الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 876
- بتاريخ: 17 - 04 - 1950
صور من الحياة:
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
- 2 -
قلت لصاحبي: ما بال هذا الفتى يصعر خده في كبر ويتطاول في صلف، وينظر إلى هذا الناس في احتقار كأنه يرمق بعوضة ضاوية عرجاء؛ ثم هو يتأنق في زينته ويزهى في إهابه؛ على حين أنه ما برح في أول الطريق لم يبلغ الغاية التي تصبو إليها نفس، ولا سما إلى المنزلة التي يفرح بها قلب.
فهمهم صاحبي في أسى كأنما يحدث نفسه: آه لو انشق عنه أعاب الإنسان لرأيت من خلاله صورة كلب! إن الإنسانية - يا أخي - حين تتهاوى تسل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
قلت: وماذا عسى أن يكون شأنه؟
قال: إن له لقصة فيها عبرة للعقل وعظة للقلب.
فقلت: هاتها.
قال: آه لو رأيت هذا الفتى وهو صبي في فجر الحياة يضطرب في دار عمه، يفتش في زواياها عن حنان الأم فلا يجده، ويبحث في أركانها عن عطف الأب فلا يلمسه، لأنهما ماتا عنه طفلا وخلفاه بين يدي عمه. وشعر الصبي - منذ أول العمر - بأن الحياة خاوية من الرحمة خالية من الشفقة، لا تنبض بالسعادة ولا تخفق باللذة، فنزل عن طفولته كارها، وعاش في دار عمه حيناً من الزمان، وعمه رجل فيه قسوة الطبع وجفاء الخلق، يحس وطأة الضيق ويستشعر شظف العيش، ومن ورائه أولاده يستحثونه إلى غاية فهو يستل قوتهم من برائن الفاقة في جهد، وينتزع اللقمة الجافة من مخالب الفقر في كد، وهولا يرى في أبن أخيه إلا عالة تثقل كاهله وتكثر من عياله، فرماه بالجفوة واخذ بالعنف. وسرى داء الأب إلى أبنائه فتدافعوا إلى أبن عمهم يقذفونه بالسباب ويلطمونه بالقسوة، يدعونه عن لطعام ويدفعونه إلى العمل، فعاش عبداً بين سادة غلاظ شداد يتمنى الخلاص فلا يبلغه،
ويرجو المفر فلا يناله، وإن في قلبه أسى يسلبه القرار، وإن في نفسه ذله ترغمه على الصبر.
وأحس الصبي بالضوى من أثر الجوع، وشعر بالضنى من أثر الإرهاق، وأصابه الكلال من شدة الغلظة، فانطوى على كراهية تؤج في صدره، وانضم على مقت أبنائه مقتاً ينفث فيه روح الشر والانتقام، ثم عقد العزم على أمر وإلى جانبه صبي في مثل سنه يعينه على شأنه ويزين له الرأي ويسول له أن يطيرا معاً إلى غير غاية.
وعند مطلع الفجر هب الرجل - كدأبه - ينادي أبن أخيه، عبد الدار، ليقذف به - كشأنه أبداً - في غمرة العمل الشاق العنيف، فما راعه إلا أن يرتد إليه صدى صيحاته ثم يتلاشى في سكون الدار. وأزعجه أن يرى الصبي العاق يصم أذنيه عن ندائه لأول مرة في حياته، فأندفع يزمجر يريد أن يبطش بالصبي اليتيم، غير أن الصبي كان قد فر من بين يديه الغليظتين، فثارت ثائرته وأضطرم غضبه على أن ينفلت الطير من شباكه وهو يرى ولا يستطيع أمراً.
وأحس الأسير الذي ولد مكبلاً في قيود ثقال. . . أحس بالحرية التي لم يتذوقها أبداً فأنطلق يشدو ويثب ويضحك وإلى جانبه صاحبه يشاركه نوازع نفسه الطروب، ويشاطره أفراح قلبه الغض
وهبط الصبي القاهرة - بعد أيام - فتاه في لجة المدينة، وتقاذفته أمواج الحياة، لا يستقر في مكان ولا يهدأ إلى عمل، ثم ساقه الحظ إلى دار سيد من ذوي الثراء والجاه، فراح يقلب ناظريه فيما حواليه من رواء وأناقة وقد خلبته أبهة المكان وسحرته روعة الدار وأذهلته هيبة العظمة، فامتلأت نفسه رهبةً وخشوعاً. ووقف أمام سيده، سعادة البك، فاضطربت روحه من خوف، وارتعدت فرائصه من فرق، وتلجلج لسانه من فزع، ورأى البك الصبي القروي يوشك أن يتناثر من رعب فهم من مجلسه يريد أن يهدئ من روعه؛ ولكن خيل للصبي أنه هم يبطش به حين آذاه ما سيطر عليه من ارتباك وخوف، ففزع خشية أن يصفعه السيد في غلظة مثلما كان يصفعه عمه من قبل، فزلت قدمه فهوى فأنطرح على الأرض؛ فابتسم سعادة البك لما رأى، ثم أخذ يسكن من جأشه بكلمات فيها الرقة والعطف حتى أفرخ روعه واطمأنت نفسه. لقد شهد الصبي - إذ ذاك شيئاً لم يره أبداً فقال لنفسه (يا
عجباً! أفي الناس رجل يعطف علي أنا الضائع المسكين؟ لطالما شعرت بأن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس أشياء لمستها في عمي الفظ الغليظ!
واندفع الصبي في عمله يتوثب نشاطاً ويتألق إخلاصاً، لايني عن الطاعة ولا يتريث عن الخضوع، حتى رضى سيده واطمأن فحصه بفضل عنايته وشمله بفيض من عطفه، فسرت سمات الحياة في عروقه، وتوهجت علامات العافية في وجهه، وانسربت معاني الصحة في دمه، فبدا وثيق الأركان صلب العود جياش الحركة خفيف الظل.
ورأى البك في الصبي القروي شمائل حببته إليه وقربته منه، فعهد إليه أن يحرس أبنه الأوحد في غدواه ورواحه ليدفع عنه الأذى ويصد عنه السوء. وأبن سعادة البك واهي القوى من الترف، مضعضع العصب من دلال، رخو العود من رخاء، مسلوب العزم من رفاهية.
ثم تغالي السيد فألحق القروي وأبنه المرفه في مدرسة واحدة ليدرأ واحد عن واحد شر التلميذ وعادية المدرسة، فانطلقا معاً والخادم يتبع سيده في ريث ويقلب البصر في لباسه الإفرنجي الأنيق يتيه في زهو ويتخلع في خيلاء وهو لا يكاد يصدق أنه قذف عن كاهله أعباء الريف وشقاء الحقل ليكون أفندياً يتأنق في زيه ويختال في أبهته. . .
وانطوت السنون فإذا الصبي القروي ينكب على الدرس في نهم لا يهمل ولا يتمهل فيسبق أقرانه في سهولة ويسمو على أترابه في يسر. وإذا أبن النعمة يتراخى من ضعف وينحط من كسل فيتخلف عن الركب فيبغض المدرسة ويمقت الكتاب ويحتوي القراءة، ثم يندفع في شبابه الأول ليرتدغ في أسباب له والعبث وسبله من أمامه معبدة ميسرة، ثم ينصرف عن المدرسة إلى غير رجعة
ورأى البك فرق ما كان بين أبنه الغض الجميل وبين أبن القروي الفض الغليظ، فغاضه أن يسبق الخادم سيده، وأن يسمو الوضيع على الرفيع، فتكشفت إنسانيته الرقيقة عن حيوانية جارفة تصفع الخادم وقد شب ونما غرسه وشدا طرفاً من العلم. . . تصفعه فتذيقه فنون من القسوة والغلبة، ثم تجذبه من المدرسة إلى الدار، ثم تدفعه من الدار إلى الشارع
واستحالة صورة البك، السيد الطيب الرقيق. . . استحالة صورة - في لمحة واحدة - في
عيني الفتى القروي إلى صورة بغيضة إلى نفسه كريهة إلى قلبه، هي صورة عمه الفظ يوم أن كان يذيقه فنوناً من القسوة والغلظة في غير ذنب ولا جريرة
الآن، بدا للفتى القروي أن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس، أشياء لمسها - زمان - في عمه الفظ الغليظ.
وتاه الفتى القروي مرة أخرى في لجة المدينة - وتقاذفته أمواج الحياة، ولكنه لم يلق السلم وفي نفسه أن يسعى ليكون في مثل ما كان فيه من نعمة وترف في دار سيده. ولم لا! وهو قد سبق ابنه في الدرس وغلبه في التحصيل وفاز عليه في العلم، فراح يفتش عن عمل يسد به رمقه ولا يحول بينه وبين المدرسة.
وذاق الفتى بين عمله الجديد وبين المدرسة. . . ذاق مرارة الضيق ولذغ الحرمان، ليرضى بالقليل ويقنع بالتافه ويصبر على الشدة، ومن أمامه أمل جياش يفعم صدره فيصرفه عن بعض ما يقاسي من فاقة وشظف، فأندفع إلى غايته في غير هوادة ولا لين
واشتاقت نفسه إلى لقمة طرية ناعمة، فأخذ يدخر من عوز ويوفر من فقر، حتى جمع - في أيام - قروشاً اشترى بها قطعة من لحم لا تغني من جوع ولا تسمن من غثاثة - غير أنها بعثت في نفسه روح البهجة والطرب، فأنطلق إلى حجرته الضيقة المظلمة، يطهوها بنفسه لنفسه وفي قلبه السعادة والغبطة وفي روحه اللذة والفرج. وامتلأت الحجرة بروح الشواء وروح المرح في وقت معاً
يا للعجب! إن قطعة من اللحم لا تشبع طفلا قد أترعت حياة الفتى المحروم اللذة والسعادة!
وأعد الفتى لنفسه مائدة شهية لا تنضم إلا على قطعة من اللحم ورغيف واحد، ثم أخذ يمتع نفسه بالنظر إليها حيناً وينسم ريحها العبق حيناً أخر، فما أفاق إلا على قط فظ غليظ ينقض عليها فيلتهمها دفعة واحدة، فهب الفتى المحروم من مكانه مذعوراً ثائراً يقذف الحيوان الشره بما حواليه في غير وعي ولا عقل.
ورأى الفتى غريمه ملقى على الأرض يصرخ من شدة الألم فأندفع إليه في غيظ يشد وثاقه وفي رأيه أنه قد سلبه متعة نفسه وحرمه لذة بطنه. ثم سيطر عليه جنون الشهوة. . . الجنون الذي بعث فيه روح الشر والانتقام من حيوان ضعيف، الجنون الذي نزع عنه ثوب الإنسانية الرقيق ليتبدى في أوضع مراتب الحيوانية. ووضع الفتى المحروم القط الضعيف
في هاون ثم اندفع يدق عظمه في غلظة وفضاضة وتناثر الدم يلطخ ثوبه ووجهه ليصمه بالخسة والضعة، ويلصق بجدار الحجرة ليشهد أن إنساناً قد صفرت نفسه من الرحمة وخوي قلبه من الشفقة فأنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية.
ولا عجب - يا صاحبي - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية.
كامل محمود حبيب
تصحيح تصحيف وتحرير تحريف
للأستاذ أحمد يوسف نجاتي
إذا كان الإقرار بالمنة واجباً فالشكر عليها أوجب، وأقولها كلمة صادقة مخلصة مدوية غير غال فيها ولا مفرط: أن للأستاذ الأديب المحقق (عبد السلام محمد هرون المدرس بكلية الآداب بجامعة فاروق الأول) على اللغة العربية وآدابها منناً غراً وأيادي بيضاً يجب على كل من يمت بصلة للغة الضاد أن يشكرها ويثني عليها؛ فقد دأب على خدمة هذه اللغة بتنقيح المفيد من كتبها وتحقيقه وشرحه، ولقد بذل قبل اليوم جهداً جاهداً في (كتاب الحيوان للجاحظ) فأحيا مواته وأبرز محاسنه، ومهد للناس سبل الانتفاع به، وقد كان الطريق إلى هذا الكتاب قبل أن يبذل فيه ذلك الجهد المشكور طريقاً وعراً شائكا يصد المتأدبين عنه في أسف وحسرة.
كم من رياض لا أنيس بها
…
تركت لأن طريقها وعر
ثم أخرج للناس بعد ذلك من ذخائر العرب (كتاب مجالس ثعلب) وكانت نسخته المحفوظة بدار الكتب المصرية مشوهة سقيمة قد عبثت بها أيدي البلى، فحرم الناس ثمرة الاستفادة منها، فتصدى لها الأستاذ نضر الله وجهه، واستعان بعقله وفكره وأدبه وغزارة مادته وكثرة إطلاعه وبالكثير الجم من المراجع المختلفة من كتب اللغة وعلومها وآدابها وغير ذلك من المصادر والكتب القيمة في شتى العلوم والفنون، وقدمه للقراء بعد ذلك يانع الثمار داني الجني في حسن معرض وسلامة ذوق.
ولما كانت المطالع العربية لا تخلو من تقصير ولا تسلم من زلل مهما عني بإصلاح نماذجه - هذا إلى ما في نسخة الكتاب الأصلية من تشويه - رأيت في ذلك الكتاب بعض كلمات محرفة آثرت أن أنبه القراء إلى تصويبها مع اعترافي بالفضل العظيم للأستاذ (عبد السلام) جزاه الله خير الجزاء وجزاء الخير.
