الذات الخالقة، من - ذات الفنان - كل منافذها متفتحة لتأخذ وتعطي. ولا بد من منظم قوي لنشاطها، فليس الأخذ والعطاء هنا عملية حسابية في برصة الأوراق المالية. إنه عالم النفس الإنسانية. وكل منظم قوي نريده، نقصد به حل مشكلة واحدة، هي قلقلة الاضطراب السائد في دخيلة الفنان، هذا الاضطراب

ص: 6

الذي يرجع إلى حالة التوتر بين (واجب) و (تعبير) في الأنة الواحدة، في الزمن الذي يتسرب فيه النشاط ليتكامل المضمون.

وإذا وصلنا إلى هذا المنظم القوي وامتلأت نفس الفنان به، لا يحدث القلق ولا المنحى الشكلي: وما هو المنظم إذا لم يكن الوصول إلى الموضع الفاصل بين حدي التوتر، بين تحديد قيمة (التعبير) وتحديد قيمة (المسؤولية)، إلى مركز حركتين متعارضتين، ولكنها متشابكتان؟.

كيف نصل إليه؟ كيف؟

نلاحظ أن أكثر الفنانين يعطوننا فناً مريضاً. فيه صرخات جوفاء، وفيه عويل ونحيب. إنه أشبه بجنازة طويلة لا ينتهي فيه البكاء. وهذا في جملته ليس عالمك أنت ولا عالمي أنا، ولا عالم سائر البشر الموجودين، إنه حالة تشبه بالإغماء، أشياء لا يفهمها إلا خالقها، وهو يعبر عنها تعبيراً فيه الكثير من حرق البخور، والترهب، ومناجاة الأرواح الخفية. إنها حالة فيها التداعي إلى حد نفاذ (الوعي الفني) الذي يستحيل الوجدان به شيئاً محللا، وتتم به عملية الروابط وتتحدد بالوضوح إذا ما توافر لديه.

وتتم به عملية الربط وتتحدد به عملية التصور، ويتميز الفن

وما السبب في هذا؟؟. . .

ليس من سبب إلا أن فناننا هذا، صاحب الفن المريض، كان يعيش وحده. ليست له عيون كالعدسة ترقب وتلتقط وتعكس، وتعطي كل ما تستنفذه إلى مدركات حسية، ترتبط برباط الفن،

لا، لم يكن هذا طابع المسألة، وإنما فناننا مصاب بالنرجسية الراقية، وحقيقة إنه لا يعجب بنفسه، ولا يتأمل محاسنه، ولكنه دائر مع نفسه في صورة أخرى منعكسة على أثر فني يريد إخراجه. هو يجول مع هذه المشاعر النرجسية. متأملا نفسه، مطلا عليها من عالمه وحده. ولنفس السبب نجد أكثر الآثار الفنية يبدو كأنها آتية إلينا من عالم غريب، ليس عالمنا. إننا نحس في القصص أو الأشعار التي تدخل في هذا النطاق، بأن ثقل أوراق كتبها يعيدنا إلى عالم المحسوسات حولنا بين الفنية والفنية، وفي أحيان كثيرة يصرخ البعض: لا نستطيع أن نستمر في قراءة هذا. إذ هذه اللوحة غريبة عني، أو هذه القطعة الموسيقية لا

ص: 7

تخاطبني.

ولماذا يقول هذا؟ إن الفن تعبير، وكل تعبير يعني الوضوح، فكل الناس تدور مع نفسها، ولكن الفنان - كما أسلفت - هو الذي يخرج هذه العوالم المغلقة على ذواتها، إلى الخارج الموضوعي.

ولا يمكن أن يصل إلى هذا الموضع إلا إذا سقطت عنه أقنعة النرجسية. . . لأن الرابط بين كل الحواس، يبدو واضحاً في حد ذاته لديه. إنه يعطيه التوازن في الربط، والتناسب في معطيات الوجدان، والتعاطف بينه وبين موضوعه، لأنه يحس حينئذ بأن ما يخرجه هو مسؤول عنه، إنه مولوده البكر يصرخ متلمساً موضع حنان.

ولكن: كيف تسقط النرجسية الراقية هذه؟؟

لدينا حكمة قديمة، ولكنها متجددة نابضة على مر القرون، حكمة قالها حكيم اليونان: اعرف نفسك. . . وإذا حصرنا حكمته في دائرة الفن، نجد المقصود بها أن يتجرد الفنان من خيالاته وأوهامه، يحلل كل قضاياه، يعرف كيف ينبع التيار النفسي أو من أين ينبع

ومتى عرف ذلك استطاع أن يضع نفسه موضع الآخرين، فتصبح ذاته - وقد تحللت - هي الذات التي تفهم تجارب النوع الإنساني كله.

فالفن في أبسط تعاريفه، تجربة وانفعال في مضمون واحد، وإزاء هذا لا بد أن نكون صادقين حينما نحس، وحينما نتأمل، وحينما نعبر، هذا الصدق الذي لا يصور الواقع تصويراً فوتوغرافيا، ولكنه يبدو في الإحساس بالواقع - مجردا من كل نفاق: وهل كان النفاق في عالم الفن إلا العجز الناجم عن غموض الموضوع لدى الفنان نفسه؟ هل كل سوى العجز الذي يعني أنه لا يفهم نفسه ولا يفهم موضوعه، ولا يمكن أن يكون صادقاً بغير فهم لهذين.

وهذا هو الصدق الفني.

وبوصولنا إليه نجد أنفسنا إزاء النتيجة الأخيرة في هذا الموضوع المتشابك: فالتعبير الصادق، يدفع بجزئيات الموضوع في تتابع صادق، ومتى شاركنا الفنان في فنه الصادق هذا نحس بالراحة النفسية بغير خديعة.

إن الفن هنا هو عالمنا. إننا ننتقل مع الموضوع في انسياب دائم، لا يواتيه تكسر أو

ص: 8

خطوط شائهة، بينما كنا لا نحس الراحة النفسية في (الفن النرجسي)، لأننا نصدم بالنفاق في أكثر المواضع. كنا نصدم بأشياء غريبة عنا، أشياء لا نفهمها على نحو من الأنحاء.

وما دام هذا الفن عالمنا، فهو هذا الشيء المجرد من العوائق، هذا هو الشيء الحر، هو هذا الشيء الذي يحدث الراحة النفسية الصادقة، هو هذا الجميل، بل هو في كلمة واحدة: المطلق!!. . .

صبحي شفيق

ص: 9

‌أخوان الصفا ورسائلهم

للدكتور حسين الهمداني

الدكتور حسين الهمداني أستاذ متخصص في التاريخ

الإسلامي، وهذا البحث مما عني بدراسته عناية خاصة، وقد

ألقاه في رابطة الأدباء بالقاهرة، ومما تخصص فيه الدكتور

الهمداني بحث الدعوة الإسماعيلية باليمن. وآثاره في هذين

الموضوعين معروفة في البيئات العلمية العربية والاستشراقية

وله بحوث قيمة في عدة مؤتمرات عقدت بلندن وبألمانيا.

اعتقد أن البحث عن (أخوان الصفا ورسائلهم) - على رغم كثرة ما تعرض له الكتاب طيلة مئات السنين الفائتة، برغم تعدد الآراء والنتائج التي استخلصت منها - لا يزال بحثا غامضا يشوبه كثير من الابهام، ويكتنف جنباته مزيد من التشكك والارتياب سواء كان ذلك من ناحية شخصية الأخوان أنفسهم الذين ألفوا الجماعة، أو كان من ناحية الأهداف التي كونوا أنفسهم وعاهدوا الله على تحقيقها. . .

ولم يصادف التاريخ في حقبة من حقبه جماعة كهذه الجماعة، ظل أمرها خافيا على الناس ملتبسا عليهم. وكثيرا ما قامت في الشرق والغرب جماعات سرية، دينية أو علمية أو سياسية أو إرهابية وكثيرا ما كانت تعمل في الخفاء، لا تعلن عن نفسها، ولا تفصح عن حقيقة أعضائها، ولكنها بعد وقت، طال أو قصر ظهرت، وعلم الناس من أمرها كل خافية. . . إلا جماعتنا هذه، فإنها بقيت إلى اليوم موضع الشك ومثار الإبهام والجدل وموطن الدهشة والغرابة.

ولكن يمكن أن يقال نتيجة لما اتصل بنا من بحوث الأقدمين وأحاديث الرواة، إن هذه الجماعة كانت مجموعة من علماء البصرة، تعاهدوا فيما بينهم في أواسط القرن الرابع الهجري، على إحداث حدث جديد، يقلب الأوضاع التي كانت سائدة، والنظريات المتواترة، دينية كانت أم سياسية عقلية أو نظرية أو مادية. . . وأول من قال بهذا الرأي أبو حيان

ص: 10

التوحيدي في كتابه (الإمتاع والمؤانسة) ثم جاء بعده جمال الدين أبو الحسن القفطي المصري فأورد في (تراجم الحكماء) كلاما طويلا، بل تسجيلا كاملا للحديث الذي جرى عام 983 ميلادية بين أبي حيان وبين وزير لصمصام الدولة، الذي خرج منه بنتيجة هي أن زيد بن عارفة تعهد وهو بالبصرة مع جماعة بينها أبو سليمان محمد بن معشر السبتي المعروف بالمقدسي، وأبو الحسن على بن هرون الزنجاني. وأبو احمد القفطي كان أميناً وحذراً في الرواية، فانه لم يخف في كتابه شكة في حقيقة لجماعة فقال:(ولما كتم مصنفوها أسماءهم، اختلف الناس في الذي وضعها. فكل قوم قالوا قولا بطريق الحدس والتخمين،، فقوم قالوا: هي من كلام بعض الأئمة من نسل على بن أبي طالب كرم الله وجهه واختلفوا في اسم الإمام الواضع لها اختلافا لا يثبت له حقيقة. وقال آخرون هي تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول). والغريب أن القفطي اعترف بإمكان نسبة الرسائل إلى الأئمة العلويين، كما اعترف بوجود مذاهب أخرى، مع أنه استند كثيرا فيما قال إلى كلام أبي حيان.

ولكن يتبين من كل هذا أن تاريخ إنشاء الرسائل تراوح بين سنة 334 و373 هجرية وأن مدينة البصرة كانت مركزاً للجماعة. ولكن لو بعدنا عن القفطي لأعوز هذه النتائج كثير من الأدلة والشواهد. ومم يذكر أن الأخوان تحاشوا ذكر اسم البلدة كما لم يذكروا التاريخ.

وهناك رأى في أن هذه الرسائل ألفها مسلمة المجريطي سنة 398 هـ لأنه قال في كتاب (رتبة الحكيم) ما يأتي: (وقد قدمنا من التأليف في العلوم الرياضية والأسرار الفلسفية رسائل استوعبناها فيها استيعابا، لم يتقدمنا فيها أحد من عصرنا البتة. وقد شاعت هذه الرسائل فيهم وظهرت إليهم فتنافسوا في النظر إليها وحضوا أهل زمانهم عليها، ولا يعلم من ألف ولا أين ألف غير الحذاق منهم. . .

ونحن لا نستطيع أن نسلم بهذه النظرية؛ فكتاب (رتبة الحكيم) ثابت أنه ليس من تأليف المجريطي، بل هو منسوب إليه فقط فقد اثبت العلماء أن هذا الكتاب ألفه شخص غير المجريطي لا نعرف اسمه بعد قرن من وفاة المجريطي. ومن الجائز أن يكون صاحب كتاب (رتبة الحكيم) يشير إلى رسائل أخرى ألفها على نمط رسائل أخوان الصفا، وعلى كل فلو افترضنا انه من يريد من التأليف رسائل أخوان الصفا فالمجريطي ليس هو

ص: 11

صاحب هذه التأليف.

وهناك رأى أخر وهو ما نادت به الدعوة الفاطمية باليمن وهو ينصب على أن هذه الرسائل ألفها أمام من الأئمة الفاطميين المستورين قبل ظهور المهدي بالمغرب هو أحمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق في أيام الخليفة المأمون العباسي، وأول من قال بهذا الرأي الداعي علي بن محمد الوليد الأنف المتوفى سنة 613 هـ (1216) ومن بعده الداعي إدريس عماد الدين المتوفى سنة 872 هـ (1467م) ولاشك أن هذا الرأي يلقي ضوءاً على الصلة بين الرسائل والحركة الفاطمية الإسماعيلية ولكننا لا نعرف شيئا عن هذا الأمام المستور وليس هناك ذكر لهذه الرسائل، فضلا عن ذكر مؤلفها، في الكتب التي ألفت في أيام الفاطميين في مصر أو في غيرها من البلاد الإسلامية.

ومما يثير شيئا من الدهشة أيضاًأن الرسائل كانت خالية تماما من ذكر الفاطميين مع انتساب هذه الجماعة إلى دعوة أهل بيت النبي؛ ومع أن الدعوة الفاطمية طرف متصل بالدولة الفاطمية التي بدأت في المغرب وتسربت حتى مصر وسوريا فليست هناك شواهد داخلية أو خارجية ترمي إلى إثبات هذه النظرية أو إلى صحة هذه العقيدة إلا أن يقال أن الصلة قوية بين الآراء والتعاليم التي تتضمنها الرسائل وعقائد الإسماعيليين، وإلا أن الرسائل كانت مصطبغة تماماً بالصبغة الإسماعيلية نفسها. وقد وصل إلى هذا الرأي كل المستشرقين أمثال كازانوفا، ودى بور، وجولد تزيهر، وغيرهم. .

هذا وقد وجدت رسائل أخوان الصفا كلها كاملة فيما عدا (الرسالة الجامعة) وتعتبر أهمها، حتى جاء المستشرق الفرنسي كازانوفا في أواخر القرن الماضي، وأعلن عثوره على نسخة خطية منها فريدة، كانت صفحاتها الأولى بما تحمله من تعريف بها مفقودة تالفة، فأخذ يدرسها ويبحثه حتى خرج من البحث إلى أنها (الرسالة الجامعة) وهنا أخذ العلماء يدرسون الرسائل من وجهة أخرى حتى اتجه الفكر أخيراً كما قال الأستاذ عبد اللطيف الطيباوي إلى وجود صلة بين الفلسفة أخوان الصفا من جهة وعقائد الإسماعيلية من جهة أخرى وهناك نسخ خطية من هذه الرسائل توجد في مكتبة ميونيخ في ألمانيا وفي دار الكتب المصرية ومكتبة المغفور له أحمد باشا تيمور وفي خزائن ولي الدعوة الفاطمية باليمن والهند. والغريب أن كل هذه النسخ منسوبة إلى الحكيم مسلمة المجريطي ماعدا النسخ المحفوظة

ص: 12

في اليمن. وكانت الدعوة الفاطمية اليمنية تهتم برسالة الجامعة منذ أواخر عهد السلاطين الصليحيين اهتماماً بالغاً. وقد عرفت الرسالة عندهم منذ القرن السادس وكانت تعرف باسم (الجامعة) وهم لا ينسبونها إلى المجريطي، بل يقولون إن الرسالة الجامعة لب الرسائل وروحها؛ وهي الرسالة المذكورة في رسائل أخوان الصفا. وكان الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي المتوفى سنة 557 هـ أول من أشار في كتابه (كنز الولد) إلى الرسالة الجامعة في عدة مواضع ونقل منها عبارات كثيرة.

