الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 878
- بتاريخ: 01 - 05 - 1950
(حياتي) و (مذكراتي)
أما (حياتي) فقد علمت أنها ترجمة لحياة الكاتب الاجتماعي الكبير الدكتور أحمد أمين بك، كتبها بقلمه الصريح الصادق فجاءت صورة لقلبه، وشهادة على غيبه، ومرآة لبيئته. وما كان لكاتب (حياتي) أن يقول على نفسه غير الحق، لأنه كتبها وهو واحد من الآحاد البارزين الممتازين في الأدب والفضل؛ فهو غني بجمال حاضره عن تمويه ماضيه، وبصدق واقعة عن تزوير حقه وأما (مذكراتي) أو مزوراتي فهي ترجمة في ثلاثة أجزاء للصحفي السوري المعروف محمد كرد علي؛ كتبها حين رد إلى ارذل العمر وعاد لا يعلم بعد علم شيئاً؛ فهي رواسب من أكدار السنين التسعين تقاطرت على قلمه سوداء كالحقد، نتنة كالغيبة، كدرة كالغضب، فارغة كالإخفاق، فألفت هذه الصفحات المئات، تقرأها فلا تجد أسلوب يمتعك ولو بالزخرف، ولا رأيا يقنعك ولو بالخداع، ولا قصصا يلهيك ولو بالباطل، فتلقى الكتاب من يدك وتسأل: لماذا نشر الرجل على أعين الناس هذا الغسيل الرث الفذر؟ فيجيبك من يجيب: إنها الشيخوخة!
ذكرت (الأيام) حين قرأت (حياتي)، لأن بين الكتابين جهتين جامعتين: هما الاتحاد في صدق الموضوع، والتضايف في جمال العرض وذكرت كتاب كرد على حين قرأت كتاب أحمد أمين، لأن بين الكتابين جهة جامعة ثالثة هي النضاد. فالترابط بين (حياتي) و (مذكراتي) هو الترابط بين الحياة والموت، والصدق والكذب، والطلاوة والغثاثة.
وجد طه حسين وأحمد أمين في نفسيهما وفي تاريخيهما رجلا ومجدا، فحلالا هذا الرجل، وحلالا ذلك المجد؛ أما كرد على فلم يجد في نفسه ولا في تاريخه شيئا من هذين، فحاول أن يخلق الرجل بالدعوى والغرور، وأن يصنع المجد بالاختلاق والزور. ومن قبل حاول القرد أن يقلد علو الإنسان، فتسلق شجرة غيناء من شجر المشمش في (الغوطة)، وأخذ يرمي السابلة بالنوى؛ فإن التفت أحد إليه نب وشب وقال: أنظر! أنا هنا! أنا فوق! ولكن حركات القرد تلهى وتضحك، وكلمت كرد علي تغْني وتمل! كل ما في (مذكراتي) على طولها تفاهة وسفاهة وادء. فمن تفاهتها قوله في (الحورعة) وهي دعوة الحصادين إلى وليمة:(يذهبون إلى حمام (القيشاني) وهناك كتب أفرك ظهور أجرائنا. . .) وقوله: (وكان الكهلات والشابات والعجائز من تلك النسوة، الفلاحات منهن والبلديات، يضممنني إلى صدورهن ويقبلني، وأضمهن وأقبلهم. وأحسن ما كان يشوقني الجلوس في حجورهن
والعبث بنهودهن ومن سفاهتها أنه لم يترك عالما ولا أديبا ولا فاضلا في مصر والشام وتركيا إلا أخذ بلسانه، وتناوله بهتانه وكان من نصيبي أنه شتمني ونزني بالفلاحة والتجارة والعقوق. لأني لم أنوه بفضله في مقالة، ولم أبادل مجمع دمشق بالرسالة. ومن ادعائها أن يزعم أنه قطب الرحا في السياسة؛ فتركيا تستثيره وتعرض عليه المجد وفرنسا تستنصره وتلوح له بالذهب؛ ولكن كرد على الزاهد العابد يرد على تركيا الشرف والأمارة، ويرفض من فرنسا المال والوزارة!! لا أدري لماذا خطر ببالي الساعة ابن زيدون وابن عبدوس والرسالة الهزلية؟!
أحمد حسن الزيات
سطور زرق
للأستاذ راجي الراعي
وقفت أمام البحر أسأل عن رعشته. . لماذا يرتعش البحر؟
أيرى نفسه على رحابته وعظمته سجيناً في مكان رسم له في الأرض لا يستطيع أن يفلت من قضبانه ليهجم على اليابسة عدوته الأزلية فيرتعش رعشة الأسد السجين يقف الحديد بينه وبين أطماعه؛ رعشة القوى الشاعر بقوته ولكنه لا يمارسها؟
أم هو يرى جريمة في بقايا الأبطال من غرقاه فير تعش رعشة الخاطئ الذي حالف الموت فأعطاه مكانا يلقى فيه بعض الخلائق التي حصدتها مناجله وضاقت بها الأضرحة؟
أم هو يضمن بدوره المستقرة في قلبه ويخشى عليها من حيتانه فيرتعش رعشة الغنى أمام الأيدي الجريئة التي تمتد حول خزائنه؟ أم هو يرى يومه الأخير الذي يسدل فيه على روايته ستارها الأزرق ويعود إلى اليابسة فيرتعش رعشة الحي لتشبث بيومه الخائف من غذه؟ لماذا يرتعش البحر؟
أهو شاعر عبقري روحاني نوراني خلق ليعيش في عالمه بين أفكاره وأحلامه وعواطفه بعيداً عن الإنسان والإنسانية قريباً من نفسه ومن خالقه، وليكون جزيرة بارزة مستقلة عن أبناء التراب في بحر الوجود، يرى نفسه ملكاً لسواه، وساحة عامة يطأها العابرون، وصدراً مفتوح الرئتين القلب والضلوع تشقه السفن والدارعات والطرادات والنسافات على مختلف أسمائها وألوانها، وتنفث فيه دخانها وتصيح صيحاتها وتلقى مراسيها فيرتعش رعشة العبقرية التي أقامت لنفسها الهياكل العاجية فاستبيح حماها واسود عاجها، رعشة الشاعرية التي سدلت الستار على آلهتها فمزقتها الأيدي القاسية الأثيمة؟
أم هو يرى في مائة تلك الدموع التي التقطها من العيون الباكية، وأنه من أجل ذلك يحسم اليأس، وأن كل كئيب يصب فيه ثمالة كأسه، وأنه الثمالات في كأس واحدة، والدموع في عين واحدة، فترتعش فيه ألوهية الألم التي اتخذته لها معبداً؟
أم هو يحدق في إلهه (نبتون) ويؤمن بأنه إله الآلهة فيرتعش رعشة العبادة والإيمان؟ أم هو بين موجته المجنونة وغايته المجهولة رجل أضاع عقله فارتعش رعشة المجنون؟
أم هو يشرب خمرة الزبد البيضاء فيرتعش رعشة الثمل؟ أم هو المرأة ذات العينين
الزرقاويين يراها (كيوبيد) إله الحب منتهى حبه وإطار خياله، ويمسح بثوبها الأزرق دم كل سهم من سهامه التي رمى بها العشاق فترتعش الرعشة الكبرى، رعشة الرعشات؟
لا أدري لماذا يرتعش البحر ولا هو يدري. هو البحر ومع ذلك لا يعرف نفسه، ولعله لا يعرفها لأنه البحر. .
وأرهفت أذني للموجه الزرقاء فسمعت أصواتاً تقول لي: أنظر كيف تشق عبابي السفينة، ويلعب بأحشائي الغواص، وكن مثلي رحب الصدر صبوراً - صارع صخورك كمرجاتي وكن وثاباً، وإذا استرحت فلتكن راحتك تأهباً لوثيقة الغد - أنا مع عظمتي أسير تقيده الشواطئ فاذكر دائماً أنك مهما علوت وشمخت وحملت الصوالجة وركبت العروش لا تستطيع أن تكون حراً؛ وأن الحياة جهاد للتملص من ربقة الشاطئ الذي يقف في طريق النفس الهائجة فيمنعها من أن تتجلى بكل ما فيها من أنوار ونيران لتحقق أحلامها وتسكب خمورها - أنا وادع ثائر عاقل مجنون، فكن مثلي حكيماً وفرق بين سيفك ونداك. .
وسمعت صوتاً صارخاً يقول: أيها المشرف على عالمنا المتفرس في حياتنا البحرية، أنظر إلي أنا السمكة الصغيرة تبتلعني السمكة الكبيرة لأنها القوة ولأنني الضعف! وإليك أشكوها أيها الإنسان؛ فهل لك أن تحول بطشها عني وتضع في قلبها شيئا من الرحمة والحنان؟ فقلت لها: أيتها المستجيرة بي، بنا على الشاطئ مابك في الماء، نحن أسماك الأرض يأكل كبيرنا صغيرنا، ويقتل قوينا ضعيفنا فسيف القوة مصلط في البر والبحر؛ وكأن الأقوياء فيهما يؤلفون عصبة واحدة ويتنادون؛ فكلما ربح الظلم فريسة في بطن الماء ربح أخرى على سطح الأرض. الظلم يا سمكتي الصغيرة قديم، والظلم في كل مكان. فلا تستجيري بأبناء الأرض، ولا تحسبي انك إذا خرجت من الماء أفلت من قبضة الأقوياء. .
ودرت حول البحر أسأله: هل هناك ما يشبهك في الأرض؟
فقال: تشبهني الصحارى ولكنها بحور جامدة، والليالي ولكنها بحور سود. .
وسألته: كيف أنت والأفق؟ فقال: شقيقان لفظتنا أحشاء امرأة هي الطبيعة؛ والصلات التي تجمعنا عديدة. فلوننا واحد هو الزرقة، وجيوشنا لا تعد ولاتحصى؛ فللافق نجومه ولي موجاتي، وكلانا رمز العظمة واللانهاية؛ ولكل منا وجهة الغضوب. فللأفق صاعقته التي يعطس بها أنفه، ولي بركاتي الثائرة، وفي قلبينا تستقر الدرر. .
وسألته: كيف أنت والصياد؟ فقال بلهجة الفائز: أنني آخذ أكثر مما أعطى. إن غرقاي الذين أغنمهم أوفر عدداً من الأسماك التي يغنمونها مني. . .
وسألته: هل أنت عصامي أيها البحر؟ فحنى رأسه وقال: أن عيبي الوحيد هو أنني استعير مجدي وقوتي من سواى؛ فلولا تلك الينابيع والأنهار والجداول لم أكن. أنها تموت في لأحياء، وتصب في كنوزها لأصبح ثرياً. . أنها تعطيني جنينها لأتجبر؛ وتضع في صدري الملايين من القلوب ليظل نابضاً إلى الأبد. . أنا كالقمر يستمد نوره من الشمس ولولاها لم يكن القمر. أنا البحر ولكني رجل مدين لا يستطيع أن ينطح السحاب بأنفه الجبار.
نقص
وسألته: هل للشعر مكان فيك؟ فأجاب: شاعريتي في رعشتي، وصور خيالي المتوالية المتعاقبة في هذه الموجات. . .
وسألته عن البراكين فأجاب: عندما أغضب الغضبة الكبرى وتعجز الموجة عن أن تسعها، أطلق بركاني، ومن عجائبي أنني أخرج النار من مائي. . .
وسألته: كيف أنت والجبل؟ فقال: الجبل ضيق وأنا فسيح. الجبل مقطب الجبين وأنا طلق المحيا صخرة وأنا رعشة. الجبل عقل صارم وإرادة باطشة، وأنا قلب خفاق وشعور صارخ، وإذا كان للجبل عقبانه على قمته، فلي كنوزي في أعماقي.
وسألته عن الغزاة الفاتحين فقال: إن لهم بحورهم ولكنها من دماء. .
وعن الفلاسفة فقال: أنا في كل كرة من كرات شكهم ويقينهم. انهم يموتون صرعى بين أمواجهم التي تغمر كيانهم. .
وعن المنتحرين فقال: انهم يؤثرون موجتي الهائجة على التراب البليد الصامت. .
وسألته: كيف أنت والخيانات؟ فقال: إني أعرفها. فكم من عقيدة طرحها في صاحبها ولم يسأل عن غده.
وسألتهم: من هم أعداؤك الألداء؟ فقال: القناعة والتشاؤم والبخل والعقم. .
وسألته عن الأمجاد فقال: إنها موجات في بحر الخلود. .
وسألت وسألت حتى خشيت أن يستهويني البحر. وقبل أن تركت الشاطئ وعدت إلى صلابة الأرض سجدت أمام (نبتون) وصليت صلاتي الزرقاء فقلت:
يا رب السماء! ضع من قلبك في قلبي فتتسع دائرته ويغزر دمه. وأضرب بموجاتك الصخور القائمة في طريق خيالي وأحلامي. .
غدا إرادتي لأحطم كآبتي وضعفي، وارفعني إلى مستواك لأبسط كتابي في العالمين. .
افتح عيني لتسعك وأذني لتسمعك. . جملني بالعظمة والصبر، واجعل صدري رحباً ليسع الناس ولؤمهم والأفدار وظلمها. .
أغرق في الوجه القبيح من إنسانيتي وابق لي وجهها الجميل وزده جمالاً. .
أغرق صحرائي واجعلني بحرا وخذني أنت لا سواك في يومي الأخير، وأرحني من وطأة ذلك ألحجر البادر الثقيل اللثيم أيها الكريم الرحيم. .
راجي الراعي
حكاية الشعر الرمزي
للأستاذ حبيب الزحلاوي
نشر الأستاذ عادل الغضبان في المجلة التي يتولى رئاسة تحريرها، مقطوعة رمزية من قلم الدكتور بشر فارس.
ليس إبراد الخير على هذا الوضع بالأمر الغريب، وإنما الغرابة في أن الأستاذ عادل لا يؤمن بالشعر الرمزي، وله فيه رأي لا يرضي الرمزيين ولا مطاياهم. وهو برغم هذا يفتح صدر مجلته لمقطوعة الدكتور بشر فارس، ويعلق عليها، ويدع الأستاذ إبراهيم الأبياري يدافع به عن المذهب الرمزي.
هنا وجه الغرابة، بل هنا مجال الشك والتساؤل.
كان من المنتظر - لولا هذا الوضع المستغرب - أن تسلك المقطوعة الرمزية الجديدة السبيل الذي سلكته أخواتها من قبل، لتصل إلى ذات القبر الذي دفن فيه، أما الأثر المفروض حدوثه وهي طريقها بين المهد واللحد، فهو معروف عند جميع الأدباء، فكاهة تفسح مجالا للتندر والسخرية. إشفاق على جهود تهدر في الالتواء والمرض، وعياذ من انتقال وباء الرمزية إلى أدبنا، أو هروب الشاعر إلى بلاد الله الواسعة، يلعن أدباء مصر في الشام، ويسفه أدب الشام في العراق، ويوقع في لبنان بين المسحيين والمسلمين، ويزدري الشرقيين في بلاد الغربيين.
كان هذا المرتقب وقوعه بالقياس على الوقائع الماضية، ولكن لباقة الأستاذ عادل الغضبان نحت هذه الظنون، ونأت بهذه الاستنتاجات بعيداً، بموقفة من الدكتور بشر فارس إذ يقول له: سواء كانت هذه المقطوعة من عالم الشعر أم من عالم النثر فليس هذا موضوع الخلاف، وإنما هو فيما تضمنته من رموز خشينا معها أن تند عن عمود الشعر العربي) ويستطرد وهو الرزين المتمكن:(إن الشعر، معنى وشعور وموسيقى، يتعاون اللفظ والأسلوب والوزن والقافية على إخراج ذلك المثلث، فمن شاء من الشعراء فصل لها من النصوع والوضوح، ومن شاء ألقى على هيكلها وشاحاً رقيقاً من الإبهام، ومن شاء رمز وكنى) وبعد أن ضرب الأمثال وأنهض الأدلة قال: (إن هذه المقطوعة لا تنحدر إلى القلب إلا بعد تمنع، ومتى انحدرت إليه ملأته بالعبرة والإعجاب (؟!!) ولعلها لا تثير فيه هزة
الطرب والانفعال).
