الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 879
- بتاريخ: 08 - 05 - 1950
صور من الحياة
قلوب من حجر
للأستاذ كامل محمود حبيب
. . . سمعت حديث الفلاح الذي حطمته رزايا الحياة وطحنته بلوى الزمن، فأحس مرارة العيش حين مكر به الطبيب فاستنيه من قوت عياله ومساك روحه لبذر ابنه بين يدي الإهمال يتهاوى تحت صفعات المرض القاسية حتى لفظ نفسه الأخير؛ وحين قسا عليه سعادة البك فامتص زهرة شبابه وغضارة عمره ثم ضن عليه بفضلة من المال كان يترجاها عسى أن تشبع شره الطبيب فيحنو على ابنه المريض المعنى؛ وحين طرده رب العزبة من رحمته فقذف به إلى عرض الشارع وحبس عنه صبابة من رزق تقيم الأود وترد غائلة الجوع. . . سمعت حديثه فتدفق في قلبي أنات نفس آدها الحزن وأمضها الأسى، فران على المجلس - مثلما ران على - صمت فيه روح الرثاء، وشمله سكون فيه معنى العزاء، وتراءى الشيخ في حديثه كأنما يوقع ألحان روحه على وتر أصابه الوهن والبلى فهو يوشك أن ينقد من طول ما عانى لولا بقية من عزم وإيمان، وأحس كل واحد من رفاقي بتاريخ نفسه المكلومة يهتز فيهب من غفوة ويصحو من سبات، وهفت الأنفس إلى أن تنفض شكاتها على عيني وإن لكل واحد قصة بتوثب الظلم من جلالها ويفور الجشع من أضعافها ثم تظفر ثورة القوة باستخذاء الضعف وتصرع كبرياء الثراء ذل المسكنة، ولكني أطرقت في صمت كأني أستروح من تعب وأتنفس من ضيق.
يا عجباً! هذه النفوس التي كانت - منذ ساعة - تتألق بالبهجة وتهتز بالمرح، قد استحالت - في لمحة واحدة - إلى زفرات حرى تفعم الجو بالشجا والشجون لأن الماضي العقيم قد صحا فيها فنسفها نسفاً!
وآذاني أن أجلس في هذا المكان الجميل، في مهرجان الربيع، بين الصمت والإطراق أسمع أنات صامتة وأحس شكوى مكتومة، فقلت (ما بالكم قد سيطر عليكم الأسى وغمركم الوجوم كأنكم كنتم تجهلون؟
فقال قائل (آه - يا سيدي - إن الضلوع هنا لتنضم على حسرات مرمضة لو زفرت على هذا الربيع الأخضر لاستحال - دفعة واحدة. . إلى هشيم تذروه الرياح، وإن النفوس لتكتم
أشجانا لو اندلعت لاضطرمت الدنيا بجحيم يتلهب أوارها، ولكن الصبر. . . الصبر والإيمان، يا سيدي!)
وقال آخر (عزيز علينا أ، ننشر عليك من خبت الحياة ما يزعجك فيفقدك متعة كنت تتمناها هنا).
وقال ثالث (إن اليد التي تلوثها الجريمة مرة واحدة هي آثمة لا ترحض تستطيع مياه الأرض أن تغسل عنها الرجس، وإن القانون الذي يكبل بالحديد من يسرق كيزان الذرة ليرد بها سغب أولاده الجياع ليعجز عن أن يردع اللص. . . اللص الذي يتسربل بالغنى والجاه فيستلب من الفقير قوت يومه وهو أحوج ما يكون إليه!)
وتناثر الحديث حوالي يئن بالشكوى حيناً ويغلي بالثورة حيناً، فقلت (وي كأن في الحياة سراً قبيحاً بتواري خلف أستار الطبيعة الوضاحة وهي تتألق بالحسن والجمال!)
فقال قائل: (لو شئت لكشفت لك عن أسرار من الشجن، ولهتكت حجاباً عن خفي من الألم).
فقلت: (هاتة)
قال: أما قصتي فهي قصة الغلظة التي لا تعرف الرحمة، قصة القسوة التي لا تؤمن بالشفقة.
لقد غبرت زماناً أعيش في عزبة رجل من ذوي الثراء والجاه أقنع بالكفاف وأرضى بالشظف، أغدو إلى الحقل لأنزف قوة الشباب وفراهة الفتوة، وأروح إلى الدار لأسكن إلى عطف الزوجة وحنان الولد، لأجد إلا أجر يومي وإلا غلة قراريط تافهة أستر بها عورة الأهل، وأرد بها شماتة العدو. وأنا - إذ ذك - فتى في فوره النشاط وذروة الصحة، لا أنكص عن عمل ولا أنكل عن جهد. وتناهي خبري إلى صاحب العزبة فشملني بعطفه وغمرني بفضله فأحسست بالرخاء والخفض، ولمست الهدوء والراحة.
وغاظ رئيس العمال أن أفوز بحظوة رب هذا الأرض وأنا عامل حقير، في رأية؛ وخشي أن أستلبه مكانته أو أن أنتزعه من مركزه فأنطلق ينفت سمومه حولي ويدرس لي السم في الدسم، وأنا في لهو عن نوازع نفسه الشريرة، وفي غفلة عن دوافع روحه الوضيعة.
وذهبت جهود الرجل هباء حين أعجزه أن يسول لصاحب العزبة برأي، أو يوسوس له بأمر، فانطوى على هم يتنزى في صدره فيسلبه القرار والسكينة، وهيت روح الشر في
نفسه جياشة تدفعه إلى غاية، فراح يرهقني بالعمل ويضنني بالجهد ويتعهدني بالإهانة، وأنا أحمل النفس على الصبر وأكرهما على الصمت.
وضاقت حيلة الرجل فركب رأسه فدس لي رجلاً من العمال يتحرش بي - أثناء العمل - في قسوة، ويثير كوامن نفسي في سفاهة، فلما حاولت أن أرد الكيد نحسر صاحبه لم يرعني إلا كيف العامل الأجير تهوى في عنف على وجه رفيقه. . . وجهي أنا. . . فطار للطمة حلمي، وثارت كرامتي، اندفعت صوبه أذيقه وبال جهله وغفلته. واستصرخ الرجل رفاقي فجاءوا يحمون الظالم من المظلوم، وأقبل رئيس العمل يتهدد ويتوعد، فأغلقت سمعي من دون كلامه ثم تركت العمل - توا - إلى حيث صاحب العزبة، رب هذه الأرض، وسيد هؤلاء الناس.
ووقفت بين يدي صاحب العزبة أقص قصة المعركة التي اجتاحت العمل والعمال هناك، في الغيط. ونفضن صاحب الأرض بنظرة قاسية ثم قال:(أحقاً ما تقول؟)
قلت (إي وربي)
ثم تزامر الناس في صحن الدار، وجاء العمال - رفاقي - يزورون حديثاً يبتغون به مرضاة الرئيس، ووقفت مرتبكاً أنظر حوالي في ذهول، أفتش عن الحقيقة وهي تتوارى خلف سجف من الزور والبهتان، فما وجدت في هذا الجمع رجل صدق وإيمان، وأسقط في يدي فملكت عن الحديث واستسلمت.
فقال في ثورة (إذن حكمنا عليك بكذا وكذا من الجنيهات تدفع بعضها عاجلا والباقي آجلا، وموعدنا محصول القمح).
فقلت في توسل (وأنى لي - يا سيدي - بهذا المبلغ الكبير وأنا رجل فقير؟) فقال في كبر: (لست أقبل مراوغة ولا مماطلة ولا دفاعاً) قلت (ولمن يكون هذا المبلغ الجسيم؟) قال (ومالك أنت ولهذا؟ ألا تعلم؟ إنه لصاحب الأرض التي امتهنت كرامتها واستجدت حرمتها وعبثت بحماها، لصاحب العمل الذي ضيعته وبذرت فيه الفوضى، لي. . .) وعجبت لحديث هذا الثرى الشره فأردت أن أقذف في وجهه كلمة عنيفة جاسية، فقلت (أو ترضي - يا سيدي - أن تنتزع مني قوت عيالي ومساك روحي غضباً؟) فقال في ترفع (هذا كلام رجل خلو من الأدب خلو من الحياء، أخرج فأنت مطرود منذ الساعة).
وخرجت من لدن صاحب الثراء العريض أجرر أذيال الخيبة والفشل وأحس مس الفاقة والضياع.
وجذبني الأمل إلى رفاق سيدي وإلى ذوي قرابته، أستعينهم واستعطفهم، عل واحداً يشفع لي لديه فيخفف من حكمه ويرد علي عملي، ولكنني وجدت قلوباً صماء لا تلين، وعقولاً مغلقة لا تتفتح، وأبواباً موصدة بأقفال من الكبرياء والترفع، فرجعت إلى أهلي أحمل في نفسي همين. هم التعطل وهم الجوع.
وانطوت الأيام تنضج قمحي وفي النفس أمل وفي البطن شهوة، فما راعتي الأعمال صاحب العزبة يبكرون إلى حقلي - على حين غزة مني - يحصدون القمح ويحملونه إلى حيث يكون بيدراً صغيراً بين بيادر كبيرة. ووقفت أنظر ومالي بهم من يد فأدفع الظلم أو أظفر - عنوة - ببعض قمحي وهو جهد السنة وأمنية القلب.
ونظرت حولي فإذا الناس يهتزون من فرحة أيام الحصاد ويستمتعون بلذة الجني، إلا أنا. . . فيا لقسوة الحرمان! ويا لمرارة الضيق!
ولا عجب - يا بني - فإن الإنسانية حين تتهاوى تسفل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
كامل محمود حبيب
صحائف مطوية في السياسة العربية
محاضرة عن الإسلام
للأستاذ أحمد بك رمزي
في يوم من أبام شهر يناير سنة1936، وكنت أشغل وظيفة قنصل مصر في مدينة القدس، زارني وفد من هيئة جمعية الشبان المسيحية، وقدم إلى برنامجاً عن محاضرات العام، وأشار الوفد إلى دعوة حضرة الأستاذ أحمد بك لالقاء محاضرة عن الإسلام في دار الجمعية.
وذكر لي أن العادة جرت عند تشريف أستاذ مصري ذي مكانة خاصة، أن يرأس الاجتماع قنصل مصر لتقديمه، ولذلك عرض الوفد أن يكون الاجتماع برئاستي، فإذا قبلت هذا وجهت الدعوة مع ذكر اسمي عليها، وقد تمهلت في القبول؛ فلما لمس الوفد ترددي، أطلعني على نماذج من بطاقات الدعوات السابقة فقرأت عليها أسماء من تقدموني في هذا المنصب. هنا لم أجد ما يدعو إلى رفض هذه الرئاسة، وهي بطبيعتها شرفية أوقل ذات طابع صوري، وليس فيها ما يدعوا إلى تحضير كلمة مطولة؛ وإنما يقتصر التقديم على إلقاء عبارات معينة معروفة. فوعدت الوفد بتلبية دعوته وخرج من عندي وقد اقتنعت من جهتي بأن المسألة قد انتهت ولم يعد هناك ما يبرر العودة إليها.
ولكن في يوم الاثنين 20 يناير سنة 2936 وقد بدأت عملي كالعادة، وجدت على مكتبي عدة برقيات فيها ما يأتي.
(ترؤسكم جمعية الشبان المسيحية التبشيرية الاستعمارية، إساءة إلى عرب فلسطين ومسلميها، الذين يرون في هذه الجمعية خطراً يهدد كيانهم الديني والسياسي).
وقرأت في برقية بإمضاء الأستاذ عجاج نوبهض ما يأتي:
(عرب فلسطين مقاطعون جمعية الشبان المسيحية منذ الاحتلال، لكونها رائداً مقنعاً للاستعمار وللان لم يقف خطيب عربي مسلم على منبرها، فخطبة الأستاذ أحمد أمين تحت رئاستكم، جارح لكرامة مليون عربي؛ فأحرار شباب العرب باسم الكرامة القومية يرجونكم العدول).
ولم أكد أقرأ هذه البرقيات وما يحتويه بريد الصباح، حتى جاء وقت المقابلات والزيارات،
فإذا في مقدمة الحاضرين وفد عربي، يتقدمه حضرة نبيه بك العظمة والأستاذ الصديق سامي السراج، ولما انتظم المجلس، بدأ الحديث عن المعرض الزراعي الصناعي الذي كانت تقيمه الجمعية الزراعية الملكية في ربيع سنة 1936، وعن رغبة أهل فلسطين العرب في زيارته، لما لهمن أهمية خاصة في توطيد علاقتهم مع مصر الشقيقة الكبرى، ثم انتقل الحديث وكأن لا صلة بين الموضوعين إلى المحاضرة، التي أزمع الأستاذ أحمد أمين بك على إلقائها بجمعية الشبان المسيحية، فكان من رأي الوفد المبادرة إلى الاعتذار عنها. أما أنا فقد أكتب للوفد أنني سأمكن أكبر عدد من أهل فلسطين من زيارة المعرض المصري، والتعرف إلى إخوانهم المصريين. أما فيما يخص الاعتذار عن إلقاء المحاضرة، فقد أبنت لهم بوضوح أنني قد وضعت كلمة لتقديم لمحاضرة أنني قد ارتبطت مع هيئة لجمعية وسأقوم إلقائها على كل حال سواء حضر المحاضرات أم اعتذر عن إلقاء محاضرته، وكان مما قلته لحضراتهم وهم يذكرون ذلك جيداً (من أين تأتون لي بفرصة أخرى نتكلم عن الإسلام في قاعة جمعية مسيحية؟ أوجدو إلى هذه الفرصة في مكان الجمعية كما تقولون أو أي مكان آخر ينطبق وصفها عليه من ناحية التبشير والاستعمار كما تقولون، وأنا مستعد للتراجع وجعل الإلقاء في هذا المكان الذي تختارونه. أنني لا أنظر إلى المسألة من هذه الوجهة بالذات وإنما أقول أن فلسطين في حاجة ماسة إلى جمع كل القوى التي يمكن أن تلتئم مع عمل القائمين بنهضة العرب وكفاحهم.
ولا أشعر بأن هذه الجمعية ضدنا بل هي أمام تيار الصهيونية الجاف من مصلحها أن تقف في صف العرب، ومن مصلحتنا أيضاً أن يجعلها في صفنا؛ وان لم تقف معنا الآن فسيجرفها التيار حتما ويقتلع جذورها معنا).
وفي صباح يوم 23يناير قابلت المستر فرنس وكان يشغل وظيفة مدير المطبوعات لحكومة فلسطين - التقت به في ردهة فندق الملك داود فاخبرني بأنه اطلع على جرائد الصباح العربية وقال (إنها قد خصصت جزءً كبيراً من أعمدتها للاحتجاج عليك وعلى الأستاذ أحمد أمين بك. فماذا سيكون أمام هذه الحركة؟). قلت قد أعددت كلمة لتقديم الأستاذ وسأحضر لالقائها في الموعد المحدد كما اتفقنا، وللآن لا أعلم عن مجيء الأستاذ شيئاً.)
ولما ذهبت إلى دار القنصلية المصرية وجلست لعملي أعطيت لي مكالمة تليفونية مع
حضرة الأستاذ أحمد أمين بك وكنت لم أتشرف بمعرفته بعد، فقال لي (أنه حضر إلى القدس وهو يسعده أن يقابلني) فلما سألته أين ينزل حتى أقوم بزيارته أولا، لم يشأ أن يعلمني بالمكان الذي نزل فيه وإنما اخبرني أنه سيحضر لزيارتي في الساعة الثالثة. ولما حضر في الموعد قال لي (أعذرني لما سببته لك من متاعب).
قلت له (لا محل للاعتذار إذ أنني لم أتعب نفسي لشيء بعد) وهنا التفت إلي وقال أنه مستعد لإلغاء المحاضرة إذا كان الاستمرار في مواجهة الحالة القائمة قد يسبب متاعب لي.
قلت له: (أننا غير مسئولين عما تأتي به الأقدار، ولقد وضعنا في هذا الموقف فعلينا أ، نقبل به ونسلم، وأن نواجه المتعنتين بالمنطق الذي يتفق مع الموقف).