ولهذه الرسائل أثر كبير في اليمن، حتى لكان الدعاة يعتبرونها بمثابة (قرآن الإمامة) وقد ذكر الشيخ السيفي أنه سمع بعض العلماء يقول: أن رسائل أخوان الصفا هي القرآن بعد القرآن وهي قرآنالعلم، كما أن القرآن قرآن الوحي؛ وهي قرآن الإمامة، وذلك قرآن النبوة.

وقد ادعى أخوان الصفا أن الرسائل تتضمن علوم بيت النبي (صلعم). ويظهر هذا في قولهم: (واعلم يا أخي بانا قد عملنا إحدى وخمسين رسالة في فنون الأدب وغرائب العلوم وطرائف الحكم كل واحدة منها شبه المدخل والمقدمات والأنموذج، لكيما إذا نظر فيها إخواننا وسمع قراءتها أهل شيعتنا وفهموا بعض معانيها وعرفوا حقيقة ما هو مقرون بها من تفضيل أهل بيت النبي (صلعم) لأنهم خزان علم الله ووارثو علم النبوات تبين لهم تصديق ما يعتقدون فهم من العلم والمعرفة. . .)

وقالوا كذلك (من أراد أن يدخل مدينة العلم وجنة الدين فليأت الباب كما قال النبي: أنا مدينة العلم وعلى بابها. ومن أراد أن يستفيد من هذه العلوم فعليه أولا معرفة الباب. وهي معرفة الحدود، ومن عرف حدود الدين فقد دخل الجنة، جنة الدعوة والدين الاختياريإذ لا إكراه فيه)

كل هذا الغموض وهذا الإبهام الذي اكتنف هذه الرسائل مبعثه عدم إفصاح الأخوان عن حقيقتهم، وهذا طبيعي، لأنهم كانوا جماعة سرية غرضها قلب النظام السياسي السائد في العالم الإسلامي وقتئذ عن طريق التأليف، أو عن طريق الأغراء على اعتناق الفكرة. لهذا سعوا إلى بث دعاياتهم في رسائلهم هذه عن طريق الكلام، متفادين اللجوء إلى أي إجراء آخر مما قد يعتمد عليه في الانقلابات التي ذخر بها التاريخ - ولقد أرادوا تغير الأوضاع وقلب النظريات عن طريق إنشاء فلسفة جديدة تخلق جواً وافقاً جديدين بال نسبة للفرد

ص: 13

وبالنسبة للجماعة. وكانوا في هذا كله يسعون بجد واهتمام إلى هدم بناء الدين القديم وتأسيس دولة الخير؛ يصرف الأمور فيها علماء حكماء أخيار. وكانت كل أعمالهم ومحاولاتهم هذه تتم عن طريق خفي مقنع، يمكن أن نقول عنها إنها أعمال كان يشوبها الغموض من كافة نواحيها.

وكانوا كذلك يحاربون أهل الفكر المتزمت، ويطالبون بحرية الفك وحرية القول وحرية الفرد. والغريب إنهم كانوا يطلبون بتحقيق أمور هي في يومنا الحاضر هدف الناس وهدف الساسة؛ وكأنهم استشفوا مغاليق الغيب وعرفوا أن العالم لا ينصلح إذا وضع زمام الأمور في أيدي الشيب (الذين اعتنقوا الآراء الفاسدة والعادات الردية والأخلاق الوحشية مع استبعاد الشباب السالمي الصدور، الراغبين في الآداب، المبتدين بالنظر في العلوم.)

والكلام عن الرسائل وما جاء فيها كلام طويل، إذ تضمنت كثير من العلوم الفلسفية والهندسية والشرعية والأدبية كما تضمنت غرائب الحكم وطرائفها ولسنا اليوم بسبيل التحدث عنها وإنما ستطيع أن نتكلم عن ناحية أخرى من هذه الرسائل ولو أنها ليست في صميمها، وإنما تدور حولها.

فقد قصد الأخوان من وضع الرسائل الدعوة المذهب سياسي وديني جديد، ولكنهم عرفوا إنهم إذا ما قاموا بدعوتهم سافرة فإنها تكون عرضة للقليل والقال، كما تكون عرضة للجدل الرخيص. فأثروا أن يبثوا دعوتهم في تضاعيف أمور أخرى ويقدموها دواء للناس داخل غطاء، فكانوا يبثون دعوتهم في صور مقالات أدبية، وطورا في مباحث دينية، لا تحمل صبغة الدعاية ولكنها تظهر بمظهر البحث العلمي أو الأدبي.

وغريب أن يصل هؤلاء المتقدمون إلى ما وصل إليه العلم الحديث اليوم من تفضيل بث الدعوة في شئ من الغموض أو اللف والدوران، ونحن نجد اليوم الدول الحديث وأصحاب الأفكار ويقومون بنشر ما يريدون عن طريق كتب أو عن طريق المجلات أو الصحف، أو عن طريق معاهد يؤسسونها باسم العلو والدرس والثقافة. وها نحن نرى بيننا وحولنا كثيراً من هذا مما يضيق المقام عن سرده. وكأني بهؤلاء الأخوان قد توغلوا في النفس البشرية حتى وصلوا إلى النقطة الحساسة فيها فعرفوا قبل مئات السنين هذه الحقيقة وعرفوا الطريق الذي يصل بهم إلى الغاية.

ص: 14

وليس فينا من ينكر عليهم أدبهم وغوصهم لالتقاط المعاني واستخلاص الآراء. ولسنا ننكر عليهم توسعهم في المعرفة وامتلاكهم لناصية الكلام والبلاغة والبيان. ولكننا نعرف أنهم كانوا يريدون بث دعوتهم على نطاق وسع ونشرها بين الناس على كافة طبقاتهم، غير مقتصرة على طائفة ولذلك عمدوا إلى وضعها في أسلوب بسيط ممتع تستطيع العامة قبل الخاصة أن تفهمه وأن تستوعبه.

وثمة حقيقة أخرى تظهر بوضوح مدى التفكير البعيد الذي سبقنا الجماعة إليه قبل مئات السنين، فقد حدث أنه بعد أن ألفت الرسائل أرسلت سرا وبواسطة مبعوثيهم إلى بعض الدول الإسلامية. وفي وقت وفي ساعة متفق عليهما ظهرت هذه الرسائل في مساجد هذه البلاد المهمة وأمكن الاطلاع على ما فيها. وقد يكون هذا جائزاً في عصرنا الحالي، عصر السرعة، حيث يقوم التليفون واللاسلكي والطائرة. أما يوم كانت واسطة الانتقال الوحيدة الدابة والجمل فإنه أمر يدعو إلى الدهشة وإلى أعمال الفكر. . . وهكذا سبقنا أخوان الصفا إلى كثير مما عمدنا إليه اليوم، وهكذا سبقونا في الفكرة ثم في كيفية التنفيذ.

حسين الهمداني

ص: 15

‌صور من الشعر الحديث في العراق

للأستاذ إبراهيم الوائلي

الرصافي

وفي قصيدة للرصافي (رقية الصريع) استعراض لموظفي الأتراك والطرق التي يسلكونها لبلوغ المراكز الحكومية والوصول إلى كراسي الوظائف. وتبدأ هذه القصيدة بالحنين إلى العدل الذي طال انتظاره وضاق الصبر عنه، وبالسخط على هذه الحكومة التي انحرفت عن الطريق المستقيم فنشرت الفظائع وكتبت صكوك العدل حبراً على ورق، وجعلت الوظائف سلعة تباع وتشترى، فلا يستطيع شراءها إلا الغني الجاهل بما نهب وارتشى، ويعجب الشاعر من أن هذه السوق التي تباع بها الوظائف وتشري تسمى دار الخلافة:

يا عدل طال الانتظار فعجل

يا عدل ضاق الصبر عنك فأقبل

كيف القرار على أمور حكومة

حادت بهن عن الطريق الأمثل

في الملك تفعل من فظائع جورها

ما لم نقل ونقول ما لم نفعل

ملأت قراطيس الزمان كتابه

للعدل وهي بحكمها لم تعدل

أضحت مناصبها تناع وتشترى

فغدت تفوض للغنى الأجهل

تعطى مؤجلة لمن يبتاعها

ومتى انقضى الأجل المسمى يعزل

فيروح يسري ثانيا وبما ارتشى

قد عاد من أهل الثراء الأجزل

فيظل في دار الخلافة راشيا

حتى يعود بمنصب كالأول

سوق تباع بها المراتب سميت

دار الخلافة عند من لم يعقل؟!

ويعود الشاعر إلى رأيه السالف في هذه الحكومة المستبدة:

أبت السياسة أن تدوم حكومة

خصت برأي مقدس لم يسأل

مثل الحكومة تستبد بحكمها

مثل البناء على نقاً متهيل

ويتفق الرصافي مع الزهاوي في مروق الخليفة العثماني عن هدى النبي وتركه أحكام القرآن. ينفقان في الفكر والأسلوب والاستفهام الذي ينطوي على استنكار شديد لأعمال هذا الخليفة، فقد رأينا الزهاوي يثور على الخليفة ويشجب أعماله وذلك بقوله:

أيأمر ظل الله في أرضه بما

نهى الله عنه والنبي المبجل

ص: 16

ونرى الرصافي هنا يعيد هذه الثورة:

أيكون ظل الله تارك حكمه المنصوص في آي الكتاب المنزل؟

أم هل يكون خليفة لرسوله

من حاد عن سنن النبي المرسل

وقصيدة عنوانها (آل السلطنة) وقد نظمها على اثر المرسوم الذي صدر بزيادة رواتب البيت المالك ومن يمت إليهم بالمصاهرة والقرابة في الوقت الذي كانت تركيا تعاني فيه نقصاً في الخزانة ومن هذه القصيدة:

هم يعدون بالمئات ذكورا

وإناثا لهم قصور مشاله

أما حياة هؤلاء فإنهم:

يأكلون اللباب من كد قوم

أعوزتهم سخينة من نخالة

وهم في حيتهم هذه قد:

حملونا من عيشهم كل عبء

ثم زادوا أصهارهم والكلالة

وهذه الحالة تدعو إلى الألم:

هي منهم دناءة وشنار

وهي منا حماقة وضلاله

وقصيدة عنوانها (تنبيه النيام) وهي لا تقل ثورة وسخطا على القصائد التي مرت:

عجب لقوم يخضعون لدولة

يسوسهم بالموبقات عميدها

وأعجب من ذا أنهم يرهبونها

وأموالها منهم ومنهم جنودها

ولا نريد أن نطيل الأخذ من قصائد الرصافي أيام الاستبداد العثماني فهي كثيرة وكلها على وتيرة واحدة في الحث على النهوض وتحطيم الأصفاد وأغلال العبودية، وفي وصف الظلم الذي كان يقع على العراق وغير العراق من الخلفاء العثمانيين وولاتهم.

والآن ننتقل إلى المرحلة الثانية من شعره السياسي هي مرحلة الدستور. وسنجد الرصافي في هذه المرحلة باسم الثغر مطمئن النفس، هادئ الأعصاب لا جموح ولا ثورة، ولا سخط ولا تذمر لأنه استقبل عهداً جديداً كان يتمناه الأحرار ويعملون من اجله فجاءت الأمنية ناضجة دانية القطوف.

ونحن أن نجتزئ من شعره في هذه المناسبة ما يسمح به البحث وما يكفي في مجال الشاهد. قال في قصيدة عنوانها (بعد الدستور):

ص: 17

سقتنا المعالي في سلافتها صرفا

وغنت لنا الدنيا تهنئنا عزفا

وزفت لنا الدستور أحرار جيشنا

فأهلا بما زفت وشكرا لمن زفا

ولاحت لنا حرية العيش عندما

أماطت لنا الأحرار على وجهها سجفا

وهي قصيدة طويلة يتعرض بها لكامل باشا الصدر الأعظم الذي لم يعط هذه الصدارة حقها واختص بالحكم أنصاره ومعاونيه ونسي البلاد وأهلها حتى اغضب الدستور والأمة فثارت عليه.

نحا أن يتم الدست فيها لحزبه

علينا وظن الأمر فيما نحا يخفى

لقد اغضب الدستور فعلا ونية

ومن أعلنوا الدستور الشعب والصحفا

ثم يخاطب الصدر الجديد ومجلس النواب ويذكره بالعراق وما يجري به:

فيا أيها الصدر الجديد اتعظ به

فإياك أن تطغي وأن تثني العطفا

ويا مجلس النواب سر غير عائر

إلى المجد لا تلقي كلالا ولا ضعفا

ولا تنس مغبر العراق وأهله

فإن البلاء الجم من حولنا احتفا

وقصيدة أخرى عنوانها (تموز الحرية) وتموز هو شهر يوليه وفيه كانت عودة الدستور:

إذا انقضى (مارت) فاكسر خلفه الكوزا

وأجفل بتموز إن أدركت تموزا

أكرم بتموز شهرا إن عاشره

قد كان للشرق إكراما وتعزيزا

شهر به الناس قد أضحت محررة

من رق من كان يقفو إثر جنكيزا

ومن المصادفات الجميلة أن شهر تموز كان فيه انتصار الفرنسيين على الحكومة وهدمهم سجن الباستيل، فالرصافي يتحدث عن هذه المصادفة ويقارن بين انتصار الفرنسيين الثوار وبين انتصار الأحرار الدستوريين في تركيا:

سل أهل (باريز) عن تموز تلق لهم

يوما به كان مشهود لباريزا

كانت لهم فيه لما ثار ثائرهم

بسالة هدت الباستيل مبزوزا

وأن تموز شهر قام فيه لنا

على البقاع لواء العز مركوزا

في شهر تموز صادفنا لم وعدت

بيض الصوارم بالدستور تنجيزا

هي المساواة عمتنا فما تركت

فضلا لبعض على بعض وتمييزا

ويستمر الرصافي على هذا النسق في مدح تموز حتى يتمنى أن ينظم النجوم ويخلطها

ص: 18

بأقلام من الماس ومداد من الذهب على الأفق الرحيب مدحاً لهذا الشهر المبارك.

وقصيدة (المجلس العمومي) وفيها يشير إلى مجلس النواب التركي الذي كان انعقاده نتيجة للدستور:

يا شراق بشرك أبدى شمسك الفلك

وزال عنك وعن آفاقك الحلك

أضحى بك القوم أحرار قد اعتصموا

من النجاة بحبل ليس ينبتك

والقصيدة طويلة يدعو فيها الشاعر إلى نشر العلم والتعليم وتشييد المدارس لأن كل مدرسة تهدم سجنا لمن افسدوا في الأرض أو فتكوا.

