الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 877
- بتاريخ: 24 - 04 - 1950
حياتي
(حياتي) هي حياة صديقي الدكتور احمد امين بك، ألفتها الوراثة والبيئة والظروف والمواهب والأخلاق والجهود في مدى أربع وستين سنة، فجاءت فصلا متميزاً من كتاب الحياة العام. وقليل من الناس من يتهيأ بفطرته وعبقريته ليكون مادة من مواد هذا الكتاب. أما الاكثرون فأكثرهم ينكرهم المؤلف الأعظم إنكاره للمعدوم، واقلهم يذكرهم إما لحقا في حاشية وإما عرضا على هامش.
هذا الفصل الطويل الحفيل لخصه أحمد أمين بقلمه فجاء قصه من قصص البطولة النفسية في ثلثمائة وخمسين صفحه من الحجم اللطيف، تقرأها وأنت ترجو ألا تشغل عنها، وتفرغ لها وأنت ترجو ألا تفرغ منها!
قرأتها في جلستين اثنتين على كلال بصري ووهن أعصابي، فكنت كأنني أشهد بخيالي وذهني فلما ثقافيا عجيب المناظر مختلف الألوان جم الصور يمتع العقل والقلب جميعا.
كان ما أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (حياتي) لأحمد أمين، يشبه ما كنت أجده من الشوق واللذة وأنا أقرأ (الأيام) لطه حسين: شوق ولذة من نوع غريب الطعم والاثر لم أذقهما في حياتي الادبية قبل هاتين المرتين في هذين الكتابين. وليس معنى ذلك أن (حياتي) و (الأيام) يشتركان في مذهب فني واحد، بل معناه انهما يشتركان في أجتذاب النفوس وامتلاك المشاعر بشيء اخر غير الفن. قد يكون ذلك الشيء في الجمال النفسي الذي يتجلى في الصدق حين يجوز الكذب، وفي الصراحة حيث تنقذ الكتابة، وفي التفصيل حيث يسهل الاجمال.
وقد يكون في الروح القوى الذي يهيمن على الكتابين، فيظهر هناك في عمق الشعور، كما يظهر هنا في عمق الفكر وقد يكون في التصوير الدقيق البارع لتربية روحية مسخها المادة، وبيئة شعبية نسخها المدنية، ولا يزال لهما في النفوس أثر وفي بالقلوب نوطة.
وقد يكون في أولئك كله، إلا الصفات الجوهرية التي لابد منها للمكتوب الصحيح وللكاتب الحق
عبر صادقا عن نفسك تتجاوب أنت والناس، وأنقل أمينا عن بيئتك تتعارف أنت والطبيعة.
قال لي صديقي ذات يوم ونحن جالسان في المجمع. سأبعث إليك بأول نسخة تخرجها المطبعة من كتابي، وسأمضي فيه على رأيك ولو كلفني ذلك تفريق ما جمع وتمزيق ما
طبع، فأني ضعيف الثقة بما أعمل. فلما مضيت في الكتاب تبين لي أن ضعف الثقة في الصديق لم يأته من اشتباه الحق ولا من التباس الصواب، وإنما أتاه من اتساع المسافة في نفسه بين ما يريد وبين ما يستطيع، ومن شدة الاختلاف في رأيه بين ما يجب وبين ما يكون.
ولقد كان صديقي في هذا الكتاب بالذات شديد التردد في كتابته، كثير التشكك في افادتة، فهو يقول في المقدمة:(لم أتهيب شيئا من تأليف كما تهيبت في أخراج هذا الكتاب؛ فإن كل ما أخرجته كان غيري المعروض وأنا العارض، أو غيري الموصوف وأنا الواصف. أما في هذا الكتاب فأنا العارض والمعروض والواصف والموصوف. والعين لا ترى نفسها ألا بمراّة. والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته. والنفس لا ترى نفسها إلا من قول عدو أو صديق، أو بمحاولة التجريد وتوزيعها على شخصيتين: ناظرة ومنظورة، وحاكمة ومحكومة، وما اشق ذلك وأضناه!). . . (وترددت أيضا في نشره: ما للناس و (حياتي)؟ لست بالسياسي العظيم، ولا ذي المنصب الخطير، الذي إذا نشر مذكراته، أو ترجم لحياته، أبان عن غوامض لم تعرف، ومخباّت لم تظهر، فجلى الحق وأكمل التاريخ؛ ولا أنا بالمغامر الذي استكشف مجهولا من حقائق العلم فحاول وصفة وأضاف ثروة إلى العلم، أو مجهولا من العواطف كالحب والبطولة أو نحوهما فجلاها وزاد بعمله في ثروة الادب وتاريخ الفن، ولا أنا بالزعيم المصلح المجاهد، ناضل وحارب، وانتصر وانهزم، وقاوم الكبراء والامراء، أو الشعوب والجماهير، فرضوا عنه أحيانا، وغضبوا علية أحيانا، وسعد وشقي، وعذب واكرم، فهو يروي أحداثه لتكون عبرة ، وينشر مذكراته لتكون درسا. لست بشيء من ذلك ولا قريب من ذلك، ففيم أنشر حياتي؟)
ومع ذلك استطاع أحمد أمين بوزانة عقلة ورزانة خلقه أن يقول لحق أصرح ما يقال، وأن يصدر الحكم أعدل ما يصدر: كما استطاع بقوة شعوره وقوة تصويره أن يحقق الفائدة للقارىء، فجعل من تاريخ حياتة تاريخ حياة لمصر في الربع الاخير من القرن الماضي، والنصف الأول من القرن الحاضر، فوصف عادات كادت تزول، وسجل حوادث كادت تنسى، وصور وجوها كادت تغيب؛ فالحال الاقتصادية بسخرتها وقسوتها وثقل ضرائبها وسوء جبايتها في قرية (سمخراط) بالبحيرة؛ كانت هي الحال في كل قرية من قرى
الاقاليم. والحال الاجتماعية بطبقاتها وعاداتها واعتقاداتها في (حارة العبادية) بالمنشية، كانت هي الحال في كل حارة من حارات القاهرة. والحال الشخصية بتربيتها ونفسيتها وعقليتها في نفسه وأهلة وصحبه وجيرته، كانت هي الحال في كل فرد من أفراد الشعب. وإن في تصويرة البيت والسقاء والمحدث والكتاب والازهر، وفي وصفه لأبويه وأخويه، وصديقيه عبد الحكيم محمد وعلي فوزي، وأستاذيه عاطف بركات ومس بور، لنماذج من البيان المطبوع الذي يشرق بنور العقل وينبض بروح العاطفة. وإن من أجمل ما في الكتاب تلك البراعات الذهنية التي تبدهك بين الصفحة والصفحة في تحليل نفس، او تعليل حادث، أو تأثير شخص في شخص، أو موازنة حالة بحالة. على أن مثل (حياتي) في انبثاقها من البيت والحارة والكتاب والازهر، وفي تفرقها بعد ذلك في نواحي العمل ووجوه الارض وأشتات الامر، كمثل الدوحة العظيمة، تكون عند الجذع قوية غليظة مكتنزة، تضطرب بالحياة وتزخر بالخصب وتستمد غذاءها من جذورها الضاربة في جوف الثرى؛ فإذا تفرعت على ساقها انتشرت الاغصان وتشعبت الافنان فتوزعت الحياة، وتقسم الري، وخفت الحركة، ولكن فيها مع ذلك الجمال والظلال والزهر والثمر؛ فالقسم الأول من (حياتي) كأصل الدوحة عميق وثيق مكتنز لاستمداده من أعماق النفس؛ والقسم الآخر كفروعها هش الافنان منبسط الجوانب لامتداده في آفاق الطبيعة.
والكتاب بعد ذلك قد كشف عن سر من أسرار الصناعة في كاتبه. ذلك سر القصة. والنفس الفنانة عميقة كالكون. سحيقة كالابد، فلا تنتهي أسرارها حتى ينتهي المجهول، ولا تنقضي عجائبها حتى تنقضي الحياة!
أحمد حسن الريات
صور من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
هبت نسمات الربيع تدفعني إلى الماضي الجميل، فحن الفؤاد إلى مراتع الطفولة، وصبا القلب إلى ملاهي الصبا، ونزعت الروح إلى ملاهي الذكرى، هناك في القرية حيث الربيع الغض يمد سحره الرفاف، فينشر على البر بحرا سندسي الحواشي، مرح الاعطاف، يبسم لهبات النسيم في رقة، ويصافحها في لين، ويعانقها في شوق، حيث الغدير العذب ينساب إلى غير غاية، يترنم بأناشيد الهوى ويشدو بألحان الغرام، وهو يضم بين حبات قلبه صفية الحبيب: شعاع الشمس الذهبي الذي يدفىء حناياه بزفرات الشوق والحنين؛ حيث فيء شجره التوت يتهادى ليهدهد من أنات الثور المعنى ونواح الساقية الشجي؛ حيث أهلي الذين أتشوف إليهم برغم أن شواغل المال قد جرفتهم فجف فيهم الحنان وذوى العطف ونضب الصفاء؛ حيث الفلاح الذي يئن تحت وقرين من ضنى العمل ورقة الحال. . .
وجذبتني نوازع النفس إلى القرية فطرت إليها أستجم من عناء وأتدع من كلال وأهدأ من صخب، فخلت أول شيء لباس المدينة وهو ضيق يرهق الجسم ويحبس الدم ويخنق الحركة، ثم انطلقت وحدي إلى مكان ذي ظل وهدوء، على أجد نفسي وخواطري معا.
وتكبكب الفلاحون يحيون الضيف الذي حل ديارهم على حين فجأة بعد سنوات من نأي كادت تمحو ورته من الذهن، وتمسح سماته من الخاطر، وتطوي تاريخه من الوعي. . . الضعيف الذي نقض عنه - في لمحة واحدة - أثر المدينة فلبس ثوب الفلاح في غير تمنع، واستلقى على ثرى أرضه في غير تحفظ، وأكل طعامه في غسير تفزز، وشرب شرابه في تكمش. ومستنى روعة المكان وروعة الاخلاص المتدفق من أغوار النفوس الطيبة الزكيه التي ترفل في دثارين من الرضا والقناعة؛ فأخذت معهم في حديث راح يتشقق فنونا، وإن فيه العذوبة والذكرى. ومضت ساعة من زمان وأنا أرقب رجلا منهم نفر من الجماعة فانتحي ناحية فما شارك في الحديث ولا هش للمجلس، ولكن ظل في منأى عنا منطويا على نفسه وعليه آثار الأسى وفيه علامات الحزن؛ وتراءى لي كأنه يحمل على عاتقه أعباء السنين العجاف، وراعني أن ينقض السامر ولما أكشف عن طوايا نفسه أو أنقذ
إلى أعماق قلبه، وإني لأعرفه فتى طروب النفس خفيف الحركة قوي العضل. . . أعرفه منذ أن كان أبي رب هذه الارض وصاحب هذا الغيظ وسيد هذا الناس، ومنذ أن كنت أنا صبيا أرفل في عبث الطفولة وحماقة الصبا.
وناديته فلبى وجاء يتوكأ على عصا0 وقد حطمته السنون فبدا هيكلا يتداعى من وهن وضعف، ثم سألته (ما لك لا تنغمر في الحديث ولا تندفع في السمر ولا تهتز للطرب؟)
فقال (يا بني إن أبناء المدينة لا يفهمون لغة الريف ولا يستمرئون شكوى المظلوم)
قلت (وي كأنك نسيت أنني ابن الريف وربيته، لم تصرفني عنه إلا نوازع العيش ولا تدعني عنه إلا دواعي الوظيفة!)
قال (ولكنك جئت ترفه عن نفسك وللذة الهادئة، وتلتمس السكون والراحة من صخب المدينة، فما كان لي أن أعكر صفو المتعة بشوائب الشكوى، ولا أدنس سعادة المرح بأنات الاسي
قلت (لا بأس عليك! هات حديثك عسى أن أجد لك فرجة من ضيق أو برءاً من سقام)
فقال في صوت شاع في نبراته الاسى وافحم رناته الحزن: (أما قصتي فهي قصة الضعف تعصف به القوة العارمة، قصة الفقر يعبث به الغنى الجارف.
(لعلك، يا بني، لا تذكر يوم أن تركت غيط أبيك إلى ضيعة سعادة البك! لقد فعلت وإنه ليتراءى لي أنني أفر من ضيق إلى سعة ومن شظف إلى خفض. وكنت - إذ ذاك - فتى في الطمع والطموح في وقت معا) ونسيت أن الثراء العريض لا يرقق القلوب القاسية، وأن النعمة السابقة لا تداوى الانفس الشح، وأن المال الوفير لا يلين العقول الجافة؛ ولكنني طرت إلى عزبة البك
(وتقبلني سعادة البك ورجالة بقبول حسن، وتقبلت أنا العمل بشوق وأمل، وانطوت الايام فاذا أنا أقرب الناس إلى قلب البك، يسبغ على من نعمته ويحبوني بفضل رعايته، ثم يقيمني رئيسا على عماله
(ووجدت في عملي الجديد معاني السيطرة والسلطان، وأنا - حينذاك - رجل صقلتني التجارب وشذبتني الحياة، فرحت أبذل غاية الجهد وأستنفذ وسع الطاقة لاكون أهلا لثقة البك، وعشت بين العمال أخا وصديقا وصاحباً، وعشت في الغيط أمينا ومخلصا، وعشت
في دار سعادة البك خادماً وعبداً؛ لا أتطاول إلى طمع ولا أتشوف إلى جشع، ورضيت ورضى أهلي، وأحس أولادي بالخفض والسعة، فاطمأنت نفسي وسكنت جأشتي واستنامت خواطري، ولكن الحوادث لم تنم. . .
(وعلى حين غفلة أصاب ابني ألاكبر داء عضال، فتفزع قلبي واضطربت حياتي لانه عوني وساعدي ولأنه أبني. . .
(وطرت إلى الطبيب أستشيره وأستعينه على أمري، وتحث الطبيب حديثاً ثلج به صدري وتطمئنت له لوعتي، ثم بدأ يطب لمرض المريض وأنا أدفع الأجر من عرق الجبين وأجزل العطاء من عناء العمل
(ليت شعري هل كان الطبيب يسخر من غفلتي ويهزأ من جهلي حين راح يمد لي في الأمل ويفسح لي في الرجاء ليخدعني عن مالي ويستلبني من كد العمر. آه، يا بني، لقد ظل أبني بين يدي الطبيب شهوراً لا يجد الراحة ولا الشفاء والطبيب يمكر بي ليستنفذ طاقتي حتى لصقت يدي بالتراب ولم يبق في داري سوى صابة تشوك أن تنضب، ولكن الامل. . . ومرت الايام فاذا انا لا اجد قوت يومي، وإذا الطبيب ينذرني في جفاء وغلظة. . . ينذرني بأن يقذف أبني إلى عرض الشارع إن أنا لم أشبع نهمه أو أرد غلته
(يا لقلبي ما أغلظ أكباد قوم سيطر عليهم سعار المال فصرفهم عن معاني الانسانية الساميه ودفعهم عن رقة الرحمة والشققة
(وانطلقت إلى سعادة البك - سيدي - أقص قصة أبني المريض وهو يقاسي برحاه المرض عند الطبيب، وأنا أعاني مس الفاقة هنا بين يديه، وطلبت إليه أن يعينني ببعض ماله. . . بخمسة جنيهات.
(وحدجني ألبك بنظرات قاسية ثائرة ثم قال (وإذن فقد شغلك أبنك عن عملي شهورا. لا بأس فهذا أمر أستطيع أن أغفره لك. أما الجنيهات، فمن ذا الذي أوهمك بأن داري هي بعض التكايا فتطمع أن تجد فيها مالا غير أجرك الذي تستحق).
(وأنكشف لي قلب سعادة ألبك عن حجر لا ينبض برحمة ولا يخفق بشفه فقلت له في توسل (ولكنني خادمك منذ زمان وهذا أبني بين يدي طبيب غلط الكبد قاسي الطبع خدعني عن كل مالي وهو ألان يوشك أن يقذف به مريضاً إلى عرض الشارع لأنني لا أجد ثمن
العلاج ولا ثمن الدواء).
فقال في قسوة (لا عجب أن تمن علي بعمل نلت أجره مرتين. أما الطبيب، أما أبنك فلا شأن لي بهما، فأخرج وإلا. . .)