وهنا قلت له: (ترى لو دعي مبشر للخطابة عن المسيحية في مسجد إسلامي، أتظن أنه يترك هذه الفرصة تفلت من بين يديه؟ أقول هذا وقد اطلعت على ما نشر عن بعض المبشرين الذين أقحموا أنفسهم ومن غير دعوة سابقة، فتقدموا للخطابة وسط الجماهير الإسلامية عند انتهائهم من صلاة الجمعة، فكانوا في موقفهم هذا دعاة يدعون إلى دينهم بطريقة لا يستسيغها العقل. ومع ذلك فنحن مدعوون، فكيف نعتذر عن انتهاز فرصة مثل هذه؟ أما من ناحيتي فقد عزمت على تقديمك بكلمة وسألقيها على كل حال). فلتفت ألي وقال (نعم ليس من الرجولة في شئ أن نعتذر الآن) قلت (أنني أن أتردد من تقديمك ولكني أن أعلمك بأن تقديمي سيأتي في كلمة أطول من المعتاد. حتى أرد على هذه الحملة القائمة والتي أعتبرها هامة جداً في نظري بحيث إذا لم أوقف في الرد عليها فلن أستطيع أن أقوم بأي عمل إنشائي في هذا الحقل العربي هنا).
وافترقنا بعد أن أعلمني أنه سيلقي كلمة في نادي مدرسة روضة المعارف الإسلامية (لا جمعية المقاصد الإسلامية كما ذكرها عزته في الصفحة 247 من كتاب (حياتي) فإن جمعية المقاصد الإسلامية هي في بيروت وليست بالقدس) وسئقدمه هناك لجمهور المستمعين المسلمين حضرة الأستاذ حسن الأستاذ حسن أبو رحاب.
وجاء موعد المحاضرة في دار جمعية الشبان المسيحية، وهي دار جمعية الشبان المسيحية، وهي دار فخمة متسقة الأرجاء - أرجو أن يكون للمركز العام للشبان المسلمين مثل هذه الدار في مدينة القاهرة - وقد خصص لالقاء المحاضرة البناء الذي يشغله المسرح،
فامتلأت مقاعد بالمحاضرين وتقدمت بإلقاء كلمة لا أجد غضاضة في نفسي من نشر بعض مقتطفات منها. وقد حدث فعلاً أن الجرائد العربية التي وجهت اللوم إلينا نشرت في أعدادها الصادرة في يوم الجمعة 24 يناير وفي مقدمتها جريدة اللواء وجريدة الدفاع كلمة التقديم وأشارت إليها وإلى أهميتها كما نشرت بقية الجرائد العربية مقتطفات من هذه الكلمة. ومن تلك اللحظة شعرت بان صلاتي مع هذه الكلمة. ومن تلك اللحظة شعرت بان صلاتي مع الجرائد العربية في فلسطين قد دخلت عهداً جديداً من الثقة والتفاهم والتعاون. وأحاطني الكثير من أهل الرأي بتشجيعهم وعطفهم.
وأنى أنقل للقارئ بعض ما جاء في مقدمة هذه الكلمة لأنها من أثمن ما اعتز به في حياتي:
قلت: لقد جاء الإسلام بدعوة عالمية، نشرت بين الناس ديناً وتعاليم وأفكار، جاء بدعوة نفخت فيهم روحاً جديدة، جعلتهم يلتمسون صلاح آخرتهم بإصلاح دنياهم، حينما أخذوا يتطلعون إلى حياة أرقى بما كانوا فيها، حياة يطمئن إليها العقل ويرتاح إليها الإيمان.
ولم تمض غير سنوات قليلة على أتباع هذه الدعوة وأنصارها، حتى أصبحوا قوة هائلة أخذت تفرض نفسها على جزء كبير من العالم المعروف وقتئذ.
فأثرت في حركته وسيرة وتطوره، وبرزت قوة الإسلام في تاريخ الإنسانية واضحة ظاهرة لا يمكن إخفاؤها أو التقليل من شأنها.
ومنذ ذلك التاريخ لفتت هذه الدعوة الأنظار، وأخذ الباحثون ينقبون عن منشأ هذه الحركة، ويتعرفون أسباب نجاحها وانتشارها ومدى أثرها وسر بقائها إلى اليوم.
(والإسلام ككل حركة عالمية، انقسم الناس في الحكم عليه إلى فريقين: فريق يشمل أصدقاءه وأتباعه وأبصاره ومن أراد أنصافه من غير أهله. والفريق الآخر يجمع الخصوم والأعداء أو الذين لم يجدوا في أنفسهم، ما يدفعهم إلى التعرف على محاسنه أو الافرار بتراثه).
(فمن أولى البديهيات أن نعمل على أ، يتعرف غير المسلمين حقيقة هذه الدعوة ومراميها وأهدافها وما أحدثته هذه الرسالة من نتائج).
(ومن أحق من أهلة أن يحدث الناس عنه؟ وأن يظهروا محاسنه؟ وأن يزيلوا ما علق خطأ بأذهان الناس عنه؟ نتيجة دعاية الافتراء عليه والتسليم بعدم إنصافه.
لهذا كله لبيت هذه الدعوة، وكان أمامي ثلاثة دوافع لو جاء واحد منها على انفراد لكان وحده كافياً للتشجيع إلى أجابتها من غير تردد أو توقف:
أولها - واجب الرجل المؤمن الذي لا يخشى إلا الله في عمله وتصرفاته.
ثانيها - مكانة الأستاذ المحاضر ومقامه العلمي وثقتنا فيه.
ثالثها - ما أظهرته الجمعية بدعوتها لنا من التقرير للإسلام كدين من الأديان الكبرى، فضربت لنا كما قلت مثلاً لحرية الفكر وأظهرت نية طيبة، أن أوسعت لنا صدرها لأنصاف الإسلام في دارها فيجب علينا أن نقابل هذه النية وأن نلبيها)
وأظن أنني قد عرضت بهذه المقدمة إلى أهم ما يدور بخلد كل فرد مسلم منصف، وهنا رأيت ألا أتأخر بعد حديثي عن الإسلام أن أشير إلى تأكيد العلاقة القائمة بين مصر والأقطار العربية وفلسطين بصفة خاصة فأوضحت ما يجول بخاطري بالكلمة الآنية:
لست بحاجة إلى تقديم الأستاذ إليكم، فهو رجل معروف بعلمه وثقافته في الأقطار العربية؛ إذ هو في طليعة المجاهدين في خدمة الأدب العربي وبعثة. ولقد سبقته شهرته إلى هذه البلاد ككاتب ومؤلف وأستاذ فهو ليس إذن بحاجة إلى التعريف والتقديم)
(بل أقول أكثر من هذا: أنني لا أشك لحظة واحدة بأن في هذا الجمع كثرين في استطاعتهم أن يحدثونا عن علم الأستاذ وأثره ومؤلفاته بأسلوب وبيان أعجز عنهما).
(ومع هذا فإني نظرت إلى هذا الحفل فإذا هو مكون من خيرة أفاضل الناس في قطر عربي عزيز على قلب كل مصري، لأن أهله باختلاف نزعاتهم وأديانهم تربطهم بنا روابط لا انفصام لها ولكن أعلاها وأبقاها مع الزمن وحدة اللغة والتفكير والثقافة. لهذا شعرت بأنني لن أكون غريبا هنا. بل أنني سأجد بينكم ما يشجعني على إلقاء هذه الكلمة وأنا واثق من أن شعوركم معي وانه سيشفع لديكم إذا اختصرت في ناحية أو تلعثم لساني أمامكم مرة ومرتين. فالأستاذ أحمد أمين لا أقدمه كأستاذ مصري فأعده ملكا للكنانة وحدها، بل أقدمه إليكم كأديب عربي أدبه وعلمه من حق الناطقين بالعربية كافة. وأقول لكم إن ما أحرزه من نجاح وتوفيق نعده نحن معاشر المصريين نجاحاً وتوفيقاً للأدب العربي ونصراً للثقافة التي تجمعنا بكم وللفكر العربي الذي نشترك فيه وننحدر منه ونعتز به، وفي هذا أيها السادة ما يثبت أقدامي أمامكم ويجعلني مطمئناً من أن الأستاذ المحاضر سيلقي من ترحيبكم ومودتكم
في القدس ما سبق أن أحيط به من ترحيب ومودة في كل قاعة ألقي محاضرة فيها).
ولقد كان بوسعي أن أقف عند هذه الخاتمة لولا أنني أردت أن أشير إلى مكانة فلسطين وما كنت أنتظره لها من مستقبل وما كانت تحيط بنا من غيوم متلبدة وقتئذ، فأردت أ، أتحدث عما يجول بأنفسنا من رغبة في دفع موجة التشاؤم التي كانت سائدة وقلت ما يأتي:
(في هذه البلاد المضيافة، وعلى أرضها المقدسة للأديان المنزلة جميعاً: هنا حيث استلم الشرق هداية العالم يوماً ما حينما ظهرت إلى العالم معلم الناصرة عيسى أبن مريم منذ ألفي عام؛ هنا حيث ينظر أتباع الديانات الكبرى إلى قدسية هذا المكان، هنا يحدثنا الأستاذ بحرية تامة عن الإسلام وأثره في وقت كثر فيه عدد المتشائمين الذين يشكون في عظمة هذا الشرق ومستقبله - أولئك الذين لم يلمسوا إلا آثار الجمود والتسليم ومظاهر الضعف والفقر البادية في كل مكان فكأنهم لم يروا إلا ظلمات بعضها فوق بعض).
(أننا نقول لهم كذلك كانت السنوات والعصور التي سبقت دعوة الإسلام كانت لياليها ظلماء لا أثر لنور الأمل فيها، وكانت عوامل الفناء والتفكك تعمل في كل مكان، حتى لقد كان يخيل إلى من عاشوا في القرن السادس الميلادي أن الشعوب الشرقية التي ورثت مدنيات مصر وقرطاجنة وآشور وبابل وفينيقيات. قد شاخت وهرمت وفقدت شخصيتها وميزاتها وقوتها الدافعة فأصبحت فريسة مدنيات أقوى منها من صنع روما وبيزنطة، ولكن هذه الشعوب نفسها التي غلبت على أمرها نراها وقد استحالت مرة واحدة أمماً فتية فكأنها بعثت بعثاً ونشرت نشراً. والفضل في نهضتها لتعاليم الإسلام حين تحرر الشرق من جبروت روما وخرج للعالم بشخصيته واستقلاله الفكري للعمل مرة أخرى كقوة عظيمة تزحف على العالم وتؤثر في حركته وتاريخه وسيره وتطوره).
(وهانحن اليوم نعاني نفس ما عاناه أسلافنا، فهل لنا أ، ننظر إلى ماضينا، وإلى تلقى دروسه لنتخذ من ذلك دعامة للمستقبل ولنتعرف القوى الكامنة فينا ليكتب لها الانطلاق والخلود؟)
(على أي أساس اخترنا لنهضتنا سواء كان ذلك في نطاق القومية أو العالمية فإننا في حاجة إلى بعث جديد وقوة معنوية تحركنا للعمل للوصول إلى حياة أعلى وأكمل وأعظم شأنا من ظروف الحياة التي نعيشها في الوقت الحاضر).
(أننا إذاً اكتشفنا هذه القوى الكامنة فينا وعملنا على تركيزها وتنظيمها نكون جديرين بحمل الأمانة التي حملها الشرق من قبل وتسلم رسالته الخالدة، ويصبح الشرق جزاءاً هاماً واعياً مكملاً للإنسانية المنتبهة المتيقظة العاملة في بناء صرح مستقبل هذا العالم).
هذه بعض فقرات من حديث تلك الليلة وهو حديث - كما قلت - تفضل رجال الفكر في فلسطين بالترحيب به، ونشرته أغلب الجرائد وأشارت إليه. ولقد كنت أود أن يشير حضرة صاحب العزة الأستاذ أحمد أمين بك إلى اشتراك القنصلية الملكية المصرية العامة في القدس معه في هذا الموقف الذي قال عنه (أنه كان عجيباً حقاً مربكاً حقاً). فقد قرأت كتابة الممنون بأسم (حياتي) ولفت نظري صديق عزيز علي هو الأستاذ محمد عبد الغني حسن إلى حادث القدس وكيف أفرد له الأستاذ ثلاث صفحات من كتابه فلم يذكر كلمة واحدة عن الذين شاركوه في هذا الموقف الذي كان فيه من العناء الشيء الكثير على حسب تعبيره. ولذا رأيت من واجبي أن أنشر هذه الصفحة المطربة ولا أجد ما أقوله سوى أنني وغيري ممن ألقي عليهم واجب تمثيل مصر في تلك الفترة لقوا في أثناء قيامهم بواجباتهم الكثير من هذه المواقف: أذكر واحدً منها حينما أقمت حفلة للأستاذ أسد رستم بمناسبة إخراجه أول مجلد من كتاب (وثائق الشام) وكيف حملت بعض الجرائد علىَّ حملة مثل هذه فكان للقنصلية الملكية المصرية العامة ببيروت موقفاً يشبه موقف في القدس.
أحمد رمزي
مراقب عام مصلحة التشريع التجاري والملكية الصناعية
سيرة عالم
للدكتور سامي الدهان
كان عامة الجمهور في (حلب) يعجبون لهذا الرجل الغريب، يجدونه عند كل حجر عتيق من أحجار المدينة، يتسلق الضخر، ويعلو الجدران القديمة، والأسوار المتهدمة، وبيده ورقة وقلم، يخط سطوراً، لا يبالي بالهامس حين يمر أو الساخر حين يتحدث إليه ساعات من نهار، يستنطقه عن الماضي القديم، ويستخبره عن الأجيال السالفة.
وكان منظر الرجل يثير كذلك دعابة حينا ودهشة حيناً آخر، فقد أرسل لحيته، ولبس البسيط من الثياب، وجلس جلسة ابن البلد إلى الحجر والتراب، يقتلع العشب عن الحجر، ويمسح عنه الغبار، كأنه شحيح ثناياه عن كنز مدفون وثروة مخبوءة. على أن الناس يمرون بهذا الصخر والحجر عشرات المرات لا يبالون ولا يأبهون، فقد ألفوا أن يروا في سبيلهم كتابات عريضة لم يحاولوا أن يقرءوها، وتواريخ مسطورة لم يجربوا أن يفهموها، ومالنا ولهذا الجنون الأوربي إذ يكلف بالغريب ويعكف على العجيب؟
وكان الرجل على ذلك كله ماضياً في عمله لا يهمه تهامس الناس حوله، ولا نثنيه نظراتهم المريبة شكلهم الملح، فهم يرمونه بالجهل إذ يضيع أيامه بما لا ينفع الحياة ولا يجلب المال.
وظل على ذلك سنين انتهى بعدها إلى كتاب صغير نشره بالفرنسية صور فيه الأبنية الأثرية، ورسم مصوراً لهذه الأبنية، وخلص إلى نظرية جديدة هزت المستشرقين طرباً، فقد وقفوا على صورة (حلب) كما كانت قبل ألف عام، أو تزيد، وحدد أماكن الجدران والأسوار من هذا المصور. وبين مواقع المساجد والجوامع والتكايا، وكأنه قد بنى المدينة على الورق من جديد، ولم يبق إلا أن يرسم هؤلاء الذين عاشوا بين جدرانها تتقلب عليهم الحروب، وتهزهم الغزوات، وأن يعين أماكنهم وحاراتهم.
وعرف المؤرخون الغربيون عن حلب ما لم يكونوا يعلمون؛ فقد رسم لهم المستشرق (جان سوفاجه) مواقع المعارك التي دارت خلف الأسوار، وصور لهم بلاط الحمدانيين والمرداسيين والأيوبيين والأتراك.
واشتركت مصر في تعريف هذا الجهد! فنشرت للرجل في مجموعاتها ما عثر عليه من كتابات، ونشرت إلى جانبها الترجمة الفرنسية والتعليقات العلمية. وتنبه المؤرخون كذلك
إلى ما تحويه حلب في حاضرها من بناء قديم يرى المستشرق أنه أقدم ما بقي في سورية من الآثار، حتى أنه اكتشف على أحد جدران المباني كتابة هيروغليفية يعود تاريخها إلى ألفي سنة سلفت.
ولم يقف عند هذا حتى كتب رسالة للدكتوراه درس فيها تطور البناء في حلب على مدى الأجيال. فعرض للمدينة في عهد اليونان والرومان والعرب؛ وتوجت هذه الرسالة بكثير من الثناء، وهتف المستشرقون للدارس الباحث، وقد قضى شطراّ من عمره في بلد الشام يتقرب إلى تاريخه، ويتفهم ماضيه العمراني. ونشرت الرسالة في جزأين كبيرين أولهما في دراسة هذه المدينة والثاني في المصورات والصور التي تتحدث - على عادة الغربيين - عن ماض قديم قربه الرجل أوفر الرجل ما يستطيع عالم أن يفعل.
