المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 88 - بتاريخ: 11 - 03 - 1935 - مجلة الرسالة - جـ ٨٨

[أحمد حسن الزيات]

فهرس الكتاب

‌العدد 88

- بتاريخ: 11 - 03 - 1935

ص: -1

‌إلى أين يُساق الأتراك؟

مَنِ السائرون في شحوب الأصيل على حدود المغرب، يسرعون الخطى كأنهم هاربون من النهار، ولا يلتفتون إلى الخلف كأنهم ناجون من سَدُوم؟! مَنِ السائرون بين النور والظلام على الدرب الخادع المبهم، يخفقون كأطياف المساء على حواشي الطفل، ويمسون الطريق من الوراء حتى لا يرجعوا إلى الأهل؟! إنها أمة من صميم الشرق نشأت في نوره، وطبعت على شهوره، وتنفست في عطوره، ألقت زمامها الأقدار الغالبة في يد عصبة من أبنائها، رُبُّوا في غير أحضانها، فنشأوا على غير منشئها، وجروا على خلاف مبدئها، فقطعوها بالكره عن مشرق الشمس ومبعث الروح ومنبت العاطفة ومنشأ الدين، وخرجوا بها متعسفين إلى طريق مشتبهة، وغاية مريبة، ودنيا مجهولة؛ ثم قالوا لأنفسها انسلخي عن شرقيتك بأمر القانون، ولقلوبها اعتقدي غير عقيدتك بحكم القوة، ولألسنتها أنطقي غير لهجتك بإرادة الحاكم، ولحاضرها انقطع عن الماضي بسطوة الجمهورية، ولأرضها وبيئتها وطبيعتها انفصلن عن آسيا بإذن الحكومة! كأنما الأمم تصاغ بالقوانين، والطبائع تغير بـ (الأوامر!!)

مهلاً ساقةَ الظعن وهُداة القافلة!! سترحلون عن وطن إلى غربة، وعن ولاء إلى عداوة، وعن إخوة إلى سادة. ماذا نقمتم من الشرق مهد الإنسان ومهبط الأديان ومنبع الإلهام ومسرح الأحلام ومبدأ النشأة؟ ألم يخلق اليابان اليوم كما خلق الصين والهند وبابل والفرس والعبران والعرب بالأمس؟

إن شمس المدينة أرسلت علينا أول أشعتها في صبح الوجود، ثم متَعَ ضحاها فغمرتنا بالنور والشعور والقوة، ثم انحدر إلى المغيب في بلاد المغرب حتى بلغت خيوطها أطراف الشفق! إنها ستغرب لا محالة، وإنها ستشرق لا محالة، وإن غروبها لا يكون إلا هناك، وإن شروقها لا يكون إلا هنا. فلم لا تنتظرون معنا يا بني العم طلوعها الجيد القريب على موطنها الأول؟

لقد ذر منها كما ترون على اليابان أشعة، وبص منها الساعة على مهاد العروبة وبلاد الإسلام شعاع! وعما قليل يسطع في أقصى الشرق وفي أدناه وهجُها وسناها، فتهتز الأرض من جديد وتربو، ثم تتشقق عن العبقريات التي ارتجلت الحكمة، وإكتشفت المعرفة، وسنت الأخلاق، ودفعت مدينة الإنسان إلى مداها البعيد

ص: 1

قالوا لتركي الأناضول: مالك وللشرق، ومالك وللعرب، ومالك وللإسلام؟ تعال نبحث عن أجدادك في الأولمب، وعن قومك في الفورم، وعن مدنيتك في اللوفر؛ ثم ألزموه أن يلبس القبعة، وأرغموه أن يكتب من الشمال، وفصلوا الدين عن الحكومة، وانتزعوا العربية من التركية، وحرموا الشعب المتدين تقاليد الإسلام، وحرموا عليه أخلاق الشرق، ثم ألغوا العيدين، واستبدلوا بعيد الجمعة عيد الأحد، ثم نقلوا الأمة المروعة المشدوهة على المدرعات إلى الشاطئ الأوربي، ثم أحرقوا من ورائها سفائن طارق!

على أن التركي الأصيل الذي استضاء بهدى الإسلام، وتثقف بعلم العرب، وساهم في مجد الفتوح، لم يَصْغَ قلبه لهذا التغير المفروض، فظل فؤاده حيث طبعه محمد الرسول، وجسمه حيث وضعه محمد الفاتح!

أما موضع الخطر فأولئك النشء الذين قست عليهم الحرب، وبغت عليهم السلم، فحصروا علل أخطائهم وأسباب أرزائهم في معنى الخلافة فنفوها من الأرض، ثم أفرط عليهم العداء فتحيفوا ما يلابسها من شرقية وعروبة ودين؛ أولئك سيزهقون في حاضرهم روح الماضي، ويقطعون عن ضمائرهم صوت التاريخ، ويبنون قوميتهم على أسس مستعارة، ويجددون شخصيتهم على تقليد طائش، ويخضعون عقليتهم لعبودية قاتلة، ثم يتنفخون بالصوت الرفيع المدل: أن تركية للترك! فيقول لهم الدهر الساخر: نعم، وإن الترك لأوربا!

فخامة الغازي العظيم أتاتُورك! لقد جبرت الجناح المهيض، وأحييت (الرجل المريض)، وأنقذت من براثن العوادي السود تركية الفتاة، ما في ذلك شك، فاسمك العزيز عنوان تاريخها الحديث، وعزمك الجبار قوام دستورها القائم، وروحك الوثاب سناد مستقبلها الطارف، ولكنك ظلمت تاريخك الخاص بمخالفة الطبيعة في التجديد، ومجانبة المنطق في الاصلاح. أخشى أن يسجل الرقيب الذي لا يغفل أنك أحييت دولة وأمت أمة، وبنيت دستوراُ وهدمت عقيدة، وبعثت لغة ودفنت ثقافة!

ما جريرة العرب على الترك وقد استخلفوهم على الدين واستأمنوهم على الرسالة؟ وما جريمة الإسلام على الترك وقد نعشهم من الخمول وأخرجهم من الجهالة؟ وماذا يبقى من الترك ولغة الترك وثقافة الترك إذا محوت أثر العروبة ودينها من كل ذلك؟

إن العرب ليسوا أقل شأناً من الطليان والجرمان، والإسلام ليس بأضعف في رفع الشعوب

ص: 2

من وثنية اليابان، ولكنها موجة من المادية الطاغية غشت على الأبصار وطغت على البصائر، ستنحسر غمرتها عن مجالي الفضيلة والحق ولو بعد حين!

أحمد حسن الزيات

ص: 3

‌الشيطان.

. . .

للأستاذ مصطفى صادق الرافعي

قال الشيخُ أبو الحسن بن الدقاق: كان شيخي أبو عبد الله محمد (الأزهري العجمي رضي الله عنه رجلاً صاحب آياتٍ وخوارق مما فوق العقل، كأنما هو سرُ من الأسرار الجارية في هذا الكون، قد بلغ بنفسه رتبة النجم في أفقه البعيد؛ ففيه أهواءُ الإنسان وشهواته وطباعُه، إلا أنها كنوز النجم في تألقه ولألائه من إشراق روحه وصفاتها؟ وقد ارتفع بآدميته فوق نفسها؛ فأصبح في الناس ومعه سماؤه، يجعلها بين قلبه وبين الدنيا

والرجل إذا بلغ هذا المبلغ كان حياً كالميت ساعة احتضاره؛ ينظرُ إلى كل ما في الحياة نظرة من يترك لا من يأخذ، ومن يعتبرُ لا من يغتر، ومن يلفظ لا من يتذوق، ومن يُدرك السر لا من يتعلق بالظاهر. ويرى الشهوات كأنها من لغة لا يعرفها، فهي ألفاظ فيها معاني أهلها لا معانيه، وإنما تلبسُ كلماتُنا معانيها من أنفسنا. وفي النفوس مثلُ الهشيم؛ إذا وقعت فيه المعاني المشتعلةُ استطار حريقاً وتضرم، وفيها على المجاهدة مثل الماء؛ إذا خالطته تل المعاني انطفأت فيه وخمدت

وقد سألتُ الشيخ مرة: كيف تحدثُ الكراماتُ والخوارق للإنسان؟ فقال: يا ولدي، إن الإنسان من الناس المحجوبين يتصرف في جسمه ولا يكاد يملكُ لروحانيته شيئاً، فإذا أبلى في المجاهدة ووقع في قلبه النور، تصرف في روحانيته ولا يكاد يملكُ لجسمه شيئاً، فمن أطاق أن ينسلخ من بشريته، واتسعت ذاته في معاني السماء بمقدار ما ضاقت من معاني الأرض، وكان مُعداً لأن يتحقق في روحانيته، مُعاناً على ذلك بطيعيةٍ فوق الاعتدال - فقد شاع في الكون وأصاب له وجهاً ومذهباً إلى تلك القوة التي تهدم في العالم وتبنى، وتفرق وتجمع، تنقل الصور بعضها إلى بعض؛ فان الكون كله جوهرٌ واحد هو النور. حتى الجبلُ هو نورٌ صخري، وحتى البحر هو نور مائي، حتى الحديدُ والذهبُ والتراب، كل ذلك نور صرفته القدرة الآلهية تصريفها المعجز، فكان على ما نرى: ظاهرٌ مخيلٌ يلائم نقصنا وعجزنا، وحقيقةٌ قارةٌ على غير ما نرى. ومن ذا يعقل أن الصخر نورٌ متجمدٌ إذا لم يكن له إلا عقلُ عينه وحواسِّه، ومن ذا يُطيق أن يفهم بحواسه وعينه قولَ الله تعالى:(وترى الجبالَ تحسبها جامدةً وهي تمرُّ مرَّ السحاب صُنْعَ الله الذي أتْقَنَ كلَّ شيء)؟ فالجبال جامدةٌ

ص: 4

ثابتة، غير أنها تمر بأرضها وتموج في نفسها؛ ومتى تأذَّنَ الله أن ينكشف نورُ كلامه لعقل الإنساني، فستكون هذه الآية علماً جديداً في الأرض يُثبت أن السحاب والجبلَ مادةٌ واحدة وصُنعٌ واحد

ويا لها سُخرية بالإنسان وجهله! فانه إذا كانت الحقيقةُ غير ما نرى، فكل شيء في الدنيا هو ردُ على النظر الإنساني، ويكاد الجبلُ العظيم يكون كلمةً عظيمةً تقول للإنسان:(كذبت!)

فالشأنُ في الخوارق والكرامات راجعٌ إلى القدرة أن يسلط الإنسان الروحاني ما فيه من سر النور على ما في بعض الأشياء من هذا السر، وتلك هي طاعةُ بعض الكون لمن ينصرف عن المادة ويتصل بخالقها

فإذا بقي في الرجل الروحاني شيءٌ من أمر جسمه يقول: (أنا. . .) لم يكن في الرجل من تلك القدرة ذرة؛ فان هو حاول أن يخرق العادة أبى الكون أن يعرفه إلا كما يعرف حجراً مُلقى يحاول أن يتصرف بالجبل الذي هو منه فينقله أو يزحزحه أو يزلزله

ولا خير على الأرض مطلقاً إلا وهو أخذٌ من حقوق هذه الـ (أنا. .) في إنسانها، ولا شر على الأرض مطلقاً إلا وهو إضافة حقوق اليها؛ فحين لا يبقى له حقٌ في شيء عند نفسها، يجب لها الحق على كل شيء. وهذه هي الكرامة؛ تُكرِمُ الخليقة من أكرمه الخالق

فمن أراد أن تتصل نفسه بالله فلا يكنْ في نفسه شيءٌ من حظ نفسه، ولا يؤمن إيمان هؤلاء العامة: يكون إيمانهم بالله فكرة تذكر وتُنسى، أما عملهم فهو إيمانهم الراسخُ بالجسم وشهواته يُذكر ولا يُنسى.

وأنت ترى رجالَ الروح يأكلون ويشربون ويلبسون، ولكن هذا كله ليس فيه ذرة من أرواحهم، على خلاف غيرهم من الناس؛ فهؤلاء كل أرواحهم في مطاعمهم ومناعمهم؛ ومن ثم لا يجري الشيطان من الأولين إلا في بحارٍ ضيقة أشد الضيق لا يكاد ينفذ منها إلى فكرة أو شهوة أو حُلُم من أحلام الدنيا، أما الآخرون فالشيطان فيهم هو تيار الدم يَعب عبابه في الأسفل والأعلى

قال أبو الحسن: وكنا يومئذ في دمشق، فنبهني كلامُ الشيخ عن الشيطان إلى ما قرأته عن كثيرين ممن رأوا الشيطان أو حاوروه أو صارعوه؛ فقلت للشيخ: إن من حقك عليَّ أن

ص: 5

أسألك حقي عليك، وما في نفسي أحب إلي ولا أعجب من أن أرى الشيطان وأكلمه وأسمعه، وأنت قادرٌ أن تنقلني إليه كما نقلتني إلى ما دخلت بي عليه من عوالم الغيب

قال الشيخ: وماذا يردُ عليك أن ترى الشيطان وتكلمه؟

قلت: سبحان الله! لا يُجدي على شيئاً إلا أن أسخر منه

قال الشيخ: فإني أخشى - يا ولدي - أن يكون الشيطان هو الذي يريد أن تراه وتسمعه. . .!

قلت: فإني أريد أن أساله عن سره، فيكون علماً لا سخرية

قال: لو كشف لك عن سره لما كان شيطاناً، فإنما هو شيطان بسره لا بغيره

قلت: فأريد أن أرى الشيطان لأكون قد رأيت الشيطان!

قال الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله! لو كنت يا أبا الحسن بأربع أرجلٍ لهربت من الشيطان بثلاثٍ منها وتركته يجرك من واحدة!

قلت: يا سيدي، فلو كنت حماراً لبطل عملُ الشيطان في أرجلي الأربع كلها، إذ لا حاجة به إلى إغواء حمار!

فتبسم الشيخ وقال: ولابد أن ترى الشيطان وتكلمه؟

قلت: لابد

قال: إنه هو يقولها، فقم!

قال أبو الحسن: وكان الشيخ إذا مشى إلى أمرٍ خارق بقيتُ معه غائباً عن الحس، كأنه يبطل مني ما أنا به أنا، فأصبحُ ظلاً آدمياً معلقاً به. ولا تقع الخوارق إلا لمن وجد القوة المُكملة لروحه، وهذه القوة تُستمد من الشيخ الواصل، فلا بد من إمام يأخذ عن إمام، كأنها سلسلة نفسيةُ متميزةٌ في الأرض، فتغير الواحدةُ منها بالواحدة إذ تقع في جوها فتورق وتثمر؛ كالشجرة جوٌ يكسوها وجوٌ يذبلها وجوٌ يسلبها سلباً، وكذلك تفعل النفس إذا كان لها جو

وخرجنا من دمشق وأنا خلف الشيخ كالمحمول، فرأيتُنا وقد أشرفنا على بناء عظيم، ورأيت أقواماً يتلقون الشيخ ويسلمون علي ويتبركون بمقدمه؟ فأنكرتهم نفسي وجدت منهم وحشة، فالتفت إلى الشيخ وقال: هؤلاء قوم من الجن، وما إليهم قصدنا فلا تشتغل بما ترى واشتغل

ص: 6

بي

ثم ننتهي إلى البناء العظيم، فتستقبلُنا طائفةٌ أخرى، ويُدخلون الشيخ وأنا خلفهن ويمرون بنا على دنيا مخبوءةٍ تعجز الوصف مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعت؛ فيقولون: هذه كنوزُ سليمان وذخائره، ويطوفون بالشيخ يعرضونها عليه كنزاُ كنزاً؛ فرأينا ثم نعيما ومُلكا كبيراً، ثم انتهينا أخيراً إلى مغارة خسيفة كأنها عرقٌ من عروق جسم الأرض، يتفجر منها دويٌ كالرعد القاصف إلا أنه في السمع كخوار الثور، إلا أنه ثورٌ خُيلَ إلى أن رأسه في قدر جبل عظيم، يتعلق به غبغب في قد جبلٍ آخر، على جسم يسدُ الخافقين، فخواره كأنه صراخ الأرض، وإذا أنا بأقبح مكان منظراً، وأنتنه ريحاً، كأنه سجنٌ بناؤه من الجِيَف

فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا سجنُ إبليس، وهو هنا في هذه المغارة منذ زمن سليمان عليه السلام

قلت: أفمسجونٌ هو؟

قالوا: وإنه مع ذلك مُوقرٌ بأمثال الجبال حديداً يربُضُ به في محبسه، فلا يتزحزح ولا يتحلحل

قلت: وإنه مع ذلك قد ملأ الدنيا فساداً، فكيف به لو كان طليقاً؟

قالوا: فلو أنه كان طليقاً لاستحوذ على الناس كافة فيجتمع أهلً الأرض على شهوةٍ واحدة لا شيء غيرُها، فيبطلُ مع هذه الشهوة الواحدة كلّ تدبير بينهم، فلا تقومُ لهم سياسة ولا يكون بينهم وازع، فيرجعون كالكلاب أصابها الكَلَبُ وهاج بها، فأنيابها في لحمها، لا يزالَ يَعضُّ بعُضها بعضاً، فليس لجميعها إلا عملُ واحدٌ يسلمها إلى الهلاك، ويصبح ظهرُ الأرض أعْرى من سَراة أديم

وإنما يَلُحُ الناسُ باختلاف شهواتهم وتنافرها وتنازعها؛ فبعضها يحكم بعضاً، وشيء منها يَزَعُ شيئاً، ومن تخلص من نَزوَةٍ قمع بها نزوة أخرى، كالمتزوج المحْصَنِ، يحكم بالجلد والرجم على من ليست له امرأةٌ فزنا؛ وكالغني الواجد، يحكم على اللص الذي لم يجد فسرق، وهلم جراً. وما ينشأ الناسُ في ثلاثة أعمار فيشبون ويكتهلون ويهرمون، إلا لتختلف شهواتهم وتختلف مقادير الرغبة فيها، فتتحقق من ثم تلك الحكمة الإلهية في التدبير، ويجد الشرعُ محله بينهم، كما يجدُ العصيان بينهم محله

ص: 7

ولو أن أمةً كلها أطفالٌ أو كهول أو شيوخ لبادت في جيل واحد، وإنه ليس أسمجَ من الرذيلة تكون وحدها في الأرض إلا الفضيلةُ تكون وحدها، فلا بد من شيء يظهرُ به شيء غيره، كالضد والضد. والمعركة إذا انتصر كل من فيها كانت هزلاً وكانت شيئاً غير المعركة

قال أبو الحسن: وقلت لهم: فإذا كان الشيطان سجيناً قد ربَضت به أثقاله حتى لهو في سجنٍ من سجنٍ مبالغةً في كفه والتضييق عليه - فكيف يَفتنُ الناسَ في أرجاء الأرض ويوسوسُ في قلوبهم، حتى لهو يد بينُ كل يدين، وحتى لَهو العين الثالثة لعيني كل إنسان؟

قالوا: إن في روحه النارية قوةً تَفْصِل منها وتنتشر في الأرض، كشعاع الشمس من الشمس، هذه كُرَةٌ ناريةٌ ميتة مطلقة على الأجسام مُرصدة لها، وتلك كرة نارية حية معلقة على النفوس مرصدة لها، وبهذه وتلك عَمارُ الدنيا وأهلِ الدنيا

قلت: لعلكم أردتم أن تقولوا: (خراب الدنيا وأهلِ الدنيا) فغلطتم فكان ينبغي أن يجيء بدل الغلط. . . .

فقال أحدهم: يا أبا الحسن، خَرَق الثوبُ المسمار. جاز هنا لأمن اللبْس أن يكون المفعول به وهو الثوب مرفوعاً وفاعله وهو المسمار منصوباً، هل جئت - ويحك - تطلبُ النحو وتطلب الشيطان. . . .؟

قال أبو الحسن: فقطعني الجني (والله) وأخجلني، ونظرت خلسة إلى الشيخ أراه كيف يسخر مني، فإذا الشيخ قد أملسَ فلا أراه، وإذا أنا وحدي بين الجن وبازاء هذا الساخر الذي وُضِعَت عينه في جبهته وشُق فمه في قفاه. . . . .! فَسُرِّيَ عني وزال ما أجده، وقلت في نفسي: الآن أبلغ أرَبي من الشيطان ويكون الأمر على ما أريد فلا أجد من أحتشم ولا تَقْطَعُني هيبة الشيخ. . . .!

وقع هذا الخاطر في نفسي، فاستعذت بالله ولعنت الشيطان وقلت هذا أول عبثه بي وجعله إياي من أهل الرياء، كأن لي شأناً في حضور الشيخ وشأناً في غيابه، وكأني منافق أعلن غير ما أسِر، وقلت: إنا لله! كدت يا أبا الحسن تتشيطن!