(وخرجت من لدن سعادة ألبك وأنا أذرف عبارات الأسى واليأس وقد ضاقت على نفسي وضاقت على الارض بما رحبت، وحدثتني شجوني بأن ألقي بنفسي في أليم لأخلص من حياة لا أحس فيها إلا قلوبا قدت من حجر فما امسكني إلا أبني المريض الذي يترجى عودتي)
(وأنفت نفسي - منذ تلك الساعة - أن أعيش في كنف البك الذي تكشف لي عن وحش مفترس يتأنق في مسلاخ إنسان، وترامى الخبر إلى البك فأقام حارسا) على داري، ثم طردني وحبس قوتي وقوت عيالي فما استطعت أن أحمل معي الذرة ولا القمح. . . ولا العيش. وتركت الدار التي كنت أسكن في عزبة البك. . . تركتها يوم أن مات أبني)
(وأحر كبدي لقد عشت ساعة على قارعة الطريق أذرف لوعة قلبي وحرقة فؤادي أمام جثة أبني المسجاة في أسمال لان سعادة البك رفض أن ندخله في داره، وأني في قسوة أن يمد لي يده في ساعة العسرة، ولكن عماله أعانوني في الشدة وساعدوني في الضيق.
(ولا عجب - يا بني - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!)
كامل محمود حبيب
الأخلاق الديكارتية
بمناسبة مرور 300 سنة على وفاة الفيلسوف ديكارت
ديكارت فيلسوف، حظه في الفلسفة رحب الجوانب مترامي الأطراف، وله من الالمام بالتراث الفلسفي القديم نصيب موفور. فقد أحاط خبرا بسابقيه إحاطة تختلف سعة وضيقا، ومع هذا كله فله مذهبه الخاص به في كل ضرب من ضروب الفلسفة. إذ الفيلسوف الحق إنما تخلد آثاره لا بما فهم وهضم من تراث ماضية فحسب، بل بما أضاف من جهد له قيمتة إلى هذا الماضي إضافة من شأنها أن تجعل المذهب الفلسفي كالكائن الحي له صفات النمور والنشور
هكذا كان ديكارت، فإن له لآثاره وابتكاره اللذين تميز بهما ولا سيما فيما نحن بصدده أي الأخلاق ولا بأس من عرض سريع للتعرف على ميزة الأخلاق عند القدامى قبل استيضاح معالم الأخلاق عند ديكارت.
نعم كان علم الأخلاق عند القدامى عمليا يفترض إحاطة تامة بشتى ضروب المعرفة من الطبيعة وما وراءها، والسيكولوجيا وغيرها، فسقراط يقول (اعرف نفسك بنفسك) وينشد أفلاطون (العدالة) النفسية ليبني عليها العدالة السياسية، ويقيم أرسطو بنيان أخلاقه على علم النفس، ولا يشذ عن أستاذه في نشدان (الفضيلة التي ليست شيئا آخر غير الوسط العل بين طرفين) فهم ثلاثتهم يقصدون إلى (الخير) كما عند سقراط، أو (السعادة) كما عند أفلاطون، أو (الحكمة) عند أرسطو.
وعلى هذه الوثيرة سار التابعون لفلاسفة اليونان والآخذون عنهم من رواقيين وغير رواقيين وامتد الشعاع من الرواقية حتى وصل إلى ديكارت فتلمسه ثم تآثر به سلبيا وإيجابيا.
وإذا أحس ديكارت بضرورة الحاجة إلى إتمام صرحه الفلسفي كان لابد له من أن يصنف العلوم تصنيفا هو بمثابة الهيكل أضلاعه مرتبه على جوانبه، فقد ارتأى أن العلم شجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، وفروعها الطب والميكانيكا والأخلاق، وهو آخر مراتب الحكمة والعلوم لانه يتطلب البحث والإحاطة التامة بكل ضروب العرفان، فهو لذلك أعتقد العلوم، أما وقد جد في الطبيعيات والميكانيكا والطب ولم ينته بعد من هذين الاخيرين
فقد أثر ديكارت الانتظار.
ومن أجل تجديد المسكن الذي ارتأى وجوب القيام فيه، وجب قبل هدمه أن يأوى إلى أخلاق موقوتة هي بمثابة السكن المؤقت حتى يتم له هدم ما أزاد هدمه، وبناء ما أراد بناءة، فماش ديكارت وما ترك لنا الا هذا المسكن الموقوت الذي سكن إليه ريثما يتمم الاسس، فلم يتح له ذلك. ومع هذا فإن هذه الأخلاق تستحق العناية لامكان لاستدلال منها على كثير من جوانب الحياة التي أكتنف ديكارت في شخصه ومجتمعه معا.
وثمة مسألة لها قيمتها وهي الخاصة بالعلاقة بين الفلسفة والحكمة من ناحية، والأخلاق والسعادة من ناحية أخرى. أما الحكمة فإنها مرتبطة بالفلسفة ارتباطا وثيقا. يقول في كتابه عن (القواعد) وكلمة فلسفة تعني دراسة الحكمة وليست العلوم بأسرها إلا الحكمة الحكمة الإنسانية التي تبقى هي دائما)، والحكمة - فضلا عن تضمنها للحكمة العلمية -، فإنها المعرفة التامة بكل الأشياء التي يتسنى للإنسان المعرفة بها. وإذا كانت الفلسفة هي دراسة الحكمة فهل اللفظان مترادفان؟ كلا. فالفلسفة هي (الحكمة) من حيث هي (عملية) والأخلاق هي آخر درجة وأبعدها في الحكمة، كما يقول ديكارت في مقدمة كتابة (المبادئ).
وبين الأخلاق وعلم النفس صلة وثيقة، فلنتعرف على أحوال النفس وأحوال البدن ثم على ما بينهما من تفاعل. وكل ذلك نلتمسة بوضوح في رسائل ديكارت إلى الملكة كرستين والاميرة إليزابيث فضلا عن (بحثه في الانفعالات)، وفي هذه الينابيع الثلاثة عرف ديكارت لب الأخلاق من حيث هي السلوك الإنساني على أساس قوي من السلوك النفساني.
وعند ديكارت ألفاظ أخلاقية هي: الكمال والخير الأسمى والسعادة والنعيم المقيم واللذة والنظر والعمل والحرية والفضيلة والمعرفة والإرادة. ودراسة هذه الألفاظ ومدلولاتها عنده والصلة بينها وبين بعضها كل ذلك إدراك للعقد التي تجمع بين أطراف الأخلاق الديكاراتية:
يعرف ديكارت الخير الأسمى بالكمال إذ الخير الأسمى هو الحصول على كل الكمال الذي كل فعل خلقي خليق به والخير الأسمى لا يتضمن أي وسيله للسعادة، ولذلك هما متباينان أشد ما يكون التباين، ولا يتردد ديكارت لحظه في الفصل بين الحيز الأسمى وبين الله فيقول (من الممكن اعتبار طيبة كل شيء في ذاتها بدون ربطها بغيرها مما يكون معناه
واضحا، لدرجة أن الله هو الخير الأسمى لانه اكمل الموجودات حيث لا شبيه له في هذا) ثم هو كذلك يبعد معنى الخير الأسمى عن المعنى الأفلاطوني أي المثل الأعلى والمعيار الثابت للعمل الإنساني. . . وعندما نراعي فكرة الخير لاستخدام قاعدة لاعمالنا فإنا نأخذها على أنها الكمال التام).
ويفرق أيضا بين السعادة والنعيم المقيم حظ سعيد قد لا يكون من فعلنا، أما النعيم المقيم فهو نتيجة الحكمة، وهو يقوم على السرور. وليست المسرات على درجة واحدة من القيمة، فالسرور كعلاقة ونتيجة للكمال يجب تقديره بحسب ماله من سبب. وبحسب هذا تعدل مسرات الإنسان المركب من جسم وروح لان مسرات الانفعالات معرضة للظهور مقدما أعظم مما سوف لا تؤول إلية. ولهذا فهي تخدعنا. والمسرات عامة تعطينا من الارتياح أكثر من حقيقتها أي هي متعلقة بالكمال الحقيقي، و (لنعرف تماما كيف يمكن لكل شيء أن يعين على ارتياحنا يجب اعتبار الأسباب التي تنتجها)
هناك نوعان من اللذة: فمنها ما يتعلق بالنفس وحدها. ومنها ما يتعلق بالإنسان أي النفس من حيث اتصالها بالبدن، وهذه الأخيرة تظهر غالبا اكثر مما هي عليه، وقبل حيازتها يكون الأصل في جميع الشرور وجميع الأخطاء في الحياة. وبمقتضى العقل يجب أن تقاس كل لذة بمقدار الكمال الذي ينتجها. وإنه لكذلك حين نقيس تلك التي أسبابها معروفة لدينا معرفة واضحة. وغالبا ما يجعلنا الانفعال نعتقد بعض الأشياء الحسنة والمرغوبة. وإن لم تكن هي كذلك. على أننا إذا أصبنا كثير من الألم وفقدنا فرصة الحصول على خيرات أكثر تحققا فا المتعر تعرفنا الأخطاء. ومن هنا تأتي العوامل الداخلية كالحسرة والندم، ولهذا كانت مهمة العقل امتحان القيمة الصحيحة لجميع الخيرات التي يبدو أن الحصول عليها يعتمد بشكل ما على تصرفنا لكيلا نحتاج أبدا إلى استعمال جميع غاياتنا إلى محاولة أن نتابع تلك المرغوب فيها أكثر من غيرها.
فالنعيم المقيم يؤدي إلى اللذة، ولمعالجتها يجب معرفة كيف تتميز هذه اللذات، ولما كنا لا نستطيع القول ضمنا بأن النعيم المقيم ليس هو الخير الأسمى فانه ليس إلا نتيجة له والنعيم المقيم بعبارة أخرى هو الاتجاه الذي يحتم علينا أن نتبع الخير الأسمى الذي هو الوسيلة لهذه الغاية العليا. وهكذا نرى كيف يتميز ويرتبط كل من السعادة والخير الأسمى.
كيف نعرف الخير الأسمى أو مثال الكمال الذي نتوصل إليه إليه بأتباع اللذة؟ يفرق ديكارت بين المثال الغامض والعام عند الكال الإنساني. وهذا ما يجب على كل فرد أن يفترضه. أي يفترض المثال الذي يوافق طبيعته، وفضلا عن هذا فإن الخير المتعلق بالفرد وحده خير الكل وإنما هو الخير المتعلق بالفرد وحده.
ولما كان من الضروري أن نفرق بين الخيرات الخارجية وبين الخيرات التي تتعلق بنا، فان كل الأشياء لمتساوية عند الغير. والخيرات الخارجية تضيف شيئا إلى الكمال والسعادة الدائمة. ولما كانت الخيرات الخارجية لا تدخل تحت نطاقنا فقد وجب أن نركز رغائبنا في الخيرات الخاصة بنا. والذي يخص المرء أولا وبالذات هو إرادته. والكمال الذي يجب أن نبحث عنه هو كمال الإرادة على نحو ما ينتهي الخير الأسمى إلى الفضيلة فيتحد معها.
وإذ ننزع بالإرادة نحو الكال نكون قد فعلنا كل ما نستطيع فعلة لمعالجة الخير الأسمى الذي قد حصلنا عليه فعلا حينما أدركنا معه كل ما يتفق مع طبيعتنا أي حينما نكون قد استحوزنا على الخير الأسمى الحقيقي وحده من الخير الذي هو ملك لنا.
أما الفضيلة فهي مجهود الإرادة. وهي ليست استعدادا طبيعيا، ولا وظيفة من وظائف الذهن ويهتم ديكارت بالنية فهو يخرجها حتى تقرب أحيانا من الشخصية الأخلاقية، فالنية الحسنة الأساسية هي نية معرفة الخير. وثمة فضيلة هي أن يتفق الشخص والموضوع.
والعقل عند ديكارت هو النفس المنفعلة، والنفس مرآة عليها تظهر الأفكار والحقائق من أشعة النور الإلهي. وعنده أن الانفعال غير مستقل عن العمل لا في النفس ولا في العالم الجسماني، ولا يمكن أن يفهم أحدهما بدون الآخر، فأنهما اسمان مختلفان لحقيقة واحدة ينظر إليها من وجهين. والعقل ليس وحده كل النفس، ولكنه مزدوج بالإرادة، وديكارت يستخرج الحقيقة واليقين من العقل والإرادة معا.
وديكارت لا يقيم للحرية الاعتباطية وزنا لأنها لا توجد، وإن وجدت فإنها أحط درجة للحرية على أن للحرية تعريفا وردفي (الرسائل السادسة) وهو (أنها ملكة وضعية للجنوح إلى أمر، وأجتناب آخر، أي اتباعة وتفادية، وبعبارة أخرى العزم على أمر او رفضه. وإذن فالحرية هي ملكة الاختيار بمعنى أننا إما أن نقبل الشيء او نرفض ولما كانت الارادة والحرية شيئا واحدا فإنهما يعتمدان على الافكار (فنحن لا نريد شيئا لا نعلم عنه
شيئا)، وشيء هام جدا هو ان العقل محدود، أما الارادة فلا حدود لها فالعقل لا يتأمل إلا جزاء فقط من الحقيقة، أما الارادة فإنها تتعلق بكل شيء سواء في مظاهرها أم في حقائقها.
ثم يتسامى ديكارت إلى أفق الميتافيزيقا فيفرق بين الحرية الإنسانية والحرية الإلهية، فالأولى تبحث عن الحقيقة التي خلقتها الثانية. والإرادة والمعرفة عند الله شيء واحد، وعند الإنسان: الإرادة مقدرة مطلقة دون المعرفة.
والأيمان - عند ديكارت وعند معظم معاصريه - يكفي لتوجيه الحياة، وهو يقول (بما أن أرادتنا لا تهتم إلا باتباع أمر أو عدم اتباعه حسب ما يصوره لنا العقل حسنا أم سيئا، فإنه ليكفي أن نحسن الحكم لنحسن العمل. وأن نحكم أحسن ما نستطيع أي للحصول على جميع الفضائل).
هذا هو موجز التخلق عند ديكارت، فإجادة الحكم هو إجادة العمل، وبما أن الوضوح هو القاعدة الأولى لاحكامنا، وأن الوضوح علامة الحق، فكذلك أعمالنا لها ما لعزماتنا من القواعد، فليس هناك حقيقة علمية تنظم روابط أعمالنا، وإنما الحقيقة واحدة نظرا وعملا، فالإرادة الحرة تحددها أفكارنا التي ليست نظرية وعملية، هي شيء واحد ولا فضل لاحداهما على الأخرى. إذ الأولى قيمتها في العظمة، والاخرى قيمتها في الكمال كما يقول ملبرانش.
ومن أجل الطرافة التي اتى بها ديكارت بشأن حرية الارادة استحق أن يسمى (فيلسوف الحرية). وكلمة الحرية هنا وعند ديكارت ذات معنى حر إذ تمتد من النفس الانسانية حتى تنتهي إلى الحرية السياسية.
وبهذا تكون الأخلاق اليكارتية ترجمة لنظريته في المعرفة، إذ يرى - وقد سبقه سقراط - أن الجهل والرذيلة شيء واحد.
كما أن العلم والفضيلة شيء واحد، فرؤية الحق بوضوح هي إرادة الخير مباشرة، والرذيلة خطأ، والخطأ ناشئ عن معميات وأوهام وأضاليل، فنحن لا نرى الشر بوضوح، والشر الذي نرتكبه يتمثل دائما في صورة الخير (فإذا نحن رأيناه واضحا كان محالا أن نأثم حين رأيناه على ذلك النحو، ولذا قيل الخطأ جهل، وكل خطأ يرجع إلى آرائنا ونزعاتنا ورغباتنا. ومهما يكن من شيء فنحن لا نقدر إلا على أفكارنا).
وتتضح بذلك خصائص الأخلاق الديكارتية وتتركز في كونها (معرفة عاملة) فضلا على أنها علم معياري لانه يضيف الحرية ومثالا واضحا للواقع، بل هي علم للنظام المثالي.
والتخلق هو أن كل موجود وكل فعل يجب أن يضع في نصابه، والوظيعة الأخيرة للإرادة هي أن نتوسل بالنية إلى هذا النظام، ومعرفة هذا النظام هي إذن ذات الشأن العظيم، فالرغبة في معرفة النظام، ثم الرغبة في اتباعه هو أساس التخلق عند ديكارت، وإذن فالبرجماتزم على اوضح صوره متحقق في الأخلاق الديكارتية العملية.
ويعنى ديكارت بالانفعالات بغية ترويض النفس تبعا لمعرفة هذه الانفعالات. وبذلك نستفيد منها في غرس عادة جديدة ونزع أخرى ولا سيم أن النفس الانسانية هي القابلة للتعود والتخلق.
والانفعالات بطبيعتها توجه ألا راده قبل العقل لكسب معارف جديدة (الدهشة)، والبحث فيما هو نافع لنا (الحب) والهرب مما هو غريب عنا (الكره)، ولكن هذه الاتجاهات تستمد أيضا من الأحكام على الخير والشر، وهذه الأحكام شأنها شأن الانفعالات التي تبقى في حدودها الطبيعة، وإنما هي أحكام حقه، ولكن يندر أن تكون كذلك.