ولما سكن سوفاجه دمشق كتب كذلك عن أبنيتها وحاول أن يصنع لها ما يضع لشقيقها حلب، ونشر بحثاً وبحوثاً عن الأبنية في دمشق على عهد الأيوبيين.
وتابع دراساته، وواصل نشر كتبه حتى بلغت العشرين، فنقل رمن الربوع التي أحبها، وعاش بين جدرانها، إلى باريس وعين أستاذاً في (الكوليبح دفرانس) وهي مرتبة لا يبلغها إلا الصابرون المجاهدون من العلماء في فرنسة وعين كذلك مديراً للدراسات العليا في التاريخ الإسلامي بالسوربون. ولم تحبسه محاضراته وواجباته الجامعية عن متابعة التأليف والترجمة، فنشر كتابا بالفرنسية يعد أقوى مرجع في التعرف إلى (مصادر التاريخ الإسلامي) ذكر فيه الكتب العربية والغربية المخطوطة والمطبوعة التي تبحث في تاريخ الإسلام. ثم نشر كتاباً عن أخبار الصين والهند بالعربية وترجمة إلى الفرنسية. وأرسل إلى المطبعة منذ شهور ترجمة لأحد مؤرخي حلب في القديم. والكتاب ما يزال في سبيله إلى النور، بينما كان مترجمة يقاسي غصص الموت ويتوجه إلى الخلود.
وكأني بالعالم المؤرخ - وهو يبلغ الخمسين من عمره - قد أنهكه الدرس وحطمة الجهد، وأخذت منه المؤلفات ما أخذت من عباقرة الباحثين فنال منه المرض، ولم يثنه نصح الأطباء ورفق الأصدقاء حتى اختطفه الموت وهو يترجم ويصحح كتبه عن الشام والمسلمين، فقضى (وملازم المطبعة) بين يديه وترجمة التاريخ الإسلامي تحت وسادته، وأغمض عينيه على مصور الشام الذي صنع يزين غرفته وهو أشد ما يكون اطمئناناً إلى
أنه مات بعد أن قضى للربوع التي أحب ما وجب، وللتاريخ الذي عشق ما استطاع.
فبكاء أصدقاؤه الذين عرفوا فيه التسامح والإخلاص، وبكاه طلابه الذين رأوا فيه دماثة الخلق وتواضع العلم وتفاني الأستاذ. ولاشك في أن حلب الشهباء ستجزيه أجر ما عمل، وتفيد من درسه، وتقتبس من بحثه، فتكمل ما لم من نص، وتنشر ما لم يتم من مخطوط. ولاشك في أن المؤرخين والباحثين عندما سيجدون في سيرته سيرة تحتذي وأسلوباً يقتفى وطريقة تتبع.
الدكتور سامي الدهان
القاهرة
في الصداقة والصديق
للدكتور أحمد فؤاد الاهواني
وقع الخضر في كشكوله من (الرسالة) يقول أنه لاحظ أنني كلما أخرجت كتاباً كتب عنه الأستاذ عبد الغني حسن، وأن العكس صحيح، يريد أنه كلما أخرج كتاباً أو ديواناً كتبت عنه. والتوقيع على إيجازه وإن كان صحيحاً يحمل معنى التعجب، أو هو خبر ينطوي على استفهام، وإشارة تحتاج إلى تفسير وبيان.
وبيان هذا التبادل أنه دليل على الصداقة أو هواية الأخوة. ولكاتب التوقيع أن يعجب في زمن أصبحت فيه الصداقة أندر من الكبريت الأحمر، فإذا رأى أحد شخصين قد ائتلف قلباهما على محبة، وقامت العلاقة بينهما على المودة، لفت ذلك نظره لغرابته وشذوذه، وبعده عن المألوف، وانفراده من المتعارف الشائع المعروف. ولقد حكى الحكماء أن المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي. فإذا كان الخلان الأوفياء قد عز وجودهم في قديم الزمان، فوجودهم أعز اليوم وأندر، مع فساد الزمان، وانتشار موجة المادية، والتمسك بأسباب الدنيا ومتاعها وزينتها ومنافعها.
فإذا عثر الإنسان على الصديق كان كالذي اهتدى إلى المستحيل وعثر على كنز ثمين. وقد قوموا الناس بالمال، فوزنوا مهرجا الهند، وقدموا المهور إلى الحسان، ولكن الصديق الحق إذا أخلص وبرئ على المصلحة، كان أثمن من الذهب فلا يقومه مال ولو عد بالملايين. وللعامة من الناس تشبيه مادي طريف، قالوا: الناس أجناس، ذهب وفضة ونحاس، أما الإنسان الذي كالذهب فكلما عبر سنوات الزمان زاد جوهره ولم تنقص نفاسته ولم يذهب بريقه أو ينطفئ رونقه. وأما الإنسان الذي كالنحاس فإنه يخدمك بمنظره هو المعدن الخسيس تطليه فلا يلبث أن يصدأ، وتجلوه فيأتي الجلاء ويعود إلى الانطفاء والصدأ، وهذا هو جوهره لا يستطيع عنه حولاً، أو نحيزته لا يستطيع لها تبديلاً. ولذلك كان العثور على الصديق الصادق عسير المنال لقلة الذهب وكثرة النحاس، والناس كذلك منهم النفيس ومنهم الخسيس.
والصديق الذي كالذهب تعتز بصحبته، وينفعك في محنتك، ويقبل عليك في وقت شدتك، ثم تأمن إلى جانية وتركن إلى معونته، وتفضي إليه بحملة نفسك وأنت مطمئن إلى حفظ السر
وحمل الأمانة، فإذا برئت النفوس من المنافع، وتخلصت من الأطماع وتجردت عن الأهواء ثم آثرت الإيثار، اتصلت النفوس وائتلفت الأرواح، وهذه هي الصداقة في أعلى مراتبها، وأفضل صورها، وما ينبغي أن تكون عليه.
والصداقة فضيلة تأمر بها الأخلاق وتحث على توثيقها. وأفضل الأخلاق ما طلب صاحبها الفضائل لذاتها، ولأنها واجبة في نفسها كما ذهب إلى ذلك كانط الفيلسوف الألماني. فنحن نعمل الفضائل طلباً للمنفعة أو اللذة أو السعادة، وبذلك تخضع الفضيلة لغاية أخرى فينصرف المرء إلى تحقيق هذه ولو امتطى ظهر الرذائل وصورها في صور الفضائل. لذلك ينبغي أن تطلب الصداقة لذاتها، وحينئذ يحس المرء بلذتها.
والصداقة من أقوى الروابط التي يقوم عليها دعامة المجتمع، فإذا شاعت في أمة تماسكت، ثم قويت لتماسكها، ثم علا شأنها لقوتها، فتصدرت سائر الأمم لعلو شأنها والاعتراف بمنزلتها. وكان هذا هو حال الأمة الإسلامية في بدء نشأتها. وأنت تعلم أن الدعوة الإسلامية قامت على اثنين من الرجال، النبي عليه السلام، وأبي بكر، الذي سمي لصدق وفرط تصديقه بالصدق دلالة على المبالغة، فقالوا أبو بكر الصديق، رضي الله عنه وإذا أطلعت على سير الرجال من أهل الإسلام في عزة وعنفوانه، وفي أوجه وعلمه وسلطانه، يوم أن كانت أوربا تعيش على علوم الشرق وتعترف من عمرانه، رأيت أن الروابط بينهم قامت على الصداقة، وعلى التفاني والوفاء، رأيت أن الروابط بينهم قامت على الصداقة، وعلى التفاني والوفاء، وعلى الإخلاص والإثيار، والإثيار أعلى مراتب الصداقة. حكت كتب القدماء أن عشرة من المسلمين وقعوا جرحى في قتال في إحدى الغزوات، وكانت مع أحدهم شربة ماء لا تكفي إلا واحداً لتهبه الحياة، فآثر بها صاحبه ومات، وآثر بها الثاني صاحبه ومات، وهكذا حتى مات الجميع.
ونحن نرى أن الجماعة تحتاج إلى ترابط يربط ما بين أفرادها، وليست هذه الروابط مادية يمكن أ، ترى، فليس هناك حبل يربط بين فلان وفلان، ولو كانت الروابط حبالا لتقطعت وبقيت الصداقات الصادقة لأنها أوثق، ثم لا تبلى مع مرور الزمان بل تقوى على الأيام.
ومن المشاهد أن الشرق منحل الأواصر، كثير التنابذ، يشيع الحسد بين الناس، وتشتد العداوات الشخصية حتى لتشغل أوقات الناس وتصرفهم عن المصالح العامة. وهذه هي
أخلاق الجاهلية الأولى التي جاء الإسلام ليحل محلها المودة والسلام
والصداقة والعداوة مما ينشأ مع الطفولة، ويبث بالتربية، الأسرة بين الأشقاء، وتظهر في المدرسة بين الأنداد، ولكننا في مصر قد أهملنا التربية فتركنا الحبل على الغارب، أو سلمنا الأمر لله، مع أن الله قد أودع فينا العقل للتمييز. وقد أثبت مذهب التحليل النفساني أن الأحوال النفسية التي تصاحب الناس في كبرهم تمتد جذورها إلى زمن الطفولة الأولى. والصغار في بيوتهم في شقاء لجهل الآباء والأمهات بأصول التربية وأسرار النفس، فهم يمنعون الطفل من اللعب، ويحسبونه في البيت، ويكثرون من ضربه وإبدائه وانتهازه فينشأ على الحقد والبغضاء، ثم يغرون الأخ بأخيه، ويفضلون الشقيق على شقيقة فيظهر في أنفسهم الحسد وهو شر ما يبلى به الإنسان، وهو أمة الصداقة
المدرسة المصرية دار تحضر الطالب للامتحان والحصول على الشهادة وليس المجتمع المثالي الصالح الذي يؤلف بين القلوب، ويقوم فيه التعليم على المشاركة والتعاون بين التلاميذ. وقد سمعنا عن طلبة يأبون إعطاء مذكراتهم لزملائهم نفاسة واحسد وانفراداً بالامتياز، فكيف ترتقب من المدرسة أن تنشئ جيلاً من الأصدقاء وهذه حالتها؛ وكيف تزعم أن الروابط بين أفراد الشعب وثيقة مع انعدام الصداقات؟
أحمد فؤاد الأهواني
العقل.
. . .
للأستاذ محمد محمود زيتون
ما أكثر ما يعرف الإنسان! ولكن ما أقل ما يعرف عن نفسه. ولعل حكمة سقراط (اعرف نفسك بنفسك) لم تتغلغل في الأجيال المتصاعدة كما كان ينبغي لها. ولئن صح أن معرفة الإنسان يبدأ بما حوله ثم تنتهي به إلى نفسه، فمعنى ذلك أن الإنسان لما يفرغ بعد من معرفته الخارجية حتى يخلص لمعرفته الداخلية. فلحياة تنمو وتتسع، وتستطيل وتستعرض، وما يزال هو هو المتعجب من أحوالها. ومهما يكن من تقلبات الحياة، فإنه لا بد له من أن يعرف نفسه ليتابع سير القوافل الإنسانية تخب في صحراء الزمان متعبة كليلة. . إذن ليعرف الإنسان نفسه بنفسه.
حقا لقد شغلت الإنسان حياته، فعرف منها ما عرف، وأبقى ما لم يكن يعرف، وظل مرتبطاً بهذه الحياة ينمو معها وتنمو معه، تعلمه وتعمل له، وهو بدوره يعلمها ويعمل لها، غير أنها كانت قبله شيئاً آخر غير ما صارت إليه، بعد أن ملكته عليها طوعاً أو كرها، فقد كانت فوضى لا تجاوب ولا انسجام. غابات ودياج، صواعق وجبال، أمواج وأمطار، كلها رهيب، وكلها غريب. وهل حياة مع الغربة والرهبة؟ وهل حياة مع الوحشة والفوضى؟ لا بد إذن من (عقل) يؤلف بين هذه الكائنات أحياء وأمواتاً. لا بد من عقل يتفهم غايتها ورسالتها. لا بد من عقل للحياة. لا بد من (إنسان).
شرف الإنسان يوم أصبح عقل الحياة، وازداد شرفاً يوم صار عقلاً لنفسه، وإذن فقد مر بتاريخ طويل عريض، وتاريخ الحياة جزء من الحياة. مرت الإنسانية في نظر (كونت بمراحل ثلاث: اللاهوتية، والميتافيزيقية، والعلمية. وهذا التطور - وإن كان غير صحيح إلا أنه غير باطل، لأن اللاهوتية والميتافيزيقيا والعلمية مظاهر تبدي فيها العقل الإنساني حيناً وأحياناً، ومظاهر الإنسانية لا تحصى، إذ لم يكن العقل من زجاج حتى يحطمه التفكير العنيف، بل لم تعهد فيه الوقوف إزاء الحواجز والموانع صاغراً راهباً. وإنما اعتد بنفسه، وكان لا بدله من هذا الاعتداد ليكون تفاوتت درجة الاعتداد بالذات فهبط إلى حد التواضع والتوقف عن العمل والعلم في ثوبي التصرف والشك وبلغ هذا الاعتداد حد الاعتداد على الذات كما عند نيتشه. وابتغى العقل أحباناً طريقاً وسطا بين هذين الطرفين.
فلنحاول الوقوف على شتى أنظار الإنسان إلى العقل، ومدى ما وصلت إليه الدوائر الفكرية من تحديد نطاقه. . سواء في ذلك الفلاسفة والمناطقة، ورجال الدين والمتصوفة. والأخلاقيون ورجال الاجتماع والسياسة، وعلماء النفس والحياة، وأصحاب الرياضة والطبيعة وأهل الفن.
أما الفلاسفة فقد تنالوا أعمال العقل، وتأملوا الإحساس كأول مظهر لهذه الأعمال يقول هرقليطس:(الحمار يفضل العلف على الذهب. والكلب ينبح كل ما لا يعرفه) فما سبب هذا؟ السبب هو أن الحواس شهود غير عدول حينما تعمل في النفوس غير العاقلة، فلا يستطيع الحيوان أن يميز بين المحسوس والمعقول لأنه ليس مزوداً بما به يستطيع ذلك.
والإنسان - في بدء حياته - لم يكن يستطيع هذا التمييز، لأنه امتزج بالحياة امتزاجاً كلياً انتهى به إلى التوحيد بين الموجود والفكر توحيداً ناماً. فهو صورة للحياة، والحياة صورة له. أو كما يقول (فردريك رتزل الإنسان روح في الطبيعية، والطبيعة روح في الإنسان:
وأنبا ذو فليس يفسر الإحساس بأنه تقابل الأشباه، وإدراك الشبيه للشبيه. ويقول إن مركز الفكر هو القلب، قد سبقه ألفميون زعيم مدرسة أقروطونا الطبية في سقلية بأن المخ مركز الفكر.
وعلى العموم فإن أنبادوقليس وديمقريطس وأنكاغوراس كانت عندهم المعرفة العقلية هي الحسية، وهم إن ميزوا بين العقل والحس فإنما كان هذا من حيث محتويات كل منهما إذ كلاهما وظيفة عضوية
وكانت تلك أول خطوة نقدية خطاها اللاهوتيون والطبيعيون القدامى نحو المعرفة العقلية أعقبتها موجة السفسطائيين الذين أدوا للعقل أكبر خدمة كان سقراط أول وارث لها.
اتجه سقراط نحو العقل في ذاته بقصد الكشف عن شرائط المعرفة الحقيقية: دعا إلى أن يعرف الإنسان نفسه بنفسه، بأن يكتشف من معرفته بنفسه جهله بها، ذلك الجهل الحافز على الفكر والذي ينتهي إلى العلم بخصائص العقل الرئيسية التي هي التعريف والاستقرار. ولما كان الحق هو الخير وكلاهما في العقل أو هما العقل فإن العلم فضيلة، والجهل رذيلة.