كلام مقبول موزون لا مرية فيه، ولكن أنى لداعية الرمزية المنادى بنفسه إماماً لها ورسولا أن ينصت إلى معلمه، وقد كان تلميذا له فيما غير من الأعوام؟ أنى للتلميذ الذي سبق معلمه بمراحل أن يقبل ماهو مقرر من قواعد الشعر وهي معروفة ثابتة من مئات السنين؟ لذلك يقف الدكتور بشر فارس وهو يبتسم ابتسامة المشفق على معلمه المتخلف عن ركب الحياة ويقول له (إن تعريفك للشعر إنما هو التعريف المتقادم الضيق، المحصور في الشكل وحده، وأن العمود الشعري الذي أكبرتموه وقدستموه فإني مستطيع إبعادكم عنه) ولم يكتف بما قال بل راح يدل كعادته، على ما قال وكتب ونشر في الصحف السيارة ويهدي إلى فهارس وأسانيد نثبت خطل تعريف الشعر العربي القديم، ويدعى أن تعرفه الحديث (هو إبراز المضمر، واستنباط ما وراء الحس من المحسوس، وتدوين اللوامع والبدائه)
ضحكت منه ذا التعريف المصري، والضحك مفتاح الغضب، ولكني تمهلت ريثما اطلع قراء (الرسالة) على (المقطوعة) مثار الموضوع، لعلي أنا الذي عيبت عن فهم الرمزية؛ وعنوانها (إلى زائرة) تلك التي وقف منها الأستاذ الزيات في كتابة (دفاع عن البلاغة) موقفاً سأعود إليه. أقول تمهلت لعلي أدرك المغلق من الرموز، وأحل عقد الطلاسم والأحاجي. وإلى القارئ المقطوعة (البشريه) أوالقصيدة (الفارسية) وعنوانها (الشاطئ الحافل).
(أنا السيد الأعلى للشاطئ الحافل، إليه من مواغل الأرض تقبل الضمائر ذوات الرغبات الخساس، عاجزات، حيارى، فتموت.
(في اللجة يمتد سلطاني. فراشي رجراج بالمآسي، فيه يقترن الفكر بالغوص. ولا مناص لأحدهما عن الآخر، هنا الحياة.
(حياة وعبث رشيق بالموت الحقير، شاعر أزلي ذو أنامل ماهرة، يبغي التلهمي عن غصة الزخارة، فيلعب لعب المشعوذ بأوعية ذهب، ترقد فيها إلى غير إفاقة، ضمائر لا عظمة عندها.
(يا للعلم باللانهاية! سير لأقصى اللطف الشارد) في زرقة الفضاء، ذات الحدقات الصوافي، تنور الشاطئ الحافل برفات الرغبات) ماتت في ركن موقوف للقوافي الخوالد، قواف نسل
في ساعات الاستجمام، في ضمائر لا عظمة فيها ولا غور)
القاهرة 3 فبراير 1945
بشر فارس
هل أنعمت النظر أيها القارئ في هذه الجريدة التي فجرها ذهن الشاعر المقلق الدكتور بشر فارس؟ هلا استغنيت عن المعنى والشعور والموسيقى بعد أن قام الشاعر الرمزي المغلق (بإبراز المضمر، واستنباط ما وراء الحس من المحسوس، وكيف يكون تدوين اللوامع والبواده)؟ أما أنا فأعترف لك صراحة بأني عصرت يافوخي، وكددت ذهني، واجتهدت في تحميل اللفظة والكلمة والجملة والشطرة الواحدة وعلامات الاستفهام أو التعجب وكل حركة وردت في هذه (المقطوعة) ما تحمل ومالا تحمل من المعاني بغية الاهتداء إلى (مالا يحتاج إلى شرح) كما قال أحد مطايا الرامز)؛ ولكن أقسم أنى لم أفهم، وهل الأم على جهلي حل الألغاز، وأي تثريب على من لا يفقه الطلاسم والأحاجي؟
لا يهولنك أيها القارئ أن تكون غبيا مثلي، اعلم بأن صديقا لي - يحفظه الله - هالته بلاهتي، فراح يربت كتفي، ويطيب خاطري، ويشرح لي (المقطوعة) بغير ما عناء أو تكلف كأنه يقرأ للمتنبي أو البحتري أو ابن الرومي ولكنه قطع أربع ساعات فقط في هذا الشرح والتفسير والتخمين والاستنساخ.
وإليك الشرح كما وعته ذاكرتي.
(أنا السيد الأعلى لشاطئ هذه الحياة التي تعج فيها الضمائر والرغبات الخسيسة، العاجزة الغيرة الميتة.
(أنا السيد يمتد سلطاني على لجج النهر الحافلة بالمآسي التي لامناص من وجودها في الحياة لأنها تقترن بفكري.
(أنا شاعر أزلي أعبث عبثا رشيقا بالحياة وبالموت الحقير، وأتلهى بقصص الناس، وألعب لعب المشعوذ بهؤلاء الناس العظماء بالمال فقط بيد أن ضمائرهم ليست عظيمة، وهم النيام أبداً وقد لايفيقون.
ثم يتوجه بالخطاب إلى العلم فيقول (يا للعلم! باللانهاية أين أنت؟ ها أنا الشاعر، أسير
الحكمة الشاردة في الفضاء فأرى بعيني الباصرة وببصيرتي الصافية، رفات ورمم أصحاب الرغبات الخسيسة ملقاة في ركن عند حافة شاطئ الحياة، وقد اتخذت منها، أنا الشاعر الأزلي، في ساعات استجمامي موضوعا لبعض قصائدي الخالدة)
هل انبثق النور الرمزي من كوى هذا الشرح؟ هل تسللت خيوط شمس المعرفة إلى ذهني فأنارت ما فيه من الظلام؟ قلت للشارح المجتهد وهو صديق كريم أحبه وأجله وأعتز بصداقته، لا عليك في الاجتهاد في التفسير والتأويل بشرط ألا تحملني على الاعتراف بطيب مذاق عصير الفسيخ.
قال: أول واجبات الناقد تلمس نفائس المنقود لا نقائصه. أليس نفيسا تشبيه اللجنة بفراش رجراج؟ أليس جميلا عبث الشاعر بالحياة بأنامل ماهرة عبثا رشيقا بالموت الحقير؟ ألم تره يلعب لعب المشعوذ ليستل القوافي الخوالد؟ ثم لا يغرب عنك أن القصيدة إنما هي صرخة وجع وألم، وإذا عدت معي نستعرض حياة الدكتور بشر فارس من خلال الأعوام الماضية نجد أنها لقيت من الصدمات ما لا يحتملها سوى شاعر جبار كبشر، ولا يصمد لمثلها إلا من قدت أعصابه من صخرة صوانة. ألم تر كيف حورب في أدبه، وكيف أقصى عن المعقد في الكلية، وكيف دفع عن المجتمع اللغوي، وكيف أبعد عن تحرير المقتطف؟ إذا عرفت هذا وقدرت إحساسه وشعوره قدرت ولاشك معنى هذه الصرخة المكبوتة والقصة المخنوقة، ولكنت قرأت وفهمت ما قرأته أنا وفهمته!!
أقف من صديقي وقفة المشدوه حيال هذا الاجتهاد في التخريج، والتعسف في التأويل، أو أنى تارك تعليل صديقي لفطانة القارئ لعلله يقتنع بما لم أقتنع به بعد، وإني حبا بصديقي الكريم وتطمينا لباله أقول أنه ما من أديب واحد ممن تصدوا لأدب الدكتور بشر فارس، أو حاربوه أو سخروا منه، أحس أن في هذه المقطوعة المختنقة، ما يمسه من قريب أو من بعيد، لأن الضمائر المستترة أو المدفونة في صدر الشاعر إنما هي حشرات تدب في رمة، ولا تنس أن القصيدة نظمت سنة 1945.
قيل لنا إن الشعر بيان يكشف لنا أقنعة المعاني، وأن مدار غاية الشاعر الفهم والإفهام، لا يكون إلا بالبيان) أما الشاعر بشر فيرى أن الشعر (طيرة مرتجلة بأجنحة من نور رفاف) فأي القولين هو السليم المدرك؛ قول الأساتذة القدامى أم قول الدكتور؟!
قال الأستاذ إبراهيم الأبياري يعرف الشعر الرمزي وينافح عن الشاعر الرمزي (لا يهولنك أن يعنى فكرك) ويكد خيالك، ويجد عقلك، فلهذا كله خلقت الرمزية) ويقول (إذا عرفت اللغز وحياته عرفت الرمزية في الصورة) ويقول لا فض فوه (المراد بالرمز أن يمضى بك الرامز إلى آخر المطاف تاركا لعقلك أن يلتمس السبيل إلى مراده كاداُ جاهداً) بيد أن الناقد جول لمتر يقول (الصورة الرمزية لا تصبح برهاناً على الشاعرية إلا حينما يكيفها هوى سائد أو أفكار أو صور بعثها ذلك الهوى) وحينما ينقل إليها الشاعر من روحه الخاصة حياة إنسانية وذهنية) فهل رمز بشر فارس يرمي إلى إجهادنا وكدنا وإرهاقنا أم يروم به أن ينقل إلينا من روحه الخاصة حياة إنسانية وذهنية فخاب في هذه المحاولة؟
الشعر كما عرفنا تعبير عاطفي يضرمه خيال الشاعر (قال الناقد هزلت: الشعر لغة الخيال بالمعنى الدقيق، والخيال هو تلك القوة التي تمثل الأشياء لاكما هي في نفسها ولكن كما تكيفها أفكار ومشاعر أخرى. إلى تنوعات من الهيئات وإمتزاجات من القوى لا نهاية لها، وليست هذه اللغة قليلة الأمانة للطبيعة وأكثر أمانة إذا نقلت التأثير الذي يتركه في العقل الشيء الواقع تحت سيطرة الهوى).
هل في مقطوعة (الشاطئ الحافل) أو في لغتها أمانة للطبيعة انتقل تأثيرها إلى عقل القارئ فخملته على الاتصال بالنفس الإنسانية فجعلت القارئ يسربها ويفرح؟
هل الرمز فن؛ وهل يصلح الرمز أن يكون أداة للتعبير عن الفن؟
مالي أسأل الشاعر الرمزي عما نحاه في طريقه ومحاه من معجم ما سموه الشعر لأن الشاعر الرمزي كما يقول الدكتور بشر (إنما يعمل في الظلمة، ظلمة الخلجات، فهو يبين بقدر ما يخلص النور إلى زواياها، ثم أنه لقاط أو هام تشغل الناس ولا يستوضحونها، فهو يرسم خيالات ملامحها لبصائرهم لا لأبصارهم)
مالي أرى الدكتور بشر السهى فيريني القمر؟ مالي أدعوه إلى السير في النور فيأبى إلا التخبط في الدياجير الحاكمة، يتطلب من الشوك عنبا ومن العوسج (كما قال السيد المسيح) وهو يتوخى أن يعكس التهاويل على أخيلته سحباً شفافة تنقشع عن جبريل عصري ينقل إلى الدكتور بشر فارس (الوحي) العبقري من ينابيعه السماوية؟ ما باله يتعامى عن الطبيعة وعن الحياة الإنسانية ويأبى الارسم (ظلمات) الخلجات التي تعتلج في صدره؟
يحسن بي الانتقال من موقف التخصيص إلى موقف التعميم لأسأل: ما هو الإرث الأدبي الخالد، وما هو الأثر الذي تركه الشعر الرمزي في تاريخ الأدب؟
حكى أن شاعرا اسطوانة من أساطين الرمزية أنفق ستة أعوام من عمره في نظم قصيدة واحدة، وأن مطية من مطايا الشعراء الرمزيين كرس تسعة أشهر لحل طلاسم تلك المعقلة، وقد استطاع ذلك الشارح - يرحمه الله - أن يفسر الماء بعد الجهد بالماء.
وبودي لو أطيل الكلام وأسوق الأدلة، وأستشهد بأقوال كبار النقاد الغربيين في فساد المدرسة الرمزية، ولكن لا يسعني إلا لفت نظر الأدباء إلى فصل رائع في الرمزية، ولكن لا يسعني إلا لفت نظر الأدباء إلى فصل رائع في الرمزية ورد في كتاب (دفاع عن البلاغة) للأستاذ الزيات صاحب (الرسالة) جاء في ختامه:(الرمز نوع من الحذلقة والأغراب يصيب بعض النفوس الماجنة فيجدون لذتهم وفكاهتهم في أن يغربوا على عقول السذج بهذه الألفاظ الفارغة والجمل الجوف، وأن يروهم يحملقون في الفواصل وفي الأبيات كما يحملق الأطفال في الغرفة المظلمة أو في البئر المعطلة وسوى كان منشأ الرمزية عندنا هذا الأمر أو ذاك، فقد اقتبسوا مذهبها حين أصبح ضرباً من المعاياة يجوز أن يقصد به أي شئ ماعدا الإفهام والإبانة. وسأضع أمام عينيك مثالين من هذه الرمزية الغريبة أحدهما قصيدة للدكتور بشر فارس عنوانها (إلى زائرة)، والآخر مقال للأستاذ البير أديب عنوانه (حياتنا)؛ وسأدع لك الوقت لتمتحن صبرك على كشف هذه الرموز وحل هذه الأحاجي. ولن أسألك عما فهمت، فإنك إن أجبت فإن جوابك لن يزيد على جوابي، وأن أخطأت فإن خطأك لن يختلف عن صوابي)
ليس هذا إلا بعض ما أريد قوله في المذهب الرمزي، وفي مطايا الرمزيين الذين يؤجرون أقلامهم وضمائرهم لخدمة الباطل في الأدب، وسأعود إلى الكلام مرة ثانية.
حبيب الزحلاوي
تطور اللغة العربية
للأستاذ محمود محمد بكر هلال
جاءني مبهور الأنفاس، مسجور الحماس، كأنه خرج لتوه من معركة حامية الوطيس، ثم قال لي:
لقد حذفتها بالقلم الأحمر، وطمست حروفها فلن تظهر!
فقلت له: ماذا حذفت، ومن هي التي طمست على قلبها؟؟
قال: كلمة (زهور)! فلقد كتبها التلميذ في موضوع الإنشاء، ولكنني فتشت عنها كثيراً، ونقبت عنها طويلا، فلم أعثر لها على أثر!!
فقلت له: هون عليك ياصديقي؛ فالأمر أهون كثيراً مما تظن! ولست أغير على اللغة العربية من فقيد اللغة العربية؛ الأستاذ المرحوم مصطفى صادق الرافعي! ولست أكثر حفاظا عليها من أستاذنا الكتاب البليغ، أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة، وعضو المجمع اللغوي الملكي؟
قال: ماله الرافعي؟ قلت: لقد قال رحمه الله: عرض لي يوما أحد اللغويين فأنتقد في المقطم قصيدة من القصائد التي رفعتها إلى جلالة الملك فؤاد، وتمحل في نقده، ودلل ببعض ما نقله من كتب اللغة، فكان فيما تكلم فيه (لفظا الأزاهر والورود) فقال: إنهما ليسا من اللغة، ولم يجريا في كتبها. وكان من ردي عليه أن قلت له: إن العرب جمعوا الجمل ستة جموع، وجمعوا الناقة سبعة؛ لأنها أكرم عليهم منه. وإن لكل حياة صورها الدائرة في ألفاظها؛ فالزهر والورد عند المولدين والمحدثين، أكرم من الجمل والناقة عند العرب، أو هذان كهذين. ثم هما من خاص الألفاظ المولدة؛ فلنا نجمعها على كل صور الجمع التي يسوغها القياس؛ لأن هاهنا العلة الموجبة التي لم تكن مع العرب فيها فمن الصحيح أن نقول: زهور وأزهار وأزاهر وأزاهير إلخ. . . فلما لقيت الدكتور يعقوب صروف، بعد نشر هذا الرد هنأني به، ثم قال فيما قال: يحسبون أن العرب هم الجمل والناقة، وليس غيرها ما أستجمل وما استنوق. . .!، أما هذا الدهر الطويل العريض، فليس عندهم شيئاً! وهم يستطيعون أن ينكروا على المولدين ألف كلمة ولكن هل في استطاعتهم أن ينكروا على التاريخ ألف سنة؟ فذكرت له الأصل الذي قرره أبو على الفارسي، في العربي الصحيح
نفسه: من أنه ليس كل ما يجوز في القياس يجب أن يخرج به سماع؛ فإذا أخذ إنسان على طريقة العرب، وأم مذهبهم؛ فلا يسأل: ما دليله، وما سماعه، وما روايته؟ ولا يجب عليه من ذلك شئ.
حتى قال أبو على: لو شاء شاعر أو متسع أن يبنى بإلحاق اللام (زيادة حرف من جنس لام الكلمة وإلحاقه بها) اسما وفعلا وصفة؛ لجازله ولكان ذلك من كلام العرب؛ وذلك نحو قولك: خرجج أكثر من دخلل، وضربب زيد عمراً، ومررت برجل ضربب وكرمم ونحو ذلك! قال تلميذه ابن جني: فقلت له: أترتجل اللغة ارتجالا؟ قال:
ليس بارتجال، لكنه مقيس على كلامهم، فهو إذن من كلامهم!