وبعد، فهل من سبيل إلى التعرف على سلوك ديكارت، ونحن نعلم أن مذهب الفيلسوف قطعة من حياته؟ الحق أن قراء ديكارت يختلفون كثيرا على نص واحد يكتبه، فهو في المقال عن المنهج بصدد الحديث عن القسم الأول يقول (وآمل أن يكون هذا الكتاب نافعا للبعض دون أن يضر أحدا، وان يرضي عني الجميع لصراحتي). هذه الجملة البسيطة، تحمل من اللفتات التهكمية اللاذعة ما لايستطيع قارىء أن يمر به مر الكرام. إذ هو يتواضع تواضعا جما في عرضه لارائه على الناس، وهو إذ يقصد إلى أن يتنع الناس جميعا هذا المنهج الذي أنتهجه نراه يتخفى وراء هذه الغابة فيتخذ من تواضعه ما يشف عن رغبته هذه. وهو أيضا يعبر عن نفسه بأنه صريح. والواقع أن هذه ليست صراحة، إنما هي تقنيع للفكرة التي لا يريد التصريح بها حذر الوشاة والخراصين.
وديكارت بهذا يقوم - كما يقول كوييربية بدور (المناورة السقراطية) ومصداق ذلك قولة (. . . لم اكتسب من اجتهادي في التعليم الا تيبني جهالتي شيئا فشيئا) ولقد سئل سقراط عما يعرف فقال (كل ما أعرف هو أنني لا أعرف شيئا).
ثم هو إذ يعرض للفلسفة يتناولها بالتجريح في لباقة وحرص لأنها (تعطينا وسيلة. . . لكسب الإعجاب ممن هم اقل منا علما) وهو تهكم بالسفسطائيين المعاصرين له.
ويعرض ديكارت بفساد النظم السياسية المعاصرة فيقول (أما ما في نظم الدول من عيوب - إن كان في نظمها عيوب، والخلاف بينها كاف لاثبات كثير من العيوب في كثير منها - فإن التطبيق قد لطفها كثيرا بلا ريب، بل هو جنب من عيوبها، وتلافى منها رويدا رويدا ما لم يكن مستطاعا بالحكمة. ثم إن تلك العيوب تكاد تحتمل دائما أكثر مما يحتمل تغييرها كالطرق الملتوية بين الجبال تتمهد شيئا فشيئا لكثرة التردد عليها. وخير للسائل لأن يذهب في طريق أكثر استقامة، متسلقا فوق الصخور منحدر إلى بطون الوهاد).
وفي هذا من الغمز والتعريض ما لو شرح لفقد قيمة التعريبية والتفكيرية معا. وهو لهذا يعد صاحب (ثورة سياسية) لا (ثورة فكرية) فحسب، كما يرى بعض المؤرخين اعتمادا على افتتاحية المقال عن المنهج. فإن ديكارت - في نظري - كفلاسفة اليونان إذ نشدوا الإصلاح الاجتماعي فبدءوا بتغيير عقيلة المجتمع على أسس فلسفية؛ وكذلك كان ديكارت.
واختلف الناس في لمر هذا الثائر الجبار الذي اتخذ شعاره (عاش سعيدا من احسن الاختفاء)، ولم يحاول أحدهم ظان يعذر ديكارت من مناوراته الفكرية.
ومع ذلك فإنه إذ ينشد الإصلاح يرى أن (من المفيد أن نعرف شيئا عن أخلاق الأمم المختلفة يكون حكمنا على أخلاقنا أصح، وحتى لا نظن أن كل ما خالف عاداتنا هو سخرية، ومخالف العقل كما هو دأب الذين لم يروا شيئا) الذين لم تتجاوز معارفهم حدود بلادهم. لهذا ساح ديكارت حول (الكتاب الأكبر) واستفاد من أسفاره ما حقق له غرضه.
وما كان ديكارت ليعشق الجاه، بل لقد بغض إليه - على ما أوتى من بساطه في العيش - ولم يكن يحفل بمنصب يناله، ولا بجمال زائف غير جمال الحقيقة؛ حتى لقد آثرها علي جمال التي هوفى بيتها. ولم يغفل ديكارت الصدى المر الذي تردده مأساة جاليليو، فآثر الحيطة في كل ما يقول ويكتب، ولكن ألم يذكر حقا غير الأخلاق الموقوتة التي ذكرها في المنهج لانة لم يكن قد انتهى بعد من إقامة هيكل العلوم؟
الحق أن ديكارت أتخذ من الأخلاق الموقوتة سكنا موقوتا حتى يتم له هدم القديم لبناء الجديد. فهل تم له الهدم والبناء. وإذا لم يكن ذلك فكيف كتب هذه البحوث المستفيضه في
الاخلاق، وهو لم ينته بعد من العلوم التي افترض وجودها قبل الأخلاق؟
الواقع أن ديكارتاضطر إلى ذلك اضطرارا. اولا ليرضي رغبة الاميرة. وثانيا ليظهر مجهوده الأخلاقي قبل أن تعاجله المنية فتخرج فلسفة إلى التاريخ مبتورة من عضو هام هو الأخلاق. وكل فيلسوف - فيما نعلم - لا بد أن يردف الأخلاق بالسياسة فأين السياسة من فلسفة ديكارت؟ الجواب على ذلك معاد، وهو أنه لم يرد أن ينبه الأذهان في رفق إلى فساد استغرق العصر دون ظان يعكر مزاجة ويخرج هدوءه صخب النيا، فضلا عن نداء المجازر والمشانق لكل متمرد ثائر.
من أجل هذا اطمأن صاحبنا إلى منزله المؤقت المبنى على قواعد ثلاث هي: -
1 -
طاعة قوانين البلاد واحترام عوائدها، والثبات على ديانتها في اعتدال اجمع عليه اعقل المعاصرين.
2 -
الثبات في العمل، وتجنب الشك والتردد في السياسة.
3 -
مغالبة النفس التي لا نقدر ألا على أفكارها إذ لا تحكم لنا في الأقدار. وهي أخلاق لها أهميتها - كما يقول (مزنار) لأنها تمكن النفس من الاستمرار في البحث عن الحقيقة في أمان، والاستمرار في كسب العلوم، ثم هي تكفي للأخلاق المضطربة التي تمثل مشاكل الحياة العملية في كل لحظة.
محمد محمود زيتون
احتكاك الحضارات
منذ ظهر الإنسان على وجهة الأرض وهو دائم الحركة لا يقر له قرار، إذ دأب على الهجرة والارتحال، مما أدى إلى انتشار الأجناس البشرية وتعميرهم مختلف بقاع هذا الكوكب. وهو من الحيوانات المقلدة ولكن ليس تقليده آليا. فإذا ما أنتقل من بيئة إلى أخرى فإنه لا محالة ناقل معه مظاهر حضارته وتقاليده. وكما يحدث تزاوج بين الأجناس واختلاط بين العناصر، كذلك يحدث امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، نتيجة الأخذ والعطاء، وتبادل الآراء. وحركة الإنسان هذه لها فائدة مشتركة؛ فانتقاله إلى بيئة جديدة يمكن هذه البيئة من الاستفادة منه، كما يستفيد هو الآخر منها، إذ ينقل إلى موطنه بعض مظاهر الحضارة الجديدة.
ولقد تعقدت حركة الإنسان على مر الزمن، فتدرجت من مجرد هجرات سلمية إلى غزوات حربية وفتوحات استعمارية على أشكال شتى وألوان متباينة. وتبع هذا التطور في الحركات: تطور في الاحتكاك الذي ساعد على شدته وتعقده في الأزمنة الحديثة سهولة المواصلات وظهور المخترعات وانتشار الصحافة وعنى ذلك. فلم تعد هناك عزله بين الحضارات.
والكلام في هذا الموضوع ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الطرق التي يتم بها احتكاك الحضارات، ثم النتائج التي تنجم عن ذلك، وأخيرا أمثله من اتصال العرب بالشعوب الأخرى بعد انتشار الإسلام، واحتكاك الأوربيين بالجماعات البدائية: الإسكيمو في الشمال وزنوج البانتو في الجنوب، واخيرا لمحة عن الذي حدث بين الشرق والغرب في الماضي والحاضر.
وسائل الاحتكاك
ليس احتكاك الحضارات أمرا مقصورا على الماضي، ولكنه طاهر مستمرة على مر العصور. ويرى الأستاذ دنكن أن الاحتكاك بنوعين من الطرق: طرق منظمة وأخرى غير منظمة.
الطرق المنظمة: يمثلها التبشير والتجارة والاستعمار والحروب.
1 -
المبشرون
ويرتبط تأثيرهم بالنواحي الدينية والروحية. وتعتبر المسيحية أكثر الأديان تبشيرا. ويقال إن السبب في إرسال المبشرين هو القضاء على الوثنية ونشر المسيحية. والذي يحدث في الواقع محاولة احتلال الحضارة الأوربية الجديدة محل الحضار الأصلية البدائية. فيعقب وصول المبشرين تغيرات في الملبس والمسكن والعادات والتقاليد واللغة، ذلك لأن المبشر يعمل على تعليم الناس لغة قومه قراءة وكتابة. وينظر الأهالي إلى المبشرين أول الأمر على أنهم إنما يأتون أعمالا غير شرعية، لكنه سرعان ما ينبذ التقاليد القديمة وينشر النظم الجديدة التي يعتمد انتشارها اعتمادا كبيرا على مدى تذوق الأهالي لها، وكثير من القبائل في جنوب أفريقيا وجزيرة مدغشقر ونيوزيلند قد تحسنت أحوالها على أيدي المبشرين. ولقد كان الغرب في الشرق منذ زمن بعيد رهبان ومبشرين يعلمون أبناءهم مبادئ العلوم واللغة القومية مع إحدى اللغات الغربية، وجعلوا من بيروت أس حركاتها، يبثون في عول النشء المبادئ التي رأوا فيها مصالح أممهم الدينية. ونقوم الإرساليات الأمريكية بقسط كبير من التبشير الديني.
2 -
التجار
يأتي التجار غالبا في إثر المبشرين. ومع أن التاجر يكون عدوا للمبشر إلا أن الاثنين يعملان معا على نشر الحضارة الجديدة؛ فالمبشر يعمل على محو الوثنية ونشر المسيحية، وأما التاجر فيبيع الكماليات مثل الشاي والسكر والأسلحة للأهالي. على أن البضائع التي تباع للأهالي هي من أحط الأصناف وفي الواقع يلحق التجار كثيرا من الضرر بالسكان، فمثلا حملوا جماعات الإسكيمو على احتساء القهوة وتناول الخبز واستعمال الطباق وتعلقوا بها حتى إنهم اضطروا إلى بيع الجلود التي هم في حاجة أليها - لكي يحصلوا على هذه المواد، فأصبحت الحاجة ماسة إلى الجلود الأمر الذي أدى إلى سوء الأحوال: وفي ساحل الذهب بغرب أفريقيا استطاع التجار أن يحصلوا على الكاكاو - أهم غلات هذا الإقليم - وذلك مقابل إعطائهم الخمور التي ولع بها الزنوج لذلك قال وكادو كوت (إن المسيحية لم تر في التوسع الاوربي عملا مساعدا بل وجدتة معرقلا لها.) وليس من شك في أن الربح من التجارة كان اساس احتكاك الاوربيين بغيرهم. ويحدث عادة انقسام بين الاهالي إزاء
البضائع الجديدة، فمنهم من يقبل عليها ومنهم من يحجم عنها. ويتوقف نجاح التجار على مدى إحاطتهم بعادات أهل البلاد وتقاليدهم. والقاعدة العامة أنه كلما كان التجار اسمى حضارة كان تأثيرهم قويا، حتى ولو كانوا قليلي العدد. مثال ذلك: العرب في الملايو، إذ استطاعوا أن ينشروا الثقافة الاسلامية في هذة الاصقاع رغم قلة عددهم - ولو أن التأثير الجنسي كان ضئيلا بالطبع.
3 -
الاستعمار
وهو انتقال جماعة من الناس من موطنهم الاصلي إلى منطقة اخرى بقصد السيطرة عليها واستغلال مرافقها او الاقامة فيها. وقد يكون الباعث اقتصاديا او سياسيا او هما معا. ولقد كان لمعظم الدول الاوربية نصيب في استعمار المناطق البدائية. وحيثما حل المتعمرون فإنهم ينشرون حضارتهم. ويعتبر محل إقامتهم مركتزا للمبشرين والتجار. وكثيرا ما يحدث امتزاج بين حضارتي المستعمرين والاهالي، أي أن كلا الطرفين يستفيد من صاحبة؛ فقد أخذ الامريكيون عن الهنود كثيرا من أسماء المدن والانهار، وفي لغتهم كلمات هندية كثيرة. وإن جزءا كبيرا من غذاء الاوربيين مأخوذ من الهنود، حتى قال احدهم:(لو أننا حذفنا من الاوربية كل الاصول الهندية فإن ذلك يترك ثغرة كبيرة. ولولا الاتصال الدائم بالموطن الاصلي لحدث التشابة التام بين الحضارتين.) وأحيانا يحتفظ المستعمرون بمقومات حضارتهم ويعزلونها عن الاهالي فلا يختلطون بهم؛ ولكن هذا الامر لا يطول. ويتميز الاستعمار الحديث بميزة سوداء، ألا وهي إبادة كثير من العناصر الأصلية، هذه الإبادة على ثلاثة أشكال.
أ - إبادة مباشرة: وهذه تتم بالقتل كما حدث في تسمانيا
ب - إبادة غير مباشرة: وذلك بتسليمهم الأسلحة التي يجهلون استخدامها فيقتل بعضهم بعضا، أو نشر الأمراض كما حدث بين الإسكيمو.
ج - إبادة هادئة لطيفة بإسكانهم في المناطق غير المنتجة كما في استراليا أو وضعهم في حضائر - كما عومل الهنود في جنوب أفريقيا.
وإذا نظرنا إلى أعمال الدول الكبرى يمكن القول إن للاستعمار سياستين: سياسة التلاشي داخل الوحدة وهذه سياسة الدول اللاتينية وعلى رأسها فرنسا، وتعمل على فرض حضارتها
بشيء من القوة مع القضاء على الأصلية وسياسة التنوع داخل الوحدة وهي سياسة الدول السكسونية وفي مقدمتها إنجلترا، وتحاول إيجاد نوع من الاحتفاظ بالشخصية ويكون ذلك في الناحية الدينية غالبا مع إبقاء الأمور الاقتصادية تحت سيطرتها توجهها كيف شاء لها الهوى ، وليس من شك في أن هذه السياسة أكثر تضليلا، على أن الأهالي قد يقاومون أو قد يرضخون.
4 -
الحروب
للحروب اثر كبير في احتكاك الحضارات، إذ أن كلا من الفريقين يستفيد من صاحبه. وقد أدت حروب الاسكندر الاكبر إلى وقوع احتكاك بين التيارين الثقافيين في الشرق والغرب. وكانت خطة الاسكندر هي إقامة وحدة حضارية عالمية قائمة على الحضارة اليونانية، والسبيل إلى ذلك إنشاء مراكز ثقافة تدرس فيها علوم اليونان وتحكم بنظمها، فكانت الاسكندرية من أعظم المراكز الثقافية التي يشع منها نور الحضارة الاغريقية.
ويختلف الكتاب في مدى احتكاك المغلوبين والغالبين:
فيرى ابن خلدون أن المغلوب مولع ابدا بالاقتداء بالغالب في شعارة وزية ونحله وسائر أحواله، ذلك لأن المغلوب يعتقد الكمال، فمكنه ذلك من الغلب، بمظاهر حضارته وبأنف من الاختلاط بالمغلوب كما فعل العرب في مصر أول الأمر لكنما هذه العزله لا تستمر طويلا. أو أن يحتفظ المغلوب بمقومات حضارته كراهية منه للغالب كما فعل المصريون مع الهكسوس والفرس.
ويرى الأستاذ ريفرز أنه كلما كانت حضارة المغلوبين راقية كان التأثير عليهم بطيئا وبسيطا. والفرق عظيم بين تأثير الأوربيين في الهند والصين وبين تأثيرهم على العناصر البدائية التي تتأثر بسرعة لأنها اسلس قيادا واكثر طواعية.
وترى مس سمبل أنه إذا كان الغزاة أسمى حضارة - حتى ولو كان عددهم قليلا - فإن الغزو يتمخض عن اندماج المغلوبين تدريجيا مع الغزاة: في النظم الاقتصادية ومختلف نواحي الحياة، مع التسليم بتأخر الاندماج في النواحي الروحية، فقد استطاع الإغريق أن يصبغوا شرقي البحر الأبيض المتوسط بالصبغة الإغريقية، وتمكن العرب من نشر الثقافة الإسلامية في سواحل شرق أفريقيا حتى موزنبيق - مع قلة عددهم هناك، وذلك لارتفاع
مستوى حضارتهم وسموها.