وتبنى أفلاطون نظرية أستاذه في فطرية المعرفة، وقال بوجود معرفة لأهل الكهف كانت
لهم قبل أن تغشى عيونهم بنور الشمس رمز الحق والخير والجمال. فلن تزكو النفس إلا بتذكر ماضيها المجيد، ولن تبلغ سموها بالعلوم التجريبية البالية وإنما بالحساب والموسيقى والهندسة والفلك تتيقظ على عالم المثل الباقية الخالدة والتي هي أسباب المعرفة والوجود جميعاً، التي تذكرها علم، ونسيانها جهل. ويقول في (فيدروس) و (عندما تعجز النفس عن طلب الحق وتفشل في الحصول عليه، يسقط منها الجناحان، وتهوى إلى الأرض. . أما النفس التي لم تر الحق قبلاً فلن تأخذ الصورة البشرية، لأنه لا بد للإنسان من معرفة بالكليات وقدرة على الانتقال من الجزئيات الحسية إلى المعنى العقلي، وذلك هو استجماع هذه الأشياء التي كانت النفس قد رأنها من قبل في سبيلها إلى الله عندما رفعت رأسها تستشرق الموجود الحق).
لم يستطع أفلاطون أن يتعرف خصائص العقل في ذاته، فولى وجهه شطر مصدره الأسمى وهو الله مثال المثل. وإن كان في طريق النفس إلى المثل صاعدة ومنها نازلة قد رسم أفلاطون سبيل الخلاص بالتزكية النفسية وهو سبيل إن كان حظ الحقيقة فيه أقل من حظ المثال إلا أن المثال نفسه من خلق العقل وابتكاره.
أما أر سطو فقد نظر إلى العقل. فعنده العقل المنطقي في (البرهان)، والعقل الأخلاقي في (الأخلاق) والعقل الاجتماعي في (السياسة) والعقل السيكولوجي في (النفس)، والعقل من حيث هو عقل في (الميتافيزيقيا) حيث قسمه إلى أربعة: عقل بالقوة، عقل بالفعل، عقل مستفاد، عقل نعال. وسار بنظرية العقل، بنظرية العقل حتى وصل بها إلى الله (عقل العقل) الذي يتأمل ذاته لأنها أشرف ذات. وشرف العقل إنما جاء من شرف موضوع لعقله، والموجودات تنزع إلى كمالها بالاشتياق إلى الله. وبذلك تفادى أر سطو مشكلة، كيف يتصل آلا حسي بالحسي؟
وبهذا المجهود العنيف كان أر سطو جديراً بأن يخلع عليه لقب (العقل) أو (عقل المدرسة). ويكفي في هذا المقام أن نشير إلى تطور فكرة العقل الأرسططاليسي عند تلاميذ أر سطو وشرحه وأنصاره وخصومه من المسلمين وغيرهم في القديم والوسيط والحديث. وذلك لاختلاف الأنظار في فهم عقل أر سطو اختلافاً لم نشهد له مثيلا في تاريخ المسائل الفلسيفة.
ولقد اطرد التيار الأرسططاليسي الواقعي، وإلى جانبه التيار الأفلاطوني المثالي، وتراوح المفكرون بينهما، فمن جانب أفلاطون انحاز إلى أر سطو، ومن جانب أر سطو انحاز إلى أفلاطون.
وتبلبلت الأفكار في عصر السقارطة الصغار كرد فعل للحياة ومستلزماتها حتى لقد خلط إقليدس الميغاري بين الله والعناية والعقل وكلها أسماء للخير عنده. وظهر العقل عند الرواقعية في ثوب أخلاقي: إذ العقل هو أكمل الطرق لتحقيق أسمي الغايات، وبالعقل يدرك الحكيم أنه جزء من الطبيعة الكلية، والله عندهم هو (العقل) منبثاً في العالم، هو روحه المادية اللطيفة، وعليه تتوقف الغاية والضرورة المطلقة وقوانين الواجب.
أما الأبيقوريون فقد تحرروا من كل عقل، وانهمكوا في الملدات دون وعي بواجب أو قانون، وانحدرت المثالية الواقعية جنبا إلى جنب نحو الأفلاطونية الحديثة، وفيها لم يخلف ما لأفلاطون وما لأر سطو. فالعقل والمعقول شيء واحد، والعقل هو التفكير صار فعلاً محضاً، وكما ينطوي على عدد من النفوس الفردية تهبط إلى الأجسام (كما لو كان صوت منادي ناد بها) ولكنها في هبوطها قد تذكر سرورها في حال أصلها، ناسية إياها الذي في السماء، وهي إن خرجت من الجسد لتعود إلى الله لا تفصلها قط عن النفس الكلية، مقامها دائماً في العقل، ولترجع النفس إلى الله يلزمها أن تخرج عن نفسها بالزكاة النفسية والتأمل في المثل أولاً وأخيراً،
وإدمان النظر في الحياة، واضطراب مجرياتها في الوجدان أدى إلى الشك؛ فالحواس خادعة، وليس لدى العقل ضمان للحقيقة واليقين فتوقف الشكاك عن السلب والإيجاب وآثروا تعليق الحكم، واستمرءوا الحيدة في السلوك.
وانطوى القديس أوغسطين على نفسه حين أراد أن يعرف ربه، لا بالميزيقيا الحقيرة، وإنما بالوجدان والعلم الباطني، فمتى عرف العقل الإنساني أنه متغير، وفي نفسه لو عرف أن لديه فكرة عن الحق الثابت الباقي، فليس على العقل إلا أن يسمو على نفسه ليرقى إلى منبع كل نور وأصل كل خير، إلى العقل الذي ينيرنا إلى الله، وهو المبدأ الباقي لكل التقاويم التي يظهر فيها حلقه
ولا بد من لإشارة إلى الجدال العريض الذي دار حول أسبقية الكليات بين الواقعيين
والاسميين من فلاسفة المسيحية في القرون الوسطى. قال (القديس أنسلم) وهو من الواقعيين الأفلاطونيين (الكليات أسبق من الموجودات) وقال (كما أن الفكر هو الواصل بين المرء نفسه، فكذلك المثل هي الواصلة بين الله وذاته) الله مصدر كل معرفة هو الحق الأسمى الذي يخلق كل حق، وهو الطيب الذي يمنح كل طيب، والمطلق الذي منه وحده ندرك النسبي الذي لابد لنا من نماذج سابقة عليه نتمثلها حتى توازن أو نحكم. وهكذا بإدراك النسبي اتخذ أنسلم برهاناً مباشراً على المطلق وهو الله.
وعارض هذه النزعة جماعة الواقعيين الأرسططاليين من أشهرهم (ألبرت الأكبر) و (توماس الأكويني) و (دنز سكوتس) وقالوا بأن ليس للكليات وجود جوهري خارج الأشياء، بل هي - كما يقول أر سطو - لا توجد قبل الأشياء وإنما في الأشياء ، وبذا لانهار القول بالمثال. والقديس (توماس الأكويني) يميز العقل والنفس التي هي الملكة العليا للمعرفة والحدس، وإن كان أصلها في طيعة النفس واحداً.
أما الأسميون فقد رفضوا المعاني العامة، وقالوا بأن العقل ما دام بالقوة فلا يمكن أن يفضي إلى الإيمان. منهم (وليام الأخامي) الإنجليزي (القرن 14)، وعنده أن العالم في العقل لا في الأشياء، وأن ليس للمعاني وجود في عقل الله، ولا سبيل إلى المعرفة إلا الحدس بنوعية الحسي والوجداني. ولما كان الحق نسبياً وقائماً على الحدس الشخصي فليس للعقل إذن وجود مطلقاً.
ولقد اهتم فلاسفة الإسلام بنظرية العقل متأخرين، فتح الباب لهم (الكندي) في رسالة (معنى العقل عند الأقدمين) وتبعه (الفارابي) في (مقالة في معاني العقل) وعالجها (ابن سينا) في الصدور أو الفيض، وكذلك (الغزالي) في معظم كتبه وأهما في هذا الباب (معارج القدس في معرفة مدارج النفس) وكذلك (ابن رشد) في (منهاج الأدلة).
وهؤلاء جميعاً حولوا عقل أر سطو إلى عقل إسلامي، جانبه الفلسفي معروف، أما جانبه الإسلامي فأصله الديث المروي (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أعز إلى منك، بك أعز وبك أدل، وبك أعطي وبك أمنع). وقد ذكر الشهر ستأتي أن الحايطية - أصحاب أحمد بن حايط المعتزلي - أولت حديث رؤية الله يوم القيامة بأنه العقل الفعال أو العقل الأول الذي يعنيه الحديث.
(للكلام بقية)
محمد محمود زيتون
من الحياة
الصديق الضائع
للأستاذ منصور جاب الله
كان لي صاحب ما شهدت له نديداً فيما رأيت من الصحاب. كان أكبر الناس في عيني، وكان رأس ما أكبره في عيني أني ما عرفت عنه غميزة تميل به إلى جانب الغرور، على ما به من مزايا فاضلة، وعلى ما كانت تفيض به جوانب نفسه من البصر بفنه والعلم القائم على أساس وطيد، وعلى ما كان بتدافع في شرايينه من دم الشباب النضير. وفي كل أولئك حوافز الذهاب بالنفس والتكاثر بالسطوة إلى مدى بعيد.
وكان في عقدي أن من رأى هذا الصديق نظرة أجله، ومن خالطه معرفة أحبه. وجدت فيه ما افتقدت في سائر الصدقان: تواضع على علم، وحياء في ورع، وسذاجة من غير تكلف، وبساطة تنأى عن التعقيد. وكل أولئك محبب إلى النفس، وكل أولئك شئ عزيز المنال.
ولازمت خدبنى هذا ملازمة شديدة، توثقت عناصرها على الأيام، حتى حسب الناس أ، فكاك لازدواجنا، وأن أحدنا لا غناء له عن رفيقه. وكذلك كنا لا نفترق ظغلاً على موعد من لقاء قريب، في الإصباح والإمساء، وإذ كنا متجاورين في السكنى. لم تفرق بيننا إلا المضاجع، وما أثقل الساعات التي تتجرم على بعادنا، وما أطول اللحظات التي تنقضي دون لقائنا.
هنالك بين ربوع الإسكندرية الماعمة، كنا نساحل على شاطئ البحر الجميل في أخريات الربيع وفي ذرور الصيف ومطالع الخريف، وكانت لنا ثم ملاعب ومرابع. لا يرنق صفاءنا اعتكار، ولاينال من عشرتنا لسان، إذ كان قوامها لإخلاص المتبادل، وعمادها المودة المشتركة، ومن ثم كانت أحاديثنا ومسامراتنا لا تنصرف إلا لما يتغشى الناس من أحداث، وما يتوسمه العالم من حدثان. وكانت آراؤنا في الحياة - على سذاجتها وسطحيتها - مطبوعة بطابع من الهدوء والبعد عن الاعتساف.
وإذا كنا على سفر، تواعدنا على اللقاء في القطار، ثم تجمعنا الصحبة في المنزل، وقد نتقاسم الغرفة الواحدة في بعض الأحيان، ونشارك في الطعام والشراب، ويمضي معي لشأني، كما أصحبه لفضاء ما يريد.
كانت تلك حالنا إلى أن فرقت بيننا تصاريف الزمان، فأنحدر صاحبي إلى الجنوب في عمل له، وبقيت أنا أتماور المقام بين القاهرة والإسكندرية. بيد أننا لم نفترق إلا بالجسم فقد اتصل قلبانا وروحانا، فكنا نتناجى بلغة الأرواح كما كنا نتنادى بلسان البريد، ثم نتصل وننفصل والأيام لا تزيد علائقنا إلا توثقاً واتصالاً.
وإذ قامت علاقتنا على الصدق والإخلاص، كان لي أن أزجي النصح إلى صديقي، إذا تجانف لإثم أو خيل إلى أنه كذلك، وأي الناس ترضي سجاياه كلها، ولقد كان يتقبل مني النصح المبذول لعلمه أن مصدره الإخلاص، وتلك حالي معه.
وفي إحدى زوراته المتباعدة لي توجهت إليه باستصلاح ما أنكرت منه، فشهدت منه بوادر الامتعاض على بساطة المؤاخذة مع داعي الإخلاص، وتظاهر بالقبول بل تظاهر بالرضي والاقتناع.
وكانت تلك هي المرة الأولى رأيت فيها صديقي يظهر غير ما يبطن، فلم يحاول بعد ذلك أن يلقاني، وإن كنت سعيت إليه - علم الله - مراراً، إذ عز على أن تهدر صداقتنا بمثل هذه السهولة، وقد عملت في تكوينها السنون الطوال، ورواها الإخلاص وسقتها النزاهة. كاتبته مراراً فأبى أن يتنزل إلى الإجابة على، فعلمت أنه يروم قطيعتي والازورار عني، فأمكنته مما يريد وفي النفس موجودة حرى، وفي القلب أسى لا يطاق.
وبالأمس كنت أسير في بعض الطريق فلمحت على مبعدة مني رجلاً عرفته غير أنب أنكرته، عرفت فيه شيئاً وأنكرت منه أشياء، عرفت فيه وجهه الذي لا أنساه، فقد كان وجه صديقي الضائع، وأنكرت منه طرفاً من سلوكه مع الناس ومعاملته لمن كان في صحبته من الرصفاء، حتى لقد هممت أن أعانقه وأقبله وأفول له: لقد كان لي صديق وجهه يحاكي وجهك، ولباسه يشبه لباسك، وكلامه مثل كلامك، ولكنه يخالف عنك يا صاحبي فيما عدا ذلك فمن تكون؟
ولكنني جبنت دون ذلك ولم أفعل، وبصرت به برامقني شزراً من بعيد، فبادلته النظرة وانصرفت لطيتي مترحماً على ماضي الصديق الضائع!
بعد هذا بسنين، تلقيت معناه هذا الصديق، فما احسبني تفجعت كما تفجعت لفقده، ولا بكيت مثل ما بكيت لموته. لقد فقدته مرتين: مرة يوم قاطعني، ومرة يوم مات عني، فكأنه مات
ميتتين. سقي الله جدثه وتدراكه برحماته.
منصور جاب الله
خواطر مرسلة
النعجة السوداء
للأستاذ حامد بدر
(تلك قصة قصيرة، سمعتها من رجل قروي فلخصتها في هذه السطور)
في مكان ناء عن العمران، حيث السكون سائد لا يشوبه ضجيج، والهواء طلق لا يعرقه بناء، والفضاء رحب لا يحد من سعته شئ، والقبة الزرقاء تتحدى كل القباب بروعتها وجلالها، وتفيض على الأرض من خيرها وبرها، ونورها وظلها. . وفي إعفاء يقظي، تنيم النفس أمنا، وتوقظها إيماناً، وفي هذه خالصة مخلصة يرجع فيها من خلق إلى من خلق، يستجم العقل المكدود المحدود. . . كان أحد الملوك مصطحباً وزير ابتغاء النزهة الهادئة الطليقة، المجردة من مظاهر السلطان والجاه. وبينما هما سائران إذا براع يرعى عنها، وقد افترش من الأرض مكاناً خشناً، مستظلاً بصفصافة حانية، في جوار قناة جارية، وبين يديه لقمات يابسات، يتناولها في رضا واطمئنان، ثم يميل على التميز الجاري، فيروى ظمأه ويحمد الله. وبعد قليل يخرج من جيبه قصبة تشبه الناي، ويطلق صغيره في الفضاء، فيقطع السكون السائد بلحن حلو طروب، له في كل ناحية صدى، وكأنه يملك الدنيا بأسرها!