ومن أثر هذه الطريقة التي لاتتحجر، ولاتمنع القياس في اللغة، وتلحق ما وضعه المتأخرون بما سمع من العرب، ما جاء في ص 235 من شرحأدب الكاتب لابن قتيبة وهو باب لم يستوفه غيره، ولا تجده إلا في كتابه! وهذه عبارته: قولهم: يدي من ذلك فعلة: المسموع منهم في ذلك ألفاظ قليلة، وقد قاس قوم من أهل اللغة على ذلك فقالوا: يدي من الإهالة سنخة، ومن البيض زهمة، ومن التراب تربة، ومن التين والعنب والفواكه كتنة وكمدة ولزجة، ومن العشب كتنة أيضا، ومن الجبن نسمة، ومن الجص شهرة، ومن الحديد والشبه والصفر والرصاص سهكة وصدئة أيضا، ومن الحمأة ردغة ورزغة، ومن الخضاب ردعة، ومن الحنطة والعجين والخبز نسغة، ومن الخل والنبيذ خمطة، ومن الدبس والعسل دبقة ولزقة أيضا، ومن الدم شحطة وشرقة، ومن الدهن زنخة، ومن الرياحين ذكية، ومن الزهر زهرة، ومن الزيت قنمة، ومن السمك سهكة وضمرة، ومن السمن دسمة ونسمة ونمسة، ومن الشهد والطين لثقة، ومن العطر عطرة، ومن الغالية عبقة، ومن الغسلة والقدر وحرة، ومن الفرصاد قنثة، ومن اللبن وضرة، ومن اللحم والمرق غمرة، ومن الماء بللة، وسبرة، ومن المسك ذفرة وعبقة، ومن النتن قنمة، ومن النفط جمدة.
فأنت ترى أن المسموع من هذه الألفاظ، لا يتجاوز سبعة، والباقي كله أجراه علماء اللغة، وأهل الأدب على القياس، فأبدع القياس أربعا وثلاثين كلمة! فدل ذلك على اتساع اللغة تبعا لتعدد الأغراض، وتطورها تمشيا مع تطور الحياة!!
قال صاحبي: وما رأى صاحب الرسالة الأستاذ الزيات؟
قلت: لقد تقدم إلى المجمع اللغوي باقتراح يشتمل على؛ فتح باب الوضع على مصراعيه بوسائله المعروفة من الارتجال والاشتقاق والتجوز؛ وإطلاق القياس في الفصحي ليشمل ما قاسه العرب ومالم يقسوه، فإن توقف القياس على السماع يبطل معناه، وإطلاق السماع من قيود الزمان والمكان؛ ليشمل ما يسمع من جميع طوائف المجتمع!
ورأى صاحب الرسالة أن في إقرار هذا الاقتراح دفعا لمعرة العقم عن اللغة العربية الكريمة التي وصفت في القرن الخامس ناقة طرفة، عضوا عضوا، ونعتت أوضاعها وضعا وضعا، في أربعة وثلاثين بيتا من معلقته! ثم نراها في القرن العشرين، تقف أمام سيارة (فورد) بكماء بلهاء، تشير ولاتسمى، وتجمجم ولا تبين!!
ويقول صاحب الرسالة أيضا: إن اللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، والأغراض لا تنتهي، والمعاني لا تنفد، والناس لا يستطيعون أن يعيشوا خرسا وهم يرون الأغراض تتجدد، والمعاني تتولد، والحضارة ترميهم كل يوم بمخترع، والعلوم تطالبهم كل حين بمصطلح، ولا علة لهذا الخرس إلا أن البدو المحصورين في حدود الزمان والمكان، لم يتنبئوا بحدوث هذه الأشياء، ولم يضعوا لها ما يناسبها من الأسماء!! ويرى الأستاذ الزيات - ورأيه سديد - أن للمجمع وحده السلطة التشريعية العليا للغة العربية، يستطيع في حدود قواعدها الموضوعة، وقوالبها الموروثة، أن يزيد عليها وينقص فيها، ولكنه يعطل مختارا هذه القدرة التي لم يؤتها غيره، باستشارة القدماء في كل إصلاح لغوي يقترحه، وفي كل قرار نحوي يقرره! واستشارة الماضين في شئون الباقين، مع تبدل الأحوال، وتغير الأوضاع، وتقدم العلوم، وتفاوت العقول، واختلاف المقاييس، تكون في أكثر الأحيان معطلة أو مضللة!
لقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسيلم؛ أن منافقا نال من عروبة سلمان الفارسي؛ فدخل المسجد مغضبا وقال: أيها الناس: إن الرب واحد والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي!
وما إن وصلت إلى هذا القدر من الآراء الحقة ألجريئة، والأفكار المشرقة الوضيئة، من اقتراح الأستاذ الكبير صاحب الرسالة، حتى فغر الزميل فاه، وقال: ولكن حضرات المفتشين يضيقون علينا الخناق، ويحاسبوننا على هذه الكلمات، ويفرضون علينا بعض
الأساليب والعبارات! حتى لقد حدا الخوف ببعض أساتذة اللغة العربية في المدارس الثانوية، وإلى أن يغيروا ويبدلوا في قصيدة الأستاذ محمد الأسمر (فرحة الشرق) بعد أن سمعها الناس مسجلة في الشرق والغرب آلاف المرات، فجاء مطلعها في مذكرة النصوص للسنة الأولى الثانوية هكذا:
زهر الربيع يرى أم سادة نجب وروضة أينعت أم محفل عجب؟ واستبدلوا كلمة حفلة بكلمة محفل؛ لأن بعض المفتشين لا يقر كلمة (حفلة) لعدم ورودها في معاجم اللغة العربية!
فقلت له: وهل يتسع وقت حضرات المفتشين لغير المحاسبة على النقط والهمزات، وترك الإنسان وزيادة الألفات؟!
محمود محمد بكر هلال
المدرس بمدرسة سوهاج الأميرية القديمة للبنين
ذكرى أبى الأسود
للأستاذ حامد حفني داود
إن ذكرى وفاة أبى الأسود الدؤلي تبعث إلى الذاكرة فكرة خطيرة هي تدوبن (علم النحو) وهو أول ما دون من علوم العربية. ولا أكون مبالغاً إن قلت أول ما دون العلوم قاطبة في الإسلام.
وهي بهذا القدر ذكرى عزيزة علينا تحرك النفس وتجدد الأمل إلى دراسة (تاريخ علوم اللغة) التي طالما نادينا بتحقيق دراستها، ولاسيما وأن المستشرقين أنفسهم - بعد أن رسموا بعض المناهج في دراسة - (تاريخ الآداب العربية) عجزوا عن تأريخ علوم اللغة، وفي مقدمتها تأريخ علم النحو. ولعل ذلك راجع إلى ما بين هذا العلم ونفسية العربي الخالص من صلبة قوية فلا يتم تأريخه بدون تحقيقها. أريد أن أقول: أنه لا يستطيع تأريخ هذا العلم العربي عارف بأسرار اللغة وقواعدها المتشعبة دارس لها دراسة الممحص المدقق، ملم بكل ما وصل إلى أيدينا من تراث الأقدمين وذلك ما دفعني إلى أحياء ذكرى أبي الأسود علينا من ذكراه نستلهم درات تاريخ العلوم العربية
في سنة 69هـ منذ ألف وثلاثمائة سنة توفى أبو الأسود الدؤلي وقد كان علما من أعلام العربية ورجلا من رجالاتها السابقين الذين وضعوا الأسس ودونوا المسائل. وقد كان تلميذاً للأمام علي بن أبي طالب، وعنه تلقى كثيرا من المسائل الدينية أو العربية قبل أن تصبح علوماً مبوبة على النحو المصطلح عليه عندنا.
وبعد وفاة الإمام علي سنة 40هـ مكث أبو الأسود في العراق وكان من أوائل المتصدرين لدراسة علوم العربية والبحث في مسائلها. ولكنه اشتهر بوضع (علم النحو) وإليه نسب وضعه.
وحول أبي الأسود دارت خلافات كثيرة من حيث وضع علم النحو وطريقة وضعة.
فقد شك بعض العلماء في نسبة وضع النحو إليه. فمن قائل أنه أول واضع له، ومن قائل إن واضعه نصر بن عاصم المتوفى سنة 89 هـ، ومن قائل أنه الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170 هـ. وذهب علماء الشيعة إلى الإمام علي وهو الواضع لعلم النحو.
وتخبط بعض المحدثين في تعيين الواضع الأول متأثراً بما ذكره ريكندورف في دائرة
المعارف الإسلامية حيث نفى ذلك بقوله (وليس حقاً ما يقال أنه واضع أصول النحو العربي) وظن هؤلاء أن واضعه الخليل بن أحمد. وهو قول مردود بالأدلة العقلية والنقلية.
الدليل الفعلي: أن المنهج العلمي ينص على (أن الأدلة العلمية لا توصف بالبطلان مالم تقم الأدلة القطعية على بطلانها.) فتحقيق المسائل العلمية في نظر المنهج العلمي هو البناء لا الهدم. بينما يأخذ أمثال هؤلاء المتخبطين بالقوانين الهدامة التي أبتدعها فرنسيس بيكون واحتذاها المستشرقون من بعده. فأنت ترى أن شعار هؤلاء بطلان كل شيء ما لم يقم الدليل التجريبي على صحة المبطل بينما شعار المنهج العلمي الذي وضعنا أسسه التصديق بالقضايا العلمية المروية عن القدماء ما لم يقم الدليل المادي على بطلانها. وشتان ما بين المذهبين. فالفرق بينهما - كما ترى - كالفرق بين منيبني ومن يهدم.
والدليل النقلي: تواتر الرواية القديمة على نسبة الوضع إلى أبى الأسود وليس هناك أحد من القدماء والمتأخرين من أنكرها. وليس بعد قصة أبى الأسود مع علي، وقصته مع زياد بن أبيه، وحديث أبنه حرب من دليل نقلي. وقد قال الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ (أبو الأسود معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم مأثور عنه الفضل في جميعها، كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين. . .)
ولم يبق هناك من خلاف بين القدماء إلا فيما إذا كان أبو الأسود تلقى هذه الأصول من الإمام علي أم اعتقد فيها على دراسته الخاصة - لدوافع مختلفة سنتحدث عنها في فرصة أخرى - ولعل ذلك لا ينفي أن يكون أبو الأسود واضع علم النحو بإرشاد الإمام دفع إليه ورقة فيها أصول ذلك العلم ثم قال له: انح هذا النحو فسمى ما وضعه نحواً.
وإلى مثل هذا ذهب الشيخ خالد الأزهري المتوفى سنة 905 هـ (وقد تضافرت الروايات على أن أول من وضع علم النحو أبو الأسود وأنه أخذه أولا من علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وقال الشيخ عبد القادر البغدادي المتوفى سنة 1093 هـ (وهو واضع علم النحو بتعليم علي رضي الله عنه
فكأن أبا الأسود وضع هذا العلم مستنيرا بالأصول التي دفعها إليه الإمام. ومن هنا ترى أن
الخلاف بين آراء الشيعة وآراء غيرهم شكلي محض لا يمس الجوهر. فنسبة النحو إلى علي نسبة الموجه والمرشد ونسبته إلى أبى الأسود نسبة المدون والواضع.
والخلاف الثاني: ما هي الأصول الأولى التي نسج أبو السعود على غرارها وما هي المسائل التي عالجها في كتابه الأول، وما طريقة ذلك؟
ظن كثير من العلماء أن أبا الأسود كان يجيد السريانية، وكان يخالط السريان والكلدان في أرض العراق، وقد كان للسريان نحو قريب الشبه من نحونا وقواعد تشبه قواعد العربية، وكلاهما من اللغات السامية. هذه ظنون جالت بأدمغة المفكرين ممن حاولوا التفكير في تاريخ علوم اللغة. فقالوا: إن أبا الأسود درس اللغة السريانية واستنبط قواعدها وطبقها على اللغة العربية.
ويدعم هذا الرأي عذرهم أن قواعد اللغة السريانية وضعت في القرن الخامس حين وضع يعقوب الرهاوي المتوفى سنة 460م كتابا في قواعد السريانية، بينما وضعت قواعد اللغة العربية في القرن السابع. وإذا كان أبو الأسود قد توفى سنة 689 هـ تقريباً عرفنا أن محاولة تدوين قواعد العربية كاتب بعد أكثر من قرنين من المحاولة الأولى التي أجريت على السريانية.
والراجح في نظر المنهج العلمي أن أبا الأسود لم يتأثر بالسريانية ولم ينقل شيئاً من قواعدها إلى العربية؛ وأن التشابه بين اللغتين مردود إلى ما بين طبيعية العربية وطبيعة السريانية من صلة وانتمائهما إلى أصل واحد هو اللغة السامية. ويعزز هذا الرأي الذي ذهبت إليه نماء النحو في اللغة العربية وجموده وانكماشه في اللغة السريانية وغيرها من الفصائل السامية الأخرى. كما أنه ليس هناك من دليل مادي يؤيد دعوة المخالفين وهي دعوة ظنية لا يعتمد بها المنهج العلمي.
فنحن لا ننكر نسبة وضع النحو إلى أبى الأسود لأنه ليس هناك من دليل مادي يرد هذا النقل، ونرفض كل الرفض تأثره بالسريانية لأنه ليس هناك دليل مادي يؤيد هذا الظن.
هذه ذكرى أبى الأسود - وقد مضى على وفاته ثلاثة عشر قرناً. وإني لأرجو أن تثير في نفوس المفكرين الحمية إلى دراسة علوم اللغة دراسة تاريخية تفصيلية. وإني لأرجو أن أعيد هذه المحاولة في (تاريخ النحو) وقد بدأت مثيلتها بالأمس القريب في (تاريخ البديع).
حامد حقي داود الجرجاوي
دبلوم معهد الدراسات العليا
احتكاك الحضارات
للأستاذ محمد محمد علي
بقية ما نشر في العدد الماضي
الطرق غير المنتظمة
تنتشر الحضارات بين الجماعات البدائية بطريق الاحتكاك الابتدائي أو الأساسي، ولكنها تنتشر بين المتحضرين بطريق الاحتكاك الثانوي والأساسي أيضاً
الاحتكاك الأساسي: ويتمثل في حركات السياح والرحالة والمهاجرين والجوالين.
1 -
السياح
وهم يعبرون عما أطلق عليه تومس الرغبة في تجديد التجربة، لا أنهم من طبقة عليا - وتتلخص أعمالهم في زيادة الأماكن ذات الشهرة الواسعة ولاسيما الآثار المصرية القديمة. ويتحدثون إلى الناس ويتعرفون على أحوالهم ويدرسون حياتهم في مختلف نواحيها الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والدينية، ثم يعودون إلى أوطانهم بنظرة إلى الحياة جديدة وأفكار حديثة فيؤثر ذلك في التقاليد والنظم المختلفة. وقد كان للسياح أثر عظيم في احتكاك الحضارات وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
2 -
الرحالة
هناك حركة من جزء إلى آخر في نفس الإقليم، كحركة الفلاح الأمريكي من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، وهي تحدث أزمة في الحياة الشخصية إذ تولد رغبة في تغيير النظم والعادات. وهناك تنقلات من الريف إلى المدن وهذه آخذة في الزيادة حتى أن أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة يعيشون في المدن، وكذلك الحال في كثير من البلدان الصناعية. فالمدينة عبارة عن بوتقة تنصهر فيها الآراء وتختلط العناصر.
3 -
المهاجرون
إن اكتشاف العالم الجديد وتقدم الملاحة البحرية قد زاد من الهجرات وضاعف المهاجرين. وتتميز الهجرة عما سواها من الحركات بأنها سلمية، وهي استجابة لدافع الرغبة في
تحسين الأحوال الاقتصادية والظروف الاجتماعية، وغالباً ما يكون للأقليم الجديد (جاذبية) اقتصادية واجتماعية. وكلما عظمت درجة التشابه والاندماج زاد الميل إلى التزاوج الداخلي. ويخلق المهاجرين في مهجرهم مشكلات اقتصادية وسياسية ودينية، الأمر الذي دعا الولايات المتحدة الأمريكية إلى تقييد قوانين الهجرة فقسمت المهاجرين إلى ثلاث طبقات: المرغوب فيهم بلا قيد ولا شرط مثل سكان غرب أوربا، والمرغوب فيهم بشروط مثل سكان بقية أوربا، وغير المرغوب فيهم وهم العناصر الصفراء، كما حددت لكل دولة عدداً سنويا من المهاجرين. ولا ينبغي أن ننكر ما للمهاجرين من فوائد. فقد نقل المهاجرون إلى أمريكا - مع ما نقلوا - الأفكار الديمقراطية والتسامح الديني وحب الحرية، فكانوا عوامل فعالة في النزاع بين المستعمرات ثم في الكفاح لنشر فلسفة الثورة الأمريكية بين الطبقات وكما ينقل المهاجرون معهم محاسنهم كذلك ينقلون مساوئهم.