وقد استفاد الشرق والغرب استفادة عظيمة من الحروب الصليبية إذ عرف الصليبيون صنائع أرقى من صنائعهم، وحبب إليهم تسامح المسلمين الهجرة والترحال فربطوا صلات تجارية مع الشرق. وارتفع عن أذهان الغربيين ما كان دسه رؤساؤهم عن الإسلام حتى عاد بعضهم بشرح المعتقدات الإسلامية بضبط ودقة، كما استفاد المسلمون كثيرا من ذلك.
محمد محمد علي
البقية في العدد القادم
ليسانسيه في الآداب
اتين سانت هبلير
من علماء الحملة الفرنسية
للكاتب الفرنسي رنيه سموا
طفولة عالم
في يوم قائظ من سنة 1784 شوهد فتى في الثانية عشرة من عمره، منهمكا في البحث عن النباتات والحشرات. كان يتأبط حقيبة يضع فيها باعتناء ونظام الازهار والاوراق التي يقع اختياره عليها، وكان معه علبه لصون الحشرات التي تستحق العناية.
ولما انتهي عمله من جمع النبات والحشرات من نوع الخنافس جلس في ظل سنديانة، وجعل يدرس مجموعته الجديدة بنظارة خاصة ثم كان يدون ملاحظاتة في دفتر صغير وكان مستغرقا في درسه حتى انه لم ينتبه لوجود الشيخ الذي كان يراقب حركاته باهتمام واعجاب
رفع بصره لسماعه تحطيم غصن يابس، وجعل الشاب يلتفت إلى مصدر الصوت فبادر إلى اخذ لوازمه واستعد للرحيل لانه راى شيخا واقفا بالقرب منه (قال له ذلك الشيخ لا ضير عليك يا بني) لا تقطع عملك لأنه يهمني كثيرا، وأني لسعيد في تزهتي هذه لأنها دفعتني إلى التعرف بك، وادركت تماما بانك مشغوف بالتاريخ الطبيعي، لاني كرست معظم حياتي لتعليم وتدريس هذا العلم. فاجابه الشاب:(نعم يا سيدي - لأنه آنس بكلماته المشجعة - أني أحب النبات والحشرات المختلفه كثيرا باشكالها والوانها. على أنه ليس لدي سوى معلومات اولية من التاريخ الطبيعي. وعليه فاني اغتنم العطلة الكبرى لأكون مجموعة من نباتات هذا البلد ومن حشراته.) قال له الشيخ (هل لك أن تريني نتيجة ابحاثك؟. . فاجابه الفتى: سمعا وطاعة، يا سيدي، ارجوك أن تنفر لي قصوري لأني مستجد في هذا العلم!)
فأخذ الشيخ المجموعة والدفتر، وأخذ يتأمل بأعجاب دراسة هذا الحدث ثم قال. (يا بني أنك متواضع جدا لأنك تطلب مني الصفح عن قصورك، بيد أني ارى هنا طريقة البحث واضحة ومعلومات وملاحظات هي فوق سنك. كل هذا حسن؛ ولكن قل لي أين تعلمت المبادىء الاولية للتاريخ الطبيعي؟ قال له الحدث. اعطاني أبي الدروس الاولى وأكملت
دروسي في كلية (ايتمب).
فاستغرب الشيخ قائلا: وهل تسكن عائلتك هذه المدينة؟ فاجاب الحدث بقوله. نعم يا سيدي، ان والدي هو نائب عام هذه المدينة -
ما أسمك يا بني؟
اسمي جوفروا سانت هيلير
قال الشيخ، لا عجب بان تكون ذا ميل شديد للعلوم الطبيعية. لأن ثلاثة من هذه الأسرة يدعون بجوفروا سانت هيلير كانوا اعضاء في الجمع العلمي فرع العلوم، وكان الاخير يسمى باسمك: اتين سانت هيلير وكان احد الاساتذة الممتازين لحدائق النبات (حديقة الملك).
قال الفتى: - أراك يا سيدي واقفا على تاريخ اسرتي، مع أني لم أشاهدك قط في بيتنا! فاضاف الشيخ قائلا: صدقت با ولدي ولكن أعلم باني مطلع على تاريخ العلماء النابهين في العلوم لأني استاذ في حديقة النباتات وفي كوليج فرانس.
فاضطرب الفتى من هذه المصادفه حتى انه ما تجرأ ان يسال الشيخ عن أسمه.
ولما عاد إلى البيت قص على ابيه ما توقع له، فتبسم ابوه وقال أن ما صادفت هو العالم (دوبنتون الذي طبق اسمه اوربا كلها. أني مسرور منك لاهتمامك بالعلوم، ولكن لا تنسى أن رغبتي ورغبة أمك هي أن تستعد لتعلم امور الدين كي تصبح يوما من حزب الاكليروس)
مولده
ولد اتين جوفروا سانت هيلير، في (اتيمب) في 15 نيسان سنة 1772 من والدين عريقيين في الشرف، متوسطي الحال مثقفين ثقافة عالية، جدير بأن ينتسب لهذه الأسرة الكريمة التي انجبت علماء في العلوم الطبيعية والفيزيائية في غضون القرن الثامن عشر.
فاعتنى الوالد بثقافة ولده، ولا سيما جدته التي كانت ترى فيه مخائل الذكاء فقد كانت له خير موجه ومدرس اذ شرحت له منذ نعومة اظفاره كتب أعاظم رجال اليونان والرومان وكذلك ما ألف في عصر لويس الرابع عشر. حتى انه تفهم أعاظم الرجال للمؤرخ (بلوتارك) على يديها في سن الحادية عشرة من عمره. نعم لقد ظهرت آثار هذه الثقافة فيه
واكسبت نفسه قوة وشجاعة شديدة المراس.
حدث له إذ كان في العاشرة من عمره انه يتيما كان يتنزه مع رفاقه في ضواحي المدينة سمع صوت اعوال وصراخ من أناس كانوا يطلبون الفرار فأسرع (اتيين) إلى المكان، فشاهد ويا لهول ما شاهد! نظر فتاة قد هاجمها كلب والسكينة جامدة مكانها لا حول لها ولا طول والا البكاء فاسرع صاحبنا إلى كرمة واخذ من تحتها شعبا وارتمى على الكلب ضاربا إياه بشدة حتى ولى الحيوان الادبار وتوارى في الاجمة القريبة.
وبعد أن أتم دراسته المنزلية على ابوية وفي مدرسة مدينة أيتمب، نال كرسيا مجانيا في كلية ناقا في باريس، وتابع دراسته الادبية بسهولة وتقوى بالعلوم تحت ارشاد اساتذه علماء وهنا محا من فكره كل انتساب للاكليروس. وأقدم بقواه جميعها على استقاء العلوم المحببه اليه. فتسجل طالبا في حديقة النباتات وفي كوليج ده فرانس، حيث التقي ثانية بصديقة القديم دوبنتون وتتبع دروسه بكل رغبة ونشاط.
أما الدور الذي مثله اتيين اثناء دراسته المنزلية على ابويه وفي مدرستة مدينة ايتمب، نال كرسيا مجانيا في كلية ناقا في باريس، وتابع دراسته الادبية بسهولة وتقوى بالعلوم تحت ارشاد اساتذة علماء وهنا محا من فكره كل انتساب للاكليروس وأقدم بقواه جميعها على استقاء العلوم المحبذه اليه. فتسجل طالبا في حديقة النباتات وفي كوليج ده فرانس، حيث التقى ثانيتا بصديقه القديم روبنتون وتتبع دروسه بكل رغبه ونشاط.
أما الدور الثاني الذي مثله اتين اثناء سنوات الارهاب في الثوره الفرنسية فقد كان في اخر سنه 1792 وعمره أذ ذاك عشرون سنة.
وكان مستغرقا في دروسه حين قطع عليه الارهاب سلسلة دراسته، على انه لم يقطع اطيب الصلات واقواها مع اساتذتة في كلية ناقار، وخاصة مع هاري العالم في المعادن ولا هومون النحوي الشهير وعدد كبير من العلماء.
وكل هولاء الأعلام قد اوقفوا وزجوا في غياهب السجون لانهم كانوا متهمين بعملهم للملكيه.
فسعى غاية جهده ولم يدخر وسيله لانقاذهم من هذا المأزق باذلاً النفس والنفيس حتى تكللت جهوده بالنجاح.
وعهدت إليه حكومة الكونفسيون (بتدريس مادة العلوم الطبيعية بناء على اقتراح صديقه) دوبنتون فصار زميلاً لهؤلاء الاعلام. (أمثال لاسبيد - وبرنارد ده سان بيير - وكوفيه، وكلهم اكبر سناً منه.
وكانت حديقة الحيوانات. قد تلاشت في الثوره المشهوره واخذ العالم الجديد (اتين) يجدد هذه الحديقة فقام بوظيفته خير قيام وعلى أكمل وجه.
اتيين والشرق
ولما تسلمت حكومة الادارة الامور عهدت الى الجنرال نابليون بونابرت غزو مصر سنة 1798 لقهر انكلترا التي لا يمكن مهاجمتها في جزيرتها الصخريه=وبعد أن أتخذ قائد الحملة عدتة قرر أن يستعين ببعثه من العلماء أمثال (مونج - وبرتوله - ودونون) فقام برتوله وعرض على العالم الشاب اتيين بأسم بونابرت وعلى زميله كوفيه ليكونا من أعضاء البعثه.
ولما تم احتلال مصر شرع (اتيين) في أماله في التاريخ الطبيعي فجمع مجموعة طيور من ذوات الريش العجيب. وكتب في مذكراته (في هذا الفردوس الأرضي ينسي المر نفسه بانه ينبغي عليه ظان يسكن المساكن لمقفرة وأن يسعى وراء قوتة مثل الحيوانات التي يدرسها. فكان يقوم كل منا بدوره بوظيفة الطاهي. ولكن عندما يكون دوري يضطر الرفاق إلى تناول المجففات).
بيد أن الأمر لم يطل كثيراً لأن الأوامر صدرت من كليببروده سيكس بضرورة الجلاء عن أرض الكنانه؛ ولكن (إتيين) على رغم قرب الاحتلال الانجليزي وفشل حملة بونابرت لم ينفك عن العمل في مخبره كأن الأمر كان طبيعيا إذ لم يوقفه لحظه واحده انفجار القنابل وازيز الرصاص. كما كان أرخميدس في حصار سيراكوك!.
دخل مخبره يوما زميله العالم فوريه وقال له. (يا صديقي أنقطع عن العمل لأن الجنرال (منو) وقع على وثيقة التسليم، وستعود بعثتنا إلى فرنسا. - فأجابه حمدا لله! إن مجموعاتي جاهزه سأعطي الاوامر لشحنها، إن حملتنا لم تذهب سدى لأن العلم يملك النتائج الطيبه فحسب. - فقاطعه قائلا. بكل أسف أن أعمالنا سيستولي عليها الانكليز وبذلك تذهب جهودنا عبثا. فأجابه (اتيين) من فوره: كلا، سنقابل القائد الانكليزي وسوف نقنعه بأنه
مخطىء في تنفيذ فكرته بشأن الماده السادسة عشرة القاضية بتسليم الجيش الفرنسي كل معداتة. - فرد عليه (أتيين) بقوله ليس هذا عملا حربيا، أتما هذه أعمال قام بها العلماء خدمة للعلم، فأجابه (هوتشنسون) لقد وقع على المادة السادسة عشرة وليس في إمكاني عدم تنفيذها.
فأجابه أتيين: ما دام الأمر كذلك فأننا نرفض أن نسلمكم ثمرة جهودنا. ونستلف كل هذه الثروة التي جمعناها قبل أن يدخل جيشكم هذه المدينه. ولدى مجيئكم لا تجدون سوى رماد هذه الكنوز. فأيد أعضاء البعثه قوله (أتيين) قائلين سنتكلف كل ما لدينا.
وزاد (اتيين قائلا - ستعلم أوربا كل شىء. لقد أحرقت فيما مضى مكتبة الاسكندريه؛ وتعبت أنكلترا اليوم بأعمال العلماء الرائعة المجيدة في ميدان العلوم فلن تنسى عملعا الاجيال.
فأثرت بلاغة هذا العالم الشاب في القائد الانكليزي وألغى المادة السادسة عشرة ورجع العلماء بكنوزهم إلى فرنسا. ورافق بعدئذ نابليون في حملة البورتغال واسبانيا وزاد في ثروة العلم بما عمله من اكتشافات في ميدان التاريخ الطبيعي.
ومات سنة 1844 بين أسرته مأسوفا عليه من أبناء وطنه ومكرما من كل أوربا.
ترجمة وديع شحيد
أستاذ اللغة العربية في مدرسة التجارة الثانوية بدمشق
الشعر المصري في مائة عام
علي أبو النصر
. . . - 1880
للأستاذ محمد سيد كيلاني
ولد السيد علي أبو النصر بمدينة منفلوط في تاريخ لا نعرفه. ورحل إلى القاهرة والتحق بالأزهر. ويقرن أسمه عادة باسم زميله الليثي، فقد كانا تد يمين للخديوي إسماعيل. غير أنه كان أسبق من صاحبه في الظهور في ميدان الشعر وفي الاتصال بالحكام. فقد روي أن محمد علي باشا أرسله ضمن بعثة إلى الأستانة لحضور فرح أقامه السلطان عبد المجيد، ثم اتصل بسعيد ومدحه ورثى أبنه طوسون بقصيدة طويلة. ثم أتصل بإسماعيل وأصبح من ندمائه المقربين إليه. وقد قيل إنه كان طيب المفاكهة والمجالسة، لطيف المسامرة والمؤانسة، حاضر الذهن لا يغالبة في المناظرة من حادة. وكان له مطايبات مشحونة بالنكت الأدبية مع الحشمة والحذر مما تأباه النفوس الأدبية. وقد صحب الخديوي إسماعيل في بعض رحلاته إلى دار الخلافة. ومات في أوائل حكم توفيق.
وله ديوان شعر مطبوع منه بعض نسخ بدار الكتب المصرية
أمتاز أبو النصر علي الليثي بولعه العظيم بالمحسنات اللفظية من تورية وجناس وطباق. وكان أمتن أسلوبا من صاحبه إلا أنه كان يشبهه من حيثالإفلاس في المعاني والمفردات اللغوية. ومن قوله يمدح سعيدا:
أشرقت أنوارا إقبال السعيد
…
فازدهى روض التهاني بالصعيد
وابتهاج الأنس أضحى شاهدا
…
بانتظام الشمل في عز مديد
والليالي بالأماني أقبلت
…
باسمات الثغر عن در نضيد
ويلاحظ هنا أن الشاعر ذكر (الروض) و (الأنس) و (الليالي الباسمات) و (لأماني). وهو بهذا يذكرنا بصاحبه الليثي في قصيدته التي يقول فيها:
أنعم بطيب ليال لحن كالغرر
…
في جبهة الدهر تسمو عن سنا القمر
بها تزف الأماني في مواكبها
…
كل راج ويرعاها أخو السمر
إلا أن النصر كما ترى أجود قولا من صاحبه. والصورة الشعرية في قوله:
والليالي بالأماني أقبلت
…
باسمات الثغر عن در نضيد
خير بكثير من الصورة التي في قول الليثي:
بها تزف الأماني في مواكبها
…
لكل راج ويرعاها أخو السمر
ولم يقف أبو النصر عند المدح طويلا، بل اكتفى بهذه الأبيات الثلاثة. ثم أنتقل إلى ذكر الجيوش السعيدية. وقد أجاد في الانتقال. فبعد أن ذكر الليالي المقبلة بالأماني، قال:
معربات عن جيوش تزدري
…
بالآلي في العقد الفريد
سادة إذ شيدوا بيت العلا
…
لم يزل مدحي لهم بيت القصيد
إن بدت أعلامهم في موكب
…
جاءت البشرى على خيل البريد
أو تبدى طيفهم يوم الوغى
…
مزقت منه العدى خوف الوعيد
والذي يظهر لي من هذه الأبيات أن الشاعر وضع نصب عينيه عبارات (العقد الفريد) و (بيت القصيد) و (خيل البريد) ثم شرع ينظم كل بيت بحيث يتفق مع إحدى هذه العبارات. ولذلك كانت معانيه تافهة. وما قيمة خيل البريد هذه بجانب الأسلاك البرقية وقد عرفت في مصر منذ عهد محمد علي؟ ووصف الجيوش بأنها تزري باللالىء في الحسن والجمال. ولكن عبارة (العقد الفريد) قد استهوته وسيطرت على تفكيره فساقته إلى هذا الوصف وكذلك قوله:
سادة إذ شيدوا بيت العلا. . . الخ فلم يذكر بيت العلا إلا ليقول بيت القصيد. ثم أستطرد في وصف هذه الجيوش في أبيات ذكرناها عند الكلام عن عصر سعيد.