تعجب الملك ووزيره لهذا القانع الراضي، الذي لم يعكر صفوه شي من اكدار الحياة، فناداه الملك وسأله: كيف حالك؟ فقال: كما ترى يا سيدي، أحمد الله على ما أعطاني من نعمة، وما وهبني من عافية. قال الملك: ما أحسن إيمانك، وما أجمل شكرانك! ولكن أما يزعجك في حياتك الهادئة شئ؟ قال: لا شئ سوى هذه النعجة السوداء، فكثيراً ما تشذ عن زميلاتها، وتستعمل قرنيها في الأذى، وتكدر صفوي. . .! ففكر الملك قليلاً ثم قال: طابت حياتك أيها الرجل لولا النعجة السوداء،
وبعد أن ابتعد عن الراعي رأي الوزير الملك مفكراً، كأن أمراً شغله، فقال: أعزك الله يا مولاي، وجعل السعادة ظلا لملك العزيز، ليت شعري ما يشغل بال الملك؟ أرجو ان يكون خيراً فأومأ الملك شاكراً، وظل في تفكيره برهة ثم قال: ماذا تركت في نفسك هذه النزهة من أثر؟ وهل رأيت فيها شيئاً من الغرابة؟ قال الوزير: ل اغرابة - يا مولاي - في جمال
النزهة وترويحها وهدوئها، ولكن الغرابة في قصة الراعي. لقد دلت الأرض التي افترشها، واللقيمات التي طعمها، على الخشونة والشظف. ودل الغناء والصفير على السعادة والسرور، ودات النعجة الشاردة على أن السعادة لاتصل إلى حد الكمال! فعقب املك على جواب الوزير قائلاً: اعلم أيها الوزير أن المال والجاه والقصور والحدائق والخزائن والملك كل هذا لا يثني النفس عن استسلامها لشاغل ما، ولا يحول بينها وبين هم يشوب سرورها، أو يطغي عليه، فلكل امرئ - وان علا - نعجة سوداء!
حامد بدر
منزلة العبقرية الدينية بين العبقريات
للأستاذ محمد خليفة التونسي
يقول الحكيم الهندي رابندرانات تاجور (إن كل طفل يولد دليل على الله لم ييأس من الإنسانية بعد).
ولا علينا أن تزيد (وكل عبقري ينبغ دليل مائل يكشف حكمة الله في عدم يأسه من الإسلامية).
وما جدوى الإنسانية من البقاء، بل ما جدوى الحياة والطبيعة كلها إذا كان بقاؤنا في ضيقه ورتابته وانحطاطه كبقاء الأرضات في سرداب الأرض المظلمة أو مملكة الظلام كما قال موريس مترلنك الشاعر البلجيكي؟
ماذا في ميلاد طفل؟
إنه دليل على تمسك الله بالإنسانية، إذ لم ييأس منها، وعلى أنها لا تزال أهلا لأن يرفعها باستعدادها لقبول نعمه، ولكن الحكمة في عدم بأسه منها خافية، والدليل على استعدادها عنا مستور.
وماذا في نبوغ عبقري؟
إنه دليل على ذلك كله، وعلى شئ فوق ذلك كله.
دليل على تمسك الله بالإنسانية، واستعدادها لتقبل ما يفيض عليها من نعمة، وصلاحها لأن يرفعها إلى أفق أرفع من أفقها الذي هي فيه عن رضا وطواعية، ودليل أيضاً على قبولها نعمة فعلاً وتحقيق صعودها إلى أفق أعلى راضية طيعة. فحكمة الله في عدم يأسه من الإنسانية هنا بينه، وحجته لنا ظاهرة.
إذا كان ميلاد طفل دليلاً على استعداد خفي في الإنسانية لنعم الله، وعلى حكمة خفية علينا في استمساكه بها، فإن نبوغ عبقري دليل على بروز نعمة وحكمته من عالم الأمر إلى عالم الخلق، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة بلغة القرآن الكريم، أو من عالم المثال إلى عالم الحس بلغة أفلاطون، أو من عالم القوة إلى عالم الفعل بلغة أر سطو، أو من عالم الفكرة إلى عالم الإرادة بلغة شوبنهادر.
وشتان في وجودنا المحدود بين الشيء أملالم يتحقق، والشيء نفسه حقيقة قائمة، ومهما
يتساويان في قدرة القادر، وإبداع المبدع بل في علم العالم أزلاً فليسا سواء في وجودنا الزماني الناقص، وهذا هو ما يعنينا نحن أبناء الزمان الفانين.
نبوغ عبقري دليل على تحقيق بعض الآمال التي ناطها الله بالإنسانية ورفعة إياها من أفق إلى أفق أعلى وأرحب وأجمل، ونسخها من شكل إلى شكل أصفى وأصدق تمثيلا لقدرته وإبداعه، وأفصح تعبيراً عن حكمه، وأشد تحقيقاً للقوى الكامنة التي بثها فيها، وأدنى إلى الغايات التي يجذبها إليها خلال سيرها نحو الكمال المقدور للمخلوقات الفانية في شوقها إلى الله.
إن الخلق هو أعظم النعم ولا ريب كيفما كان.
ولكن تمام هذه النعمة لا يتحقق إلا بالامتيازات التي يسبغها الله على من يصطفيهم من مخلوقاته على مقتضى حكمه، وهو يخلق ما يشاء ويختار. فإذا هؤلاء الممتازين أنس الحياة وجمالها ومسوغها، وحجة الخالق التي يمتحن بها المنكرون، ويزداد بها المؤمنون إيماناً ويقيناً واطمئناناً.
لا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور.
ولا يستوي الذي لا يعلمون والذين يعلمون.
ولا يستوي الأموات والأحياء
ولا تستوي الإنسانية ضالة ضائعة قبل نبوغ العبقري فيها، والإنسانية رشيدة شاعرة بمكانتها بعد نبوغ العبقري.
وإذا استجاب الإنسانية إلى دعوة العبقري طهرت أرواحا من أكدارها، وانكسرت عن قواها أغلالها، وزالت عن أبصارها عشاواتها، وانسلخت عن قلوبها أر كنتها، فشعرت بالصلات الوثيقة التي تربط كل شئ فيها بكل شئ، والصلات الوثيقة التي ترابطها كلها بالوجود كله من وراء تلك الصلات أو من خلالها؛ وانطلقت بهدى العبقرية نشيطه في حياتها، مندفعة نحو الغاية التي أريدت لها، عاملة بكل القوى التي بثها الله فيها. وإنها لتعمل وسعها واو لم تعرف الغاية الصحيحة من وراء عملها أنها مدفوعة إلى العمل بقوى جبارة تنفجر من أغوار النفس البعيدة فلا سلطان لها عليها، ولأنها تجد في العمل لذة اللعب أو الرياضة وجمالها، وحسبها ذلك من غاية لأعمالها، ولتكن عندها من وراء ذلك أو لا تكن غاية
ظاهرة أو خفية.
تاريخ الإنسانية هو تاريخ عباقرتها وآثارهم فيها، فلو انتزعوا من تاريخها لم يبق لها تاريخ.
تاريخ الإنسانية عمل فني، عنصر الفن الأصيل فيه وينبوعه هو العبقرية، ولذلك لا يحسن كتابة تاريخها إلا فنان.
تاريخها صور العبقريات المشرقة، وانعكاسها من نفوس الناس.
وتاريخها عزف لأصوات العبقريات وأصدائها في نفوس الناس.
وما لم يكن نور فلا انعكاس، وما لم يكن صوت فلا صدى.
ومن لم يشعر بالتاريخ شعور الفنان لم يع من التاريخ حرفاً، ولو استوعب الزمان والمكان من البدء إلى النهاية. ومن لم يعبر عنه كما يعبر الفنان عن شعوره بما يجيش في نفسه لا يكتب منه حرفاً، ولو أن ما في الأرض من شجر وغيره أقلام، ومياه البحور مداد، والأرضين والسماوات صحائف يسود وجوهها بجهله وغبائه.
لا يستجيش في نفس الإيمان الكامل الخالص شئ في الإنسانية إلا العبقرية.
ولا يستحوذ على أيماني كاملاً خالصاً أحد من الناس إلا العباقرة.
وما ساورني شك في أنه لا توجد نفس إنسانية أبداً تخلو كل الخلو من نور العبقرية أصيلاً فيها، وكل الفرق بين العبقرية الشامخة والعبقرية المطموسة هو الفرق بين نور قوى عظيم يتدفق في النفس فيجرف السدود والحدود؛ ويفيض على الجوانب فيظهر ويبهر، ونور ضعيف ضئيل يبض قطيرة فقطيرة في غور سحيق من وراء سدوده وحدوده المطبقة عليه أطباقا، فلا تراه عين، ولا تسمع بخبره أذن حتى يتلاشى في التراب. وبين هاتين المرتبتين مراتب لا يحيط بها إلا علم الله، تظهر أو تظهر حسب قوتها والظروف المهيئة لها.
إن العبقرية أهل للتقديس على اختلاف مشارقها: كيفما أشرقت، وأينما أشرقت، ومتى ما أشرقت.
لا يختلف في تقديس عبقري عن عبقري باختلاف ميدانه ولا مكانه ولا زمانه ولا آثاره، ولكن بحظه من العبقرية.
وإذا قيل: إنما ينعم الله بالعبقرية لمصلحة الناس، فاتخذنا آثارها التي هي من شأنها سواء أظهرت أم لم تظهر فعلاً مقياساً لتمييزها - لوجب أن نقدم من بين رجالها عباقرة العقائد الذين يؤمنون ويعملون الناس بالإيمان، أو يثيرون في نفوسهم الإيمان.
عبقرية العقيدة من شأن صوتها أن يكون صداه أوسع انتشاراً بين النفوس، وأن يكون أثره في النفس القابلة لترديده أقوى واعمق وأشمل تأثيرا فيها من كل صدى سواه.
1 -
فعبقري العقيدة - حين يعلم الناس عقيدته - يفجر في نفوسهم بواعث الايمان، فتتفجر فيها في وقت واحد بواعث الجياة، وبواعث الفضيلة، وبواعث الشعور، وبواعث الفكر، وسائر البواعث الكامنة في بنيتها، ومن ثم يكون أثر العقيدة في النفس أتوى وأعمق وأشمل من سائر الآثار.
2 -
ليس لزاماً في المستجيبين للعقيدة أن تكون لهم ملكات إنسانية ممتازة، ولقد تكون الملكات العقلية الممتازة حائلا دون الاستجابة للعقيدة، وبخاصة إذا لم تقابلها ملكات نفسية تكافئها ونحفظ للنفس أريحيتها كي تستجيب للواجب إذا دعاها وتحبب إليها أو تهون عليها البذل والفداء.
وحسب الناس أن تكون لهم ملكات نفسية عادية قابلة للتفجر أو الاستجابة حتى يكون لعبقري لعقيدة أثره في نفوسهم، كي يفجر فيها بواعث الإيمان تلبية لعقيدته، فتتفجر معها شئ البواعث الكامنة في بنيتها في فترة واحدة، كما تتفجر كل الذرات في القنبلة الذرية بتفجر ذرة واحدة فيها.
والملكات النفسية العادية - وهي كل ما يلزم لتقبل العقيدة - موفورة لكثير من الناس العاديين، وما كانوا عاديين إلا لأن ملكاتهم عادية، ومن ثم كان صوت عبقرية العقيدة أوسخ انتشارها في الناس من صوت غيرها.
3 -
وإذ أن الدخول في العقيدة لا يستلزم من الإنسان مواهب ممتازة، بل حسب الإنسان فيه تسليم وسلوك بسيطان - فإن اعتناق العقيدة يخول صاحبه فيما بينه وببن نفسه وفيما بينه وبين الناس امتياز يرضي كبرياء، ويشيع غروره، ويمد له في الطموح والرجاء، ويجعله هو ومن هم أسمى منه مكانة بأي سبب من الأسباب متساوين في التعصب للعقيدة والغيرة عليها والتمتع بحقوقها وحمل مسئولياتها، من غير أن يكلفه ذلك أن يكون مستحوذاً
على مواهب سامية كمواهبهم، أو كفاية عظيمة ككفاياتهم، بل قد لا يكلفه ذلك إلا مجرد التعصب لها، وحسبه
ذلك الامتياز من جزاء عاجل في الدنيا فضلا عن الجزاء الموعود في الدنيا أو الأخرى أو الاثنتين معاً مادام معتصماً بعقيدته وما أسخى العقائد بالوعود إلى الصبر والمثابرة والعزاء.
4 -
معتنق العقيدة لا يشعر ولا يفكر ولا يعمل في معزل عن الجماعة، ولو كان خالياً بنفسه، بل هو يشعر ويفكر ويعمل كعضو في بنية الجماعة، وذلك كفيل بأن يثير فيه كل كفاياته الفردية والاجتماعية معاً ويشعره على الدوام بصلات قوية تربطه بالمجتمع، فيكون أشد شجاعة وصلابة في آرائه ومذاهبه، وأعظم استعداد للبذل والمفاداة، وأدق معرفة بما يأخذ وما يدع من الإنسان الذي يحيا بغير عقيدة، والإنسان يحيا بعقيدة بالية قد فترت وباخت في نفسه، وذو العقيدة يشعر كذلك بالاطمئنان والأنس والعزاء أعظم مما يشعر غير ذي العقيدة إذ يحس نفسه مبتور الصلات بالمجتمع، وأعظم مما يشعر ذو العقيدة البالية الفاترة إذ يحس بتهافت الصلات بينه وبين المجتمع. وفي إحساس هذين النوعين ما فيه، ومعه ما معه من إحساس باللعنة والبلية والاضطراب والتيه، وكله مما يثبط الهمم،، ويغشى البصائر، ويفرى بالجبن والحرص والانكماش. فالإنسان هو - وهو يحس بالمجتمع، ويستجيب لدواعيه - أقوى وأبصر وأشجع منه وهو محروم الإحساس به مصروف عن تلبية دواعيه. إذ لا قوة ولا بصر ولا شجاعة إلا بإيمان.
هذا إلى أن العقيدة تربط الجماعة أقوى مما تربطها رابطة اجتماعية أخرى أساسها الاشتراك في رأي، أو عمل، أو مهنة، أو مكان، أو نحو ذلك مما يشعر الجماعة بوجود مصلحة مشتركة بين أفرادها لا غنى لهم عن التعاون عليها؛ فالعقيدة تثير كل القوى وتستوعبها، وتحدد الغاية والوسيلة، وتتسع حتى تشمل الحياة وقد تمتد إلى ما وراء الحياة، ولا تدانيها في ذلك رابطة اجتماعية أخرى ولا باعث حيوي آخر.
5 -
وعبقري العقيدة يعي من خفايا النفوس الإنسانية بداهة أوضح وأكثر مما يعيه غيره بالتفكير الطويل بالغاً ما بلغ من الذكاء والدرية والبصر، لأن ن نفس العبقري صورة شاملة للنفس الإنسانية على اختلاف قواها وأحوالها ونزعاتها واحتمالاتها، ومن ثم يعي هذا العبقري كل صغير في الناس وكبير، ويعي حقه وواجبه الذي ينبغي له. وطريقة الذي
يصلح له ويغني فيه، وما يحس معه أو يسوء من السياسات، فيسوس كل نفس بسياستها الخاصة، ويشرع لها شريعتها الملائمة بلا بخس ولا محاباة.
6 -
وشخصية عبقري العقيدة وسيرته مثل حي مجسم لعقيدته، فهو لا يقول إلا ما يفعل، ولا يفعل إلا على هذى من عقيدته، ولا يدعو إلى ما دعا نفسه مثله أو أشق منه، وهو في طاقة المستجيب بعد أن أمدته بواعث الإيمان بكل ما في نفسه من استجابة تكفل السمع، وتكفل الطاعة، ومن ثم تكون شخصية عبقري العقيدة وسيرته وأقواله مصدر حياة وإيمان وتشريع، وذلك كفيل باستمرار حياة عقيدته في المستجيبين إليه، وبتنقلها في طبقة إلى طبقة، وفي جيل إلى جيل.
وتتمثل عبقرية العقيدة في الدعاة إلى العقائد الدينية كالأنبياء، والدعاة إلى العقائد الوطنية أو السياسة أو العنصرية كالزعماء، والدعاء إلى العقائد الفنية أو الفلسفية أو الصوفية كأصحاب المذاهب النظرية ذات النزعات وكل منهم صاحب عقيدة لها مقاييسها الخاصة، وكل منهم مؤمن بعقيدته معتصم بها يدعو الناس إلى الإيمان بها والتزامها في مضمار من مضامير الحياة، وهم جميعا معتقدون، ومعلمون لما يعتقدون.