واللبنانيون أكثر أهل الشرق حبا للهجرة ورغبة في المغامرة، ولهم جاليات نشيطة في الأمريكيتن، ولعل للظروف الجغرافية أثراً في ذلك. ويحدث أحياناً أن يعيش المهاجرون في عزلة عن السكان الأصليين فيقوى عندهم الميل إلى الاحتفاظ باللغة والدين والتقاليد، ويرفضون التزاوج مع السكان. وهذا بطبيعة الحال يضعف من احتكاك الحضارات. ولكن بعد مرور فترة من الزمن نرى المهاجرين يجنحون إلى الاختلاط وينبذون حياة العزلة.
الاحتكاك الثانوي:
لاشك أن لسهولة المواصلات والمخترعات الحديثة أثراً كبيراً في احتكاك الحضارات. فقد نتج عن ذلك مثلا إمكان (التعليم بالمراسلة) الذي ظهر حديثا. كما لعبت الصحافة والإذاعة دوراً عظيما في هذا المضمار. وللأدب أهمية كبيرة، إذ أن الإنسان لا يتعلم لغة قوم إلا إذا أخذ فكرة عن حضارة هؤلاء القوم وفي العصور الوسطى أثرت الآداب العربية في عقول أهل أوربا وأفكارهم، فكان لذلك أكبر الأثر في نهضة أوربا الحديثة.
واللغة الإنجليزية أكثر اللغات انتشارا. فقد قدر أحد العلماء في عام 1910 عدد المتكلمين بالإنجليزية بنحو 27 % من سكان هذا الكوكب، وأكثر من نصف جرائد العالم تطبع بها.
ولما اخترعت أوربا البخار سهل السفر في قطارات البر وسفن البحر وزاد اختلاط الفرنج بالشرق. ولا تقتصر فوائد المخترعات على المنطقة التي اخترعت فيها بل إنها تعم بقاع
العالم: ومن أهم ما استفادت منه الإنسانية المكتشفات الحديثة في الطب. وكم أفضل الغرب على الناس أجمعين بمطعوم الجدري وكان يهلك به أطفال كثيرون. وكم من خدود جميلة ببثوره تشوهت
نتائج الاحتكاك
ينتج عن احتكاك الحضارات نوع من التفاعل، فليست المسألة استعارة، بل هنالك ظاهرة ديناميكية. . غليان ثورة. . .! فحينما ينتقل تيار حضاري إلى مجتمع من المجتمعات، فلا بد من أن يواجه مقاومة في أول الأمر. وتعتمد هذه المقاومة اعتماداً كبيراً على عاملين: طبيعة المجتمع، ومظاهر الحضارة الجديدة. فبقدر رقي المجتمع تكون مقاومته للمؤثرات الجديدة، وهي قليلة في المجتمعات البدائية. ويلاحظ أن النواحي الروحية من الحضارة تلاقي مقاومة أكثر من النواحي المادية. لأن الإنسان سريع في اقتباس وتقليد النواحي المادية على أن المظاهر الجديدة يسهل اقتباسها إذا كان هنالك ما يستدعى الاقتباس وتغيير العادات ويمكن تلخيص نتائج احتكاك الحضارات فيما يأتي:
1 -
اختلاط وامتزاج بين الحضارة الأصلية والحضارة الجديدة ونشوء حضارة حديثة. مثال ذلك ما كان يحدث في مصر بعد الغزوات المختلفة التي كانت مصر سريعة في هضمها. وما حدث في أمريكا في العصور الحديثة.
2 -
تلاشي الحضارة الأصلية وذلك في المجتمعات البدائية بسبب الانقلابات التي يحدثها المتحضرون.
3 -
أن تقتبس الحضارة الأصلية من الحضارة الجديدة ما يلائمها وهذا خير المواقف في احتكاك الحضارات. وحبذا لو كانت مصر فعلت ذلك إزاء احتكاكها بالحضارة الغربية. ولكن هل في استطاعة الأمة أن تقوم بذلك؟
4 -
المقاومة: وهذه قد تكون إيجابية أي ثورة على الجديد. أو سلبية وفي ذلك إبقاء على مقومات الحضارة الأصلية، مثال ذلك ما فعله المصريون بعد غزوة الهكسوس وغزوة الفرس، إذ أنهم أنفوا من تقليد الغزاة. ويحدث هذا بسبب العداء بين تصمد أمام القوة بعد الفتح التركي في القرن السادس عشر، ففرضت عليهم الحضارة الجديدة، وضاعت بذلك شخصية مصر حتى ظهر محمد على الكبير.
أمثلة الحضارة الإسلامية
ضرب الإسلام بجرانه وانتشر المسلمون في بقاع الأرض، ودخل الإسلام أمم كثيرة من أجناس مختلفة وعناصر متباينة. فكانت ساحة الإمبراطورية الإسلامية في العصر العباسي الأول وعاء تصهر فيه العناصر وتتفاعل فيه الأجسام. هذه الأمم تختلف في الصفات الجثمانية وفي الأهواء السياسية والميول الاجتماعية. وكما يحدث تزاوج واختلاط بين الأجناس، كذلك يحدث امتزاج بين الثقافات واحتكاك بين الحضارات، فنمت الحضارة الإسلامية على أساس العلم الواسع بكافة شئون الحياة من طب وهندسة وجغرافية ونظام حكم وأدب لغة. . كانت هنالك أربع حضارات: الفارسية والهندية والإغريقية والعربية. وكانت كل ثقافة في أول الأمر تشق لنفسها جدولا خاصا له طعمه ولونه ثم لم تلبث أن التقت جميعا وكونت نهراً عظيماً. وقد التقت في هذا الميدان الرحيب الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام. واختلف الناس فمنهم من يرد جدولا معيناً ومنهم من ينهل أكثر من جدول.
وقد تمثل امتزاج الثقافات بأجلى معانيه في ثلاثة أعلام: الجاحظ، وابن قتيبة وأبو حنيفة الدينوري. وكان للحضارة الفارسية الفضل في إنشاء منصب الوزارة وكان غالباً يسند إلى الفرس، ولم يكن معروفا قبل العباسيين. وتغلغلت العادات الفارسية في النفوس مثل عيد النيروز ولبس القلنسوة ومجالس اللهو والغناء. وقد لاحظ ابن خلدون أن حملة العلم في الدولة الإسلامية كان أكثرهم من العجم لأن العلوم من الصناعات وهي من خصائص الحضر.
ومن هؤلاء سيبويه وأبو حنيفة النعمان وبشار بن برد والكسائي والفراه وغيرهم. أما تأثير الحضارة الهندية فكان في شيوع الإلهيات (المقالات الدينية) والرياضيات والنجوم والقصص والحكم. ويذهب كثير من الباحثين إلى أن الهنود هم واضعوا الشطرنج ومنهم أخذ المسلمون وانتشر في العالم. أما عن الحضارة اليونانية فقد كانت هناك مدارس ومراكز ثقافية أشهرها في الإسكندرية وحران. وقد نقل الكثير من فلسفة اليونان وعلومهم في الفلسفة والطب والمنطق. ولعل لأهم ما نتج عن احتكاك الحضارات ما أخذه الخلفاء من مظاهر الأبهة ودلائل النعيم في قصورهم، فكان الخليفة لا يقل عظمة من قيصر الروم أو
ملك الفرس.
الإسكيمو
حدث الاحتكاك بين الأوربيين والإسكيمو في شمال أمريكا الشمالية عن طريق صيادي الحيوانات ذات الفراء. وأقبل التجار، فباعوا للأهالي أسلحة حديثة أحسن من تلك القديمة فأدى ذلك إلى نقص في الكاريبو في جرينلند ودلتا نهر ماكتري لكثرة الصيد مما أثر في غذاء الأهالي. وقد أتى الأوربيون بالسكماليات مثل الشاي والسكر والطباق والصابون - فضلاً عن الأسلحة. ولكي يحصل الأهالي على هذه الأشياء. أصبح لزاما عليهم أن يبيعوا الجلود اللازمة لهم في حياتهم وأصبحت الحاجة ماسة إلى الخيام والملابس. وفي أثناء الحرب العظمى الأولى امتنعت الموارد الأوربية فلم يجد الأهالي مندوحة عن الرجوع إلى الأساليب الأولى في حياتهم. وقد لاقوا صعوبات من جراء نسيانهم عاداتهم. ومن أسوأ نتائج الاحتكاك بين الأوربيين والإسكيمو: انتشار الأمراض والأوبئة ففي منتصف القرن الثامن عشر هلك من الجدري عدد كبر، هذا فضلاً عن انتشار مرض السل. وليس أدل على فداحة خطر الأوربيين من المقص المربع في عدد السكان. ولقد شعر الأوربيون بخطرهم، فأسرعت الدانمرك إلى غلق مواني جرينلند في وجه البواخر الأوربية لسنوات معدودات. إذن فاحتكاك الإسكيمو بالأوربيين لم يكن في صالحهم ولقد قال جرينفول إن إسكيمو لبرادور في طريق الفناء. وقد بدأت حكومة كندا تولي الأهالي هناك عناية واهتماماً إلا أنه يشك في تعمير الإسكيمو إلى زمن طويل.
زنوج البانتو بجنوب أفريقيا
كان للمبشرين كبير الفضل في الاحتكاك بين الأوربينوزنوج جنوب إفريقيا، إذ عملوا على إدخال المسيحية على أساس القضاء على الوثنية، وتبع المبشرين التجار وأصحاب الحرف. وقد انقسم الأهالي حيال الحضارة الأوربية إلى ثلاثة أقسام: فريق بقى على حالته الأولى في مستوى الحضارة الأصلية، وفريق آخر غالى في الاقتباس والتقليد. وبينهما فريق ثالث آثر أن يعيش وسطاً يأخذ من كل ما يشاء وتتلخص نتائج الاحتكاك فيما يلي:
النتائج الاقتصادية
1 -
تحسنت الأحوال وارتفع مستوى معيشة الفرد.
2 -
سهلت عملية الصيد بسبب وجود البنادق التي جلبها التجار.
3 -
حدوث التبادل بين الأهالي والتجار. يأتي بالبضائع الأوربية ويبيع الأهالي منتجاتهم التي درت عليهم رزقا كريما.
4 -
ظهور صناعات جديدة، فانتشرت ماكينات الخياطة تعمل عليها النساء في المنازل.
6 -
أخذ الأهالي طرقا جديدة في المحافظة على حيواناتهم والعناية بها وأصبح الحقن واجباً.
النتائج الاجتماعية
1 -
انتشرت اللغة الإنجليزية وذلك عن طريق التعليم.
2 -
تفككت روابط الأسرة بسبب تنقل الأهالي وراء الصناعة، وكثيرا ما كانت الزوجة تسأم طول انتظار زوجها فتتخذ لها خليلا.
3 -
استنشق الشبان نسيم الحرية مما أودى بالسلطة الأبوية فانغمسوا في اللهو وركبوا خيل المجون، وتأنقوا لجذب أنظار العذارى آلائي يقعن في شباك الإغراء غالبا.
4 -
تغير موقف القبيلة إزاء الفتيات إذ كانت العذراء التي تحمل تلاقي عقوبات شديدة وتذوق ألوانا لاضطهاد، وكان الأطفال غير الشرعيين يقتلون. أما الآن فإن هؤلاء العذارى (آلائي يحملن) توجه إليهن عناية؛ وكذلك أطفالهن لهم الحق في الحياة الطبيعية ولو أن لداتهم يعيرونهم. وأصبحت هذه الأمور تقع كأنها أمور عادية لا غرابة فيها!
5 -
لم يعد هناك احترام للتقاليد، وأصبح للشباب من الجنسين حرية الاختيار في الزواج.
الشرق والغرب
كان للاسكندر الأكبر وحروبه فضل كبير في اختلاط الشرق والغرب. وعندما انتقلت الآداب العربية إلى أوربا في العصور الوسطى أثرت في نهضة الآداب والفنون - خصوصاً بعد أن وصل المسلمون إلى جبال البرانس. أي أن الغربيين أخذوا من الشرقيين ما نفعهم يوم نهضتهم. وزاد الاختلاط شدة سهولة المواصلات وانتشار المخترعات وهجرات الشرقيين خصوصاً أهل الشام إلى العالم الجديد. وقد استفاد الشرق كثيراً من
الغرب في العصور الحديثة إذ تعلم الشرقيون: معنى الوطن والوطنية وحب الجنس والقومية، ونقلوا بعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية. وأخذوا أصول الصحافة التي كان لها أثر عظيم في إدخال الأفكار الجديدة وتبديلها من النظم القديمة. وتجلى أثر ذلك واضحاً في تنوير ذهان الشرقيين وثورتهم على الاستعمار في السنين الأخيرة وذلك لانتشار الآراء الثورية.
وكان احتكاك المصريين بالفرنسيين في القرن الثامن عشر أول احتكاك علمي مع الفرنجة. وممن كانوا في طليعة المستفيدين مؤرخ مصر في ذلك الحين الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، وشيخ الأزهر حينئذ الشيخ حسن العطار؛ إذ علموا بعض علماء الحملة الفرنسية اللغة العربية وتعلموا منهم ما لم يكن لهم به عهد من العلوم المادية. وقد أبدع الجبرتى - في تاريخه - في التعبير عن شعور الشرقيين تجاه هذه العلوم، وقام فريق من علماء الحملة بدراسة مصر من كافة نواحيها. ويعتبر كتاب (وصف مصر) أوفى دراسة وأحسن مرجع للحياة المصرية في ذلك الحين. ولما تولى محمد علي الكبير حكم مصر أوحى إليه ذكاؤه أن الانعزال مبعث التأخر فأبقى على التعليم في الأزهر وأدخل التعليم الحديث وأرسل في استدعاء الأساتذة والأطباء، بيد أنه رغب في الاستغناء عن الأجانب والأخذ عن الغرب مباشرة فأوفد البعثات العلمية إلى إيطاليا ثم فرنسا وإنجلترا وألمانيا وغيرها. وقد نهج محمد علي خطة حميدة وهي الأخذ بمحاسن الغرب مع الإبقاء على تراث الشرق بل إحيائه. على أن احتكاك الشرق بالغرب قد جلب الكثير من المساوئ منها انتشار المسكرات وفتح أبواب الفجور والاستخفاف بأمور الدين.
خاتمة:
بعد دراسة احتكاك الحضارات وعرض أمثلة له، يمكن القول بوجه عام إنه ليس في مقدور أمة أن تعيش بمعزل عن سائر الأمم فلا بد من التأثير والتأثر. ومما هو جدير بالذكر أن للاحتكاك مساوئه ومحاسنه إلا أن الأمة الحريصة هي التي تستفيد من تجارب غيرها، وتعمل على أن تتخلص مما طرأ عليها من أضرار وشرور نتيجة احتكاك الحضارات.
وقد نتج عن ذلك - نتيجة ما اتصف به الإنسان من الهجرة والتقليد كما ذكرنا في بداية هذا البحث - أنه لم تعد هناك حدود فاصلة بين الأجناس البشرية، لذا قيل بحق: إن الجغرافيا
الجنسية لا تعرف الحدود. ويظهر ذلك بجلاء في اختلاط العناصر وامتزاج الدماء في ربوع وادي النيل.
محمد محمد علي
(ليسانسيه في الآداب)
حول دراسة العربية
تعقيد (التعقيد). .!
للأستاذ أحمد عبد اللطيف بدر
قرأت ما دار حول تدريس العربية في الأزهر، ولقد أثرت هذا الموضوع في جريدة المقطم في 26 - 8 - 1937، فلم يبد أحد رأيا حوله، لوقوف الاتجاهات الفكرية، وعدم الخروج عن دائرة التزمت العلمي، لكن الأيام تغير الأفكار، وتلاين الصلابة الفكرية، فيعاد تساؤلنا الذي بسطناه حينئذ:(هل تلك التواليف المتعددة. . على تباينها - قد حصرت القواعد حصرا يمكن الأخذبها؟ أو أنها تناثرت واضطربت وكانت عقبة يتعذر بها على متشوف العلم التفهم والاستقلال في التعرف؟!. . . (أن التصانيف الموضوعة في هذه العلوم على ركاكة أسلوبها، وتنافر بحوثها غير مجدية غير مجدية في باب الإنتاج العلمي، والمدارسة في مجموعها سائرة على غرارها، ويكاد الآخذون يرددون ألفاظها من دون أن يجعلوا للابتكار والتفنن في التعابير وظيفة يعتمدون عليها في إيضاح الطريق وكشف الأسرار عن المعميات الملغزة بألاغيز ومناقشات جوفاء لا تمت إلى البحت العلمي بأدنى صلة، ثم (التقيد) بتعابير موضوعة كالقوانين التي لا يتصرف فيها أقل تصرف، فغدت القواعد تحاكي (الاسطوانات) المكرورة - وبقيت اللغة محرومة من المقايسة المعقولة وحددها المصنفون الأعاجم ذوو البيان الملتوي، والمنطق الأبكم تحديد وضعها في الأغلال، ولم ينظر إليها المحدثون نضر البصير بل ازدادوا في تمحلاتهم والعصر يتطلب السهولة، والبراعة، والسرعة وطلاقة الفكر، والتجديد، ومراوضة العقول على كيفية التعقيل. . .)