ثم هممتُ أن أنكص على عقبي، فقد أيقنتُ أن الشيخ إنما تخلى عني لأكون هنا بنفسي لا به، وما أنا هنا إلا به لا بنفسي، فيوشك إذا بقيتُ في موضعي أن أهلِك! بَيْد أن المغارة

ص: 8

انكشفتْ لي فجأة، فما ملكتُ أن أنظر؛ ونظرتُ فما ملكت أن أقف، ووقفتُ أرى، فإذا دخانٌ قد هاج فارتفع يثور ثورانه حتى تملأ المكان به، ثم رق ولطُفَ

واستضرَمت منه نارُ عظيمة، لها وهَجانٌ شديدٌ يضطرم بعُضها في بعض، ويُسمَع من صوتها مَعمَعة قوية ثم خَمدَت وانفجرَ في موضعها كالسد المنبثق من ماءٍ كثيف أبيضَ أصفرَ أحمرَ، كأنه صديدٌ يَتَقيح في دمٍ ثم غاض

وتنبعتْ في مكانه حماةٌ منتنةٌ جعلتْ تربو وتعظمُ حتى خِفتُ أن تبتلعني وأذهبَ فيها، فسميتُ الله تعالى فغارت في الأرض

ثم نظرتُ فإذا كلبٌ أسودٌ محمر الحماليق هائلُ الخلقة مَستأسد؛ قد وقف على جيفةٍ قذرة غاب فيها خَطمهُ يعُبُّ مما تسيل به

فقلت: أيها الكلب، أأنت الشيطان؟

وأنظرُ فإذا هو مَسخٌ شائه كأنه إنسانُ في بهيمةٍ قد امتزجا وطغى منهما شيءٌ على شيء، أما وجهه، فأقبحُ شيءٍ منظراً، تحسبُه قد لَبِس صورةَ أعماله. . . ونطق فقال: أنا الشيطان!

قلت: فما تلك الجيفة؟

قال: تلك دنياكم في شهواتها، وأنا ألتقم قلب الفاسق أو الآثم منكم، كما ألتقم دودة من هذه الجيفة

قلت عليك لعنةُ الله وعلى الفاسقين والآثمين، فكيف كنتَ دخاناً، ثم انقلبت نارا، ثم رجعتَ قِيحاً، ثم صرتَ حمأة، ثم كنت كلباً على جيفة؟

قال: لا تلعن الفاسقين والآثمين؛ فانهم العباد الصالحون بأحد المعنيين، وأنت وأمثالك عباد صالحون بالمعنى الآخر، أليس في الدنيا حياءٌ ووقاحة؟ فأولئك - يا أبا الحسن - هم وقاحتي أنا على الله! أنا معكم في زهدكم حِرمانُ الحرْمان، وفقرُ الفقر، ولقد أهلكتموني بُؤساً؛ غير أني معهم لذة اللذة، وشهوةُ الشهوة، وغِنىَ الغنيَ، لا تتم لذة في الأرض ولا تحلو لذائقها وإن كانت حلالاً، إلا إذا وضعتُ أنا فيها معنى من معاني أو وقاحةً من وقاحتي! حتى لأجعل الزوجة لزوجها مثل الشعر البليغ إذا استعار لها معنى مني، وكل ما فسدت به المرأة فهو مجازي واستعارتي لها أجعلها به بليغة. . . .

وأنتم يا أبا الحسن تقطعون حياتكم كلها تجاهدون إثمَ ساعةٍ واحدة من حياة عبادي، فانظر

ص: 9

- رحمك الله - لئن كانت ساعةٌ من حياتهم هي جهنمكم أنتم، فكيف تكون جهنم هؤلاء المساكين؟

إنك رأيتني دخاناً لأني كذلك انبعثُ في القلب الإنساني فمتى تحركتُ فيه حركة الشر كنت كالاحتيال لإضرام النار بالنفخ عليها. فمن ثم أكون دخاناً، فإذا غَفَل عني صاحبُ القلب تضرمتُ في قلبه ناراً تطلب ما يطفئها؛ ثم يُواقِع الإثم والمعصية نَهْمَته فأبَردُ عن قلبه، فيكون في قلبه مثل الحرق الذي بَردَ فتأكل موضعه فتقيح، ثم يختلط قيحُ أعماله بمادته الترابية الأرضية، فينقلب هذا المسكين حمأة إنسانية لا تزال تربو وتنتفخ كما رأيت

قلت: أعوذ بالله منك! أفلا تعرف شيئاً يردك عن القلب وأنت دخانٌ بَعْد؟

فقهقه اللعين وقال: ما أشد غفلتك يا أبا الحسن، إذ تسأل الشيطان أن يخترع التوبة! أما لو أن شيئاً يخترع التوبة في الأرض لاخترعها القبرُ الذي يدفن فه بعضُكم بعضا كل طرفة عين من الزمن فتُنزلون فيه الميتَ المسكين قد انقطع من كل شيء، وتتركونه لآثامه، وحساب آثامه، والهلاك الأبدي في آثامه؛ ثم تعودون أنتم لاقتراف هذه الآثام بعينها!

قلت: عليك وعليك أيها اللعين؛ ولكن ألا يتبدد هذا الدخان إذا ضربته الريح أو انطفأ ما تحته؟

قال: أوه! لقد أوجعتني كأنما ضربتني بجبل من نار، إن نبيكم عَرفها، ولكنكم أغبياء، تأخذون كلامَ نبيكم كأنما هو كلاٌم لا عًمل، وكأنه كلام إنسان في وقته لا كلامٌ النبوة للدهر كله وللحياة كلها. ولهذا غلبتُ أنا الأنبياء على الناس، فإني أضع المعاني التي تعمل، لا الحكمة المتروكة لمن يعمل بها ومن لا يعمل

أتدري يا أبا الحسن، لماذا أعجزني أسلافكم الأولون مثل: عُمر وأبي بكر؟ حتى كان إسلامهم من أكبر مصائبي، فتركوني زمناً - وأنا الشيطان - أرتابُ في أني أنا الشيطان. . . . . .؟

قلت: لماذا؟

قال: أراك الآن لم تَلعن، فلستُ قائلها إلا إذا تَرحمتَ علي

قلت: عليك وعليك من لًعنات الله! قل لماذا؟

قال: أسائلُ ويأمر؟ وطَفَيْلي ويَقْترح؟ لا بد أن تترحم!

ص: 10

قلت: يرحمنا الله منك! قل لماذا؟

قال: وهذه لعنةٌ في لفظة رحمة. لا، إلا أن تترحم علي أنا إبليس الرجيم!

قلت: فيُغني الله عن علمك؟ لقد ألهمتنيها روحُ النبي صلى الله عليه وسلم. إن النبوة كانت هي بأعمالها وصفاتها تفسير الألفاظ على أسمى الوجوه وأكملها، فكان روحُ النبي صلى عليه وسلم لتلك الأرواح كالأم لأبنائها. وقد رأوه لا يغضب لنفسه ولا لحظ لنفسه، وذلك لا يستقيم إلا بالقصد في أمر النفس، وجعلٍ ناحية الإسراف فيها إسرافاً في العمل لسعادة الناس. وكلما ارتد الإنسان لنفسه وحظوظها ارتد إليك - أيها اللعين - وأقبل على شقاء نفسه، وكلما عمل لسعادة غيره ابتعد عنك - أيها الرجيم - وأقبل على سعادة نفسه، وتركُ الغضب وحظوظِ النفس هو الصبر؛ وصبرُ الأنبياء والصديقين ليس صبراً على شيء بعينه في الحياة، بل هو الصبرُ على حوادث العمر كله؛ كصبر المسافر؛ إن كان عزيمةً مدةَ الطريق كلها، وإلا كان فساداً في القوة ووقع به الخذلان

فهذا الصبر المُعْتزٍمُ المصمم، الذي يُوطن به الرجلُ نفسه أن يكون رجلاً إلى الآخر - هو تعبُ الدنيا، ولكنه هو رَوْحُ الجنة مع الإنسان في الدنيا. والمؤمنُ الصابر رجل مَقْفَلٌ عليه بأقفال الملائكة التي لا يقتحمها الشيطانُ ولا تفتحها مصائب الدنيا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن المؤمنَ يُنْضِي شيطانه كما يًنضي أحدُكم بعيره في سفره.) كأنه يقول: لو لم يصبر المسافر دائماً معتزماً مدة سفرهِ كلها لما أنضى بعيره، ولو لم يصبر المؤمنُ دائباً معتزماً مدة حياته كلها لما أنضى شيطانه

فصاح الشيطان: أوه، أوه! ولكن قل لي يا أبا الحسن، ما صَبْرُ رجلٍ مؤمنٍ قوي الايمان، قد استطاع بقوة إيمانه أن يُفيقَ من سًكْر الغِني، فتخلص من نزوات الشياطين الذهبيةِ الصغيرة التي تسمونها الدنانير؛ وقد أردتُه على أن يكذب، فرأى الإيمان أن يَصدق، وجًهَدْتُ به أن يغضب، فرأى الحكمة أن يهدا؛ وحاولتُ منه أن يطمع، فرأى الراحةَ أن يرضي؛ وسَولتُ له أن يحسد، فرأى الفضيلة إلا يبالي. وأخذ لنفسه من كل شيء في الحياة بما يثق أنه الإيمان والصبرُ والهدوء والرضى والقناعة؛ وأحاط نفسه من هذه الأخلاق بالسعادة القلبية واجتزأ بها، وقصر نظره على الحقيقة، ووجد الجمالَ في نفسه الطيبة الصافية، وأجرى ما يؤلمه وما يسره مجرىً واحداً، ونظر إلى العمر كله كأنه يومٌ واحد

ص: 11

يرقبُ مغرب شمسه، وأخذ من إرادته قوة أنسته ما لم تعطهِ الدنيا، فلم يَجفل بما أعطت الدنيا وما منعت؛ وعاش على فقره بكل ذلك كما يعيش المؤمن في الجنة: هذا في قصر من لؤلؤةٍ أو ياقوتةِ أو زبرجدة، وذاك في قصر من الحكمة أو من الإيمان أو من العقل

قال الشيطان: فلما أعجزني صلاحاً ورضى وصبراً وقناعةً وإيماناً واحتساباً، وكان رجلا عالماً فقيها - سولت له أن يخرج إلى المسجد ليعظ الناسَ فينتفعوا به، ويًبصرهم بدينهم، ويتكلم في نص كلام الله؛ فعقد المجلس ووعظ، وانصرفوا وبقي وحده؛ فجاءت امرأة تسأله عن بعض ما يحتاج إليه النساء في الدين من أمر طبيعتهم؛ وكانت امرأة جزلة غضة، يهتز أعلاها وأسفلها، وتمشي قصيرة الخط مثاقلة كالمتضايقة من حمل أسرار جمالها وأسرار بدنها الجميل، فبعض مشيتها يقظةٌ وبعضها نومٌ فاترٌ تخالطه اليقظة؛ ولا يراها الرجل الفحل التام الفحولة إلا رأى الهواءَ نفسه قد أصبح من حولها أنثى مما تعصف به ريحها العطرة عطر زينتها وجسمها. وكان الواعظ قد ترمل من أشهر، وكانت المرأة قد تأيمت من سنوات؛ فلما رآها غض طرفه عنها، ولكنها سألته بألفاظها العذبة عن أمور هي من أسرار طبيعتها، وسألته عن طبيعتها بألفاظها؛ فسمع منها مثل صوت البلور يتكسر بعضه على بعض وتحدثت له وكأنها تتحدث فيه؛ فسمع بأذنه ودمه؛ ثم كان غض عينه أقوى لرؤية قلبه وجمع خواطره ورأى صوتها يشتهي؛ وعانقته رائحتها العطرية النفاذة؛ وأحاطته بجو كجو الفِراش؛ وعادت أنفاسها كأنها وسوسة قُبل، وصارت زفراتها كالقدر إذا استجمعت غلياناً، وطلعت في خياله عريانة كما تطلع للسكران من كأس الخمر حورية عريانة، لها جسمٌ يبدو من اللين والبضاضة والنعمة كأنه من َزبَد البحر؟

قال أبو الحسن: وكنتُ كالنائم فما شعرتُ إلا بصوتٍ كصك الحجر بالحجر، لا كتكسر البلور بعضه على بعض، وسمعت شيخي يقول:

أفَسَقْتَ. . . . . .؟

طنطا

مصطفى صادق الرافعي

ص: 12

‌صفحات من الدبلوماسية الأسلامية

السفارات الخلافية والسلطانية وعلائق الإسلام والنصرانية

للأستاذ محمد عبد الله عنان

منذ نحو عام عرضت في الرسالة إلى موضوع السفارات النبوية؛ وتبادل السفارات بين الشرق والغرب في العثور الوسطى، سواء من الإسلام إلى الأمم النصرانية، أو من هذه إلى الدول الإسلامية، من الموضوعات الهامة التي تشوق بتفاصيلها وما تلقيه من ضوء على علائق الشرق والغرب في عصور لم يكن الإسلام فيها سيد المشرق فقط، بل كان يساهم أيضاً بنصيب قوي في سيادة الغرب ذاته. وقد كان لهذه السفارات رسوم وقواعد تتفق مع صولة الإسلام وتلائم روح العصر، وكان لها في بعض الأحيان أثر كبير في توجيه سياسة الإسلام نحو النصرانية، أو سياسة النصرانية نحو الإسلام. وقد كانت ريح هذه السفارات تتجه بالأخص من الغرب إلى الشرق في عصور القوة والمجد. ذلك لأنها كانت في الغالب ترمي إلى التماس السلام والمهادنة أو تحقيق بعض المنح والمغانم من الإسلام القوي الظافر، ولكنها كانت في عصور الضعف والاضمحلال تتجه بالأخص من أمم المشرق إلى أمم المغرب التي تتبوأ مقام الزعامة والنفوذ، وتعمل لتوطيد سيادتها بالضرب والتفريق بين الدول الإسلامية المتنازعة، كما كانت تفعل الدولة البيزنطية منذ انحلال الخلافة العباسية وتمزق سيادتها بين مختلف الدول والامارت التي قامت على أنقاضها، وكما كانت تفعل إسبانيا النصرانية منذ انهارت الخلافة الأموية القوية، وانقسمت الأندلس إلى إمارات الطوائف، على أن هذه القاعدة لم تكن عامة، وإنما كانت ظاهرة ملحوظة فقط، فكثيراً ما كانت تعقد المعاهدات وتتبادل السفارات بين الدول الإسلامية القوية والدول النصرانية القوية تنظيما للعلائق والمصالح المشتركة بينهما

وسنحاول أن نعرض في هذا الفصل إلى طائفة من هذه السفارات الشهيرة التي ترد أخبارها أشتاتاً في تواريخ الشرق والغرب، وسنرى فيها من أوجه التماثل أحياناً، ومن أوجه التباين أحياناً أخرى، ما يفسر لنا بعض العوامل التي كانت في تلك العصور محور العلائق الدبلوماسية بين أمم الإسلام وأمم النصرانية، ومبعث التجاذب السياسي بينهما

كانت الدولة الأموية دولة الفتح والانشاء، فلم يتسع وقتها لتنظيم العلائق الدبلوماسية

ص: 13

السلمية؛ وكانت تقف طوال عهدها من جارتها الكبرى - الدولة الرومانية الشرقية - موقف الخصومة والتربص، فلا نقف في هذا العصر على كثير من أخبار السفارات المتبادلة بين الدولتين؛ ولكنا نجد بعد حوادث حصار قسطنطينية الأول وإخفاق الخلافة الأموية في مشروعها لاقتحام الدولة الشرقية (58هـ - 678م) سفراء الإمبراطور قسطنطين الرابع يستقبلون في دمشق بحفاوة ليعقدوا مع الخليفة الأموي (معاوية) معاهدة الصلح التي ارتضى بها معاوية أن يؤدي إلى الدولة الشرقية جزية سنوية متنوعة كانت على ضآلتها عنوان المهادنة والمسالمة من جانب الخلافة. وفي خلافة سليمان بن عبد الملك تردد على دمشق رسل الدولة الشرقية ليقفوا على أمر الأهبة الهائلة التي تتخذها الخلافة للسير إلى قسطنطينية ومحاولة اقتحامها كرة أخرى، وعاد سفير الدولة الشرقية إلى بلاك قسطنطينية يحمل عن أهبة الخلافة أروع الأخبار والروايات

ولما قامت الدولة العباسية وتوطدت أركانها، وقامت في نفس الوقت دولة أموية جديدة في الأندلس، كانت بغداد في المشرق، وقرطبة في المغرب، كلتاهما قطباً للتجاذب السياسي بين الإسلام والنصرانية. وكانت مملكة الفرنج القوية قد قامت يومئذ في الطرف الآخر من أوربا لتتزعم أمم الغرب إلى جانب الدولة الرومانية الشرقية؛ فكان ذلك عاملاً جديداً في إذكاء التجاذب السياسي بين الشرق والغرب؛ ومنذ خلافة المنصور ثاني خلفاء الدولة العباسية نرى مملكة الفرنج تحاول أن تأخذ بنصيبها في عقد الصلات السياسية مع زعيمة الإسلام في المشرق، وفي إقامة التوازن السياسي في العالم الجديد، ونرى ملك الفرنج ببين يبعث رسله إلى عاصمة الإسلام الجديدة (بغداد) في سفارة إلى المنصور. ويضع مؤرخو الفرنج تاريخ هذه السفارة في سنة 765م (148هـ)، وتقول لنا الرواية إن السفراء الفرنجيين لبثوا مدى حين في بغداد وعادوا بعد ثلاثة أعوام إلى فرنسا يصحبهم رسل أو سفراء من قبل الخليفة إلى ملك الفرنج، ونزلوا بثغر مرسيليا؛ فاستقبل ملك الفرنج سفراء الخليفة أحسن استقبال، ودعاهم إلى تمضية الشتاء في مدينة متز التي كانت يومئذ منزل البلاط الفرنجي، ثم دعاهم للتنزه والإقامة مدى حين في قصر (سلس) على ضفاف اللوار؛ ثم عادوا بعد ذلك إلى بغداد بطريق مرسيليا أيضاً مثقلين بالتحف والهدايا. واستمرت هذه الصلاة السياسية بين الخلافة العباسية ومملكة الفرنج عصراً؛ وزادت أواصرها في عصر

ص: 14

الرشيد قوة وتوثقاً. وهنا نعطف بإيجاز على ذكر تلك السفارات الشهيرة التي تبادلها الرشيد، وكارل الأكبر أو شارلمان إمبراطور الفرنج ولد ببين، والتي تنفرد بذكرها الروايات الفرنجية أيضاً؛ فإن هذه الروايات تقول لنا إن شارلمان جرياً على سياسة أبيه، أرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها يهودي يدعى إسحاق ليؤكد بينهما الصلات الودية، وليسعى لدى الخليفة في نيل بعض الامتيازات الخاصة بالنصارى والأماكن النصرانية المقدسة، فأكرم الرشيد وفادة السفراء الفرنج وردهم إلى شارلمان بهدية فخمة منها فيل وخيمة عربية وساعة مائية وحرائر وعطور شرقية وغيرها، وبعث إلى ملك الفرنج سفراءه بتحياته وتأكيد صداقته. وقد سر شارلمان بنتائج سفارته الاولى، فأوفد إلى الرشيد سفارة أخرى على رأسها مبعوثه إسحاق أيضاً؛ وتبالغ الرواية الفرنجية في نتائج هذه المراسلات بين الرشيد وشارلمان، فتقول إن الرشيد أرسل إلى ملك الفرنج مفاتيح الأماكن النصرانية المقدسة، ومنحه حق رعايتها وحمايتها. وقد وقعت هذه السفارات على ما يظهر في أوائل عهد الرشيد بين سنتي 786 و790 (171 - 176هـ)؛ ولكن الرواية الفرنجية تؤرخ سفارة الخليفة إلى شارلمان بسنة 800هـ، ولعلها رد الرشيد على السفارة الفرنجية الثانية. ويختلف البحث الحديث في أمر هذه السفارات والمكاتبات بين الرشيد وشارلمان، فيؤيد البعض صحتها وينكرها البعض الآخر، أما نحن فنرجح صحتها

وتستطرد الرواية الفرنجية؛ فتذكر أن هذه العلاقات الودية بين بغداد ومملكة الفرنج، استمرت بعد وفاة الرشيد وشارلمان؛ وأن المأمون ولد الرشيد بعث إلى (لويس) ولد شارلمان وملك الفرنج من بعده سفارة أخرى لتأكيد المودة والصداقة بينهم؛ وتشير الرواية الفرنجية في ذلك الصدد إلى ما كان لنفوذ الرشيد قبل وفاته من التأثير في سياسة خوارج البحر المسلمين وإحجامهم عن مهاجمة الشواطئ الفرنجية والرومانية، وإلى ما كتبه الباباليون الثالث إلى شارلمان بعد وفاة الرشيد من أنه إذا كان خوارج البحر المسلمين لا يحترمون بعد شواطئ الإمبراطورية الفرنجية، فذلك لأن نفوذ الخليفة في نفوسهم قد ذهب بعد وفاته

ونستطيع أن نرجع هذا التقرب بين بغداد ومملكة الفرنج إلى بواعث سياسية لها قيمتها؛ ذلك أن الدولة العباسية الفتية ما كادت تقوم على أنقاض الدولة الأموية في المشرق، حتى