وقد لاحظنا أن الليثي كان يبدأ المدح بذكر الليالي والأماني والأنس ويأتي بصور الرياض والأزهار والطيور والجاول وغير ذلك. أما أبو النصر فكان يبدأ في الغالب بغزل طويل متكلف ممل، ثم ينتقل إلى المدح الذي لا يستغرق فيه سوى أبيات قليلة قد تصل إلى أربعة أبيات أو خمسة. ومن قوله يمدح أسماعيل:
إليك خديوي مصر تصبو المحامد
…
ومنك ترجى للأنام الفوائد
وعنك حديث المجد يروى صحيحة
…
وفيك لآيات الفخار شواهد
وأنت أخو العليا وأنت أبو الفدا
…
وأنت لكف الدهر لكف وساعد
وجودك للأوطان عز ونعمة
…
وجودو بحر فيه تحلو الموارد
إلى ملك الدنيا تود انتسابها
…
لما علمت في الكون أنك واحد
وما مصر في الأقطار إلا كجنة
…
وذكرك فيها في المكارم خالد
وعد لك في كل الممالك ثابت
…
فكل مليك شاكر لك حامد
وليس في هذه الأبيات سوى مدح الخديوي بالمكارم والتفرد بالمجد ونشر العدل. وقد بالغ في هذا مبالغة ظاهرة؛ فجعل الدنيا تود أن تنتسب إلى الممدوح لما لم تجد له شبيها. وجعل عدل الخديو مشهورا في جميع ممالك الأرض حتى أن ملوك العالم قد شكروه وأثنوا عليه لما سمعوا بأنصافه وهذا عبث وهراء لأضطره إليه ضيق المجال.
وقال:
تعودت عن أقطار ملكك رحلة
…
بها سارت الركبان والسعد قائد
وسرت فطاف النصر حولك ساعيا
…
وغيرك من درك المآرب قاعد
والمعنى تافه كما ترى. والطواف والسعي يكونان حول شيء ثابت. والصورة المنتزعة منهما لا تتفق مع الصورة التي توحي بها كلمة (سرت) ولو قال (وسرت فسار النصر فوقك ساعيا) لكان موفقا. والظاهر أنه كره أن يكرر الفعل ثلاث مرات في بيتيين متتاليين. فإن صح هذا فقد كان بوسعه أن يقول (وسرت فكان النصر حولك ساعيا.)
ثم قال:
وصلت إلى دار الخلافة زائرا
…
مليكا له بالمكرمات عوائد
مليك حباك الود في غابة الصفا
…
وشاطرك الآرا ونعم المقاصد
والمعنى في منتهى الضعف. وقوله (في غاية الصفا) من عبارات الدهماء. وقوله (وشاطرك الآراء ونعم المقاصد) خلو من المعنى. وقال:
هنالك شاهدت المحاسن كلها
…
ولا زلت للصنع الجميل تشاهد
ومعناه قد بلغ الغاية في التفاهة.
وقال:
ولكن إلى مرآك مصر تشوقت
…
ومنها إليها صادر الشوق وارد
نأيت فكاد النيل يبخل بالوفا
…
وعدت قوافي جبره وهو زائد
وقوله (ومنها إليها) من رديء التراكيب وليس في البيتين من المعنى ما يستحق الذكر. ويلاحظ أنه يكثر من تشبيهه جود الممدوح بالبحر. وقال من قصيدة أخرى:
فهو المليك الذي علا مآثره
…
وفائض الجود من جدواه إمداد
المفرد العلم الأسمى علا شرفا
…
وفاض بحرا فكم ترجوه وراد
كالغيث جاد بما يغني الأنام بلا
…
من فجدواه إنجاز وإيجاد
وليس في هذه الأبيات سوى مدح الخديوي بالكرام
محمد سيد كيلالي
للكلام بقية
الربيع
للشاعرة الإنجليزية آن وومر زلي
ها قد صح الآن مقدم الربيع، يا من لعلك تذكرينني الآن مثل ذاكري لك، فخلع على كل واد لوناً؛ وأقام عند كل شعب محراباً من محاريب الجمال؛ ونفخ في كل خلية روحاً؛ وأوحى إلى الطير بأغاريد الفجر الجديد والفصل الضاحك؛ فاستخف بذلك كله أهل الحي الذين خفوا يلتمسون آثار هذه المباهج، وطفقوا يستجيبون لذائذ هذه الحياة في موسم انتعاشها وانبعاثها وازدهارها. .
هاهي، يامن عليك القدر الصارم إلا أن تتناسيني، كل مفاتن هذه الطبيعة ومباهج هذا الربيع، خليقة أن تضيء النفس بأقياس الهناءة، وخليقة أن تصل القلب بأسباب السعادة. .
هاهي ذي كلها قد استحال عليها أن تجعل مني أحد أولئك السعداء. . . وأنت يا حبيبتي بعيدة عني. .!
في الجو، هنا، عصفور غرد فح، يروح ويغدو، فوق رأسي، وفوق الشجر. .
وهناك، عند أقصى الحديقة، تطل حمامة مطرقة برأسها الجميل، من بين السياج، وهي ترسل من حين إلى أخر هديل قلبها الصغير بحب فراخها، يتردد رقيقاً صافياً مع النسائم الندية. .
وهنالك، في الناحية المقابلة، تلك العرائش الخضر المذهبة، ذات الحواشي البيض، التي تعرفينها جيداً، والتي طالما انطلقتا عندها خفيفين نمرح على سجيتنا، في براءة الأطفال، وطهارة المحبين. .
إنها جميعاً ترد إلى ذهني ذكريات حبنا العتيد. وما كان أجملها واحفلها ذكريات!
وهي في الحق، إنما تحيط وحدتي بشيء من أنس وإشراق، وتجعلها أقل ايحاشاً وترويعاً - حين لا تكونين بقربي، أنت أيتها الحبيبة!
أجل، هي كذلك، ولكن الحب موهبة الطبيعة لأبناء الحياة، وهو بهذه الصفة حق طبيعي لكل مخلوق، وملك خالص لكل حي. .
ألم ترى - مرة - إلى زوجين من الطير يتباثان أشواقهما الغريرة، وإلى زوجين من الناس يتطارحان رغباتهما البريئة. . .؟ أم قد غاب عنك كيف يسعى كل حيوان، وكيف يحاول
كل إنسان، أن يعالن قرينه بحبه ويكاشفه بلواعجه. . في أيام الربيع هذه. .؟
وفي أيام الربيع هذه. . كنت أن أتوقع أن يهيئ لي حظي من حبي نعيم نجو المحببة، ونعمى قبلاتك الحلوة، ولكنك لست هنا، أيتها الحبيبة!
فأنى لي أن أتشوف إلى السعادة؟ ولم أحتفل بالربيع وشيه، وألوانه ما دام ذلك القدر الصارم قد حرم علي تلك السعادة؟!
(دمشق)
محمد الأرناؤوط
رسالة الشعر
هتاف الروح
(في ليلة دافئة من ليالي كاليفورنيا)
للأستاذ سيد قطب
في الجو يا مصر دفء
…
يدني إلى خيالك
وتستجيش حنيني
…
إلى الليالي هنا لك
للأمسيات السكارى
…
نشوي ترف خيالك
ونسمة فيك تسري
…
ريانة من جمالك
نجواك ملء فؤادي
…
ترى خطرت ببالك
النيل والموج سار
…
يقبل الشطئان
والبدر والنور ساه
…
كحالم وسنان
وفي الجواء حنين
…
مجنح حيران
ومن هنالك لحن
…
يهفو إلى الآذان
صداه ناء عميق
…
في ناي هذا الزمان
في النفس يا مصر شوق
…
الخطرة في رباك
لضمة من ثراك
…
لنفحة من جواك
لومضة من سماك
…
لهاتف من رؤاك
لليلة فيك أخرى
…
مع الرفاق هناك
ظمآن تهتف روحي
…
متى تراني أراك؟
سان فرانسسكو
سيد قطب
يا حياتي!
للأستاذ إبراهيم محمد نجا
ألا يا حياتي مللت الشبابا
…
فهلا طويت الشباب اقتضابا
وعفت خداع الأماني الكذاب
…
فردي إليك الأماني الكذابا
وهاتي المشيب، لعلي به
…
أبدد من عالمي الاضطرابا
فيقمر نفسي هدوء رحيب
…
وينساب في خلجاتي انسيابا
ويذهب عني نزوع عجيب
…
إلى كل سر دعاني وغابا
وشوق إلى عالم ذي حجاب
…
أريد لأكشف عنه الحجابا
حلمت به في ليالي السهاد
…
رؤى باهرات، وفنا وعجابا
فلما انتبهت، وبي نشوة
…
من الحلم، طابت لقلبي وطابا
وأبت إلى عالم عفته
…
تمنيت أني عدمت الإيابا
وحب ظمئت إلى وردة
…
ليسقني، فسقاني السرابا!
وسر طواني، ولم أطوه
…
وعذبني، فاحتملت العذابا
شربت المرارة من كأسه
…
فيا للمرارة صارت شرابا!
وسرت به في رحاب الحياة
…
غريبا، فضاقت حياتي رحابا
ويحرق روحي لظى عاتيا
…
ويمتد في أفق عمري ضبابا
أحدث نفسي به خاليا
…
أكتمه حين ألقي الصحابا
رماني به قدر صارم
…
فيا ليته إذ رمى ما أصابا
وكنت ولي رغبة في الحياة
…
فلما رماني. . . ثكلت الرغابا!
وكانت لقلبي مني حلوة
…
فذابت دموعا بقلبي، وذابا
وها أنذا قد ألفت البكاء
…
فأرسلت قلبي دمعا مذابا
بكيت حياتي وغنيتها
…
وبعض الغناء يكون انتحابا
وكل يترجم عما به
…
ويكشف عما لديه النقابا
ولو كنت أملك سر الغناء
…
لأرسلته نغما مستطابا
ولكنما ملكتني الشجون
…
فأرسلنني شجنا واكتئابا
نصيبي الذي أطلقته الحياة
…
فحوم في أفق عمري غرابا
زرعت بعمري ورود المنى
…
فلما جنيت. . . جنيت اليبابا!
وأسأل نفسي السؤال الرهيب
…
وإني لأعرف عنه الجوابا
أقول لها: كيف أجني العقاب
…
ولم أجن ذنبا، وما قلت عابا؟
لعلك أذنبت في عالم
…
بعيد، فهلا احتملت العقابا؟
إذن سوف أحمل ما تكرهين
…
وأرضي بما تفكرين. . . احتسابا
وأجعل عمري أسى كله
…
وأملؤه وحشة واغترابا
وأنثر في الأرض زهر المنى
…
فأشعر أني نثرت الشبابا
وأجني من العمر شوك الضنى
…
كأني زرعت بعمري الصعابا
وأمضي بلا رغبة في الحياة
…
أرود الوهاد، وأطوي الهضابا
على الشوك أمشي ولا أشتكي
…
وفوق الرمال تشع التهابا!
لعلي أرى الموت مستعلنا
…
بقربي، فأزداد منه اقترابا
أناديه: حتى متى الارتقاب؟
…
أما ضاع فيك الشباب ارتقابا؟
طلبتك إذ عذبتني الحياة
…
فحسبي عذابا، وحسبي طلابا
حياتي قشور، وأنت اللباب
…
ويا موت إني أريد اللبابا
فأسمع صوتا كرجع الصدى
…
يقول - وما قال إلا صوابا: -
لقد آن يا موت أن يستريح
…
وفي دينه، واقتضينا الحسابا
وكل إلى أصله صائر
…
فقل (التراب): ستغدو ترابا
إبراهيم محمد نجا
* * * نقص * * *
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
مناظرة بين الأدب العربي والأدب الغربي:
جرت يوم الحد الماضي مناظرةفي قاعة المحاضرات بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، كان موضوعها (يجب أن يستلهم الأدب العربي الحديث الأدب الغربي الحديث أكثر مما يستلهم الأدب العربي القديم) أيد الرأي الدكتور محمد القصاص والأستاذ عبد الرحمن الخميسي والطالب غايث لطف الله والآنسة كليوباترة خليل، وعارضه الأستاذ عمر الدسوقي والأستاذ حامد داود والطالب محمود مكي والآنسة بشرى جنينة.
والموضوع - كما ترى - يقتضي أن يستلهم الأدب العربي الحديث كلاً من الأدبين العربي القديم والغربي الحديث، ولكن الخلاف على الكمية. . . فطبيعة الموضوع تفرض على كل من المتناظرين أن يقر فائدة الأدبين وحسن أثرهما في أدبنا الحديث، وليس له إلا أن يقول بالإكثار من هذا والإقلال من ذاك، فالمسألة بهذا الوضع مسألة بدهية من حيث أنه ينبغي الأخذ والاستفادة من هذا ذاك، فنستلهم مثلاً الأدب الغربي بنسبة تسعة وأربعين في المائة، أو العكس، أو تنقص هذه النسبة أو تزيد عن تلك؟
ولكن حماس المتناظرين ورغبتهم في الصيال والجولان وميل كل فريق إلى أن يظفر بتأييد رأيه، كل ذلك جعلهم يتعدون تلك الحدود الضيقة العقيم. . . وكأنهم أدركوا تفاهة المسألة وقلة خطرها من حيث تعيين القدر الذي ينبغي استلهامه من كل من الأدبين. . . وبذلك تحولت المناظرة إلى مقاتلة بين الأدب الغربي الحديث والأدب العربي القديم، فحمل كل من الجبهتين على الآخر، يثلب أدبه ويشيد بما يناصره، وقد يمتد الرشاش إلى الأشخاص، فهذا جاهل لم يطلع على الأدب العربي القديم وهذا رجعي متأخر. . . الخ
وعلى ذلك راح مؤيدو الرأي يشنون الغارة على الأدب العربي القديم، يقولون إنه أدب بعيد عن حيتنا الحاضرة وهو أدب أجوف يعتمد على فخامة اللفظ والتركيب وأدباؤه فريدون، ولم تكن فيه وحدة القصيدة. وقالت الآنسة إنه صعب خشن لا يلائم حياتنا الناعمة. . واستشهدت بأبيات لعنترة يتغزل فيها بعبلة على أن الشعر العربي شعر حسي لأن عنترة لم يعجبه في حبيبته إلا جمالها وصفاتها الحسية ولم يهتم بروحها. . وقال الأستاذ عبد الرحمن
الخميسي إنه أدب جهارة! وجعلت درجة الحرارة في خطبة الدكتور القصاص تميل إلى الصعود تدريجياً. . فسفه تفكير العرب والفلاسفة الغربيين. . . وارتفعت درجة الحرارة فجأة إلى أقصى حد إذ قال إن الأدب العربي جزء من التاريخ الميت ويجب أن نبحث له عن متحف من متاحف الآثار الميتة!!
وعلى ذلك أيضاً طفق معارضو الرأي يكيلون للأدب الغربي قدحاً بقدح، يقولون إنه أدب منحل لا يناسب بيئاتنا الشرقية وإنه إنما يصور حالات في تلك الأمم تختلف عن حالاتنا، وقد نشأت فيه مذاهب بظروف خاصة نتيجة لاضطراب الخواطر وقلق النفوس من أثر الحروب وغيرها، وهي مذاهب معقدة ملتوية كالرمزية والسريالية، وقد أفاض في ذلك الأستاذ عمر الدسوقي، وعرج على شعراء العرب المحدثين الذين قلدوا تلك المذاهب، وأني بأمثلة من أشعارهم وكان لقصيدة (الشاطئ الحافل) للدكتور بشر فارس مكان في هذا المجال. وجعل يبين ما في بعض هذه الأشعار من خلط وما في بعضها من سخف، كما أفاض الأستاذ الدسوقي أيضاً في عرض كثير من القصص الغربية التي رأى أنها تدافع عن النقائص والرذائل. وارتفعت درجة حماسه ضارباً على وتر الفضيلة والقومية حتى دوى له التصفيق في أرجاء المكان.
ولم يفت هؤلاء أن يردوا طعنات أولئك، التي وجهوها إلى الأدب العربي، وكذلك صنع الأولون بما وجه إلى الأدب الغربي. وكان الدكتور القصاص قد استهل كلمته بالإشارة إلى ما حدث بفرنسا على أثر هزيمتها في الحرب الماضية، إذ جعل القوم يفكرون في أسباب هزيمتهم، فلم يرجعوها إلى خطأ في السياسة أو في خطة الحرب، بل قال قائلهم إن التبعة فيما أصاب فرنسا على أساتذة السوربون والأدباء الذين لم يحسنوا توجيه الجيل، واستطرق الدكتور
من هذا القول بأن أدب العرب لا يصلح للتوجيه في هذا الزمن فيجب أن نتجه نحو أدب الغرب ونغترف من علومه وثقافاته.
فلما تكلم الأستاذ الدسوقي قال معقباً على ذلك: كيف نستلهم الأدب الفرنسي وهو الذي أدى إلى هزيمة فرنسا؟
ودافع الدسوقي عن الأدب العربي وأتى بروائع منه واستشهد بأقوال فيه لبعض
المستشرقين، ومما قاله أن وحدة القصيدة كانت موجودة في كثير من القصائد في الجاهلية والإسلام على أن لكل أمة طابعها الخاص في أدبها. وقد عقب الخميسي على ما قاله الدسوقي في أدب الانحلال الأوربي فدافع عن القصص التي ذكرها الدسوقي بأنها تصور الدوافع الإنسانية وان الأخلاق شيء آخر غير الفن.