ولا نستطيع بهذه المناسبة أن نغفل الإشارة إلى قصيدته: (وقفة عند قصر يلدز) وقد نظمها بعد خلع السلطان عبد الحميد ونفيه إلى سلانيك. وهنا يظهر الشاعر كل ما في نفسه من حنق وغيظ إزاء هذه القصر الذي شهد كثيراً من مصارع الأحرار كما شهد أقصى درجات البذخ والترف:

لمن القصر لا يجيب سؤالي

آهلات ربوعه أم خوالي؟

مشمخر البناء حيث تراءى

باليا مجده بللا الأطلال

لم تصبه زلازل الأرض لكن

قد رمته السماء بالزلزال

ثم يخاطب القصر:

قصر عبد الحميد أنت ولكن

أين يا قصر أين عرش الجلال

أين خاقانك الذي كان يدعى

قاسم الرزق باعث الآجال

ويشير إلى فترة الثلاثين سنة التي مرت بين إلغاء الدستور وعودته:

قد تخونتنا ثلاثين عاماً

جئت فيها لنا بكل محال

تلك أعوام رفعة للأداني

تلك أعوام حطة للأعالي

وبعد وقفة طويلة إلى جنب القصر يودعه بمثل ما حياه:

فابق يا قصر عانس الوجه كيما

ينهض العدل ناشطا عن عقال

إنما نحن أمة تدرأ الضيم وتأبى أن تستكين لوالي

ويلاحظ أن الرصافي حين يتحدث بضمير المتكلمين في كل قصائده مما يدل على أن ميله للدستوريين وانحيازه إلى جانبهم لم يكن في حدود الشعور والتفكير فحسب وإنما كان في

ص: 19

مجال العمل والسعي أيضاً.

هذه نماذج استعرضناها شاهدا على موقف الرصافي من الدستور وهي جزء مما نظمه في هذه المناسبة وقد دلت على ميله الشديد إلى الدستوريين وتأييده لمواقفهم.

هذا الشاعر الذي ثار على الاستبداد غير هباب ولا جل وحمل معول الشعر يهدم به صرح عبد الحميد مع الهادمين حتى استتبت الأمر وأعلن الدستور فاستبشر به وفرح وغنى مجد وجدناه إلى جانب ذلك يمدح الأتراك ويتقرب إلى بعض ولاتهم، وهذه هي النقطة الثالثة التي نحب أن نشير إليها عند الرصافي وندرسها على ضوء شعره لنرى إلى أي حد كان يميل إلى العثمانيين وفي أي نطاق كان يمدحه منهم. الذي تجب الإشارة إليه أن المدح الذي نقصده هنا لا يعني شعره في عودة الدستور الذي كان يستلزم أن يمدح به أنصار الدستور من الأتراك أنفسهم وإنما يعني المدح الذي قاله في غير هذه المناسبة حتى نستطيع أن نعد هذا الشعر مرحلة قائمة بذاتها ولونا يتميز عن الألوان الآخر.

للرصافي في مدح الأتراك قصائد نظمت في مناسبات خاصة كانت تستدعي الشاعر أن يستجيب لها ولم يكن في هذه القصائد كما يبدو - مدفوعاً بدافع الطمع أو الزلفى ولا مأخوذا بالمدح المجرد بل اتفق أن وجدت بعض الحوادث التي هزت إحساس الشاعر وأهابت به إلى أن ينظم فيها. ومن هذه القصائد قصيدة في مدح (حازم بك) والي بغداد وعنوانها (السد في بغداد) وكانت مناسبتها انكسار أحد السدود وتسرب المياه إلى بغداد وقد بذل هذا الوالي أقصى ما تستطيع لدرء الخطر عن المدينة ولم نحد في هذه القصيدة إلا وصفا للسد وحوادث الغرق التي نجمت عن انكساره؛ وفيها بعض الأبيات التي تشير إلى ما بذل الوالي من جهد يستحق التنويه به. وليس في القصيدة أي مدح للدولة العثمانية.

وقصيدة عنوانها (عند سياحة السلطان) نظما في مدح السلطان رشاد عندما ساح في بلاد الألبان ومقدونية إبان الفتن التي كانت تشعلها الأقطار البلقانية وكان للعرب نصيب كبير في إخماد تلك الفتن فكان أن تعرض الشاعر لهذا الحدث ومجد العرب ومواقفهم:

أما بنو العرب فالإخلاص يرفعهم

إلى مقام على الأقوام ممتاز

إذ هم عماد لعرش أنت ماسكه

فاضرب بغاث العدا منهم بأبواز

ولم يكن الشاعر ليمدح السلطان إلا لأنه كان متمسكا بالدستور:

ص: 20

ماذا على ملك الدستور من وطن

لو جال منه بأطراف وأجواز

فالقصيدة أذن مستوحاة من العقيدة الدينية والعاطفة القومية والمبدأ الدستوري وهذه المنابع الثلاثة تكفي لأن يبرر موقف الشاعر هنا.

وقصيدة عنوانها (الوطن والجهاد) قالها عندما الدولة العثمانية في الحرب العالمية الكبرى وقد دعا فيها العرب والمسلمين إلى الجهاد وقد شاركه في هذه كثير من الشعراء آنذاك، ولا لوم على الشاعر في هذه الصرخة ما دام المهابون هم الإفرنج وما دامت البلاد المغزوة هي بلاد المسلمين، وما دام الحكم التركي دستوريا:

يا قوم إن العدا قد هاجموا الوطنا

فانضوا الصوارم واحموا الأهل والسكنا

إن لم تموتوا كراما في مواطنكم

متم أذلاء فيها ميتة الجبنا

لا عذر للمسلمين اليوم إن وهنوا

في هوشة ذل فيها كل من وهنا

ويندد بموقف السلطان حسين كامل ووزيره حسين رشدي باشا في مصر لأنهما شايعا الإنجليز في هذه الحرب ولم يساعدوا الحكومة العثمانية في حربها مع الأعداء:

قل للحسيني في مصر رويدكما

قد خنتما الله والإسلام والوطنا

شايعتما الإنجليز اليوم عن سنه

فالله ما كان هذا منكما حسنا

كما ندد حافظ بثورة الهاشميين على الأتراك بتأييد الإنجليز.

وقصيدة عنوانها (نواح دجلة) وقد نظمها جواب على عتاب الشاعر التركي سليمان نظيف وكان هذا الشاعر قد نظم قصيدة يعاتب بها بغداد على أثر سقوطها بيد الإنجليز فأجابه الرصافي عليها، وقصيدة الرصافي هذه على ما بها من مدح للعثمانيين يبررها كونها مجاملة شاعر لصديقه وكونها نظمت بعد احتلال الإنجليز الذين لم يستقبلهم الشاعر - كأي شاعر آخر - إلا كما يستقبل أي فاتح مستعمر. ويظهر شاعرنا في هذه القصيدة بمظهر الوفي المحافظ على العهود فدجلة بعد العثمانيين قد أصبحت نهبه للعدو الجديد فلا مساؤها مساء ولا صباحها صباح وإنها تتمنى لو يغيثها أولئك الذين ألبسوها تاجاً من فخارهم ووشحوها براية الهلال:

كيف يغضون عن إغاثة واد

زانه من ودادهم اوضاح

فعليه من فخر عثمان تاج

وله راية الهلال وشاح

ص: 21

ومع هذا فان الرصافي لم يترك عاطفة الوفاء تتغلب على نزعته الواقعية التي كانت تهاجم الأتراك وتثور على سياستهم بين حين وآخر؛ فهذا نهر دجلة يتحدث على لسان الشاعر قائلا:

أنا باق على الوفاء وأن كان

بقلبي ممن احب جراح

فإليهم ومنهم اليوم اشكو

بلغيهم شكايتي بأرياح

وإذا كان لا بد أن نقف لحظة مع المنددين بمواقف الرصافي إلى جانب الأتراك فإنما نقف معهم في قصيدته يمدح بها (مصطفى كمال) عندما انتصر على اليونان سنة 1923م أي في الوقت الذي كان يعيش فيه الرصافي تحت ظل الحكم الوطني في العراق وليست مآخذنا على الشاعر أن يمدح مصطفى كمال وهو محرر تركيا من استبداد السلاطين، ولا أن يمدحه في هذا الوقت والعراق ينتقل من استعمار إلى آخر وإنما نأخذ عليه اندفاع العاطفة في أقصى أشواطها إلى تهجين اليونان ونكران تاريخهم القديم وفضلهم على العقل البشري فيقول:

هم اليونان ألأم كل قوم

وأخوف في الوغى من فرخ قبج

أرق سجية منهم وأرقى

حمير الوحش سارحة بمرج

فلا تغررك أوجههم بياضا

فان طباعهم كطباع زنج

وقد يكون عذر الشاعر أن هؤلاء الذين حاربهم مصطفى كامل هم من أوشاب اليونان.

هذا هو الرصافي في مواقفه السياسية؛ وهذا هو الرصافي الشاعر العاطفي كما عرفناه في حدود العاطفة التي لا تخضع لمقياس ولا تسير في خط واحد بل هي كصفحة الغدير تتموج في موكب النسيم وتثور في هبوب العاصفة وتهدأ حين تصفو الأجواء.

ولو أننا درسنا الرصافي في نطاق المتزمتين والسطحيين لأخرجنا الشعر عن طبيعته والشاعر عن مكانته، وليس هذا من النقد النزيه في شيء ولا من حق الشاعر في مكان.

إبراهيم الوائلي

ص: 22

‌هذا الخط المستقيم الذي يفصل بين الوادي

للأستاذ محمد صبحي الحكيم

إنه لمما يلفت النظر الأول وهلة لمن يطلع على خريطة سياسية للقارة الأفريقية تلك الخطوط المستقيمة الحمراء التي اعتبرت وما زالت تعتبر حدودا سياسية. وخاصة ذلك الخط الذي يفصل بين شطري وادي النيل، مصره وسودانه.

وليس الغريب هنا أن يقسم وادي النيل بواسطة خط مستقيم فحسب، ولكن الأغرب من هذا اعتبار الأرضي الواقعة جنوبي هذا الخط قطراً كيانه الدولي. وقد يعجب القارئ إذا عرف أن كلمة (السودان) لم تكن تعني حتى آخر القرن الماضي ذلك الجزء من وادي النيل المعروف بذلك الاسم في الوقت الحاضر؛ ولكن تلك الكلمة كانت اعم وأشمل وقد كانت تطلق على جزء كبير من قارة أفريقيا يمتد من البحر الأحمر في الشرق حتى المحيط الأطلسي في الغرب، وينضوي تحت تلك التسمية ما يطلق عليه الآن أفريقية الغربية الفرنسية والتي مازال يطلق عليها في الأوساط العلمية السودان الغربي.

وقد نص في اتفاقية 1899 على ما يدعم كلامنا هذا؛ فقد جاء في المادة الأولى منها ما يأتي:

(تطلق لفظة السودان في هذا الوفاق على جميع الأراضي الكائنة إلى جنوبي الدرجة الثانية والعشرين من خطوط العرض)

وهكذا أنشأ لوفاق حدوداً صناعية من الطراز الأول بين الشمال والجنوب، وليس أدل على (صناعيتها) من أنها قد حددت بأحد الخطوط العرض في الكرة الأرضية.

ثم اصدر قرار يجعل نهاية الحدود بين مصر والسودان خطاً يمتد غربي النيل على مسافة مائتي متر شمالي البرية الكائنة بناحية أدندان.

وكان نهر النيل قد أبى أن يقطعه خط صناعي مستقيم فكان هذا التجويف في الحدود الذي يدخل حلفا داخل السودان ويخرجها من الأراضي المصرية، وكأن سكان ودي حلفا (سودانيون) ومن يسكنون شماليا (المصريون).

وسواء كان هذا التجويف أو لم يكن فقد فصلت تلك الحدود بين جماعات ترتبط بروابط الدم واللغة والدين هي الجماعات النبوية التي تسكن الجزء من وادي النيل الممتد من

ص: 23

أسوان في الشمال حتى بلدة الدبة في الجنوب. ففي الشمال - داخل الحدود المصرية - بين أسوان وبلدة المضيق يعيش الكنوز الذي يبلغ عددهم 43 ، 000 نسمة. ثم يحتل الفضيكية القرى الواقعة بين كرسكو ووداي حلفا ويقدر عددهم بنحو الثلاثين ألفا. وإلى الجنوب منهم يمتد وطن السكوت والمحس من وادي حلفا حتى قرب دنقلة؛ وهؤلاء كثيراً ما ينتقلون إلى مصر طلبا للرزق، ثم يليهم الدناقلة الذين يسكنون جنوبهم حتى بلدة الدبة.

وإخواننا النوبيون وإن كان المستعمر قد فرق بينهم بواسطة (خطه المستقيم) إلا أن لغتهم تربط بين جماعاتهم المختلفة كما تربط بينهم كذلك وحدة الدين، فقد كان النوبيون أيام الفراعنة يدينون بالدين المصري القديم؛ وفي أيام المسيحية بمصر دخلة الديانة المسيحية بلادهم. ولما دخل العرب مصر بلاد النوبة برمتها بعيدة عن التأثير العربي الإسلامي وتأسست بالنوبة دولة مسيحية بقيت مدة طويلة مستقلة عن البلاد المصرية إلى أن اعتنق أهلها آخر الأمر الدين الإسلامي، وإن كانت اللغة العربية لم تجد الطريق أمامها سهلا معبدا في بلاد النبوبة، فقد ظل النوبيون حتى الوقت الحاضر محتفظين بلغتهم النوبية المتعددة اللهجات

وليت الأمر قاصر على أن فصل هذا الخط بين النوبيين، ولكنه فصل كذلك بين جماعات البشاريين التي تسكن الصحراء الشرقية وتمتد شمالا حتى بلادة دراو وتعيش شعبة منهم شرق أسوان. وقد فرق (هذا الخط المستقيم) بين بطونهم دون مبرر، وفكك وحدتهم دون داع، وخلق المشاكل بينهم بسبب تقسيم الآبار ومناطق الرعي التي تعودوا أن يستفيدوا منها فائدة مشتركة، وجرى العرف بينهم على أن تكون مصادر الماء وأماكن الرعي ملكا مشاعاً للجميع.

وكأن الطبيعة قد أبت مرة أخرى أن يظل هذا الخط مستقيماً، ولكن المستعمر حار في أمر هذه القبائل فأبقى على الخط المستقيم (سياسيا) واختلق حداً آخر إلى جانب الحد السياسي، أو بالأخرى اختلق نوعا آخر من الحدود لم تعرفه دولة من دول العالم قبل ذلك، وهو الحدود الإدارية، وهو خط منكسر يتجه قليلاً في جنوب الحدود السياسية ثم ينحرف كثيراً في شمالها حتى يصل إلى البحر الأحمر، والغرض منه ضمان توحيد الإدارة في أرض القبيلة الواحدة، إما تحت إشراف حكومة السودان وأما ضمن الإدارة المصرية في

ص: 24

الصحراء الشرقية، وإقامة نوعين من الحدود في هذا الجزء أن دل على شئ فإنما يدل على أن الحدود العائمة غير طبيعية، أو بمعنى آخر أن الطبيعة في هذا الإقليم لا تسير الاصطلاح على حدود فاصلة من النوع المعروف الذي تتمشى فيه مقتضيات السيادة القومية مع الضروريات الإدارية المحلية.