(1)
في صفحة 7 بيتان لعبد الرحمن القس في صاحبته سلامة، وصدر البيت الأول
(أهابك أن أقول بذات نفسي) وصوابها بذات كما في الأغاني وغيره وكما يقتضيه المعنى، وهذا تحريف سهل ظاهر
(2)
ص 39 في أول السطر العاشر ضبط اسم (مربع) هكذا (مربْع) بفتح الميم والصواب
أنه (مربْع بكسرها) وفي القاموس وشرحه (تاج العروس) ما يأتي:
(ومربع) كممبر لقب وعوعة بن سعيد بن قرط بن كعب أبن عبد بن أبي بكر بن كلاب رواية جرير الشاعر، وفيه يقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتلُ مربْعا
…
أْبشر بطول سلامة يا مربْع
(3)
في ص 185: وأنشد أبو العباس لأبي محمد (اُلحدَلي) وعلَّق على كلمة (اُلحدَلي) المحرفة بأنها نسبة إلى حُديلة من الخروج. . . والحق أن كلمة (اُلحدَلي) محرفة على (اُلحذلي) وقد ذكر هذا الاسم صواباً في صفحتيي 232، 234 مصوبة عن تحريفها بكلمة (الحندلي) ونقل الاسم صواباً في الصفحتين من لسان العرب - وأبو محمد الحذلي هذا هو عبد الله بن ربعي بن خالد الفقعسي راحز إسلامي مكثر مجيد
(4)
حكيم بن معية الربعي: ضبط في الكتاب ص361 بفتح الحاء وكسر الكاف (حكيم) على صيغة التكبير، والصواب أنه بضم الحاء وفتح الكاف (حكيم على صيغة التصغير - وفي القاموس وشرحه (تاج العروس) في مادة (حكم) في المسمين باسم (حكيم) على وزن (زبير) ما يأتي: وحكم بن معية الربعي شاعر راجر أموي كان في زمن جرير والفرزدق والعجاج - وكذلك ضبطه بصيغة التصغير أبو عبيد البكري صاحب التنبيه على آمالي القالي، وكذا ضبط في (النقائص) ص 10 عند قول جرير من قصيدة:
ستعلم ما يغني حكيم ومنقع
…
إذا الحرب لم يرجع لصلح سفيرها
(منقع) أحد بني نضالة من بني ربيعةأيضاًوكان كذلك يعين على جرير. وروى صاحب الأمالي ج3 ص76 قال: ومن شعر حكيم يرثي أخاه عطية بن معية:
ولو لم يفارقني عطية لم أهن
…
ولم أعط أعدائي الذي كنت امنع
شجاع إذا لاقى ورام إذا رمى
…
وهاد إذا ما أظلم الليلُ مصدعْ
سأبكيك حتى تنفذ العينُ مائها
…
ويشفى مني الدم ما أتوجع
ونسب هذه الأبيات المرحوم الشيخ سيد بن علي المرصفي في شرحه للكامن للفرزدق يرثي صديقه ونديمه عطية بن جمال من سادات بني تميم ونقل ذلك من الكامل وشرحه جامع ديوان الفرزدق (لأستاذ الصاوي). غير أني أرجح رواية الأمالي وأن الأبيات لحكيم أبن معية يرثي أخاه كما أقر ذلك شارح الأمالي على أن المبرد صاحب الكامل نسب
الأبيات لرجل قال: (أحسبه نميمياً) ولم يسمه، فزاد بعضهم قولهم (هو الفرزدق) وعلق عليه المرحوم الشيخ المرصفي بقوله:
يرثي صديقه ونديمة عطية بن جمال. . وأرى أن المعاني في الأبيات الثلاثة ليست مما يقصدها أبو فراس في رثائه فإنه لا يقر بوهن أو هوان، ولا يعترف بخنوع أو ضعف، أو إن مات أكرم الناس وأحدبهم عليه، فهو قوي جلد حتى في رثائه، عزيز أبي حتى في أحزانه، منيع صليب حتى في مصائبه، وأسمع قوله في رثاء أولاده وبنيه (وموت الولد يوهي القوى ويفت في العضد ويقرح القلب والكبد):
فلا تحسبا أني تضعضع جانبي
…
لفقد امرئ لو كان غير تضعضعا
بني بأعلام الجزيرة صرعوا
…
وكل امرئ يوماً سيأخذ مضجعا
لعمري لقد أبقى لي الدهر صخرة
…
يُرادًي بيّ الباغي ولم أك أضرعا
ويقول لزوجه (نورا) من قصيدة في رثاء ابنين له منها:
فما ابناك إلا ابن من الناس فاصبري
…
فلن يرجع الموتى حنينُ المآتم
والبغدادي صاحب (خزانة الأدب) لم يتعرض لضبط حكيم وإنما ضبط اسم (معية) مع وضوحه
والحكيم بن معية هذا أبن شاعر راجز كأبيه اسمه عمر ذكره المرزباني فالمعجم ونسب له البيتين:
خليلي أمسى حب حرقاء عامدي
…
وفي القلب منه وقدة وصدوع
ولو جاورتنا العام خرقاء لم نُبل
…
على جدْ بنا أَلا يصوب ربيع
وفي كتاب (الصناعتين) في باب المبالغة ص290، قال: ومن جيد المبالغة قول عمرو بن (حاتم): خليلي أمسى حب خرقاء. . . البيتين ثم قال: قوله: على جدينا) مبالغة جيدة، وكلمة (حاتم) في الصناعتين مصحفة عن اسم (حكيم) وربما ذكر هذان البيتان ضمن قصيدة عينية روى بعضها أبو على القالي في الأمالي ص 3 ج1 ثم يختلف في نسبتها إلى عمرو بن حكيم أو إلى أبيه أو إلى قيس بن ذريح، ونسبها القالي في ص 60 ج2 للضحاك بن عمارة، والحق أن هذه القصيدة مزج فيها أبيات لهؤلاء الشعراء اتفقت في البحر والقافية والروى، وأكثر أبيات القالي تنسب إلى الضحاك بن خفاجة العقيلي
(5)
وفي ص 447 ما يأتي:. . . دخلت أنا وأبو محمد التيمي وأشجع بن عمرو وأبن رزين (الحراني). . . وعلق في الهامش بقوله:
(3)
في الأغاني (الخراساني) والحق من وراء الحراني والخراساني وإنما هو (الخزاعي) والمراد الشاعر المشهور محمد بن عبد الله أبن رزين الخزاعي المعروف بأبي الشيص بن عم دعبل بن على بن رزين الخزاعي، والحكاية التي ورد فيها هذا الاسم المحرف مذكورة في الأغاني ج17 ص 32 في ترجمة أشجع بن عمرو السلمي سمى أبو الشيص فيها (أبن رزين الخراساني). والراجح في نسبه أن أبو جعفر محمد بن عبد الله بن رزين بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الله أبن بديل بن ورقاه الخزاعي، وجده أبو علي بديل بن ورقاء صحابي جليل تقدم إسلامه وكان من كبار مسلمة الفتح فقد أسلم هو وأبنه عبد الله يوم فتح مكة وشهد كلاهما حُنينا والطائف وتبوك، وتوفي بديل قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وأبنه عبد الله بن بديل ورد هو وأخوه محمد في عسكر علي بن أبي طالب حيث سارا إلى صفين وقتلا هناك. وجده الأدنى رزين بن عثمان كان مولى عبد الله ابن خلف الخزاعي البصّري والد طلحة شهد وقعة الجمل مع السيدة عائشة وولى سجستان فتوفى بها سنة63هـ - وقد ترجم لأبن عمه دعبل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وصاحب الأغاني وأبن خلكان في وفيات الأعيان، وصاحب كتاب (معاهد التنصيص وغيرهم ونسبه في تاريخ بغداد مخالف لما في الأغاني والمراجع الأخرى التي نقلت عنه ومنها معجم الأدباء لياقوت، وقد رجحت ما في تاريخ بغداد لأنه ذكر جماعته من أقرباء دعبل وأبي الشيص ينتهي نسبهم إلى بديل بن ورقاء
وقد ذكر ياقوت النسبين ثم قال: والأكثر على هذا الذي ذكره الخطيب البغدادي. وفي الأغاني ج15 ص 204 ترجمة لأبي الشيص نقلها عنه صاحب معاهد التنصيص وقال أنه: محمد بن رزين ابن سلمان. -
والذي رجحه المحققون أنه محمد بن عبد الله بن رزين وأنه أبن عم دعبل أبن دعبل أبن علي لا عمه، وكان أبو الشيص من شعراء عصره متوسط المحل فيهم غير نبيه الذكر لمعاصرته لمسلم بن الوليد وأبي نواس وأشجع بن عمرو السلمي فحمل بالنسبة إليهم وانقطع إلى وانقطع إلى أمير الرقة عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي فمدحه بأكثر
شعره، وقلما يروى له في غيره، ومدح الرشيد فلما مات رثاء ومدح ولده الأمين، ومدح أيضاً الأمير أبا دلف (القاسم بن عيسى العجلي أحد قواد المأمون ثم المعتصم، وتوفى أبو دلف ببغداد سنة 226). وكانت وفاة أبي الشيص سنة 296هـ وهو من أسرة عريقة في الشعر فقد عرف به كثير من أفرادها وإن لم تكن لهم نباهة ذكر، وحسبك بأبن عمه دعبل بن علي وأبنه علي بن دعبل شاعر، ومن هؤلاء بن أخيه علي أبن رزين بن علي، وقد ذكره المرزباني في المعجم، ومنهم أبن عمه سلمان بن رزين ابن علي. ومن هذه الأسرة إسماعيل بن علي أبن علي بن رزين (بن أخي دعبل) وكان متهماً بوضع بعض الأحاديث، ولد سنة 259 وتوفى سنة 352 بمدينة واسط، وله ترجمة في تاريخ بغداد -
ولأبي الشيص الأبيات الرقيقة المشهورة التي لو لم يكن له سواها لاستحق بها التقديم واستوجب التفضيل: وهي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
…
متأخر عنه ولا متقدم
أحد الملامة في هواك لذيذة
…
شغفاً بذكرك فليلمني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
…
إذ كان حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً
…
ما من يهون عليك ممن يكرم
وكل الأدباء على نسبة هذه الأبيات إلى أبي الشيص كما في الشعر والشعراء والعقد الفريد والأغاني (ج15 ص 205) وشرح مقامات الحريري للشريشي، وفوات الوفيات وغير ذلك من كتب الأدب ولكن الأصفهاني في الأغاني (ج29 ص 242) نسب هذه الأبيات إلى علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن محمد ابن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وكان شاعراً غزلاً (في عصر المتوكل) وعجيب أن يرجح ذلك أبو عبيد البكري - ومن لطيف شعر أبي الشيص قوله:
يا حبذا الزًّوْرُ الذي زارا
…
كأنه مقتبسٌ نارا
مر بباب الدار فاجتازها
…
يا ليته لو دخل الدارا
نفسي فداء لك من زائر
…
ما حل حتى قيل قد سارا
ومنه قوله:
وقائلة وقد بصرت بدمع
…
على الخدين منحدر سكوب
أتكذب في البكاء وأنت خلو
…
قديماً ما جسرت على الذنوب
قميصك والدموع تجول فيه
…
وقلبك ليس بالقلب الكئيب
نظير قميص يوسف حين جاءوا
…
على لبانه بدم كذوب
فقلت لها فداك أبي وأمي
…
رجمت بسوء ظنك في الغيوب
أما والله لو فتشت قلبي
…
لسرك بالعويل وبالنحيب
دموع العاشقين إذا تلاقواْ
…
بظهر الغيب ألسنة القلوب
ومن جيد شعره قصيدة يمدح بها ممدوحه عقبة بن جعفر، ولم أجدها مجموعة في كتاب فبذلت جهداً في لم شعثها وجمع ما تفرّق منها حتى اجتمع لي منها 25 بيتاً التقطتها منثورة من جملة مراجع منسوباً بعضها لأعرابي، ومهملا بعضها عن النسب (ومن هذه المراجع كتاب الصناعتين وأمالي ابن الشجري، وشرح الأمالي، وشرح المقامات وعيون الأحبار، ونكت الهميان للصفدي وغيرها: ومطلعها
لا تنكري صدىً ولا إعراضي
…
ليس المقلُ عن الزمان يراضي
شيئان لا تصبو النساء أليهما
…
حلي المشيب وحلة الأنفاض
حسر المشيب قناعة عن رأسه
…
فرمينه بالصد والإعراض
ولربما جعلت محاسن وجهه
…
لجفونها غرضاً من الأغراض
. . . ولقد أقول الشيبة أبصرتها
…
في مفرقي فمنحتها إعراضي:
عني إليك فلست منتهياً ولو
…
عممت منك مفارقي ببياض
هل لي سوى عشرين عاماً قد مضت
…
مع ستة في أثرهن مواضي
ولقلما أرتاع منك وإنني=فيما هويت وإن ورعت لماضي
فعليك ما استطعت الظهور كلمتي
…
وعليَّ أن ألقاك بالمفراض
ومنها يذكر المطايا التي حملته وحملت قاصدي ممدوحه:
كل الوجبتين لحومها ولحومهم
…
فأتوْك أنقاضا على انقاض
ولقد أتتك على الزمان سوا خطا
…
ورجعنا عنك وهن عنه رواضي
أن الأمان من الزمان وريبه
…
يا عقبى شطَّا بحرك الفياض
بحر يلوذ المعتفون بسيله
…
فعْم الجداول مترع الأحواض
لأبي محمد المؤمل راحتا
…
ملك إلى أعلى العلا نهاض
فيد تدفق بالغنى لصديقه
…
ويدٌ على العداء سم قاض
هذا ولأبي الشيص أبن اسمه عبد الله (ذكره الخطيب البغدادي) كان من شعراء بغداد، وروي عنه بعض شعره عمرو بن بحر الجاحظ وغيره، وكان مولعاً يهجو أبي سعد المخزومي الشاعر (واسمه عيسى ابن خالد بن الوليد من ولد الحرث بن هشام المخزومي). ورثى محمد الجواد بن علي بن موسى الرضا المتوفى سنة 220 ورثى أبا تمام حبيب بن أوس المتوفى سنة 231
وعم أبي الشيص علي بن رزين والد دعبل شاعر مقل ذكره المرزباني ومن شعره قوله:
خليلي ماذا أرتجي من غد امرئ
…
طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وإن أمراً قد ظن منه بمنطق
…
يسد به فقر امرئ لضمين
وقوله: أقول لما رأيت الموت يطلبني
…
يا ليتني درهم في كيس مياح
فيا له درهماً طالت صيانته
…
لا هالك ضيعة يوماً ولا ضاح
(مياح) اسم رجل يهجوه ويرميه بالشح.
(6)
في ص600 سطر 9: أنشدني علي بن عبد الله للفضل ابن العباس اللهبي هكذا ضبط (اللهبي) بكسر اللام وسكون الهاء نسبة إلى لهب، والصواب أنه (اللهبي) بفتح اللام والهاء نسبة إلى أبي لهب، (كما هو القاعدة في النسب إلى المركب الإضافي المبدوء بابن أو أب كالبكري نسبة إلى أبي بكر) يريد الفضل بن العباس ابن عتبة ابن أبي لهب (واسمه عبد العزى) بن عبد المطلب بن هاشم أحد أعمامه صلى الله عليه وسلم. وكان الفضل هذا أحد شعراء بني هاشم المذكورين وفصحائهم المشهورين. أسلم جده عتبة يوم الفتح وشهد يوم حنين والطائف، وهو هاشمي الأبوين، وأمه آمنة بنت العباس بن عبد المطلب عمه صلى الله عليه وسلم، والفضل هو قائل الأبيات المشهورة التي أولها
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا
…
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
يريد ببني عمه بني أمية بن بد شمس بن عبد مناف كما في الحماسة والكامل للمبرد وغيرهما. ولقد اتصل الفضل بعبد الملك بن مروان وابن الوليد ومدحهما. وله ترجمة في الأغاني وفي أول الجزء الخامس عشر.
ومن شعره قوله (كما في شرح نهج البلاغة):
زعم ابن سلمى ضرني حلمي
…
ما ضر قبلي أهله الحلم
إنا أناس من سجيتهم
…
صدق الحديث ورأيهم حتْم
لبسوا الحياء فأنت تحسبهم
…
سقموا ولم يمسسهم سقْم
أني وجدت العدم أكثره
…
عدم العقول فذلك العدم
والمرء أكثر عيبه ضرراً
…
خطل اللسان وصمته حكم
أما بنو لهب بالكسر فهم قبيلة من الأزدفي اليمن تنسب إلى لهب بن أحجن بن كعب بن الحرث بن عبد الله بن نضر بن الأزد، وهم أهل العيافة والزجر، وفيهم يقول كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم
…
وقد رد علم العائقين إلى لهب
ويقول غيره:
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا
…
مقالة لهبي إذا الطير مرْت
فهم بعيدون عن أن يفتخروا بمثل هذه الأبيات التي في المجالس ص600 وإنما يفخر بها البيت النبوة. على أن هذه الأبيات تنسب أيضاً للفضل بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم كما في معجم المرزباني نقلاً عن أبي البكر الباقلاني وقد شهد الفضل هذا يوم الفتح وحنين وثبت معه صلى الله عليه وسلم حين أنهزم الناس وشهد معه حجة الوداع وكان رديفه يومئذ وتوفى في طاعون عمواس بالشام سنة 28هـ
(تنبيه) عقبة بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي ممدوح أبي الشيص المتقدم من أسرة سرية، وجه جعفر كان من أماثل بغداد وسراتها وكان أخوه العباس بن جعفر من ولاة الأعمال للرشيد، ولدعبل فيه مدائح كثير، وكان أبنه الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الكوفي أديبا شاعراً ولي الأهمال الجليلة في الدولة العباسية وكان مع هذا قائداً مضفراً منصوراً (معجم المرزباني ص322).
وأختم القول كما بد أنه بأن أهدي الثناء الجميل والشكر الجزيل للأستاذ النابغة البارع (عبد السلام) ومني عليه أطيب التحية وأزكى السلام
أحمد يوسف نجاتي
الأستاذ سابقا بدار العلوم وكلية اللغة العربية ثم بدار المعلمين
وكلية الملكة عالية بمدينة بغداد
الشعر الذي أريده.
.
للأديب غائب طعمة فرمان
للكاتب الفرنسي (أندريه موروا) أقصوصة ممتعة، وجد طريفة. . فحواها أن رساماً أصاب رسومه الكساد، وأعرض الجمهور عن شرائها والإقبال عليها، فغرض من هذا الحال، وغمه الأمر، وتعاقبت على صدره الهموم. . فذهب إلى صديق أديب يستشيره في الأمر، ويطلب حكمته في ساعة الحرج واختلاف المصائب عليه!، فأوعز إليه الأديب الأريب أن يغير أسلوبه في الرسم، ويعقد ما وسعه التعقيد، ويغمض مسرفاً في الغموض، فبدلاً من أن يرسم وجهاً فيه لآلاء الجمال، وفتنة التناسق، وإغراء الواقع، يشذ فيرسم وجهاً ذا أربع أعين وأنفاً تحت فم كبير، وإذناً ملتصقة في الجبين!!. . وهكذا يطلق لمخيلته العنان، ويصفع وجه الواقع، ويلعن أبا الحقيقة!. . وعجب الرسام المسكين من هذا الاقتراح، وعده مزاحاً ودعابة لولا لهجة الأديب الصادقة، وحماسه الملتهب!
وقفل الرسام إلى مرسمه عاملا بنصيحة الأديب، مبدياً كل شذوذ واغراب، حتى إذا تم له الأمر، وهيأ صوراً غامضة مغرقة في الغموض أعلن بمساعدة الأديب في الصحف عن ميلاد رسام عبقري من طراز غريب، سيبدل مجرى الفن، وتقف الإنسانية مذهولة مما أنتجه. . كما أعلن أن هذا الرسام العبقري الفذ سيفتح معرضه في اليوم الفلاني!