ومما يلاحظ أن اكثر المتناظرين لم يكن نطقهم العربي سليماً وخاصة الطلبة، وكانت الآنسة المؤيدة مثالاً في ذلك، وهي - نعم - من القسم الإنجليزي، ولكن ألم تسمع مرة من أحد الأساتذة أو غيرهم أسم أبي نواس الذي نطقته كما ينطقه العوام (أبو النواس) واعتقد أن هناكقدراً من تقويم الألسنة في اللغة القومية ينبغي أن يأخذ به كل متعلم مهما كان نوع تعليمه. وقد خرج الأستاذ عبد الرحمن الخميسي من هذا المأزق باللغة العامية الخالصة.
وقد طلب إلى الحاضرين - بعد إنهاء المناظرة - أن يقف منهم من يؤيد الرأي فوقفت أقلية، ولما طلب وقوف المعارضين وقف أكثر الحاضرين وكان حماس الدسوقي في الدفاع عن الفضيلة والقومية لا يزال سائداً عليهم إذ كان أخذ الرأي عقب كلمته. ولم أقم أنا مع المؤيدين ولا مع المعارضين لأني أرى أن نأخذ من هذا كما نأخذ من ذاك. . ولست أدري لماذا أهملوا هذا الجانب! ولعل عذرهم في ذلك أنهم لم يجعلوه طرفاً في المناظرة، ولكن لماذا ما دامت المسألة مسألة تحديد القدر؟ أليس من حقي مثلاً، وقد يكون لي أمثال في الحاضرين، أن نجعل النسبة 50 في المائة لكل من الأدبين!!
ثم لماذا قصر الأمر على الأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث؟ لماذا لا نأخذ ونستفيد من الأدب الغربي القديم، ومن الأدب الهندي ومن الأدب الصيني ومن كل أدب في هذه الدنيا قديماً وحديثاً؟ أنا لا اعرف للثقافة والمعرفة جداً، والأديب العصري يجب أن يأخذ من كل شيء أحسنه، ولا يقف عقله على جديد لأنه جديد ولا يغلقه دون القديم لأنه قديم.
ومما يلاحظ أن المناظرة لم يكن لها نتيجة، وهذا من طبيعة الموضوع، فهي أشبه بما كانوا يقولونه قديماً في السيف والقلم وما يهيئه معلمو الإنشاء في المدارس من الصراع (الفكري) بين الطيارة والسيارة، ولا شك أن كلاً من السيف والقلم والطيارة والسيارة لازم مطلوب في موضعه، وكذلك الأدب العربي القديم والأدب الغربي الحديث. فلم يكن يليق بالجامعيين
أن يستهلكوا جهدهم على لك النحو مضحين بما عرف عنهم من البحث (المنهجي) عن حقائق الأشياء.
مسرحية (أصدقاؤنا الألداء)
افتتحت الفرقة المصرية موسمها الثاني على سرح الأوبرا الملكية بهذه المسرحية، بعد انتهاء الموسم الأجنبي بهذا المسرح، كتبها الأستاذ فتوح نشاطي ويقال إنه أقتبسها، وتبدو آثار الأصل بها من حيث دلالة الحوادث على البيئة الغربية، كما سأبين بعد، وأخرجها الأستاذ زكي طليمات، وقام بأهم الأدوار فيها الأساتذة حسين رياض واحمد علام عمر الجابري وفؤاد شفيق والسيدة زينب صدقي وروحية خالد ونعيمة وصفي.
والقصة تتلخص في أن صالح بك برهوم (حسن رياض)
رجل مسماح يعيش في ضيعته بمشتهر، يشغل وقته برعاية مزارعه وحديقة قصره، واستقبال ضيوفه من الأصدقاء الذين يكثر منهم ويغتبط بوفودهم عليه ويسرف في إكرامهم والإغداق عليهم، وهم أنماط مختلفة، فهذا زميل الدراسة آتي وزوجته إلى ضيافة رفيق الصبا، وهذا صديق عزيز جاء هو وولده كذلك، وذاك ضيف في طرابلس ينزل على الرحب والسعة دون سابق معرفة. الخ
وفي البيت امرأتان هما فوزية (زينب صدقي) زوجة صالح بك، وفاتن (روحية خالد) ابنته من زوجة متوفاة، وفيه أيضا الشاب خورشيد (عمر الحريري) ابن عم الزوجة، وهو شاب وسيم فاسد الخلق، يستغل كرم الزوج وطيبته ويحاول استمالة الزوجة وإغراءها، وهو يتمارض ليطيل أقامته، ويستدعي الدكتور عزمي (احمد علام) لعلاجه، فيظهر أن بينهما معرفة قديمة، وتتعلق الفتاة فاتن بالدكتور عزمي. وتقع حوادث يعمل فيها الأصدقاء الضيوف على تنغيص حياة صديقهم المضيف وتكدير صفوه بمختلف الوسائل، ويرقب الدكتور الحالة وهو ساخط عليهم، كما يراقب العلاقة بين الزوجة وابن عمها، ويتخذ من التدابير ما يفسد به أمرهم جميعا وينقذ الزوجة من نوايا الشاب الاثيم، ويكشف رياء الأصدقاء، فيثبت لصالح بك، أن ما يدعيه أولئك (الأصدقاء الألداء) من الإخلاص والود والوفاء لا حقيقة له، وإن الدكتور عزمي الذي لا يكاد يذكر كلمة الصداقة هو الصديق المخلص حقا الجدير بان يزوجه ابنته.
وتمتاز القصة بأنها محبوكة ومتسلسلة في منطق مستقيم وتكاد تكون عديمة الفجوات. وهي كما ترى قصة اجتماعية، تعالج هذا الموضوع، موضوع الصداقة والأصدقاء، من حيث كثرة المرائين وقلة المخلصين بل ندرتهم، ولكنك تشعر وأنت تشاهدها أن الموضوع يتطلب علاجا ابرع مما بذل فيه، كما تشعر في عرض التفصيلات بالجدب في الالتفاتات الجزئية التي تعتبر مثل هذه الرواية مجالا خصبا لها، وذلك ناشئ - فيما يبدو لي - من أن الكاتب غير منفعل بالبيئة التي عرض لها، وهو أن اظهر لنا بعض الشخصيات ذات الملامح المصرية المعروفة ألا أن الصورة الأصلية، وهي صورة صالح بك أسرته المنقطعين الريف المحبين له السعداء فيه، اقرب إلى صورة الريف في أوربا
والمسرحية فكاهية، وهي كذلك بجهود الممثلين وحركاتهم أكثر مما هي بالحوار، فأنت تحس في المواقف المختلفة بالمادة (الخام) التي لم يصنع منها ما تصلح له من الفكاهة، فالحوار ضعيف فاتر من هذه الناحية وأن كان الممثلون يبثون فيه شيئا من الحرارة، وكان يخيل إلى أن الممثل الظريف فؤاد شفيق يعاني ضيق الحيز الذي وضع فيه فيحاول أن يوسعه ولكنه ينطبق عليه.
أما إخراج الرواية فهو الذي كسا عظمها لحما وجعل لها روحا، من حيث تنسيق المناظر وتوزيع الأضواء وتحريك الممثلين والممثلات، فقد بدت المناظر موافقة رائعة معبرة، فالمشهد يرسل بصره إلى المسرح في المشهد الأول حيث بهو الاستقبال في القصر ومن ورائه حديقة غناء، فلا يخالجه شك في حقيقتها وما هي بطبيعة الحال إلى رسوم وأضواء، ومن المناظر العجيبة منظر الشرفة تبدو منها حمرة الشفق تارة ويرسل أليها القمر أشعته تارة أخرى، والإبداع الفني في تهيئة المناظر للموقف وملاءمته لأحوال من يتحركون فيه والاستعانة به على التعبير وإبراز المقصود منه. وللأستاذ زكي طليمات طريقة لطيفة في تقديم شخصيات ثانوية صغيرة ينعكس عليها جو الرواية، فالجو هنا كله رياء ونفاق، وهذا الغلام (رضوان) الذي يقول أبوه أنه ملاك طاهر والذي يغضي ويطرق أمام السيدات، وهو يسير أيضا في ركاب الرياء، بل يجسمه، إذ هو لا يلبث أن يسطو على الخادمة اللعوب ويهرب معها.
وقد أدى الممثلون والممثلات أدوارهم بجد وإخلاص، ووفق أكثرهم، فكان حسين رياض
بارعا في تصوير الشخصية التي تدور عليها المسرحية وقد اندمج فيها كل الاندماج. وكان احمد علام موفقا في تمثيل الرجل الحازم الحذر كما كان ظريفا في شاراته ونبرات صوته ذات المعنى الذي يلوح فيه، ولكنه كان فاترا أمام الفتاة التي تحبه ويحبها. أما عمر الحريري، وهو من خريجي معهد التمثيل، فقد اثبت إنه دم جديد نابض. وكانت زينب صدقي طبيعية مجيدة في تمثيلها وان كان الدور غير ملائم لها، وهو دور امرأة تغري شابا وتدفعه إلى محاولة اقتناصها، وقد أمكن أن تبدو رشيقة خفيفة الحركة ولكن الصوت وظلال الشخصية كانت بعيدة عما يتطلبه الدور من بعض الصبا والشباب.
عباس خضر
الكتب
مدارس علم النفس المعاصرة
تأليف العلامة: روبرت ودورث
ترجمة: الأستاذ كمال دسوقي
نشرته: دار المعارف بمصر سنة 1950
الكتاب الذي أقدمه اليوم لقراء العربية من وضع العلامة روبرت وردورث ولد في بلخرتون من أعمال ماساتشوستس في 17 أكتوبر سنة 1869. وهو يحتوي على طائفة من المحاضرات ألقاها المؤلف سنوات عدة، أبان اشتغاله بالتدريس في جامعة كولومبيا عنوانها (نظرة في علم النفس المعاصر) ونشرت بنيويورك لأول مرة سنة 1931 تحت هذا العنوان (مدارس علم النفس المعاصرة).
ويحاول المؤلف في مستهل كتابه أن يحدد موضوعه وأن يرسم خططه الرئيسية، فيقول في مقدمته (ويحاول هذا الكتاب أن يلقي نظرة موضوعية على علم النفس المعاصر، بالقدر الذي يتعلق بمدارسه، وما تضيء به للإنسانية من أنظار. وهو لا يريد آراء المؤلف الخاصة في أي صورة مذهبية، وإن لم يمتنع عن شروح شخصية هنا وهناك. ثم هو لا يهدف إلى نقد شامل للمدارس المختلفة، ولا إلى تقدير هام حتى يتأدى بالقارئ إلى واحدة منها ويبعد به عن الأخرى، وإنما غرضه أن يقدم صورة لهذه المدارس لا محاباة فيه، حتى يتهيأ للقارئ أن يقف على المعالم الرئيسية لكل منها في غير توسع مربك، ولكن بالقدر من التجسيم الذي يعطي لونا لهذه الصورة.)
وهذه المدارس المعاصرة التي تتوزع ميدان علم النفس فيما بينها، أن دلت على شيء، فعلى حداثة هذا العلم، وعلى أن موضوعه لم يتعين، ومنهجه لم يتضح، وغايته لم تتحدد بعد. ولابد أن تمر عشرات السنين قبل أن يتأدى الصراع القائم بينها إلى موضوع لعلم نفس محدود، منهج واضح، وغاية معلومة، يتفرغ العلماء بعد الوقوف عليها إلى تناول موضوعات جزئية لها صيغة موضوعية داخل هذا الإطار الذي تكون معالمه قد وضحت كما هي الحال في العلوم الطبيعية.
والكتاب يقع في سبعة فصول:
الأول: ما وراء خلافاتنا الجارية
الثاني: سيكولوجيا الاستبطان والمدرسة الوجودية.
الثالث: السلوكية.
الرابع: سيكولوجيا الجشطلت أو الشكلية:
الخامس: التحليل النفسي والمدارس الملحقة.
السادس: مذهب القصد أو علم النفس الهورمي.
السابع: وسط الطريق
ويستهل المؤلف كتابه بالحديث عما يسميه (النظام القائم) كان يسمي وقت انتشاره وذيوعه، علم النفس الحديث، تمييزا له عن سيكولوجيا العصور الوسطى وسيكولوجيا ديكارت وهوبز وليبنتس وغيرهم. وهذا (النظام القائم) ارتباطي في أساسه. والارتباطين في علم النفس هم الذين حاولوا في القرن الثامن عشر، ومستهل القرن التاسع عشر أن يردوا جميع العمليات العقلية على عملية الارتباط التداعي وحدها، بدلا من ردها إلى أساس عام من الحركة كما فعل هوبز مثلا، حينما فسر هذه العمليات تفسيرا (جعلها في صف واحد مع العمليات الفيزيقية. . . فالحركة الخارجية تقع على أعضاء الحس فتتصل بالأعصاب والمخ والقلب؛ والحركة الداخلية - عندما تبدأ - تستمر بحكم القصور الذاتي هيئة ذكريات وأفكار)
ويعرض المؤلف لما كان لعلمي الكيمياء، والفيزيولوجيا من تأثير كبير على مناهج علم النفس في القرن التاسع عشر، بعد أن عرض علينا ما كان لعلم الطبيعة من اثر واضح عليها فالكيمياء أوحت بفكرة (كيمياء العقل) التي تحلل مركبات العقل، كما تحلل الكيمياء المادة إلى عناصرها الأولية ويعد إرهاصا لما سمي بالتحليل النفسي فيما بعد. أما الفيزيولوجيا فقد أوحت بفكرة (التجريب) في علم النفس، فكان ميلاد أول معمل لعلم النفس التجريبي، أنشأه فنت في ليبتسك سنة 1879 وكانت ثورة السيكولوجيا التجريبية على النفس السابق عليها من حيث منهجه ومستواه العلمي أكثر منها على نظيرته. فبينما قنع عالم النفس السابق بإن يستعين على البرهنة بالذاكرة وخبرته الشخصية العامة مع ما فيها
من عدم ثقة، إذا بعلم النفس الجديد يصر على أن تقوم حقائقه على ملاحظات مسجلة ومحددة).
ويتابع المؤلف حديثه علة المؤثرات الخارجية المختلفة، التي استهدف لها علمنا الناشئ. فيعرض لكل من البيولوجيا العامة - وعلى الخصوص نظرية التطور - وما كان لها من ثورة على علم النفس القديم؛ ولعل الطب العقلي كان من انقسام أطبائه إلى معسكرين: نفسيين عن أسباب المرض في العقل، وجسميين إلى اضطرابات في المخ. ثم يبين ما كان من جانب علماء النفس من محاولات جدية - كرد فعل لهذه المؤثرات الخارجية - لفصل هذا العلم عن الفلسفة، وعن غيره من العلوم التي لها به صلة قريبة أو بعيدة.
وقد كان علماء النفس في أواخر هذا القرن يعرفون علمهم بأنه علم الشعور وبالتالي كانوا يتخذون الاستبطان منهجا لهم. ثم جاء القرن العشرون الذي حاول المشتغلين فيه بمسائل علم النفس أن يثوروا على هذا (النظام القائم) في القرن الماضي متلمسين ما فيه من مثالب وهنات؛ (فتمزقت بينهم أربا سيكلوجيا القرن التاسع عشر القديمة المسكينة تمزقا لطيفا، ونشأت مدارس تعارضت مع بعضها البعض تماما كما تعارضت مع علم النفس القديم) ونجم عن ذلك فترة نشيطة جدا ذات نظام لم يقرر بعد) ص57 وحاولت كل من هذه المدارس أن تحدد موضوع علم النفس، وإن تتخذ لنفسها منهجا خاصا يتادى بها إلى نتائج حقيقية حاسمة. وهي قد أجمعت - وأن اختلفت في الوسيلة - على إعلان الثورة على هذا (النظام القائم) الذي يصور علم النفس باعتباره (دراسة للشعور) متخذا (الاستبطان) منهجا يستخدمه في دراسة الإنسان.
فعلم النفس كما يراه السلوكي مثلا (هو شعبة تجريبية موضوعية خالصة من العلم الطبيعي. وهدفه النظري هو تنبؤ السلوك وضبطه. وليس الاستبطان جزءا رئيسيا من مناهجه، ولا القيمة العلمية لحقائقه تقوم على استعدادها لأن تعبر عن نفسها بألفاظ الشعور. . . ولعله لابد قد حان الوقت الذي يطرح فيه علم النفس كل إشارة إلى الشعور. إذا لم تعد به حاجة بعد إلى أن يخدع نفسه في حسبان أنه يجعل الحالات العقلية موضوعا لملاحظته.)