ولعل من الطريف أن نلحظ أن مساحة المنطقة التي سلخت من الإدارة المصرية أضيفت إلى إدارة حكومة السودان تبلغ أكثر من تسعة أمثال ما أضيف إلى الإدارة المصرية من أراضى السودان، ومع أن هذا الأمر قد لا يكون ذا خطر كبير أو صغير من وجهة النظر المصرية السودانية إلا أن المصورات والخرائط الجغرافية التي تطبع حديثا في بريطانيا بل التي تقوم بطبعها حكومة السودان ذاتها كثيراً ما تغفل أمر الحدود السياسية ولا تثبت إلا الحدود الإرادية؛ ومع ذلك فان المنطقة التي سلخت من مصر غنية بنباتها، وهناك احتمال أن تكون غنية أيضاًببعض المعادن، فهي قرب البحر الأحمر ويوجد بها جبل علبة وغيره من المرتفعات، فإذا اكتشف بها بعض المعادن كانت مواقعها ومناجمها تابعة للسيادة المصرية من جهة، وخاضعة للإدارة (الثنائية) من جهة أخرى، وفي ذلك ما فيه. وإن كان المستعمر قد حاول أن يتجنب المنازعات بين القبائل والبطون على مياه مراعيهم فهو قد فرق بهذه الخطوط المتداخلة بين جماعات تجري فيها دماء واحدة وهي الدماء الحامية، وتتكلم لغة واحدة هي اللغة البدوية. هذا مع ملاحظة أن جماعات البشاريين إنما هي وحدة ترتبط بباقي قبائل البجاه الأخرى التي تسكن في مصر الصحراء الشرقية بأكملها ويعيشون في السودان الشرقي حتى الحدود الفاصلة بين السودان والحبشة من الناحية وبين السودان وأرتيريا من ناحية أخرى.

وهكذا يتضح جليا أن المستعمر قد تجاهل كل تلك الحقائق في سبيل تحقيق أغراضه ومراميه، وأخيراً قد تجاهل كذلك التاريخ. ولسنا بصدد إثبات تلك الوحدة بين شقي الوادي منذ اقدم العصور ولكن يكفي أن نذكر أن مصر والسودان - منذ أن فتح السلطان سليم الأول جنوب وادي النيل أول مرة عام 1520م ووصلت جيوشه إلى الشلال الثالث، حتى وضع الإنجليز أقدامهم في السودان، كانت مصر والسودان خلال تلك الفترة الطويلة قطراً واحداً لا تفصل بين شطريه حدود، تديره حكومة واحدة، ويخضع لسيادة واحدة، ويذود عن

ص: 25

إقليمه جيش واحد وتسري في شرطيه قوانين واحدة وتشرف على تنفيذها سلطة واحدة ويستمع فيه سكان الجنوب وسكان الشمال بحقوق واحدة. ويلتزمون بواجبات وتبعات واحدة

حقق الله هذه الوحدة المباركة حتى نسمح (هذا الخط المستقيم) من خرائطنا، ويمسحونه من خرائطهم.

محمد صبحي عبد الحكيم

ليسانسيه في الآداب

ص: 26

‌الشعر المصري في مائة عام:

علي الليثي

للأستاذ محمد سيد كيلاني1896 - 1822

- 2 -

في هذه الأبيات يعبر الشاعر عن إحساس داخلي مفعم بالحزن، ويترجم عن شعور صادق فياض بالأسى على ما حاق بالوطن من نكبات الجسام، ويتحسر على أيام الرخاء والصفاء. ويندب مريع الحظ والأنس الذي أقفر. ولا شك في أننا نرى مظاهر الحسرة والألم بادية بوضوح في قوله:

كان إقليمنا رياض صفاء

فيه للواردين أعذب منهل

بساطة في التعبير ولكن لا نكلف ولا تصنع.

وقال:

من رآه يقول توفيق مصر

أبصر الناس بالأمور واعدل

قد أمنا الزمان فيه ونمنا

آمنين الخطوب لا نتململ

وهنا يذكر فترة الرخاء القصيرة التي أشرقت على البلاد قبيل جنوح الحركة العربية إلى الطيش الذي اضر بالأمة المصرية ضرراً بليغاً. وعبارة البيت الثاني ضعيفة، ذلك لأنه قال (أمنا الزمان) ثم قل (ونمنا آمنين الخطوب) والجملتين بمعنى واحد.

وقال:

نتهادى في ضل أسمى مليك

من سجاياه كل خير يؤمل

فسرت أعين الحوادث فينا

فاطرحنا الوقار والأمر أعضل

البيت الأول تامة المعنى. وفي البيت الثاني انتقل إلى لاعتذار فزعم أن الدهر قد حسد المصريين فتركوا ما طبعوا عليه من الهدوء والسكينة. وفي تعبيره بضمير المتكلم في قوله (فاطرحنا) اعتراف صريح منه باشتراكه مع العرابيين في حركتهم. ويظهر في البيتين شعور الحزن والدم. ورد الحركة الغربية إلى الحسد الدهر أمر لطيف واعتذر جميل وقال:

ورأى غرنا من الحلم أمراً

غره فابتغى الذي لا يحصل

ص: 27

وإذا المرء كان بالوهم يبنى

فخيال الظنون ما قد تمثل

وبح قوم سعوا لإدراك أمر

دون إدراكه الجبال تزلزل

والغير هو عرابي الذي اظهر جهلا عظيما وقصر في نظر الشؤون السياسية. ومعنى البيت تافه. والبيت الثاني جيد المعنى أراد أن يجريه مجرى الحكم. أما معنى البيت الثالث فقد ورد في البيت الأول.

وقال:

ما أصروا عليه إلا اضروا

بناس من نابه ومغفل

ذاك يسعى على التقية خوفا

وسواه يسعى لكما يجمل

لو أصابوا الرشاد عند ابتداء

كانت الغاية الجميلة امثل

ذكر في البيت الأول أن العرابيين بإصرارهم على خطتهم قد الحقوا الضرر بالناس أجمعين. وفي البيت جناس بين (أصروا) و (أضروا) وطباق بين (نابه) و (مغفل). وفي البيت الثاني يذكر أن الذين انضموا إلى العربيين كان منهم متطوعون المؤمنون بما يدعو إليه عرابي وزملاؤه ومنهم المكرهون الذي أرغموا على تأييد تلك فشايعوها رهبة لا رغبة. ومعنى هذا البيت مأخوذ من الواقع لا من الخيال.

وفي البيت الثالث يقول لو أن العرابيين منذ بداية أمرهم وفقوا إلى الصواب لحمدت العاقبة. وهو في هذا يستمد من الواقع ويستوحي القول من الحقيقة المرة التي صمدت الأمة. وفي البيت الأخير نرى روحاً وطنياً سامياً. إذ نظر الشاعر إلى هزيمة العرابيين أمام الإنجليز على أنها معرة لحقت بالأمة في حين أن المشايعين للخديوي والراغبين في التزلف إليه اعتبروا هزيمة الجيش المصري في نصر الله الذي جاءهم والفتح، وراحوا يتغنون بفوز الإنجليز وبنجاح أسطولهم وجيشهم في القضاء على العرابيين.

ثم قال:

آه من رقده الحلوم ودهر

أيقظتنا صورفه إذ تبدل

كانت الناس في ظلال نعيم

تجتني من ثمار غصن تهدل

ما لنا لم نقم بجد وتدعو

من عدا للهدى وننصح من ضل

ما لنا كلنا سوى القل منا

قد سلكتا سبيل غار مضلل

ص: 28

قد تساوى الغبي والمتغابي

وعليم من جاهل صار اجهل

هذه أبيات مؤثرة لأنها صادرة من أعماق الفؤاد فيها تأوه وتوجع وتحسر وتفجع وبكاء على ما أصاب الوطن وأهله. ويلوم الليثي العقلاء من المصريين لأنهم لم يسمعوا في إزالة الشقة التي فصل بين الخديوي والعرابيين والتي كانت نتيجتها الوبال والخسران. وهو من غير شك صادق في شعوره، مخلص الإخلاص كله فيما يتحدث به. وفي هذه الأبيات يعترف الشاعر بان المصريين - سوى أقلية منهم - قد أن خرطوا في سلك العرابيين وهو محق فيما يقول:

ثم قال:

قد جبنا وصاحب الجبن جان

وهو بالطبع في الأنام مرذل

لو رزقنا السداد لانسد باب

وحقنا دماء قووم تحلل

كان يا قوته المذاب مصانا

فسقينا به الثرى إذ تهيل

كم غرسنا جماجماً وجسوما

وجنينا الأسى بزلة من زلة

من يقرا هذه الأبيات ولا يذكر الدماء الغزيرة التي تلطخت به ارض الإسكندرية والمحمسة والقصاصين والتل الكبير؟ أجل لقد بكى الليثي بكاء الوطني على هته الدماء التي سفكت والأرواح التي أزهقت. وناح على الأبرياء الذين قتلوا وخلفوا الأسى والحزن وقال:

يا ترى من يقوم عنا بعذر

إذ أطعنا الغواة في كل محفل

حيث حدنا عن المليك وخفنا

سطوة من عداه والقطر مقبل

حيث لا يرفع البريد شكاة

وسلوك السلوك صار معطل

حيرة أدهشت ولى اللب حتى

ما اهتدى للصواب منهم مجمل

ذاك سر القضا وليس عجيباً

أن يحار الأريب فيه فيذهل

في هذه الأبيات اعترف الليثي بأنه أطاع العرابيين ومالأهم. وعذره في ذلك الخوف وعجزه عن إيصال شكواه إلى الخديوي لانقطاع الأسلاك البرقية بين المصر والإسكندرية، وتعطل البريد. وهذا ليس بعذر. فقد كان في استطاعته أن يلحق بالخديوي كما لحق غيره. وكان في قدرته أن ينزوي في ضيعته متمارضاً كما فعلبعض الناس. وهو دون ريب متكلف في هذه الأبيات يقول غير الواقع ويحاول أن يخلق لنفسه عذراًيبرر به مسلكه.

ص: 29

وأخيراً أحال الأمر على القضاء والقدر، وعزا اندفاعه في تأييد العرابيين إلى سر خفي من الأسرار الإلهية. وماذا كان قائلا غير هذا؟ أجل! لم يجد الرجل أمامه غير ما تقدم.

وقال:

غير أنا لما فقنا أرقنا

من شؤون لعيون دمعاً تسلسل

وبسطا اللسان في ذم قوم

إن ذكراهم نغص ونخجل

ومددنا أكف ذل لمولى

شأنه البر كم علينا تطول

آل مصر بغيره لا تلوذوا

إذ هو الملجأ الملاذ لمن ذل

يا عظيم الجناب يا خير ملك

سعده قد أباد من قد تغول

في هذه الأبيات يذكر الليثي أنه لما انتهت الأمور بهزيمة العرابيين أفاق من أحلامه واصطدم بالواقع فبكى ندماً على ما فرط منه. وأخذ يلعن زعماء الحركة العرابية لما جنوه على أنفسهم وعلى مواطنيهم بجهلهم وقصر نظرهم ورعونتهم وطيشهم والليثي في قوله (وبسطنا اللسان. . . الخ) يصور المصريين وقد تنكروا لتلك الحركة وشرعوا يتقربون من الخديوي بالقدح في زعمائها. وفي البيت التالي تصوير لبعض من اتهموا بموالاة العرابيين وقد هرعوا إلى ساحة الخديوي طالبين العفو والصفح. ثم انتقل بعد ذلك إلى مدح الخديوي فخاطب المصريين وحثهم على أن يلوذوا بجانب الخديوي إذ هو خير ملاذ وأطيب ملجأ. وما أظن الليثي قصد مخاطبة المصريين الذين تسابقوا من تلقاء أنفسهم إلى ساحة الخديوي رغبة أو رهبة. إنما أراد أن يظفر بالعفو فنهج نهجاً فيه إغراء للخديوي بتحقيق أمنيته التي يصوب إليها. وذلك بتقريره أن الخديوي هو الملجأ والملاذ لمن ذل. فهذا التقرير فيه حث وإغراء. وفي البيت الأخير يخاطب الخديوي ويمدحه ويقول إن حظه الحسن قد أعان في القضاء على من شق عصر الطاعة من العرابيين. ومن الطبيعي أن يذكر الشاعر شيئاً كهذا في ذلك المقام.

وقال:

من بغى الوغى ثار فحكم

في طلاه الحسام فالطيف فيصل

وأجعل العدل عادل الرمح فيهم

نافذاً قدر ما يعمل وينهل

وأسقهم كالذي سقيناه إنا

قد شربنا من بعد بعدك حنظل

ص: 30

كان الخديوي توفيق يرتاح لمثل الأبيات. ولذلك أكثر الشعراء من تحرضيه على قتل زعماء الحركة العرابية، وإهدار دمائهم. ولو ترك له الأمر لما تردد في قتلهم. وقد جاء الليثي إلى الخديوي من الناحية التي يرتاح إليها، وضرب على الوتر الذي يسره. وذلك لا حقداً منه على هؤلاء الزعماء بل استرضاء للخديوي واسترداد عطفه وهو لم يرى في ذلك بأساً فمصير الزعماء كان قد تقرر. فتحريضه لا يقدم ولا يؤخر، ولا يغير من هذا المصير. وعلاوة على ما تقدم فإن الليثي في هذه القصيدة لم يحزن على الزعماء ولم يبك على ما أصابهم إنما حزن وبكى على ما أصاب المصريين من الكوارث والخطوب التي دهمتهم من جراء قيام الحركة العرابية. أما قوله:

(واسقهم كالذي سقيناه. . . الخ) فظاهر فيه الكذب، وأي حنظل هذا الذي سقيه؟ وكان في استطاعته أن يعتزل في ضيعته. وما قال هذا إلا ليصور للخديوي أن يد العرابيين امتدت إليه بالأذى وأنه قاسى منهم الأهوال وشرب الحنظل، فيرثى للخديوي له ويعطف عليه ويقربه منه إكراماً له وتقديراً على ما أصابه من شر العرابيين.

وقال:

وأغتفر ذلة لمن رغماً

لبلاه ولا منيع يؤمل

كم مليك عفا وأنت المفدى

فوقهم همة فلا تتعجل

وأمنح الناس من سجاياك عطفاً

واجعل العفو موضع الشكر واعمل

فجدير بمجد ذات الخديوي

كل فضل وليس للعذر محمل

ذكر في البيت الأول أنه أرغم على الانضواء تحت لواء الحركة العرابية. ثم أخذ بعد ذلك يلتمس العفو في عبارات في منتهى البساطة لا غلو فيها ولا مبالغة، ولا إمعان في التذلل والخضوع. ثم قال:

فابق واستبق من رعاياك قوماً

أملوا العفو من حياك المسبل

إن تدقق تدق أعناق ألف

بل مئين من الألوف تقتل

والرعايا تضيع بين عدو

وولي له الفخار المؤثل

هكذا ختم الليثي قصيدته هذه، مستمداً ختامه من الواقع. فالذين اشتركوا في الحركة العرابية كثيرون أو كما قال:

ص: 31

ما لنا سوى القل منا

قد سلكنا سبيل غاو مضلل

فلو أن الخديوي قد تشدد لقضى على حياة مئات الألوف. وقد أجاد في الجمع بين بقاء الخديوي واستبقائه لقوم من رعاياه أملوا عفوه. ووفق في استخدام كلمة (رعايا) في هذا المقام. وكأنه أراد أن يقول إن الذين تعفو عنهم ليسوا بأجانب إنما هم وطنيون وممن ترعاهم. فإذا لم يستشعر الخديوي الحلم هلكت الرعية، وكيف يبقى الراعي بغير رعية؟ وكل هذا إغاء للخديوي على ترك الغلو والمبالغة في معاقبة من انضموا تحت لواء عرابي.