ص: 15

بعثت الدولة الأموية في الأندلس من جديد على يد عبد الرحمن الأموي (الداخل)، وأخذت في الاستقرار والتوطد؛ وكان قيام هذه الدولة الجديدة في إسبانيا يثير في الخلافة العباسية ومملكة الفرنج معاً جزءاً ومخاوف جيدة؛ أما الخلافة العباسية فلأنها كانت تعتقد أنها قد سحقت الدولة الأموية نهائياً واجتثت أصولها وفروعها فلن تقوم لها قائمة بعد في المشرق أو المغرب؛ فلما استولى عبد الرحمن الأموي على الأندلس وأقام به ملك أسرته من جديد، أخذت الدولة العباسية تخشى بحق أن تنازعها هذه الدولة الخصيمة زعامة الإسلام، أو أن تبلغ من القوة مبلغاً يحملها على التفكير في مقارعتها ومناوأتها والإغارة على أملاكها الأفريقية؛ وأما مملكة الفرنج فقد كانت تخشى اجتماع كلمة الأندلس بعد تفرقها مدى حين، وهو تفرق مهد للفرنج استعادة الأراضي الإسلامية في غاليس وافتتاح ثغر أربونة آخر معقل للإسلام في فرنسا؛ وقيام الدولة الإسلامية الجديدة في الأندلس موحدة الكلمة موطدة الدعائم يعرض مملكة الفرنج إلى خطر الغزوات الإسلامية كرة أخرى؛ فكانت مملكة الفرنج ترقب قيام هذه الدولة يجزع، وتلتمس الوسائل لسحقها قبل أن تستفحل وتغدو خطراً داهماً عليها؛ ومن ثم كانت سياسة الفرنج في تشجيع جميع الزعماء الخوارج على عبد الرحمن الأموي، والعمل على إضرام نار الحرب الأهلية في الأندلس؛ وكان اقتحام شارلمان للبرنيه بتحريض الزعماء الخوارج ليحاول افتتاح شمال الأندلس؛ ومن ثم كانت هذه العلائق والمراسلات الدبلوماسية التي تبادلتها الخلافة العباسية مع مملكة الفرنج، ولم تكن بلا ريب بعيدة عن الفكرة المشتركة في التعاون على سحق الدولة الأموية الجديدة في الأندلس

وكانت ثمة فكرة مماثلة تحمل الدولة الأموية في الأندلس والدولة البيزنطية خصيمة الدولة العباسية ومناوأتها في المشرق على عقد التفاهم والصلات الودية؛ فكانت بين أمراء بني أمية وقياصرة قسطنطينية مراسلات وسفارات سياسية هامة. ففي سنة 836م (225هـ) بعث الإمبراطور تيوفيلوس إلى عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس سفراءه بهدية فخمة ورسالة يدعوه فيها إلى التحالف، ويرغبه في ملك أجداده بالمشرق؛ وكانت هذه المحاولة الدبلوماسية من جانب قيصر قسطنطينية على أثر اضطرام الخصومة والحرب بين الدولة العباسية والدولة البيزنطية وبميث المأمون ثم المعتصم في أراضيها. فرد عبد الرحمن ابن

ص: 16

الحكم على القيصر بهدية فخمة وبعث إليه سفيره يحيى بن الغزال، وهو من كبار الدولة وفحول الشعراء فاحكم بينهما الصلة والتحالف. على أن علاقة الإمبراطور بصاحب الأندلس لم تتعد المراسلة والمجاملة، لأن خلفاء عبد الرحمن الداخل حافظوا على سياسته التي رسمها من الامتناع بالجزيرة والاقتصار على توطيد ملك بني أمية فيها، حتى عمد الناصر إلى تغيير هذه السياسة والتدخل في شئون المغرب لظروف وحوادث عرضت يومئذ

ونعود إلى علائق الدولتين العباسية والبيزنطية، تاج العلائق بين الإسلام والنصرانية في تلك العصور؛ ففي أواخر القرن الثامن كان على عرش قسطنطينية امرأة وافرة الذكاء والعزم هي الإمبراطورة إيريني زوج الإمبراطور ليون الرابع، وكانت وصية على ولدها قسطنطين أثناء طفولته؛ ولكنه لما كبر وحاول أن يقبض على زمام السلطة، ناوأته وقاومته حتى ظفرت به، وزجته إلى ظلام السجن بعد أن سملت عيناه بأمرها؛ فانتهز المسلمون فرصة هذه الاضطرابات وغزوا آسيا الصغرى مراراً حتى اقتربوا من البوسفور، وقاد هارون (الرشيد) وهو يومئذ ولي عهد أبيه المهدي بنفسه معظم هذه الحملات، فاضطرت إيريني إلى التماس الصلح، وبعثت رسلها إلى هارون، وهو يعسكر بجيشه على مقربة من البوسفور، تطلب الصلح والهدنة؛ فاجابها الرشيد إلى ما طلبت وعقدت بين الفريقين معاهدة تعهدت إيريني بمقتضاها أن تدفع إلى الخلافة جزية سنوية مقدارها سبعون ألف دينار، وتبادل الرشيد والإمبراطورة بهذه المناسبة بعض الهدايا والتحف الملوكية (782م - 166هـ)، ولما تولى الرشيد الخلافة بعد أبيه، كانت إيرني قد خلعت وجلس على عرش قسطنطنطية نيكيفروس (ويسميه العرب نيقفور) كبير الخزائن؛ فما كاد يجلس على العرش حتى بادر بإعلان الخصومة على الخلافة وبطلان معاهدة الصلح، ورفض أداء الجزية والمطالبة بما أدى منها؛ وتنقل إليناالرواية الغربية صورة الإنذار الذي وجهه نيكيفروس على يد سفرائه إلى الرشيد وفيه يخاطب الرشيد بما يأتي: (من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فان الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقياً بحمل أضعافه اليها، لكن ذلك لضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالها وافتد نفسك بما تقع به

ص: 17

المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا)؛ وألقى سفراء الروم أمام عرش الرشيد حزمة من السيوف إشارة بإعلان الحرب، فغضب الرشيد لهذه الجرأة أيما غضب؛ وكتب بنفسه على ظهر كتاب ملك الروم؛ أما بعد فقد فهمت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه والسلام)، وبادر الرشيد إلى غزوا آسيا الصغرى على رأس جيش ضخم، فاجتاحها حتى هرقلية (806م) فاضطرب نيكيفروس إلى طلب الصلح، وأرسل إلى الرشيد سفارة على رأسها أسقف سينادا، وعقدت بين الفريقين معاهدة جديدة، يتعهد فيها القيصر باصطلاح الحصون المخربة، وبأن يدفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دينار، وأن يدفع عن نفسه ثلاث قطع ذهبية من نوع خاص وثلاث أخرى عن ولده عنواناً لخضوعهما لأمير المؤمنين

(للبحث بقية)

محمد عبد الله عنان المحامي

ص: 18

‌منازل الفضل

1 -

قصر الوالدة

للأستاذ محمد محمود جلال

يوم أراد الله أن أفرغ من الدراسة الابتدائية، وقد أتممتها في كنف الجمعية الخيرية الإسلامية في معهدها ببني مزار، اتجهت أنظارنا إلى القاهرة عاصمة البلاد تطلعاً لإكمال الدرس في معاهدها الثانوية

لم يكن من ذلك بد، وقد قضت سياسة دنلوب، بتركيز الدراسة الثانوية بالعاصمة، وحرمان مديريات القطر من الخطوة الثانية للتعليم فضلاً عما أفسد من برامجه وشوه من خططه

كثر التردد على القاهرة، بين تقديم الطلب، والاستعداد للكشف الطبي، والحرص على الظفر بمكان، إذ كان نطاق المدارس ضيقاً ومحاطاً بكثير من القيود تمشياً مع تلك السياسة

كان ذلك في أواخر سنة 1911 أي من نحو ربع قرن

فإذا كان يوم الجمعة، ذهبنا إلى ملعب الكرة بالحلمية الجديدة مررنا بشارع البرموني. هناك يستوقف النظر تجمع كثير من النسوة والصغار يختلفن إلى دار في مواجهة (زقاق) صغير ينتهي بها فتغيره وتحيله ميداناً فسيحاً للرحمة والإحسان. . . . .

كانت تلك الدار (مبرة محمد علي) تجد فيها فقيرات الأمهات وفقراء الأولاد رعاية عالية، وعطفاً كريماً: يلقين فيها يد الطب تأسو، ويد البر تواسي، تستنفذ اليدان بفضل الله أناسي من خلقه من براثن الأمراض وآلام الحياة

فإذا سألت لمن هذا الَعلم؟ ومن يقوم على هذا البر؟ ومن يغذى تلك الشجرة المباركة! أجابك المغاثون الداعون هي: (الوالدة) أطال الله بقاءها

(الوالدة)!! وأي اسم في الوجود أولى بهذه المعاني من هذا الاسم الكريم؟ وهل في الدنيا أكثر عطفاً من الوالدة!!

أليس بين الاسم والفعل خير تناسق وأوثق صلة؟

إنا نرى اليوم في مصر كثيراً من مظاهر البر، وأماكن للعلاج وافية الأعداد، ولكنا حين نذكر ما كان، وحين أكتب اليوم، إنما ننظر واكتب عما كان منذ ربع قرن. كانت (مبرة محمد علي) لا تقل في عين الفقير عما يرى اليوم في عجيبة (الراديو) والطيران

ص: 19

ولما أعلنت الحرب بين إيطاليا والدولة العلية، ونزلت جيوش الأولى شاطئ طرابلس، تحمس المصريون ذاكرين ما هم فيه وما بهم من ويلات الاحتلال الإنجليزي، يأسون جراح المجاهدين بفضل من المال وشيء من العون، رأينا (الوالدة) تتقدم الصفوف وخلفها الفضليات من نساء مصر يقمن بواجب الاغاثة، ويجمعن التبرعات، يوفين ما علبهن لله، وما في ذمتهن للحق والأخلاق

هذه (سوق الإحسان) نافقة ترأسها (الوالدة)، وتلك دعوة للتشاور بين سيدات مصر في (قصر الوالدة)، وفي الصباح تتحلى صحف مصر بفاتحة التبرعات مصدرة باسم (الوالدة)

وفي الحلمية الجديدة بناء جميل، تسمع به حركة ولا تسمع فيه لغواُ، يجمع كثيرين من أبناء البلاد، يتعلمون الصناعة، ينقل إليك الأثير نغمات آلاتهم توقع الأنشودة في تدعيم صناعة البلاد

فإذا خطوت إلى شارع سليمان باشا، راعك مخزن فاخو، فخاره وروعته قطع الأثاث المتقن برعت فيه أيدي المصريين والعبقرية الفنية الموروثة، فبينا نرى المخازن والمحال تطلى وتنسق إعلاناً عما بها إذا بذلك المعرض يحلي المكان ويعلن عنه

والعهد بذلك الحي أنه (إفرنجي) في مساكنه ومقاهيه ومخازنه، وإنك لمفترض إذن أن هذا المكان (لكريجر) أو (لجانسان)، أو غيرهما من تجار الأثاث الثمين. ولكنه قطعة من مدرسة الحلمية وقفت كالراووق لا تبقى للعرض إلا ماله قيمة حقيقية، تعلن في صدق عن حقيقة البلاد وأبناء البلاد ولإنتاج البلاد، في الحي الذي لا يقطنه إلا الأوربيون

وكذلك كانت (الوالدة) شغل السمع والبصر

التحقت بالمدرسة السعيدية، أجتاز من أجلها جسر قصر النيل في اليوم مرتين، فأمر بقصر (الوالدة) مرتين، ومن العجب أن يزداد المرء في كل نظرة شغفاُ بالقصر، وألا يكون لتكرار رؤيته إلا استزادة الإعجاب وامتلاء العين من محاسنه، على نقيض ما يعرو الإنسان عادة من ملل إذا تكرر المنظر، ولو في نزهة

كان (قصر الدوبارة) أحب أحياء القاهرة إلي. فإذا أردت ترويحاً عن نفسي سرت على شاطئالنيل حذاءه، وإذا شعرت بضيق طلبت تفريجه في سويعات المساء بين مغانيه، وإذا جلت بالجزيرة وقفت على النيل من الشاطئالغربي أنظر إليه، وكثيراً ما طالعت العسير من

ص: 20

دروسي في تلك الناحية فساغ فهمها وانجلى الكرب

بلى إني تمنيت أن يكون لي فيه مسكن، وأن أصبح من قاطنيه، فلما استقر بنا المقام بشارع (الحوياتي) حمدت الله وقلت هذه خطوة في القرب منه، وقد أوشكت على الخروج من سلك الطلبة

أدركنا من الحياة أكثر، وفهمنا بتقدم السن وتحول الأيام ما لم نكن ندرك من قبل، فإذا بي أبدأ اليوم متنزهاً في البكور بقصر الدوبارة، وأختم المساء بجولة في ربوعه، إذا أحسست القذى من قصر (العميد) لقيت الفرجة من (قصر الوالدة) كما يذهب عنك معرض الصنائع بشارع سليمان باشا، غصة التسلط الأجنبي في ميداني الصناعة والتجارة

وفي سنة 1932 أراد الله أن أظفر بشيء من الأماني، فسكنا داراً بالحي ذاته، وبلغ من عرفاني لجميل الله، وفيض السرور على قلبي أن قيدت في جريدتي الخاصة هذا الانتقال بما يستحقه

فلما أن كان يوم جمعة، ومررت بالقصر في طريقي إلى مسجد (الشيخ بركات) هالني إعلانات تلصق على الجدار الأنيقة، يضعها صبيان دون إكتراث، فأخذت ووقفت أقرأ، الله أكبر، هذه إعلانات عن بيع أثاث القصر!!!

لك الله يا دار! كنت مهبط رحمة، فرفعت بك (الوالدة) علم البر، وكنت منزل الفضل فدعوت للعلم، وقمت بإنشاء معاهدة وتمويلها، كنت آية الفن من الطلاء الخارجي والباب الكبير الجميل إلى الأثاث الداخلي الفاخر، وها أنت اليوم يعبث بجدرك صبية وقد كان يهاب المرور بها كبار! ويباع الأثاث، فتستباح من الشارين الدار. ولم ذلك؟ وفيم السخرية والتفريط فيك ووارثوك في نعمة وبسطة من العيش؟! وكيف هنت وأنت مصدر العزة لبيوتات طاهرة، وكنت الغوث والابقاء لدور وقصور

وكذلك أصبح يوم الجمعة عندي - وهو يوم الجمع والرحمة - يوم العظة والاعتبار، يوم كشف لي فيه عن (مبرة محمد علي) سنة 1911، ثم رأيت فيه ختام الآية، وكيف عبثت أطماع الدنيا بالتراث المجيد

ومنذ حل الأجل، وبدأ المكلف بالبيع من الخبراء ينفذ إعلانه أقصرت عن الطريق وتخليت عن عادتي، وكرهت أن أرى كعبة العافين ومنار الفضل مزدحمة المسالك بالمتفرجين

ص: 21

والعابثين

علم أبي - عليه رحمة الله - بالبيع فطلب إليَّ أن أزور القصر واشترى أثاثاً ينقصنا لغرفة المائدة، وبقي بالقاهرة يومين ثم سافر إلى الريف لبعض شأنه

وحين عودته سألني هل نفذت رغبته؟ وهل اقتنيت شيئاً؟ لقد كنت أهابه على رعايته لي، وما أظنني خالفت له مدى حياته رأياً، فلما سئلت لم أعدل بالحق شيئاً، قلت: لقد بر علي يا أبي - وقد أعجبت بالقصر فتى، وقدرت أثر صاحبته وأثره في عالم الخير والعلم لهذه البلاد شاباً - كبر علي أن تشترك قدماي في امتهانه فلئن لم يأبه منا ريحه ذوو الشأن، ولئن تدفقت الجموع تظفر بما يقتني، فإني سعيد بأن أقتني تذكاره، وأن أفي له بشيء من احترام الذكرى، ثم والأثاث موفور في مخازنه، وجيده اليوم معتدل الثمن

سر أبي بنظرتي، وقال على الفور: (إنك أشبه بجدك، فقد ذهب مرة مع فريق من صحبه لزيارة الخديوي إسماعيل بالآستانة، وكانوا في جملة من كبراء البلاد يطالبون بتدخل الباب العالي لجلاء الاحتلال - والدولة في ذاك الوقت صاحبة السيادة - فلما جلسوا قدمت إليهم السجاير، وطاف الخدم يشعلونها للضيوف الكرام، أبى جدك أن يشعل سيجارته، وكان الخديوي إسماعيل قد كف بصره

فلما سئل من بعض رفاقه بعد الانصراف من الزيارة، قال: (إني نقدت ظلمه، ومدحت إصلاحه - وهو خديوي - ولم أدخن أمامه بصيراً، وإني لأكره أن أدخن - وهو مكفوف البصر - احتراماً لعبرة مآله، وصوناً لذكرى عزته الأولى.

قلت: الحمد لله، لقد أفدت وفاء وعلماً أين منه اقتناء حطام سريع البلى مهما دام، وقمت بما يرضي ضميري ولو في أضيق مجال

واليوم أغلقت أبواب القصر؛ فلا حاجب ولا قاصد، واليوم تمر بقاعة (يورث) الأمريكي على قرب منه فترى رتل السيارات يزحم الطريق، جاءت بأصحابها يستمعون إلى ما يلقي في العلم والفن والأدب، بينا القصر العظيم، المقر السابق للسابقة بين المحسنين وأركان العلم يكاد يطمس سنا طلائه نسيج العناكب لا يرتفع فيه صوت بحديث ولا علم ولا فن

أليس (قصر الوالدة) أولى مكان بنور العلم والأدب والفن؟ إنه أولاها، وإنه أرحب الأمكنة للفضل منذ نشأته

ص: 22

فهل نرى في ورثته من الأمراء في القريب ما يعيده إلى مكانته ويعيد إليه روح الأنس بخير ما خلق الله للإنسان فيكون ذلك استمراراً لروحه، وأنساً لروح سكنت الخلد - هي روح (الوالدة). . . . .

محمد محمود جلال المحامي

ص: 23

(روز)

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

كان الظلام قد خيم بعد غيوب الشمس، وذهبت معارف الأرض، وانتقل كل مجسد إلى عالم الأشباح الغامضة، وتسربت الألوان المختلفة في السواد الذي غمرها، وتحول الجو من طلاقة الاعتدال وطيبه إلى البرد، كعادته في هذه المناطق الصحراوية، فتحول أهل البيت إلى الحجرات طلباً للدفء، أو اتقاء لما يجر إليه التعرض للقر، وكان البواب النوبي يتمشى في الحديقة بعد أن خلت من المتنزهين وفي يده مسبحته الطويلة التي لا تفارقه، فهي على عنقه كالعقد إذا لم تكن حباتها بين أصابعه، وكان قد وصل إلى آخر الممر، ودار ليعود، فقال له حوضُ الأذريون

- أو هكذا خيل إليه -:

(هشش!)

فنظر مبهوتاً إلى هذا الزهر الأصفر ذي الخمل الأسود، وتعجب من نطقه، فلولا فرط الدهشة للاذ بالفرار، فقد كان من المؤمنين بالعفاريت وركوبها الناس واتخاذها أشكالاً وصوراً شتى، وتقمصها أجسام الحيوان، ولم يكن بعيداً في التصور عنده أن تطلع من أحواض الزهر

ومنعته الدهشة أن يجيب بشي. وأي جواب لمثل هذا النداء سوى الالتفات إلى مصدر الصوت؟ ولا مصدر له يعلمه سوى هذا الحوض

وعاد الصوت الخفي يقول:

(هشش!)

ولكنه لم يصدر في هذه المرة عن الحوض، بل انتقل إلى ما وراء الزرع المفرش على السور الحديدي، وكفى بهذا التحول سبباً للرعب، فما يمكن أن يجيء الصوت من الإمام مرة، ومن الخلف مرة إلا إذا كان صاحبه عفريتاً من الجن، فانطلق البواب يعدو كالنعامة إلى حيث يرجو أن يجد أنيساً يذهب عنه الخوف

وسخط العفريت لما رأى فريسته تفلت من يده، وتخلص من ألفاف الشجر المتشجنة تخلصاً لا يعود بحسن السمعة وطيب الأحدوثة على الجن قومه، ولا يشهد لهم بالبراعة والحذق،

ص: 24

فلما صار في الممر أخذ ينفخ من الجهد وينقض التراب عن ثيابه، ويلعن البرابرة وجبنهم. ولما أوسعهم لعناً، وشفى قلبه مما يجد عليهم تحول إلى نفسه، ولم يبخل عليها بحظ وافٍ من التعنيف والتقريع على ما كلفته سخافته من الزحف وراء الشجر الأشب من تلويث الثياب والتعرض للحشرات، وأحس - حين ذكر الحشرات - كأن بعضها - جيشاً كاملاً منها - يسير على ظهره تحت ثيابه

وفي هذه اللحظة، وقبل أن يتم ما بدأه من إبداء الرأي في نفسه ويصارحها به على أكمل وجه، سمع من الشرفة صوتاً يناديه باسمه، فكان من أثر المفاجأة أن رد:(نعم) بصوت عال، ولم يكد ينطق بهذه الكلمة المفردة حتى أدركته. الندامة وعاد سخطه فعظم على نفسه، فلو استطاع أن يجردها أمامه شخصاً لقتله بلا تحرج، ولم يسعه بعد أن وشى بنفسه إلا أن يمشي إلى حيث دعُي فأجاب، وكان الله في عونه حين يدعو الفضول إلى السؤال!