وأثار الإعلان فضول الناس، وحبهم لكل عجيب وغريب، وتهافتهم على مواطن الشذوذ والغرابة، فإذا بالمعرض يزدحم بآلاف من الناس، كلهم دهش من هذه الصور العجيبة، قادح زناد ذهنه ليظفر بالغابة منها!. . والظاهر أن الأديب كان من طراز عجيب أيضاً في الحيلة وسعة الدهاء، فقد عرف أن الجمهور لا بد من أنه سيسأل الرسام عن حقيقة هذه الرسوم ومغزاها البعيد المدى، فلا بد من جواب مدهش، فأتفق الاثنان على أن يكون الجواب:(هل رأيت في حياتك نهراً؟!). وقد وقع ما كانا ينتظرانه، فقد سأل الرسام عن هذه الرسوم فوقف وقفة صارمة، وقال بلهجة غامضة (هل رأيتم في حياتكم نهراً؟!) وانصرف، تاركا الجمهور المسكين في غيبوبة عن الوعي، مذهولا مما يرى. . . سبحان الله! إن هذا الرسام لمن طراز أعجب من العجب. فما أشد غرايته، وما أشد سلوكه، وما أعجب تفكيره. . لا. . لا. . لابد أن يكون من وراء جوابه الغامض سر محير تكمن فيه
العبقرية والموهبة الفلسفية، ولابد من أن يكون لهذه الرسوم معان غامضة لا يستطيع العقل المتوسط أن يدركها، ويبلغ شاطئيها الساحرين. وفي اليوم التالي كانت الصحف تتحدث عن مولد هذا الرسام العبقري العظيم!!
وأغلب الظن أن بعض إخواننا الشعراء يؤمنون بهذا المبدأ إيماناً مفرطاً تتداعى أمامه كل حقيقة من حقائق الدنيا. . ومع أن الزمن يتقدم، والحياة تعرض علينا في كل يوم شيئاً جديداً، فإن الأخوان - حفظهم الله - يدخلون في هياكل غزتهم، ويطلقون في جنباتها بخور الأحلام العاجزة، والأوهام الواهية، ويعيدون على مسامعهم قصة الرسام وطريقة ظفره بالشهوة وذيوع الصيت يحاولون تقليدها بتكلف الغرابة وافتعال الغموض. .
هؤلاء الناس يجب أن يسقطوا من حساب الشعراء، فهم كالنباتات الطفيلية تعيش في رياض الأدب الفيحاء. . . والحياة ذاتها لا تقبل هذا الغموض فهي دائماً سهلة المآخذ، طيعة الفكر. وكل شذوذ عن الحياة ومخالفة لمنطقها يخفى نقصاً في الإدراك ومرضاً في القلب. . وخير العواطف الإنسانية وأعمقها وأكثرها صدقاً، وأرحبها آفاقاً تلك التي تصدر عن قلب سليم حساس.
إذن فنحن مطالبون بإهمال هذا الغموض، وإسقاط كل تعقيد من الشعر، لأننا بذلك نسقط كل تكليف وكذب ومراوغة وشذوذ. . والبساطة تحيط بنا أينما سرنا، فآفاق الشاعرية في الكون الجميل المتناسق العذب النغمات، وفي أعوار النفس البشرية التي لا نجد فيها إلا كل سهولة ويسر لا في تلك النوبات الهستيرية عند بعض خلق الله! ولا وراء اللعب بالألفاظ، والتقعر في المعاني، وخوض اليم لاستخراج الصور الغريبة. . وأعذب النغمات تلك التي تنساب في اتساق ونعومة؛ تلك التي تغمر القلب الإنساني بفيض من العذوبة والحنان؛ تلك التي تعمر الجانب المهدم من الإنسانية بمعاول البغضاء والشنآن!
ودعاة الغموض في الشعر مشغوفون لحد الجنون بالصور الشعرية يخلقونها من أية مادة كانت، ويمتاحونها من أي نوع من المياه حتى ولو كانت مستنقعاً، ويسلكون إليها سبلا مليئة بالأشواك! هم يحاولون أن يخلقوا عوالم جديدة من الصور ولو كان أساسها من رمال، وجدرانها من قش!! هؤلاء ليسوا بعيدي النظر، ولا دقيق التفكير؛ لأنهم يبدءون عملهم الأدبي من حيث يجب أن ينتهوا إليه؛ فلا يدركون قيمة الألفاظ ولا قدسيتها، فقد أقعدهم
العجز وفساد الطبع عن أسكناه العوالم التي تخلقها الألفاظ. فاللفظ الشعري إذا وضع في موضعه واتسق مع موسيقاه ومعناه الوضعي خلق وحده صورة شعرية جميلة تنطلق في الأجواء الوجدانية بشائر لأحاسيس جديدة. والشاعر الحق كما يقول شارلتن (من تميز عن سائر خلق الله بإدراكه لقيمة الألفاظ، ولما فيها من قوة وإبداع) فهم - إذن - في نظر شارلتن ليسوا شعراء!
وما دامت آفاق الشاعر في الحياة والكون وليست في الألفاظ التائهة والتعابير العمياء فهو مكلف بخلق أشياء جديدة أو قل نغمات جديدة. . فلقد آن لنا أن ننادي بإخراج الشعر العربي من القوالب القديمة التي تصب معاني متبلورة لا طعم هلا ولا لون! لقد آن لنا أن نهم أن القصيدة الشعرية صورة لتجربة وجدانية لا خلاصة من خلاصات التجربة، صورة يجب أن تبرز في جميع معالمها، وتتألف جميع ملامحها وألوانها في التعبير عن التجربة الشعورية. . فالتجربة الشعورية ليس القصد منها استخراج قانون، أو الاستفادة من موعظة! فتلك وجهة نظر الأخلاقيين لا الشعراء.
والشعر العربي فقير إلى الإخراج. ومن هنا أنفتح باب كبير شغل النقاد العرب زمناً طويلاً وهو (باب السرقات). . ذلك لأن تلك المعاني المودعة في ألفاظ قليلة كمعاني حكية، أو كنتائج لتجارب وجدانية مجهولة، سهلة السرق يتصرف بها أي شاعر وينقلها في ثوب جديد!
أنا مؤمن بأن النفوس الإنسانية تتغاير سمات وملامح، وتختلف أمزجة وطبائع. . فمن الحماقة تطبيق علم النفس على التجارب الوجدانية. وإذا كان لابد من استعماله بعض الشيء فيكون بعد انتهاء التجربة على النصوص الأدبية لا قبلها لإدراك بعض الخصائص العامة فحسب. . ونحن سنجد أن احتفال الشاعر بطريقة من طرائق التعبير أو بلفظ من الألفاظ الشعرية راجع إلى دخيلة نفسه وطوايا ضميره وقد لاحظ النقاد أن (بودلير) كان يستعمل كلمة (أسود) وما يؤدي معناها كثيراً في شعره. ولا شك في أن هناك صلة وثقى بين حياة بودلير البوهيمية الصاخبة وخروجه من معترك الحياة محطم النفس، خائر القوى تتناهبه عوامل السأم والضجر والخيبة المريرة، وبين تلك الألفاظ التي تعبر عن واقع حاله وآلام نفسه. . وكذلك كان اوسكار وايلد الذي لقي من المجتمع اضطهاداً منكراً، وجبروتاً
مؤلماً، ونفوراً مقيتاً، نراه يستعمل لفظ (المجتمع الحاضر) أو العصر الحاضر كثيراً في مسرحياته وأقاصيصه، ويستعمله بسخط وازدراء، وفي موضع تشف وانتقام وكراهية!
وما دام الأمر كذلك فإننا سنجد عند الشعراء العظماء شخصية فنية متمايزة بخصائصها لها لونها الخاص، وكيانها المحدد وأدع القارئ يفتش عن الشخصية الفنية بين هذا الجمع الزاخر من المتشاعرين لعله يظفر بما لم أظفر!!
الحق أن الشخصية الفنية في خطر. وإذا قلنا هذا فقد قلنا إن الشعر العربي يمثل الآن مجاعة في الوجدان. . إن الشعر العربي يقاسى أقسى أزمة؛ ذلك لأن الذين يعالجون قرض الشعر لم يفهموا حتى الآن ما يسمى بالصدق الوجداني. . فهم لا ينفذون إلى أعماق نفوسهم ليكتبوا عن انعكاسات العالم فيها، واستجابتها لما يحيطها من الأشياء. . بل علموا كالأوراق اليابسة فوق السطح ليجتروا عواطف غيرهم، ويعيدوا على مسامعنا تجارب الآخرين بصورة مشوهة، ونغم بال. . واختفت في عالم الشعر الشخصية الفنية ولاح شاعروا واحد فجع بشيء لا اعرفه فظل يبكي بدموع غزار!
وأصبح نقادنا حفظهم الله - يطلقون الألقاب جزافاً، ويصفون الشعراء صفات مبهمة. وأصبحت كلمات الإبداع والعبقرية والصدق والرفعة في الأسلوب، والسمو في العاطفة حقيرة رخيصة تباع بالجملة في أسواق الوساطة والشفاعات
يخيل إلي أننا لم نظلم كلمة مثل ظلمنا لكلمة (العاطفة) فقد شاء ربك أن تصبح هذه الكلمة القدسية مبتذلة تلوكها الألسن، ولا تفهم حقيقتها العقول!. نحن نصف العاطفة بالصدق تارة، وبالضيق أخرى، وبالإبهام تارة أخرى. . فما هي تلك العاطفة؟!
العاطفة عندي هي الإدراك الوجداني تقابل الفكر وهو الإدراك العقلي. . فالعاطفة هي العين التي تهدينا قلبياً إلى ينبوع من الحقيقة والجمال. . ونحن في حياتنا الوجدانية نستشير قلوبنا أكثر مما نستشير عقولنا!! وما دامت العاطفة إدراكاً وجدانياً فهي تختلف آماداً، وتتباين في عمقها واتساعها. . فهناك إدراك ضيق مريض يدور حول نفسه ولا يخرج إلى رحاب الإنسانية الطليقة؛ كذلك الإدراك الوجداني القائم على اللذة وحب الذات حين ينشأ الحب بين فتى وفتاة ينحصر في حدود ذاتهما، ويتلون بلون مزاجهما، فذلك اللون من الإدراك أناني مفرط في الأنانية. ونحن نعلم حين يصاب شاعر من شعرائنا بهذا المرض
الوبيل يبيع العالم بثمن بخس، ويخيل إليه الوهم والإدراك الضيق أن العالم كله في كفة، وهو وحبيبته في الكفة الأخرى!. وكم من شاعر قدم العالم المسكين قرباناً لقدمي محبوبته بوقاحة وعدم مبالاة كان لديه مصائر البشرية. . . لهذا فإنا أحقد على هذا الحب؛ أولاً، لأنه إدراك فاسد وأنانية محضة، وثانياً: لأنه قصير الأجل يترك وراءه حقداً على العالم وكراهية للبشر، وثالثاً: لأنه يصرف الشاعر عن الإدراك الكلي للوجود، وبسجنه في دائرة لا تتعدى محبوبته فيظل يسبح بحمدها، ويقدمها إلى حد العبادة. . وهو بعد ذلك لا يخلو من كذب ورياء ومبالغة وخداع!
فأنا أكره هذا الحب الضيق كما أكره التعقيد. . بل أريده حباً أوسع أفقاً، وأبعد غوراً، وأرفع إدراكاً.
أنا لا أنكر على الشاعر أن يجب، وان يفرط في الحب، وأن يضطرم بين جوانحه عواطف وأحاسيس، وأن تنبت في روض مخيلته أمال وأحلام. . ولكن الجميل في الشاعر أن يجعل من حبه المحدود الضيق وثبته إلى عوالم جديدة من التعاطف الوجداني. . أن ينبثق في أعماقه ذلك الهيام الصوفي في حب أعم وأكثر شمولاً، وأوسع عاطفة فيتحول غزله إلى معنى رمزي جميل هو حب الإنسانية كلها والوجود جميعه. . هنالك تشرق في دنياه شموس من الأمل والرجاء. . هنالك يحلق في سماوات من الرفعة والسمو، وتصبح كل قصيدة من قصائد شعره كما قال شارلتن (كشفاً جديداً وتنبؤاً لحوادث المستقبل).
لا بأس بأن يتغزل، وأن يرسل من أعماق قلبه نغمات وألحاناً عذاباً، ويقدم من عصارة روحه رحيقاً لأرواحنا الظامئة - دائماً - إلى الخمرة الخالدة. خمرة الحق والجمال! وعند ذلك يولد الشعر الذي يستحق أن ينشد في موكب الإنسانية وهي سائرة قدماً إلى الشاطئ الجميل. . والإنسانية دائماً مشتاقة تواقة إلى مثل هذا الشعر كما تحتاج الجموع المجهدة إلى الراحة والظل الظليل، وكما تتوق النوق الظامئة إلى النمير العذب. .
هناك تتحطم الحدود أمام الشاعر، وتزال العقبات، وتصبح روحه ملكاً للبشر جميعه لا لوطن بعينه ولا لأمة واحدة. . وحينئذ تختفي أمامه الحزن والقنوط، وتلوح لناظريه بشائر الأمل والرجاء الجميل، ويأنف من البكاء - كالأنثى!! - على أطلال آمال ضيقة، وأحلام حمقاء! وهذا ما نراه عند الكثرة المطلقة من شعرائنا الأكرمين: عويل وبكاء كأنهم في مأتم
يندبون الدنيا التي أوشكت أن تزول. . . ولكنهم كالنائحات المستأجرات ينوحون في كل مأتم، ويبكون إثر كل ميت، ويذرفون الدمع كأرخص ما يكون الدمع، وأسخف ما يكون البكاء!!
هؤلاء يظنون البكاء نغماً جميلاً يأخذ سحره بالألباب!، وأن البكاء عبقرية وفهم بينما يقترن دائماً بمعنى الجهل وقصر النظر، وضعف النفس، وأنوثة الخلق وما إلى ذلك. . والبكاء - كما قيل - أسهل بكثير من الغبطة والانشراح. . ذلك لأن النفس مكلفة بالإدراك الكامل، واستعمال العقل والدارية حين تضحك ويصيبها الانشراح، بينما البكاء لا يكلفها إلا دعك العينين لاستخراج الدموع!
البكاء بعد ذلك معنى ضيق يتصل بمطالب الذات، ومسراتها الغانية في حين أن الإنسانية دائماً تسير نحو النور.
ليت شعري ألا يوجد في العالم العربي شاعر واحد يحس بالانطلاق، ويتحرر من رقبة الأوهام، ويحطم تلك الأبواق التي أزعجتنا وناحت على مأتم لا وجد له، ليملأ بالأمل، وينشد لنا أناشيد الفرح والسرور.
إن الشعر كما أريده إدراك واسع للكون والنفس الإنسانية، وألوان مختلفة من الشعور، وعمق في الإحساس لا تحدده غاية قصيرة، ولا تستبد به أوهام عاجز مقبول، وتعبير رفيع من غرابة ولا تعقيد، ونغمات تفصح عن طوايا النفس تشعر بالأمل، وتسري في أرواحنا عذوبة غامرة، وفيضاً من الاطمئنان العميق.
سيقول بعض الناس: إنك تقيد الشاعر، وتسلبه حريته في التعبير. وجوابي على هؤلاء أنه لو كانت الحرية غلواً في التعقيد، وشذوذاً في التعبير، وتكلفاً مقيتاً، ولهواً بالقشور، والوقوف على أي طلل للبكاء والنحيب، والاندفاع وراء كل رغبة مجنونة، فلتذهب الحرية إلى الشيطان
غائب طعمة فرمان
-
نظرات في المذاهب الهدامة
(. . ولكن أصحاب النحل الخبيثة وذوي المطامع لم يرضهم في الزمن الغابر، ولا يرضيهم في الزمن الحاضر، أن يعيش الناس وادعين راضين في ظلال النظم المشروعة، فهبوا يعارضون أوامر الله ووصايا الرسل بتسليط الغرائز وتحكيم الشهوات، فتمردوا على الدين، وتحللوا من الخلق، وتحرروا من القيود.)
الزيات
تقوم الحياة الاجتماعية للشعوب والأمم، على سنة ثابتة من الرقي والتطور التدريجي الذي يسير في طريق طبيعي منذ القدم. ومن الوهم، استطاعة نقل حياة الناس من حال إلى آخر بنظام يبتكر أو مذهب يتخيل فيه واضعوه أية سيطفر بهذه الشعوب مرة واحدة. وقد رسخ في وهمهم أن الجماعات الإنسانية لو قامت على هذه النظم وسارت على تعاليمها، لوصلت إلى حالة أرقى وعيش أسعد، مما عليه حياتها القائمة.
وقد انتشر كثير من هذه النظم والمذاهب في هذه الأيام، فأطلق أصحاب هذه المذاهب العنان لخيالهم الذي أتى بكثير من الانتاجات التي تعتبر وصمة عار في جبين الإنسانية المتحضرة في القرن العشرين. والعجيب أن تنبع هذه المذاهب الهدامة والنظريات المتوحشة، من أوربا المتمدينة التي يدعي شعوبها أنهم أكثر الناس إنسانية وحضارة؛ هذه المذاهب التي تقول بإبادة الضعفاء والمرضى وأصحاب العلل والعاهات حتى لا يبقى إلا الأقوياء القادرون على الكفاح في الحياة، فلا يكون أولئك المرضى الضعفاء عقبة في سبيل التقدم، بإعالة المجتمع لهم وصرف بعض الجهد في سبيلهم.
واكثر هذه المذاهب تطرفا (الشيوعية) التي أخذت تغزو بعض الشعوب فتقلب أمرها رأسا على عقب، تزلزل بنيانها وتهدم أركانها.