هذه القصيدة وإن كانت ضعيفة الأسلوب، واهية العبارة إلا أنها خير ما نظم الليثي. ذلك لأنه لم يكن فيها متكلماً ولا متصنعاً. إنما كان معبراً عن إحساس داخلي وشعور كامن في نفسه. وإذا قارنت هذه القصيدة بقصيدة عبد الله فكري التي نظمها في هذا الصدد لأدركت الفرق بين الرجلين فالليثي بدا في هذه القصيدة وطنياً مخلصاً. بكى على ما أصاب الوطن، وناح وتألم وتوجع وتحسر، وذكر الضحايا والشهداء وقرر أن هزيمة الجيش المصري معرة كبرى لحقت بالأمة أما عبد الله فكري فقد بكى على نفسه وشرع يستدر عطف الخديوي بعبارات الشحاذين. ومثال ذلك قوله:

أيجمل في دين المروءة أنني

أكابد في أيامك البؤس والعسرا

وقوله:

وحسبي ما قد مر من ضنك أشهر

تجرعت فيها الصبر أطعمه مرا

(للكلام صلة)

محمد سيد كيلاني

ص: 32

‌مصر بين التكتل والحياد

للأستاذ ثروت اباظة

(يا عم واحنا مالنا) تعبير يطلقه قوم منا، يحافظون على جهده وما سعهم الجهد، يكفي الفرد منهم أن يلقي إلى داره نظرة وإلى جيبه أخرى حتى إذا اطمئن إلى قوت يومه ورأى قوت الغد على بعد يحتاج منه إلى أيسر محاولة لوى عنه عنقه وأغمض عينيه وأطلق القولة المستكينة (يا عم واحنا ما لنا).

ونحن اليوم نتساءل أنشارك في المعترك الدولي ونصير دولة تؤيد وجودها بالعمل إلى جانب الأمم أم نقبع، في شمالنا الشرقي من أفريقيا ننظر، فإذا أعجبنا أمر استل كتابنا أقلامهم يمدحون، وإن غضبوا شحذوها ناقدين. نتساءل فيما لا تساؤل فيه إن كنا نريد العالم ليقول عن مصر إن شعارها الأوحد (يا عم واحنا ما لنا) فنوما، أو يقظة المتفرج لا يشارك بغير التصفيق أو السخط. . . وإن شئنا من العالم نظرة ترفعنا إلى مستوى الأمم العاملة في الحياة، المشاركة فيها بالسيف والثقافة، وإن شئنا أن نثبت للعالم أن جيوش الفراعنة ومحمد علي هي هي جيوش الفاروق، وأنها ليست - كما يظنون - جيوشا حسها من القتال السير في التوديع والاستقبال. . إن شئنا ذلك فلهم!

ويا أيها الشباب أني أعيذكم وأنتم بواكير الأمل أن تمدوا إلى الأماني أدرعا مسترخية لينة، فإنها - لا عفاها الله - قتالة الحسن، فتاكة الجمال، تبدو في الملاحة المشرقة وتقتل في السكرة المنتشية والإيناس البهيج، ها هي ذي تشير إلينا نحن الشباب أن نهب خلفها مرددين إن مصر قوية بجيوشها، عتيدة برجالها، جبارة بعتادها. . . كلام إن قلناه فارت منا الدماء وثارت فينا الوطنية بعاطفة حادة لا سبيل لنا عليها - حتى إذا أطلقنا فيها العقل وقيدن منها الثائر وجدنا قولنا قولا لا برهان وراءه، فإن أكبر الجيوش اليوم لا تستطيع مطلقا أن تعتمد على نفسها دون مؤازرة الغير.

إن ميزانية تركيا تقارب ميزانية مصر. وتركيا تنفق على جيشها نصف ميزانيتها، وهذه أكبر نسبة تنفقها دولة على جيشها، وقد استطاعت تركيا بذلك أن تكون جيشا يقف مع أكبر جيوش العالم على قدم، ومع ذلك فتركيا تعترف أن جيوشها لا تستطيع إلا أن توقف العدو حتى يدركها المدد. . . فهي في حاجة إلى مدد، وهي في حاجة إلى سند، وهي بذلك

ص: 33

تعترف.

أيها السادة، قال القدماء: إن الإنسان لا يستطيع أن يخرج من ملك ربه، فإذا كان الإنسان هذا المخلوق الصغير لا يستطيع ذلك. فما ظنكم بالدولة؟ هل يمكنها أن تخرج من ملك ربها؟. . . إننا إذا أعلنا هذا الحياد كنا كمن رأى معركة ثائرة تتقاذف فيها الكراسي وتتطاير الأطباق وتتلاحق الهراوات، فجاء هو وجلس بين المتشاجرين، وصاح بأعلى صوته أنا لا شأن لي بعراككم فلا تصلوا إلي بأذى، ثم أغمض عينيه، وأقفل أذنيه، وأطبق شفتيه وأطمئن. هكذا يكون حيادنا. . حياد تحول بيننا وبينه طبيعة الأمور ومجريات السياسة الدولية.

حيادا نريد؟ فما هي الوسائل الواجب علينا لذلك؟ يجب علينا أن نعلن للدول الأخرى بموقفنا هذا، وأصبح لزاماً عليهم أن يخضعوا للقانون الدولي فلا يمدوا إلينا عدوانا. . ولكن إذا اعتدت علينا واحدة من الكتلتين. . . ماذا نفعل؟ نعلم أنه خرق للقوانين واعتداء على الحرمات الآمنة، وانحطاط في المعاملات الدولية. . نعلم ذلك ولكن ماذا نفعل؟. . نرد العدو ونذود عن الحياض، ونمنع الدمار. . ولكن. . وحدنا!! نستعين بالكتلة الأخرى. . لقد كنا محايدين. . سوف نقول لها دافعي عن الحرمات الدولية. . دافعي عن الشرف الحربي. . أدركي السلام العالمي بالحرب المدمرة. . قد تجيب هذه الكتلة وأن يكون الدافع لها واحدا من هذه الأسباب. . ستجيب ولكن لتقتضي الثمن. . الثمن الذي ما نزال نبذله حتى اليوم ولم نوفه. . حريتنا ثم حيادنا. . أي ثمن! تجربة عرفناها. . أنعيدها؟ الأمر لكم.

قد يرد على هذا بأن الأيام غير الأيام، وأن الذي حدث في الماضي لا يحدث اليوم، ولكن ألا ترون إلى موقفنا ونحن نلجأ إلى المدافع عنا كالطفل تمنع عن مساعدة صديقه حتى إذا تعثر صرخ إليه يستنجد فإذا أنجده فإنه لا يلبث ينفض عنه التراب ويسخر منه:(ألم أقل لك. . ألم أحذرك. . أنظر الآن ماذا فعلت بنفسك) كرامة مبذولة. . وخزي كبير!

قد تسارع الكتلة الأخرى إلى النجدة ولن تفعل إلا عن أنانية. . تسارع ولكن هذه المسارعة لن تكون مضمونة النتيجة؛ فهم لم يدرسوا في السلم وسائل الدفاع فرد العدو سيكون أمرا يقرب إلى الاستحالة وحجتهم في يدهم هكذا كان الأمر مع بلجيكا وهولندا.

أيها السادة. . أنحن الآن على حياد؟ أنشارك في كل هذه المؤتمرات ونقتبس من الغرب كل

ص: 34

هذه الثقافات ونسمي أنفسنا على حياد؟ أي حياد؟

لعلكم نسيتم ذلك الحياد الذي إلتزمته بعض الدول في الحرب العالمية الأخيرة فكان هتلر يلتهمها الواحدة بعد الأخرى. . إن الأمم المحايدة حبات من الذرة يمر بها الديك فلا يبذل غير نبشة مخلب وانحناءة رأس ليلتقطها. . أما هذا الديك فقد أثبتت الحوادث العالمية وما تزال تثبت أنه ما تكون إلا من تكتل وتضامن.

إن الحياد أيها السادة أصبح تقليدا عتيقا أشبه ما يكون بموظف ترك الخدمة فأصبح ولا عمل له إلا قهوة وطاولة في انتظار الصباح، وجريدة وشيشة في المساء. . فهو يقضيها أيام انتظار بلا أمل. . ويقطعها أمسيات نوم بلا غد. . ولن تصبح مصر أمة على المعاش وشيوخها شيوخها، وشبابها أنتم، ومليكها الفاروق.

ثروت أباظة

ص: 35

‌الأزهر في مفترق الطرق

للأستاذ احمد الشرباصي

من شرائط الوصول إلى الحق، والتوفيق لكلمة الصدق، القصد في النقد، والاعتدال عن الحكم، والنزاهة في الرأي، والنأي عن الاستجابة لعاطفة قوية أو غي جامح! وكم من حقوق ضاعت بين الهوى المفرط والبغض المفرط؛ وكم من صيحات إخلاص بعضها مخلص ضاعت فلم يستجيب لها أهلها بسبب ما اكتنفها من شدة أو إسراف!. .

لقد فسحت (الرسالة) الزهراء صدرها الرحيب للأقلام الناشئة والقديمة على السواء لكي تصولوتجول في الحديث عن الأزهر والأزهريين، واشترك في هذا الميدان الأزهري الشاب والأزهري العجوز والأزهري الوسط؛ وتلك عناية مشكورة تبديها الرسالة الغراء بالأزهر، أو بمعنى أدق تعيدها، فليست الرسالة بجديدة العهد والصلة بالأزهر، فمنذ سنوات وسنوات وهي تهتبل الفرص والمناسبات لتذكر بخير أو تدعو الأزهريين إلى معروف، فشكر الله لها، وجزاها خير كفاء ما قدمت وتقدم.

لكني لاحظت على كثير ممن كتبوا أنهم غضبوا لنقص موجود أو عيب أو حق مضيع، فشرعوا رماحهم المسنونة، بدل أن يشرعوا أقلامهم الرفيقة الرقيقة؛ فشنوها حربا قاسية على الأزهر. والأسلوب إن حمدناه عند دواعي اليأس والرغبة في إثارة الهمم واستنهاض العزائم، فلن نحمده حين يكون المقام مقام بحث عن حقيقة، ووصول إلى فكرة، وتحديد لهدف، واتفاق على وجهة إصلاح!. . وكيف يتأتى ذلك والأقلام المشبوبة قد صورت أن الأزهر قد خلا من معناه، ومن رجاله الجدراء به، ومن الكتاب الصالح فيه، ومن المدرس الصالح له، ومن الطالب المعتز به، و. . . ماذا بقي بعد هذا من الأزهر المسكين حتى يحكم عليه بالوجود، أو بعدم الوجود؟. . لم يبق اللهم إلا هذه الأحجار المرصوصة التي نالت منها يد الزمان ما نالت، ونالت منها يد المصلحين أو المبدلين ما نالت هي الأخرى، وما أهون هذه الأحجار مجردة في نظر الناس ونظر التاريخ!. .

وهل حقيقة أفلس الأزهر كله من رسالته وجماعته وكتبه ومدرسيه؟. . فلنتريث في الجواب حتى نعرف فصل الخطاب!. . لا جدال في أن الأزهر الشريف كان قبل النهضة المعاصرة يغط في سبات عميق، وكان مقطوع الصلات بالحياة والأحياء، وكان أشبه بالأثر

ص: 36

الكريم العزيز على قومه، لا ينتفعون منه ولكنهم يبقون عليه إجلالا للماضي وهيبة من التبعة ورجاء للمستقبل. . ثم تنادي الغير المصلحون بوجوب إخراج الأزهر من عزلته فخرج بلا شك. . صدرت من أجله القوانين وغير ت النظم واستحدثت الوسائل وجددت الأشكال والمظاهر، وحذفت كتب وجاءت كتب، وطمعت طرق التدريس فيه بما طمعت.

وخدع الأزهر بريق التجديد فأنطلق في سبيله عجلان لا يتلبث، وأسرف في هذا التجديد بلا تحديد، أو بلا تفرقة بين التجديد في المفيد والتجديد البعيد عن الجوهر والأصل، حتى أشفق بعض الناس على الأزهر الشرقي العربي الإسلامي المصري من هذه الوثبة الواسعة التي لا تطيقها قدماه اللتان طال بهما الوقوف والسكون، فدعوا الأزهر إلى التأني والالتفات إلى الوراء، لعله ترك خلفه ما هو أولى بعنايته واهتمامه مما يخطف بصره من بريق يتطلع إليه في الأمام.

ووقف الأزهر حائر مبلبل الفكر تائه اللب، يريد أن يرضي دعاة التجديد فيسمى نفسه جامعة، ويرسل بعوثه إلى أوربا، وينشئ كليات ومعاهد، ويقيم معامل وملاعب، وغير ذلك من أشكال وأنماط، ويريد أن يرضي أيضاًدعاة القديم فيدرس كتب القدماء، ويعني بالمتون والشرح والحواشي والتقرير، ويتزمت في التقيد بآراء السالفين حتى فيما تحسن فيه الحرية كالأدب والبلاغة وعلوم البيان. . ومن هنا يستطيع من يريد أن يلتمس للأزهر وجوه محافظة وإيثار للقديم أن يجد ما يريد من الشواهد والبراهين، كما يستطيع من يريد أن يصف الأزهر بالتجديد أو بالتجديد في الشكل دون الجوهر والأصل أن يجد ما يدلل به على ما يقول.

ونستطيع نحن أن نقول إن الأزهر الآن في فترة بلبلة واضطراب، فلا هو بالقديم ولا هو الجديد، وحتى اليوم نستطيع أن نقل إن الأزهر قد عرف طريقه المستقيم بين أنصار القديم وأنصار الجديد؛ فقد جدد فعلا ولكن التجديد في الغالب كان في الأساليب والأوضاع لا في المنهاج والأهداف، واستحدث فعلا ولكن على سبيل الاقتناع أو الاستقلال. وحسبك دليلا على هذا أن الأزهر في الغالب ينتظر حتى يتصرف سواء ثم يسير على خطاه!

والأزهر محافظ فعلا رغم هذا التجديد، فروحه وكتبه وأفكاره وطرزه في تناول الأشياء وأحكامه على أمور الحياة وخاصة عند الكبار، كل هذا لا يزال وثيق الصلة بالماضي،

ص: 37

عريق الجذور في تربة السلف!. .

لكن هل معنى هذا أن الأزهر مختلف أو جامد أو ميت؟ لا، فالأزهر سائر حتى يأخذ طريقه إلى ما يريد، أو إلى ما يراد له، يستقيم على طريقة حينا، ويتعثر في خطواته بسب الأعاصير أو الأضاليل أحيانا، ولا أزيد!

وهل معنى هذا أن الكتاب في الأزهر لم يتغير ولم يتبدل؟. كلا، فقد تبدلت الكتب وتغيرت، طبعت الكتب الصفر طبعة جديدة، ونقحت وهذبت وعلق عليها وترجم لرجالها، وحدث فيها بعض التغيير والتجديد، وإذا كان هذا لم يخرجها بأكملها عن صورتها الأولى فليس ذلك بضائرها في فترة نعتبرها فترة تجربة وانتقال من حال إلى حال في تاريخ الأزهر الطويل. . . كذلك ظهرت في الأزهر كتب جديدة لها قيمتها العلمية، وأنشأها رجال في الأزهر لهم مكانتهم وثقافتهم، ونستطيع الآن لكي نقتنع بهذا أن نتذكر كتب أمثال الأساتذة الإجلاء شلتوت ومحمد يوسف موسى والصعيدي وغلاب وحامد مصطفى والبهي وماضي وعنتر ومحيي الدين والمدني والنجار ويوسف الشيخ وحامد عوني وغيرهم.