وفي هذه اللحظة كانت (روز) - كلبة البيت - قد شبعت من تفتيشه والإحاطة بمداخله وخارجه، واختبار الكراسي والبحث عما عسى أن يكون تحتها، وما لعلعه مخبأ وراء الستائر، وحدثتها نفسها بالخروج إلى الحديقة لعل فيها قطعة، أو عظمة تتسلى بها، فقد كانت (روز) طالبة لهو بريء، وسيان عندها أن يكون الملهو به حيواناً مثلها أو جماداً، ولكن الباب كان مغلقاً اتقاء لتيارات الهواء، ولو لم يكن في وسع (روز) أن تفتحه بغير معونةٍ من الإنسان، فوقفت أمامه - أو لصقه - وجعلت تحك أنفها فيه منتظرة أن يدخل داخل أو يخرج خارج

وسرعان ما استجاب الله دعاءها وحقق رجاءها، فقد دفع صاحبنا الباب ودخل وهو ينفخ، ولم يكن يدري أن (روز) وراءه وأن أنفها أصابته منه ضربة قوية، أدرات رأسها وآلمتها وأخرجتها عن طورها. وكانت (روز) كلبة رقيقة الإحساس لينة العريكة، وقد ألفت أن يداعبها الناس - رجالاً ونساء وأطفالاً - واعتادت إذا مسها أذى غير مقصود، أن يسرع المسيء إلى ملاطفتها والاعتذار إليها، ولذلك أدهشها أن ترى صاحبنا يضربها بالباب ويكاد يبطط لها أنفها الجميل، ويمضي كأنما لم يحدث شيء على الرغم من الصرخة العالية التي أطلقتها من الألم، وهاجها هذا السلوك فانطلقت تجري حتى صارت أمامه ونبحته نبحتين كأنما تقول له:

ص: 25

(لحظة من فضلك! لحظة واحدة، إذا سمحت!)

فقال صاحبنا بجفوة: (اذهبي عني - فلست أحب الكلاب!)

فقالت (روز):

(صحيح؟ أهو ذاك؟ ومن تظن نفسك أيها الحلوف القذر حتى تضرب فتاة مثلي على أنفها؟)

فبشور صاحبنا بيديه مرة أخرى ليصرفها، لكنها ألحت عليه بالنباح قائلة:

(إن أمثالك في الدنيا هم الذين يحدثون الثورات والفتن والهزاهز. وما أظن بك إلا أنك من الملاّك الجشعين الذين يظلمون الفلاحين العاملين في أرضهم، ويلقون بهم في أحضان المهيجين والبلاشفة. . . .)

فضاق صدر صاحبنا، ورفسها برجله، ولم يرفسها في الحقيقة وإنما حرك ساقه حركة الرفس، فلم تصبها رجله، فقد كان يريد المعنى لا الفعل؛ ولكن (روز) كانت كلبة حرة تكفيها الإشارة، فغضبت جداً لكرامتها، ووثبت وثبةً مكنت أسنانها الحادة من طرف السترة فغرزتها فيها وجذبتها بكل ما فيها من قوة، فانهارت الظهارة، وتكشفت عن البطانة، وكانت لا تزال فائرة النفس، فهمت بوثبة أخرى، ولكن فتاة من أهل البيت دخلت في هذه اللحظة، فصاحت بها:

(روز. . . روز. . . .!)

فالتفتت (روز) على الصوت، وأدركت بذكائها الكلبي أن لا رجاء بها بعد ذلك في مواصلة الكر والفر، فدست ذيلها بين فخذيها واختفت

وقال الفتاة لصاحبنا:

(آسفة جداً. . . . .)

فنظر صاحبنا إليها مقطبا، ثم صوب عينه إلى سترته، وتناول الطرف المهلهل بيمينه، فغلا دمه، وشعر برغبة جامحة في أن ينقص تعداد القطر المصري واحدة، غير أنه استطاع بجهد أن يكبح نفسه، فما يليق أن يكون كالكلبة حماقة، ولا سيما في حضرة سيدة وقال:

(لا بأس! لا بأس! أعني لا شيء. . . هي غلطتي، وإن كنت لا أعرف كيف أسأت إليها. . . هل اسمها روز؟)

ص: 26

قالت الفتاة: (نعم. . . روز. . . . اسم جميل، أليس كذلك؟)

قال: (ولكن الفعل غير جميل. . . والبذلة جديدة قبحها الله. . . أعني الكلبة لا البذلة. . . معذرة. . .! على كل حال يجب أن أرحل الآن، فما أستطيع البقاء بهذه الثياب الممزقة. . . استودعك الله. . .)

وهكذا مزقت (روز) ثيابي. . . ومن أجل هذا صرتُ أكره الكلاب بأنواعها، من مجازية وحقيقية، ولا أطمئن إليها، ولا آمن من غدرها، ولي الحق. أليس كذلك؟

إبراهيم عبد القادر المازني

ص: 27

-‌

‌ قصة المكروب كيف كشفه رجاله

ترجمة الدكتور احمد زكي وكيل كلية العلوم

اسبلنزاني ثاني غزاة المكروب

(مات لوفن هوك وآ أسفاه! فمن بعده لدراسة تلك الحيوانات الصغيرة؟). هكذا تساءل رجال الجمعية الملكية بإنجلترا، وهكذا تساءل روُمور، ورجال الأكاديمية الفرنسية الألمعية في باريس. سؤال أجابته الأيام سريعاً، فان قماش (دلُفت)، لم يكد يُغمض عينته في عام 1723 ليستريح تلك الراحة الطويلة الأبدية التي استحقها بعد طول جهد وعناء، حتى ولد في عام 1729 صيادٌ للمكروب جديد، وذلك في بلدة (إسكانديانو) في شمال إيطاليا على بعد ألف ميل من مضجع (لوفن هوك). وكان اسم هذا المولود الجديد (لازارو اسبلنزاني) نشأ وترعرع فإذا به ولد يلثغ بالشعر بينا هو يلعب بالطين يصنع منه الكعك والفطير، ثم يعزُف عن طينه ويذهب في فطيره ليلهو بالخنافس والبق والذباب وأشتات الديدان يُجري عليها تجارب قاسية، هي عبث الصبي الذي لا يَحذق التجربة ولا يدر مبلغ الألم الذي تأتيه يداه. كان يُغرم بالطبيعة ويهوي الأشياء الحية، وبدلاً من أن يُبرم والديه بكثرة السؤال عنها، كان يمتحنها بنفسه، فينزع عن هذه رجليها، وعن هذه جناحيها، ثم يحاول أن يُثبتهما حيت كانا. كان يجب أن يعرف كيف تعمل الأشياء، ولم يكن يأبه كثيراً بأشكالها وظواهرها

وخاصم أهله كما فعل (لوفن) في تقرير ما يدرس من العلوم، وجاهدهم كثيراً من أجل دراسة المكروب. وكان أبوه محامياً، فبذل مجهوداً كبيراً في أن يُحبب إلى ابنه وثائق من القانون طويلة، وصحائف من حجج الدفاع عريضة، ولكن الصبي كان يهرب من هذا وذاك، فيذهب إلى بعض الجداول فيقذف سطحها برقيق الحجر، ويعجب من أن الحجر يقشط الماء ولا يغطس فيه

وكان يُغصب في الامساء على الجلوس إلى دروس لا لذة له فيها، فلا يكاد أبوه يوليه ظهر، حتى يقوم إلى الشباك ينظر إلى سماء إيطاليا وهي ناعمةٌ كالقطيفة السوداء قد تبعثرت عليها النجوم البيضاء، ثم يُصبح الصباح فيأتي رِفاقَه في اللعب يُلقى عليهم دروساً فيها حتى أسموه المنجم

وتأتي الإجازات فيضرب بجسمه العظيم في الغابات؛ فذات مرة وقعت عينه فيها على

ص: 28

نافورات طبيعية يخرج منها الماء راغياً مزبداً، فحملق فيها من الدهشة، وذهب عنه لعب الطفولة وعبثها، وعاد أدراجَه يفكر تفكير الرجال. ما سبب هذه العيون وكيف كانت؟ لم يُحر جواباً إلا حكاية حكاها له ذووه والقسيس: أن فتيات جميلات ذهبن في الغاب فَضلِلْنَ الطريق بين أحراجه، فأحَسن الوحشة، فبكين، فانقلبت دموعهن عيوناً تتفجر ما شاء الله

وكان (لازارو) ابناً طيعاً، وان فيه خُلق الساسة، فلم يجادل أباه ولا القسيس، وإنما سخر من تعليلهم وأخفى سخريته في نفسه، واعتزم أن يكشف عن سر هذه النوافير يوماً

وكان (اسبلنزاني) في صباه شغوفاً بالكشف عن أسرار الطبيعة شغف (لوفن هوك)، ولكنه خالفه في السبيل التي سلك ليكون عالماً باحثاُ. قال لنفسه:(والدي يصر على تعليمي القانون، وأنا أصر على غير القانون، إذن فسيعلمن مشيئة من تكون). وتظاهر أمام والده بحب القانون والإقبال على الوثائق الشرعية، ولكنه أقبل في كل أوقات فراغه إقبالاً مريعاً على دراسة الرياضة والمنطق واللغة الإغريقية والفرنسية، وفي عطلاته كان ينظر إلى الأحجار تطير فتكشط جلد الأنهار، وإلى الماء الفوار يتدفع من النبع الثرثار، ويحلم بالبراكين تقذف بالنيران مختلفة الألوان، ويحلم باليوم الذي يفقه فيه منشأها ومنتهاها

واستيقظت في نفسه الحيلة، فذهب إلى العالم الطبيعي الشهير (فالسنيري) وأفضى إليه بمكنون علمه فأكبره الرجل العظيم وصاح به:(إنك يا بني خلقت للعلوم فما إضاعة وقتك في كتب القانون؟). فقال الماكر: (ولكن، سيدي، إن أبي يصر، وما للابن غير الطاعة!)

فذهب فالسنيري إلى أبيه غاضباً حانقاً، فلما لقيه وبخه على العبث بمواهب إبنه وإضاعته في تعلم صناعة لا يعود عليه منها غير النفع والمال. (إن ولدك يا هذا يبشر أن يكون بحاثة كبيراً. إنه يشبه جاليليو. وسيشرف اسكانديانو ويرفع ذكرها في الوجود)

ورضي الوالد وذهب الإبن إلى جامعة ريجيو ليحترف دراسة العلوم

وكان الزمان قد استدار قليلاً، فأصبح طالب العلوم الطبيعية ذا حظ أوفر من احترام الناس، ونصيب أكبر من الأمن على نفسه وحياته عما كان الحال يوم بدأ (لوفن هوك) ينحت عدساته. فان محكمة التفتيش كانت قد بدأت تتخاذل قليلاً، وتستر أنياباً كشفت عنها طويلا، فأخذت تطلب الزندقة، لا عند المعروفين النابهين أمثال سرفيتوس وجاليلو، بل عند النكرات الخاملين، فعلى هؤلاء المستضعفين تجنت، وألسنتهم قطعت، وأبدانهم حرقت ولم

ص: 29

تعد (المدرسة المتسترة) تتستر، فقد كانت خرجت عن أقبيتها السوداء وقيعانها الظلماء، إلى ظهر الأرض حيث الهواء والضياء. ونالت الجمعيات العلمية في كل مكان رعاية الملوك وحماية البرلمانات. وأصبح من المأذون به أن يتشكك الناس في الخرافات، وأن يتحدث الناس حديث الترهات الشاسعة، حتى لبدأ أن يكون ذلك سمة العصر، والطراز الجديد المختار لذلك الزمان. وأخذ الناس يطلبون الحقيقة وقاموا يبحثون عنها في الطبيعة. ولم يلبث البحث العلمي، بما يتضمنه من لذة وما بلغه من وقار، أن شق لنفسه طريقاً إلى حظائر الفلاسفة، فقطع عليهم عزلتهم وحركهم عن سكونهم. فقام فولتير إلى ريف فرنسا وأوحاشها، وقضى فيها السنين الطوال يتفقه فيما اكتشفه نيوتن، لينشره في قومه من بعد ذلك ويؤلفهم عليه. ودخل العلم حتى في دور الندوة، والصالونات الفخمة، فاختلط فيها بالسمر النادر، واختلط فيها أحياناً بالعهر الفاخر. وأكب ذوات العصر، وذوات المجتمع أمثال مدام بمبادور على دائرة المعارف المحرمة يطلبون عندها فن توريد الخدود وتزجيج الحواجب، وصناعة الجوارب، وإلى جانب ما أثاره العصر المجيد الذي عاش فيه اسبالنزاني من الاهتمام بكل شيء كبير وصغير، من ميكانيكا النجوم إلى رقصات الأحياء الصغيرة في الماء، أخذ يشيع في الناس احتقارا مسموعا للدين، ولكل رأي حمته سلطة من أي نوع كانت، حتى تلك الآراء التي بلغت من القدم والقداسة مبلغاً كبيراً. ففي القرن الأسبق كان الرجل يعرض نفسه للأذى وحياته للخطر إذا هو قرأ كتب أرسطو في الحيوان، وضحك على ما فيها من حيوانات معكوسة مقلوبة لا تمت إلى الممكنات بسبب قريب أو بعيد. أما في هذا القرن فالرجل كان يستطيع أن يكشف عن سنه في نور النهار باسماً ساخراً وأن يقول ولو في شيء من الخفوت: لأنه أرسطو لا بد من تصديقه ولو كذب. على أن الدنيا كان لا يزال بها جهل كثير، وعلم كاذب كثير، حتى في الجمعيات الملكية والأكاديميات. وما كاد (اسبالنزاني) أن يتخلص من دراسة القانون، ومما يتبعه من مستقبل مليء بالمحاكمات التي لا حصر لها، والمخاصمات التي لا نهاية لها، حتى قام يحصل بكل ما فيه من قوة كل ما يستطيع من معرفة، من أي نوع كانت، ويمتحن شتى النظريات من أي مصدر جاءت، وأن ينفض عن نفسه احترام المحجّات الثّقات مهما علا صيتهم وشاع ذكرهم، واختلط بكل الناس من الأساقفة السمان، إلى موظفي الحكومة، إلى

ص: 30

أساتذة العلم، إلى ممثلي المسارح، إلى العازفين بالأشعار على القيثار

كان في خلقه نقيضَ (لوفن هوك) أبعد النقض عاش (لوفن) عزوفاُ جلداً صبوراً، ونحت العدَس وحدق في الأشياء زُهاء عشرين عاماً قبل أن يسمع به أحد، أو يُحس وجوده العلماء. أما (أسبالنزاني) ففي سن الخامسة والعشرين ترجم عن القدماء من الشعراء، وانتقد الترجمة الإيطالية لهوميروس، وكانت لها في قلوب الناس منزلة مستقرة وتقدير مكين، ودرس الرياضيات مع ابنة خاله (لورا باسي) الأستاذة الشهيرة بجامعة ريجيو فبرع فيها، وعندئذ أخذ يكشط سطح المياه بالحجارة، لا اللهو واللعب كما كان يفعل صبياً، بل للجد والدراسة؛ وكتب بحثاً في الحجارة، وكشطها لسطح الماء، وترسم قسيساً في الكنيسة الكاثوليكية، وأخذ يرتزق بما يقيم من القداديس

قلنا إنه يحتقر في الخفاء كل سلطة، ومع ذلك نجده تملق هذه السلطات نفسها وكسب عطفها، وعاش هادئاً في أكنافها يعمل في مأمن من كل تهويش وإزعاج، وترسم قساً حامياً للدين، مدافعاً دفاع الأعمى عن حوزة اليقين؛ فإذا به يطلق لنفسه العنان إطلاقاً يسومها على التشكك في كل شيء، وعلى رفض التسليم بأي شيء، إلا وجود الله، لا إله الكنيسة التي صورته، ولكن إله عظيم فخم يهيمن على تلك الخلائق أجمعين. وقبل أن يبلغ الثلاثين من عمره تعين أستاذاً بجامعة (ريجيو) فأنصت لدروسه الطلبة في حماس ظاهر وإعجاب ثائر. وهنا في تلك الجامعة بدأ تجاربيه على تلك الحيوانات الصغيرة الضئيلة العجيبة التي أغراها (لوفن هوك) بالصبر الطويل والحيلة الواسعة على البروز من ذلك الخضّم الشاسع المظلم الذي احتجبت فيه منذ الخليقة عن عين الإنسان، والتي أوشكت من بعد وفاته أن تنسل راجعة إلى ظلمة ذلك المجهول بالترك والإهمال والنسيان

لقد كان من الجائز المقدور أن تُنسى تلك الخلائق الصغيرة، وإن عطف عليها القدر، فقد كان من الجائز الميسر أن تحظى بين الناس بنصيب من الذكر بقدر ما تحظى به الأعاجيب يتلاهى الناس بها ويتفاكهون عليها، ولكن نقاشاً قام بين أرباب الفكر بسببها ضمن لها الحياة كاملة، لأنه كان نقاشاً عنيفاً خاصم فيه الأصدقاء الأصدقاء، وود فيه العلماء الأساتذة أن يفلقوا جماجم الأحبار القساوسة. أما موضوع الخصام فهو ذاك:

أيمكن من العدم أن تُخلق الأحياء، أم لا بد لها من آباء؟ أخلق الله الخلائق في ستة أيام، ثم

ص: 31

نفض يديه من الخليقة واستوى على العرش يُهيمن ويَسوس، أو هو لا يزال يتسلى من آن لآن بخلق جديد؟

أما الرأي الشائع في ذلك الزمان، فكان أن الشيء قد يخرج من لا شيء، وأنه لا ضرورة للآباء في كل حالة لتكون الأبناء، وإن في الأقذار المركومة والأوساخ المهيلة تتولد المواليد من غير والد. وإليك وصفة من تلك الوصفات يضمن لك ذلك العصر أنك تحصل بها على ثول عظيم من النحل: خذ ثوراً صغيراً واقتله بضربة على رأسه، وادفنه واقفاً في الأرض حتى لا يظهر منه إلا قرناه، واتركه شهراً، ثم عد إليه فانشر قرنيه يخرج مهما النحل طائراً في كثرة وزحام

أحمد زكي

ص: 32

‌الليث بن سعد محدث مصر وفقيها ورئيسها

للأستاذ علي الطنطاوي

تتمة

قال الإمام الشافعي: الليث أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به

وقال الإمام أحمد: ليس في أهل مصر أصح حديثاً من الليث

وقال الإمام الشافعي: الليث أتبع للأثر من مالك

وان ابن وهب يقرأ على الشافعي مسائل الليث فمرت به مسألة، فقال رجل من الغرباء: أحسن والله الليث، كأنه كان يسمع مالكاً يجيب فيجيب هو، فقال ابن وهب لرجل: بل كأن مالكاً كان يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا آله إلا هو ما رأينا أفقه من الليث

وقال ابن وهب: لولا مالك والليث لضل الناس

وقال الدراوردي: رأيت الليث عند يحيى بن سعيد وربيعة وانهما ليرجرجان له رجرجة ويعظمانه

وقال الذهبي: وكان من بحور العلم له حشم وافر، وكان نظير مالك

قال ابن عساكر: كان كبار العلماء يعرفون فضله ويشيرون إليه وهو شاب، وقيل له: أمتع الله بك، إنا نسمع منك الحديث ليس في كتبك؟

قال: أو كل ما في صدري في كتبي؟ لو كتبت ما في صدري ما وسعه هذا المركب!

منزلته عند الخلفاء والولاة

قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصر؟

قلت: لا يا أمير المؤمنين، إني أضعف عن ذلك، إني رجل من الموالي

فقال: ما بك ضعف معي إلا ضعف بدنك، أتريد قوة أقوى مني؟ ولكن ضعفت نيتك في العمل عن ذلك، فأما إذ أبيت فدلني على رجل

فقلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل له صلاح وعشيرة فبلغ ذلك عثمان فحلف ألاّ يكلمني

فلما أردت أن أودعه قال لي: قد رأيت ما سرني من سداد عقلك فاتق الله في الرعية أمثالك

ص: 33

وقال يعقوب بن داود وزير المهدي: قال لي أمير المؤمنين لما قدم الليث بن سعد بغداد: إلزم هذا الشيخ، فقد ثبت عند أمير المؤمنين أنه لم يبق أحد أعلم بما حمل منه

وقال لؤلؤ خادم الرشيد: جرى بين هرون الرشيد وبين بنت عمه زبيدة بنت جعفر كلام، فقال هرون: أنت طالق إن لم أكن من أهل الجنة. ثم ندم فجمع الفقهاء فاختلفوا. ثم كتب إلى البلدان، فاستحضر علماءها إليه، فلما اجتمعوا جلس لهم فسألهم فاختلفوا، وبقي شيخ لم يتكلم، وكان في آخر المجلس وهو الليث بن سعد. فسأله فقال: إذا أخلى أمير المؤمنين مجلسه كلمته، فصرفهم. فقال: يدنيني أمير المؤمنين. فأدناه. فقال: أتكلم على الأمان؟ قال: نعم. فأمر بإحضار مصحف، فأحضر، فقال: تصفحه يا أمير المؤمنين حتى تصل إلى سورة الرحمن فاقرأها، ففعل، فلما انتهى إلى قوله تعالى (وَلَمِنْ خافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنتانِ)

قال: أمسكْ يا أمير المؤمنين، قل: والله. . .