(إن الحياة تتطلب ألوان من التفكير تابعة لألوان الأيام. وإذا كان الكاتبون في علوم البلاغة، والنحو، والصرف، قد أنتجوا إلى الناحية اللفظية وخلطوا، واضطربوا، فليس لنا أن نأخذ منهم طريقتهم، لأن عصرنا يخالف عصرهم والأفكار تتمشى بطبعها مع العصور. . .
برمت العقول بما تحدثة (الحواشي) وأثباهها من الافتراضات البعيدة الذاهبة بحقيقية العلوم إلى ما وراء الخيال، ووقفت الإفادة إلى حد المناقشة في أسلوب التعاريف البلاغية والنحوية ونقد حدودها بأسلوب يحتاج إلى النقد، وبدى أن طالب الاستفادة لا يشغله غير ما
يدله على موطن استفادته، أما الأوهام التي يدل عليها قولهم:(فإن قيل)، فليس لها مدخل في الصميم فمتى تشذب هذه التواليف وتؤخذ الزبدة حتى تكون سائغة مقبولة؟
(إن الأعراب كانوا ينطقون بالسليقة والفطرة، فلم يعرفوا التنافر وضعف التأليف، والحركة الظاهرة والمقدرة، والإظهار، والإضمار، والاتصال، والانفصال - بل كانوا يرسلون القول إرسالا).
(إن معرفة الآراء واجبة، لكن التكليف والإرغام، والموافقة والاستسلام، لا يجب أن تكون حاجزا بين المناقشة وطرد مالا تستسيغه العقول فليس واجبا حصر العقول في خلافات سيبويه والكسائي والفراء وابن خروف وابن جنى، أو متابعة أقوال السكاكي والزمخشري والقزويني - لأن بحوثهم استطرادية). . .
(الطريقة المثلى التي يجب أن تدرس بها علوم اللغة تكون في الاقتصار على الاستشهاد من أقوال العرب الخالصين بالقواعد التي وضعها الأقدمون ثم الإشارة إلى المواضع التي اختلفت فيها الأقوال).
(يجب أن يقوم بعض المضطلعين بعلوم اللغة، والواقفين على أسرارها بوضع كتب علمية خالصة تحمل القواعد في أسلوب بعيد عن التلوى والتأويل، والتجوز، والمحاورة).
وقلت في جريدة (الجهاد): إن لغة التأليف في كتب الأزهر تقوم على التلوى والمداورة، والتأويل، والتحوير، والإلفاز والتعمية - واللغة العربية هينة لينة بعيدة عن التكلف والغموض بل هي احفل اللغات في التوسع والتجوز، وحفلت الفاظها بالمترادفات، وكثرت التعابير المجازية والكنائية في سلاسة وقرب مأخذ.
لكن السادة المؤلفين رحمهم الله! - كانوا يرون البراعة من حيث الإعراب ويعدون الدقة في فصل العبارات بعضها عن بعض وتقديم الصفة على الموصوف والمتعلق على ما تعلق به، وعود الضمير على المتأخر في اللفظ والرتبة، والاستطراد، والإشارة البعيدة، والرمز الخفي، إلى غير هذه الأمور (المصطنقة) في التأليف العلمي.
هذا وكان الوقوف عند القديم وتمسك القائمين على التعليم في الأزهر (بالعبارة العلمية) المقصود بها (الحفظ الأعمى لا الفهم المبصر).
مما سبب عدم العناية بتلك التواليف الجامعة بين الورود والأشواك!! وبعد؛ فالحياة قد
تغيرت، والعقول تفتحت، والمواهب تععدت؛ وليس عسيرا على أصحاب الوعي من علماء الأزهر تكوين هيئة تبرز العلم الصحيح في أسلوب واضح، سلس، شائق.
بور سعيد
أحمد عبد اللطيف بدر
الشعر المصري في مائة عام
علي أبو النصر
. . . - 1880
للأستاذ محمد سيد كيلاني
بقية ما نشر في العدد الماضي
ومدح الخديوي توفيق بقصيدة مطلعها
روض الأماني تغنينا سواجعه
…
فكل راج لها تصغي مسامعه
وكيف يرتاب من لاح اليقين له
…
في جبهة الدهر أو من يخادعه
لم يبدأ الشاعر هذا المدح بالغزل كعادته. وإنما بدأه بذكر الأماني والآمال التي كانت تدور بخلد الناس حينما تولى الخديوي الجديد. والبيت الأول جيد المعنى والعبارة. أما البيت الثاني ففيه رد على اليائسين من الإصلاح ومعناه جيد. وقال:
وهل على من سعى يوما إلى غرض
…
لوم إذا منحت منه موانعه
يقول إن من شمر العزم لتحقيق بعض الأهداف وفشل في ذلك فلا لوم عليه ولا تثريب. وهو بهذا يرد على المرتابين. والبيت جيد المعنى والتركيب. وفيه حجة مفحمة. وقال:
نحن الألى سلقتنا ألسن نطقت
…
في عتبنا بملام عم شائعه
قالت لقد عصفت فيكم رياح هوى
…
أمالكم عن سماع النصح ذائعه
تبنون من غير أس في تصرفكم
…
ومحكم الأمر فاتتكم مواضعه
أضغاث أحلامكم كادت تؤولها
…
آمالكم بحديث ضل رافعه
حيث الخواطر والأفكار خامرها
…
من الحوادث ما عمت فظائعه
وجندت جندها الأيام عادية
…
وجردت سيف غدر صال قاطعه
هذه القصيدة هي من أجود ما نظم أبو النصر. فلم يكن الرجل فيها متكلفاً ولا متصنعاً، ولا كاذباً ولا متملقاً. ولا مرائياً ولا منافقاً. وإنما كان وطنياً مخلصاً يعبر عن شعور داخلي كامن في نفسه ويترجم عن إحساس دفين بين جوانحة. وقد نسى الشاعر نفسه وتجاهل مصالحه الخالصة والنعم الكثيرة التي أغدقت عليه في أيام إسماعيل، ونظر إلى الأمور
نظرة المشفق على ما فيه خير الأمة، المتألم لما أصاب البلاد من الكوارث والخطوب. وقد أطلق للسانه العنان فنطق في غير خوف ولا وجل، وانتقد في جرأة عجيبة. والأبيات جيدة المعاني والتراكيب.
وقال:
وكل من رام تدبيرا ولاح له
…
جند الجرائد هالته طلائعه
هذا البيت مأخوذ من الواقع. وربما كان فيه إشارة إلى الصحف الأوربية التي أكثرت من مهاجمة الخديوي إسماعيل في أواخر أيامه. والمعنى جيد غير أنه كرر صورة واحدة في بيتين وهي صورة الجيوش في قوله (جندت جندها الأيام) وفي قوله (جند الحرائد) كما أنه كرر كلمة (جند) في بيتين متتاليين. وهذا غير جيد. وقال:
وما أجبتم سؤال المحدقين بكم
…
كأنما القطر لا تغنى وقائعه
كم نزهتكم رباه في مراتعها
…
فأصبحت وهي للراثي بلاقعه
أكرمتم الغرباء النازلين بكم
…
لكن فلاحكم ضاقت مزراعه
هذه أبيات جميلة لأنها صادرة عن شعور فياض بالحزن على ما أصاب البلاد. وفيها موازنة بين الرخاه الذي كان في زمن سعيد وأوائل عهد إسماعيل وبين الضنك والبؤس الذي خيم على البلاد في أواخر حكم إسماعيل. وفيها إشارة إلى الضرائب الباهظة التي أثقل بها كاهل الفلاح فاضطرته إلى الاستدانه من المرابين أو إلى الفرار وترك الأرض قفرا لا زرع فيها ولا ضرع. وفي البيت الأخير بكاء شديد على ما أصاب الفلاح المسكين. وقد أجاد الشاعر في المقابلة بين الأجانب الذين تمتعوا بكل خيرات البلاد وبين الفلاحين الذين كانوا محرومين من ضروريات الحياة.
والأبيات الثلاثة جيده المعنى والأسلوب. وقد أسبغ عليها الحزن روعة وأكسبها جلالا. ومن قرأ البيت الأخير لا يسعه إلا أن ينحني إكبارا لأبى النصر الذي كان أول شاعر في العصر الحديث يعبر عن آلام الفلاح ويتعرض لذكر ما يعانيه من ضيق وفقر.
وكان أبو النصر كثير الاختلاط بالفلاحين فرأى من آلامهم ومتاعبهم ما ظهر أثره في هذه القصيدة فوقف فيها كما نرى موقف المدافع عن هؤلاء القوم، المفاضل عنهم، رافعا عقيرته بطلب الإصلاح. وقال:
فمن لكم أن تروا عدلا أخاهمم
…
يسركم بقدوم العدل طالعه
وهذا البيت تمهيد للانتقال من وصف الأحوال المحزنة التي أشرنا إليها إلى التنويه بالفرح المرتقب على يدي توفيق. وهذا التخلص جيد إلا أن أسلوب البيت ضعيف.
ثم قال:
فقلت مهلاً فكم من أزمة فرجت
…
وأعقب الليل صبح ضاء لامعه
وإنما اليسر بعد العسر منتظر
…
وأحسن الصبر ما ترجى منافعه
دعوا الأراجيف فلأوهام ليس ترى
…
إلا خيال سراب غاض ناقعه
ولا يغرنكم منا الفتور فقد
…
يسابق الركب في الفيفاء طالعه
في هذه الأبيات يرد على المرتابين في الإصلاح واليائسين من الفرج. وقد حاول أن يقنعهم بأن الفرج آت لا محالة. وقد أجاد إذ سلك طريق الحوار لعرض آرائه وبسط آماله وأمانيه.
ففي الأبيات الأولى أجرى الحديث على ألسنة المرتابين في الإصلاح، وعظم من شأن ما كانت تئن منه البلاد. وفي الأبيات الأخيرة أجرى الحديث على لسانه فأعرب عن رجائه في اليسر بعد العسر، وفي الفرج بعد الشدة. ثم انتقل من هذا إلى مدح الخديوي وخاطبه بهذه الأبيات:
نرجوه إنجاز إصلاح الشؤون عسى
…
يصفو به الملك دانيه وشاسعه
فإن آمالنا أمته جارمة
…
بأنها لا ترى شهما يضارعه
فكن مجيبا أبا العباس دعوتها
…
فباب عطفك يلقى البشر قارعه
ووال فضلك يا خير الولاة لمن
…
وإلى لأمرك يشقى من يراجعه
واستنتج الرأي إصلاحا فقد حجبت
…
شمس الهدى بسحاب فاض هامعه
وطهر الملك من عات ومتهم
…
تقوده للقضا جهلا مطامعه
هكذا وقف أبو النصر من الخديوي توفيق موقف الناصح الأمين والمرشد المخلص. ووقف كذلك موقف الوطني الغيور على مصلحة أمته فطالب برفع المظالم وتطهير الأداة الحكومية من اللصوص والمرتشين. وهذه الأبيات من أصدق الشعر الذي قيل في ذلك الوقت. ففيها تعبير عن رغبة شديدة كمنت في النفوس، وتطلعت إلى تحقيقها القلوب. وكان أبو النصر ممن ترجموا عن هذه الرغبات الكامنة ونطق بما ترجوه الأمة من الإصلاح ورفع المظالم.
وختم الشاعر قصيدته الرائعة بقوله:
فإن رعيت وراعيت الحقوق فما
…
أولاك بالمدح يتلو الحمد بارعه
وفي هذا البيت تظهر جرأة الشاعر في مخاطبة سيد البلاد.
فهو يقول له إنك لن تكون أهلا للمدح والثناء إلا إذا قمت بما تتطلبه البلاد من الإصلاح ونشر العدل. ولا ريب في أن الشاعر قد وقف وأجاد حينما ختم قصيدته بهذا البيت المؤثر. وهذه القصيدة وإن قيل إنها نظمت في مدح الخديوي الجديد إلا أن ظاهرة المدح فيها لا تكاد تذكر. وطغت عليها ظاهرة الإلحاح في طلب الإصلاح. وهي أروع ما نظم أبو النصر، بل من؛ أروع ما نظم في ذلك الدور على الإطلاق.
وهكذا اشترك أبو النصر في التمهيد للحركة العرابية التي ظهرت بعد وفاته.
وللشاعر طريقة خاصة في الرثاء. فهو يبدأ بالتحدث عن الموت فيذكر أنه غاية كل حي، وأنه السبيل الذي يسلكه كل مخلوق. ويشير إلى إستحالة الخلود. ثم يتعرض لذكر الأصاغر والأكابر الذين ماتوا. ثم ينوه بالخطوب التي تصيب الناس بفقد العظماء. ويتلخص من ذلك إلى القول بأن أجل خطب في عصره هو وفاة فلان. ثم يشرع في التنويه بمناقب الفقيد. فلما رثي السيد مصطفى العروسي أورد الديباجة التي أشرنا إليها ثم تخلص منها بقوله:
وأجل خطب غصت الدنيا به
…
في عصرنا فقد العروسي مصطفى
ورثى أحد العلماء فسلك الطريقة عينها وتخلص بقوله:
وأجل خطب ساء أرباب النهى
…
فقد أن من تزهو به وتفاخر
وفعل مثل هذا في رثائه لعالم آخر وتخلص بقوله:
وأجل خطب هالنا وأهمنا
…
أن غاب عنا ذو الفضائل أحمد
ونهج هذا النهج في رثائه للشيخ علي القوصي، فقال:
وأجل خطب غصت الدنيا به
…
موت الإمام السيد القوصي علي
وهو ابن عبد الحق من حاز العلا
…
شرفا وعلما وهو أستاذ ولي
فالرثاء عند أبى النصر صورة معادة وتكرار لبعض المعاني في عبارات تكاد تكون متشابهة. وليس في هذه المراثي ما يستحق أن نقف أمامه إذ أنها متكلفة مصطنعة. فكلما
رثى شخصاً ادعى أن موته كان أجل خطب أصيبت به الدنيا. ولذلك لن نخسر شيئاً إذا تركنا هذا الباب من شعره.
ولأبى النصر قصائد قليلة يظهر فيها صدق الشعور والتهاب الإحساس وانتقاد العاطفة. ومثال ذلك قوله وهو بالأستانة يتشوق إلى مصر:
أبدا تشوقني لمصر ظلالها
…
ويطوف بي مهما رحلت خيالها
ولنيلها أصبو وعذري واضح
…
عذبت مناهلها وراق زلالها
هي منتهى أملي وأقصى بغيتي
…
هي قبلتي والواجب استقبالها
ولطالما سرحت فيها ناظري
…
وحلت إلى سهولها وجبالها
وجمعت بين رياضها وحياضها
…
وسرت إلى جنوبها وشمالها
أرض المستفيد عوارفا
…
تسدى النوال يمينها وشمالها
بلد بها وطني فلا لأبغي بها
…
بدلا ولو بعدت وعز وصالها
لكن رأيت عزيزها طلب السرى
…
منها إلى بلد يروق جمالها
ونظرت في شأن البدور وإنها
…
لولا تنقلها لفات كمالها
وكذا اللآلي لو ثوت في كنزها
…
مالاح في تاج العروس هلالها
فرغبت في الترحال وهي بخاطري
…
مطبوعة منظومة أشكالها
ودعتها وفمي يقبل ثغرها
…
ومدامعي يحكي الحيا استرسالها
هذه أبيات نقرأها فنعجب بها ونقف أمامها متأثرين بما فيها من روعة وجمال. فلم يكن الشاعر متكلفا ولا صانعا للشعر ولا ناظما جل همه البحث عن المحسنات اللفظية. وإنما كان ناطقا بما في أعماق نفسه وفرارة فؤاده، معيراً عن شوقه لبلاده، مترجما عن مبلغ تعلقه بوطنه تعلقا جمله يتخذه قبلة يولي وجهه إليها أينما سار. ولم تلهه عن بلاده مظاهر الجمال والمروعه التي يشاهدها كل من رحل إلى الأستانة؛ بل إن شوقه لبلاده وما فيها من رياض وحياض وسهول وجبال ونسيم عليل قد سيطر على ذهنه وطغى على كل شئ أمامه فلم يعد يرى غير مصر إليها يصبو ويحن، فهي كما قال منتهى أمله وأقصى بغيته. وفي كل بيت من هذه الأبيات تلمس قوة في التعبير. ومثال ذلك قوله: - أبدا - تشوقي لمصر ظلالها، ويطوف بي - مهما - رحلت خيالها، هي - منتهى - أملي، - وأقصى -
غايتي، هي - قبلتي -، - فلا أبغي بها بدلا ولو بعدت -. وأنظر إلى البيت الأخير وهو:
ودعتها وفمي يقبل ثغرها
…
ومدامعي يحكي الحيا استرسالها
فإنك لاشك متأثر بما فيه من روعة، تتخيل الشاعر وقد هوى على أرض الإسكندرية يقبلها ويبكي بكاء شديداً لهذا الفراق فتعطف عليه وتبكي لبكائه.