يقوم هذا المذهب على أركان رئيسية ثلاثة: (1) أن تكون أرض الوطن وما عليها ملكا للأفراد والأمة على السواء، وذلك بمحو الملكية الفردية وإبطال الحقوق المكتسبة بالجهد والسعي. وفي هذا ما فيه من إضعاف روح الجد والطموح إلى العلا. فهم يتوهمون أن العقر المنتشر بين الطبقات وفي الشعوب سببه سوء توزيع الثروة بين أفراد الشعب، وهم بهذا يريدون أن يرجعوا بالناس آلاف السنين إلى الوراء يوم أن كانوا في العصور الهمجية
الأولى لا يعرفون شيئا عن الملكية فكانوا يعيشون على ما يصطادونه من الحيوانات أو ما تصل إليه أيديهم من الأعشاب.
فلما ارتقت حالهم وزادت معرفتهم بالزراعة والصناعة وغيرها، عرفوا الملكية فعرفوا ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات. فحينما ينادون بمحو الملكية الفردية وإبطال حقوق الأفراد فيما يجمعون، يريدون على حد زعمهم أن يمنعوا بعض الأفراد من أن يتناولوا فوق ما يكفيهم من الثروة العامة فيكتنزوه في خزائنهم، ليفرقوه على الذين لا ثروة لهم، وفاتهم أن هذه الوسيلة عديمة الجدوى ضعيفة الأثر في تحسين الحالة الاقتصادية وإخراج الناس من الأزمة التي يرزحون تحت كلكها.
وفاتهم أنهم بعملهم هذا يقضون على روح التنافس المشروع بين الأفراد ويقتلون في نفوسهم النشاط والرغبة في العمل، ما دام كل ما يجمعونه سيذهب إلى أيدي غيرهم ممن لم يبذلوا مجهوداً ولم تتصبب جباههم عرقاً، ولم يجهدوا عقولهم في التفكير فيما يجلب لهم المال والثروة. فيتقاعد العاملون ويتكاسل أصحاب الهمم العالية ويصبح الناس سواسية في الفاقة والاحتياج، وتعود الخسارة على العالم عامة والوطن خاصة لتوقف المشروعات العظيمة والعمال النافعة التي يقوم بها ذوو الهمم الجبارة ويتولاها أصحاب الكفايات الممتازة سعياً وراء الكسب المشروع وزيادة ثروة البلاد.
(1)
أن تكون الحكومة قيمة على الأعمال قائمة بجميع المشروعات التي تكون كلها ملكاً للدولة، أي حذف رءوس الأموال الفردية. وهم بذلك يستهوون الفقراء ويجتذبونهم إلى صفوفهم لما يوهمونهم به من معسول الكلام، بأن العمل بهذا سيجعلهم في رغد من العيش ويحسن حالتهم، ويقضى على هذا العدو الناشب أظفاره فيهم كما يقول عالم من علماء الاقتصاد الروس (إن الفقر لا يعالج عن تقسيم الثروة بين الناس لسببين واضحين أحدهما أن الثروة التي يراد تقسيمها لا تكفي حاجات للناس جميعاً. وقد عرف ذلك عن طريق الإحصاءات. فلو صودرت الأرباح الفردية التي تزيد عن 10000 فرنك ووزعت بين الذين يقل دخلهم عن هذا المقدار، فإن كل فرد لا يحصل على أكثر من 12 % من دخله تقريباً، وبما أن الناس لا يصلون إلى رغد العيش المرجو إلى إذا ارتفع دخل كل منهم إلى عشرة أضعاف ما يحصل عليه حالياً، عرفنا أن مشكلة الفقر لا تعالج بتقسيم ثروة الأغنياء
على الفقراء. فالعامل الذي دخله خمسة فرنكات ويشكو الفقر والعوز، فإن حاله لن تتغير عما هي عليه إذا حصل على الـ 12 التي تخصه من الاستيلاء على أموال الأغنياء وذلك لأندخله لا يرتفع في الحالة الثانية أكثر من ربع فرانك يومياً وهذا فرق ضئيل لا يأتي بالتحسين المطلوب الذي يقصد من تقسيم الثروة بين أفراد الشعب جميعاً.
والسبب الآخر أنه إذا كان دخل أحد الناس في السنة 50 مليوناً من الفرنكات وصودر هذا المبلغ لتوزيعه على الفقراء المحيطين به فإن كلاً منهم لا يحصل على أكثر من فرنك، وهذا مقياس لجميع الأغنياء، كما أنه لو أفاد هذا العمل مرة فلن تتكرر هذه الفائدة فمن سيدفع عن الفقراء حاجاتهم التي تتجدد يوماً بعد يوم؟
ذلك لأن الشخص الذي كافح وجاهد وأكتسبالـ50 مليوناً لن يعمل على كسب مثلها في السنة التالية لأنه حرم لذة هذا الجهاد وحرمت عليه ثمرة ما بذله، فيكتفي بما يسد به حاجاته الشخصية ويكفل له العيش) ثم يقول:(إن حالة البشر المعيشية سيئة جداً، وإننا فقراء مدقعون وذلك لأن منتجات الأرض السنوية تعجز عن سد حاجة البشر من الغذاء والملبس. فهل هذا لأن الأرض لا تنتج ما يفي بما هو ضروري لنا، إن كان الجواب على هذا بالإيجاب فعلينا أن نرضى بحظنا من الحياة وما قسمه الله لنا، وأن نعتبر أن الفقر كالموت أمر لا مفر منه ولا محيض عنه، ولكن لحسن الحظ أن هذا الافتراض لا مصيب له من الصحة لأن الأرض في مقدورها أن تدر علينا من المحصول أضعاف دخله، لأن ينابيع الثروة لا حد لها على الإطلاق. .)
3 -
الركن الثالث أن الدين ألد أعداء الشيوعية وما يتبعها من المذاهب الهدامة، المتسلطة على عقول العامة، لأنه يدعو إلى مبادئ تخالف الشيوعية وتحارب مبادئها التي تعمل على جعل الأرض فردوساً موهوماً على أشلاء ضحايا البشرية؛ لذلك يعمل الشيوعيون على استئصال أثر الدين من نفوس المجتمع، لأن الذي يؤمن بالدين يستحيل على المبادئ الهدامة أن تجد لها مكانا من نفسه ومن تفكيره. وفي هذا بقولي أبو الشيوعية كارل ماركس في تعاليمه:(إن الدين هو تنهدات الجماعة المظلومة) أي أنه لولا ما يقع على هذه الجماعات الفقيرة من ظلم واضطهاد لما التجئوا إلى حظيرة الدين يطلبون حمايتها، وعلى هذا الزعم الباطل، لو محي الظلم من بين هذه الطبقات بالوسائل التي يدعو أليها، لما وجد
للدين أثر بين الناس.
ويقول غيره من الداعين إلى هذه المذاهب: (لا يتولد الدين إلا تحت تأثير النير الاقتصادي، ولا يكون ذلك إلا في المجتمعات التي تقوم على أساس الطبقات) ثم يقول: (إن الشروط الاجتماعية التي كانت تنشأ عنها العقائد الدينية قد بادت، وأن الدين قد أضحى كائنا ميتا لا حياة فيه ولا أثر له في اقتصادنا ونظامنا الاجتماعي الذي تتطلبه حياة التقدم والرقي.)
هذه هي المفتريات التي يوجهها هؤلاء الواهمون إلى القوانين السماوية، ليجتثوها من النفوس فيصبح العالم فوضى لا ضابط له ولا نظام فيه، وهي مفتريات باطلة، كما يراها المتأمل في التعاليم الدينية بعين البصيرة، البعيدة عن الأهواء والزيغ، فإن الذين يرزحون تحت كلا كل الظلم، والذين ما نرى ذوي السلطان وأصحاب الموال ومن يتمتعون بمكانة اجتماعية ممتازة، أكثر تمسكا بالدين من أولئك الفقراء المظلومين، بل هناك من الملوك والأمراء من نزلوا عن عروشهم وتنازلوا عن إماراتهم تورعا في الدين وزهداً في متاع الحياة الدنيا، فهل هؤلاء يرضون تحت وطأة الفقر والحاجة؟ وقد توهم الشيوعيون أن في مقدورهم تقويض سلطان الدين لأنهم ظنوا أنه يستمد سلطانه من فقر الجماعات وجوعها ووقوعها تحت سلطان القادة المتجبرين يسومونهم سوء العذاب، وفاتهم أن الدين يستمد سلطانه من أكرم ما يوحيه العقل وأشرف ما يبعث من عواطف في النفس.
والإنسان الذي يكون كل همه السعي في طلب القوت وكل تفكيره منصرفاً لاستنباط الحيل للحصول عليه، لا يجد وقتاً يساعده على التأمل في الدين وتعاليمه أو التفكير في مصيره. بل إن الإنسان إذا أشتد به الظلم والفقر، كثيراً ما يؤدي به هذا إلى الكفر والخروج على طاعة الدين ومخالفة أوامره.
هذه نظرة عجلى في أركان المذهب الشيوعي نستطيع أن نستخلص منها أن الشيوعيين قد خيل لهم وهمهم أن الإنسان كائن لا يهمه إلا امتلاء بطنه، وأن همه الأكبر لا يخرج عن هذا العمل فهو لا يسعى للبحث عن المثل العليا ولا عن الغذاء الروحي الذي يغذي النفوس والتي هي دائماً في تعطش إليه، ما دام قد وجد ما يشبع كرشه
(أسيوط)
عبد الموجود عبد الحافظ
الشعر المصري في مائة عام:
علي الليثي
للأستاذ محمد سيد كيلاني
1822 -
1896
- 3 -
ولليثي قصيدة نظمها في حادثة قمر النيل المشهورة واستقالة وزارة رياض باشا. وهي لا تقل عن تلك التي تحدثنا عنه في صدق العاطفة وقوة الإحساس. ومطلعها:
العيد وافي وحسن الحال منتظم
…
والأمن عم وكل الناس قد نعموا
وإنجاب عن مصر ليل مد غيهبه
…
تنميق واش بنصح صبحه حكم
يا طالما قد سعي الساعون وارتقبوا
…
شق العصا وزفير الغيظ محتدم
لولا الأناة ولولا الحزم لابتهجت
…
نفوسهم وعرى التدبير تنقصم
كل له غرض فيما ينقعه
…
والألمعي يرى ما ضعه الكلم
ماذا عليهم إذا ما سيد كرما
…
أغضى وأرضى رعاياه وسرهم
هكذا بدأ الليثي قصيدته، فهو في هذه الأبيات فرح مبتهج لحلول الأمن والطمأنينة بعد فترة من الخوف والهلع سادت بين المصريين قبيل حادثة قصر النيل، ويشير إلى دسائس العنصر الجركسي وبخاصة عثمان رفقي باشا وسعيهم في الإيقاع بين الخديو والعرابيين. وينوه بحلم الخديو وعفوه. وهو في هذا غير متكلف ولا متصنع بل أنه ليرسل القول من أعماق فؤاده.
ومنها:
الصفح والعفو أولى ما يزول به
…
داعي التنافر والأحوال تلتئم
هذا فتى الحلم توفيق الزمان بدا
…
من حلمه ما انثنت عن حلمه الأمم
فهل رأيت مليكاً في شبيبته
…
قد سهل الصعب حتى كاد يتهم
سمح الخليقة رحب الصدر ذو أدب
…
لم يعمل السيف فيما يعمل القلم
حرصاً على العدل لم يعجل ببادرة
…
عند الحفيظة حيث الغير ينتقم
وليس في هذه الأبيات من المعاني سوى مدح الخديوي بالحلم وقد أطنب في هذا كما ترى ولعل السر في ذلك هو الفرح الذي طغى على المصريين حين تخلصوا من وزارة رياض وظفروا بوزارة شريف التي عملت على إرضاء الشعب بانتهاج خطة الإصلاح. فلا عجب إذا اندفع الليثي يشيد بحلم الخديوي ويطيل في الإشادة.
ومنها:
لما رأى جنده من شبهة عرضت
…
قد عارضوا واتقوا بالحزم واحتزموا
يوم العروبة إذ شوال منتصف
…
راموا انتصافا وكاد السلم ينحسم
أجاب سؤلهم وهو الجدير به
…
فقابلوه بحسن الحمد واحترموا
وقبلوا سدة سادت بأخمصه
…
في موقف تتقيه العرب والعجم
وعاضهم من رياض غرس أنعمه
…
وهيئة في نظام الملك قد خدموا
وفي هذه الأبيات ترى الشاعر يقف في صفوف العرابيين فيصف ثورتهم وهجومهم على قصر النيل بأنها شبهة لهم ويدافع عنهم بقوله (راموا انتصافاً). فهو يقرر بأنهم كانوا مظلومين مغبونين، وأنهم قاموا لإزالة ما هو واقع بهم من الجور والطغيان
ولا شك في أن الشاعر قد أغضب الخديوي في هذه الأبيات التي كشف فيها عن موقفه من الحركة العرابية. وتتجلى عاطفة الليثي بصورة أوضح في هذه الأبيات:
وهب لجندك ما قد كان وارعهم
…
بعين أروع سيما طبعه الكرم
هب أنهم أخطئوا لم يستخف بهم
…
خوف به ثورة الأحشاء تضطرم
فكان ما كان من أمر مغبته
…
والحمد لله لم يلمم بها ألم
رفقاً وعطفاً وبالصفح الجميل أعد
…
عادات بر لهم في عودها عشم
فهم لملوك أنصار وهم عدد
…
عند الوغى ومثار النقع مرتكم
وهم سيوفك في يوم يفر به
…
قلب الجبان وموج الحرب يلتطم
وهم دروع رعاياك الذين لهم
…
في وصف معناك ما تعنو له الأمم
حاشاك مولاي أن تصغي لذي غرض
…
لديه سيان من يحيى وينعدم
لن تجد شاعراً واحداً دافع عن العرابيين في هذا الموقف غير الليثي. وهو يظهر في هذه الأبيات في الثوب الوطني المخلص الذي يفيض حباً لبلاده وغيرة على وطنه. فهو يخاطب
الخديوي محاولاً التهوين من شأن تلك الحادثة الخطيرة، مجتهداً في التقليل من قيمتها.
ويذكره في نفس الوقت بأن الجيش هو درعه الوحيد الذي يلجأ إليه عند الشدائد والخطوب. فلا بد من العطف على رجال الجيش والإحسان إليهم وعدم الالتفات إلى الوشايات التي كان يسعى الجراكسة بها في حق المصريين. وهذه من غير شك وقفة مشرفة من وقفات الليثي انفرد بها دون سواه من شعراء عصره.
وقد مدح الليثي الخديوي توفيق في أغسطس من عام 1883 م بقصيدة مطلعها:
ساعد الجد والمراد تيسر
…
وصفاء الزمان كالصبح أسفر
ثم بنا ننتشق حدائق أنس
…
روحها بالذي يسرك نور
ننتهز فرصة فليل الأماني
…
بعد يأس قد استنار وأقمر
وفي هذه الأبيات يبدو الشاعر فرحاً مسروراً، متغنياً بالصفاء الذي جاء بعد الكدر، والرخاء الذي أعقب الضيق، وانبثاق نور الأماني بعد انقشاع ظلمات اليأس. وذلك على أثر تحسن الأحوال الاقتصادية والاجتماعية عقيب الاحتلال. وقد تغنى شعراء كثيرون بما أصاب البلاد من الرخاء. والليثي أحد هؤلاء الذين نسوا الاستقلال المفقود وألهاهم الصفاء والرخاء عن تحكم البريطانيين في مرافق البلاد. ثم قال:
شنف السمع واطرب الجمع وانثر
…
من بديع المقال حبات جوهر
وانعت الحالة التي أنت يفها
…
ناعم البال بالسرور مؤزر
في زمان حلا كرشف رضاب
…
من حبيب بغير وعد تيسر
أو مدام أدارها بدر تم
…
من رأى شمسها فلا يتكدر
فالتواني حليفه العجز فانشط
…
للتهاني عساك بالأنس تظفر
نشأ الليثي في مجالس اللهو والسرور، وطبع على حياة المرح والطرب بين المغنيين والمغنيات، فلذلك تراه يكثر في شعره من ذكر العبارات والصور التي يستمدها من هذا الجو المرح الطروب كتشنيف السمع، وإطراب الجمع، ورشف رضاب الحبيب، وشرب المدام، وذكر النديم، وأخي السمر ومجالس الأنس ووقت الصفاء، إلى غير ذلك مما توحيه إليه بيئته التي عاش فيها وقد أثرت هذه البيئة في شعره وخياله وأفكاره ومعانيه، وطبعته بطابع خاص انظر إليه حين يقول:
حديثه بين أرباب النهى سمر
…
يعزوه للمجد منقول ومعقول
أوحين يقول:
فاسمح فديتك فالأوقات آنسة
…
والحظ اقبل بالإسعاد طالعه
أوحين يقول:
بها تزف الأماني في مواكبها
…
لكل راج ويرعاها أخو السمر
والأنس دار بأقداح السرور وقد
…
حيي الرعية واستملى أخا النظر
تجده يذكر (السمر) و (الأنس) و (أقداح السرور) وهذا من غير شك وليد الوسط الذي درج فيه
وكانت مجالس الأنس والسرور تعقد في الحدائق بين الأزهار والرياحين والجداول والطيور والأشجار. وقد أثرت هذه المناظر في خيال الليثي فأكثر من التغني بها في شعره، ومثال ذلك قوله:
والدهر وافي بما كنا نؤمله
…
والروض غنت كما تهوى سواجعه
طافت جداوله بالدوح ساقية
…
كأنه طفلها تحنو فترضعه
تشدو على عودها الورقا كائن لها
…
إلفا يردد شكواه تراجعه
وبلبل الأيك أبدى لحنه طرباً
…
فرنح الغصن حتى قام راكعه
وللنسيم بهاتيك الربا أرب
…
إن مر يحلو ونفح الطيب ضائعه
فهذه الصور التي جاء بها هنا قد أخذها من الواقع الذي يحيط به في حدائقه الخاصة وبساتينه، وفي حدائق إسماعيل ومتنزهاته ورياضه، وفي حدائق الأمراء والكبراء الذين كان يغشى دورهم. وقد أعجبني من هذه الأبيات قوله:
طافت جداوله بالدوح ساقية
…
كأنه طفلها تحنو عليه فترضعه
فتشبيه الجدول حين يسقى الدوح بأم ترضع طفلها يحمل صورة شعرية جميلة تجعلنا نعطف على تلك الأم وذلك الطفل.