كذلك في الأزهر بلا شك اليوم كوكبة معجبة من الأساتذة المدرسين، وأغلبهم من الشباب، وهؤلاء فيهم الثقافة والدرية وسعة الأفق والشوق إلى العمل والاصلاح، ولكن حوائل كثيرة تقف في وجوه هؤلاء فلا تمكنهم من تحقيق ما يريدون من أحلام وآمال؛ فإذا أردت إيقاعي في (شر عملي) وسألتني ومنذا الذي يقيم تلك الحوائل؟. قلت لك: ارتفع في الصفوف العليا ثم اسأل!. .

قد تسألني: وما عيوب الأزهر إذن؟ فأوجز لك قائلا: عيوب الأزهر هي الحيرة بين القديم والجديد، انقطاعه عن متابعة الحياة، وتفرق وجهات النظر فيه، وتوتر العلاقات الداخلية بين أهليه، ومتابعته متابعة التسخير لسواه، وانصراف الطلاب عن رحيقه لانشغالهم بغيره من جاذب الحياة؛ فمن للأزهر بعد كل هذا؟. . له الله!. .

احمد الشرباصي

المدرس بمعهد القاهرة الثانوي

ص: 38

‌رسالة الشعر

لقاء على بعد

للأستاذ محمد محمود عماد

تلاقينا؟ نعم! دون اتفاق

وما كنا لنأمل في التلاقي

لقد رضنا النفوس على فراق

وكانت لا تقر على الفراق

رضينا بالذي يرضاه منا

عذول، عذله مر المذاق

عجيب يا منى قلبي لقاء

يريني البدر في وقت المحاق

هما القلبان قادانا لحفل

فجمعنا على غير اتفاق

فأيقظت الصبابة وهي وسني

وآذنت اللواعج بانطلاق

ولم أنظر إليك إذا نظرت

وما أوحيت ما يوحي اشتياقي

خشيت على العيون إذا تلاقت

تسر بما تسر إلى الرفاق

خصصت بنظرتي كلا عداك

ولست، ومن عداك، على وفاق

ووجهت التفاتي كل صوب

ولكن، غير وجهك لم ألاق

ومرت محنة عانيت فيها

صراعاً بين قلبي والمآقي

تجاهلت التي اصبوا إليها

وذلك بدء عهدي بالنفاق

لقد لاقيتني فلقيت شوقي

وقد خلفتني والشوق باق

محمد محمود عماد

ص: 39

‌مناجاة نفس.

. .

(مهداة إلى الناقد العربي الكبير الأستاذ أنور المعداوي)

للأستاذ عبد القادر رشيد الناصري

يا نفس كفى الأنين

واحتفلي بالنغم

هذا المساء الحزين

يوحي إليك السأم

ما لك لا تهجعين

وتقبرين الندم

أأنت ماء وطين

أم زفرات الضرم

ما أنت إلا جنين

على ضفاف الألم

والروح إلا سجين

فاستبشري بالعدم

يا حلماً في السنين

طاف ولما ينم

حبك لو تعلمين

من حي لحم ودم

يا نفس كفى الأنين

واحتفلي بالنغم

هذا المساء الحزين

يوحي إليك السأم

ما لك لا تهجعين

وتقبرين الندم

يا نفس حب الحياة

حب لعوب هلوك

أتعبدين الإله؟!

كما عبدت الملوك

نحن كآل الفلاه

أو كضباب الشكوك

أحلامنا. . ويلتاه

نجم هفا للدلوك

كما تلظت شفاه

والقلب نبع ضحوك

يا نفس كفى الأنين

واحتفلي بالنغم

هذا المساء الحزين

يوحي إليك السأم

ما لك لا تهجعين

وتقبرين الندم

يا نفس عمر الورى

ذبالة تحترق

فاستعصمي يا لذرى

وحلقي في الأفق

لا تستحبي الكرى

ولا تلبي الغسق

ص: 40

صبراً فكم في الثرى

قبر لنجم خفق

لتنتهي في السرى

أحلامنا يا شفق

يا نفس كفى الأنين

واحتفلي بالنغم

هذا المساء الحزين

يوحي إليك السأم

ما لك لا تهجعين

وتقبرين الندم

يا نفس كفى الدموع

ما لك كالذاهلة

كما ستفنى الجموع

تفين يا جاهلة

نمضي وما من رجوع

قافلة. . . قافلة

أما كرهت الهجوع

والوحدة القاتلة

انطلقي فالربيع

أفراحه حافلة

يا نفس كفى الأنين

واحتفلي بالنغم

هذا المساء الحزين

يوحي إليك السأم

ما لك لا تهجعين

وتقبرين الندم

يا نفس ولى الشتاء

واستيقظ البرعم

هيا لرشف الضياء

صفيك الملهم

لبي السنا والسناء

ليلك لا يرحم

روحي تهوى الصفاء

وهي به تحلم

فضمها باشتهاء

يا غيم يا أنجم

ص: 41

‌الأدب والفن في أسبوع

للأستاذ عباس خضر

حيرة الجيل الجديد في الأزهر

أمامي الآن كومة من رسائل الطلبة في كليات الأزهر ومعاهده، أمطرني بها البريد في هذين الأسبوعين منذ أثرت موضوع المؤلفات القديمة التي يعتمد عليها الأزهر في دراسة العلوم الدينية واللغوية. وقد عشت ساعات مع أصحابها في آلامهم ومشاعرهم وليست حالهم التي يصفون غريبة عني، فقد كنت قريباً منها ومررت بها وبلوتها، وأحمد الله على أن ضقت بها وطلبت منها الفكاك، وكان لي ما أردت، ولكن هذا الموضوع الذي أثرته في (الرسالة) وهذه الرسائل الكثيرة التي يتحدث إلي فيها هؤلاء الشباب حديث الصراحة والصدق والألم جعلتني أندمج في هذه المشاعر وأحس كأني معهم فيما يعانون.

هذا (جمعة الباكي) بعد (ضياء الحائر) وكلاهما في كلية الشريعة، يبكي جمعة مما يحير ضياء. يبكي مما يلقاه في كتاب (الهداية) من أبواب العتق والتدبير ولا ستيلاد، ولا عتق ولا تدبير ولا استيلاد في هذا العصر، ويبكي من (التلويح على التوضيح على التنقيح) الذي تعاقب فيه ثلاثة، وصح ثانيهم ما نقح الأول، ولوح الثالث على توضيح الثاني، وقد نشط هؤلاء في التقيح والتوضيح والتلويح من نحو سبعة قرون، لنعيش نحن الآن عالة على ما صنعوا بلا تنقيح أو توضيح أو حتى تلويح. . .

وهذا (أحد ضحايا الكاكي بمعهد فاروق) يبدأ رسالته بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. . لأنه يشعر أن الشك بدأ بداخله بعد أن قرأ كتاب (الجوهرة) في علم التوحيد! وقد كان من قبله قوي الأيمان، فأصبح لا يكتب رسالة إلا صدرها بالإقرار بالشهادتين ليطمئن نفسه بأنه ما زال مؤمنا. . وهو يشكو من (الكاكي) وأقواله في المجاز العقلي من الشكوى.

وكثير من الطلبة ينقلون إلي نتفا من تلك الكتب، يستدلون بها على ما فيها من تعقيد وعقم وبعد عن الحقائق العلمية المسلم بها في عصرنا وعما يجري في واقع حياتنا. يقول (ع. م. ج بمعهد طنطا الثانوي): إن في الأزهر كتبا يقول فيها أصحابها إن الأرض يحملها حوت اسمه بهموت! ويقول بعضهم في (تفسير النسق) إن (ن) في قوله تعالى (ن والقلم وما

ص: 42

يسطرون) هو اسم ذلك الحوت! ويورد (محمد عبد العزيز عمر الطالب بمعهد أسيوط) مسائل غريبة من الفقه، منها: مات رجل وترك نصف بنت أو نصف بنت الابن فما نصيب كل من الميراث؟! ومنها: لا يجوز لحيوان البحر أن يتزوج إنسية. . . ومنها: لو وجد الإنسان قشر رمان أو نواة ملقاة على الأرض يجب عليه أن يحتفظ بها وينادي على أصحابها أربعين يوما! وأقول إنه لم يترك أحد نصف بنت، ولن يجرؤ (السيد قشطه) على أن يخطب بنت حارسه في حديقة الحيوان، ولكن الذي ينادي على من فقد قشرة رمان ومن سقطت منه نواة، فانه سيقضي بقية الأربعين يوما وما بعدها في مستشفى المجانين بالعباسية، ما في ذلك شك. وقد ذكر أيضاًفرضا فقهيا مضحكا تمنع الآداب العامة من شره. وجاءت هذه المسائل أيضاًفي رسالة (سلطان بمعهد أسيوط) يستدل (ح. ي. ع بمعهد الإسكندرية) على ما يعي الطالب الصغير من الخلط بين مسائل الفقه والنحو والصرف، والتاريخ بعبارات لا يستطيع إلا حفظها من غير فهم، قال المصنف في المتن (العاقلة أهل الديون) فجاء صاحب الحاشية يقول شارحا:(وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان، وهو جريدة الحساب، وهو معرب، والأصل دوان فأبدل من المضعفين باء للتخفيف ولهذا يرد في الجمع إلى أصله فيقال دواوين ويقال إن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين في العرب أي رتب الجرائد للعمال كما في المصباح) ثم قال المصنف (يؤخذ ذلك من عطاياهم) فجاء صاحب الحاشية يشرح: (جمع عطاء وهو اسم لما يخرج للجندي من بيت المال في السنة مرة أو مرتين والرزق ما يخرج لهم في كل شهر وقيل يوما بيوم جوهرة لأن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء أولى من إيجابها في أصول أموالهم لأنها أخف وما تحملت العالقة إلا للتخفيف) وإني والله لأعجب أشد العجب، لا من مؤلفي هذه الكتب، فقد كانت تلك مسائلهم، وكان ذلك عصرهم وطابعهم العلمي، ولكن العجب من هؤلاء (المعاصرين) الذين يقولون بأن هذه الكتب تقوي المدارك وتنمي المواهب! لنفرض أن المعجزة وقعت وفهم الطالب الصغير تلك العبارات، فما هو الخير الكثير أو القليل الذي يحصل عليه منها! وكيف يوفق بين ما تدل عليه من أن الذين يتحملون دبة القتيل هم زملاء القائل في الجيش. وبين ما يجري عليه معالي الفريق حيدر باشا في تنظيم الجيش المصري الحديث؟ فهل هذا يقوي المدارك والمواهب أو يحيرها ويحطمها؟ لكم الله أيها

ص: 43

الحائرون!

ويعجب (ح. س. ع) أيضاًمن إصرار كتب الصرف على تصغير (قهبلس وشمردل وهبخ وحبنطى) وحق له العجب، فهو إن عرف مدلولات هذه الكلمات فأنه لا يجدها في حياته مكبرة أو مصغرة، ولو نطق بها في خارج الأزهر لسخر منه الناس.

ويقول عبد العزيز محمد قاسم بكلية الشرعية: (إن الطالب في كلية الشرعية يدرس المعاملات ضمن مقرر الفقه، ولا تظن يا سيدي أنه يعرف شيئا مما حدث ويحدث من معاملات في أيامنا، وأقرب مثال لهذا أننا ندرس (الشركة) وكل ما نعرفه أنها تنقسم إلى عنان ووجوده ومفوضة، أما الشركات المساهمة وشركات التأمين وغيرها من الشركات القائمة وهل هذه تحت تلك وما حكم هذه الأنواع في الشريعة الإسلامية، فكل هذا لا نعرف عنه شيئا).

ويعبر (حسين علي ريحان بمعهد الإسكندرية) عن متاعبه في تلك الدراسة بعبارات شاعرية مؤثرة، ويعتب على الأستاذ (دنيا) لأنه (وصف ما يقوي السعال لا ما يزيل الصداع) ويدعو الله أن يسامحه.

وفي الرسائل نقد لاذع للأساتذة والرؤساء، على نحو ما بين الأستاذ (أزهري عجوز) في العدد الماضي من (الرسالة) ويبلغ بعضه حد العنف، ويدل ذلك على روح السخط الشامل، كما يدل على الهوة السحيقة التي تفصل العقلية الجديدة عن العقلية القديمة. وينصف بعضهم الأساتذة الذي تخرجوا حديثا، يقول (م. م. ح بكلية اللغة العربية):(ومع ذلك فهناك طائفة من الأساتذة التي تخرجت حديثا ولم تحرم نفسها من الاغتراف من منهل الثقافة العصرية والعلوم والمعارف الحديثة. هذه الطائفة وإن تكن قليلة جداً في هذا الجيش اللجب إلا أنها يرجى منها الخير وينتظر على يديها الإصلاح لو سلم لها زمام القافلة وشاركت في إدارة الأزهر، ولكن متى يتاح لها ذلك؟ إن كل من يشتم منه رائحة التجديد والإصلاح في الأزهر يقصى إقصاء تماما. . . الخ)

والرسائل على العموم ناطقة بروح التوثب والتطلع إلى مجاراة العصر، وفي كثير منها رغبة حارة في تعلم اللغات الأجنبية. وهي في جملتها تدل على وعي وحسن تقدير للأمور، وفيها شعور بالمدى الواسع بين ما يقضي عليهم به من (النفي العقلي) إلى عصور التأخر

ص: 44

التي ألفت فيها تلك الكتب وبين ما يجدونه من تقدم العصر في العلوم والفنون والآداب، وفيها غير ما أنيت به من الملاحظات السديدة، وهناك رسائل أخرى كثيرة عدا ما أشرت إليه، ويؤسفني أن تحول دون عرض كل ذلك خشية الإطالة.

وبين هذه الرسائل الكثيرة رسالتان من طالبين (مجتهدين) أحدهما (محمد السعيد بكلية الشريعة) وهو يرجع شكوى (ضياء الجائر) إلى قرب الامتحان وإهماله الاستذكار في أثناء العام الدراسي. . . ويقول إن رسالة الأزهر هي المحافظة على هذا القديم والثاني (مأمون يس عبد الملا بمعهد أسيوط) وهو يقول: لا تلوموا العلوم نفسها ولوموا إن استطعتم من زدها تعقيدا عن مشايخنا المدرسين، فذلك قول الحق الذي فيه تمترون) ويقول (فإن أنكرتم بعد هذا قولي وقلم أساطير الأولين اكتتبها، فنقبوا في الوجود عن عباقرة الأدب العربي ثم ارجعوا إلي وهاتوا ما عندكم من علم إن كنتم صادقين، سئلوا العقاد والدكتور طه عميد الأدب والأستاذ أحمد حسن الزيات أمير البيان؛ هل منهم من لم يقرأ كتب الأزهريين، لا، لا تسألوا هذا ولا ذاك فقد حكمتم حكما قديرا، ما أخاله إلا وقرأ كتبكم وزيادة عليها، ألا وهو الأستاذ عباس خضر (هنا ثناء يخجل ذكره تواضعي!) وأنا منتظرون)

حقا - يا سيدي عبد الملا - إن هؤلاء قرءوا كتب الأزهر ومنهم من كان في الأزهر فعلا، ولكنهم ضاقوا بها وكان لهم عراك معها، وقد خلصوا منها إلى الأدب والثقافة العصرية، ولو أنهم ظلوا عاكفين عليها لكانوا كمن ذكرت من المشايخ، ولكن الله سلمهم، فكانوا من المنتجين النافعين، نفعنا الله بآدابهم آمين ذلك كله، وفي نفس بقية.