وبينما السلوكيون يحاولون أبعاد الشعور عن ميدان علم النفس ويقصرون دراستهم على
السلوك وحده، نرى فريقا آخر من العلماء، لم تنشأ مدرستهم عن علم النفس ذاته، وإنما نشئت عن أبحاث الطب العقلي تلك هي مدرسة التحليل النفسي، وعلى رأسها العلامة فرويد، التي أطرحت الشعور جانبا واتخذت ما يجري في اللاشعور، من ذكريات وأحلام، موضوعا لدراستها بوسائلها الخاصة.
ولقد حاولت مدرسة أخرى جديدة هي مدرسة القصد رأسها مكدوجل، أن تتخذ لعلم النفس موضوعا من الدوافع الإنسانية - من غرائز وعادات وانفعالات وأفعال ثائرة بذلك على النزعة العقلية التي كانت تسيطر على هذا العلم وعلى الأيمان بأن منهج الاستبطان هو وحده المنهج الصحيح في علم النفس.
وليس معنى هذا أن علماء النفس القائلين بالشعور موضوعا وبالاستبطان منهجا لعلم النفس، قد قنعوا بالثورات المختلفة المتلاحقة من جانب هذه المدارس على مذهبهم، وإنما يعدلون فيه بالقدر الذي يظهرهم وسط الميدان وكأنهم أصحاب مدرسة جديدة؛ فإلى جانب أيمانهم بالاستبطان قالوا بإن علم النفس هو علم خبرة (وصف هذه الخبرات وتحليلها، ومقارنتها، وتصنيفها، وترتيبها في نظام دقيق. فكانت الخبرات تدرس وكأنها موجودات أخرى، أن علم النفس الوجودي كان يجد متعة في الفرد كصاحب وليس كقائم الفعل
وثمة مدرسة أخرى هي مدرسة الجشطلت مدرسة الصيغة ثارت على المذهب الارتباطي من حيث عنايته، على خصوص، بالجانب العقلي من الحياة، ومن حيث إنه (اخذ بالاحساسات البسيطة على إنها العمليات الأولية، التي منها تتركب الخبرات والأفكار المركبة). كما أن هذه المدرسة - على العكس من السلوكية التي نادت بتحليل السلوك لا خبرة - قد اطرحت، 35 - 34 على الإطلاق، منهج التحليل، سواء منه ما اختص بالسلوك أو الخبرة. وقد رفضت هذه المدرسة كذلك فكرة المعاني باعتبارها فكرة مظللة، كما رفضت الاحساسات، وعلى الأقل الأولية منها على إنها عناصر للخبرة التي سبق لها أن رفضتها هي الأخرى.
تلك هي الخطوط الرئيسية لمدارس علم النفس المعاصرة، التي عرض لها ودورث في كتابه الذي لم يشأ مؤلفه أن يقف به عندها، دون أن يعرض علينا شذرات من مذاهب لعلماء مبرزين في ميدان علم النفس، ولكنهم مع ذلك لا ينتمون إلى هذه المدرسة أو تلك.
ففي بريطانيا: نجد الأستاذ سبيرمن بجامعة لندن الذي ولد سنة 1863، والذي احتدم الجدل بينه وبين ثورانديك حول طبيعة الذكاء. كما نجد الدكتور. ش. ص. ما يرز بلندن كان مديرا لأول معمل سيكلوجي في بريطانيا - معمل كمبردج ثم عين مديرا لمعهد علم النفس الصناعي القومي.
وفي ألمانيا: نجد الأستاذ فليكس كريجر (ولد سنة 1874)، الذي يعارض الجشطلت (فيبين أن الشكل الذي ندركه في أية لحظة هو ذاته متضمن في شعور كلي؛ فالشعور عنده حقيقة أكثر جوهرية من الصورة الخلفية). كما نجد الأستاذ. ا. اشبرانجر برلين (ولد سنة 1882). ومن تلاميذه ميلر اثنان هما فيينش في ماربورج، ودافيد كاتس في رستوك. كما يذكر المؤلف الأستاذ وليم استرن ابنجهاوس.
وفي سويسرا: نجد الأستاذ كلابارد أنشأ معهد روسو لدراسة الأطفال.
وفي إيطاليا نجد السابق بجامعة بادو. كما نجد الأستاذ بتخصصه في الأمراض العصبية والنفسية! والأستاذ كيسوا الذي كان تلميذا، قديما لفنت. والأستاذ بقياسه للمجهود وبدراسته للتعب.
وفي فرنسا: نجد الأستاذ هنري بيبرون المولود في سنة 1881. كما نجد الأستاذ جورج ديماس بأبحاثه الخاصة بالانفعالات.
وفي روسيا: نجد تيارا جديدا ينادي بدراسة الفرد (كعضو في طبقة اقتصادية ومهنية؛ ويتزعم هذا التيار علماء نذكر منهم الأستاذ كورنيلوف المولود في سنة 1879، ومدير علم النفس التجريبي في جامعة ولاية موسكو.
ونحب هنا أن نشير إلى أن مؤلف هذا الكتاب، هو نفسه من بين علماء وسط الطريق أو أن هؤلاء العلماء لا يقفون من المدارس المعاصرة في علم النفس موقف متفرج، بل انهم يقومون بمهمة التوفيق حينا، وحينا آخر يقومون باختيار ما هو احسن، واقرب إلى الصواب عند كل من هذه المدارس، ليسيروا به قدما، تاركين المدارس في تنزعها وتضاربها. فعلى يدي علماء وسط الطريق يجب أن نتوقع من الكشف والاستقلال في الموضوعات والمناهج على السواء أكثر ما نتوقع من المدارس.
وبعد فهذا رسم تخطيطي للكتاب الفذ الذي اضطلع بمهمة ترجمته إلى العربية الأستاذ
الشاب (كمال دسوقي) بما عرف عنه من حماس للعلم منقطع النظير. ولا يفوتني هنا أن اشكر لصديقي الأستاذ هذا المجهود الجبار الذي يبذله، من يوم بدا يترجم كتابه طالبا بالسنة النهائية ن قسم الفلسفة بكلية الآداب. وتتجلى آثار هذا المجهود في مقدمته التي يلخص فيها أهم التيارات التي تجاذب علم النفس، والتي يورد فيها ترجمة وافية دقيقة لمؤلف الكتاب وثبتا لمؤلفاته، كما يتجلى في التعليقات المسهبة التي يعقب بها المترجم على كل فصل من فصول الكتاب) وهذه ميزة لا نعرف أن المؤلف قد سبق أليها من قبل. وفي ثبت المراجع الذي ذيل به الكتاب فضلا عن المراجع التي أوردها المؤلف، كما تتجلى كذلك في أمانة النقل، ودقته، مع ما في أسلوب الكتاب من التواء وغموض.
وختاما أرجو لعلم النفس على الخصوص، وللفلسفة بوجه عام، خيرا كثيرا على يدي المترجم وغيره من الشبان المشتغلين بهذه الدراسات في مصر والشرق العربي، عن طريق الترجمة والتأليف على السواء.
المنصورة
مصطفى احمد فوده
ليسانسييه في الفلسفة
ومدرس بالمدارس الأميرية بالمنصورة
القصص
قلب كبير
(إلى صديقي الأستاذ أنور المعداوي إعجابا بقلبه الكبير)
للأستاذ شاكر خصباك
من كان يتصور هذا؟! من كان يتصور أن ذلك القلب الصغير يتسع لكل تلك العواطف الكبيرة الزاخرة بأسمى مشاعر الحب والوفاء؟! أجل، من كان يتصور هذا؟! ومع ذلك فقد جرى كل شئ في بساطة مدهشة.
كان المنزل الذي اتخذته مقرا لي في القاهرة يعج بالمغريات، وكنت أحاول إقناع نفسي باستئناف حياة جديدة خالية من عنصر النساء - بعد أن جر على متاعب جمة - فانطلقت أنقب عن أسرة صغيرة أشاركها العيش علني اسكن إلى حياة رزينة. وهكذا عرفت تلك الأسرة الفرنسية الطيبة. وكان قوامها زوجين في العقد الرابع من عمرها وصبية في ربيعها الثالث عشر ذات حظ موفور من الحسن بشعرها الأصفر الذهبي وعينيها الزرقاوين الواسعتين وملامحها الدقيقة الساذجة.
وانطويت على نفسي في الأيام الأولى، فلم أتبادل مع الأسرة سوى أحاديث قصيرة على مائدة الطعام. وفيما عدا ذلك كنت اعتكف في غرفتي منصرفا إلى القراءة والدرس. لكنني ما لبثت أن استشعرت الوحشة في هذه الحياة الرتيبة، وحننت إلى دنيا اللهو والمرح. وخشيت أن يفلت الزمام مني فعقدت العزم على الاندماج في الأسرة لو أد هذا الحنين. ولقد شجعني ما لمسته في الزوجين من طيبة ونبل على المضي في قراري قدر الإمكان.
وشرعنا ننتظم كل مساء في جلسة هادئة لنتحدث في شتى شؤون الحياة. وكنت انصرف إلى الزوجين أثناء تلك الجلسات غير معين بتوجيه الحديث إلى فلورا. واحسب أنني لست ملوما على ذلك السلوك، فقد كانت هي عونا لي على تجاهلها بما كانت تبديه من جمود اقرب إلى النفور. وكان يحدث لي أحيانا أن التفت نحوها عفوا فأراها معلقة الأنظار بوجهي وهي سارحة الفكر، وتلتقي عيناي بعينيها وسرعان ما تغض طرفها في ارتباك وتعلو وجنتيها حمرة خفيفة.
وضقت بجمودها ذرعا فسألت والديها عما يدعوها إلى النفور مني، فأكد لي أنها شديدة الخجل وأنها في حاجة إلى مدة كافية ريثما تألف صحبتي. فحفزني هذا الكلام على انتهاج خطة جديدة للتقرب أليها، وبدأت أوليها نصيبا كبيرا من عنايتي. وسرعان ما أخذت فلورا تتحرر من جمودها شيئا فشيئا وإن لم يزايلها خجلها الشديد.
(إن فلورا طفلة عجيبة). تلك هي الفكرة التي نبعت في أعماقي وتسربت إلى جوارحي رويدا رويدا حتى تشبع بها كياني. إنها عجيبة بوجهها البريء وخجلها الساذج وسلوكها المثير. وكلما ازددت بها معرفة اشتدت محبتي لها. شيء معين فيها كان يضرم حبي. أهي تلك النظرة الوادعة التي تطل من عينيها دوما؟! أم تلك الحمرة الوردية التي تصبغ وجنتيها أبدا بصبغة الحياء؟! أم تلك الملامح العذبة التي تعبر أدق تعبير عن طهارة الطفولة وجمالها السامي؟! لا ادري بالضبط، ولعل تلك الأسباب مجتمعة كانت تحببها ألي. وحمدت الله حين بدا لي أن نفورها القديم مني قد اختفى تماما. وعجبت كيف ألفت صحبتي بتلك السرعة المدهشة حين غمرتها باهتمامي. واصبح من الواضح أنها تحمل لي بين جنبها مودة عميقة. لكن هدوءها المتناهي وخجلها الشديد كانا يطبعان حركاتها بطابع التزمت. ولعل الشيء الوحيد الذي كان يعلن عن تلك المحبة هو عينيها. . . عيناها المنطويتان على بحر جياش بالعواطف المضطرمة. ومع إنها كانت تحب أن تجلس إلي دوما، إلا إنها لم تكن تقتحم علي غرفتي أبدا، بل كانت تنتظر في لهفة أن أسالها ذلك بنفسي. واعتدت بدوري أن استدعيها إلى غرفتي عصر كل يوم حين تعود من المدرسة، لتقص علي ما مر بها من الحوادث النهار. وقد يصادف أن يضيق وقتي عن الاستماع أليها بعض الأحيان، فاضطر إلى القراءة والتظاهر بالاستماع، فكانت تكف عن الكلام وتركن إلى الصمت رغم احتجاجي. وتتجمع على نفسها في مقعدها، ويصبح كل وجهها عينين. . حنونتين تتعلقان بوجهي في شرود! لكنها رغم كل شيء كانت تحرص على قضاء العصر معي، فتتعمد المرور أمام باب غرفتي - ساعة رجوعها من المدرسة - وتخاطب أمها بصوت عالي ليبلغ مسامعي، حتى ادعوها ألي.
والواقع أنني لم استشعر الضيق من إقبالها على صحبتي بهذا الحماس العظيم، بل كنت أشجعها على ذلك غاية التشجيع، حتى إنني أقبلت حين سألتني ذات يوم في إلحاح أن
ادرسها اللغة العربية في الفرص السانحة. فقد كنت آمل أن تصرفني صحبتها عن الصديقات اللاهيات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كنت أحس نحوها بحب صادق ومودة عميقة، وحملني ذلك على ملازمتها دوما، بل دفعني إلى استصحابها في نزهاتي خارج الدار، حتى صار من المألوف أن تكون فلورا برفقتي كلما رغبت في نزهة أو قصدت إلى سينما. وكم كانت تحس بالغبطة والسرور لتلك النزهات، فكان شعلة سحرية من السعادة تتوهج في أعماقها فيفيض وجهها بشرا وهناءة! غير أنني في الحقيقة لم اكن دائم الرضى عن هذه الحياة، بل كانت تتملكني أحيانا مشاعر آسى ويرمضني حنين ملح إلى حياتي اللاهية. لكنني كنت أسارع إلى الإفلات من شراك تلك المشاعر فيعاودني الاطمئنان وهدوء البال.
وذات أمسية كنت أتنزه مع فلورا في شارع فاروق المحاذي للنيل فالتقيت بصديقي حمدي، وكنت لم أره من مدة بعيدة، فهتف في دهشة ممزوجة بالفرح: ماذا جرى لك يا سلمى؟! لم يعد بوسع أحد أن يراك.
فأجبته معتذرا: أنها ظروف الحياة لعنها الله. . حقا أنني مشتاق لرؤيتك.
فصاح مازحا وهو يرمي فلورا بنظرة استغراب: لعلك مشغول بهذه الطفلة. . ولكنني لا ارتضي لك هذا المصير الأليم بعد مغامراتك الرائعة مع الغيد الحسان.
وربت على كتفي مداعبا وانصرف مع رفاقه ضاحكا. وتابعت التنزه مع فلورا وعباراته الساخرة تموج في أعماقي. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . لعلك مشغول بهذه الطفلة. . أنا مشغول بهذه الطفلة. . كل وقتي وقف على هذه الطفلة. . لم اعد اعرف معنى للمرأة الناضجة. . فلورا تسرق شبابي. . فلورا تسرق شبابي. .!
مرت أيام وأنا مرهق الذهن بتلك الأفكار الثائرة. وعادت صور الماضي المغرية تراود مخيلتي في إلحاح. وضجت أعماقي بالسخرية المرة. . ما انفه عقلي واسخف سلوكي! كيف بددت وقتي طيلة هذه الأسابيع برفقة طفلة صغيرة نابذا الفتيات الناضجات اللواتي يقدمن كل ما تتوق إليه نفسي؟!
ثم تحطمت القيود التي كبلت بها رغباتي منذ أن هبطت على دار الأسرة الفرنسية، وجددت الصلة بنفر من صديقاتي القديمات وتبعا لذلك تغير منهج حياتي. لم يتبق هناك وقت
للانظمام إلى أفراد الأسرة في جلستهم اليومية بعد العشاء. ولم يعد بإمكاني أيضا أن أرى فلورا عصرا، إذ طفقت أغادر الدار قبل أن تؤوب من المدرسة. وبدأت أحاول أن اقتصد في الوقت الذي اقضيه في المنزل فأقصره على القراءة والدرس. واقتضاني ذلك أن أتجنب الاجتماع بفلورا جهد الإمكان.
لم يعبا الزوجان بالانقلاب الذي طرأ على حياتي كثيرا، أما فلورا فانقلبت حياتها تبعا لانقلابي. وطبيعي أنني لم اعد أراها كثيرا في عهدي الجديد لأعرف الشيء الكافي عن حياتها، لكنني أستطيع أن أعلن ذلك الحكم وأنا مطمئن إلى حقيقته. فقد أدركت كل شيء من عينيها. . ذلك الكتاب المفتوح الذي كانت صحائفه تعكس صدى عواطفها في صراحة وصدق. تعكر البحر الصافي العميق الأغوار بنظرة حزينة، وامتزجت العذوبة الفياضة في الوجه البريء بمسحة كدرة. كان يكفي أي شخص أن يلقي نظرة عابرة ليوقن إنها طفلة معذبة. واحسب أن عواطفي قد تحجرت تلك الآونة فلم يثرني عذابها كثيرا. أو لعل اندفاعي في تيار اللهو كان يستغرق كل اهتمامي. فلورا. . تلك الطفلة العذبة. . أية قسوة كان ينطوي عليها قلبي لأندفع في إيلام مشاعرها دون أدنى اكتراث؟! كان لابد لها أن تراني وان لم اعد ادعوها. وبدأت تتسلل إلى غرفتي في خطوات مضطربة وتقف أمامي وهي خافضة النظر. وارفع رأسي وانظر أليها في شيء من الضيق، فتبادرني قائلة بلسان متلعثم: إلا يمكنني أن أحدثك عن المدرسة قليلا؟!