فاشتد ذلك على هرون. فقال: يا أمير المؤمنين الشرط أملك

فقال: والله (حتى فرغ اليمين). قال: قل، إني أخاف مقام ربي. فقال ذلك

فقال: يا أمير المؤمنين، فهما جنتان، وليست بجنة واحدة! (قال) فسمعنا التصفيق والفرح من وراء الستر، فقال الرشيد: أحسنت. وأمر له بالجوائز والخلع، أمر له بأقطاع الجيزة، ولا يتصرف أحد بمصر إلا بأمره، وصرفه مكرماً

قال الليث: وسألني هرون الرشيد: ما صلاح بلدكم؟ قلت: يا أمير المؤمنين صلاح بلدنا إجراء النيل وصلاح أميرها. وإنه من رأس العين يأتي الكدر فإذا صفا رأس العين صفت العين

قال: صدقت يا أبا الحارث

وقال السيوطي: كان نائب مصر وقاضيها من تحت أوامر الليث، وكان إذا رابه من أحد شيء كاتب فيه فيعزله

قال ابن أبي مريم: كان إسماعيل بن اليسع الكندي من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب مذهب أبي حنيفة في إبطال الحبس فأبغضوه، فجاء الليث فجلس بين يديه، فرفع إسماعيل مجلسه، فقال: إنما جئت إليك مخاصما، قال: في ماذا؟

قال: في أحباس المسلمين، قد حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر

ص: 34

وعثمان وعلي وطلحة والزبير فمن بقي بعد هؤلاء؟

وقام فكتب إلى المهدي، فورد الكتاب بعزله. فأتاه الليث فجلس إلى جنبه، وقال للقارئ: اقرأ كتاب أمير المؤمنين، فقال له إسماعيل: يا أبا الحارث، وما كنت تصنع بهذا؟ والله لو أمرتني بالخروج لخرجت؟

فقال له الليث: والله إنك لعفيف عن أموال الناس

وكان في كتاب الليث إلى المهدي: أنا لم ننكر عليه شيئاً غير أنه أحدث أحكاماً لا نعرفها

ولما أذن موسى بن عيسى للنصارى في بنيان الكنائس التي هدمها علي بن سليمان، بنيت كلها بمشورة الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة

منزلته عند الناس

كان له أربعة مجالس يجلس فيها كل يوم، فيجلس ليأتيه السلطان في نوائبه وحوائجه. وكان الليث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمراً أو من السلطان كتب إلى أمير المؤمنين فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول نحو أصحاب الحوانيت فان قلوبهم متعلقة بأسواقهم، ويجلس للمسائل يغشاه الناس فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس فلا يسأله أحد من الناس حاجة فيرده، كبرت حاجته أم صغرت. . .

وقال منصور بن عمار: كان الليث إذا تكلم رجل في المسجد الجامع أخرجه، فلما دخلت مصر تكلمت في جامع، فإذا رجلان قد دخلا فأخذاني، فقالا: أجب أبا الحارث، فذهبن وأنا أقول: واسوأتاه أخرج من البلد هكذا. . .

فلما دخلت على الليث سلمت، فقال: أنت المتكلم في المسجد؟

قلت: نعم. قال: أعد علي ما قلت، فإعدته، فرق الشيخ وبكى، وقال: ما اسمك؟ قلت: منصور بن عمار. قال: أبو السري؟ قلت: نعم. فدفع إلى كيساً وقال: صُنْ هذا الكلام عن أبواب السلاطين، ولا تمدحن أحداً من المخلوقين، بعد مدحك لرب العالمين، ولك علي في كل سنة مثلها

وكتب إليه مالك في رسالة: (. . . وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك وحاجة من قبلك إليه. . . الخ)

وقال له يحيى بن سعيد الأنصاري، وقد رآه يفعل شيئاً من المباحات: لا تفعل، فانك إمامُ

ص: 35

منظور إليك

سعة وكرمه

قال شعيب بن الليث: كان أبي يستغل في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفاً، فتأتي عليه السنة وعليه خمسة آلاف دينار ديناً

وقال محمد بن رمح: كان دخله ثمانين ألف دينار في العام وما أوجب الله عليه زكاة قط

وخرج يوماً فقوموا ثيابه ودابته بثمانية عشر الف درهم إلى عشرين ألفاً، وخرج شعبة فقوموا حماره وسرجه ولجامه بثمانية عشر إلى عشرين درهما

وقال أبو رجاء: قفلنا مع الليث من الإسكندرية، وكان معه ثلاث سفائن: سفينة فيها مطبخه، وسفينة فيها عياله، وسفينة فيها أضيافه

قال عبد الله بن صالح (كاتبه): صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس، وان لا يأكل إلا بلحم، إلا أن يمرض، وكان لا يتردد إليه أحد إلا أدخله من جملة عياله مادام يتردد عليه ويسمع منه، فإذا أراد الخروج زوده بالبلغة إلى وطنه

وكان يتخذ لأصحابه الفالوذج، ويعمل فيه الدنانير، ليحصل لمن أكل كثيراً أكثر من صاحبه!

وكان يطعم الناس الهرايس بعسل النحل وسمن البقر في الشتاء، وفي الصيف باللوز والسكر

وكان يصل مالكاً كل سنة بمائة دينار، فكتب إليه مرة أن عليّ ديناً، فبعث اليه بخمسمائة دينار. وكتب إليه مالك مرة إني أريد أن أُدخل ابنتي على زوجها، فأحب أن تبعث لي بشيء من عصفر

قال ابن وهب: فبعث إليه بثلاثين جملاً محملة عصفراً فصبغ منه لابنته، وباع منه بخمسمائة دينار، وبقي عنده فضلة

قال أبو صالح (كاتبه): كنا على باب مالك بن أنس فامتنع علينا (أي احتجب) فقلنا: ليس يشبه هذا صاحبنا، فسمع مالك كلامنا فأمر بإدخالنا عليه، فقال لنا: من صاحبكم؟ قلنا: الليث بن سعد

قال: تشبهوني برجل كتبت إليه في قليل عصفر نصبغ به ثياب صبياننا، فأنفذ إلينامنه ما

ص: 36

صبغنا به ثياب صبياننا وثياب جيراننا، وبعنا الفضل بألف دينار؟

ولما حج الليث أهدى إليه مالك طبقاً فيه رطب، فرد إليه على الطبق ألف دينار

ولما احترقت دار ابن لهيعة وصله بألف دينار، وصل منصور بن عمار القاضي بألف دينار

وكان يجيء إلى المسجد كل يوم على فرس، فيتصدق كل صلاة على ثلثمائة مسكين، ولم يكن يرد سائلاً:

أتاه مرة سائل فأمر له بدينار، فأبطأ الغلام به فجاء سائل آخر فجعل يلح، فقال له الأول: اسكت. فسمعه الليث فقال: مالك وله؟ دعه يرزقه الله، وأمر له بدينارين

قال منصور بن عمار: كنت عند الليث جالساً فأتته امرأة ومعها قدح، فقالت: يا أبا الحارث إن زوجي يشتكي وقد نُعت لنا العسل. فقال: اذهبي إلى الوكيل فقولي له يعطيك. فجاء الوكيل يسارّه بشيء. فقال له الليث: اذهب فأعطها مطراً، إنها سألت بقدرها فأعطيناها بقدرنا (قال: والمطر عشرون ومائة رطل)

واشترى قوم من الليث ثمره بمال، ثم إنهم ندموا فاستقالوه فأقالهم، ثم استدعاهم فأعطاهم خمسين ديناراً وقال:

إنهم كانوا أملوا أملاً فأحببت أن أعوضهم

وقال أسد بن موسى: كان عبد الله بن علي يطلب بني أمية فيقتلهم، فرحلت إلى مصر فدخلتها في هيئة رثة، فزرت الليث، فلما خرجت من منزله تبعني خادم له في دهليزه، وقال: اجلس حتى أخرج اليك، فجلست، فلما خرج وأنا وحدي، دفع إليّ صرة فيها مائة دينار، وقال: يقول لك مولاي أصلح بهذه النفقة أمرك، ولم شعثك، وكان معي في حُجزتي ألف دينار، فقلت للخادم: أدخلني على الشيخ فإني في غنى عن هذه المائة، فاستأذن لي عليه، فأخبرته بنسبي، واعتذرت إليه عن رد المائة، أخبرته بما معي، فقال: هذه صلة وليست بصدقة، فقلت: أكره أن أعود نفسي هذه العادة، وأنا في غنى، قال: أدفعها إلى بع أصحاب الحديث ممن تراه مستحقا

فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها في جماعة

وفاته

ص: 37

توفي الليث يوم الجمعة 14 شعبان سنة 175

قال خالد بن عبد السلام الصدفي: جالست الليث بن سعد، وشهدت جنازته مع أبي، فما رأيت جنازة قط بعدها أعظم منها، ولا أكثر من أهلها، ورأيت الناس كلهم في جنازتهم عليهم الحزن، يعزى بعضهم بعضاً ويبكون، فقلت: يا أبت كأن كل واحد من هؤلاء صاحب الجنازة!

فقال: يا بني، كان عالماً كريماً، حسن العقل، كثير الأفضال، يا بني لا ترى مثله أبداً. . . .

قال بعض أصحابه: ولما دفناه سمعنا صوتاً وهو يقول:

ذهب الليث فلا ليث لكم

ومضى العلم قريباً وقُبر

فالتفتنا فلم نر أحداً

وصلى عليه موسى بن عيسى الهاشمي، ودفن في القرافة الصغرى، رضى الله تعالى عنه وبوأه من الجنة غرفاً

هذا ما بقي من هذه السيرة الجليلة، متفرقاً في شتى الكتب، ومختلف الأجزاء، وقد ضاع سائرها، كما ضاع هذا التراث العلمي الضخم، فرحمة الله على أولئك الأجداد الذين بنوا وشادوا، وألفوا وجمعوا، وعلموا وعملوا، ورزقنا التأسي بأعمالهم، والسير على سننهم. . . وألهمنا إحياء تاريخنا، ونشر ماضينا

علي الطنطاوي

ص: 38

‌16 - محاورات أفلاطون

الحوار الثالث

فيدون أو خلود الروح

ترجمة الأستاذ زكي نجيب محمود

- وإذن فلنعد الآن إلى حوارنا السابق - هل يتعرض ذلك المثال، أو الجوهر، الذي نعرفه في سياق الكلام، بأنه كنه الوجود الحقيقي - سواء في ذلك كنه المساواة، أو الجمال، أو أي شيءٍ آخر - أقول هل تتعرض هذه الجواهر، على مر الزمن، إلى شيء من التغير؟ أم كلاً منها يبقي هو ما هو دائماً، له نفس ما له من صور توجد بنفسها، لا تتغبر، ولا تقبل التحول بتاتاً، كيفما كان، أو في أي وقت كان؟

فأجاب سيبيس - إنها لابد أن تكون دائماً كما هي يا سقراط،

- وماذا أنت قائل في تعدد الجميل - سواء أكان أناساً، أم لباساً، أم جياداً، أم أي شيء آخر يمكن أن يسمى متساوياً أو جميلاً - أهي كلها لا تخضع للتغير، وتبقى كما هي دائماً، أم أنها نقيض ذلك تماماً؟ أليس الأولى أن توصف بأنها متغيرة في الأغلب، وأنها لا تكاد تبقى أبداً كما هي، سواء مع أنفسها، أو بعضها مع بعض؟

فأجاب سيبيس: إنها الأخيرة. إنها دائماً في حالة من التغير

- وأنت تستطيع أن تلمسها، وأن تراها، وان تدركها بالحواس، فأما الأشياء الثابتة، فلا يمكنك إدراكها إلا بالعقل - إنها تخفي على الأبصار فلا تُرى

فقال هذا جد صحيح

فأضاف - حسناً، لنفرض إذن أن ثمت ضربين من الوجود: وجوداً مرئياً، ووجوداً خفياً

- لنفرضهما

والمرئي هو المتغير، والخفي هو الثابت

- يمكن فرض ذلك أيضاً

- أليس الجسد، فضلاً عن ذلك، جزءاً منا، وما يبقى هو الروح؟

- ليس في ذلك شك

ص: 39

- تُرى إلى أي نوع من هذين يكون الجسد والجلد أشبه؟

- ظاهر أنهما أشبه بالمرئي: إن أحداً لا يشك في ذلك

- وهل الروح مرئية أم خفية؟

- لم يرها إنسان يا سقراط

- وهل نقصد (بالمرئي) و (الخفي) ما تراه عين الإنسان وما لا تراه؟

- نعم، بالنسبة إلى عين الإنسان

- وماذا تقول عن الروح؟ أهي مرئية أم خفية؟

- إنها لا تُرى

- هي خفية إذن؟

- نعم

وإذن فالروح أشبه بالخفي، والجسد أشبه بالمرئي؟

- إن ذلك مؤكد جداً يا سقراط

- ألم نكن نزعم منذ عهد بعيد، أن الروح حين تتخذ من الجسد أداة للإدراك، أعني حين تستخدم حاسة الأبصار، وحاسة السمع، أو غيرهما من الحواس (لأن معنى الإدراك خلال الجسد، هو الإدراك بواسطة الحواس) - ألم نكن نزعم أن الجسد بذلك يجر الروح أيضا إلى منطقة المتغير، وأنها تضل وترتبك؟ فان الدنيا عندئذ تضرب حولها نسيجاً، فتكون الروح عند خضوعها لتأثير الحواس كمن أئملته الخمر؟

- جد صحيح

- ولكنها إذا ما ثابت إلى نفسها، فأنها تفكر، وبعدئذ تدخل عالم النقاء، والأبدية، والخلود، والثبات. فهؤلاء عشيرتها وهي تعيش معها أبداً، إذا ما خلت إلى نفسها دون أن يعطلها معطل، أو يحول دونها حائل، وعندئذ لا تعود تسلك سبلها الخاطئة؛ فأنها إذا خالطت ما هو ثابت، كانت هي كذلك ثابتة، وتسمى هذه الحالة التي تكون فيها الروح بالحكمة

أجاب: هذا صحيح، فحق ما قلت يا سقراط

- وبأي نوع ترى الروح أشد شبهاً وقربى؟ آستنتاجاً من هذا التدليل ومن سابقه؟

- أني أظن يا سقراط أن كل من يتتبع هذا التدليل، يعتقد أن الروح ستكون قريبة الشبه

ص: 40

بالثابت قرباً لا نهاية له - ولن ينكر هذا حتى أشد الناس غباء

- والجسم أقرب شبهاً بالمتغير؟

- نعم

- انظر بعد ذلك إلى الأمر مرة أخرى مستضيئاً بهذا: حينما تتحد الروح مع الجسد، تأمر الطبيعةُ الروح أن تحكم وأن تسيطر، والجسدَ أن يطيع وأن يعمل، فأي هذين العملين أدنى إلى الإلهي؟ وأيهما أقرب إلى الفاني؟ أليس يبدو لك الإلهي أنه ما يأمر وما يحكم بطبيعته، وأن الفاني هو الخادم الخاضع؟

- حقاً

- وأيهما تشبه الروح؟

إن الروح تشبه الإلهي، أما الجسد فيشبه الفاني - ليس إلى الشك في ذلك سبيل يا سقراط

- إذن فانظر يا سيبيس أليست هذه هي خلاصة الأمر كله؟ إن الروح على أشد ما يكون الشبه بالإلهي، وبالخالد، وبالمعقول، وبذي الصورة الواحدة، وبغير المتحلل، وبغير المتحول، وإن الجسد على أشد ما يكون الشبه بالإنساني، وبالفاني وبغير المعقول، وبذي الصور المتعددة، وبالمتحلل، وبالمتحول؟ هل من سبيل إلى إنكار ذلك، أي عزيزي سيبيس؟

لا ولا ريب

- ولكن إن صح هذا، أفلا يكون الجسد عرضة للتحلل السريع؟ ألا تكون الروح غير قابلة للتحلل، في أغلب الحالات، بل فيها جميعاً؟

- يقيناً

- وهل تلاحظ فوق هذا، أن الجسد بعد موت الأنسان، لا يتحلل أو يتفكك دفعة واحدة، بل قد يبقى أمداً طويلاً إذا كان قوى البنية عند الموت، ووقع الموت في فصل ملائم من فصول السنة، مع أن الجسد هو الجزء المرئي من الإنسان، وله مادة تراها العين، تسمى جثة، ستنتهي بطبيعتها إلى التحلل، فتتفرق أجزاؤها وتتبدد؟ لأن تقلص الجسد وتحنيطه، كما جرت بذلك العادة في مصر، يعملان في أغلب الأحيان على حفظه أبداً لا يبيد، وحتى إذا أصابه الفساد، فان بعض أجزائه تظل باقية، كالعظام وبعض الأعصاب التي تستعصي

ص: 41

على التحلل بطبيعتها. هل تسلم بهذا؟

- نعم

- وهل يجوز لنا أن نفرض أن الروح الخفية، عند انتقالها إلى عالم الأموات الحقيقي، وهو مثلها في خفائها، ونقائها، ونبلها وأنها إذ تكون في طريقها إلى الإله الخير الحكيم، الذي توشك روحي أن تنتقل إليه، إن شاء الله، بعد حين - أقول: هل يصح الفرض أن الروح، إن كانت هذه طبيعتها وذاك أصلها، تتبدد وتفنى عند فراق الجسد، كما تقول جمهرة الناس؟ يستحيل أن يكون ذلك، أي عزيزي سمياس وسيبيس وأولى أن تكون الحقيقة أن الروح، وهي نقية، لا تجر في ذيلها عند انتقالها أية صبغة جسدية، ما دامت لم تتصل قط بالجسد اختياراً، بل إنها لتتجنبه دائماً، وما دامت قد انحصرت في نفسها (فقد كان مثل هذا التجريد موضوع دراستها في الحياة). وماذا يعني هذا إلا أن الروح قد كانت تابعة مخلصة للفلسفة، وأنها قد مرنت على كيف تموت بغير عناء؟ أفليست الفلسفة هي مرانا على الموت؟

- يقيناً

أقول إن تلك الروح في خفائها، تنتقل إلى العالم الخفي - إلى الإلهي، والخالد، والعاقل، فإذا ما بلغته، رفلت في نعيم، وتخلصت من أوزار الناس، وحمقهم، ومن مخاوفهم وعواطفهم الحوشية، ومن النقائص البشرية جميعاً، ورافقت الآلهة إلى الأبد، كما يروي عن العالمين بالسر. أليس ذلك صحيحاً يا سيبيس؟

- فقال سيبيس: نعم، وليس إلى الشك فيه من سبيل

(يتبع)

زكي نجيب محمود

ص: 42

‌14 - بين القاهرة وطوس من بغداد إلى الإسكندرية

للدكتور عبد الوهاب عزام

أقمنا ببغداد أربعة أيام، فأحدثنا العهد ببعض مشاهدها، وزرنا مرقد الملك الشهيد فيصل. رأينا في العراء على مقربة من دار البرلمان مقصورة من الخشب ترتفع عن الأرض درجات، وعلى بابها جندي شاهر السلاح. ففتح لنا الباب إلى ضريح مغطى بالورد والزهر: هذا بقية الجهاد من النفس الطماحة، هذا ميراث الخلود من العزائم المريرة، هنا صفحة من مجد الإسلام والعرب، هنا حلقة يصلها النسب والمجد والتاريخ بسيد المرسلين وخاتم النبيين. غاية تتقطع دونها الأعناق، ويعيا بمرامها كل سباق. أترى هذا المصحف على حافة الضريح؟ هذا كتاب الله يشهد للسلف بما قدم، ويدعو الخلف إلى أن يمضي قدماً على سنة الآباء وسنن المجد وهدى الإسلام. فيا بني العرب والإسلام إحذروا غضب الله، وسخط الآباء، ولعنة التاريخ، وسيروا بالراية إلى الغاية، وتبوأوا مكانكم في جبهة الخطوب وصدر الأجيال

فإنا أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر قرأنا صحائف المجد والعبر. ثم قرأنا الفاتحة وخرجنا نقول: رحم الله فيصلاً!