مناظرة في الحياد والتكتل

أقام الاتحاد العام لجامعة فؤاد الأول يوم الأربعاء الماضي بدار الحكمة مناظرة برئاسة معالي الدكتور محمد صلاح الدين بك وزير الخارجية، موضوعها:(من مصلحة مصر التمسك بسياسة الحياد في الوقت الحاضر) أيد الرأي سعادة الأستاذ فكري اباظه باشا والأستاذ أحمد هيكل والآنسة ثريا الحكيم، وعارضه الأستاذ حسين كامل سليم بك والأستاذ ثروت اباظه والآنسة ثريا الجبالي.

ويخيل إلي أني لمحت (بين السطور) هذه المناظرة معاني قد تكون مقصودة الموضع من موضوعات الساعة، والرئيس وزير الخارجية، والوزارة وزارة شعبية، فهل أريد دس

ص: 45

المسألة على نمط أدبي، ومعرفة رأي الجمهور من المثقفين؟ أولا يدل قيام المناظرة على أننا الآن غير مرتبطين بما يجعلنا مع هؤلاء أو هؤلاء، وإنما نحن، وقد أبطلنا ما استنفد أغراضه، ندير الرأي فيما ترى المصلحة في الأخذ به.

بدأت المناظرة بكلمة الأستاذ مبروك نافع رئيس لجنة المناظرات والمحاظرات باتحاد الجامعة، فأعرب عن اغتباطه لتقدمنا في الديمقراطية حتى صار الوزير يرأس المناظرات العامة، ثم أراد أن يقدم المتناظرين، ولكن الرئيس ينهض قائلاً: يظهر أن ديمقراطيتنا وصلت إلى أبعد من رآسة الوزراء للمناظرات، وصلت إلى أن يهمل الوزير وهو رئيس المناظرة فلا يترك له حتى أن يرد على الشكر. .

واتبعت طريقة جديدة في تقديم المتناظرين، فأبتدئ بالأقل. . وقد حار الأستاذ نافع في التمييز. . فأسعفه أحدهم قائلا: الأقل سناً، وجاء ترتيب الأستاذ فكري اباظه باشا في الآخر! فهل كان ذلك مدبراً لشاغبته. .؟

وقد وفق جميع المتناظرين في تناول الموضوع، وكان حديثهم منسقا، وعبارتهم فصيحة، وخطاباتهم بارعة، وكانت الآنستان مدعاة للإعجاب، وخاصة الآنسة ثريا الحكيم فهي خطيبة معبرة بنبرات صوتها وحسن جرسها مع فصاحة في النطق والتعبير. وكان من مظاهر الديمقراطية في المناظرة أن اتخذ الأستاذ ثروت اباظه مكانه في الصف المعارض أمام عمه فكري اباظه باشا، وقد جال جولته في موقف خطابي بارع، ولكنه لم يسلم من طعنات عمه التي سددها إليه وإلى زميلته الآنسة ثريا الجبالي، ولم يكف فكري باشا عن الخطابة بعد أن جلس. . فقد كانت إشاراته الصامتة الناطقة تدحض كل حجة يأتي بها معارضه حسين كامل سليم بك وكان الأستاذ أحمد هيكل لبقاً عندما قال إنه واثق من وطنية المعارضين وأنهم يرون فيما بينهم وبين أنفسهم ضرورة الحياد لكنهم يريدون أن يهيئوا الفرصة لمناقشة كل ما يمكن أن يقال في معارضته.

وقد كانت حجة المؤيدين - على وجه الإجمال - أننا لا مصلحة لنا في الانحياز إلى أحد، وأنه الخير لنا ألا نعرض أنفسنا للأخطار والأضرار التي تأتينا من الجهة التي ننحاز ضدها، وأن خطر الحرب والاعتداء علينا محقق إذا انضممنا إلى أي فريق ولكنه متوهم إذا وقفنا على حياد، فكيف نسعى إلى الضرر المحقق خوفا من المتوهم؟ وأن موقع مصر

ص: 46

في مفترق الطرق بين أمم العالم، وموقع قناة السويس منها، يحتم لسلام العلم أن تكون مصر محايدة، ومن الظلم أن تقوى جانبا لهزم آخر لا جريرة له عدها. وضرب المؤيدون لأمثال بالأمم المحايدة، مثل تركيا وسويسرا وأسبانيا، التي تجنبت بحيادها ما لحق بالأمم المحاربة من الخراب والتدمير. وقد تساءل فكري باشا: إلى من ننحاز؟ إلى الإنجليز ونحن نجاهد للتخلص منهم، أم إلى الأمريكان مؤيدي إسرائيل في فلسطين، أم إلى روسيا سعياً إلى فوضى الشيوعية، وقال: لسنا استعماريين ولا رأسماليين ولا شيوعيين، فما مصلحتان إذن في الانضمام إلى أي من هؤلاء؟

أما المعارضون فقد قالوا بأنه لا ينبغي أن نظل بمعزل عن المعترك حتى يدهمنا الخطر، فنضطر إلى ارتجال الخطط، ولن نستطيع وحدنا أن ندفع العدوان فنستنجد بمن يقتضينا الثمن من كرامتنا وحريتنا. وضرب المعارضون الأمثال بالدول التي كانت محايدة، مثل بلجيكا وهولندا، وظنت أن حيادها ينجيها، ولكن هتلر التهمها واحدة بعد واحدة. وقد شبه الأستاذ ثروت اباظه المحايد بموظف ترك الخدمة يقضي وقته بلا أمل في القهوة بين الجريدة والنرد والنرجيلة، قائلا إنه لا يجوز أن تصبح مصر أمة (على المعاش).

وقد طلب فكري باشا من كبير المعارضين، وهو عميد كلية التجارة، أن يجيبه عن مصلحة مصر الاقتصادية في التكتل، ولكن الأستاذ العميد لم يعرض لهذه الناحية، ومما قاله أن التكتل أمر لابد منه، وأن مصر آخذة به فعلا بتكتلها مع الدول لعربية، وأن الجميع متفقون على ضرورة ذلك. وواضح أن هذا ليس هو المقصود بالتكتل، لأن موضوع المناظرة خاص بالانضمام إلى إحدى الكتلتين العالميتين أو عدمه. وأخيراً أخذ رأي الحاضرين فكانت الأغلبية الساحقة مع الحياد.

عباس خضر

ص: 47

‌البريد الأدبي

من وحي فلسطين:

جاءنا من الأستاذ الجليل محمد توحيد السلحدار بك هذا الكتاب

تعقيبا على كلمة الأستاذ كامل السوافيري في كتاب من وحي

فلسطين وهذا نصه بعد الديباجة:

في العدد 784 من الرسالة الصادر في الثالث من أبريل هذا العام، مقالة لحضرة الأستاذ الكريم كامل السوافيري خص بها كتاب أحمد رمزي بك (من وحي فلسطين).

استشف الأستاذ الماهر هذا الكتاب المفيد، ونوهت به مقالته الصادرة عن بصيرة وإخلاص؛ وأعجبه الموضوع واطلاع المؤلف وإقدامه على التصريح بحقائق في إظهارها خير وفي إخفائها شر، فاستجاب الأستاذ بمقالته لإعجابه، وأوحت إليه أريحيته بصفات تعتني بها عند ذكره مقدمتي للكتاب، فأنا شاكر له حسن ظنه وقصده جزيل الشكر.

وأرى من حقه علي، وهو يحسبني خليقا بتلك الصفات السامية، أن اقرن شكري الصريح بالتعرف إليه: لست مؤرخا، ولا سياسيا، ولا علامة، ولا من أصحاب الرتب، ولست أقول ذلك عن تواضع، بل أقوله عن الواقع واليقين وتفاديا من تقليد أولئك المصريين الذين يجهلون أنهم بعيدون عن علم العلماء وفقه الفقهاء وفضل الفضلاء في الشعوب المتيقظة! وحسبي أن اعد من المصريين المتعلمين في تفاوت بينهم، غير المحرومين من حساسات العفة ومن الشعور بواجبات التضامن القومي والمصلحة العامة. وإذا لاح في فكري خاطر، أو نبهتني مناسبة إلى موضوع أو كتاب وكانت حالي الصحية مسعدة، ربما كتبت بشأنه ما أظن أن نشره قد لا يخلو من فائدة لبعض القراء، ولا تكون لي عندئذ رغبة سوى أن ينظر القارئ، إن هو قرأ لي، إلى المكتوب وليس إلى الكاتب.

وبودي لو يتضاعف عدد الأقلام التي تعالج إنقاذ الغارقين في غمرة لما يصل إليهم في أعماقها نور القرن العشرين. بودي حقا لو يكثر ظهور المؤلفات من أنواع (الوعي القومي) و (معنى النكبة) لقسطنطين زريق، و (الاستعمار الفرنسي) و (من وحي فلسطين) لأحمد رمزي و (في أصول المسألة المصرية) لصبحي وحيدة. فهذه كتب، أصابت كل الإصابة أم

ص: 48

أخطأت بعض الخطأ، تفتح عيونا وتوقظ قلوبا مدت الأيام لأصحابها في الغرور والضلال، ففتنتهم مغانم التهويش والتضليل على حساب الشعب. وعسى أن يأتي انتشار هذه المؤلفات وأمثالها بالفائدة المطلوبة، ومن هنا كانت إشادة الأستاذ البصير بكتاب رمزي بك خدمة للمصلحة العامة ومحمدة تذكر وتشكر.

محمد توحيد السلحدار

حفلات التأبين - إلى صديقي الأستاذ عباس خضر:

إذا كنت من اتباع دعاة المحافظة على القديم وقصر حفلات التأبين على ذكر محاسن الفقيد وتعديد مناقبه تكون من الراضين أيفاق الشعراء وكذب الخطباء في هذا العصر، ومن المتساهلين في سماع الشعر الوسط وما هو دون الوسط كالذي سمعته في حفلة المرحوم علي محمود طه.

وإذا كنت ممن لا يؤيدون ما أدخل على حفلات التأبين من مقالات - ومبالغات في تعديد المناقب وافتعال الصفات لكل فقيد كما هو واقع الآن، فأنك تكون قد جاريتني في إقحام أكثر الشعراء والخطباء في زمرة الندابين المأجورين.

أما إذا كنت ممن يقدرون نهضتنا الأدبية ومن العاملين في وضع لبنة واحدة في بنائها - وأنك لكذلك - فكان الأخلاق بك أن تنكر معي على شعراء وخطباء حفلات التأبين تباكيهم وتفجعهم المكذوب وإلحاحهم في النواح الممجوج، وأن تدعوهم - لا بالمطرقة والسندان - إلى سلوك السبيل التي يسلكها الأدباء في الأمم الراقية.

هكذا يكون الرثاء:

مات الشعر فلان فأقام له أصدقاؤه الأدباء حفلة تأبين، ولما اعتلى رئيس الدعوة المنبر قال (يتكلم أربعة من الخطباء في أربع ناحيات من شعر الفقيد) وتكلم الخطباء ففاضوا في تعديد تلك النواحي، وإني لأرجو الأستاذ عباس أن يصدقني أن أحد أولئك الخطباء لم يكتف في الكلام على بوهيمية ذلك الشاعر فحسب، بل أفاض في تحليل ناحية الشذوذ فيه - وهل يخلو من شاعر من شذوذ؟ وأنهض الدليل، وهو مستمد من شعر الفقيد، فلم يسع أرملة ذلك الشاعر إلا تغطية خديها بكفيها والاستعاذة بالله من جرأة النقاد الذين يلمحون فيخمنون

ص: 49

فيصيبون، ويحللون فيصدقون، ولم يتورع ذلك الخطيب، أعود فأقول لم يتورع ذلك الخطيب عن الاعتذار إلى تلك الأرملة بقوله (لقد أصبح الشعر الذي كان زوجك ملكنا نحن الذين نرسم الخطوط للمؤرخين (وأنت يا مناظري الكريم إذا تفحصت أية مجلة أدبية غربية تجد أن التأبين ليس معناه (ذكر محاسن وتعديد المناقب) كما يطيب لك أن يكون.

أنت تشك يا صاحبي في أني رسمت مع الزيات خطوطا رئيسية لمن سيتوفر على دراسة الشاعر الصديق علي محمود طه وتدعوني إلى (الاستقلال برسم خطوط للدراسة).

يحسن بي قبل أن أقول لبيك أن أسألك: ألم تكن صورة خطابي معك؟ لم لم تقارن كلامي بكلام الزيات فتطمئن بعد المقارنة إلى ما يؤيد دعواي، ويدحض ادعائي، ويزول عنك الشك أويبقى؟ ألم تسمعني أتكلم في خصومة الأدباء ومزاياها وصداقتهم ومطاويها؟ ألم تقرأ في خطابي كلاما عن (الحب) في شعر علي طه. وأنه - يرحمه الله - قد أحب مرة واحدة، وأنه صور ذلك الحب العارم في قصيدة واحدة هي كالمنارة في بحور شعاره؟ أليس في كل هذا خطوط كخطوط الزيات؟ لقد تواضعت برغم كبريائي فاستشهدت بالخطوط الرئيسية التي رسمها الزيات وسكت عن نفسي، أما كان يجدر بك أن تذكرها أنت وتنشر نتفاً منها؟ لقد سكت عن كل هذا وتشككت لماذا؟

الجواب: لأنك تعلقت بأذيال (البوهيمية) لتظهر أمام الناس معمماً بعمة خضراء وقداسة بيضاء، وجبة سوداء لتقول مع المتوقرين المستقدمين (اذكرا محاسن موتاكم) ولكن أن الشاعر لا يموت.

وأخيرا مالك يا صاحبي توهمني بأن كلمتي التي ألقيتها في ذلك (يجب أن تسطع شمسها فتحجب سائر النجوم والكواكب)؟ ثم من هم نجوم تلك الحفلة ومن هم كواكبها؟

- الشعراء ولا شك!!

أما أكثر الشعراء يا صاحب فقل معي يرحمهم الله.

حبيب الزحلاوي

ص: 50

‌القصص

ضيف غريب

للكاتب السويدي الفكه المعروف هاس زيتر ستروم

بقلم الأستاذ احمد مصطفى

كنت قد فرغت منذ لحظات من تناول فطوري ودلفت إلى الشرفة. . . كان الخليج ينبسط أمامي بشطئانه الفسيحة المترامية، ولونه الأزرق الداكن، وتتألق فوق مياهه شمس متوهجة تتقد اتقاداً.

وبعد أن ثبت مقعدي بحيث أواجه مهب الريح، أخذت استمتع بالنسيم الرخي الفاتر فشعات في حنايا قلبي دواعي الغبطة والابتهاج. . .

ناولني الخادم برقية. . . وقد شعرت وأنا أتناولها منه بأنني سأجد فيها حتما ما يضايقني وينغص علي عيشي رغم أنني كنت اجهل بطبيعة الحال ما قد تتضمنه بين ثنايا سطورها. . .