وكان أبو النصر مغرما ببعض أنواع البديع يحشدها في قصائده حشداً، ومثال ذلك قوله:
لي في ربا الشوق انهام وانجاد
…
إلى الأحبة إن ضنوا وإن جادوا
وفيه طباق بين (انهام) و (انجاد) وبين (ضنوا) و (جادوا) وفيه جناس بين (انحاد) و (جادوا).
ومن تلاعبه بالألفاظ قوله وهو بحضرة شيخ الإسلام في تركيا:
وكما ترى مصر السعيد جنة
…
ونحسبها دون البلاد هي العليا
فلما رأت دار الخلافة عيننا
…
علمنا يقينا أنها لهي الدنيا
ففي كلمة (الدنيا) تورية لطيفة تدل على البراعة والاقتدار في الصنعة.
وللرجل شعر ينحط في أسلوبه إلى العامية. ومثال ذلك قوله.
سده واجب أكيد وإني
…
أبتغي في مسافة الشهر سده
وقوله:
مني عليكم كل يوم تحية
…
وسائراً أحبابي الكرام ذِي المجد
كذا جملة الأخوان شرقا ومغرباً
…
متى سألوا عني ولو أخلفوا ودي
وهذا كله من تعابير الدهماء.
وحاول صاحبنا أن ينظم في باب الحكم. وله قصيدة قلد فيها صالح بن عبد القدوس فأخفق إخفاقاً تاما. ومن هذه القصيدة قوله:
حسن الخليفة للخليفة يوجب
…
حسن الرضا عنهم ونعم الموجب
والعلم يزفع قدر من عملوا به
…
والعاملون بغير علو كذبوا
والمدعي ما ليس فيه جهالة
…
لاشك عند الامتحان يكذب
وهكذا كلام خلو من المعنى. وفضلا عن ذلك فإن عبارة المبيت الأول في منتهى الضعف وقد كرر القافية في قوله (كذبوا) و (يكذب) وهما من فعل واحد.
وحاول أن ينظم في باب الحماسة فجاء شعره متكلفاً مكذوبا.
ومثال ذلك قوله:
بليت بلا الهبا إن لم أصابر
…
ولو يلقى على ظهري ثبير
فكم جبت المفاوز للمعالي
…
على قدمي وقد ند العبير
ووسدت الصفا شرقا وغربا
…
وعافتنى النمارق والسرير
وهذا افتراء عظيم. وليس في تاريخ الرجل ما يدل على أنه قطع مغازة واحدة أو ركب بعيراً.
ومما عبته عليه قوله في الخديوي إسماعيل
وإذا تشرف من يراك النعمة تهدي إليه سوى رضاك فقد كفر قفيه تكلف ومغالاة تخرج به إلى حد الكذب الصريح.
ولاشك في أن الرجل كان ضئيل الحظ من الاطلاع على آثار الفحول. ومعظم شعره في المدح. وحسبنا أن نقف في حديثنا عنه عند هذا الحد.
محمد سيد كيلاني
نهاية الملحمة
للأستاذ إبراهيم الوائلي
يا شعوبا نسيت أمجادها
…
واحتواها عالم الوهم الذميم
إسألي القبة من ذا شادها
…
فأضاءت حلك الليل اليهيم؟
قد تعثرت وما جزت الشعاب
…
وتلكأت وقد غض الطريق
وتنابذت، وقطعان الذئاب
…
تتلاقى في ذرى البيت العتيق
فإذا كل مساعيك ضباب
…
مزقته الريح في الوادي السحيق
لا تقولي: أبن يافجر الحياة
…
كيف نلقاك وفي أي مجال؟
بعدما تهت بأجواز الفلاة
…
وتناثرت على شوك الرمال
يا شعوبا صيرنها مزقا
…
أمة ما عرفت غير الفساد
عبرت والنجم يطوى الغسقا
…
وأفاقت فإذا النار رماد
دعم الظلم لها ما لفقا
…
عصبة تحلم في (أرض المعاد)
وتراجعت وقد قيل اندثر
…
حلم (إسرائيل) في الوادي الأمين
فإذا أنت فلول وزمر
…
تتحداها وحوش الطامعين!
يا شعوبا كم أرتنا عجبا
…
سيرا شتى وعهداً لا يطاق!
سيرتها للمآسي ملعبا
…
أرؤس تحيا على غير وفاق
آن يا تاريخ ألا نكذبا
…
فلقد طال بنا عصر النفاق
إن أقوامي قد ضلوا الطريق
…
واستجابوا لأباطيل الخصام
وتناسوا ذمم العهد الوثيق
…
يوم ثار الدم في أرض السلام
هذه الطعنة في القلب الجريح
…
سوف تبقى رمز ذل الصاغرين
وضحايا الغدر في مهد المسيح
…
شارة الخزي على كل جبين
والعصابات على الوادي الذبيح
…
قهقهات تتحدى الحاكمين
يا شعوبا قوضت منها الهمم
…
واستحالت مسرحاً للدخلاء
اعبدي الوهم وطوفي بالرمم
…
ثم قولي: إن ذا حكم القضاء!
يا شعوبا كان ماضيها العتيد
…
شعلة تشرق في دنيا الظلام
تستسيغ الموت في ظل الحديد
…
وتناجي الحب في ظل السلام
أنت أصبحت طعاماً للعبيد
…
وسيبقين لمن شاء الطعام
فخذيها من خرافات العصور
…
ضحكة تبقى على ثغر السنين
وألفي الصمت فما يجدي الغرور
…
أمة تسعى وراء الفاتحين!
يا شعوبا أسست وحدتها
…
لغة عظمى ودين ودم
ودعاها باعثا نهضتها
…
من بني العرب يتيم معدم
كيف أغضيت فأحيت (سبتها)
…
فئة هانت لديها الذمم
ثم ناديت بمن لا يستجيب
…
وترافعت لأوهي (مجلس)
فاستعدي إن في الآنى القريب
…
قصة أخرى عن الأندلس
علمتني الحقد - والحقد مشين
…
أمم تسعى لتهويد العرب
فتنفست عن الحقد الدفين
…
ثورة تذكو بأنفاس اللهب
وسأبقى ثائراً في كل حين
…
كلما أبصرت عباد الذهب
والعصابات بوادي (أورشليم)
…
تتغنى بأناشيد الظفر
وحواليها من الغرب الأثيم
…
بشر ينكر تاريخ البشر
يا شعوبا سجلت خذلانها
…
وتناست ثورة الأمس القريب!
قد أطاعت في الدجى ربانها
…
وهو بين الموج يطفو ويغيب!
أي صبح فتحت أجفانها
…
(بنت إسرائيل) في (تل أبيب)؟
وأفقنا فإذا بالحائرين
…
في صحاري البيد في دنيا القفار
إية يا من سيروا هذي السفن
…
انتم أولى بأمواج البحار
روعت (حيفا) بأشتات الطغام
…
فانحنى يبكي عليها (الكرمل)
وانطوت (يافا) على الداء الحسام
…
فشكا القدس وناح (المجدل)
وعلى (الرملة) و (الل) السلام
…
يا شعوبا خاب فيها الأمل
لا ورب ما لهاتيك الشعوب
…
أي ذنب لا ولا ثم عتاب
إنما يعرف أسرار الذنوب
…
مازج العلقم بالشهد المذاب
ألف وعد لم يف الخصم به
…
ولبلفور بوعد قد وفى
فتغاضينا ولم ننتبه
…
لشباك نصبت طي الخفا!
يا بلادا لم نجد من مشبة
…
لك في ظل ركاب الحلفا
أنت آمنت بمن لم يؤمنوا
…
بسوى الغدر و (فرق تسد)
فإذا دنياك ليل أدكن
…
ليس للفجر به من موعد؟
نبعة قد غرست ف (لندن)
…
وتلقت من (نيويورك) الظلال
وسقتها بصبيب نتن
…
يد (جنبول) وعاشت في الرمال
ثم ألقت ظلها في الأردن
…
وترامى شوكها حول (القنال)
وأراها في غد أو بعد غد
…
سوف تمتد بشر مستطير!!
وبنو قومي في صمت الأبد
…
لا يبالون وإن ساء المصير!
ألأبناء القصور العالية
…
جيلنا الراسف في أغلاله؟
أم لشذاذ البحار النائية
…
عالم يقضى على آماله؟
أم لهاتيك الوحوش الضاريه
…
ريع حتى الطفل في أسماله؟
أم لمن يا رب تلك الصرخات
…
تملأ الآفاق آنا بعد آن؟
فابعث الرحمة الأرض الموت
…
أو فأحرقها بنار ودخان
يا رفاق الثورة الأولى أحذروا
…
فتنة الدس وكيد الخائنين
فلقد بان الصباح المسفر
…
عن خبيئ وتجلى عن كمين
هوم الركب فلا تنتظروا
…
غير أن يزحف ركب الثائرين
وابعثوها صيحة تحتدم
…
في قضاء الله في عرش السماء
فلقد آن لكم أن تختموا
…
هذه القصة لكن بالدماء
إبراهيم الوائلي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
ذكرى إقبال:
دعت السفارة الباكستانية إلى الاحتفال بذكرى الشاعر الفيلسوف المغفور له الدكتور محمد إقبال، في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية يوم الجمعة الماضي. ولم يكن هذا الاحتفال قاصرا على إخواننا الباكستانيين في مصر، بل كان في أغلبه احتفال مصر بالشاعر الإسلامي الكبير، على أنه كان أوسع من ذلك إذ إقبال لم يكن شخصية إسلامية كبيرة فحسب بل كان شخصية عالمية. .
افتتح الحفل - بعد تلاوة من القرآن الكريم - سعادة السيد عبد الستار سيت سفير الباكستان فرحب بالحاضرين والمشتركين في الاحتفال وأشاد بصاحب الذكرى وفضله في العمل على قيام دولة الباكستان. وأعقبه سعادة الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة باشا بكلمة طيبة قال فيها إن الباكستان ولدت بغتة على يدي بطل من أبطال الإسلام هو شاعرنا العبقري محمد إقبال. وقد ولدت هذه الدولة كبيرة بفضل رجالها الذين جاهدوا في سبيل إنشائها وعلى رأسهم إقبال، ونحن إذ نكرمه فإنما نفعل قياما بالواجب نحونا، إذ أننا حين نكرم هذا الرجل العظيم فإنما نقدمه للشبان أسوة حسنة، فقد كان ذا هدف شريف وهو العمل على رفعة الإسلام.
وألقى الأستاذ مظهر سعيد كلمة عن فلسفة إقبال قال فيها إن هذه الفلسفة مزيج من الفلسفة الغربية والفلسفة الإسلامية وإنها ترمي أفي الخير والكمال في ظل الإسلام. وألقى الدكتور إبراهيم ناجي قصيدة جيدة مطلعها:
حيا وميتا قلدوك الغارا
…
ما أروع الأيام والتذكارا
وتوالى بعد ذلك خطباء وشعراء منهم الشيخ الصاري شعلان الذي ترجم كثيرا من شعر إقبال من الأردية والفارسية إلى العربية، وكان فضله في ذلك ظاهرا، إذ كان كل ما استشهد به الخطباء مما ترجمة هو والأستاذ محمد حسن الأعظمي واختتم الاحتفال بكلمة الدكتور حسين الهمداني الذي قال إن الشكر على المشاركة في إحياء هذه الذكرى ليس لي فقد سمعتم من الخطباء والشعراء أن شاعرنا الفيلسوف لم يكن شخصية محلية، لقد كان جزاء
من التراث الذي قدمه المسلمون للعالم
وقد أصدر قسم الصحافة بالسفارة الباكستانية عددا خاصا بالشاعر محمد إقبال من مجلة (رسالة الباكستان) التي تصدر بالقاهرة. وأذاع راديو كراتشي برنامجاً خاصاً بهذه الذكرى.
وقد استطعنا مما نشر وأذيع عن إقبال وما ترجم من أشعاره إلى العربية أن نقف على كثير من حياته واتجاهه الفكري ونستمتع بنفحات شاعريته، ومما يذكر أيضاً أن الأستاذين الشيخ الصاوي والأعظمي قد أنجزا كتابا عنوانه (فلسفة إقبال) نقلا فيه إلى العربية ديوان إقبال، والكتاب على وشك الظهور. ولاشك أن هذه الجهود كأنها تضيف إلى الأدب والثقافة والمكتبة العربية الحديثة أقباسا منيرة منذ ذلك الأفق المشرق.
ولد محمد إقبال سنة 1873 في أسرة نراهمبة بقرية لوهار بكشمير، وقد اعتنق أحد أسلافه الدين الإسلامي وأصبحت الأسرة بعد ذلك أسرة إسلامية وتعلم إقبال في المكاتب والمدارس الهندية حتى أتم دراسته بكلية الحكومة بلاهور، واتصل فيها بالمستشرق توماس أرنولد أحد أساتذتها إن ذاك. ثم رحل إلى أوربا سنة 1905 قاصداً كمبردج ثم هيدلبرج بألمانيا ثم ميونخ حيث حصل على الدكتوراه برسالة موضعها (تطور الفكرة العقلية في إيران) وعاد إلى وطنه في سنة 1908. ولم يلتحق بخدمة الحكومة لضعف بصره، فوجه جهوده إلى الإنتاج الفكري الحر، حتى توفى سنة 1938.
كان إقبال شاعراً وفيلسوفا، ولكنه لم يكن من أصحاب الأبراج العاجية، بل كان شاعراً بآلام قومه وآمالهم، وكان فيلسوفاً ينظر في أحوال أمته ويعالج شؤونها ويخطط لها طريق المستقبل الزاهر، يجمع شعره بين الأهداف السياسية والاجتماعية وبين المتعة الفنية والغناء الشعري كان يتغنى بمآثر الإسلام وأمجاد المسلمين فيطرب الأسماع ويذكي الحمية ويشعل نار الهمم، وكان يقرع الأعداء بغضب قوله فإذا أغراضهم في إذلال البلاد الإسلامية تنكشف وتتهاوى، وإنما تبعث الأمم المغلوبة على أمرها بالتنوير والتنبيه والتحذير في أول الأمر، وبعد ذلك يفعل الرأي الحازم المستنير كل شئ.
نظر إقبال فرأى الأوربيين يعيشون في صراع وتتكالب على المادة، ونظر أيضاً فرأى تواكل المسلمين وجمودهم، ولاحظ مع ذلك اتجاه هؤلاء إلى الثقافة الأوربية، فلم يجد في ذلك ما يخشاه إلا أن يؤخذ بالظاهر البراق دون النفوذ إلى الجوهر الصحيح - نظر إلى
ذلك ثم ناشد المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم ليتأملوه من جديد في ضوء الفكر الحديث كي يقيموا حياتهم على أسسه الروحية العلمية ومن أسرار عظمة إقبال أنه اغترف من الثقافة الغربية ما انتفع به في تعزيز مقوماته الأصلية، ولم تجر وراء الغربيين بأخذ عنهم كل شئ ويزدري قومه كما يضع كثير مما رأيناهم فتنوا بذلك السراب، وإنما رجع إلى قومه بما يفيدهم من تلك المدينة والثقافة على أن يبعثوا من إمكانياتهم الكامنه ما يوجههم وجهة أجدى على الحياة الإنسانية مما يشاهد في الغرب من اندفاع نحو الأنانية والصراع المادي.
وهاك شيئاً من نفحات تلك الشاعرية في هذه القطعة التي قالها في فلسفة الألم وهي من الترجمة المنظومة التي قام بها الشيخ الصاوي شعلان:
إن الذي لم يدر أنات المساء
…
ولم يسامر عينيه نجم السماء
ولم يحطم جام قلبه الأسى
…
ولم ينر ظلام ليله البكاء
والسادر اللاعب طول عمره
…
لم يستمع إلا إلى عذب الغناء
والعاشق المحروم في غرامه
…
من لوعة الذكرى وحسرة الجفاء
ومجتنى الزهر الذي لم تختضب
…
يداه في الشوك بحمرة الدماء
جميع هؤلاء مهما سعدوا
…
من نعم الحياة بأمن ورخاء
فان أسرار الحياة تختفي
…
عنهم وهم عنها دوامل في اختفاء
مهرجان الأدب الشعبي
أقامت الجامعة الشعبية يوم الأحد الماضي مهرجاناً ثانياً سمته (مهرجان الأدب الشعبي) ولعل القراء يذكرون ما كتبت عن مهرجانها الأول، وكان مما لاحظته فيه أ، بعض الخطباء تناولوا موضوعات داروا فيها حول الروح الشعبي والديمقراطية في الأدب، وقلت أنه كان ينبغي أن يكون للمهرجان موضوع أو فكرة يدور حولها. وفي هذه المرة أسجل للمشرف على الدراسات الأدبية في الجامعة الشعبية وهو الأستاذ علي الجمبلاطي فضله، ومن حيث أثبت أنه ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، فقد جعل لهذا المهرجان محورا هو (الشعبية) وأضافه إلى الأدب الشعبي. وقد قال الأستاذ في افتتاح المهرجان إن روح الاتجاه إلى الشعب قد أصبحت تسود الآداب في العالم الحديث، وإن الأدب لحقيق بذلك، فإن كان للخواص عقول تدرك فإن للعامة قلوباً تحس. ثم قال إن هذا البرنامج يقدم أدباً
عامياً. وقبل أن أناقش موضوع المهرجان ننظر في البرنامج.