وفي اليوم الثاني شرُفنا بين يدي جلالة الملك الشاب غازي بن فيصل! اقتربنا من الحجرة الملكية فرأينا جلالته وافقاً، فلما ولجنا الباب تقدم إلينافحيانا تحية العربي الكريم ضيفانه، وتلقانا كما يتلقى الأخ العظيم إخوانه. وجلسنا فسألنا كيف صحة جلالة مصر، وسألنا عما رأينا في سفرنا وما لقينا في حلنا وترحالنا، وكيف رأينا تقدم العراق بعد زورتنا الأولى، ثم تحدث أحاديث ملؤها الأمل والطموح في مستقبل العراق والعرب والإسلام. قلنا وإنا لندعو الله أن ييسر للملك الهاشمي العظيم السير على سنن آبائه، ويرعاه قرة عين للعرب والمسلمين. ثم خرجنا فرحين مغتبطين، فقلنا قد رأبنا في فيصل صفحات من مجد الأمس! وهذه صفحات من مجد الغد

نبنى كما كانت أوائلنا

تبني ونفعل مثل ما فعلوا

فصدق اللهم آمالنا، ومهد لنا طريقنا، ويسر لنا غايتنا. وزرنا مسجد الإمام أبي حنيفة والمدرسة الأعظمية ودار الكتب. وزرنا في الفندق كثير من إخواننا البغداديين، وتنافسوا

ص: 43

في دعوتنا إلى ضيافتهم، ولكن ضاق الوقت عن إجابة الدعوات، إلا دعوتين سبقتا قبل سفرنا إلى طهران من الأستاذ الفاضل أبي خلدون ساطع بك الحصري مدير كلية الحقوق، والأديب الهمام رفائيل بطي مدير جريدة البلاد، فذهبنا إلى حفلتين نعمنا فيهما بلقاء جمع من زعماء العراق وعلمائه وأدبائه، وسعدنا بأحاديث في الأخوة والمودة، والسياسة والعلم والأدب

وفي اليوم الأخير كانت حفلة الوداع في دار المفوضية المصرية، إذ دعا الأستاذ حافظ بك عامر القائم بأعمال المفوضية جمعاً من أعيان بغداد، ومن المستشرقين الذين رافقونا في حفلات الفردوسي، وسفير إيران ببغداد وغيرهم إلى مأدبة شاي، ولم تكن هذه أول حفاوة حافظ بك والأخ حسين أفندي منصور سكرتير المفوضية

وبرحنا بغداد بكرة يوم الاثنين في سيارة جديدة من سيارات شركة (نيرن) ذات عشر عجلات طولها 25 متراً، وهي نمط جديد مركب من جزأين: القاطرة والعربة. وقد أريد بفصل المقدم من سائر العربة إضعاف الارتجاج، فالسيارة تسير رهواُ في الطريق غير المعبدة. وقفنا قليلاً في الرمادي، فرأينا سيارة كبيرة تقل نفراً من الإنكليز، فيهم أطفال ونساء، وقد كتب عليها ما يدل على أنها سائرة من الهند إلى لندرة، سألت بعضهم متى فصلتم من الهند؟ قال: منذ شهر. قلت: ومتى تبلغون لندرة؟ قال: بعد شهر ونصف، لأننا سنلبث في القسطنطينية وبعض البلاد. فهانت علينا الشقة بين طوس والقاهرة، وأكبرنا هذه العزائم السيارة

بعيد مناط الهم فالغرب مشرق

إذا ما رمى عينيه والشرق مغرب

وبلغنا الرطبة بعد الغروب فلبثنا ساعتين، جلسنا في فندق هناك نستمع إلي الغناء المصري، ونأكل ما تيسر من الزاد. ثم مشينا في أطراف الصحراء، فرأينا مجرى وادي حوران الذي يسيل من حوارن إلى وادي الفرات، ولم يكن به يومئذ ماء، ورأينا هناك آبارا يستقى منها الأعراب الضاربون في تلك النواحي وقد جاء إليناأطفال الأعراب، فسألهم أحد الرفاق عن أسمائهم فلم يجيبوا، فقلت إن ابن البادية يتحرز من ذكر اسمه واسم قبيلته حتى يأنس، فلما استأنسناهم بالحديث والعطاء صرحوا بالأسماء

طلعت الشمس ونحن في أرباض دمشق، فدخلناها في نضرة الصباح، وأشعة الشمس تموج

ص: 44

على ذوائب الغوطة الفيحاء، وما دخلت دمشق قط إلا خفق قلبي لها سروراً وحباً

أوينا إلى فندق أمية يحببه إليناهذا الاسم العربي، ولبثنا به يومين، ووجدنا خدام المائدة هناك من النوبيين فرحبوا بنا وبالغوا في إكرامنا

وهنا لطيفة أضن بها على الترك: جلست أنا ورفيقي الأستاذ العبادي للإفطار، فلما قدمت إليناألوان الطعام طاف بنا طائف من الشعر، فقال الأستاذ:

وقوم في أمية نازلينا

من العسل المصفى يشربونا

فقلت:

ولو علموا مكانتهم لكانوا

بصحن بني أمية ينزلونا

قال ما صحن بني امية؟ قلت صحن الجامع الأموي. قال إن النزول به شرف. قلت هذا أردت. والله أعلم بذات الصدور

بادرنا بعد أن استرحنا إلى زيارة أستاذنا العلامة محمد كرد علي بك كما فعلنا حينما وردنا المدينة في طريقنا إلى طهران، ومن فاته مجلس الأستاذ كرد علي في داره المعمورة فقد فاته خير كثير. وكنا نعمنا المرة الأولى بليلة غوطية قمراء سمرنا بها مع الأستاذ والأمير مصطفى الشهابي والأستاذ خليل مردوم وهم كما قال الحريري

(في رفقة غذوا بلبان البيان، وسحبوا على سحبان ذيل النسيان، ما فيهم إلا من يحفظ عنه ولا يتحفظ منه، ويميل الرفيق إليه ولا يميل عنه)

ويوم الأربعاء زرنا الجامعة السورية، فإذا كلية الآداب قد ألغيت. ولقينا الأستاذ مدير الجامعة، فطاف بنا في حجرات الكيمياء والطب، ثم دعانا إلى غرفته فتحدثنا في الاصطلاحات العلمية وتوحيدها في البلاد العربية، ثم خرجنا شاكرين. وذهبنا إلى المتحف العربي لنرى الأمير جعفر الجزائري فإذا المتحف مغلق، وإذا المكتبة التي أمامه مغلقة

وهنا أقول إن دار المتحف العربي هي دار المدرسة العادلية لا دار الحديث الأشرفية، كما ذكرت خطأ في حديثي عن الشيخ الخالدي، وأنا أعترف بأن الغلط كان مني لا من الشيخ، وأنه نبهني إليه حينما قرأ المقال وهو بمصر. (وهذا لا يٌقل من شكري للأديب برهان الدين محمد الداغستاني الذي نبه إلى هذا الغلط في مقال بمجلة الرسالة)

وفي المساء ذهبنا إلى الصالحية فزرنا قبر الشيخ عبد الغني النابلسي ولم نكن زرناه،

ص: 45

فوقفت بنا السيارة على حارة هناك فترجلنا ومشينا بجانب بناء قديم مهجور فقيل: هذه المدرسة العمرية التي بناها أبو عمر بن قدامة. وفي هذا الحي مدارس كثيرة كانت مباءة العلم والعلماء في العصور الخالية. وتقدمنا قليلاً ثم ملنا ذات اليسار، فهبطنا مسجداً صغيراً مشرفاً على دمشق. ثم ولجنا باباً إلى اليمين فإذا مصلى واسع، فلما اتجهنا شطر القبلة رأينا في الجدار الذي إلى اليسار مقصورتين عليهما شبابي الحديد إحداهما مرقد الشيخ الصوفي العالم المتفنن عبد الغني النابلسي، والأخرى قبر أحد أبنائه فيما أذكر

وقد رأيت على باب المصلى الذي فيه الضريح هذين البيتين:

زان سورية الوزير نظيف

بنظام يفوق عقداً نظيما

لمقام الولي عبد الغني مذ

شاد أرخت (نال أجراً عظيما)

ومعنى ذلك أن والي سورية نظيف باشا عمر هذا المكان سنة 1306 ثم ذهبنا إلى دار العالم الفاضل الأمير مصطفى الشهابي إجابة لدعوته، وهي في أعلى الصالحية تشرف على دمشق كلها.

فتعشينا وسمرنا مع جماعة من الفضلاء، ثم هبطنا بعد هدأة من الليل فمشينا إلى الفندق، وسار معنا الأخوان مودعين فختمت إقامتنا بدمشق على أحسن ذكرى

وأصبحنا نتأهب للمسير إلى بيروت فبلغناها ظهراً. وذهبنا إلى دار القنصلية المصرية فلقينا حضرة القنصل صادق بك أبو خضرة فأبى إلا أن يدعونا للغداء، ثم ودعناه بعد الغداء شاكرين فسرنا في أرجاء المدينة، فلما أرست الباخرة الرومانية (شارل الأول) وضعنا أمتعتنا بها ثم نزلنا فجلنا جولة في المدينة ورجعنا إليها والساعة إحدى عشرة، وفي منتصف الليل سارت الباخرة، فلما أصبحنا بها رأينا أسباط بني إسرائيل مزدحمين في أرجائها، وقد راجت سوق الملابس بينهم، هذا يعرض وهذا يساوم، وهذا يشتري وهذا يأبى. فقلنا لله در القوم!

وقفت الباخرة على حيفا صبحاً، وقد صارت حيفا ميناء كبيراً منذ العام الماضي، فنزلنا إلى المدينة صعدنا في جبل الكرمل وهو جبل عال مزدان بالدور والأشجار مشرف على البحر. ومررنا بقبر الباب صاحب الدعوة البابية، وقبر عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين السابق. وهما في بناء جميل تحيط به حديقة منضدة ينحدر الجبل عنها طبقة بعد

ص: 46

أخرى حتى يفضي إلى شارع واسع يستقيم من سفح الجبل إلى البحر

وسارت السفينة بالعشي فما زالت في بحر وهو حتى أقبلت على الإسكندرية المحبوبة قبيل الظهر يوم السبت ثالث نوفمبر. خفقت قلوبنا فرحاً بالأوبة إلى الوطن، وقذيت عيوننا بالمرائي الأجنبية المتزاحمة في الثغر، وزادها قذى منظر زورق الشرطة تعلوه راية كتب عليها من الجانبين كأن البلد لا يعرف اللغة العربية! وبينما تكفهر حولنا هذه المناظر المخزية وقع بصري على كلمة (زمزم) الكلمة العربية الوحيدة في مثلت الأسماء المحيطة بنا، وهذه زمزم إحدى بواخر بنك مصر! هذا كوكب يلوح في هذا الظلام الدامس! هذا برق من الرجاء يشق هذا الليل اليائس! هذه فاتحة المستقبل الوضاء! فاصبري أيتها النفس فان مع العسر يسرا

خاتمة

لم يتيسر لنا المقام في إيران حتى نعرف من أحوالها ودخائلها وسير العلم والأدب بها، وحتى نستقصي آثارها ومشاهدها، وإنما هو السفر العجلان الذي لا يقف ببلد إلا ليسير عنه. فهذه المقالات جهد النظرة العاجلة، ومبلغ الأيام القليلة التي قضيناها طائرين من مدينة إلى أخرى، ومقدار ما وعت الذاكرة دون الاستعانة بالمذكرات، وهو كما رأى القارئ كلام قريب الغور، قليل الجدوى، ولكنه لا يخلو من فائدة

وبعد، فقد سرا من القاهرة إلى طوس فما أحسسنا إنا اغتربنا، بل رأينا أنفسنا بين وجوه معروفة، سنن مألوفة، وتاريخ معلوم، وفي مشاهد حدثتنا عنها كتبنا، وعهدها تاريخنا ونشأ فيها علماؤنا، فالعالم الاسلامي، على اختلاف الأمم، أمة واحدة ألفتها مئات السنين على معنى واحد، وأسلوب واحد، وأورثها التاريخ حضارة واحدة، وآداباً متقاربة، وهذا ذخر لعمر الحق جدير أن يصان على رغم الزمان، وائتلاف ينبغي أن يجنب الاختلاف، وتقارب هو أسعد ما تحظى به الأمم في هذه العصور القلقة المضطربة. فقل للذين يريدون أن يقطعوا الأوصال بما يثيرون من الجدال، وقل للذين يحقرون ماضينا، ويزدرون تاريخنا، ويحاولون أن يهدموا كل قديم ليشيدوا كل حديث، وقل للذين يصدون عن المشرق ليولوا وجوههم شطر المغرب: ألا ساء ما تعملون! لقد أعماكم التقليد عن الحق، وذهب بكم الضلال أبعد مذهب. فان تماديتم في الغواية فستندمون حين لا ينفع الندم والسلام

ص: 47

عبد الوهاب عزام

ص: 48

‌الله

لشاعر الشباب السوري أنور العطار

أنا في كوني الصغير صلاة

وسعت كونك العظيم المجود

يا إلهي قلبي الرفيقُ تنهدْ

مُذْ صَداكَ الحبيبُ فيه ترددْ

يا إلهي طيفُ العفاءِ يُناجي

كَ، ونجواه أنةٌ تتصعدْ

غاب لما دعاك عن وَهْدةِ الإث

م وعن طينةٍ مِنَ الإثم أوْهَدْ

يا إلهي أنا الفَنَاء أنادي

ك، وأنت البقاء تُرجي وتُقصد

ضِعتُ عني لما دعوتكَ في الس

ر وظلتْ رُوحي المشوقة تُرعد

أي ألطافِكَ العِذَابِ تجلى

أي آلائكَ العظام تعددْ

حفل القلب بالتُقي فتصفى

وجلاه الهدَى فصلى وَوَحدْ

وَلهِي بهجةٌ وحبي لحنٌ

وابتهالي الغالي نشيدٌ مُقصَّدْ

فنيتْ مُهجتي بحبك يارب (م)

وغلغلت في الفناء لأشهدْ

أجد الفرحة العظيمة في الذ

ل لربي، وفي انكساري سؤددْ

شفني الحبُ فاستحلت نداءً

ومن الحب أن تذوب وتسْهدْ

وأنا العبدُ هام وجداً بموْلا

هُ، وإن أفْنَ في المحبة أوجَدْ

يا إلهي روحي تولَّهُ حيري

لا تعي أمهرها وثَغريَ يحَمد

طَيْ جفني عالمٌ لك حُلوٌ

وبنفسي قصيدةٌ لكَ تُنشدْ

أترعَتْها ملائكُ الحبِّ بالسح

ر فغنَّى بها الوجودُ وغرَّد

ما جفت مُقلتاي هذا الكرى الها

نيء كفراً إلا ووجُهك أسْعد

أنا في هيكلي اللَّهيف دعاءُ - فاض من سرِّك اللطيف المُمجَّد

ساهد الجفن خاشع القلب باكٍ

ذاهل الروح مستهامُ مشرد

أرقبُ الفجرَ في غلائله البِيت

ضِ وقد شف عن غُبار مُبدد

جدولٌ رائعٌ يرفُ من النُّو

ر وأمواهُةٌ تكاد توَرَّد

غرقٌ يغمر القلوبَ ابتهالاً

وسناً يملأ النواظرَ عَسْجَد

وأطلتْ ذُكاءُ في الموكب السَّا

حر دُنيا من الرُّؤى تتوقَّدْ

ص: 49

أنا آمنت يا إلهي بنُعما

ك يقيناً وما خُلقتُ لأجْحَدْ

رُبَّ طاوٍ على الضَّغينةِ صدراً

عاش في زحمةِ البِلى يَتَمرَّد

نسى الخالقَ اللطيف وجدْوا

هُ وعافَ التُقى وتاهَ وعرْبَد

لا يُبالي أنامَ في حُفر الدي

دان أم بالدُّجى الرهيب توسَّد

يَوْمُهُ آثمٌ وأمسِ مُجونٌ

والغدُ المُحتملُ حلمٌ منضَّد

لا يحسُ الحياةَ إلا ضلالاً

من يجدها هدىً يُذمُّ ويُنقَد

والإلهُ الرحيمُ يُوسعهُ الخي

رَ فلا يَرعِوى ولا هو يَرْشد

يا إلهي جَداك غمرٌ وإحسا

نُكَ فيضٌ على المدى ليس يَنَفذ

تنطوي الأرض في غياهِبها السُّح

م وينهار كلُّ برجٍ مشّيد

ويُدوِّي الوجودُ بالعاب والُهو

نِ وينسى أخُو الهَوى من تودَّدْ

يمَّحي الرِّفقُ من قلوب المحبيِّ

ن ولا يرحُم السعيد المُنكَّد

وتموجُ الأكوان بالبُغضِ والشَّ

رِّ وتغلى فيها نفوسُ توَعَّد

وًندَاكَ العميمُ ينهلْ سكَّا

باً وآلاؤهُ تظلُّ تجدَّدْ

عزَّت البيدُ، إنَّها موطنُ البأْ

س ومجْلى عيشِ النَّعيمِ المُمَّهدْ

تتثنَّى بكلِّ أروعَ سباَّ - قٍ وتُزهى بكلِّ أبلجَ أصْيَدْ

وُلدَ الحُبُّ في رُباها نقياً

وعلى ساحِها العلاءُ توَطَّدْ

يا إلهي حلَّيتَ بالنُّور مَغْنا

ها وأطلعْت من حِماها مُحمد

أعشَب القفرُ حينَ لاحَ مُحيّا - هُ وسالَ النُّضارُ منْ كل فدْفدْ

واستنارَتْ بهِ القوافلُ في اللَّيل وغنَّى الدليلُ أنساً وزغردْ

وسرَت نفحةُ النبيِّ من الصَّح

راءِ أندى من الرَّبيع وأجوَدْ

طفح القَفْرُ بالشَّذا وانتشى الكوْنُ

فلم يبقَ خافقٌ لم يُهدهدْ

يا نبيِّ الهدَى سبيلُك رشدٌ

بيِّنٌ نهجهُ وشَرْعُكَ سَرْمدْ

عمَّتِ الأرضَ والسمواتِ نُعما

كَ فيافوْزَ من جني وتزَوَّدْ

لستُ أنسى صحابةً لك غرَّا (م)

نا زهاَ الحقُّ بإسْمهمْ وتأيَّدْ

علّموا الناسَ كيف تُفْتَتَحُ الأر

ضُ وينقادُ للكريمِ المُسوَّدْ

ص: 50

ملأُوا الكوْنَ رحمةً وسلاماً

وسماحاً صفا وحُبًّا تجرَّد

فإذا العيشُ من شذا الزَّهر أزْكي

نفساً عابقاً وأحلى وأرْغدْ

ومشى ديِنُكَ الحنيفُ على الغب

راءِ حتى أغارَ فيها وأنجَدْ

فرَمى بالكتائبِ الغُرِّ كِسرى

وهرقلاً وكلَّ ملكِ مُقلّد

وجرى الفتحُ زاهرَ اليُمنِ وَضَّا

ءً كما رفَّ في السمواتِ فرْقدْ

قبسٌ من هدايةِ الحقِّ ضافٍ

ويدُ من رعايةِ اللهِ تمتدْ

وازدهي الكونُ فرحةً وحبُوراً

حين طافتْ به رسالةُ أحمدْ

يا إلهي عَنا لوَجهِكَ وَجهي

وفؤادي منْ طول حمدِكَ معبَدْ

أنا في كوْني الصغيِرِ صلاةُ

وسِعتْ كونكَ العظيم المُجوَّدْ

دمشق

أنور العطار

ص: 51

‌عصبة الأمم بين الحبشة وإيطاليا

للأستاذ محمود غنيم

ويحي على محكمة السلامِ

محكمة لكن بلا أحكام

للهو لا للنقض والإبرام

سابحة في عالم الأحلام

والسيف يبري الهام كالأقلام

ألم تر العصبة في المنام

تحرش الذئاب بالأغنام؟

(روما) تهز صفحة الحسام

وشفتا (جنيف) في ابتسام!

إن رضى القاضي عن الإجرام

فإنه أولى بالاتهام

ويل لحامٍ من أخيه سام!

يا سودُ ما أنتم من الأنام

يا جيرة الهضاب والآكام

وساكني الذِّروة من شمام

لا فَصْل إلا بالحديد الدامي

فالحق في أسنَّة السهام

لستم تنالون بالاحتكام

ما ناله (منليك) بالصمصام

هم يخدعون الناس بالأوهام

متى استطاعوا الفصل في خصام

أيوم فتك الترك بالأروام

أم يوم رُوُعت بلاد الشام

أم يوم ديس الصين بالأقدام

وهددت (طوكيو) بالانقسام

فآثروا الصمت على الكلام!