للكلام بقية
محمد خليفة التونسي
رسالة الشعر
فكري
لسعاد عزيز أباظه باشا
(قصيدة عائلية ألقت عن سعادته في الحفل الخاص الذي أقامته
العائلة الأباظية تكريما لسعادة فكري باشا)
قبلوا الباشا وضموه أشد الضم عني
واسكبوا في أذنيه هذه الهمسة مني
ليست الرتبة شيئاً وهي حلم المتمني
إنه المعنى الذي تحمل يجزيك فيغنى
لم تنلها في حمى مال ولا جاه وسن
لا ولا بالحسب المعتقد من بطن لبطن
لا ولا بين زحام الناس قرناً فوق قرن
انك الواحد لا أظلم نفسي فأثنى
واحد الكتاب في لونك تبكي فتغنى
تبدع الفن الذي يقصر عنه كل فن
قلم من سرحة الخلد مغذ متأنى
رف واستعلى فإن سومي يضني ويغنى
سال كالطل إذا انهل على أكمام غصن
قاطعاً في غير طعن مبرئاً في غير من
قاسياً في غير فدح، ليناً في غير وهن
مرسى الفكرة والرأي على أمتن ركن
وخطيب أيقظ الأمة بالصوت المرن
أو حدى اللحن تزجيه فيشأو كل لحن
تنشد الحق وتسمو عن حزازات وضغن
يكتر المنبر ما أوتيت من سحر ووزن
ود لو يسعف بالنطق فيثنى ثم يثنى
يا لداتي وضأ الله لكم جنات عدن
كل غصن جفف الموت نداه إثر غصن
قلب الدهر علينا بعدكم ظهر المجن
ثم والى بعد حيف وارعوى بعد تجن
سبحوا في رفوف الخلد بقلب مطمئن
أكرمت مصر أخاكم وحبت في غير ضن
إيه يا فكري ومن يعرفه أكثر نمي
كنت لي خدنا إذا ضيع عهدي كل خدق
ما تهيجت ودادي، لا ولا أخلقت ظني
أنت إشراقة روحي، أنت إغفاءة جفني
ماثل في حبة القلب في إنسان عيني
إن أهنئ فبمن أبدأ؟ بالله أغني
أنت نفسي يا أخا العمر فنفسي من أهني
عزيز أباظة
أطلال راقصة. . .
للشاعر صالح علي شرنوبي
(إليها. . . إلى المسكينة التي نبذتها الحياة) (وما زالت تعيش
على ذكرياتها. . .)
طرقي. . . أطرقي، فقد ضمك الليل
…
. . . وألقي عليك ثوب ظلامه
اطرقي. . . فالحياة في قلبك المظلم
…
ماتت. . . موءودة في حطامه
يا ابنة الفقر. . . مزقتك سوافيه
…
. . فلا تذكري أسى أيامه
واقبعي في غياهب الليل. . حتى
…
بشرق الفجر من وراء غمامه
اقبعي هاهنا. . . ولا تفغري فا
…
ك بقول. . . مستحدث. . . أو معاد
اودعي الليل مثلما جاء يمضي
…
والبسي من جاء. . . ثوب حداد
ودعيني أصغي إلى همسة الحا
…
ئر. . . بين الأزل. . . والآباد!
لا تضجي. . . ولا تضيقي بصمتي
…
فهو زادي وعدتي وعتادي
دونك الكأس. . فاشربيها. . وذوقي
…
لذة الموت. . . في ثنايا الرحيق
أشربيها. . . فأنت قصة دنيا
…
ها. . . ونامي في حضنها. واستفيقي
واسأليها. . . فعندما علم أيا
…
مك. . . منذ التقيتما في الطريق!
اسأليها. . . ولا نكفي بكاء
…
فوق أطلال فجرك المشنوق
قصة الكأس. . أنت مثلتها يو
…
ماً فقد كنت مثلها. للجميع!!
يوم كان الزمان فيك ربيعاً
…
عبقرياً. . . وكنت روح الربيع
دفنت عطرك الأعاصير يا بله
…
اء. . فابكي. . واستمتعي بالدموع
وإذا شئت أن تعيشي على الوه
…
م. . فغني. . . قبل انطفاء الشموع
لا تثوري على الحياة. . فقد جف
…
ت. . . زهور الحياة. في راحتيك
كنت. . . والحسن والشباب. فأ
…
صبحت. . . وما من أولاء شئ لديك
فاعذري الناس إن مضوا عنك لايل
…
وون. . . فالنور مات في عينيك!
ودعي الذكريات. . تقتات ما
…
أبقت أفاعي الظلام. . . في شفتيك
لم يعد فيك ما يسر العيونا
…
فاعذري العابثات. . . والعابثينا
نسلت ربشك المنايا. . . وأبقت
…
جسدها لكما. . . وروحاً جزينا
وبقايا قلب. . . وأشلاء نفس
…
وشعاعاً - تحت الرماد - سجينا
وحطاما قد عضمضته الرزايا
…
يتنزى مدامعاً. . . وأنينا
فإذا ما أعياك خبث الغواني
…
فاغمري كيدهن صفحاً ولينا
وإذا أيقظت شجونك حورا
…
ء وأغرت بقبحك الشامتينا
فاسخري من جمالها. . وصباها
…
واحقريها بكثرة العاشقينا!
أو. . عظيها. . فرب شيطانه منكـ
…
ن قالت فأبكت الواعظينا
حدثيها عن الهوى. . . والرفاق
…
والليالي، والخمر، والعشاق
وجسوم أشقيتها بالتنائي
…
وجسوم أسعدتها بالتلاقي
حدثيها عن كل شئ سوى الح
…
ب. . . فما عندكن غير النفاق
حديثها عن الفتى الناعم المم
…
راح، أعمى العواطف، الأفاق
كيف أغراك ذات ليل. . . وولى
…
هارباً من عفافك المهراق
تاركاً ثوبك الممزق للنا
…
ر. . وعصف الرياح والأشواق
حديثها. . مادام في كوكب العص
…
ر. . شعاع مهدد بالمحاق
ثم غيبي عن زحمة الموكب الأع
…
مى. وعيشي للحزن. والإطراق
صالح علي شرنوبي
كلما. .
كلما أسمع لحناً عبقري النغمات
أو أرى الأنداء تحبو الزهر عذب القبلات
أو أجيل الطرف يا نجواي بين الصفحات
أتمنى لو تكونين معي في خلواتي
فهنا أشعر حقاً بخبايا الكلمات
ومعاني النغمات، وغرام الزهرات
أنت لو تدرين قد أمسيت مقياس حياتي
فبك الكون يولى، وبك الكون يؤتى
أنت. . من أنت؟ وهل في قدراتي أعرف ذاتي؟!
محمد محمود عماد المحاصي
الأدب والفن في أسبوع
للأستاذ عباس خضر
معركة القزويني في الأزهر:
هي معركة طريفة بين أستاذين من أساتذة كليه اللغة العربية بالجامع الأزهر، هما الشيخ عبد المتعال الصعيدي والشيخ محمد عبد المنعم خفاجي، وتدور رحا المعركة على كتاب (الإيضاح) في علوم للخطيب القزويني. وذلك أن للأستاذ الصعيدي شرحاً لهذا الكتاب بتداوله الطلاب منذ سنين، فجاء الأستاذ خفاجي ووضع له شرحاً آخر أخذ طريقه أيضاً إلى أيدي الطلاب، فأصدر الشارح الأول كتاباً اسمه (تنوير الطلاب) نقد فيه مسلك الشارح الثاني في وإخراج الكتاب تعليقاته عليه، وقال: أنه عنى بنقل عبارات الحواشي ومما حكاتها اللفظية بأسلوبها الذي لا يليق بعصرنا. . فهب الشارح الثاني يدفع الغرة بمثلها، فأصدر نشرات تحمل عناوين مثل (بيني وبين الناقد العالمي البروفسير الأستاذ الصعيدي) و (بيني وبين زعيم المجددين في البلاغة) وقد ذهب في هذه النشرات إلى أن الأستاذ الصعيدي خشي من منافسة شرحه الذي كان الميدان خالياً له من قبل. ومما قاله:(والطريف حقاً أن ناقدنا الكبير يرى أن الإيضاح ملك له وأنه كان حجراً محجوراً على سواه أن يتناوله بالشرح والتعليق، لأن عمل الناقد فيه معجزة الأجيال ولأنه قد فرضه على الطلاب المساكين فرضاً وحمله إليهم حقيقته صباح مساء)
وتعودات النشرات والحملات بين الأستاذين الحليلين، بعضها في التجريح الشخصي، وبعضها في مسائل (العلم) من نحو إستاد ليت من الشواهد إلى غير قائله أو تحريف فيه أو توجيه لقول (المنصف) ومما اختلفا عليه: هل مقدمة (الإيضاح) مقدمة كتاب أو مقدمة علم! وكم في ذلك من نظر!
ويقول الأستاذ الصعيدي: (ويا ويل الأزهر في عصر الذرة إذا علم الناس أنه لا يزال يبحث في متعلقات الفعل، آلامها مكسورة أم مفتوحة) فماذا يقول الناس إذن إذا علموا أن أساتذة الأزهر - في عصر الذرة - لا يزالون يستنفدون جهودهم في العراك على إيضاح القزويني؟ وليت الأستاذين الفاضلين بذلاً هذه الجهود في تأليف بلاغة أخرى غير بلاغة الإيضاح، تجدي على الطلاب في تنمية ملكاتهم الأدبي على البحوث التي يحويها الإيضاح
وأمثاله مماحكات لفظية وأنها لا تليق بعصر الذرة، فلم إذن يشغل نعسه بشرحها والتعليق عليها والعراك من أجلها؟
والعجيب أن يضيع الأستاذ ذلك وله نشاط معروف في الكتابة والتأليف؛ ولكن يظهر أن المؤولين عن مناهج الدراسة في الأزهر هم المسئولون عن ذلك، فإن التمسك بتلك الكتب جعل الأساتذة - حتى المنتج منهم - يدورون حولها ثم يتنازعون عليها، وكان الأولى أن تصرف هذه الجهود في العمل المنشود لإحياء التأليف الملائم للعصر بالأزهر.
ويبدو لي أن تلك المعركة لا يفضها إلا أحد أمرين، الأول أن تلغى دراسة الإيضاح من الكلية، فيرفع (اللحاف) من بين المتنازعين عليه، وبهذا تخلص العقول الجديدة من تنافره وتعقيده. الأمر الثاني أن تبلغ مجلتنا (الرسالة) إلى (قزوين) حيث يعلم بالأمر أحد أحفاد الخطيب القزويني. . فيطالب بحقه في (الإيضاح) الذي ألفه جده الكبير. . .
شكوى شاعرين من (الشاعر)
شكا إلى شاعران من مجلة (الشاعر) التي يصدرها الزميل الكريم الأستاذ محمد مصطفى المنفلوطي، وهما الشاعر العراقي الأستاذ إبراهيم الوائلي والشاعر السوداني أبو القاسم عثمان. يقول الأول:(جاءني ذات يوم صديق شاعر وطلب مني أن أسهم في عدد خاص من مجلة اسمها (الشاعر) وقال لي: إن العدد الخاص سيكون عن الربيع، فاستجبت لرغبة الصديق بقطعة عنوانها (ربيع النيل). وجاءني العدد الخاص فإذا القصيدة قد حذف أجمل ما فيها، فتمزقت وحدتها. وقال لي صاحبي: إن صاحب المجلة فعل ذلك لأن الصفحة الذي خصص للقصيدة لم يتسع لها، فكان الحذف والبتر)
ويشكو الثاني نفس الشكوى فيقول: إن قصيدته كانت ثلاثين بيتاً أسقط منها أربعة، لأن الصفحة لم تتسع لأكثر من ست وعشرين، ويقول:(ولما لم يكن هناك عذر في عدم نشر القصيدة كلها إلا ضيق المقام فإن ذلك عجيب من مجلة تحمل أسم (الشاعر) ذلك الاسم العظيم الذي لا يعرف الحدود ولا القيود)
وظاهر من كلام الصديقين الشاعرين أن المجلة عمدت إلى ذلك التصرف محافظة على نظام الصفحات. . ولاشك أن وقوع ذلك من مجلة خاصة بالشعر غريب، فإن أعز ما يتمسك به الشاعر العصري هو تسلسل معانيه وارتباطها، وإذا اقتضى بعض التنظيم
الصحفي تحيف الموضوعات لتظهر الصفحات على نسق معين، فإن ذلك لا ينبغي أ، يكون في المجلات الأدبية التي يراعي فيها الموضوع قبل الشكل ولا أخال الأستاذ المنفلوطي - وهو الشاعر صاحب (الشاعر) - إلا ملاقياً عتاب زميليه الشاعرين وتعقيبناً بقبول حسن.
على أنني مع ذلك لا أخفي شمتي بالشاعرين فيما جرى لشعرهما الذي قالاه في هذا الربيع لزعوم في مصر. ولو لم تكن قصيدة الوائلي عنوانها (ربيع النيل) لفهمت أنه يعبر عن إحساسه بجمال الربيع في العراق؛ أما أبو القاسم فلا أدري أين شاهد الربيع، وليس في السودان ربيع غير الشتاء الدافئ، فهناك الآن الحر اللافح، كما أن هنا الآن في مصر تقلب الجو الذي حيرنا بين التخفيف والتثقيل، ونالنا من شره قذي في العيون وبرد في الأجسام مختلف الألوان. وعلى رغم كل ذلك لا يزال إخواننا الشعراء في مصر مصرين على التغني بالربيع!
المسرح المدرسي:
أتيح لي في هذا العام أن أكون على مقربة من النشاط المسرحي في المدارس الثانوية بالقاهرة، وأن أشهد الحفلات التي أقيمت لنيل كأس وزارة المعارف في المباراة المسرحية. وقد رأيت فرق المدارس تبذل غاية وسعها في هذا السبيل، كما لمست الجهد البارز الذي تبذله مراقبة المسرح في الإشراف على هذا النشاط وتوجيهه، وهو جهد مثمر ولكنه محدود وقليل الوسائل.
وقد اختير للمباراة في هذا العام مسرحية (عزة بنت الخليفة) للمرحوم إبراهيم بك رمزي، وهي رواية تاريخية تقع حادثتها بمصر في عهد الخليفة الحافظ الفاطميين، ولا يقصد منها وقائع ولا حقائق تاريخية وإنما هي قصة تحليلية إنسانية تدور حول عزة بنت الخليفة التي فقدت بصرها وهي صغيرة، ويحبها أمير من الشام إذ يرى جمالها ونبالة نفسها، ولا يغض من حبه أن يعلم أنها ضريرة، وفي القصة أيضاً عاطفة الأب الذي يحنو على ابنته ويبتئس لفقد بصرها ويعمل جاهداً على إرجاعه إلى عينيها. وقد لاحظت أن الطلبة لم يبلغوا الشأو المطلوب في المسرحية لأنه يحتاج إلى أكثر من شباب يتمرن، كما لاحظت أنهم - على وجه العموم - لا يجيدون في الروايات التاريخية مثلما يجيدون في الروايات العصرية، فقد قدمت الفرق المدرسية إلى جانب تلك الرواية مسرحيات أخرى مختلفة. وذلك يرجع فيما
أرى إلى ضعف التحصيل التاريخي مما يصعب عليهم معه الاندماج في بيئة الرواية ويرجع كذلك إلى ضعفهم أيضاً في النطق العربي وقلة مرانهم على الإلقاء الفصيح.
وكثير من نظار المدارس يتخذون من هذه الحفلات مجالاً للإعلان عن أنفسهم، فيزحمون البرنامج بالخطب، فإما أن يخطب الناظر معدداً مفاخره. . في إدارة نواحي النشاط بالمدرسة! وقد عمدت إحدى المدارس إلى (إخراج فلم) يصور الناظر يستعرض (الطوابير) أو يتفقد المطعم ويفحص (الحلل. .) وهكذا نرى عين عزته على كل شئ في المدرسة. . . كما قال المدرس الذي كان يصاحب العرض بصوته.
ومهما يكن من شئ فهناك حقيقة مهمة، وهي التربية المسرحية الفنية في بيئات المدارس، وهي الغاية التي يتجه إليها الأستاذ زكي طليمات مراقب المسرح في وزارة المعارف، فإننا نجد الطلبة مقبلين على هذا الفن بشوق ونشاط، سواء في ذلك المشتركون في التمثيل والمشاهدون. وذلك يدل على طواعية هذا الجمهور الناشئ وصلاحيته للاستفادة من المسرح الذي هو مجمع للفنون المختلفة من أدب وتمثيل وتصوير من توجيه اجتماعي وثقافي وتربية وطنية وخلقية. ولا أحسب وزارة المعارف إلا مقتنعة بهذه الفوائد، وخاصة في عهد وزيرها الحالي الأديب الفنان. ولكن يبقى بعد ذلك أن نلاحظ أن ما تبذله من العناية في هذا السبيل لا يساوي ولا يداني ما ينشد من غايته، وهو لذلك يقصر دونها، فقد رأينا الفرق المدرسية يعوزها المدربون الفنيون الأكفاء، وهذا العدد القليل من خريجي معهد التمثيل لا يكفي، على أنهم يعاملون بالمكافأة المادية القليلة، وهم يعملون على هامش النظام المدرسي، فليسوا موظفين دائمين، بل تصرف لهم المدرسة مكافآتهم الزهيدة من مال النشاط المدرسي. فمالها الدولة لهؤلاء الشبان الفنيين جزء من عدم عنايتها بالمسرح على وجه العموم. على أن كل ذلك المجهود المحدود قليل الوسائل إنما هو في مدارس القاهرة، أما بقية مدارس القطر فإن الإشراف الفني على النشاط المسرحي يكاد يكون معدوماً فيها وهذه الظاهرة المسرحية المدرسية توازي الظاهرة المسرحية العامة فليس في مصر فرق تمثيلية يعتد بها غير القاهرة.