وللشاعر قصيدة في رثاء عبد الله فكري مطلعها:
نذم المنايا وهي في النقد أعدل
…
غداة انتقت مولى به الفضل يكمل
تخطت أناساً من كثير نعدهم
…
وغالت وحيداً من قليل يحصل
ونحن بني الدنيا نباين فعلها
…
فلا تنتقى حراً عليه يعول
كأن المنايا في انتقاها خبيرة
…
بكسب النفوس العاليات تعجل
وليس في الأبيات معنى جديد، بل هي بعض المعاني القديمة التي سبق إليها منذ قرون، لم يحسن أدائها، ولم يوفق إلى صياغتها في أسلوب جيد ولا في عبارة قوية. وقد شاع بين شعراء هذا الدور افتتاح قصائد الرثاء بمثل هذه الديباجة التي يذمون فيها المنايا ويتحدثون عن خبرتها في انتقاء الأخيار والأفاضل
ثم قال:
فّتم لها من منتقى الدر حلية
…
بها العالم العلوي أنساً يهلل
وتم نظام العقد وازينت به
…
نحور يدور الحور وهو مفصل
وكل بعبد الله فكري مهم
…
ينافس فيه غيره حيث ينزل
فما شغلته عن شهود مليكه
…
ومن كان عند الله لا يتحول
دعاه بشير القرب أن جد للقا
…
لتحظى بما قد كنت ترجو وتأمل
فأهداه طيب الروح وارتاح للبقا
…
ومن يطلب الأعلى له النفس يبذل
وحل مقاماً لا يحيا بمثله
…
سوى مهتد يرعى الكمال ويعدل
في هذه الأبيات انتقل الليثي عن الدنيا إلى الآخرة وشاهد عبد الله فكري وقد التفت حوله حور العين وتنافسن في القرب منه والظفر بوصاله. وهذا عبث وهراء. وفضلاً عن ذلك عباراته جاءت في منتهى الضعف والسقم. وما أثقل قوله (نحور بدور الحور). ومن مظاهر إفلاسه اللغوي قوله (فتم لها من منتقى الدر حلية) وقوله في البيت الثاني (وتم نظام العقد) فكرر الفعل (تم) في بيتين متتاليين. وكذلك قوله (انتقت مولى) و (فلا تنتقي) و (كأن المنايا في انتقاها) و (فتم لها من منتقى فكأن اللغة وقد نضب معينها وضاعت مترادفاتها فلم يجد أمامه غير فعل واحد هو (انتقى) وقد اتخذ هذه الأبيات مقدمة مهد بها لانتقاله إلى وصف مناقب عبد الله فكري التي استحق بها هذا النعيم المقيم فقال:
غراس مساعيه جناه تنعما
…
ومن ماء رحماه يعل ويتهل
لقد كان ذا دين قويم وعفة
…
بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا
لقد كان ذا بر عطوفا مهذبا
…
سجاياه صفو القطر بل عي أمثل
رقيق حواشي الطبع سهل محبب
…
إلى كل قلب حيث كان مبجل
كريم السجايا لا الدنايا تشينه
…
عظيم المزايا إذ يقول ويفعل
شمائله لو قسمت في زماننا
…
على الناس لازدانوا بها وتجملوا
وهذه كلها من المعاني التافهة التي يحوم حولها الشعراء في مثل هذا المقام، ولا نحتاج إلى القول بأنها متكلفة مصطنعة.
ولن تجد الشاعر مهما بلغ به من الضعف مشقة في سرد مثل هذه النعوت. والذين رثوا عبد الله فكري اشتركوا في هذه المعاني فمنهم من أوجز ومنهم من أسهب. ومثال ذلك قول حفني ناصف:
باللطف واللين والدين الرصين له
…
مقام سبق عليه قط ما غلبا
ما روح النفس بالدنيا مفاكهة
…
إلا قضى من فروض الدين ما وجبا
قضى الحياة ونصر الدين دبدنه
…
لا ينثني رهباً عنه ولا رغبا
وكان مغرى بفعل الخير يحسب في
…
إسدائه أنه قد أدرك الأربا
وقد أطال الليثي على غير جدوى، وأتى بالمعنى القليل في لفظ كثير. فالمعنى الذي في قوله (رقيق حواشي الطبع. . .) هو عينه الذي في قوله (كريم السجايا. . .) وقول الليثي:
لقد كان ذا دين قويم وعفة
…
بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا
قريب جداً من قول حفني ناصف:
يا للطف واللين والدين الرصين له
…
مقام سبق عليه قط ما غلبا
وعبارة حفني ناصف وهي (مقام سبق عليه قط ما غلبا. . .) أقوى بكثير من عبارة الليثي (بها ساد أمثالاً لديه تمثلوا. . .)
ثم انتقل الليثي بعد ذلك إلى الإشادة بمكانة عبد الله في عالم الأدب فقال:
فقدنا محياه ولكن بيننا
…
بديع مزاياه بها نتمثل
فكم من أدب غض وحسن ترسل
…
لآياته عبد الحميد يذلل
فما الفاضل القاضي إذا جاش صدره
…
وأبدع في معنى عليه يفضل
ومهما صبا الصابي وأبدى بدائعاً
…
فإن ضجيج الحور منه لأكمل
وما أبن هلال حيثما حل بدره
…
وأطلق مر الفكر إلا مكبل
هكذا أمضى الليثي في غير تحفظ ولا احتراس يزري بعبد الحميد الكاتب، والقاضي الفاضل، وأبي إسحاق الصابئ، وأبي هلال الصابئ وهو من اجهل الناس بهؤلاء الكتاب. ولولا ضيق في خياله وضعف في تفكيره لما جاء بهذا اللغو الذي لا خير فيه. وأفضل منه قول مصطفى نجيب.
أقمت من الآداب نهجاً مسدداً
…
قويماً فكل في الرثاء أديب
قلنا إن الليثي أزرى ببعض القدماء؛ أما حفني ناصف فقد كان اعقل بكثير من الليثي، فلم يحط من شأن القدماء، إنما حط من شأن معاصريه. والفكرتان تقومان على السلبية أي نفي وجود الأمثال والأشباه، ولم يزد الليثي على هذه الأبيات فاكتفى بالسلبية. أما حفني ناصف فكان كما سترى فيما بعد سلبياً وإيجابياً إلى حد بعيد. ولم يصدق لا في سلبيته ولا في إيجابيته.
وقال:
مدى من فقدناه عزيز مناله
…
وآثاره فينا تضوع وتنقل
فلو أنصفتنا أنفس علقت بنا
…
لحامت على نعش به البحر يحمل
يا لهف الخلان حيث فقدنه
…
ويا لهف الأقران ماذا تحملوا
ويا لهف الآداب بعد عميدها
…
ويا لهف الكتاب إن عن معضل
ويا لهف الإيناس من بعد نأيه
…
ويا لهف الجلاس إن غص محفل
فو يا لهف مثلى وهو أولى تلهفاً
…
على فقد من كنا به نتجمل
هكذا ندب الليثي عبد الله فكري وناح لموته ورثى لحال هؤلاء الذين فجعوا به من الخلان والأقران كما رثي لحال الآداب والكتاب والإيناس والجلاس. ولا يظهر على هذه الأبيات شعور داخلي مبعثه الأسى والحزن، بل ظهر عليها التكلف والتصنع. وكرر الفعل (فقد) فقال (مدى من فقدناه.) و (حيث فقدته) و (على فقد.) وهذا يدل كما ذكرنا سابقاً على خلو جعبته من المترادفات.
وقال:
خليلي الذي قد كان أدرى بخلتي
…
وبدر أعنى الحادثات ويحمل
والليثي في هذا البيت يقول غير الواقع. ذلك لأنه كان أقرب الناس إلى الخديوين إسماعيل
وتوفيق. وكانت داره كعبة يحج إليها أصحاب الحاجات. فهو الذي درأ الحادثات وحملها وجمع بين (خليل) و (خله) و (أدري) و (يدرأ) وهذا مما يوجب الثقل على اللسان والأذن. ثم قال:
نأى عن محبيه وأقسم جازماً
…
بأن لا يؤوب الدهر ما طاب منزل
وأقسم كل من أخلاه موقناً
…
بأنا إلى لقياه شوقاً سنرحل
كلانا بصدق بر عند يمينه
…
وبالرغم ما قلنا وقال المكمل
وهذا لغر وعبث. يقول بأن عبد الله فكري أقسم ألا يعود ما صفا له العيش في الجنة. وأقسم خلانه على اللحاق به شوقاً إليه.
ويقول إن كليهما صادق في يمينه. وهذا هراء لا طائل وراءه.
وقال:
ولولا أمين المكرمات الذي إلى
…
مخايله سر الأبوة ينقل
فتى المجد والعلياء والصدق والحيا
…
وأوفى أمين يرتجي ويؤمل
يشم شذا المرحوم منه ويجتلي
…
بغرته اليمن الذي يتهلل
لذبنا أسى مما عرانا من النوى
…
ونحنا كما ناح الهديل المبتل
وفي هذه الأبيات انتقل الشاعر من البكاء على عبد الله فكري إلى التحدث عن أبنه. ولم يوفق إلى معنى جديد ولا إلى صورة لطيفة بل هوى إلى الحضيض. وقوله (يشم شذا المرحوم) من تعابير الدهماء. وقال:
عزاء عزاء أيها الشهم واحتسب
…
وأيقن بأن الله ما شاء يفعل
تجلد ولا تبد التضجر والأسى
…
فانك ممن للمعالي يؤهل
فمثلك من يسلي سواه إذا جنت
…
عليه الليالي واعتراه التغول
ومثلك من يرعى شئون مراعه
…
ويسعى لعان قلبه يتململ
وأنت بحمد الله أول عارف
…
بأن الكريم الحر لا يتزلزل
فلو أن شخصاً أمياً أراد أن يعزي آخر لما عزاه بأقل من هذه العبارات. ومن المدهش أن يصل الليثي في أسلوبه إلى مستوى الأميين وأن ينحط في عباراته إلى درجة سحيقة من الضعف والركة. وما قوله (وأنت بحمد الله أول عارف) إلا مما يجري على ألسنة الدهماء.
وقد أسرف في هذه السوقية فقال:
فكن ثابتاً عالي العزائم مقبلا
…
على شأنك الحالي عداك التنزل
فإن مصاباً حل قد حل وانقضى
…
ونحن بما يأتي نسام ونشغل
فقوله (إن مصاباً حل قد حل وانقضى) من تراكيب العامة ثم انتقل من التعزية إلى التحدث عن رجال الفقيد في الجنة وما يتمتع به من حور عين وخمر وغير ذلك. قال:
ومن بان عنا في الفراديس ناعم
…
بظل ظليل دوحه ينهدل
يغازل ولداناً وحوراً على صفا
…
وفي حسنها من لطفه يتغزل
وليس مما يستحسن أن يقال في حفلة تأبين (يغازل ولداناً وحوراً. . الخ) ولكن هكذا كانت عادة الشعراء في هذا الدور. فقال أحمد عبد الغني:
فالحور والولدان قد فرحوا به
…
واستقبلوه بالسرور وتاهوا
غير أن عبارة (قد فرحوا به) أخف بكثير من عبارة (يغازل) ولم يتعرض حفني ناصف لذكر الحور والولدان. بل اكتفى بقوله:
في جيرة الله في دار النعيم ومن
…
يحلل بها بلغ الغايات أو كربا
وإلى هنا نترك الليثي.
محمد سيد كيلاني
مكافحة الأمية بين الكبار
أوجه النقص في النظام الحاضر وأوجه الإصلاح المرتقبة
للأستاذ هاشم عساف
تعنى وزارة المعارف في الوقت الحاضر، وعلى رأسها العالم الجليل، معالي الدكتور طه حسين بك، ببحث أنظمة التعليم في البلاد، ومن بينها بغير شك التعليم الأولي ومكافحة الأمية.
ولما كنت وثيق الصلة بموضوع تعليم الكبار بوصفي مديراً لأحد المراكز الثقافية التابعة لمؤسسة الثقافة الشعبية، فإني أبادر إلى الإدلاء، فيما يلي، ببعض الملاحظات والمقترحات عساها تلقى بعض الاعتبار لدى ولاة الأمور عند النظر في هذا الموضوع الخطير
1 -
الواقع أن جميع من ينطبق عليهم قانون مكافحة الأمية، هم من الفقراء الذين لم تساعدهم ظروفهم في السنين الأولى من حياتهم على الالتحاق بالمدارس الأولية، وهي بالمجان، إما لجهل والديهم بقيمة التعليم، أو لحاجتهم إليهم في اكتساب القليل من القروش لمعاونتهم في معاشهم، أو لفقد عائليهم واضطرارهم إلى كسب قوتهم مبكرين. وحسبنا لإدراك ما هم فيه من فقر أن نعلم أنهم لم يكونوا ليستطيعوا، إبان طفولتهم، الاستغناء عن ساعات يقضونها كل يوم في المدارس الأولية؛ فكيف بهم الآن وقد أصبحوا يافعين، وقويت سواعدهم على العمل، واشتدت حاجتهم لكسب القوت؟
2 -
المعروف حتى الآن أن الجهات الرسمية مازالت تنظر إلى مكافحة الأمية من معناها الضيق. أي أنها تقصرها على معرة القراءة والكتابة، وتجعل ذلك غاية لا وسيلة؛ فالطالب في هذه السن، وحالته المادية كما ذرت، غالباً ما يكون مرهقاً بالعمال والكد في سبيل العيش لنفسه ولمن يعول، فلن تجديه المدة التي يقضيها في التعليم نفعاً سواء أطالت أم قصرت، والتعليم على هذه الصورة المعهودة من الجفاف، وهو إذ يذهب إلى المدرسة يذهب مرغماً بحكم القانون، ولكنه يتمنى أن يترك وشأنه ليستغل هذا الوقت في اكتساب قرش أكثر له ولعياله بدلا من ضياعه سدى في شيء يراه كمالياً بالنسبة لحالته. وكأني به يحدث نفسه فيقول: (ما هي الفائدة التي سوف تعود على من تعلم القراءة والكتابة؟ أهي في قراءة الكتب والجرائد والمجلات؟ أم هي في تحرير الرسائل وإمساك الدفاتر؟. إنني في
غنى عن ذلك جميعاً. . إنني في حاجة إلى ما يقيم الأولاد ويغني من الجوع. . الأجدر بكم أيها الحكام أن تتركوا الأميين أحرارا ليكدحوا في هذه السويعات، ويبتغوا من فضل الله لعلهم يرزقون.
3 -
لهذا عمد هؤلاء الأفراد إلى التهرب بشتى الوسائل والحيل من الانتظام في مدارس مكافحة الأمية، بل لقد تحملوا بعض الغرامات ولكنهم لم يعدلوا عن رأيهم في هذا النوع من التعليم، وتمادوا في العصيان حتى اضطر القائمون بالأمر إلى تغطية الموقف بوسائل ليس هنا مجال سردها، ولكن أقل ما يقال عنها أنها بعيدة كل البعد عما قصد إليه القانون. وإن كانت هذه الوسائل قد أكسبت النظام مسحة ظاهرة من النجاح، فإن حقيقة الأمر أن المظهر يخالف المخبر على خط مستقيم. ولو أعطى هؤلاء السادة حرية في القول وسئلوا عما في دخيلة أنفسهم لأجابوا بغير تردد أن هذا النظام فاشل ولم يؤد رسالته.