ما للضعيف في الورى من حام

لولا نُيوب الأسد الضرغام

لكان من فصيلة النعام

ولاستبيحت حرمة الآجام

كوم حماده

محمود غنيم

ص: 52

‌الضحية

للأستاذ محمد خورشيد

يا زمان الأسى طرحتُ سلاحي

لم تعدْ بي بقيةٌ للكفاح

صرعتني الهمومُ حتى كأني

لم أدع في دنانها إثرَ راحِ

كلما رُضتها انبرت لي همومٌ

صلبةُ العود غاية في الجماح

أخدعً الناس بالبشاشة والخفاق

في الجنب ممعنٌ في النواح

حُلكةُ النفس لم ترِمْني ولما

يطلق الحظُ من حماها سراحي

فمسائي هذي الحياةُ وما في

ظُلمةِ الرمسِ غيرُ نور صباحي

سئمت روحي الإسارَ فودتْ

لو غدتْ حرةً مع الأرواح

ما أراها غداة يدركني الأض

حى سوى مستريحةٍ كالأضاحي

فيطيب النسيم منها أريجاً

مثلما طاب بالشذا الفوّاح

وتُطيفُ ابتسامتي بثغور الزَّ

هر الغضِّ وردِه والأقاحي

ويُغنى الهزارَ شعري شجياً

فاسمعوا في الربيع منه صُداحي

لم يَعدْ لي غير الشَّغاف ضمادٌ

منذ أعيا الأُساةَ لَمُّ جراحي

ما عسى يصنع الطبيبُ إذا ما

عاد صبًّا مثلي مَهيض الجناح

هالهُ أن رأى شبابي يذوي

فتولَّى متمتما غير صاح

في غدٍ تُغمضُ الذُّبالةُ جفني

ها ويسري الظلامُ في المصباح

القدس

محمد خورشيد

ص: 53

‌منظر لا متاع

للأستاذ فخري أبو السعود

لا تبتغِ الدنيا متاعاً يُشترى

بل فاْبغها ما عِشتَ فيها منظرا

وابغِ الجمالَ بها إذا ما رُمته

شكلاً بها للناظرين مصوَّرا

لا تُلفينَّك إن عَدَتْك لبانةٌ

منها على آثارها متحسرا

أنت المصيبُ لُبابها وخِيارها

ما دمتَ فيها المبصِر المتبصِّرا

والمجد كلُّ المجد فيما نلته

متفكراً لا جامعاُ متكثِّرا

إني أرى حُسنَ الطبيعة دائماً

في كل يومٍ زائداً متكررا

ورأيت ما ملكتْ يمينٌ عالةً

للمالك العاني وعبثاً موقرا

الكون مسرىً للعيون ومسرحٌ

لفؤاد مَن راد الحياة مفكرا

أطلقْ به ما عشت فكرك رائداً

تملكْه طُرًّا زاهداً متطهِّرا

واكْفُف يمينك عن أُمور تُقتَنى

فيه وأرْسِل فيه باصرةً تَرى

وأقِمْ به حُرًّا وأطلِقْ ما به

يجري على سَنن الحياةِ مُحرَّرا

واقنع بتبرٍ من ذُكاَء إذا جَرى

متحدِّراً في مائه متكسِّرا

عن كل تبرٍ مالكٍ أربابهُ

لما غدَا في حرزِهم متحجِّرا

حُسنُ الطبيعة خيرُ ما مُتِّعْتُه

في عالمٍ لمْ أته متخيِّرا

وأجلُّ أجر في الخلودِ لمؤمنٍ

يَبني بتقواهُ النعيم الأنضرا

الإسكندرية

فخري أبو السعود

ص: 54

‌فصول ملخصة من الفلسفة الألمانية

8 -

تطور الحركة الفلسفية في ألمانيا

للأستاذ خليل هنداوي

آثرنا ترجمة بعض مقاطع لشوبنهاور ونيتشه، لأن أسلوبهما الفلسفي تغلب عليه الصبغة الأدبية والشعرية في كثير من خطراتهما ونظراتهما

(خ. هـ)

صفحة من آثار شوبنهاور

(كيف تنعكس صورة العالم الخارجي في عقولنا)

مقطوعة صغيرة وضعها الفيلسوف على لسان جني يميط لنا اللثام عن سر الأشياء

أمامي شيئان، شيئان ثقيلان منتظمان، ما أجمل النظر إليهما! أحدهما إناء من حجر ثمين مُحلى بعروتين من ذهب، والآخر جسد تام الخلق والمفاصل، هو جسد إنسان، فبعد أن تأملت ظاهرهما كثيراً استأذنت من الجني أن يسمح لي بتأمل باطنهما، فأذن لي فدخلت في الإناء، فلا أدري أية ميول قائمة تتمشى في أجزائه تحت اسم الالتحام والالتئام

أما الشيء الثاني ويا للغرابة! أني لي أن أحدث بما رأيت، فأساطير الجن يمسي كل ما فيها أخاً للحقيقة، ففي ذروته العليا ألفيتُ ما يُدعى (رأساً) مظهره الخارجي كمثل كل مظهر، وهو كغيره من الأشياء يسبح في الفضاء ثقيلاً. ماذا وجدت؟ وجدت الكون نفسه مع سعة الفضاء. وجدته يحتوي على كل شيء، فيه سعة الزمان، وفيه يتحرك كل شيء، وخلتُني مع هذا التحول العجيب للأشياء في الزمان والفضاء، إنني في ذهاب وإياب!. . .

- 2 -

مقطوعة من كتابه (العالم هو إرادة وتمثيل)

قد لا يدخل في دائرة الصدق قولنا: إن الحياة ظاهرها وباطنها صماء مظلمة، هكذا تجري حياة أكثر الناس، طافحة بالقلق والميول النافرة، تمشى في صدر الإنسان حائرة مترجرجة، وصاحبها مستسلم للأحلام بين جدرانها الأربعة حتى يقضي نحبه، ما أشبه الناس بالساعات التي رُبطت آلاتها فمشت لا تعلم سبب مشيتها وغابة دورتها، وفي كل مرة يولد إنسان

ص: 55

تدور الساعة لتعيد - كرة ثانية وثالثة - دورها القديم، مرددة نفس الجملة وذات المقطع بتبدل قليل لا يكاد يُحس

كل وجه بشري، وكل حياة بشرية حلم فانٍ مستمد من روح الطبيعة التي لا نهاية لها، ومن إرادة الحياة العتيدة الثابتة ، هي كالثورة أو الخيالة تمر سريعاً، لا ترسمها الحياة على الشاطئاللانهائي للزمان والفضاء، ولكن تتركها لحظة أو لحظتين تنعم بهذه الإقامة القصيرة، ثم تمحو رسومها، وتذهب بألوانها، مفسحة لغيرها مكانها؛ هذا هو الجانب الذي يبعث على التفكر والتأمل. . . يجب على إرداة الحياة القاسية أن تكافئ كل صورة من هذه الصور الصافية وكل أمنية من هذه الأماني الذاوية، جزاء ما تحملته من آلام عميقة وأوجاع مضنية، وذعر متكرر من الموت الذي تفر النفوس منه إليه

إن ما يجعل النساء اكثر صبراً من الرجال على الاعتناء بشؤون أطفالنا، هو أنهن يظللن أطفالاً ضيقات العقول، ويلبثن - طيلة حياتهن - أطفالاً كباراً، لا هن إلى الأطفال، ولا هن إلى الرجال

لنلاحظ فتاة غانية تلعب وتمرح - سحابة نهارها - مع طفل صغير، ترقص أمامه وتغني معه، ولنتمثل أي رجل شديد القسوة على إرادته يستطيع أن يضع صنعها، ويقوم بدورها

في عصرنا هذا تقع عيوننا على كتاب يتخذون الكتابة مهنة، أما قبل هذا العصر فقد كان الكتاب من ذوي الالهام، ولم يكونوا تجاراً، فلبثوا خالدين، ولبثت مقالاتهم ومواعظهم خالدة كالدهر

ادوارد هرتمان

وجد (شوبنهاور) في (هارتمان) تلميذاً أميناً لتعاليمه، وإن اختلف مزاجهما بعض الاختلاف، فوجه (شوبنهاور) جامد عابس، نافر التقاطيع، تكاد تبرز من وجهه كل علائم التشاؤم متكلمة منتقمة، ووجه (هارتمان) هادئ تطفو عليه من التشاؤم سحابة رقيقة لا غليظة، فهو متشائم مقبول لا يضيق به الناس، ولا يضيق بالناس، ولعل تعريجه الكثير على نوادي النساء مما رقق حسه، ولطف شعوره، ومثل له الحياة العابسة تبسم له من وراء هذه الوجوه الناعمة، والثغور الباسمة

مال في بدء نشأته إلى العلوم الطبيعية، وبعد تقلب طويل دخل في مدرسة (السلاح) في

ص: 56

برلين، ثم وجد أن هذه الصناعة لم تكن لتلائم مزاجه ولا صحته فهجرها، وهو في إحدى رسالاته يقص علينا أن سبب تشاؤمه لا يرجع إلى ضعف في صحته أو اعتلال في مزاجه، بل يرى أن روحه في الحقيقة روح تفاؤل ورضا، ولكن زوجه كانت تطفو عليها سحابة من التشاؤم والكآبة الخرساء، والعناد في الرأي الذي تذهب إليه

كان (هارتمان) في الثانية والعشرين من عمره حين أخذ يكتب كتابه (فلسفة اللاشعور)

' ولبث في تصنيفه خمس سنين. ما هو هذا اللاشعور؟ إنه الإرادة عند شوبنهاور تظهر كمادة شاملة عامة، أو هي ذات فكرة (هيجل) بعد خروجها من - مصنع شوبنهاور - مُهمة مغمضة لا تُدرك. ولا يرى القارئ في هذا الكتاب مذهباً جديداً لأنه تغير للمذاهب المتقدمة، ولا بحثاً ناضجاً لأنه عصارة شباب متوقد روحاً وعاطفة. وإنما هو شعلة أضرمتها فتوة تنطوي على علم غزير، فتهوى نفسك أن تتبع آثار المؤلف في ما يعطيك ويلهمك، ولا سيما في تحدثه عن (اللاشعور) في مقامات العقل الإنساني وحالاته النفسية، وفي غرائز الحيوان، في اللغات ومسائل الدين، وفي كل حنايا التاريخ وما احتواه، حتى يأتيك بالصورة الأخيرة التي يرى فيها الإنسانية وقد بلغت نهايتها متبعة من إرادتها، ومن تفكيرها، ومن حياتها، وهي تواقة مشتاقة إلى العدم؛ حيث كانت ثم انتشلت منه بغير إرادتها. وهذه صورة فيها شيء من السمو الشعري بشرط أن يتلقاها الناظر كحلم خالص قذفت به مخيلة خالية. . .

وقد أحدث كتابه هذا دوياً بعيداً في العالم الفلسفي والعالم الأدبي، لا لأنه زاد - في ألمانيا - أنصار الفكرة التشاؤمية، بل لأن هارتمان وشوينهاور كانا أول من صرفا الذهن الألماني إلى مواجهة المسائل الفكرة بالفكر، وأعادا وصل الحلقتين اللتين قطع بينهما مذهب المثل الأعلى الذي سيطر على العقل الألماني طيلة عصر طويل

إن في كل ألماني مثقف نزعة خاصة به تتمشى في ثنايا روحه، تريد أن تتحرك وأن تنمو بذاتها؛ ترى الفرنسي يجنح إلى الفلسفة لتساعده على تفهم الحياة، وبعبارة أجلى لتعلمه كيف يعيش! الألماني - على الأغلب يرى فلسفته حلماً، ولكنه يعتقد أن يفتح عينه. . . وكل ألماني يتردد في حلمه أو يقظته - الى المدينة الكاملة - التي تحدث عنها شوبنهاور، المدينة المشيدة على ذرى الغمام، لأن الألماني واسع الحلم خصب الخيال، وهناك يُغادر

ص: 57

تصوفه الغريزي المبهم، ويؤوب من تلك المدينة إلى الحياة الحقيقية، وهو أشد حماسة وأكثر تأهباً للمعركة التي يشنها في سبيل الحياة

على أن هذا المذهب، (مذهب التشاؤم) قد لقي خصوماً ألداء ممن قارعوه الحجة بالحجة، ونازلوه نزالاً عنيفاً؛ وحق للفلسفة كلها أن تجمع أحزابها وشيعها على محاربة (مبدأ خطر) إذا فشا هدم كل أمل في البشرية، وقضي على كل جهادها الطويل. وقد انضوى (الماديون) تحت لواء المعارضة، وكان أشهرهم (أوجين دوهريك) الذي وصل إلى هذه الفكرة السامية: (بأن الحياة بمجموعها جميلة، في أفراحها وفي أتراحها، على أن نتناولها كما هي بعُجرها وبجرها، لا نحاول تغيير سنتها، ولا تبديل طبيعتها، ولا نطلب إليها أن تمنحنا مالا تقدر على منحه، لأنها سائرة إلى غايتها التي لا تبالي بغايتنا، وأن في تمردنا على نُظمها شقاءنا، وفي رضانا عن مذهبها نعيمنا

(يتبع)

خليل هنداوي

ص: 58

‌القصص

من أساطير الأغريق

أرفيوس الموسيقى أو رحلة إلى الدار الآخرة

بقلم الأستاذ ديني خشبة

أرفيوس! لسان الطبيعة، ونجيُّ الآلهة، ووحي السماء إلى جي، وصاحب القيثارة ذات الرنين. . . . والأنين

كان يعزف، فتشيع الحياة في الصخر، ويقف أبوللو العظيم في مركبته الذهبية، مًطلا برأسه من عليين، يسمع ويطرب وكذلك كانت تصنع ديانا، فلطالما كانت تنزل من مركبتها الفضية في أعلى أجواز السماء، لتلبث هنيهة بباب أرفيوس، تتزود لرحلتها الليلية المرهقة، من مشرق الدنيا إلى مغربها

والأشجار! إن لها لجذوراً متغلغلة في أطباق الأرض، ومع ذلك فقد كانت حين تسمع أرفيوس، تنزع اليه، وتسير وراءه خبباً! وكم شهد الناس حول بيته غاية من الدوح العظيم، والأيك الذاهب، سعت إليه تلتذ من موسيقاه، ثم هي تنصرف في المساء فتنغرس في أصولها، وقد ازدادت نضارة وازدهاراً!

ومع ذاك، فقد كان ذا غُرَّة مشرقة، وابتسامة حلوة ما تكاد تفارق ثغره الصغير الجميل. وكان جم الحياء؛ لم ينهر مرة أحد رواده، أو المترددين عليه؛ بل كان يلقي الجميع ببشاشة الأخوة، وهشاشة الود

وكانت له زوجة أجمل من روعة الفجر، وأفتن من وشي الأصيل، وأندى على قلبه من أنفاس الصباح

اسمها يوريديس. . . مصدر إلهامه، ومعين عبقريته، وجمال لحنه، وأغنية حبه، وأنشودة هواه. سئل مرة: ماذا تملك من الدنيا يا أرفيوس؟

فأجاب: (قيثارتي. . ويوريديس!)

وكانت يوريديس تجمع الأزهار البرية في ربرب من أترابها، لتصنع منها باقة مفوّفة تقدمها لأرفيوس، وكانت كلما راقتها سوسنة أو وقعت في نفسها زنبقة، طبعت عليها قبلة

ص: 59

ندية وضمتها إلى الباقة، وهي تقول: وأنت أيضاً لحبيبي أرفيوس. . .

وبينا هي كذلك إذا أفعى هائلة تنسل من بين الأشجار، فتلدغ قدمها الصغيرة المعبودة المطمئنة في الحشيش الأخضر؛ فتصرخ المسكينة صرخة داوية، ثم تنطرح إلى الأرض، وتتناثر الورود والرياحين التي جمعته حولها، كأنها تنضد سرير موتها

وتجتمع صديقاتها مذعورات، فتعولن وتبكين، وتحملنها إلى أرفيوس الذي يستطار من هول الكارثة، وينخلع فؤاده من فداحة المصاب، ويحاول المستحيل لإنقاذ أعز الناس عليه؛ ولكن. . هيهات! لقد ماتت، واحتلكت الدنيا في عيني أرفيوس التعس، وأجدبت قيثارته من ألحان المرح، واستروحت إلى البكاء والأنين. فيا رحمتا لمن ينصت إليها ويصغي لها! زفرات حارة تصعدها أوتارها، وأنات مؤلمة ينبثق منها الدم تنبعث من أنغامها!

وأرفيوس، مع ذلك منزوٍ عن العالم، عزوف عن الناس، مستغرق في وحدته القاسية، يفكر في يوريديس

وصم ألا يفقدها كما يفقد الناس أحباءهم. بل لابد من رحلة طويلة إلى الدار الآخرة. . إلى هيدز. . حيث إله الموتى بلوتو، فيضرع إليه أن برد عليه زوجته التي لا حياة له إلا بها

فكرة غريبة، وتصميم عجيب؛ رجل من دار الفناء، له جسم، وفيه نفس تتردد من أخمصيه إلى ذؤابة رأسه، كيف ينفذ إلى دار الموتى وعالم الأرواح، ومملكة الظلال والأشباح؟!

لكنه أمل ملأ قلبه على كل حال، وهاهو ذا يحمل قيثارته، ويبدأ رحلته ولا يدري إلى أين؟

ضرب في الآفاق على غير هدى، وذرع الأرجاء في ضلال وحيرة، حتى رثت له الآلهة، فرشدته، وأنارت له سبيله؛ فاهتدى إلى ضفاف ستيكس ذي الزبد، حيث وقف شارون النوتي الجبار، الذي يحمل أرواح الموتى في زورقة، يعبر بها أنهار الجحيم للقاء بلوتو العظيم

وصاح شارون صيحة راجفة حينما لمح أرفيوس، وزمجر قائلاً:(يا ابن العدم، يا سليل الفناء، يا من لم تفض روحه بعد، ما جاء بك إلى هنا، وما تزال تتعثر في برد حياتك الرث، وتتكفأ في قيد دنياك الوبيلة؟ عد من حيث أتيت، وإلا فوحق بلوتو المتعال لأسحقن عظامك، ولأقذفن بك إلى ستيكس، فيطويك اليم وتشويك الحمم. . . عد. . . عد. . . عد أقول لك. . . ويْ. . ويكأنك لا تسمع!!)

ص: 60

ولكن أرفيوس يثبت غير هياب، ويتناول قيثارته غير وجل، ثم يعزف لحناُ من ألحانه الباكية فيزلزل به أركان شارون!

شارون! هذا الفظ، غليظ القلب، أقسى حراس جهنم، يذوب رقة ويمتلئ حناناً ورحمة لما رأى وسمع، فيهرول إلى أرفيوس مستميحاً معتذراً عما بدر منه من سوء اللقاء، وعبارات البذاء، ويسأله في لين ورفق عن حاجته فيجيب:(لا شيء إلا لقاء بلوتو!)

فيسأله شارون: (وكيف، وهذا بدنك لا يحتمل زفير الجحيم؟)

فيجيب أرفيوس: (لا عليك، ما دامت هذه - ويشير إلى القيثارة - بيميني)

فيقول شارون: (يا صاحبي أنت لا تعرف هول ما تريد أن تقتحم، وإني مخلص لك أمين؛ إنك غض الأهاب، موفور الشباب، وإن جهنم لا تبقى ولا تذر، وإنها أبداً ترمي بشرر كالقصر، وإني أمحضك نصحاً علمتني موسيقاك كيف أمحضك إياه، وأستنقذك به من عذاب مقيم. . . ألا فلتفكر فيما أقدمت عليه، فان من دونه مهالك، وإن من دونه نكالاً وأهوالاً. . .)

وتبسم أرفيوس بسمة حزينة، كانت رداً صامتاً على ما حذر شارون، ثم أعد قيثارته وانطلق يتغنى:

حملتُ جهنماً في بعضِ قلبي

وفي بعضٍ جراحاتٍ فنونا

فان حذرتني نارا، فإني

أحذر نارك الدمع الهتونا

سأطفئها به حتى تراها

تُذرف مثله صبباً سخيناً

تخوفني لظاك وفي فؤادي

لظي من جُننت بها جنونا

إذاً ما الحب إن لم يكتنفه

غرام لا يؤود العاشقينا؟

لقد ذُقْتُ البِلى في دار عيشي

أفي دار البِلى أخشى المنونا؟

وما يكاد يفرغ من هذه الزفرة الحارة، حتى تتحدر الدموع من عيني شارون، ويتقدم إليه معتذراً، فيحمله في الزورق، ويخوض به عباب تيكس، وما يكاد يفعل حتى يرى أرفيوس إلى تغيظ الموج وتلاطمه، فيسأل شارون عما يهيج النهر برغم سكون الريح، فيقول:(إنك، وأنت من أنت، من فوقه، سبب هياجه واصطخابه؛ ولو خُلي بينك وبينه لما أنجاك منه شيء حتى تكون في أعماقه!!) ولكن أرفيوس يبتسم ابتسامته الحزينة، ويتناول قيثارته

ص: 61

فيوقع إحدى أناته المشجية، فيهدأ ستيكس الصاخب، وتصفو صفحته بين دهشة شارون وشدة تعجبه!

وتطول الرحلة، ويعبران (أشيرون) نهر العدم؛ و (لِيث) نهر النسيان، و (كوكيتوس) نهر الآلام، و (فليجتون) نهر الحمم واللهب، ويصلان آخر الأمر إلى (هيدز) - دار الموتى - ومملكة بلوتو، بعد عقبات وأهوال تغلبت عليها جميعاً قيثارة أرفيوس، بألحانها الرقيقة، وأنغامها الباكية

وتبدأ من هذا الشاطئالأخير رحلة شاقة في ظلام دامس وحلك شديد، في مسالك ملتوية، وشعاب متداخلة، لا تجدي معها موسيقى أرفيوس فتيلا؛ وهنا يبدو له أن يقصر هذا السفر الطويل بالسؤال عن يوريديس، كيف حملها شيرون في زورقه، وكيف عبر بها في هذه الفجاج إلى المقر الأخير، وهل كانت تبكي؟ أم كانت راضية بالقضاء الذي فصلها من أحب القلوب وأقصاها عن أعز الناس؟ وهل حدثته عن الشاب أرفيوس؟ أم كانت في شغل عن كل شيء بما هي فيه؟ وهل كل روح من أرواح الموتى تستغرق كل هذا الزمن في عبور أنهار هيدز وفيافيها؟ وهل تألمت يوريديس حين كانت تعبرها؟. . .

وكان شارون يجيب عن هذه الأسئلة المتتابعة إجابة مستفيضة حتى وصلا إلى بوابة كبيرة الحجم، تصل إلى قصر بلوتو!