كان من المقرر أن يبدأ البرنامج بموضوع للدكتور أحمد أمين بك عنوانه (في الأدب الشعبي بلاغة) ولكنا أسفنا لمرض الدكتور وتخلفه عن الحضور، شفاه الله وعافاه. وقد ألقى الأستاذ كامل كيلاني كلمة بعنوان (الفكاهة في الأدب الشعبي) تناول فيها شخصية جحا وفكاهاته أو فلسفته الفكاهية وساق بعض نوادره، وجحا - كما حقق الأستاذ الكيلاني - شخصية ذات سمات خاصة، وهي مكررة في كثير من الأمم، فجحا العرب هو أبو الغصن دجين بن ثابت، نشأ بالكوفة وعاصر أبا مسلم الخرساني، وقد علم بأمره أبو مسلم فاستدعاه، فأراد جحا أن يتباله أمامه لينجو من أذاه، وكان مع أبي مسلم رجل اسمه يقطين، فنضر إليهما جحا وقال: أيكما أبو مسلم يا يقطين؟ أما جحا أيرلندا فقد كتب إلى صاحبته يقول لها: إنني سيئ الظن بالبريد فلست واثقاً من وصول كتابي هذا إليك. فإن لم يصلك أرجو الإفادة! وأما جحا إنجلترا فهو جورج الذي عزم على أن يقلع عن شرب الخمر فامتنع عنها أربعة أيام، ثم جعل يتمشى حتى كان أمام خمارة، فوقف يخاطب نفسه: مرحى يا جورج! لقد أمضيت أربعة أيام دون أن تذوق خمراً، أنك تستحق كأسا مكافأة لك! ثم دلف إلى الخمارة!
وتحدث الدكتور عبد الحميد يونس عن (ملاحمنا الشعبية) فقال إن النقاد ومؤرخي الأدب درجوا على القول بأن الأدب العربي خال من الملاحم والقصص التمثيلية، إذ قال المستشرقون ومن تابعهم من العرب: أنه أدب غنائي كله، والواقع أن هذا القول خطأ جاءه من أنهم لم ينظروا إلى الأدب العربي نظرة تشمل اللهجة الشعبية التي أنشئت بها قصة (سيف بن ذي يزن) و (عنترة) وسيرة بني هلال، وغيرها، وقد نشأ هذا اللون من الأدب عندما شعرت الأمة بتغلب العناصر الأجنبية عليها، فلجأت إلى البطولة المستمدة من تاريخها لتشبع اعتزازها وكرامتها. وقد بين الدكتور عبد الحميد خصائص هذه الملاحم وفن المنشد الذي يسمى (الشاعر) في التعبير عن معانيها، وخلص من هذا البحث القيم إلى أنه يجب الرجوع إلى هذه الملاحم ليتخذ منهها - بعد التعديل والتهذيب - فن تمثيلي مستمد من البيئة قائم على تلك المثل. وأعقبه المنشد الشعبي سيد فرج السيد فأنشد على الربابة موقعة من موقع أبى زيد الهلالي مع الزناتي خليفة، وقد أطرب ونال الإعجاب بتعبيره
القائم على تنغيم الصوت في مواضعة ورفعة وتشديده عند الحديث عن الشجاعة ومعاني العزة. والواقع أن هذا فن جدير بالأحياء (والتطوير) فهو من الفنون الجميلة المعبرة، ولو أنه جاءنا من أوربا لكان له شأن آخر!
وكانت بقية البرنامج أزجال، وهي طبعاً أدب عامي، ولكن بحث الدكتور عبد الحميد يونس وموضوع الأستاذ كامل كيلاني، ليسا من الأدب العامي، وإنما تحدثا عن ألوان شعبية حديثا أديبا فصيحاً - وقد عقب الأستاذ مظهر سعيد في نهاية المهرجان بأن المؤسسة (الجامعة الشعبية) قامت في هذا المهرجان بحق الأدب الشعبي كما قامت في المهرجان السابق بحق الأدب العربي الفصيح، ونعت الأول بأنه أدب الفصيح لا يعبر عن الأمة، والثاني بأنه أدب الخواص. . .
وبعد فهل الأدب الفصيح لا يعبر عن الأمة؟ وهل اتجاه الأدب إلى الشعبي العامي، ونحن نقبلها على أنها نوع من القول المعبر لا بأس به، ولاشك أن فيها كثيراً مما يعجب ويمتع ولكن ليس معنى هذا أن الاتجاه الشعبي في الأدب طريقة العامية وليس الأدب الفصيح قاصراً عن التعبير عن الأمة. وإلا ففيم هذه الجهود التي تبذل بالتعليم وبالتأليف وبالصحافة وغيرها لتعميم اللغة العربية بين أفراد الشعب، تلك الجهود التي لا تخفي ثمراتها. فنحن إذن نتيجة إلى هدف لغوي هو اتخاذ اللغة العربية الفصيحة لسانا معبراً عن الأمة، وقد يسرناها بالوسائل الحديثة حتى صارت (شعبية) محبوبة، ومن هنا يجب أن تكون الشعبية غير العامية، كما أنها - ولابد - غيرها في تسمية (الجامعة الشعبية) أو (مؤسسة الثقافة الشعبية).
عباس خضر
البريد الأدبي
الذكرى السنوية لميلاد شكسبير
احتفلت بريطانيا في يوم 23 أبريل الحالي بمرور 386 عاما على ميلاد الكاتب الروائي الخالد شكسبير. وقد شاركتها في هذا الاحتفال معظم أمم العالم التي ساهمت هذا في التكريم بأن نشرت أعلامها في وقت واحد على امتداد الشارع الرئيسي الذي يوجد فيه المنزل الذي ولد فيه هذا العبقري في مدينة ستراتفورد أون آفون. ويبلغ عدد الأمم التي اشتركت في تكريم ذكرى شكسبير 80 أمة. وكانت أعلامها ترفرف في منظر خلاب على ضوء شمس الربيع الساطعة.
وقد أشترك في الحفلة التي أقيمت بهذه المناسبة 16 سفيراً ممن يمثلون الدول الأجنبية وعدد كبير من الدبلوماسيين. وقد اقترح المستر لويس دوجلاس السفير الأمريكي شرب نخب هذه الذكرى الخالدة كما تقضي بذلك التقاليد في أثناء حفلة الغذاء التي أقامها عمدة مدينة ستراتفورد اون آفون. ثم أزاح السفير الأمريكي بعد ذلك الستار عن اللوحة التذكارية على ضفة نهر أفون.
وقد سجلت على هذه اللوحة عبارات التمجيد والإطراء للمساعدة الأمريكية التي قدمت لاعادة بناء هذا المسرح المشهور، كما إنها تشيد بكثرة عدد الزيارات التي قام بها الرجال والسيدات الذين حضروا من الولايات المتحدة إلى بريطانيا خلال سنوات الحرب الماضية. وقد تحدث المستر دجلاس عن المنح العظيمة التي قدمها هذا الشاعر للعالم فقال (إذا كان أبناء بلدي من رجال ونساء قد ساهموا في إعادة بناء هذا المسرح كدليل منهم على تقديرهم لذكرى ويليام شكسبير فما ذلك إلا لأنهم يعرفون حق المعرفة أنه ليس في الإمكان تقديم أي مقابل لتلك المنح الجليلة التي قدمها ذلك الشاعر للجنس البشري.
إلى الأستاذ الشرباصي. . .
قلت ما كتبته في الرسالة الزهراء بعنوان (الأزهر في مفترق الطرق). .
ولقد كان لمقالك أثر كبير في نفسي، وشعور ممزوج بالثناء والتقدير، مشوب بالعتاب واللوم. . لأني أنظر إليك وإلى أمثالك في المحيط الأزهري. نظرة التائه في الصحراء إلى الواحة، تتعلق بكم الآمال، وتتحقق على يديكم الأحلام، لأنكم أنتم الفئة التي جابهت روح
العصر، وسايرت ركب الحضارة، وتابعت قافلة الزمن، ففهمتم القديم، ونهلتم من الحديث، فجمعتم الأمرين ونلتم الحسنيين. . . وأعتب عليك يا أستاذي على ما ورد في مقالك (وظهرت في الأزهر كتب جديدة لها قيمتها العلمية أنشأها رجال في الأزهر لهم مكانتهم وثقافتهم) ثم ذكرت منهم عبد الحميد والصعيدي. . وفي الحق أيها الأستاذ الفاضل أننا ننظر إلى مؤلفات عبد الحميد مثل التوضيح لابن هشام في النحو وكتاب السعد في البلاغة، والخبيصي في المنطق للصعيدي، فلم نجد فيها ما يجلو الصدأ، ويمحو التعقيد. فإذا كان نقل الكتب من ورق أصفر إلى أبيض هو التأليف والتجديد. . فيا لضيعة التأليف والتجديد في الأزهر. . . لأنه لم يحدث فيها ما ينقلها من طور إلى طور ومن قديم إلى جديد وللأستاذ الشرباصي تحية إعجاب وتقدير.
محمد القاضي خليل
بمعهد فاروق الثانوي بقنا
اكتشاف لوحة قيمة لأستاذ رفائيل
توجد في (ورويا كاستل) بإنجلترا مجموعة من أندر اللوحات الزيتية في العالم. وقد اكتشف بينها أخيراً لوحة (العذراء) التي رسمها (بيترو بيروجينو) - أستاذ رفائيل - في النصف الأخير من القرن الخامس عشر.
وقد ظلت هذه اللوحة في القصر 150 عاما؛ ويرجع اكتشافها إلى المصادفة المحضة. فقد كان الفنان البريطاني الشهير (هنري هاب) يعمل في تجديد مجموعة اللوحات القيمة الموجودة بالقصر عندما لاحظ وجود لوحة قديمة انطمست معالمها نظراً لطول العهد الذي مر بها.
وعندئذ بدأ المستر (هاب) في إزالة الغبار عنها بكل دقة وعناية - لدرجة أنه كان يخشى أن يعمل أكثر من ساعة واحدة في اليوم - إلى أن تم له أخيراً كشف هذه الدرة الغالية لأستاذ رفائيل.
الكتب
ساعات السحر
للدكتور أحمد زكي بك
هذا نموذج ناضج لأدب المقالة الدسمة ذات الموضوع الخصب. فليست هذه المقالات من هذا الطراز الذي كل هدفه إظهار المحصول اللغوي ولا شيء وراء هذا لضآلة موضوعها وفجاجته، ولا هي من هذا النمط المتهافت الأسلوب العامي الأداء.
ولكن ما هي السمات التي تطبع أدب الدكتور زكي بك؟
فالمقالة قد تتحد في جودة الأسلوب، ودسامة الموضوع، ثم هي تختلف في لباب الفكرة؛ وتتباين في جوهر الموضوع، فهناك المقالة التي تأخذ سندها قيضها من شاعرية الوجدان؛ وهناك المقالة التي تتخذ المنطق وسيلتها؛ والمقالة التي تستوحي روح العلم وتسير بوحي من هداه. ومن هذا الطراز مقالات هذا الكتاب. والذي أعنيه بروح العلم هو استشفاف روحه؛ واصطناع أسالبيه في البحث؛ فهو لا يسبح بك في تلك الأجواء المزيج من النور والظلام، أجواء الصوفية الوجدانية، ولا بلح الحاح أصحاب المنطق وعشاق التفلسف، بل أنت معه في ضوء العلم ووضوحه، وانآده ورزانته. وليس معنى هذا أنه يدخل بك في ميدان العلم وجفاف موضوعيته؛ كلا، بل هو يستوعب ويتشرب روح الموضوع عن طريق فكرة، ثم يأخذ في التفنن والإبداع الفني في تصوير معانيه وتجسيدها وابرازها وإشاعة الحياة في كل ما يعرض؛ فإذا هي قطع فنية من حيث العرض والتصوير علمية من حيث اعتمادها على دعائم الفكر. فإذا قيل أن بعض الكتاب يؤدب الفلسفة، وبعضهم يفلسف الأدب فالدكتور زكي يعلم الأدب ويؤدب العلم؛ لأنه قد وفق في تطعيم الأدب بروح العلم، أو في عرض العلم بحيوية الفن وجاذبيته. هذه هي السمات التي تطبع تلك المقالات التي جمعها الدكتور زكي في كتابه الأخير (ساعات السحر) فأنظر كيف يتناول موضوع الشباب فيلم به من جميع أطرافه في مقالة (يعجبني الشباب إذا) فيقول:(يعجبني الشباب إذا هو تأنق وترقق في غير أنوثة. فيعجبني فيه الوجه الطليق النظيف والشعر الممشوط، فتلك زينة خليقة بابن آدم. ومع هذا فهو عند العمل يخلع التأنق وينبو عن الترقق، فإن كان العمل زيتا أو فحما انغمس في الفحم والزيت ولم يشح بوجهه عن الأعفرة) وبصور دور
الشباب إذا أدرك أن الصبا عهد متعة وكذلك عهد تحصيل. أما المتعة فلأن الشباب أقدر على متعة وأحس لذته، وكل لذة عنده جديدة، وعمره بعد ذلك كعمر الورد قصير. وأما الدرس فلأن الدرس متعة الإنسان لنفسه، وعلى عمد يقيم بناء مستقبله، ومستقبله إذا ساء بكي عليه وبكي وحده وبكى حين لا ينفع بكاء.
ثم لأن الدرس حصة الإنسان في مواصلة المدينة ووفاء بمسؤولية للقبيل وللامة والجيل) وعلى هذا النسق من اتزان الفكر وعمقه وطلاوة العرض ودقته بقدم مقالاته عامة ومقالات هذا الكتاب خاصة.
محمد عبد الحليم أبو زيد
ملائكة وشياطين
للشاعر عبد الوهاب البياتي
ظل الشعر في العراق أقرب فنون الأدب إلى العراقيين. . .
ذلك لأنه قريب من ذلك المزاج العربي الأصيل الذي حفل بالشعر وجعله معبراً عن عواطفه وإحساسه.
وجاءت دوافع السياسة، وبواعث الحرية والاستقلال في أوائل القرن العشرين فأصبح الشعر معبراً عن آلام الملايين وأحلامهم، موقظاً الحماس، راسماً لهم الطريق السوي للانتصار في معركة الحرية، فرأينا موجة الشعر السياسي التي درسها صديقي الأستاذ إبراهيم الوائلي، ممثلة الثلاثة الأعلام من الشعراء العراقيين الكاظمي، والرصافي، والزهاوي. فطغى على سائر أغراض الشعر وظل الشعر السياسي في المقام الأول بعد الثورة العراقية، وإنشاء الحكومة الوطنية، ذلك لأن العراقيين الطامحين إلى حكومة مستقلة تمام الاستقلال، لم يرضوا بحكم تسيره يد خفية وتوجهه وفق مصالحها وأهدافها الخاصة، فضج الشعراء بالشكوى وناضلوا ضد طغيان الحكومات وتدخل الدخلاء، واضطراب الحياة الدستورية. . وما زال بين الشعراء العراقيين من يترصد الحوادث على مسرح الحياة السياسية ليعبر عن رأيه شعر!!
ولا تظن أن العرق أتصل بالثقافة الغربية، والحضارة الأوربية منذ أمد بعيد؛ فالظاهر أن
حوادث السياسة، وتناحر الناس، ونضالهم لتأسيس نظام حكومي متقن صرفهم عن التطلع إلى تلك الآفاق البعيدة في محيط الغرب. غير أن الحرب العالمية الثانية في الفكر والثقافة وأمور الحياة. ففتح الجيل الحاضر عينيه على بيئة قاسية على نفسه، بيئة يتراكم في أرجائها ترأت عظيم من التقاليد الشرقية المحافظة. وهو بعد ذلك يسمع ويقرأ مما عبر إليه الآفاق الرحبة، والآماد البعيدة، وثارت نفسه على تلك البيئة التي لم تحترم هواه، ولم تنفس عن أماني نفسه.
فنشأ عندنا الشعر المنطلق في تعبيره، المنطلق في إحساسه.
وهو بعد أثر من آثار الكبت العاطفي، والحرمان الطويل. .
ولا يكلفك التنقيب عن ذلك مشقة. فسأحدثك عن شاعر شاب يمثل تلك الفئة وهو الشاعر الشاب عبد الوهاب البياتي.