4 -
إن المفروض، على رغم ما في نظام المكافحة الحالي من عيوب، أن يتناقص عدد الأمين عاما بعد عام ولو بنسبة ضئيلة؛ ولكن الحقيقة المؤلمة، أن عدد الأميين، على عكس ذلك، يزداد زيادة مطردة بما يضاف إلى قائمتهم في كل عام من أشخاص تعدت سنهم حد الإلزام، ولما يستطيعوا، لسبب أو لأكثر، تعلم القراءة والكتابة!. . هؤلاء هم معاول الهدم في مكافحة الأمية، ولن يستطيع أي نظام بالغاً ما بلغ من دقة وأحكام، أن يصل إلى الغاية المرجوة، ما دام هذا النبع يغذي بغيضة الذي لا ينفد جحافل الأميين!
5 -
إن الآراء الحديثة قد توسعت في تعريف الأمية توسعاً كبيراً حتى صارت هذه الكلمة تطلق على الجهل بأي نوع من أنواع العلوم والفنون أو الصناعات. فإلى جانب الأمية الأبجدية أو الهجائية، توجد هناك أميات اجتماعية وسياسية وصحية وفنية ومهنية وهكذا. . ويعتبر على هذا القياس أمياً كل من كانت به جهالة للعلم في أي ناحية من نواحيه المعروفة. وكلما كثر هؤلاء الأشخاص في أمة من الأمم، قيل إن الأمية من نوع كذا تتفشى بين أفرادها ووجب على أولى الأمر مكافحتها.
6 -
على ضوء هذا المعنى يجب أن تعالج المكافحة. واغلب الظن أن هذا هو الاتجاه الذي تتجه إليه هيئة اليونسكو في الوقت الحاضر. فلقد قامت هذه الهيئة بجهود جبارة لمكافحة الأميات مجتمعة في وادي (ماريبال) بجزيرة (هاييتي) إحدى جزر الهند الغربية أتت
بأحسن النتائج وأطيب الثمرات.
ونحن في مصر، ما أكثر هذه الأميات في بلادنا! فإذا أريد الإصلاح حقا، وإذا أريد أن يكون الإصلاح شاملاً، وإذا أريد أن تكون المكافحة مجدية، فليكن نصب أعيننا وضع ضمان لكسب القوت. . ولن يتأتى ذلك إلا إذا كوفحت هذه الأميات، وبينها الأمية الهجائية، مجتمعة في آن واحد. وتوضيحاً لذلك أقول:
إذا علم الرجل الأمي، وهو فقير طبعاً، أنه حينما يذهب لمدارس المكافحة، يتعلم إلى جانب القراءة والكتابة، صناعة أو حرفة، تفتح له أبواب الرزق الحلال، وتقيه شر العوز؛ وإذا علم أنه سوف يتلقى دروساً مبسطة في الدين والأخلاق والصحة والاجتماع مثلاً، لترفع من شأنه كإنسان، وتجعله مواطناً صالحاً نافعاً لنفسه ولأهله ولوطنه. . إذا علم كل ذلك، أقبل برغبة صادقة، بل بشغف ونهم، على تعلم القراءة ولكتابة، ولأصبحت القراءة عنده والحالة هذه وسيلة يستعين بها على تفهم واستيعاب ما يلقى إليه من دروس.
ومتى استقر هذا الرأي في الأذهان، ورؤى الأخذ به، فإني أرى، قبل البدء في تنفيذه، العمل على تحقيق ما يأتي:
(1)
تعديل نظام التعليم الأولي تعديلاً جامعاً بحيث لا يتأنى لأي شخص أن يفلت منه في نهاية المدة وهو على ما كان عليه من الأمية الهجائية. .
(2)
تعديل قانون مكافحة الأمية بحيث يشتمل على الدراسات الآنف ذكرها.
(3)
جعل مدة الدراسة في المكافحة ثلاث سنوات بدلاً من سنتين حتى يصير الطالب في نهايتها ملماً في القراءة والكتابة متقناً للصناعة التي تخيرها.
(4)
جعل سن المكافحة تبدأ من السادسة عشرة، وأن يتمشى قانون التعليم الإلزامي مع هذا التحديد.
(5)
جعل مناهج الدراسة مرنة بحيث تتفق والبيئات وحاجات البلاد.
(6)
السير بالتدريج في تطبيق القاعدة الجديدة بحيث تبدأ أولاً في المدن الكبيرة، وعواصم المديريات، ثم تنتقل إلى المدن الصغيرة فالقرى.
(7)
أن تتكفل الحكومة بجميع الخامات والأدوات اللازمة للعمل.
(8)
صرف أجور الطلاب عن إنتاجهم بالورش على سبيل التشجيع.
(9)
تقديم واجبات خفيفة لهم أثناء الدراسة أسوة بتلاميذ المدارس الأولية.
(10)
إعطاء شهادات لهم في نهاية الدراسة، غير ملزمة للحكومة بشيء، كي تساعدهم في البحث عن عمل.
7 -
هذا النوع من التعليم يختلف اختلافاً بينيا عن تعليم الصغار الذي تقوم به مراقبة التعليم الأولي أو المراقبات الأخرى بالوزارة. ولقد عينت به الدول الراقية عناية كبيرة، فخصصت له دراسات ومناهج معينة، وحتمت الإلمام بها على الأشخاص الذين سيوكل إليهم أمر تعليم الكبار.
والهيئة الوحيدة في مصر الآن التي تمارس هذا التعليم، واكتسب رجالها خبرة ومراناً في هذه الناحية، ولقد جاء في المرسوم الملكي الخاص بإنشائها ما يلي:
(العمل على نشر الثقافة العامة بين أفراد الشعب) كما جاء في المذكرة الإيضاحية لمشروع إنشائها (. وهي في هذا تهدف إلى تعليم الكبار وتثقيفهم.) وفي موضع آخر (. بل ترمي إلى أن يمتد نشاطها إلى سائر المدن ويتغلغل بقدر الإمكان إلى صميم الريف. كما تهدف إلى توجيه من يشاء توجيهاً مهنياً مثمراً.).
وما دامت هذه هي مهمة مؤسسة الثقافة الشعبية، وتلك هي أغراضها، وذلك هو عملها، فلماذا يوكل أمر تعليم الكبار القراءة والكتابة إلى غيرها؟ ولماذا تتعدد الأيدي التي تعالج هذا الموضوع فتتوزع الجهود وتذهب جفاه
ألا يجدر بأولى الأمر أن يعملوا على توحيد الجهود وتركيزها في إدارة واحدة، تقوم بالإشراف على هذا النوع من التعليم في شتى نواحيه حتى يؤتي الثمرة المطلوبة؟
إن الصالح العام، وكل الظروف، فنية كانت أو إدارية، تقتضي أن تكون مكافحة الأميات المختلفة، هي المهمة الرئيسية لهذه المؤسسة. ويجب أن يدور على هذا المحور كل نشاطها. أما مهمة تزويد القارئين فعلاً بالثقافة العامة فينبغي أن تكون في المحل الثاني.
وعندي أنه متى أخذت الحكومة بهذا الرأي، وبدأت المعاهد والمراكز الثقافية في العمل على النحو المقترح، فأخرجت للبلاد بعد ثلاث سنوات عدداً لا يتجاوز الألف في جميع أنحاء القطر من أفراد يجيدون القراءة والكتابة، ويتقنون صناعة ما، ثم يلمون بنبذة من تاريخ بلادهم، ولمحة عن المسائل الصحية والاجتماعية الضرورية، وجملة من مبادئ
الدين والأخلاق لكان. . . ذلك العدد مع ضآلته، نواة صالحة ستزداد على مر الأيام، لخلق مجتمع ناهض قوي، مزود بكافة الأسلحة التي تعينه على رفع مستواه، وإبراء نفسه بنفسه من أعدائه الثلاثة وهي الفقر والجهل والمرض. والله ولي التوفيق
هاشم عساف
مدير مركز سوهاج الثقافي
رسالة الشعراء
في ليلة عيد
كثيراً ما يستلهم الشاعر قصة شعره من عالم الخيال ليجعلها مسرحاً لمعانيه. ولكنني - في هذا الذي بين يديك - كنت في غنى عن ذلك. فلقد نقلته من دنيا الواقع، إذ شهدت نهايته في لبنان، وعرفت بدايته هناك. . . (في البلد الذي تخف به حدائق الليمون). فقضى شيطان الشعر أن أسرده ففعلت.)
تناهت به سالفات الذكر
…
إلى عالم من نعيم غبرْ
يهيم بأفيائه الوارفات
…
وقد أغلفته صروف القدر
فأصباحه مشرقات في ركبه
…
فينهل منها بشتى الصور
وبمرح ملء رداء الشباب
…
فؤاد خلي وعيش نضر
إذا ذكر الصب عهد الحبيب
…
وما ذاق من صده أو رضاه
وحدث عن أمسيات اللقاء
…
وجفوة معشوق إن جفاه!
ففي أم طفلته ما أفاء
…
عليه الحبور وبرد الحياء!
وجنبه موبقات اليسار
…
وشط به عن مغاني هواه!
فعاش صدوقاً نقي الأزار
…
بعيد الأماني فيما ابتغاه
وكر الزمان وئيد الخطى
…
وطفلته شغله الشاغلُ
يفيض عليها ضروب النعيم
…
ويغمرها عطفه الشامل
فتعبر دنيا صباها الغرير
…
وبيرحها عهده الآملُ
وتقبل في خطوات الشباب
…
كظبي تأثرَّه الحابلُ
تميس ببرد جمال مهب
…
يسانده خلق كامل. .
ومرت خطوب تشيب الوليد
…
بما حل من هولها المفزع
فيوم حصار كيوم الوعيد
…
اقضوا به ساكن المهجع
ويوماً يساق أبات الرجال
…
إلى محشر دافق مترع
فنمهم اذاقوه مر العذاب
…
ومنهم تولى فلم يرجع
ومن قام يتلو نشيد السلام
…
أفاق على نغم المدافع
وأقبل يوم كئيب الصباح
…
بغيض المحيا لما جاء فيه!
فشيخ يعض على راحتيه
…
ويندب في القوم صرعا بنيه
وطفل بدا هدفاً للرصاص
…
فخر على مشهد من أبيه
وقوم حيارى أضلوا السبيل
…
فكل أخ ذاهل عن أخيه
مضى بينهم ليس يدري المصير
…
إلى هدف لم يكن يبتغيه
وفي أرض لبنان بعد العناء
…
وطول السرى كان غب المسير
تناجيه (ليلى) غداة استقر
…
أحلفت أمي وما من نصير؟
فيمضي يعللها بالمنى
…
إذا أردفت بأين صوت الضمير!
غداً يا ابنتي الجحفل اليعربي
…
يذيق أعاديك سوء النكير!
غداً يجمع الشمل بعد الشتات
…
متى انقض جيش (العزيز) المغير
وتغمض إغماضة المطمئن
…
وتغفو على الأمل المشرق
صباح غد هو عيد الأضاحي
…
فكيف يطل ولم يألق!
ولم تك تعلم أن الزمان
…
يداهم بالحادث المطبق!
وان أباها حليف الطوى
…
يبيت من الهم في مأزق!
وان البلاد انتهت للعدو
…
بكيد امرئ قط لم يتق. .
مواكب شتى من الذكريات
…
تعيد له الصور الدامية
توالت عليه إزاء الغروب
…
فكانت هي الظلمة الثانية!
لقد حطم اليأس آماله
…
فخلفها مزقاً بالية
وأنحى عليه الضنى ما استطاع
…
بقبضة سورته العاتية
فخر على وجهه للثرى
…
وأسلم أنفاسه الواهية. .
فيالك عيداً تكالب فيه
…
عديد من المحن القاصمة!
فأصبح يجمع أشثاثها
…
لتحدق بالغادة النائمة!
فيا ليته امتد هذا الرقاد
…
وظلت بآفاقه حالمة!
متى قاومت عاصفات الرياح
…
وطغيانها الزهرة الناعمة!
هو الدهر أسلمها للهوان
…
فآثرت الطعنة الحاسمة. .
ومتع بالعيد أصحابه
…
وإن وسدوا الهالكين الثرى!
أما رددوا - إن قضى لاجيء
…
(لقد باع أوطانه فاشترى)!
فيا أيها الشعب حتى متى
…
يضللك الخصم فيما افترى!
تدبر أمورك قبل الضياع
…
فها هو ذا العلج قد دبرا!
وبادر عدوك في وكره
…
وإلا ارتقب يومك الأغبر!
محمد سليم الرشدان
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
في مناقشة رسالة جامعية
نوقشت الرسالة المقدمة من السيدة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) للحصول على الدكتوراه في الأدب من جامعة فؤاد الأول يوم الخميس الماضي بكلية الآداب، وكانت لجنة المناقشة مكونة من معالي الدكتور طه حسين بك، وهو الأستاذ المشرف على الرسالة، ومن الأستاذ إبراهيم مصطفى والدكتور زكي حسن والدكتور فؤاد حسنين والأستاذ مصطفى السقا.
وموضوع الرسالة (رسالة الغفران لأبي العلاء المعري - تحقيق ودرس) وقد بدأت السيدة صاحبة الرسالة بالحديث عن موضوعها، فقالت إن ما حببه إليها واسترعى اهتمامها به هو الحياة الإنسانية عند أبي العلاء، وهي تتجلى خاصة في رسالة الغفران، وذكرت جهدها في جمع النسخ المخطوطة ومقابلتها وتفسير ألفاظها والتعريف بمن جاء فيها من الأعلام وما ورد بها من الأماكن، ثم بينت أهم الموضوعات التي تناولتها بالدراسة، من دراسة حول النص، والمعالم الكبرى في رسالة الغفران، وموضوعات هذه الرسالة، وخصائصها، ومكانها من أدب أبي العلاء، ومقارنة هذا اللون من الأدب بأشباهه في الأدب الأوربي. وما إلى ذلك.
والموضوع - كما ترى - خشن. . . وخاصة تحقيق النص؛ فكان موضع العجب ومثار الإعجاب أن تنهض بأعبائه سيدة ويظهر أن قيامها بهذا العمل قد أغرى بها الأستاذة الممتحنين، فاشتدوا في مناقشتها وحاسبوها حساباً عسيراً أشبه بمواقف الحساب في العالم الآخر الذي تحدثت عنه رسالة الغفران. . . كما يظهر أن هذا الجهد العسير قد حملها على الاعتزاز به - قبل المناقشة والمحاسبة - فكانت تتحدث عنه مزهوة ولم تنتظر حكم المحكمين ولم تعبأ بكل ما قيل عن التواضع ومزاياه. . . فأنبري لها معالي الدكتور طه حسين بك وسلقها على هذا المسلك، ولكنها صمدت له، وكان المظنون أن تنسحب باكية، فكان صمودها موضع العجب ومثار الإعجاب مرة أخرى، وظلت تلاقي المكاره التي حفت بها (جنة الدكتوراه) حتى ظفرت بها أخيراً بتقدير ممتاز
وقد بدأ الدكتور طه حسين بك مناقشته بالثناء على هذا العمل الأدبي الذي قامت به السيدة، فوصفه بأنه عمل خطير، قائلاً: إنها قدمت نصاً محققاً ميسر الفهم قد بعد أشد البعد عن التشويه والاضطراب، وقد كانت دراسة أبي العلاء مهملة فحمل عليه كثير من الأكاذيب، وقد أحسنت بهذا العمل إلى أبي العلاء وإلى العلم، وقدمت إلى عالم الأدب خدمة جليلة تستحق عليها شكراً أي شكر وثناء أي ثناء، وتغيرت نبرة معاليه في صوته المعبر وهو ينتقل من هذا الثناء، فيقول: كل هذا لاشك فيه، وإنما الشيء الذي فيه شك هو أنك تشعرين شعوراً قوياً بجلال العمل، وهذا أول ما تؤاخذين به من نقد، فأنت أثرة مستأثرة جئت تلتمسين الموافقة على جهدك وقد وافقت أنت عليه من قبل، ولم تنتظري التشجيع فشجعت نفسك بنفسك، وأثنيت عليها ثناء مسرفاً، وليس أبغض إلى الله من الثناء على النفس لما فيه من الرياء والغرور، وكنت أحب أن تقبلي علينا متواضعة راضية، بما قدمت من جهد منتظرة رأينا فيك وفي عملك، وأنت لا تكتفين بذلك وإنما تهاجمين غيرك في الموازنة بين النص الذي تقدمينه وبين ما نشر قبله. وكان يجب أن تتركي لنا هذا، ولكنك تأبين إلا أن تتناولي النصوص مشنعة، وليس التشنيع من الحث العلمي، وإنما هو أقرب إلى الصحافة وإلى الصحافة المهوشة. . وعسى أن تكون خطورة هذه المسألة من أنك لم تنسى بعد ما يتصف به الطلاب الشبان من الطموح إلى التفوق والحرص على السبق وإرضاء الأستاذ فكأنك حريصة على أن تكون الأولى كما يفعل التلاميذ في المدارس الثانوية. عقلك عالم ولكن خلقك شاب، والشاب الذي لم يجرب هو الذي يريد أن يسبق. والنصيحة التي أقدمها إليك تنحصر في جملة واحدة قد أخذناها عن شيوخنا في الأزهر وهي: من تواضع لله رفعه.