إنني أعتقد أ، وزارة المعارف هي التي تستطيع أن تغذي أو تبعث النهضة المسرحية في هذه البلاد، وذلك بتربية الجيل الناشئ على تذوق الفن المسرحي وحبه، وبإعداد المشتغلين
بالفن من الشباب المتعلمين، ولكنا نراها مع الأسف تسير في ذلك سير السلحفات، والمظهر الجدي الوحيد لاهتمام الوزير بالتمثيل هو معهد التمثيل العالي. أما مراقبة المسرح فهي مدمجة في إدارة عامة أنشئت حديثاً اسمها إدارة النشاط الاجتماعي والرياضي، فكأن الوزارة بهذا الوضع تعتبر فن التمثيل أحد أنواع هذا النشاط الذي لم نر منه إلى الآن إلا رحلة في الصيف إلى الإسكندرية ورحلة في الشتاء إلى الأقصر. . . وهذه الإدارة جديدة لا يزال موظفوها يكتبون المذكرات ويضمون الخطط، ونحن نرجو لها التوفيق في خدمة الشباب، ولكن هذا كله غير فن التمثيل الذي توضحت معالمه وأرسى القائمون به قواعده.
عباس خضر
البريد الأدبي
ذكرى الرافعي
في هذه الأيام تظلنا الذكرى الثالثة عشرة لفقيد العروبة والبيان العربي المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي، فقد لقي وجه الله في اليوم العاشر من مايو عام 1937.
ولقد كنت أهم بإعداد مقال مسهب عن هذه الذكرى العاطرة، بيد أني حين رجعت إلى كتاب (حياة الرافعي) وجدت أن أديبنا المتمكن الأستاذ محمد سعيد العريان لم يترك زيادة لمستزيد، وبخاصة أن جزءاً كبيراً من كتابة نشر منجما في (الرسالة) سنة مات الرافعي.
واليوم إذ تنطوي الأحقاب على ذكرى أديب العروبة الكبير نفتقد مكانه في الأدباء فنجده شاغراً، ولا نجد في أدباء الشباب من يسير على غراره ويقتفي أثره، فقد كان الرافعي - رحمة الله - يدعو للغة العربية (المسلمة). ويتعصب (للعبارة القرآنية) وكان إذا هم بالتابة فزع إلى عربي مبين ليقوم أسلوبه ويجربه على سنن الفصحى.
ولقد أشاد مصطفى صادق الرافعي بأمجاد العروبة، وحلق في الآفاق بتراث الشرق فبز المتأخرين وما قصر دون المتقدمين.
ولقد كانت بيني وبين الكاتب الكبير جيرة في رمل الإسكندرية يوم كان يصطاف سنوات متوالية، فحمدنا الجوار، وشكرنا الصحبة، وفيما نحن نرتقب الأوبة إذا بالنعي الأليم يطالعنا مصبحين!
ولقد أرسلت هذه الكلمات تحية لذكرى الكاتب والصديق العظيم، والمرض الوجع يعرقني والحمى تعاودني حيناً بعد حين، فعفوا - أبا سامي - ووالله ما تؤدي كفاء حقك علينا ولا على العروبة، وإنما لك عند الله حسن الجزاء.
منصور جاب الله
بين الحساب والعتاب
طالعتني من روضة الرسالة الفيحاء كلمة الأديب الأزهري المتوثب محمد القاضي خليل الموجهة إلى شخصي، وفيها الثناء الكريم والشكر المحمود والظن الجميل؛ ومع تقديري للدافع النبيل الذي دفع بالأديب إلى هذا الشكران والتعليق، أهمس ف أذنه بأنه استخلص
من حديثي ما لم أرده، وحمل عبارتي عن المؤلفات الأزهرية ما لا تحمله، إذ ظن أنني أعتبر هذه المؤلفات الجديدة هي غاية القصد والمراد من شيوخنا الإجلاء، وأعلام نهضتنا الأزهرية المرموقة، مع أن ذلك لم أرده ولم أقله؛ فعنوان المقال:(الأزهر في مفترق الطريق) يدل على أن الأزهر لم يبلغ بعدما يريد وإن كان يسير، ولهجة المقال كله تنادي بالقول بأن الأزهر حائر مضطرب مزلزل الخطا، لا تزال في دور الانتقال، ولا يزال يتعرض لمحنة الذبذبة بين القديم والجديد. وقد أقمت من الشواهد على ذلك ما أقمت، ثم عرضت لموضوع الكتب الأزهرية عرضاً سريعاً موجزاً، ذكرت قيه أن كتباً جديدة قد ألفت بأفلام أزهرية، وأن هذه الكتب فيها بعد قليل على الأمد، ويطيب عندها قطف الثمر والاستمتاع بالحصاد؛ ولعله من العسير - إن لم يكن من المستحيل - أن تطلب إلى أسير ظل مقيداً أجيالاً مباشرة في عدو وجرى متتابع! ليس هذا من سنن الحياة أو الأحياء في شيء!
وإذن فلنعتبر - كما حاولت أن يفهم القارئ من كلامي السابق - هؤلاء السابقين من المؤلفين رواداً يكشفون لنا الطريق، ولا يعيهم أبداً أن تكون لهم عثرات أن هفوات، أو تؤخذ عليهم ملاحظات، أولاً يقسم عملهم التأليفي بالكمال والتمام، فإنهم جنود الطليعة، وهم بلا شك يتعرضون لمعاطف الطريق وفجاءات السبيل.
والمهم هنا أيها الشبل المتوثب أن يتصل سبب الإنتاج والإخراج والتحسين والمضي إلى الأمام، وحينئذ تنتهي فترة الانتقال والاضطراب، وتبدأ مرحلة الاستقرار والبناء!
إن الأزهر من دعائم دين الله في أرضه، ولعله اليوم أقواها وأعلاها، فلنحطه بالرعاية والعناية ودسن التوجيه، بله أن نتطاول عليه بصريج الهجوم وعنيف التحطيم، وكان الله للأزهر!
أحمد الشرباصي
المدرس بمعهد القاهرة الثانوي
ولكن لوموا أنفسكم. . .!
لقد أحزنني وحز في نفسي، أن أرى تلك المنارة الشامخة التي تهدي الناس على مر
العصور إلى طريق الحق، تصبح بين آونة وأخرى غرضا لسهام أناس لم يعرفوا للأزهر جلاله، ولم يفطنوا إلى أن للنقد اللين الرقيق من الأثر مالا يحتاج إلى برهان! فضلاً عن أنه من العوامل الهامة في الإصلاح المنشود.
وأبكاني ولست أزهرياً - أن يأتي النقد على صور مفزعة تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، ومن تلك الصور من يأتي بنتف أبواب في أصول الفقه قد قرأها ولم يستسغها - وكأنه يريد أن يكون مشرعاً - فبني عليه رأيه، وثار تلك الثورة التي لا يكون من ورائها إلا بلبلة الأفكار وزلزلة العقيدة، فيا ليت شعري، كيف يصبح عالماً ذلك يريد أن نحتاج إليه ندرسه، أو كان الجديد إلا من صميم القديم.
ما ضركم يا طلاب الأزهر أن تدرسوا وتتفقهوا وتطهروا قلوبكم من تلك الاعتراضات الزائفة والتي تظهر عوار الكسول والتي لا يكون من ورائها إلا العبد عن العلم وآدابه وقد قالوا أن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك). فمن أعطى العلم حقه من اليقظة والمنافحة والأدب حاز الفلاح والنجاح.
لا لوم على الأزهر، وإنما يقع اللوم على تلك النفوس التي تتمسك بالقشور وتترك اللباب، وقد ركنت إلى الكسل ولم تتطهر وتتأدب بآداب الدين.
فمن للدين - يا إخواني - إن كنتم كذلك، ومن لحمايته - وأنتم حماته - إن كنتم من عوامل هدمه.
على أنني أنكر أن الأزهر في حاجة إلى عناية القائمين عليه، وقد بينها أستاذنا الزيات في مقالاته في الرسالة الزاهرة، وصورها. بصورة تقر العين وتشرح الصدر.
حيا الله الأزهر وأبقى ذكراه في الخالدين.
شطانوف
محمد منصور خضر
في اللغة: - ساهم - وأسهم
يرى بعض الباحثين في اللغة أن الفعل (ساهم) لا يؤدي إلا معنى المقارعة، ويستدلون على ذلك بالآية (فساهم فكان من المدحضين) ويرون أنه يؤدي معنى الاشتراك، وعلى ذلك
يخطئون لفظة (المساهمة) في قول القائلين مثلاً (شركة مساهمة) ويصوبونها بقولهم (شركة مسهمة) من أسهم بمعنى اشتراك. . . وحجتهم في ذلك أن كلمة (ساهم) لم ترد في القواميس العربية إلا بمعنى المقارعة. . . ولما كانت هذه القواميس تحتج لصحة الكلمات التي توردها وتورد اشتقاقها بكلام العرب شعراً ونثراً في عصور قوة الفصحى وقبل تسرب الدخيل إليها، كالعصر الجاهلي وعصر صدر الإسلام والعصر الأموي؛ فإنني أرى أن كلمة ساهم تؤدي معنى الاشتراك، ولا غبار علينا إذا أسمعناها في هذا المعنى؛ فلقد عثرت على استعمالها في هذا المعنى (والاشتراك) في شعر إسلامي أموي للشاعر الحكم بن معمر الخضري إذ يقول في وصف امرأة: -
تساهم ثوباها ففي الدرع غادة
…
وفي المرط لفاوان ردفهما عبل
ولا يمكن أن يكون معنى (تساهم) هنا إلا الاشتراك في الاقتسام. فلعل الأقلام الحمر بعد ذلك ترحم هذه الكلمة وتهبها حريتها لتعيش في أمن وسلام، فهي صحيحة في معنى الاشتراك كأختها (أسهم) وإن لم توردها القواميس؛ ولعلها تزيد على كلمة (أسهم) أنها أخف منها وضعاً، وأكثر استعمالاً وقد دربت عليها الألسنة وتقبلتها الأسماع. . .
عبد الجواد سليمان
المدرس بمعلمات سوهاج
رسالة النقد
القضايا الكبرى في الإسلام
تأليف الأستاذ عبد المتعال الصعيدي
للدكتور زكي المحاسني
سألت وأنا أجول في صحن الجامع الأزهر عن الشيخ الصعيدي. قلت لعلي أجده تحت رواق من الأورقة التي علت، فأظلت. فدللت على مكانه البعيد، لا في الصعيد. ولكن في كلية اللغة العربية. وكنت أذكر أن أحد عشاق الأسفار من الغربيين كان يقول: من زار باريس فليكتف منها بأن يرى برج إيفل والمسيو أندريه تارديو. وقد مر بالخاطر هذا القول وأنا أبحث في مصر عن الأزهر الذي رأيته كثيراً قبل أن أراه.
كنت وأنا أجوس خلال الصحن أتمثل حلقات الدرس التي لم يبق منها إلا الفلول، فلقد انتقل التعليم من فناء الأزهر فوق الحصير إلى أبنية شيدت بحديد يجلس فيها التلاميذ أهل العمائم والجيب على مقاعد مرصوفة كالتي في المعاهد المتحضرة. ثم لا ضير عليهم أن يبدؤوا علم الأزهر مع حفظ الكافية والأجرومية بشيء من الفرنسية والإنكليزية، وأن يؤلفوا بين الفقه والأصول بضرب من الكيمياء والكهرباء.
وقد لقيت الشيخ بعد لأي في دار من دور الطباعة فأذكرني لقاؤه بموعظة نطق بها ابن المقفع وهي قوله: لا يجعل بالمرء أن يرى إلا مع النساك متعبداً أو مع العلماء جاهداً. وقد لقيت هذا العالم الأزهري العظيم حيث يجمل أن يكون اللقاء بمثله.
بدأ طوالا عريض المنكبين متسق الوجه. ولو أن للمعرفة أشعة لحسبتها تتلألأ في عينيه. واليوم وأنا أتحدث عن كتاب من أجل كتبه وهو القضايا الكبرى في الإسلام أعيد للبال سمته الجليل ومنظره الكريم خافقاً بعمامة وجبة يستدير عنقه فوق جلباب نقي سابغ.
والقضايا الكبرى اسم مر على أسلات الأفلام المعاصرة، فألف في بابه الأستاذ محمد عبد الله عنان كتاباً اسمه قضايا التاريخ الكبرى، جمع فيه كبريات من الحوادث في الشرق والغرب.
وكلا المصريين نال لما صنع المؤلفون الغربيون فقد ألف نقيب المحامين الفرنسيين الغابر
(هنري روبير) كتاباً بهذا الاسم. وفي فرنسة مكتبة حقوقية أصدرت مجموعة سنوية كبرى تسمى قضايا العالم الكبرى '
أما كتاب القضايا الكبرى في الإسلام الذي أنا بسبيله في هذا الحديث فهو للأستاذ الشيخ عبد المتعال الصعيدي. ويمتاز هذا العلامة من زملائه الأعلام الأزهريين بأنه يجمع العلم الديني إلى الأدب الإنساني. فقد أذكر أن له رسالة قديمة كتبها في أبي العتاهية الشاعر العالمي درس فيها حياته وشعره، كما نشر ديوان الهاشميات لشاعر العصر المرواني الكميت بن زيد الأسدس بتحقيق دقيق، ورأى رصين.
وكتابه عن القضايا الكبرى في الإسلام يبدأ بعصر الرسول فيصور مؤثرات المنافقين، وقذف عائشة وطلاق زينب، ويتحدث عن مجرمي الحرب في فتح مكة. وإذا هزني حديث الإفك فجعلت أتململ على مثل النار لما اعترى عائشة من الحزن يوم ذاك، فإني ليهزني ذكر الخوارج الصلاب الشداد، وقد وقفوا يوم التحكيم مثل أسود لا تخدعها الثعالب، فراحو يهتفون: لا حكم إلا الله. حتى إذا انحدرت في قراءة هذا الكتاب إلى عصر بني أمية والمروانيين راعني مقتل سعيد بن جبير. إذ يعرضه الأستاذ الصعيدي أذهب مذهباً يخالفه في أمر سعيد بن حبير، فإن قلق الحجاج كان لا يزال يعاود خيالي فأنصوره وقد قتل أزهد عالم في الإسلام، وأوعى فقيه من التابعين لعلوم الدين. ثم أتصور هبوبه من نومه فزعاً مرتاعاً يصيح في خدمه وحشمة في قطع من الليل منبهر الأنفاس، يخيف الحراس فيقول صائحاً:
- لقد رأيت في المنام ابن جبير يقول لي: كيف قتلتني يا حجاج وكأنه كان يأخذ بعنقي ليخنقني.
لكن المؤلف مد بيانه، وبرهانه، إلى رأيي فبدل ما كنت أذهب إليه من مذاهب في شأن ابن جبير، فلقد أفسدت السياسة علم هذا الحنيف كان والياً على عطاء الجند سنة ثمانين من الهجرة في جيش جهزه الحجاج لغزو رتبيل ملك الترك مما وراء النهر بعد فارس. وولى عليه عبد الرحمن بن الأشعث الكندي. فلما توغل عبد الرحمن في بلاد وطاع له العباد اجترأ على الحجاج فحلع طاعته وطاهرة على ذلك ابن جبير، وكان ابن الأشعث الكندي خواناً حين ارتد على المسلمين يقاتلهم ويسد عضد أعدائهم يوم الفتح. وقد جرت حروب
بين لبن الأشعث والحجاج أزهقت من المسلمين نفوساً كثيرة لو صرفها أصحابها إلى الفتوح لأوغلوا في البلاد. وانتهت هذه الحروب بظفر الحجاج، فأمكنه الله من سعيد بن جبير بعد أن نقض العهد وبايع لبن الأشعث، ففتله بعد أن حاكمه، وكان خصمه وحكمه.