وأول ما يبهجني أن ديوان الشاعر يعطيك صورة واضحة لنفسه. صورة تكون لك الشخصية الفنية في أروع صورة، أدق ملامح، وأرهف تعبيراً.
فالشاعر المنعزل لا تفوتك صورته وهو في محراب العزلة حاملاً على عاتقه رفات أحلامه، وأوراقاً يابسة من آماله وأمانيه:
يا قلب ماذا!. . . كل لحن مات في قيثارتي
اليأس والأوهام والحلم الوجيع ودمعتي
حتى خيالات الجنون تنفست في عزلتي
ولهاثها المسنوم أمطار تسيل بظلمتي
هذا اليأس المرير، والنغم الباكي يلاحظان في كل قصيدة من قصائد الديوان.
وفي كل قصيدة من قصائده تجد هذه العناصر مجتمعة: أسى ومرارة وحرمانا وظمأ ولهفة روحية وضيقاً بالواقع، وخيالا نخلقه تلك النفس التواقة إلى الحرية. حتى حبه الذي يطالعنا به الديوان خيال، وجبيبتة فكرة بلورتها تلك اللهفة الظامئة أنظر إليه كيف يصور محبوبته في قصيدة بعنوان (إليها)
فكرت أنت جسمت أشواقي
…
وأضاءت بنورها أعماقي
واستحمت من قبل ميلان فكري
…
في خيال الطبيعة الخلاق
صورة أنت من قديم الزمان
…
رسمتها مدامع الحرمان
وشعاع الخلود أضفي عليها
…
رائعات الظلال والألوان
فالحب عنده تلك اللهفة إلى المجهول، وذلك الشوق الهائم إلى الصدر الحنون والقلب الرءوم، والنفس الحادية التي تفيض ظلالها العذبة على الشباب المحزون. والديوان كله لا يعطيك صورة لامرأة بعينها بحيث تحس بكيانها المميز، وشخصيتها الواضحة. بل هي فكرة من الفكر. . أو عاطفة من عواطف الشاعر الظامئ إلى صورة مثالية تتكون ملاحمها من الرقة العذبة، والحنان والحب!!
فهذا الحرمان الواضح في الديوان مد الشاعر بقوة على الخلق الفني الممتاز، وأرهف حسه، وجعله يهيم في عوالم من خياله، وانسراح عاطفتهّ. . وفي الديوان رحلات جميلة في عالم الشعور. . . رحلات الحالم المنزوي بصومعة من أحلامه:
وما ذلك الحالم النزوي
…
بصومعة الفكر إلا خيال
يحس بصوت الحياة البغيض
…
يناديه في قسوة أن تعال
فيمعن في حلمه ساخراً
…
بأطيافها الشاحبات الثقال
بمهزلة قيل عنها: الشروق
…
بأفكوهة قيل عنها: الزوال!
وأغلب قصائد الديوان صور وهياكل لصور بعضها موقف أعظم التوفيق لنقل الإحساس إليك. ولا تنتظر مني أن أنقل إليك بعض تلك الصور لأنني أود أن تطالعها هناك في الديوان لتطلع على ناحية مشرقة في الشعر العراقي الحديث. . .
إلى هنا أقف مع الشاعر الشاب لأنفذ إلى بعض المآخذ في الديوان!
وأهم تلك المآخذ ذلك الاضطراب الذي تلاحظه في بعض القصائد، وهو راجع إلى تلك الصور المبهمة التي يخلقها الشاعر، وإلى ذلك الانطلاق في التعبير، والانسياق مع عاطفة غامضة، أو شعور يحسبه ولا يبينه. . وأحس صورة لذلك الاضطراب (حانة الشيطان) فهي قصيدة (سائحة!) لا ترتبط مقاطعها برابطة، ولا تنتظم بوحدة من فكر أو شعور. . تقرأها فسرعان ما تحس بتواكب الصور التي تدفعك في اتجاهات مختلفة، وتنقلك من محل إلى آخر وأنت لا تعرف على أي نظام تسير!
ففي بداية القصيدة تصور بعينين (أطلق جفنها السهر) - يقصد جفنهما! - و (فم على
الأقداح يحتضر!). . ويختتم المقطع الأول بأن جراح الكأس نكأت فارتعشت (آه) يقص جناحها الضجر! وفي المقطع الثاني يصف هذه (آه) كأنها المصباح في الحان، أو كأنها عينان من حجراً - ولا نعرف الصلة بين المشبه والمشبه به!! - وعلى مثل هذه الرابطة تمضي القصيدة. . .
وليس هذا كل ما يلاحظ في الديوان. فهناك تشابيه متضاربة لشيء واحد مثل قوله:
عيناك عاصفة هبت وما تركت
…
على صباي سوى طيف من السقم
عيناك مقبرة في صمتها نسجت
…
عناكب اليأس أكفانا من الظلم
ولك أن توفق بين العاصفة والمقبرة الصامته!!
وفي الديوان كثير من التعابير لم أستسغها من نوع (النجم) فيه ضحكة سوداء أيبسها الأوام) و (حيث الأزاهير لا تضيق إلا على همس الطريق) وآه (كأنها عينان من حجراً أهدابها أنفاس سكران)!! ومثل هذه التعابير.
ولكن هذه المآخذ القليلة لا تمنعنا من أن تقول: أنه شاعر موهوب.
غائب طعمة فرحان
القصص
دموع من الماضي
للأستاذ أحمد شفيق حلمي
وهرعت إليك يا سيدي العمدة، لأنفض بين يديك جل أمري، من همومي وأتراحي. . . وأنا حطيم القلب كسير الخاطر. وأنت تعرف كيف يقتل القلب الحزن المضيء والبكاء الأسيف! وكيف يعصر الروح أنين الثكالى والنواح الحزين!
(فرج الله) ولدي الوحيد يا سيدي العمدة. (فرج الله) ربيعي في الخريف العابس! أظنك تعرفه جيداً! لقد حدثتك عنه ودموع الفرح تتراقص في عيني. . . بل أنت نفسك قد ساهمت في وجوده! لقد ولد بمالك المبارك، فأرسلت للقابلة أن تأتي، وزوجتي (فطومة) تعاني آلام المخاض، وتتلوى كالثعبان! أرسلت في طلبها من أجلي أنا الأجير المسكين. فاكتحلت عينا طفلي بالنور على يديها المباركتين الصالحتين. . . واندفعت وقتذاك نحوها بفرح ألح عليها أن تأخذ بطة سمينة، وثلاثة أقداح من الذرة، وهي كل ما أملكه حينذاك! كدت أذوب خجلاً وأنا أتقدم إليها بالهدية المتواضعة. ولكن ما العمل وضنك العيش بدفع بنا إلى الفاقة!؟
وأظنك تذكر ذلك الفرح العظيم الذي أقمناه، وقد أتم (فرج الله) سبعة أيام من عمره. . جاءت المولدة في الصباح، ومعها من البخور أصناف شتى من المسك والكافور، وبعض أنواع النباتات الخضر. وأقبلت نحو فطومة، وقبلتها في وجهها، ثم جعلت تتمتم بدعاء خاص. . . وهي تهز شيئاً تحمله فوق رأسها، ثم أنهضت فطومة، فأطلق البخور. . . ولفت حوله سبع مرات والأطفال تتصايح في مرح، وراحت المولدة تطوف في أرجاء الدار، والطفل بين راحتيها، والنسوة من حولها يلقين الملح على الرءوس، ويهللن بالأفراح!
وتقدمت أنا وألبست الطفل حجاباً يحفظه من الأرواح الشريرة، وأخبرتني بعض النسوة أن أحمل معي ليلة الجمعة الميمونة ملابس الطفل إلى ضريح الشيخ الأتربي، وهناك أغمسها في الماء المبارك الذي غسل به المقام الطاهر كي يطيل الله في عمره، ولكني في غمرة الفرح بطفلي نسيت أن أفعل وأسفاه.
- 2 -
وكانت فرحة لم تتم، وبشر ذاب في موجات الأسى والحزن.
إني أذكر يا سيدي العمدة، ما قالت القابلة وقتذاك. . .؟ فانتزعنا فرج الله من بين أحضان أمه الحبيبة، وهي من الأسى ترسل الدموع سخينة حارة من أجل فرج الله، وقد ضرب بينها وبينه بحجاب، فهي لا تراه وهو لا ينعم بها. وما العمل وقد فرق المرض اللعين بين أم ووليدها!
وطفق الصغير ببكي في لوعة، وأنينه اللهيف إلى أحضان أمه الحبيبة لا تنقطع أسبابه أبداً. . لا تسألني وهو الوليد منذ ليال كيف يبكي؟ كيف يفهم أن هذه المرأة هي أمه؟ بربك لا تعجب! فهذه صلة الأرحام، وحكمة عالم الغيوب!
كان فمه الدقيق كفم الثعلب ينفرج في بطء، ويداه اللدنتان كريان البرسيم تضربان الهواء بعنف، وقدماه العاريتان تحاولان الخلاص من الغطاء السميك، وقد أحكم حول جسده خوف الزمهرير. .
كان يبكي من أجل الرضاع، من أجل ثدي أمه الرءوم، وقد انتزع منع انتزاعاً! فعلت المستحيل لأسكن من بكائه الدائم، فطرت إلى الغيط جزعاً ملهوفاً، وعدت فرحاً بقدر مملوء باللبن والحليب. وتقدمت نحوه بقلب واجف، وخطى خفيفة، ولساني يلوك الدعاء لولي بلدنا الصالح الشيخ الأتربي. إني أخشى أن يصرخ. إني أخشى من كل شئ أن يمسه بسوء، وحملته بحنان بين راحتي، وتحسست الحجاب الملتف حول عنقه الصغير، وأنا أبتهل للأولياء الصالحين ألا يبكي فيمزقني ألماً وحسرة. واحتضنته بناظري متوسلاً مشفقاً، واقتربت أصابعي بالزجاجة من فمه الصغير. لم يبك فملأني الفرح، ولبستني الشجاعة، وانسابت قطرات اللبن في فمه الصغير. . . آه يا قلبي! لقد صرخ، وضرب بيديه الهواء بعنف، فانفلتت الزجاجة من بين أصابعي، وسال اللبن على الحصير القذر، فوسدت ولدي الفراش، وتركته يائساً وأنا ملتاع النفس حزين!
- 3 -
خرجت إلى الطريق، وقلبي أشبه بقلب كل أب، رقيق كالغصن الأخضر، صاف كعين
الديك، حنانه يحاكي حنان الأم! خرجت أتعثر في الحارات، أضرب أخماساً في أسداس، وأنا أسير تحت كابوس مفزع ثقيل الوطأة. . . رأسي أشبه بساقية تصر في نواح كئيب، قدماي من فرط الضنى تنوءان بحملي. . .
وجعلت أخبط كالأعمى في مماشي الحقول، وقد نبت فيها السريس والجلوين. رأيت جماعة من الفلاحين في ظلال وارفة تنبسط تحت شجرة جميز ضخمة، والبشر باد على محياهم، والسلام ران على قلوبهم. . . رأيتهم يأكلون مشاً وبصلا وحزمة جلوين! ولمحت إلى جانبهم ثوراً وجاموسة يلتهمان عيدان ذرة. لشد ما أتلهف اليوم إلى ذلك السلام العجيب، وقد لفع القرية بوشاح المحبة والأمن الخير. . . وأنفاس الريف الهادئة تنفث في سكانها الحياة! الشمس ساطعة، والحقول الخضر منبسطة أمامي على مدى الطرق. . .
والديكة تنبش الأرض وتصيح. . . والأوز يعوم في القنوات المعشوشبة، وأبو قردان يحط في أسرابه البيضاء على هام النخيل، يرقب عن كثب ثوراً يحرث الأرض، وصاحبه يحثه على العمل وهو صبور يغني. . . يا لله! الكل فرح راض بما قسمت له يا رب، أما أنا الحزين المهتاج فقد كدت أسقط في جدول ينساب في حقل باشا عظيم!
وأخيراً وصلت إلى امرأة عجوز صالحة، ونفضت بين يديها ما ناء يحمله قلبي. قالت لي: لا تحزن يا بني، وإني لأعجب كيف يعصر اليأس قلبك، وبركة الشيخ الأتربي تعم القرية، وتفيض على شاطئيها)!!
ثم استطردت تقول: أتعرف أم عمروس جارتنا الصالحة المؤمنة؟ اذهب إليها فهي طيبة القلب، ويداها مملوءتان بالبركة، علها تعود معك فتشفى طفلك السقيم، وخذ معك لها من (الدوار) فطيراً وبلحاً). . .
- 4 -
وبقلب طيب خاو إلا من رحمة الله، اتخذت طريقي إلى مقام الشيخ الأتربي. وهناك توضأت من المبضأ النظيفة، وصليت لله ثم تلوت بعض الأوراد، ولم أنس أن أقبل قضبان الضريح، وأن أطوف حوله سبع مرات، وأنا أهمس بكلمات من ذوب قلبي ثم خرجت من المقام، وأنا أحس بالريف الحبيب! حقوله الخضر فسيحة كالأمل. . . يمرح فيه المساكين! هواؤه المنعش، ندى كحبات الطل، يهمس للزهور في غمرة الخريف! الدنيا كلها ترقص
فرحة طروبة
ووصلت إلى كوخ مسقوف بالبوص تسكنه (أم عمروش) المرأة الورعة المتواضعة. أخبرتها بما حدث، ثم ناولتها فطيراً مندى باللبن الرائب، وتوسلت إليها أن تعود معي إلى الطفل المسكين، فسألت (كم أجري؟ وأين مسكنك؟) فقلت: أما المسكن فهو قريب من هنا، وأما النقود فأنا مفلس منها!! أرجو منك يا أم عمروس أن تنقذي ولدي، استحلفك بيوم الحصاد وهو قريب، أن تعودي معي، وهنا قد يأتي الفرح فأعطيك ما سوف أستدين!
وطالت المساومة، واعتدم الجدال، وهي لا تلين ولا تستجيب لرجائي. فهممت أن أرجع يائساً أمري لخالقي حلال المشكلات!
ولما ابتعدت عنها نادت بصوت مرتفع: انتظر يا عم مخلوف سأذهب معك، والله يفك كربتي كما أن أفك كربة الناس! وطرنا إلى البيت أنا فرحان مطمئن، وهي لاهثة تحث الخطى ورائي
- 5 -
طفلي الحبيب يطعم بعد جوع، ويسمن بعد هزال!؟ لك الله يا طفلي، وقد نادت أيامك السبع بالأتراح. وأنت تخطو وتيداً على أبواب دنياك! وما ذنبك أيها الحبيب الغالي والدنيا شرور وآثام!؟ أمك وأبوك يعضهما الفقر ويعصرهما الحرمان.
أبوك يا (فرج الله) فلاح مسكين يروي الحقل بعرقه ويحصد الهشيم آخر السنة! صاحب الحقل يلح في طلب الأجر، ومالك الماشية يقصدنا مع الهلال العربي كأنهما على ميعاد!. والدائنون النهمون يزمجرون في غضب، ويتوعدون بحقد مرير وليس للفرار منهم من سبيل! كم يبقى له بعد ذلك إلا الحزن يضنيه. والأسى يعصره. . . وهموم العيش ترمي به في أحضان الحرمان!؟
ولكن (فرج الله) سيجعل ظلامي فجراً باسماً. . سوف يأتي الرغد يحث الخطى خلف صفحته المضيئة. . تكثر الآمواه في الترعة، ويزدهر الحقل، ونجى الثمر فيكون خيراً عظيماً.
. . . وأفقت يا سيدي العمدة على عتبة داري، والنحيب المحرق يطرق مسمعي بقسوة، وزوجتي (فطومة) تصرخ وتصيح:(ولدي! ولدي)! والنادبات من حولها يلطمن الخدود،
ويضربن على الصدور، ويتمايلن كالمجنونات!
ورفعت رأسي الأشيب لأشهد ما جرى، ثم أطرقت إلى الأرض، وتحدرت على وجهي الشاحب دموع سخينة. .
وساد المكان صمت كئيب ثم استرطد يقول:
(أعرفت ماذا جرى أيها العمدة؟)
ثم أشرقت عيناه بالدموع. . وهو يتثبت بخيط رفيع من الماضي يقص منه مأساة دنياه:
(وهناك في الحقل لمحني الناس أخبط في طريقي، إلى أين؟ لست أدري! وعلى الأعشاب الخضر في مماشي الحقول كنت أحث الخطى كأنما تقول لي أنفاس خفية! إلى هناك. . .؟ وبعد هنيهات تسلك قدماي إلى مقام الشيخ الأتربي، وغمر الكون حين ذاك تسابيح عطرة، تنساب مع سكون الريف إلى أعماق الناس! تدعو لمبدع السكون بالصلاة.
أحمد شفيق حلمي