وبعد ذلك لاحظ معاليه أنها تذكر كلمة (المنهج) مطلقة من غير إضافة لشيء كالجامعة مثلاً، وخاطبها قائلاً: مادمت حريصة على المنهج فتعالي أناقشك، وناقشها في عدة مسائل، منها أنها تحدثت عن سياسة العرب الإسلامية أيام رسالة الغفران من أفق عال من حيث التحدث عن الملوك والأمراء، وأهملت عنصر الحياة الشعبية والاجتماعية مع ما لهذا من أثر في أدب أبي العلاء، كتشاؤمه الذي يرجع إلى اضطراب الحياة الاجتماعية واختلاف الطبقات. ومما ناقشها فيه قولها: إن أبا العلاء رجل محروم مكبوت، لأنه لما يئس من العفة تشاءم.
قال الدكتور طه: إن أحداً لم يسيء إلى أبي العلاء كما أسأت إليه بهذا القول، هل كان أبو العلاء حريصاً على الاستمتاع ثم زهد عن عجز؟ تقولين هذا ثم تدعين أنك تكبرينه، ولم تأت بنص واحد يثبت أن كان حريصاً على اللذات، لقد كان أبو العلاء يرى أن اللذات الكبرى هي التي لا ألم وراءها كان يرى الإنسان حقيراً وحياته لا تستحق العناية، كان يقول:
ولم أعرض عن اللذات إلا
…
لأن خيارها عني خنسنه
لقد خدعك ما يكتبه الأوربيون عن الكبت والحرمان وقد سمعت في مصر وفي الشام ما قيل من أن أبا العلاء حمل على المرأة لأنه لم يستطع أن ينالها، وهذا ليس من الإكبار لأبي العلاء في شيء.
وأذكر أني قرأت هذا الرأي الذي أشار إليه معالي الدكتور طه حسين بك، في كتاب (رأي في أبي العلاء) للأستاذ أمين الخولي، وقد سمعت ما قاله الدكتور في تفنيده وتفنيد ما جاء متصلا به في الرسالة موضوع المناقشة، فلم تقتنع نفسي بهذا التفنيد، لأن تحقير أبي العلاء للذات الحياة لا يمنع أن تكون رغبته فيها كامنة، ولا أقول بأنه يرائي، إنما كان تحقيره قائماً في شعوره الظاهر على سطح ما استسر في غريزته، وعلى ذلك ليس من الممكنات الإتيان بنص يثبت حرصه على اللذات، وليس ما يقوله في الزهد والإعراض عنها دليلاً على عدم الرغبة لما كبتت ولدت النفور. ولست أدري لماذا لا نأخذ في هذه المسألة بما يكتبه لأوربيون عن الحرمان والكبت والشعور الظاهر والعقل الباطن.
ولولا أن صوت الدكتور طه حسين معبراً لما وقفت عند ذكره الصحافة في مقابل البحث العلمي. ولست أريد أن أعرض لما عساه أن يكون قد قصده من أن اشتغال صاحبة الرسالة بالصحافة غلب عليها في جزء من دراستها وهو الخاص بالطعن والتشنيع على من سبقوها في تحقيق رسالة الغفران، ولكني أقول إن فضل الصحافة في تقديم الأدب إلى الناس لا ينكر، وإن قسماً كبيراً جداً من إنتاج أدبائنا وخاصة كبارهم رآه القراء أول ما رأوه على صفحات المجلات والجرائد، وأقول أكثر من ذلك: إن كل أدبائنا الكبار منسوبون إلى الصحافة وقد كاد العميد الكبير أن يكون نقيب الصحفيين كما يعرف القراء مما جرى في آخر عهد الوزارة السابقة، ولعل اسم معاليه لا يزال إلى الآن مقيد في جدول الصحفيين.
لم هذا الشعر الرمزي؟:
في عدد أبريل الحالي من زميلتنا مجلة (الكتاب) كلام للدكتور بشر فارس، عنوانه (الشاطئ الحافل) وأوله:
أنا السيد الأعلى للشاطئ الحافل
إليه من مواغل الأرض تقبل الضمائر
ذوات الرغبات الخساس
عاجزات، غيارى
فتموت.
وقد كتب تحت العنوان (شعر) لكي يلقى القارئ باله إلى - أن هذا الكلام شعر. . . أو لكي يزول عنه الشك في أنه شعر وإن كانت هذه الكلمة غير كافية لإزالة الشك، فلا أقل من أن يقال: والله العظيم أنه شعر! وقد علق عليه الأستاذ عادل الغضبان بكلمة أنكر فيها نسبة هذا الكلام إلى الشعر، حتى الشعر الرمزي القائم على التعريض والكناية، بل هو (إبراز المضمر واستنباط ما وراء الحس من المحسوس وتدرين اللوامع والبوادء) وماذا يعني؟ والله أعلم! خذ مثلا (إبراز المضمر) هل أبرز في ذلك (الشعر) مضمراً؟ ألست تراه - على العكس - زاده إضماراً على إضمار؟ وأنا أفهم أن ما يقع عليه الحس هو المحسوس، أما ما وراء الحس فكيف يكون محسوساً؟ وأما (اللوامع والبواده) فكل شاعر يدونها، ولكنه كلام غريب! والمطلوب أن يدهش وأن تصرف غرابته عن طلب ما وراءه!
أقصد بعد ذلك إلى الأستاذ إبراهيم الأبياري الذي كتب في بي نفس العدد مقالا بعنوان (الرمز في الشعر العربي) وغاية المراد هي الرمزية في شعر الدكتور بشر فارس، وقد (بدهني) من هذا المقال أن الأستاذ الأبياري تحول فيه من الأغراب اللغوي إلى الأغراب ب (اللوامع والبواده). عرف الأستاذ (الرمزية البشرية الفارسية) بأنها (رمزية الصورة وهي أن ينعقد فكر الشاعر على حقيقة ما فيحليها خيالاً، يختار له صورة تتفق ومعناه ثم يذهب يضم إليها ما يشبع نواحي تلك الصورة المتخيلة إشباعاً) وكل شاعر ينعقد فكره على حقيقة يحيلها خيالاً يصوره ويشبعه إشباعاً، فما الجديد؟
وليقل الأستاذ الأبياري ما يقول، ولينجز ما وعد أو توعد به من إطالة الحديث في هذا
الباب والتقعيد له. . إنما أريد أن أقف معه إزاء (الشاطئ الحافل) أو (الشاطئ الحافي) كما ينبغي أن يقال ليكون أشد إمعاناً في الرمزية! ولننظر في الفقرات السابقة التي نقلتها من أول (القصيدة) ما هي الحقيقة التي أنعقد عليها فكر الشاعر. . الخ؟ ولنفرض أننا استطعنا - بعد الكد وحمل النفس على مالا تستطيب - أن ندرك ما يرمى إليه القائل، فما غاية هذا العناء؟ وما محصوله! وهل فيه جمال من جمال الفنون!
لطالما أسمعني الدكتور بشر فارس من أمثال ذلك (الشعر) - عفا الله عنه لحسن نيته! - وأنا أقول له: إني لا أفهم شيئاً، فيحاول أن يبين، وكنت أحياناً أصل إلى أنه يريد شيئاً، ولكن لا أجد هذا الشيء يستحق كل ذلك الشقاء، شقاءه وشقائي. . وقد رثيت لهذا الصديق الطيب وأشفقت عليه مما يعانيه، ولكني أرى العدوى تصل إلى صديق آخر طيب أيضاً، هو الأستاذ الأبياري، وقد بئست من الأول، وبقى لي أمل في الثاني، لعله يبين لنا الحقيقة والصورة وما أكلت منه حتى شبعت، على أن يذكر فائدة هذا اللون من الكلام وهل فيه ما نطلب في الشعر من متعة فنية، أو هو كلام غير مألوف والسلام. . .
شكاية أديب:
(طالعت في كشكولك الأسبوعي قولك (إن الأدباء هم الطائفة الوحيدة التي ليس لها شمل ملتئم، وهم في البلد الذي تنال فيه الحقوق بقوة الجماعات) ولقد أثارني هذا القول، فإن جريدة الأهرام - كما قد تعلم - أخرجتني من وظيفتي بوزارة المعارف لأتفرغ للتحرير فيها، ثم تخلت عني دون مبرر ولا موجب، فلجأت إلى نقابة الصحفيين - وأنا عضو فيها - ولكن النقابة لم تنصفني، بل ولم تأذن لي بمخاصمة الجريدة المذكورة، فهل رأيت في الدنيا موقفاً أعجب من هذا؟! لبثت قضيتي مطروحة على مجلس النقابة أكثر من ستة اشهر، حتى لم يعد في قوس الصبر منزع، وأخيراً لجأت إلى القضاء مطالباً جريدة الأهرام بتعويض مقداره خمسة آلاف جنيه وسوف تعرض الدعوى على محكمة الإسكندرية الابتدائية في 16 أبريل، فأين يا أخي عباس الطائفة التي تدافع عن الصحفيين بعد أن خذلتني نقابة الصحفيين التي ادفع اشتراكها السنوي وأقوم بالتزاماتها جميعاً؟!)
منصور جاب الله
هذا بعض رسالة تلقيتها من الأديب الفاضل والصديق الكريم الأستاذ منصور جاب الله. وأنا حقاً أعلم قصته مع (الأهرام) وهي قصة يعرف مطلعها القراء، من مقالاته وتحقيقاته الصحفية، التي تدل على الاطلاع الواسع والذوق المصقول. وقد كان يوالي الكتابة بالأهرام وهو موظف، وكان المغفور له أنطون الجميل باشا يعرف قدره، وقد طلب إليه في سبتمبر سنة 1947 الانقطاع للتحرير بالجريدة، وكان الأستاذ منصور حريصاً على الإقامة بالإسكندرية لملاءمة جوها لحالته الصحية، فاتفق معه على أن يكون محرراً مقيماً بالإسكندرية، وعلى ذلك استقال من الوظيفة الحكومية، وظل يراسل الأهرام ويكتب إليها من هناك. وفي نوفمبر سنة 1948 أصدرت الجريدة إليه أمراً بالانتقال إلى القاهرة وإلا عدّ مفصولاً، فلما أعتذر بأن هذا مخالف للاتفاق انقطعت عن موافاته بمرتبة ثم قررت فصله.
وأنا لا أريد أن أتعرض للأمر من الناحية القضائية ولا من ناحية النقابة، وإنما أنظر إليه من الناحية الأدبية بالنسبة إلى الصحيفة الكبيرة ذات الماضي النبيل في معاملة محرريها وسائر موظفيها وبالنسبة للأستاذ منصور الذي خدمها متطوعاً وضحى بوظيفته ليكون من جنود صاحبة الجلالة بها، وإذا هو أخيراً يجد نفسه على قارعة الطريق. .
ما كان ضر الأهرام لو أبقته يوالي عمله بالإسكندرية كما كان؟
وليت شعري كيف يضيق صدرها الواسع بكاتب مثل منصور جاب الله؟ لقد عرفنا الأهرام مثالا لحسن المعاملة وتقدير العاملين بها، وكان يضرب بها المثل في ذلك بين الصحف، فماذا جرى؟ ما كان ينبغي قط أن يصل الأمر بينها وبين أحد لا إلى النقابة ولا إلى القضاء.
ولقد ترددت في إثارة هذا الموضوع هنا، ولكن الكاتب الأديب الأستاذ منصور جاب الله في محنة، ومن حقه أن يرفع صوته بالشكوى.
عباس خضر
خواطر مرسلة
حديث التراب
(إلى المتكبرين الذين نسوا أنهم من تراب خلقوا وإليه يعودون
ومنه يخرجون)
للأستاذ حامد بدر
قلت لصاحبي: هل سمعت حديث التراب؟ قال: وهل يتكلم التراب؟ قلت: نعم يتكلم بصوت يسمعه من كان له قلب، وآثر على الشموخ بأنفه، الإطراق برأسه، ممعنا في التردد إلى الأرض، بعد أن عرف أن نعيم الدنيا وشقاءها يزولان بزوالها، كما تزول عند الأفاقة طيوف الأحلام؛ وأن السعادة التي يتنافس من أجلها المتنافسون، والشقاوة التي يستعيذ بالله منها المتقون، هما السعادة والشقاوة اللتان لا تنفدان ولا تنتهيان.
قال صاحبي: فما حديثه؟ قلت: كلما وطئ المتكبر الأرض بقدميه قال له التراب: أنت ظلوم جهول. . . ترى الحق وتعمى، فإن لم تعم تعاميت! وأنت حقير مغرور. . . تتعالى من فوقي ناسياً أنني رفيق الآباد، ومتحدي القرون بهذا الظاهر المنبسط الغامض، وذاك الوجه الأشعث الأعفر، وذلك السطح الرحب الصبور، جاعلا صدري مهادا لأقدام المثقلين بعظائم الخطايا، المفاخرين بكبائر الذنوب. . .! وقليل من يدرك أسراري، ويتدبر عظاتي.!!
أنت تنظر إلي نظرة سطحية فارغة قصيرة لا تتجاوز قدميك؛ ولو استطعت أن تنظر نظرة نافذة مليئة بعيدة المدى، لرأيت في تواضعي قوة الجبار، وفي سكوني ثبات الواثق، وفي احتمالي أناة الحليم، وفي صمتي عظة الحكيم، وفي ركودي عفو القادر، وفي هبوبي - الفينة بعد الفينة - آية للغافل الوسنان.!
وأنك إذا تأملت قليلاً ما شككت في أن في باطني قوة تفتت الجماجم، وتذيب الجلامد، وتصهر الحديد. .!
كم ثار من فوقي طاغية. . . وأخيراً لاذ بي جثة فارقتها الحياة، ونفر منها الأحياء؛ ولولا سعة صدري لاشمأز منها الأقربون!
وكم من شمخ بأنفه صادماً بقدميه تواضعي، فحملته حياً، واحتضنته ميتاً، ليرى مصيره،
وينزل منزله!
عرفت شأني من قديم الدهور، فلم أحفل من داسني بنعله، ولكني أنهاك أيها المغرور - نهي الناصح - عن التمادي فيما أنت فيه من غفلة وعمى وسوء أدب. . فما أنت مني سوى ذرات! وأنك أن عرفتني عرفت أصلك ومرجعك، وأن ضربت الأرض بقدميك، ورمقت السماء بعينيك، وذهبت منتفخاً، ورجعت منتفخاً فقد أتعبت نفسك وأشقيتها، ثم عدت تطلب الراحة في مهادي الوثير، فينبو بك لأنك عققته، وحق عليك غضبه!
حامد بدر
البريد الأدبي
المدرسن أولاً
قرأت في مجلة الرسالة الغراء كلاماً كثيراً حول مناهج الدراسة في الأزهر، وركود الحركة الفكرية، فيه وآخر ما قرأت من ذلك كلمة في العدد (874) بإمضاء (أزهري عجوز).
والكلام في هذا الموضوع ليس أبن اليوم فكل ما كتب الآن إنما هو ترديد لما كتب في السنوات الأخيرة. وقد كانت النية ألا أسترك في هذا الجدل مكتفياً بما كتبته في مجلة الأزهر وما قدمته للرؤساء من تقارير حول هذا الموضوع، ولكن كلمة الأزهري العجوز أثارت عجبي، فرأيت أن أعقب عليها بهذه الكلمة القصيرة.
إذا أردنا أن نقيم الدراسة في الأزهر على أساس علمي سليم، وأن نظفر بإنتاج أزهري قويم، فعلينا أولاً أن نعنى بالمدرس العناية التامة، فإن إعداد المدرس وتكوينه والعناية به هي التي توجد لنا الدرس المفيد أولاً، والكتاب النافع ثانياً.