صعدت زوجتي أيضاًإلى الطابق الذي كنت فيه. فقلت لها

- وصلتني برقية. . . فهل لك أن تحزري ما فيها؟. . .

- ليس لدي الوقت الكافي لحل الألغاز وفك الأحاجي. . . فضها وأنظر ما فيها. . . فضضت الغلاف فقرأت:

بحثت عنك في المدينة. . . سأتحرك في الرابعة والثلاثين. . .

تحياتي لزوجتك

(فردريك)

قلت لزوجتي

- هل تعرفينه؟. .

- كلا!. . ومن يكون فردريك هذا؟. .

لا أعلم. . . أنا أعرف شخصاً واحداً بهذا الاسم وهو ليس ممن يطيب له أن يبحث عني أويخطر له ببال أن يشخص إلى. . .

ص: 51

- لعل البرقية ضلت طريقها إلينا:. . .

- لا!. . . فالعنوان كامل ليت شعري أي فردريك هذا؟. . إنه سيتصل في السابعة. . . يجب أن ترتدي ثياباً لائقة، ثم اغسلي الأولاد قبل ربع ساعة فقط من الموعد ليمكن إبقاؤهم نظيفين. . .

غادرتني زوجتي، فخلوت إلى نفسي وإلى أفكاري. ثم نسيت فردريك تماماً إذ فقدته بين زورقي البخاري والجزيرة التي لجأت إليها التماساً للراحة والهدوء. . .

كان النهار رائعاً حقاً. . .

وفي أثناء تناول الغذاء قلت لزوجتي:

- الساعة السابعة بالضبط. . . ألا يجب أن نذهب لاستقبال فردريك؟

هبطنا إلى الميناء. . .

كان المرفأ يموج بعلية القوم الصلفاء الذين تعودوا تمضية أوقاتهم فيها على الدوام عابثين ساردين. . . وكان هناك المصور الشاب ذو القبعة الحمراء والمشية الوئيدة المتزنة، كما كانت هناك النساء اللائى درجن على أن يصدقن بسذاجة متناهية كل ما يقال لهن:

وما إن رمقني هؤلاء بعيونهن الزرق الواسعة التي حملت إلى قلبي كل ما في أرواحهن من معاني الوداعة والدلال حتى ابتدرت مخاطباً إياهن:

- نشبت ثورة عظيمة في باريس هذا الصباح، وأعلنت الأحكام العرفية، وقد بلغ دوي المدافع والانفجارات من العنف والشدة بحيث تعذر على السكان أن يسمع الواحد منهم صوت محدثه. لهذا فقد أضطر الجميع إلى تخلية المدينة والخروج إلى الأرض الفضاء لمواصلة ثرثرتهم ولغوهم هناك. . .

صرخت إحداهن بصوت حاد مؤلم وكانت أمها تقيم بباريس:

- أمي!. . . أمي!. . .

فقلت مسلياص إياها

لا تخافي ولا تحزني!. إنهم نقلوا النساء والأطفال جميعاً إلى ساحة معشوشة خضراء قبالة المدينة. . .

أخذت الباخرة تقترب شيئا فشيئا وكان القول قد تبعه العمل. . .

ص: 52

قلت لزوجتي:

- عاملي فردريك بمنتهى الرقة واللطف

التصقت الباخرة بالميناء. . . فحياني قائدها، كما حيا المصور الشاب، والسيدة التي هتفت بهبقولها: هل من أخبار جديدة؟.

خرج من الباخرة رجل وخط الشيب رأسه، ونال الزمان من فوديه، فقلت في نفسي:

أستبعد أن يكون فردريك هو هذا. . . ثم عرفته على التحقيق. لقد كان الرجل الذي تزوج حديثاً سيدة تملك متجراً في المدينة لبيع القمصان، وقد أبت صاحبته مغادرة عملها لأن موسم الصيف ملائم جداً لبيع أكبر عدد من باقات القمصان. . .

ثم خرجت إلى البر سيدة وبنتها. لقد عرفتهما أيضاًولوحت لهما بيدي. . .

وعلى أثر هؤلاء الثلاثة غادر السفينة رجل غريب، ضخم الجثة، متين البنيان، عريض ما بين المنكبين، يرتدي بدلة في غاية الأناقة وتوحي مشيته بالجرأة والاعتداد بالنفس. . .

وما إن لمحني حتى تقدم نحوي ووضع يده على كتفي وقال بصوت يمازجه الود والمرح؟

- ها! قد حضرت أخيراً أيها الشيخ الماجن!. . .

بات لزاماً أن يكون هذا هو فردريك بالذات. . .

تولتني الحيرة والذهول. . . إنه لم يسبق لي أن رأيت هذا الرجل في حياتي من قبل. ومع ذلك فهو يعرفني، بل ويتحدث إلي كما لو كنا صديقين حميمين منذ سنين. انغمسنا في الثرثرة وتبادلنا (الماجن، غير مرة. إلى أن قال أخيراً:

- والآن كيف أنت؟. هل الأطفال بخير؟. وكيف حال مرتا؟. .

إلهي. إلهي! إنه يعرف حتى اسم زوجتي.

- شكراً لك. . . إننا جميعاً بخير. . . إننا جميعاً بخير.

شكراً لك. . . شكراً لك. . .

مد إلي حقيبة كان يحملها:

- خذ هذه أنت بنفسك. أما الحقيبة الكبيرة فستأتي بها العربية بعد قليل. يبدو لي أن حضوري كان مفاجأة لك. أليس كذلك؟

وهنا لحقت بنا زوجتي أيضاً.

ص: 53

انبسطت أسارير وجه فردريك وأبرقت عيناه، وانحنى أمامها، حتى كاد أن يمس الأرض بناصيته ثم قال مخاطباً إياها.

- في كل مرة أراك أجمل مما كنت في المرة السابقة!

رمقتني زوجتي بنظرة شزراء مريبة ولكنني استدركت الموقف فلقت لها:

- ستأتي حقيبة فردريك الكبيرة في العربة بعد قليل. . . لفردريك حقيبة غير هذه التي أحملها بيدي لفردريك حقيبة كبيرة. . . ثم أخذت أتمتم بهذه الكلمات الأخيرة بغير وعي أو شعور. . .

أما زوجتي فقد كانت جامدة كالصنم، قاسية كالصخر.

ارتقينا ثلاثتنا التل إلى (الفيلا) التي كنت أقيم فيها. فقطع علينا فرديرك الصمت وقال موجهاً الحديث إلي:

- ما أجمل المكان الذي اخترته لنفسك! بكم استأجرته؟.

ثم استدرك قائلا: ولكن لماذا أسأل هذا السؤال؟. . . أي غرفة ستخصص لي؟. . .

- اختر أي مكان تشاء! أي مكان تشاء أيها الفتى الماجن؟.

قال لي فرديرك:

- عهدي بك لم تتغير كثيراً

فأجبت مرتبكا

- يؤسفني لا تكون أنت كذلك.

- ماذا تقول؟ ثم ما هذا الهراء؟ هل كبرت حقاً؟.

إن وزني لا يزال ثمانين كيلو وهو وزني بعينه منذ ست سنوات. . .

ثم أدار رأسه إلى زوجتي

- أتجدينني الآن أسمن مما كنت عليه سابقاً يا مرتا؟

أجابت زوجتي بجفاء ظاهر

- لا، لم تسمن إلا قليلا

اصطحبنا فرديرك إلى غرفة الاستقبال، وعندما غادرنا الغرفة قالت لي زوجتي بحدة

- ومن يكون هذا الطفيلي؟

ص: 54

- هذا هو فرديرك، الرجل الذي ابرق إلينا نبأ حضوره هذا الصباح.

- حسن جداً: وهل. . . سيبقى. . . هنا. . . في بيتنا؟

- هذا ما تدل عليه قرائن الأمور الآن. أو هذا ما يراه هو نفسه على الأقل.

كنا واقفين في فناء الدار، فأطل فرديرك برأسه من النافذة:

- أريد صابوناً فحقيبتي الكبيرة لم تصل.

التفت إلي زوجتي وقلت:

- مرتا! احضري له قطعة من الصابون سريعاً.

ولكن مرتا لم تحفل بكلامي بل ولت بوجهها شطر غرفة النوم، وذراعاها إلى الأعلى ثم ألقت هناك بنفسها على السرير.

كان هذا ديدنها في حالات الغضب والهياج. . .

فاضطررت إلى أن أحضر الصابون بنفسي

- كان فرديرك وقد خلع عنه سترته منهمكا في تنظيف ثيابه إصلاح شأنه، وعندما رآني مقبلا عليه ابتدرني قائلا:

- لم كان سعيدا في حياتي الآونة الأخيرة كما قد تظن. لقد هزتني (ألما) هزة عنيفة وهدت من كياني.

- أعرف ذلك تماماً. . .

وهنا أخذت اسأل نفسي. . . من هي (ألما) هذه يا ترى؟

أمتزوج هذا الرجل أم هو يحدثني عن خطيبته فحسب؟. . .

- النساء هكذا شأنهن دائماً

- أجل!. . . أنهن هكذا دائماً

- آلك ما تشكو منه؟. . .

- ليس كثيراً!. وأما الآن فليبس لدي ما أشكو منه إطلاقاً

- ألما، تقوم برحلة الآن

- هيه، هذا حسن

- نعم نعم إنها هي التي طلبت ذلك.

ص: 55

- وهذا أحسن طبعاً.

فرغ ضيفنا من ارتداء ثيابه فدلفنا إلى الشرفة. وما إن افرغ كأساً من (البنج) في جوفه حتى كانت زوجتي أيضاًقد لحقت بنا وشاركتنا حديثنا.

كان فرديرك في ذروة نشوته ومرحه. يمزح، يثرثر، يثير قهقهة إثر قهقهة حتى لقد أوشك أن يغمى على زوجتي ثلاث مرات من فرط الضحك.

وصلت الحقيبة الكبيرة، وكان أول عمل قمت به هو أنني هرعت إلى السلم لأقرأ عليها على الأقل العنوان الذي قد يرشدني إلى هوية صاحبها.

فرديرك لندنهولم.

هذا هو الاسم الذي وقع عليه بصري وأنا أتفرس جيداً في أحد جانبي الحقيبة.

لم يتبدد شيء من الظلام الذي يكتنف ذهني.

وعلى هذا المنوال أقام فرديرك لندنهولم هذا بيننا. غير أنه لم تكد تمر سوى ثلاثة أيام فقط متى كانت قد استحكمت بيننا وبين ضيفنا أواصر الألفة والمودة، واشتدت الوشائج التي تربط كلا منا بالآخر.

كان فرديرك قد أصبح عنصراً ضرورياً في حياتنا اليومية لا يمكن إغفال أمره أو الغض من أهميته. فهو حيناً يداعب الأطفال ويلاعبهم، وطوراً يساعدني في قيادة زورقي البخاري.

وقد استطاع بظرفه وخفة روحه أن يكسب حتى قلب زوجتي وثقتها.

قالت لي زوجتي ذات يوم:

- ليتك أنت أيضاًمثل فرديرك دائم المرح، بادي البشاشة، مستعداً لمعونة الغير في أي لحظة! إن الإنسان ليكاد لا يشعر بأي ضجر أو سأم عندما يكون قريباً منه.

استسلمت لبحر من التأمل والتفكير العميقين، بينما مرت الحياة رتيبة هادئة في بيتنا لا يكدر من صفوها وإشراقها شيء يستحق الذكر.

وبعد مضي ثمانية أيام تسلم فرديرك خطاباً، وما فضه وقرأه حتى قطب جبينه وبدت على قسمات وجهه علائم الجهد والاهتمام ثم قال:

- أصدقائي الأعزاء. لقد انتهى عملي هنا، يجب أن أسافر غداً صباحاً بدون إبطاء. إن

ص: 56

(ألما) قد عادت من رحلتها وأظنكم تفهمون معنى ما أقول.

- نعم! نعم! أفهم ذلك حق الفهم - ولكنني أيضاًآسف أشد الأسف على فراقك أيها الصديق العزيز. لقد قضينا معا أياماً سعيدة. هل لك أن تعدنا بالعودة إلينا ثانية؟

أجاب فرديرك

هذا محتمل! ربما!

وعندما سمعت زوجتي نبأ اعتزام فرديرك العودة، وإن (ألما) كانت هي السبب في ذلك قالت والتأثر باد على صوتها:

- إن (ألما) هذه لشريرة مستهترة!

وفي صباح اليوم التالي شيعنا فرديرك إلى الباخرة، ولم يتأخر أي واحد منا في النوم برغم أن الوقت كان مبكراً جداً.

صعد فرديرك إلى سطح الباخرة، وعندما دنا موعد الرحيل ظل يلوح لنا بمنديله الأبيض إلى أن ابتعدت السفينة وتوارت عن الأنظار.

قفلنا راجعين إلى البيت واجمين وكأن على رؤوسنا الطير، وعندما وصلنا باب سور الحديقة توقفنا عن المسير لحظة. فابتدرت زوجتي قائلة:

- قل لي بربك من كان هذا الرجل؟.

- لا أعلم.

كنا قد أحببناه دون أن يعرف أحدنا الآخر. وعندما فراقنا خيل إلي أنني قد فقدت شيئاً ثميناً جداً وأحسست بالفراغ يحيط بي من كل صوب.

وفي غرفتي وجدت على المنضدة خطاباً فاختطفته في مثل سرعة البرق وتلوثه وأنا أكاد التهم ما فيه التهاما. ثم أعدت تلاوته من جديد وأنا مطرق ساهم غارق في لجة من التأمل العميق.

وإليك ما جاء فيه:

سيدي الأديب!

بينما أنا جالس ذات يوم مع زمرة من الأصدقاء في أحد الأماكن نتحدث عن أحسن مكان أستطيع أن اقضي فيه عطلتي الأسبوعية إذ ذكر أحدهم اسمكم وأثنى على جمال البقعة

ص: 57

التي تزلون فيها وأوصاني حتى بالنزول في ضيافتكم. ولكني اعتذرت لعدم وجود تعارف سابق بيننا. غير أنه لمعت في ذهني في تلك اللحظة فكرة طريفة فقلت لأصدقائي: هل تراهنونني على أن اذهب إلى هذا الرجل دون أن يعرفه بي أحد أو أتلقى دعوة منه، فأمكث في ضيافته طول أسبوع كامل؟. . فقبلوا ذلك وتقرر تنفيذ الفكرة. التقطت عنكم وعن أسرتكم بعض المعلومات ثم حدث بعد ذلك ما أنتم به أدرى وأعرف. لقد كسبت الرهان اليوم. ولكنني أستشعر خجلًا شديداً كلما تذكرت ما جرى. اضطررت إلى أن أعترف لكم بالحقيقة. سامحوني. لن اقبل رهاناً كهذا بعد الآن وبخاصة إذا كنتم أنتم طرفاً فيه.

المخلص

فرديرك

خرجت من الغرفة وناولت الخطاب إلى زوجتي فألقت هي الأخرى أيضاًعليه نظرة خاطفة ثم صاحت: مدهش: مدهش!. وأعادت تلاوته ثانية.

وبعد أن أرسلت مرتا تنهيدة عميقة أدارت رأسها نحوي وقالت:

- مهما يكن فقد كان إنساناً نبيلاً حقاً!.

أحمد مصطفى

ص: 58