فارد عليها في لهجة مبرمة: من فضلك يا فلورا. . في وقت آخر.
فتعكر صفاء وجهها بتقطيبه اكتئاب وتلتوي شفتاها، ثم تنسحب بهدوء وفي عينيها نظرة كسيرة. أما الدرس العربي فقد باعدت بين مواعيده حتى اصبح في حكم المنعدم. لكنني لم اكن دائم القسوة معها، بل كنت أجيبها إلى سؤالها احينا، فاصحبها في نزهة أو إلى السينما، وان اعتذرت عن طلبها في غالب الأحيان وحملتها من عذاب الخجل مالا تستطيع حمله.
وذات أمسية غادرنا دار السينما بعد مشاهدة فلم غرامي، وسلكنا شارع سليمان باشا عائدين إلى المنزل. وكانت فلورا تسير إلى جانبي والسرور ينير وجهها، وهي صامتة تائهة كأنها تحت سلطان قوة خفية! وفجأة التفتت ألي في تردد وسألتني بصوت راعش والدم يندفع إلى وجهها لاهباً: ماذا يعني وقوع المرأة في غرام الرجل يا سامي؟
فنظرت أليها دهشا، ثم أدركت على الفور أن عنف المواطن في (الفلم) قد أثار فضولها. فقلت بلهجة متلطفة: لا تستعجلي الأمور يا عزيزتي فلورا. . هذه عاطفة يصعب على الصغار فهمها، وستدركين معناها - عندما تكبرين - من تلقاء نفسك.
فقاطعتني بلهجة احتجاج: ولكنني أستطيع فهمها الآن فأنا فتاة كبيرة. أنت لا تعرف عمري الحقيقي. . أن لي خمسة عشر عاما.
فأجبتها مازحا: حقا؟! لقد كنت اعتقد انك في الثالثة عشرة من عمرك. أنت تبدين اصغر من سنك كثيرا.!
فصاحت فرحة: هذا صحيح. . إنني أبدو اصغر من سني كثيرا، وفي وسعي أن افهم كما تفهم الفتيات الكبيرات.
فقلت لها في لهجة جدية: اسمعي يا فلورا دعي السؤال عن مثل هذه الأمور حتى تكبري، فأنت الآن طفلة صغيرة لا يصح أن تلقي هذه الأسئلة على الآخرين.
وما كدت افرغ من قولي حتى سمعت صوتا يهتف في حرارة: (هالوا سامي!). والتفت، وإذا بي أمام صديقتي (سوسو) التي كنت قد أخلفت موعدي معها قبل أيام. وراحت (سوسو) تتفنن في عتابي متهمة إياي بتفضيل صديقاتي الأخريات بينما انطلقت فلورا ترقبها في غيظ واشمئزاز. واستطعت أن أتخلص من عتابها أخيرا بالاتفاق على موعد اخر، فانصرفت وهي تحذرني من إخلاف الموعد مرة أخرى. وتابعت السير مع فلورا في صمت، وعبثا حاولت وصل الحديث بيننا، إذ تمسكت فلورا بصمتها وقد ارتسم على وجهها شتيت من عواطف الخيبة والمرارة والغيظ.
تغير سلوك فلورا تجاهي منذ تلك الليلة تغبرا عجيبا ولم تعتد تحتفظ لي بمودتها القديمة. فقد صادف في اليوم التالي أن كان ميعاد درسها العربي، فاستدعيتها إلى غرفتي لتستمع إلى الدرس. ولشد ما دهشت حين قرأت على صفحة وجهها دلائل قسوة وعنف ولمحت في عينيها نظرة صارمة يمتزج فيها الغضب بالنفور بالأسى. وانتصبت أمامي شامخة الأنف مقطبة الوجه، فنظرت أليها متعجبا وقلت باستغراب: اجلسي يا فلورا. . . الست مستعدة لدرسك العربي؟!
فأجابتني بلهجة جامدة: كلا. .
فسألتها في دهشة: لماذا يا فلورا؟! يجب أن اعرف فالأمر يهمني فانفجرت صائحة في غضب: أنت تخدعني فالأمر لا يهمك إنني لم اعد احب هذه اللغة. . لا احبها. . لا احبها. . ولن استمع إلى درس عربي آخر.
وروعتني ثورتها فلبثت ارقبها صامتا مشدوها. وقبل أن استفيق من ذهولي هرعت إلى غرفتها وأوصدت وراءها الباب. في رفق. هىء. . هىء. . ماذا؟! أفتبكين يا فلورا؟! ساد الصمت برهة، ثم تناهى إلى سمعي صوت مرتعش يهمس:(أرجوك. . اذهب) فقفلت راجعا إلى غرفتي تنازعني مشاعر الألموالإشفاق.
انطوت فلورا على نفسها، وباتت تحتجب عن عيني دوما. ولم اعد أراها إلا على مائدة العشاء وهي مقبلة على طعامها موردة الخدين خافضة النظر. وحين تلتقي أنظارنا عرضا يحمر وجهها وتلمع عيناها ويزوغ بصرها عن وجهي في قلق وارتباك. وأيقنت إنها عادت إلى نفورها القديم مني، فقد أصبحت كل حركة من حركاتها وكل لفتة من لفتاتها تعبر عن هذا النفور، ولكن عينيها ظلتا مشحونتين بأسى عميق ووجهها مغلفا بكآبة قاسية.
ومضت الأيام وان مشغول بصديقاتي اللاهيات غير عابئ بأمر فلورا. وظلت هي تحرص على الابتعاد عني فتؤازرني في إهمالها، ألي إلى أن حل ذلك المساء. ورجعت إلى المنزل على غير ميعادي، وما كدت افتح باب غرفتي حتى ألفيتني وجها لوجه أمام فلورا.! ألم يحدث لك أن فاجأت لصا يهم بمغادرة المكان بعد أن سرق اثمن محتوياته؟! تلك هي حالتها بالضبط حينما باغتها بدخولي. تقلصت ملامحها واكفهر وجهها واشتعلت عواطف الخوف والحيرة والخجل في عينيها القلقتين. ماذا بك يا فلورا؟! ما الذي يروعك؟! خطوت نحوها في بشاشة فاندفعت صوب الباب بلهفة طائر سجين فتح له القفص سهوا. . . كلا، لن ادعك تخرجين. وقبضت على ذراعها وأنا أقول في لطف: مرحبا بك يا فلورا. . . لماذا تسرعين؟!
فانطلقت تناضل لتخليص ذراعها من قبضتي وهي تردد بصوت مخنوق: دعني اذهب. . . أرجوك، دعني اذهب.
لكنني أجلستها على أحد المقاعد عنوة وأنا أقول في رقة: مهلا يا عزيزتي فلورا. . . لا داعي للعجلة. .
فصاحت في لهجة غاضبة وهي تتململ على مقعدها: أنا لست غزيزتك. . . دعني اذهب.
فواصلت كلامي ضاحكا: لا تثوري يا فلورا، فانا اعلم انك غاضبة علي. والآن أنبئيني؛ أجئت لتزوريني أم لتستردي كراسة اللغة العربية؟!
فرمقتني لحظة بنظرات متأملة، ثم غمغمت بلهجة متعثرة: اعطني دفتر اللغة العربية.
فاتجهت إلى المكتب صامتا ومضيت اقلب الكتب والدفاتر وهي ترمقني بنظراتها المبهمة. وحين قدمت أليها الكراسة حدقت في وجهي مليا ثم قفزت على قدميها ثائرة وانهالت على الكراسة تمزقها بأسنانها وهي تصرخ في لهجة معذبة: إنني أكرهك. . . أكرهك. . . أكرهك.
وألقت القصاصات على الأرض في عنف ومرقت من الباب! وتهافت على المقعد مذهولا وصراخها يدوي في أذني. . . تكرهني؟! لماذا؟! وأي دافع ساقها إلى غرفتي أذن؟! ولماذا امتلكها الفزع ساعة رؤيتي؟!
وبدا سلوكها الغريب يثير في رأسي عشرات الأسئلة، وطفقت احسب له ألف حساب. والظاهر أنني إنسان من طراز خاص يشذ عن الإنسان العادي. فمع أنني أفلحت في التخلص من صحبتها، ومع أنها غابت عن أفق حياتي، كما شاءت رغبتي، إلا إنني بدأت أحس اثر تلك الليلة بالضيق والحنق من تصرفاتها الغريبة. واكتسبت حاسة جديدة لنقد سلوكها اتجاهي. لماذا تتهرب من لقائي؟! ولماذا تحاول أن تنأى عني؟! أتكرهني حقا كما أعلنت ذلك؟ يالها من طفلة مزعجة. كان المرء لا عمل له في لحياة سوى العناية بها، فإن لم يفعل، فعليه أن يتلقى كراهيتها. طفلة شاذة تثير الأعصاب بتصرفاتها السخيفة. إذ التقيت بها في ردهة المنزل فرت من أمامي كما يفر الحمل من الذئب. وان جلست إلى والديها اعتكفت في غرفتها ولم تبارحها إلا بعد أن أخلي المكان. لماذا؟! أانقلب وحشا مفترسا؟! أين تلك المودة التي كانت تغمرني بها؟! أن الحياة لا تطاق في هذا المسكن. . لا تطاق. ما الذي يشدني أليه؟! أخلت القاهرة من منازل مريحة؟! يجب أن اتركه، يجب أن أغادره إلى نزل آخر.
انتهيت إلى ذلك القرار أخيرا لكنني لم أدرك دوافعه الحقيقية حتى الآن. لماذا ضايقني ابتعاد فلورا عني مع أنني كنت راغبا فيه؟! وماذا يضيرني أن تحتجب عني عيني طفلة لا
شان لي معها؟! بل لماذا دفعني ذلك إلى اعتزام الخروج مع إنني سعيت لإبعادها بنفسي؟! لا ادري بالضبط - والذي حدث بعد ذلك أن رغبتي تحققت عقب أيام قليلة، فتركت المسكن، ولكن لا إلى مسكن اخر، بل إلى إحدى المستشفيات الخاصة حيث سقطت صريع المرض.
أنفقت بضعة أيام في المستشفى لا أكاد أصحو حتى افقد وعيي وكنت أرى - كلما فتحت عيني - فلورا وأبويها إلى جانب سريري. وفي خلال أيام اشتداد المرض مررت بفترة قاتمة لا أكاد أتذكر منها سوى أخيلة باهتة يغلها ضباب كثيف. ومن بين ذلك الضباب المتكاثف يبرز زوجه فلوريا قويا واضحا بلون شاحب وعينين قلقتين وقسمات تتفجر غما واسى ولا اذكر متى حدث ذلك وفي أي ساعة من النهار أو الليل، ولكن الذي أتذكره أنني صحوت على صوت بكاء عنيف، وفتحت عيني في صعوبة فطالعتني صور أشخاص ملتفين حول سريري. لم استطع بادئ الأمر أن أميز أحدا منهم، إذ ابدوا أمام عيني كالأطياف. ثم تركزت ملامحهم شيئا فشيئا حتى تبينت فيهم الطبيب وفلورا وأبويها. لكن عيني تعلقتا بوجه واحد من وجوههم هو وجه فلورا. كانت الدموع تنحدر على خديها في غزارة وصوت نحيبها يثير في القلب اعمق الشجن. وهالني أن أراها شعلة ملتهبة من الحزن والألم، فابتسمت لها. وحينئذ حدث مالا يمكن أن يبرح ذاكرتي مدى الحياة. انطلقت تضحك في فرح جنوني وهي تحدق في وجهي كالمخبولة والدموع تنهمر من عينيها مدرارا. وتناهى ألي صياحها كأنه آت من بعيد وهي تهتف بصوت متهدج:(انه لن يموت. . . لن يموت. . . ألم ترونه كيف فتح عينيه وابتسم؟! لن يأخذه الله. . . إنه ليس شريرا. . . سيشفى بعد أيام قليلة وسأراه كل يوم. . . أليس كذلك يا ماما؟! لن يموت يا ربي. . . لن يموت). ثم ابتعد الصوت المتحشرج عن مسامعي وبهتت صورة وجه فلورا المائلة أمامي حتى لم اعد أتبين أو اسمع شيئا.
وتلك هي الذكرى الوحيدة التي ظلت واضحة في خيالي أيام الغيبوبة. ثم انقضت تلك الأيام وبدأت أثوب إلى رشدي، وما كان أسعدني بالنجاة حينما أنبئني الطبيب أنه يئس من حياتي حتى مملة ذلك اليأس على مصارحة العائلة الفرنسية بنهايتي الحتمية. وانه سعيد جدا إذ خاب ظنه أخيرا.
وانتظرت في لهفة زيارة فلورا وأبويها، فطال انتظاري حتى استبد بي القلق. فرجوت الممرضة سميرة - التي تشرف على تمريضي - أن تقوم باستجلاء الأمر. ولشد ما ذهلت حين أعلنت لي في اليوم التالي انهم اعتذروا عن زيارتي بكثرة المشاغل! واستولى علي الشعور بالاستياء. والقلق ولبثت أيام عدة أتوقع زيارتهم في شوق متدفق وأنا القي على نفسي عشرات الأسئلة الحائرة دون أن ابتكر لأحدها جوابا معقولا. ثم اخذ اكتراثي بالأمر يتضاءل يوما عن يوم اثر العلاقة الغرامية التي نشأت بيني وبين سميرة واستغرقت كل اهتمامي.
مرت الأيام بطاء كسالى وانزاحت عني سمات المرض تجاه بشائر الصحة. وكنت قد عقدت النية على مبارحة المستشفى في صباح اليوم التالي حين اقبل علي رسول من صاحب المنزل ينبئني برحيل الأسرة الفرنسية إلى فرنسا ويطلب ألي إخلاء الدار من متاعي. وللمرة الثانية اجتاحني الذهول والاستغراب، وانطلقت أسائل نفسي عن سبب هذا التصرف في حيرة وغضب.
وفي صباح اليوم التالي قصدت المنزل لأنقل متاعي إلى أحد الفنادق ريثما اعثر على مسكن آخر. صعدت إلى الدار بصحبة البواب ليساعدني في حزم الحقائب. وما كدت اجتاز الباب حتى هاجمتني وحشة قاتمة وطغت على مشاعري أحاسيس تفيض بالشوق والأسى. دخلت غرفتي وأنا أجيل النظر حولي حزينا آسفا. وبينما انصرف البواب إلى ترتيب كتبي وملابسي في الحقائب وقفت مشلول الحركة استعرض مشاهد حياتي منذ أن دخلت الدار حتى غادرتها إلى المستشفى. وفجأة وجدتني التفت إلى البواب واسأله بلهجة مرة: لماذا رحلوا يا عبده؟!
فتوقف البواب عن العمل، ونظر آلي في حزن وأجابني بلهجة كئيبة: أفلا تعلم يا أستاذ سامي؟! لقد ماتت فلورا فكره أبوها المعيشة من بعدها في مصر. . . ماتت ميتة أليمة تحت عجلات (المترو) بينما كانت تستقله صباح أحد الأيام إلى المدرسة.
وصمت لحظت ثم أردف يقول بلهجة ارتياب: لقد سمعت من البعض إنها انتحرت من اجل شاب أصيب بمرض خطير افقد الأطباء كل أمل في إنقاذ حياته وإنها لم تسقط من العربة قضاء وقدرا. . . ولكنها مجرد إشاعة كاذبة ولا شك.
وأصبت بذهول أدنى إلى التحجر وأنا استمع إلى البواب، وتبلد ذهني حتى تعذر على أن أتابع ما يقوله. وطفقت اهمس في لهجة تائهة: فلورا ماتت. . . فلورا ماتت. . . فلورا ماتت. . .!
ثم لاحت مني التفاته إلى زاوية الغرفة فلمحت الهدايا التي كنت قد قدمتها أليها في شتى المناسبات. اقتربت منها بخطى ذاهلة، وجعلت اقلبها بين يدي وخيال فلورا مائل أمامي وسمعي يتجاوب بتلك العبارة التائهة. وأصدمت يدي بصورة فوتوغرافية صغيرة، فنظرت أليها في إهمال، وإذا بي أمام صورة لي كنت قد فقدتها من أمد بعيد. . .!
وداهمني خور غريب وأنا أحدق في الصورة مشدوها، وسرى ضعف شديد في ساقي فلم يعد بوسعها حملي، واحتبس الهواء في صدري حتى شعرت بالاختناق. وفجأة تهافت على الأرض وعيناي تمتلان بالدموع!
القاهرة
شاكر خصباك