والمدرسون في الأزهر الآن ثلاثة أصناف، فصنف تمرسوا بالكتب الأزهرية القديمة، وأطالوا فيها النظر، وفهموها حق فهمها، وهضموها، وهؤلاء يقومون بأداء رسالتهم على خير وجه، وصنف آخر درسوا على النظام الحديث، فدرسوا علوم التربية، وعلم النفس. وهؤلاء خير من يستطيع بسط المعلومات وتنظيمها، وإيصالها إلى أذهان الطلاب في يسر وسهولة. أما الصنف الثالث فدرسوا دراسة علمية ولكنهم لم يتح لهم الزمن الذي يجعلهم يهضمون الكتب القديمة، ولم يظفروا بدراسة شيء من أصول التربية وعلم النفس، وهؤلاء في حاجة ماسة إلى أن يدرسوا ويطيلوا الدرس حتى يلحقوا بواحد من الفريقين الأخيرين، فإن من الأمور الثابتة التي لا يختل فيها اثنان أن النجاح في التدريس لا يرجع إلى كثرة المعلومات وحشدها، وإنما يتوقف على تنظيمها، وأسلوب إلقائها. و (الأزهري العجوز) يؤمن بهذه النظرية، ولذلك يقول في أول كلمته بوجوب بناء المناهج الحديثة على أصول تربوية سليمة، ولكنه في آخر كلمته يناقض هذا الذي بدأ فهو يندد بتعالي الصيحات التي تنادى بأن تفتح أبواب الكليات لمدرسي المعاهد، فهو يعرف أن هؤلاء المدرسين المبعدين عن الكليات هم - وحدهم - الذين درسوا أصول التربية، وأنهم أقدر من غيرهم على معالجة الكتب، وتسهيل صعبها، ولكنه يخاف من ذلك، ويريد أن تبقى الكليات احتكارا
للذين لم يدرسوا حرفاً واحداً من هذه العلوم، وليس لهم فضل إلا في كثرة المعلومات التي حشوا بها أذهانهم
وأنادي بها عالية مدوية أنه لا إصلاح للأزهر ما لم يمكن المدرس الكفء من أداء رسالته. أما أن يقبر الأكفاء، وأن تبقى الدراسة في الكليات موقوفة على طائفة معينة، أو مرهونة بإغراض أخرى غير الكفاءة والاستحقاق، فذلك ما يضعف الأمل في التقدم.
وقل لي بربك كيف تقبل نفس المدرس على العمل أو على التأليف وهو يرى نفسه كما قال الأول:
تقدمتني أناس كان خطوهم
…
وراء خطوي لو أمشى على مهل
أعدوا المدرس الصالح أولاً، وقد أعددتموه فمكنوه من أداء رسالته، وهؤلاء الذين جعلتم له لحق في احتكار التدريس بالكليات قد علتموه بالعلم، فعلموهم كيف يدرسونه.
أم درمان
علي العماري
نداء من الهيئة المصرية لمؤتمر العالم الإسلامي الدائم
1 -
إن المسلمين في إبان تاريخهم الطويل وما تركوه من أثر في قيادة العالم لم يصلوا بعددهم في وقت من الأوقات إلى مثل عددهم في العصر الحاضر.
فهم يكونون الآن من مجموعات كبيرة موزعة في قارتين من الأرض وأخرى موزعة على بقية القارات وعددهم يتكون من مئات الملايين.
وتسكن بعض الأمم الإسلامية لها أهميتها الجغرافية والتاريخية لأنها تتوسط قارات العالم القديم. ويؤيد من أهمية المسلمين في نظر بقية العالم أن بعض أراضيهم تعد من أغلى بقاع الدنيا - لا من ناحية خصب التربة وخيرات الزراعة وحدها، بل لما تحويه داخل التربة من ثروات معدنية وخيرات لم تصل إليها يد الإنسان بعد، فهم من ناحية موقعهم الجغرافي تسيطر بلادهم على أهم طرق المواصلات العالمية، ومن ناحية ثروتهم الزراعية وما تحويه أقطارهم من ثروات معدنية عرضة لتغيير كبير وتطور جارف قد يجعلهم في مقدمة أمم الأرض في النصف القادم من القرن العشرين.
2 -
ومع كثرتهم العددية التي أشرنا إليها وما ينتظرهم من مستقبل باهر نتيجة موقع بلادهم وما تحويه تربتهم من غنى وخيرات لم تستغل بعد، ومع وصول عدد من دولهم إلى الاستقلال التام عقب الحرب العالمية الثانية، ومع مظاهر الوعي القومي وبعض الوعي الديني، فيهم ومع انتشار أقليات منهم من بلاد كثيرة، لم يتمكنوا بعد من تأسيس هيئة إسلامية عالمية تستطيع أن تخدم الإسلام وتنشر الحقائق عن أهله وبلاده وتشير إلى أهميتهم كمجموع كبير وعنصر من عناصر الرقي والتقدم.
ولما اجتمعت الهيئات الدولية عقب الحرب واهتمت بالشئون الدينية والروحية كعناصر من عناصر بقاء الإنسان وتطوره، أخذت الأديان الأخرى تتقدم بهيئاتها المختلفة إلى منظمة الأمم المتحدة ولم تجد بينها هيئة واحدة إسلامية تتحدث باسم المسلمين ترفع لهم صوتاً مسموعاً في هذه المحافل بين الهيئات الغير الحكومية التي تتكلم باسم الأديان والمذاهب الأخرى مع أنها لا تقاس بأهمية المسلمين وكثرتهم العددية في العالم.
3 -
لهذا كله فكر عدد من أهل الرأي والفكر في مصر في سد هذا النقص وعملوا على تأسيس هيئة مصرية لمؤتمر العالم الإسلامي الدائم يكون من أهم أهدافها:
توثيق الروابط الدينية والعقلية والروحية بين المسلمين في العالم - ثم العمل على تحقيق الاتصال بين المسلمين للتعارف والتفاهم وإبراز مبادئ الإسلام التي تتعالى عن فوارق اللون والجنس والقومية.
4 -
ولقد نظر القائمون بهذه الفكرة إلى أن الوحدة الإسلامية في نطاقها الديني والروحي لا تحارب الوحدة الإنسانية بل تكلمها لكي يؤدي الإسلام رسالته الخالدة فيتعاون مع سائر الأديان الأخرى للمحافظة على القيم الروحية التي لا يمكن للإنسانية أن تتخلى عنها وهي في عنفوان نهضتها وتطورها واندفاعها نحو تأسيس نظام جديد لعالم المستقبل.
5 -
وتمر الإنسانية في أوقات صعبة إذ تحاول بعض القوات السائدة على الأرض أن تقلل من أثر الأديان وأهميتها في قيادة شئون العالم وأن تضعف من عمل القيم الإنسانية والروحية في تطور البشر ويقظتهم.
لذلك كان بقاء المسلمين بعيدين عن هذه اليقظة الشاملة لا يفيدهم، بل أن واجبهم الأول هو دخول هذه المعركة القائمة بين الأديان من جهة، ودعاة الإلحاد من جهة أخرى، حتى تبرز
القوى الكامنة في الإسلام كدين عالمي فيه كل وسائل الانطلاق والبعث والدعوة إلى خير الإنسان وإسعاده على هذه الأرض.
ولذلك فإن عمل مؤتمر العالم الإسلامي الدائم لن يقصد منه محاربة دين من الأديان، وإنما يدعو إلى كلمة سواء بين المسلمين مهما اختلفت أنظارهم وألوانهم ومذاهبهم وجنسياتهم ولغاتهم ثم، يرمي إلى تأكيد مبادئ التفاهم والتكاتف والتعاون والمحبة والسلام بين الناس جميعاً وهي المبادئ التي ما انفك الإسلام يدعو إليها منذ نشأته الأولى.
وبعد اجتماعات دامت عدة أسابيع وضعت اللجنة التحضيرية بهذه الهيئة نظاماً للعمل وعرضته على جمعية عامة وافقت عليه وأخذت تنفذه، وقد رأت الهيئة أن تتقدم إلى الرأي العام الإسلامي في مصر وفي سائر البلاد بندائها حتى يتعرف المسلمون الوجهة الصحيحة التي ترمي إليها الهيئة المصرية لمؤتمر العالم الإسلامي والأغراض السامية التي تدعو إليها، فينضم للهيئة من يشاء ممن يلمسون في نفسه رغبة المساهمة في هذا المشروع الجليل.
وقد وزعت أعمال المؤتمر على ثلاث لجان:
(1)
لجنة للدعاية
(2)
لجنة رشاد
(3)
لجنة للمالية
وقد بدأت كل واحدة منها تعمل في إنطاقها ويرحب القائمون بأمر المؤتمر وهيئته الإسلامية بكل من يود الاشتراك في عضوية الهيئة المصرية من المشتغلين بالشئون الإسلامية والداعين إلى تحقيق أهدافها والذين تدفعهم الغيرة للمحافظة على قيم الإسلام ومبادئه وتراثه في خدمة الإنسانية والحضارة.
اللجنة التحضيرية للمؤتمر
القصص
القبلة
للكاتب الأسباني أوسيبيو بلاسكو
في سجن من السجون ليس يعنينا اسمه، كان أحد المجرمين العتاة سجيناً. والحق أنه لا ينتظر في مثل هذا المكان أن يجد عدداً من خيار الناس، بيد أنه من بين الستمائة سجين الذين كانت تضمهم جدران هذا السجن الذي نسوق الحديث عنه، كان هذا السجين أشدهم خطراً.
كانوا يدعونه (الذئب). وكان في الستين من عمره، وقد أمضى من الستين اثنتان وأربعين سنة في سجون مختلفات. وكان منذ شبابه يتنقل من دار قصاص إلى دار قصاص، وقد حكم عليه بسبب السرقة حيناً، وبسبب القتل آخر حيناً. وإنه لمن المحال أن يقدم كشف جامع لجرائمه، وقد حكم عليه آخر مرة لجريمة أشنع من سابقاته كلها، بالسجن لمدة تزيد على البقية الباقية من حياته.
ولقد كان على قدر كبير من الضراوة، وسوء الخلق، حتى أن بقية السجناء كانوا يتحاشونه. وكان كلما مر بأحدهم نأى عن سبيله جهد المستطاع، إذ كان (الذئب) بطبعه شرساً عسر الخليقة. وقد حدث أكثر من مرة أن عض من اقترب منه كثيراً أو ركله بقدمه، أو شكه بالإبرة، وكان دائب العمل في جوارب من الصوف. وكان أكثر شراسة من غالبية القوم، متعطشاً للدم كأكثر الحيوانات المفترسة.
وكان يقضي الأيام والأسابيع في صمت قاعداً على الأرض، وأمامه عمله، وهو مطرق برأسه. وكان رأسه مغطى بشعر أسود، ولحيته التي سمح له أولوا الأمر بالاحتفاظ بها بدافع الخوف أو التحمل، مشعثة الشعر مهملة، وكانت عيناه سود قاسيتين، ونظرته مخيفة مهددة، وكان برغم سنيه الستين شديد القوى، وثيق عضلات اليدين، وكان مبعث الرعب الصامت في المكان كله. إذ كان لا يبادل الحديث أحداً، ولا يشارك الآخرين مزاحهم الآثم، ولكنه كان يحافظ على سمعته الذي كان الجميع يعترف به ويحترمه، وكان كلما رفع بصره، وألقى الطرف حوله إلى نزلاء السجن الآخرين، أشاحوا برؤوسهم، أو رفعوا أبصارهم إلى السماء بدلاً من لقاء نظرته.
وعين مدير للسجن جديد كان من أولى النشاط، حازماً لا يستهان به. وأخذ المسجونون بسبب صمته هذه يحدجونه بنظرات آثمة، ويتذمرون تذمراً منه دون سبب حقيقي.
وكان لهذا المدير طفلة صغيرة تدعى أورورا، لم تبلغ الخامسة بعد حين عين أبوها مديراً للسجون. وذهبت عصر يوم مع أبيها إلى فناء السجن ساعة الغداء. وبينما كان يقوم بوزن غداء السجناء ذهبت الطفلة في شجاعة الأطفال وأخذت تحدثهم، وكلمتهم جميعاً وضحك نفر منهم، وطلب البعض منها أن تشفع لهم عند أبيها، ولكن فريقاً منهم تمتم بألفاظ نابية ضد الأب وابنته.
وكان الذئب وحيداً، بعيداً عن الآخرين، جالساً على الأرض وظهره مسند إلى الحائط، وغداؤه موضوع بجانبه لم يؤكل نصفه، وكان يعمل بسرعة تبعث الدوار في صنع جورب. وكان مطرقاً برأسه ولم يرفع بصره حتى عند ما أصبح الوالد وطفلته على قيد خطوتين أو ثلاث منه. ونظر بطرف عينه، لحظة لا غير، إلى الرئيس وابنة الرئيس.
وحولت البنية أن تقترب منه، ولكن أباها منعها.
وقالت أورورا (أريد أن أقترب منه، وأتفرس فيه.)
فقال الأب (كلام أنه شرير جداً، خطر جداً، ربما يلطمك)
فقالت الطفلة (أنظر، أنظر، يا أبت، كيف يبدو! وأنه ليصنع جورباً!) فقال الأب:
(إنه ليصنع ذلك على الدوام؛ وقد أخبرني المدير السابق أنه شديد الخطر، وقد قضى في السجن كل حياته تقريباً. وله الآن هنا ثلاثون عاماً.) فقالت الطفلة
(ثلاثون عاماً! يا للمسكين! يا للرجل المسكين!)
ولما سمع (الذئب) الكلمات (يا للمسكين! يا للرجل المسكين!) رفع بصره، ورمق الطفلة بعينين محملقتين، ولكنه لم ينقطع عن العمل بإبرته، وكان المدير على وشك أن يقول لأبنته الصغيرة كلاماً، ولكنها انفلتت إلى الأمام وهي تصيح (سأمنحه قبلة.)
وقد فعلت ذلك. واقتربت من (الذئب) وقبلته دون اشمئزاز أو خوف، قبلة في وجهه تماماً، وهي تقول (خذها، ولا تكن شريراً بعد!)
وكأنما أصابت (الذئب) صاعقة. ولم يفه ببنت شفة، ولكن خرج من حنجرته صوت حشرجة، كالمشلول الذي يود الكلام فلا يستطيع، لما بلغ الأب وابنته الباب المؤدي إلى
سكن المدير، التفت المجرم العجوز نحوهما وحدجهما بنظره.
ومر العصر، ثم المساء، وذهب (الذئب) ككل حيوان إلى عرينه.
وتعاقبت الأيام والأشهر، ولم يحدث في السجن المنظم شيء ذو بال. ولكن قامت ذات يوم من شهر يوليو عاصفة في اليم خارج السجن، وثارت في نفوس السجناء ثورة تجاوب العاصفة، وارتفع نذير العصيان، ورفض الرجال تناول الطعام الذي قدم إليهم، وانفجرت المؤامرة التي كانت تضطرم بكامل قوتها.
وهتف المسجونون (اطردوا الضباط! ليسقط الضباط! لنأخذ السجن!)
وقفز المدير كالفهد من غرفته حيث كان يقيل، وفي طريقه إلى الفناء أغلق باب مسكنه على طفلته حتى لا تتبعه. ولما دخل فناء السجن وجد أمامه ثلاثمائة رجل مسلح بملاعق خشبية كبيرة دببت أطرافها وأرهفت حتى لتقتل كالسكاكين
وأطلق الطلقات الست من غدارته، ولما أطلق الطلقة الأخيرة رأى وحشاً حقيقياً مقبلاً نحوه، رجلاً أشعث الرأس، كأنه رأس دب، وهو يصيح (لا تخف! أنني هنا!) وكان هو (الذئب).
وأمسك المدير من حزامه، ودفعه إلى الحائط وأوراه بجسمه، وأمسك في يمناه مدية كبيرة الحجم، لا يدري أحد كيف حصل عليها، وبدأ والمدية في يده يستقبل العدو، وهو يسدد طعنات صائبات حقي أن كل من اقترب من متناول يده سقط ميتاً عند قدميه.
لما وصل إلى نجدته الحرس المسلحون والشرطة، وانتهت المعركة، وهدأ كل شيء، ونجا المدير، سقط (الذئب)، وقد أثخنت الجراح رأسه وجسمه وكان في حشرجة الموت. وادخلوه سكن المدير بناء أمره، وأرقدوه على سريري ناعم وثير رقد على مثله لأول مرة في حياته. ورقد هنالك، يقلب الطرف حوله، بعينين باحثتين متوقعتين. . وتكلم (الذئب) بصوت متقطع وهو راقد هناك بين الحياة والموت، وهو يرمق الرجل الذي أنقذه من الموت.
وقال (الطفلة. . الطفلة).
وفطن المدير في لحظة إلى السبب الذي حمله على الدفاع عنه، أجل أجل لا ريب أن ذلك هو السبب! وجرى نحو مسكنه الذي أغلق بابه على ابنته، وقد نسى أن يفتح الباب حتى
الآن وكانت الطفلة تبكي من الرعب. وأخذها بين ذراعيه وعاد بها إلى الغرفة التي كان الرجل العجوز يلفظ أنفاسه الأخيرة فيها. وكان (الذئب) العجوز راقداً وعيناه مفتوحتان محملقتان، وما زال لديه فسحة من الوقت لرؤية المخلوق الوحيد الصديق الذي لقيه في حياته، وليقول:
(مرة أخرى! مرة أخرى!)
ورفع الأب أورورا بين ذراعيه، وسمع صوت قبلة، قبلة وضعتها شفتان ملائكيتان لطفلة صغيرة على ذلك الوجه المفضن الذي لفحته السنون.
ولما غادر القس المكان، وما زال يتمتم بالصلاة وهو يحمل الزيت المقدس، ظل المدير ورجال الشرطة، ورجال الحرس، ركعاً أمام الجسد في صمت رهيب، وأخذت الفتاة الصغيرة بناء على كلمة من أبيها تقول في صوت حلو، رقيق، صوت الطفولة:
(يا أبانا الذي في السماوات، نقدس أسمك. .)
محمد سليمان علي المهندس