ويختم المؤلف على العصر الأموي بخاتم البحث، ليفتح باب العصر العباسي على مصراعيه كما يفتح باب المحكمة عن بهوها الكبير وحكامها الجبابرة، فأدخل على القضايا العباسية الكبرى.
وكنت أوثر لأدب، فيجتذبني بشار بن برد إلى قضيته، فأشهد محاكمته مع الزنادقة في عهد الخليفة المهدي.
وقد كان المؤلف أشبه عندي بالمدعي العام، يصور للمحكمة جرم المتهمين حسب رأيه ووفق نظريته، ثم يحملهم على غوارب الحكم حملاً. وهاهنا لم يجتذبني المؤلف ولم يغير من رأيي في مقتل بشار فلقد راح بجمع النصوص من شعر بشار، وأخبار الزنادقة وشرطة الملحدين الذين كانوا مكلفين بالتتبع يحملون أخبار العقول والألسنة إلى الخليفة، وقد صنع المؤلف كل ذلك ليهيئ الحكم على الشاعر بأنه قتل من أجل هجائه وفحشه أو بسبب زندقته وإلحاده. والصحيح عندي أن الذي قتل بشاراً السياسة. فقد استبد الوزير يعقوب بن داود بالكم دون المهدي. وكان بشار من الأحرار لم يستعبده أدبه فما تملق الخلافة ولا ذل للسلطان وكان شعبياً يؤثر أن ينفخ في الأمة بوق الثورة من أجل حياة أسمى. فكان من قوله:
بني أمية هبوا طال نومكم
…
إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا
…
خليفة الله بين الزق والعود
كذلك أخطأ التاريخ، وظن المؤرخون ووهموا. فقتل عندهم بشار بن برد من أجل الزندقة والفحشاء. وقتل عندي من أجل السياسة والثورة. لقد كان طيب الفؤاد فلم يهج غير من استحق الهجاء. ظلمة مجتمعة فنقم لنفسه من ذلك المجتمع الظالم ومن مس العقرب لسمته إبرتها. بذلك نفي الحق بين الأنام. لقد وجد ناس في إسقاط بشار بعد موته هذه الكلمة النبيلة:
- إني أردت هجاء آل سليمان بن علي لبخلهم، فذكرت قرابتهم من رسول الله عليه وسلم،
فأمسكت إجلالاً له.
على أنه فرط منه هجاء لآل سليمان - والظاهر أنه كان فيه مترفقاً بهم من أجل تلك القرابة فقال فيهم.
دينار أل سليمان ودرهمهم
…
كالبابليين حقا بالعفاريت
لا يبصران ولا يرجى لقاؤها
…
كما سمعت بهاروت وماروت
ومن القضايا الكبرى في هذا الكتاب قضية خلق القرآن وما جرت من الفتن وضرب الرقاب، وفتنه الحلاج وكنت أبحث في كتابة عن قضية سيبويه والكسائي فلم أجده قد ذكرها. وكانت منه أملوحة لو أضافها في كتابه وجلاها في تصويره الفني.
ثم مضى المؤلف في ذكر القضايا من كبريات الحدثان في الأندلس وعهد كتاب الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي يوم قامت قيامة القوم على عبقري الشرق الذي أخرج الأدب من صحن الأزهر إلى مقاعد الجامعة.
كذلك طوفت في قصر العدالة الإسلامية الذي بناه الشيخ عبد المتعال الصعيدي الأستاذ في كلية اللغة العربية بالأزهر الشريف وصوره في كتابه. فتنقلت فيه من حجرة إلى حجرة أشهد المحاكمات، وأسمع المرافعات فأحن إلى ماض أفل عني وكنت فيه من المحامين، ذاكراً طلعة الأزهري الحكيم الذي زانه العلم، وجمله الأدب، وحلاه التواضع.
زكي المحاسني
بائع الحب
كتاب لاحسان عبد القدوس
للأستاذ أحمد قاسم أحمد
قرأت الكتاب الأول - صانع الحب - للأستاذ إحسان عبد القدوس وقضيت في قراءته وقتاً لم أرد أن أقضيه في جد. . . وما كنت أعتقد حينذاك بأنه كتب للأدب. . .! لقد قرأته على أنه صور - كما يجب أن يسعى إنتاجه - تستطيع أن تسمها بما تريد. . . إلا بالأدب. . . ووقع بين يدي كتابه الثاني - بائع الحب - وأجلت نظري في مقدمته فاستوقفني دهشاً حائراً قول الكاتب: (وقد سبق أن أصدرت مجموعة من هذه الصور بعنوان (صانع الحب)
فأثارت ضجة أدبية على صفحات الصحف، وهي ضجة تقوم كلما حاول الأدب العربي أن يخطو خطوة إلى الأمام. . .) إذن فالأستاذ إحسان قد أخرج كتابيه لا كإنتاج أدبي رفيع فحسب، بل كخطوة يخطوها الأدب إلى الأمام. . . وما كنا نعلم أن نهضة الأدب تكون على راح تلك الصور الواهية المبتذلة، التي لا تجيد إلا وصف الشفاء الداعية في نهم، والنهود البارزة في ثورة، والأجسام المغرية في إلحاح. . .! فإن أصر الأستاذ على ادعائه فأنا نقول له. إنك في ذلك مسبوق لا سابق، والذي سبقك هو ذلك الشاعر الذي تهكمت به وبشعره في مقدمة (صورك) هو أمرؤ القيس فإنك لم تزد على أن شرحت قوله:
فمثلك حبلي قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
وقوله:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
…
لدي الستر إلا لبسة المتفضل
خرجت بها أمشي تجر وواءنا
…
على أثرينا ذيل مرط مرحل
بطريقتك الخاصة في القرن العشرين. . .!
و (بائع الحب) لا ينتقد! لأن النقد يرتفع في حالتين:
الأولى: أن يتسم الأدب ذروة الروعة والكمال، فيتقاصر دونه النقد.
والثانية: أن يهبط إلى مهار عميقة من السخف والتبذل، فيتعفف النقد أن يلاحقه في أغواره. . .!
ويستطيع القارئ - طبعاً - أن يعرف لماذا لا ينتقد (بائع الحب) المسكين. . .!
وأحب أن أقول للكاتب الفاضل إن الأدب متعة الروح، لا متعة الجسد، وغذاء الألباب الناضجة، لا الحيوانية المنحطة، وإن مصير صورة كمصير غانياته اللاتي يلقي بهن إلى عرض الطريق بعد أن يقضي منهن وطراً. . فان القارئ لن يعود إلى قراءة صورة منه لأن المتعة الخالدة معدومة فيها، ولأن جدتها قد بليت، وخمدت أنفاسها إلى الأبد، بل تطايرت في الهواء مع نفثات لفافات قارئيها. . .!!
وأحب أن أقول له أيضاً: إن الصحافة أجدى عليه من الأدب، وإنه ليس أشقى من الأدب، وعزاؤه أنه يعمل لوجه الفن الخالد
ويذكر الأستاذ في إحدى صورة أنه انهال على صاحبته لطما وضربا ولعن آباءها وأجدادها
باللغة العربية. . . . وأنى لأرجو أن يذكر أنه - بكتابيه - قد مثل نفس الدور مع الأدب العربي. . .
وأن يذكر أيضاً أننا نستطيع أن نعتبره صحفياً ناجحاً ولا نستطيع أن نعتبره أديباً ولو ثابت صاحبته الصهيونية. . .!)
أحمد قاسم أحمد
القصص
قصة لقاء. .
للأستاذ عبد الله نيازي
هذه قصة لقاء بين جميل بن معمر العذري وحبيبته بثينة. . . وهي صورة صادقة من صور الحب في البادية - ولون من ألوان الغزل البريء. . . ففي الوقت الذي يقطع فيه العاشق المتيم المسافات البعيدة، وبتجشم المخاطر والصعاب - ليرى من شفقته حباً. وملأته هوى، لا يطمع ساعات، ثم يرجع وهو من النشوة يكاد أن يطير، لماذا؟ لأنه تحدث إلى حبيبته - وتحدثت إليه - وبثها لواعجه بألطف لفظ وأعفه. وشاركته نجواه بأرق لفظ وأعذبه عليها تجد طريقها إلى شباب هذا العصر الذي رق عندهم الحب وأصبح المفهوم من هذا اللفظ - هو رشف الثغور، وشم التهود، وأرضاه الغرائز
قال معبد الغني المشهور وقد ذهب إلى الغريض ليسمع عنه، فقرع الباب إلا أن أحداً لم يكلمه - فسأل بعض الجيران فقالوا: هو في الدار، فرجع وغني لحنا في شعر جميل:
علقت الهوى منها وليداً فلم لا يزال
…
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
فما شعر إلا بصائح يصيح: يا معبد المغني - افهم وتلق عني شعر جميل الذي تغنى فيه يا شقي النجفة - وغنى - وحين أراد معبد الانصراف إلى المدينة، سمع بصائح يصيح يا معبد - انتظر أكلمك - فدخل وسلم - ثم جلس - وتحدثا قليلا - وخرج معبد من عنده - ورجع إلى المدينة - فتحدث بحديثه - وعجب من فطنته وقيافته! قال معبد وذكرت جميلا وبثينه فقلت: ليتني عرفت إنساناً يحدثني بقصة جميل وخبر الشعر فأكون أخذت بفضلة الأمر كله في الغناء والشعر، فسألت عن ذلك فإذا الحديث مشهور، وقيل لي: إن أردت أن تخبر بمشاهدته فأت بني حنظلة، فإن فيهم شيخاً منهم يقال له فلان يخبرك الخبر، فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم، بيننا أنا في أيلي في الربيع إذا برجل منطو على رحلة كأنه جان فسلم على ثم قال: ممن أنت يا عبد الله؟ فقلت أحد بني حنظلة؛ قال: فإنتسب؛ فإنتسبت حتى بلغت إلى الفخذ الذي أنا منه؛ ثم سألني عن بني عذرة أبن نزلوا؛ فقلت له: هل ترى ذلك السفح؛ فإنهم نزلوا من ورائه؛ قال يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه إلى؟ فو الله ما أعطيتني ما أصبحت تسوق من هذا الإبل ما كنت بأشكر مني عليه به. فقلت
نعم، ومن أنت أولا؟ قال: لا تسألني من أنا ولا أخيرك؛ غير أني رجل بيني وبين هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم - فإن رأيت أن تأتيهم فإنك نجد القوم في مجلسهم تنشدهم بكرة إدماء تجر خفيها غفلا من السمة، فإن ذكروا لك شيئاً فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن المرأة والصبي قد يريان مالا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحداً تصبيه عينك ولا بيتاً من بيوتهم إلا نشدتها فيه، فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضاني. فلم يذكروا لي شيئاً، فأستاذ نتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان مالا ترى الرجال، فأذنوا، فأتيت أقصاها بيتاً ثم استقر فيها بيتاً بيتاً أنشدهم فلا يذكرون شيئاً، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف، حانت مني التفاقة فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي: سوءة! وثق بي رجل وزعم أن حاجته تعدل مالي ثم آنية وأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات! فانصرفت عامداً إلى أعظمها بيتاً، فإذا هو قد أرخى مؤخره ومقدمة، فسلمت فرد علي السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: يا عبد الله. قد أصبت ضالتك، وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب. قلت أجل؛ قالت: أدخل، فدخلت فأتتني بصحفة فيها تمر من تمر هجر، وقدح فيه لبن، والصحفة مصرية مفضضة والقدح مفضض لم أر إناء قط أحسن منه؛ فقالت: دونك؛ فتجمعت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت يا أمة الله، والله ما أتيت اليوم
أكرم منك ولا أحق بالفضل
…
فهل ذكرت ما ضالتي شيئاً؟ فقالت: هل ترى هذه الشجرة
فوق الشرف؟ قلت نعم، قالت فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها ثم حال الليل بيني؛ وبينها؛ فقمت وجزيتها الخير وقلت: والله لقد تغديت ورويت! فخرجت حتى أتيت الشجرة فأطفت بها، فو الله ما رأيت من أثر. فأتيت صاحبي فإذا هو متشح في الأيل بكسائه ورافع عفيرته يغني، قلت: السلام عليك؛ قال: وعليك السلام ما وراءك؟ قلت؛ ما ورائي من شئ. قال: لا عليك! فأخبرني بما فعلت، فاقتصصت علية القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت؛ فقال: قد أصبت طلبتك؛ فعجبت من قوله وأنا لم أجد شيئاً. ثم سألني عن صفة الإناءين: الصحفة والقدح، فوصفتهما له فتنفس الصعداء وقال: قد أصبت طلبتك ويحك! ثم ذكرت له الشجرة وإنها رأتها تطيف بها، فقال: حسبك!
فمكثت حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، وجلس مني بمزجر الكلب، فلما ظن أني قد نمت رمقته فقال إلى عيبة له فاستخرج منها بردين، فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر، ثم انطلق عامداً نحو الشجرة. واستبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهن، وإذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس؛ فو الله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها وسألها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قط وأبعده من كل ريبة. وسألته مثل مسألته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاماً. فلما أكل وفرغ، قالت أنشدني ما قلت: فأنشدها:
علقت الهوى منها وليداً فلم يزل
…
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
فلم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشاً ولاهجراً، حتى التفتت النفاقة فنظرت إلى الصبح، فودع كل واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قط ثم انصرفا. فقمت فمضيت فقمت فمضيت إلى ابلي فاضطجعت وكل واحد منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه. فجاء بعدما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم. حتى متى تنام؟ فقمت وتوضأت وصليت وحلبت إبلي وأعانني عليها وهو أظهر الناس سروراً، ثم دعوته إلى الغداء فتغدى، ثم قام إلى عيبة فافتتحها فإذا فيها سلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما وقال: أما والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك. وحدثني حديثه وانتسب لي، فإذا هو جميل بن معمر والمرأة بثينة، وقال لي: إني قد قلت أبياتاً في منصرفي من عندها، فهل لك إن رأيتها أن ننشدها؟ قلت: نعم! فأنشدني:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها
…
وقد قربت نفسي أمصر تريد
ثم ودعني وانصرف، فمكثت حتى أخذت الإبل مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت البرد وأتيت المرأة فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالباً واليوم زائراً، أفتأذنون؟ قالت: نعم، فسمعت جويرية تقول لها: يا بثينة عليه والله برد جميل، فجعلت أثني على ضيفي وأذكر فضله. وقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة حتى أنظر إليك؟ قالت: نعم، فلبست ثيابها ثم برزت ودعت لي بطرف. ثم قالت: يا أخا بني تميم، والله ما ثوباك هذا بمشتبهين، ودعت بعيبتها فأخرجت لي ملحقة مروية
مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومن إلى كسر البيت ولتخلعن مدرعتك ثم لتأتزرن بهذه الملحفة فهي أشبه ببردك. ففعلت ذلك وأخذت مدرعتي بيدي فجعلتها إلى جانبي. وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثنا طويلاً من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبرد جميل ونظرة من بثينة. . قال معبد: فجزيت الشيخ خيراً وانصرفت من عنده وأنا والله أحسن الناس حالاً بنظرة من الغريض واستماع لغنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة فيما غنيت به وفيما غنى به الغريض على حق ذلك وصدقه، فما رأيت ولا سمعت بزوجين قط أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومني. .
وهذه أبيات من القصيدة التي قالها جميل. .
علقت الهوى منها وليداً فم يزل
…
إلى اليوم ينمي حبها ويزيد
وأفنيت عمري في انتظاري نوالها
…
وأفنت بذاك الدهر وهو جديد
فلا أنا مردود بما جئت طالباً
…
ولا حبها فيما يبيد يبيد
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها
…
وقد قربت نضوي أمصر تريد
ولا قولها لولا العيون التي ترى
…
لزرنك فاعذرني فدتك جدود
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي
…
من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به
…
تولت وقالت ذاك منك بعيد
بغداد
عبد الله نيازي