ولكن كلباً ضارباً بادي النواجذ بارز الأنياب كان رابضاً عندها؛ فلما لمح أرفيوس، وهو من غير الأموات، هاج وماج، وتوثب يريد البطش بهذا اللاجئ الممنوع!

وتنبه أرفيوس، فحرك أوتار القيثارة، وتغنى على أوتارها ألحانه وآلامه؛ فثاب الكلب وهدأ، وبعد أن أقعى قليلاً، تقدم إلى الضيف الحبيب يلحس قدميه، ويتمسح به. . . ويا للموسيقى!

ثم هذا عرش بلوتو؛ وإلى جانبه زوجته الربيع، برسيفون كسيرة القلب مهيضة الجناح، تعلو أساريرها عبوسة قاتمة، وتجثم على قلبها لوعة دائمة. يا لبرسيفون! ويا لهذا المنفى السحيق!

ولشد ما دهش بلوتو حين بصر بهذا المخلوق الذي استطاع أن ينفذ إلى هيدز، وفيه رمق من حياة؛ بقضه وقضيضه، وعجزه وبجره!!

ص: 62

وقبل أن ينبس بلوتو، جثا أرفيوس لدى قاعدة العرش، وطبع على الأرض قبلة كلها احترام ووقار، ثم تناول قيثارته، وطفق يتغنى بقصته المشجية، يرسلها خلال أنغامه الحزينة، وملء ألحانه اليتيمة. . . حتى أتمها

وكانت الموسيقى ممتزجة بالغناء الحلو والشعر السامي، قد تغلغلت في السويداء من قلبي الزوجين؛ وكانت الرنات، ممتزجة بالأنات؛ والهديل، ليس مثله هديل، قد أحدث أثره في نفسيهما، حتى أن دمعة مترقرقة شوهدت تنسكب على خد برسيفون!

وفي الحق، لقد هاجت قصة يوريديس شجون برسيفون، لما لحظت فيها من الوشائج بينها وبين قصة حياتها التعسة، في هذا الملك البغيض!

وانزعج بلوتو لمجرد وسواس لج في صدره، لما شاهد من تأثر زوجته، وانسكاب هذه العبرة الحزينة على خدها الشاحب؛ حتى لقد خيل إليه أن شياطين الحب قد قفزت من فم أرفيوس الخبيث، ومن موسيقاه الشاجنة، إلى قلبها الغض الصغير!

وقال بلوتو: (إنهض أيها الشاب، فوحق أورينوس لقد كدت تكون من الهالكين، لولا قصتك الباكية، وموسيقاك المبللة بالدموع. والآن، ماذا جاء بك هنا؟ وما الذي تطلب أن ينتهي إليك من إحسان بلوتو؟)

فركع أرفيوس ركعة التذلل والضراعة، ثم قال:(مولاي! يوريديس يا مولاي؟ تأمر فتعود أدراجها معي إلى الحياة الدنيا!)

فأجاب بلوتو: (طلبت المحال أيها العبد؛ ولكن بلوتو الكريم، لن يرد رجية بائس مثلك. لك ما سألت، وستعود يوريديس معك، ولكن على شريطة واحدة! ألا تراها حتى تخرج من هيدز. إنها ستتبعك، فلا تلتفت وراءك أو تغادر دار الموتى!)

وركع أرفيوس ركعة الشكر، ثم قال:(سأنفذ مشيئة مولاي.)

وأمر بلوتو فأحضرت روح يوريديس، وبدأت الرحلة إلى الدار الأولى، في ظلمات بعضها فوق بعض، والحبيبان يدلجان خبباً

وكان قلب أرفيوس يدق. . . . يدق

وإنهما ليكادان يبلغان العُدوة الأخيرة من نهر ستيكس، حتى يوجس أرفيوس خفية، ويظن - وباشر ما يظن - أن يوريديس قد ضلت سبيلها من ورائه، فينسي شرط بلوتو، ويلتفت

ص: 63

فجأة خلفه، ليرى أنها ما تنفك تتبعه. ولكن يا للهول!

لقد رأى يوريديس باسطة ذراعيها إليه، كم يتلمس طريقه في الظلام؛ وحين تراه يلتفت إليها، فيخل بالشرط الذي عاهد ربها على تنفيذه، تنثني من لدنه راجعة أدراجها إلى هيدز. . . .

متمتمة في صوت ضعيف خافت: (وداعاً يا أرفيوس)! يا حبيبي أرفيوس. . . وداعاً. . .) فيصرخ المسكين صرخة يكون معها في هذه الحياة الدنيا، حياة الشقاء والآلام!!

ويظل على شاطئستيكس سبعة أيام مفجعاً محزوناً. . .

يحاول عبثاً أن يعود إلى هيدز. . ولكن. . . هيهات!

ويدخل الدنيا محطم القلب، خفق الأحشاء، موهون القوى. . لا يطيب له عيش، ولا يسيغ لذة من لذائذها. ويتخذ مأواه في شعاف جبل تزمزم الرياح في جنباته، وتزمجر الوحوش في غيرانه، وتدوي البواشق في قننه، ويكون كل أولئك خير صحابه، ويا ما أعز الرفاق!

وتلقاه نسوة من اعتدن التخلف إليه في أيامه المواضي؛ فيحتلن عليه ليعزف لهن من ألحانه؛ ولكنه يعزف عنهم ويشيح؛ ثم يفر منهن، فيقتفين أثره؛ فيمعن في الفرار، فيتضايقن، ويصمينه بسهامهن؛ ثم يرجمنه بالحصى المسوّم؛ والحجارة الثقال؛ حتى يموت!

ويسمعنه إذ هو يجود بروحه يقول: (يوريديس. . . يوريديس!)

فتردد الأصداء نداءه الحزين: (يوريديس. . يوريديس!)

وما تزال الأشجار والأطيار تهتف إلى اليوم هتاف موسيقارها المغبون: (يوريديس. . . يوريديس!)

وانطلقت روحه البريئة تعبر بدورها ستيكس، وأشيرون، وليث، وكوكيتوس، وفليجتون. . . فيتلقاه شارون الجبار باسما هاشاً محيياً. . . ويجلسان معاً في الزروق، يقصان ذكريات الماضي. . . القريب! ويتلقاه الكلب عند البوابة، فيهرول إليه، ويتمسح به، وفاء وذكرى! ويتلقاه بلوتو كذلك، فيهنئه بالعود. . . إذا كان العود أحمد!!

أما يوريديس. . . . .!

دريني خشبة

ص: 64

‌البريد الأدبي

رسائل سفت بيف

صدرت أخيراً مجموعة من رسائل سنت بيف العامة، وهي قسم من رسائله التي لم تنشر، والتي تملأ نحو عشرة مجلدات، وتولى إصدارها مسيو جان بونرو مقرونة بمختلف الشروح والبيانات. ومسيو بونرو هو اليوم أعرف الناس بسانت بيف وتراثه الأدبي. ويكفي أن نعرف سانت بيف بكلمة، هي أنه أستاذ النقد في الأدب الفرنسي، ويعتبره بعضهم إمام النقد في جميع الآداب والعصور وتشمل هذه المجموعة الأولى رسائله العامة بين سنتي 1818 و 1835، وهو بالنسبة لسنت بيف عهد التكوين الأول منذ مقدمه إلى باريس صبياً في الخامسة عشرة حتى التحاقه بتحرير مجلة (العالمين) وتوليه باب النقد فيها. وفي هذه الفترة الحافلة درس سنت بيف الطب، وبرز في الصحافة، ونشر كتابه عن الشعر الفرنسي في القرن السادس عشر، وأنجز قسماً عظيماً من رسائله النقدية، وأخرج كتابه عن شعر يوسف ديلورم وروايته (الهيام)، ثم تطورت حياته الأدبية واستقرت حول النقد الأدبي. وفي هذا العهد أيضاً تعرف سنت بيف بأقطاب الأدب في عصره مثل دي فيني ولامرتين وهوجو وبيرانجيه وشاتو بريان، ولكن العلائق الودية لم تطل كثيراً بينه وبين أحد منهم، لأن مهمته كناقد أدبي، وتوغله في ذلك الميدان وصرامته وحدة قلمه، لم تفسح مجالاً لمثل هذه الصداقة الخاصة، وهنا تلقى رسائل سنت بيف أكبر ضوء على هذه العلائق والصداقات، وتبين لنا إلى أي حد كان النقادة الأشهر حريصاً على رأيه واستقلاله؛ بيد أنها تكشف عن ناحية أخرى من صفات سنت بيف، فهو لم يكن رقيق الطبع، ولم تكن روحه ترتفع إلى مستوى ذهنه من السمو والصقل؛ والواقع أن هذه الرسائل الخاصة ليست مما يؤيد عظمة سنت بيف، وإن كانت تفسر لنا كثيراً من خواص روحه المعقدة، ففيها يبدو لنا قليل اكرم، قليل الصراحة، مسرفاً في الحقد؛ ولعله لم يكن لينفذ إلى فكر الغير ومواهبه وأسراره إلا لأنه كان كثير الحقد والبغض ولئن كان سنت بيف بديعاً لا يجار في تصويره وتحليله للقدماء، فان أحكامه على معظم معاصريه كانت تتأثر في الغالب بعواطفه الشخصية، وليس أدل على ذلك من قسوته في الحكم على الفرد دي فيني، وبلزاك، وشاتوبريان، ولامرتين

ص: 65

ذلك أن سنت بيف كان نكد الروح، وقد كان قبيح الهيئة، وكان في حاجة لأن يحب، وكان رقيق الحاسة، معقد العواطف، ولم يلق نجاحاً في الحب ولا في المكتبة كشاعر وكاتب وقصصي، هذا بينما كانت تحيط به عبقريات سعيدة، محققة الأماني والرغبات، تغنم كتبها تأييد الجمهور. ويروي أنه قال ذات يوم إذ يشاد أمامه بعبقرية دوموسيه:(لست أقل شعرية منه). ولم يكن سنت بيف يجهل معايبه، بل كان يفطن إليها ويشقي بها، بيد أنه يجب أن نعترف بأنه كان يسمو دائماً بمثله الأعلى كناقد ومؤرخ للآداب، وأنه لم يكن يدخر وسعاً في خدمة هذا المثل بإخلاص، وهذا هو السر في عظمة تراثه الخالد

ولعل أهم ما تفصح عنه هذه الرسائل الجديدة لسنت بيف هو علاقته مع فكتور هوجو؛ وقد اتخذت تلك العلائق صورة مأساة حقيقية. والمأساة معروفة؛ ولكن الرسائل تلقي عليها ضوءاً جديداً. وخلاصته أن سنت بيف وهوجو جمعتهما منذ سنة 1827 مدى ثلاثة أعوام صداقة خالصة لم تشبها شائبة، ولكن سنت بيف تغير فجأة. ذلك أنه شعر أنه يهوى امرأة صديقه؛ وهنالك رسالة عجيبة تفصح عن حالة سنت بيف النفسية في أوائل سنة 1830، وهي رسالة عنيفة صارمة ينذر فيها سنت بيف بأنه لن يكتب عن رواية (هرناني) التي ستمثل يومئذ، (وهرناني من تأليف هوجو)، وأنه لم يعد يحتمل جو الصداقة والشاعرية الذي يعيش فيه مع أصدقائه مذ تظاهر هوجو بأنه زعيم مدرسة، وغص منزله بالمعجبين والأنصار حتى أصبح مكاناً عاماً، والظاهر أنه قد وقعت بين الصديقين على أثر ذلك محادثة اعترف فيها سنت بيف لصديقه بأنه يحب زوجه. وقد كان هوجو في تلك المسألة جواداً كريم النفس، فاستقبل هجر صديقه بأدب، مؤكداً له أنه سيلقي فيه دائماً أخاً وصديقاً. واعتكف سنت بيف مستسلماً إلى الحقد والأسف والغيرة، مصوباً سهمه لكل من لقيه في طريقه؛ وعكف هوجو على مكاتبته، يعزيه وبروح عنه؛ ومضت ثلاثة أعوام، وسنت بيف ماض في طريقه، وكلما التقى الرجلان آنسا تلك المرارة التي غشيت صداقتهما؛ وأخيراً ألقى سنت بيف قناعه، وأعلن الخصومة على صديقه، فإستسلم هوجو للقدر. ولكن الذي لم يكن يعلمه هو أن زوجته كانت تثابر خفية على رؤية سنت بيف في الأماكن المهجورة، كالكنائس وغيرها، وكانت تتنزه معه في عربة. وما يزال التاريخ يتساءل: هل كانت أديل هوجو زوجاً خائنة؟ والرأي المرجح هو أن أديل كانت تبادل سنت بيف حبه، ولا سيما منذ

ص: 66

سنة 1832، أي مذ غدا زوجها عاشقاً لجولييت درديه. وقد ضاعت رسائل أديل لسنت بيف، ولكن سنت بيف كان يحتفظ بصور بعضها؛ وفيها تتحدث أديل عن حبهما. ولقد أيد لوي بارتو في كتابه (غرام شاعر) زلة أديل ودلل عليها

وإن في رسائل هوجو مع ذلك ما يدعو حقاً إلى التأثر، فقد لبث يجهل كل شيء مدى أعوام، وتطبع رسائله إلى سنت بيف بساطة وثقة ومودة مؤثرة، فلما ظهرت الحقيقة ووقعت الفضيحة كانت شديدة على نفسه، ومع ذلك فان أديل هوجو لبثت حيناً بعد ذلك ترى سنت بيف وتحاول أن توفق بين الصديقين القديمين، وذلك شاهد في رأى البعض على براءة أديل وطهرها. أكانت تسعى إلى مثل هذا الوفاق لو كانت امرأة خؤوناً؟

(ملخصة عن أميل هريو في الطان)

للحقيقة والتاريخ

قرأت في العدد 84 من مجلة الرسالة الغراء مقالاً للكاتب العبقري الدكتور عبد الوهاب عزام سجل فيه مجلساً من مجالس العلامة الواعية الشيخ الخالدي يذكرنا بالأماني القيمة التي كان يلقيها فطاحل علماء الإسلام في عصور مدنيته الزاهرة

وقد لاحظنا في هذا المقال ملاحظتين بسيطتين أجببنا ألا يفوت قراء الرسالة التنبه إليهما

(1)

لما عدد الشيخ دور العلم العظيمة بالمغرب وذكر جامع القرويين بفاس قال: (إن الذي أسسه هو مولاي إدريس الأصغر) والحقيقة أن بناء القرويين كان بعد وفاة المولى إدريس باثنين وثلاثين سنة إذ شرع في بنائه يوم السبت من شهر رمضان عام خمسة وأربعين ومائتين، والمولى إدريس الأصغر توفي سنة ثلاث عشرة ومائتين وكان ذلك في عهد يحيى بن محمد بن إدريس والقائمة بتأسيسه هي السيدة (أم البنين) فاطمة بنت محمد بن أبي بكر الفهري قدم والدها من القيروان لفاس وتوفي بها وخلف ابنتين فاطمة هذه وأختها مريم، وأورثهما مالاً كثيراً صرفت فاطمة حظها منه في بناء القرويين، وفعلت مريم مثل ذلك فأسست مسجد الأندلس الذي يعتبر من المساجد العتيقة بفاس

(2)

ذكر الشيخ حين نسب كتاب (جذوة الاقتباس) لأبن القاضي أنه فشتالي (من فشتالة على نهر ورغة) والمعروف أن مؤلف الجذوة (ابن القاضي) من أولاد ابن أبي العافية

ص: 67

المكناسيين، نسبه لذلك جميع من ترجم له ممن وقفنا عليه، بل هو نفسه انتسب إليهم في كتابه لما ترجم لموسى بن أبي العافية أمير مكناسة بعد أن تبرأ من أفعاله مع الأشراف ونص الغرض من كلامه:(ونسبتنا نحن هي إلى هذا الرجل أعني موسى بن أبي العافية والله أعلم، لكن فعله الذي كان منه لأهل البيت لا أرضاه. . . . . الخ)

أما كتاب الشريف الكتاني فلا يسمى بالجذوة بل هو (سلولة الأنفاس فيمن أقبر بفاس) وهو للسيد محمد بن جعفر الكتاني الشهير برحلته إلى الشام وإقامته بها والمتوفى بالمغرب منذ بضع سنين

فاس

محمد علال الفاسي

مجلة الثقافة الإسلامية في إسبانيا

قالت جريدة (المانشستر غارديان) أن المستر مارماديوك بكثول اعتزل خدمة نظام حيدر أباد وفي نيته أن يعيش في إسبانيا حيث يواصل تحرير مجلة تصدر كل ثلاثة أشهر تسمى (الثقافة الإسلامية) صدرت منذ عشر سنوات

والمستر بكثول شاعر له مؤلفات كثيرة عن الشرق وكان يعمل في وزارة المعارف في حيدر أباد. وقد درس أخلاق الشعوب الشرقية فأقام عاماً في جبل الدروز وتعلم العربية. ومال إلى أفكار بعض الشرقيين ودرس عيشة الوطنيين في مصر وله فيها أعمال قام بها في مستهل هذا القرن لا تزال سراً من الأسرار

مؤتمر نادي القلم الدولي

من أنباء إسبانيا أن الاستعداد يجري في مدينة برشلونة عاصمة قطلونيا لعقد المؤتمر الثالث عشر لنادي القلم العالمي. وسيعقد هذا المؤتمر لمدة ستة أيام بين 20 و25 مايو القادم. وسيشهده مندوبون من مراكز القلم في أنحاء العالم. وقد أعد برنامج حافل للأعمال الداخلية، ومختلف الحفلات والاستقبالات والرحلات

ص: 68

‌من هنا ومن هناك

العلم والسياسة

كثر حديث الصحف البلجيكية والفرنسية أخيراً عن نظريات العلامة الاقتصادي البلجيكي هنري دي مان؛ ويعتبر هذا العلامة من أقطاب الاقتصاد السياسي في العالم، وكان إلى ما قبل عامين يتولى تدريس الاقتصاد السياسي في بعض الجامعات الألمانية، ولكنه عزل منذ قيام الحكومة الهتلرية؛ فعاد إلى وطنه يبشر بنظرية جديدة في السياسة؛ خلاصة رأي دي مان أن السياسة الدولية الحاضرة تقوم على الاقتصاد، وأن الأزمة الاقتصادية هي في الواقع أساس كل الانقلابات السياسية العنيفة التي وقعت في العهد الأخير؛ ولم يكن قيام الفاشستية في إيطاليا، وقيام الهتلرية في ألمانيا إلا من أثر الأزمة الاقتصادية؛ وليس هناك وسيلة لحماية النظم الديموقراطية ومقاومة الطغيان أفضل من ترقية الاقتصاد القومي ومقاومة الأزمات الاقتصادية. ولنظريات هنري مان أثر كبير في بلجيكا، وله نفوذ عظيم في الأوساط الاشتراكية والديموقراطية

جوكي يصبح شاعراً

أزيح الستار في وستمنستر مؤخراً بحضور الدوق أوف يورك عن النصب التذكاري الذي أقيم تخليداً لذكرى لندساي جوردن شاعر استراليا القومي

وقد أسهبت الصحف والمجلات بهذه المناسبة في الكلام عن حياة هذا الشاعر، الذي أسندت إليه أمارة الشعر في أوستراليا بعد موته وبعد حياة عجيبة حافلة بالمغامرات

ولد لندساي في سنة 1833 والتحق في شبابه بالمدرسة الحربية في (ودلريتش) وهناك عرف شارلوس غوردون الذي عرف فيما بعد باسم غوردون باشا

وأغرم لندساي بالألعاب الرياضية، وامتاز في مباريات الملاكمة والسباق وركوب الخيل، وعندما بلغ التاسعة عشرة من عمره ركب أحد جياد السباق واشترك به في إحدى المباريات على الرغم من أنف صاحب الجواد، وفاز بالجائزة الأولى، ولكن صاحب الجواد كان قد أبلغ الشرطة فألقى البوليس القبض عليه وكانت المدرسة الحربية قد ردته، وضاق أبوه به ذراعاً، فرحل إلى أوستراليا؛ ومع أنه كان مزوداً بخطاب توصية إلى حاكم أوستراليا الجنوبية إلا أنه لم يستغل هذا الخطاب، وانضم إلى فرقة البوليس الراكب؛ ولكن

ص: 69

حدث في أحد الأيام أن طلب إليه ضابطه أن ينظف حذاءه، فغضب لندساي واعتقد أنه أهين فترك خدمة البوليس واشتغل (جوكياً) واشترك في كثير من المباريات، وسقط عن ظهر جواده مراراً وأصيب برضوض أقعدته عن العمل مدة

وفي سنة 1864 توفي أبوه، فورث عنه بضعة آلاف من الجنيهات. وتزوج بابنة فندقي كانت قد عنيت به في مرضه

وفي هذه الأثناء اشتغل لندساي بقرض الشعر، ونشر ديوانه في سنة 1867، ولكن الديوان لم يلق رواجاً، ولم يبع منه أكثر من مائة نسخة، فغضب لندساي على الشعر كما غضب قبلاً على خدمة البوليس

وفي سنة 1870 كان لندساي يعاني أزمة شديدة، لأن المرض أقعده عن ركوب الجياد، وماتت ابنته الوحيدة وضاقت الدنيا في وجهه. فقصد إلى غاب قريب، وهناك أطلق الرصاص على نفسه فمات منتحراً وهو لا يزال في السابعة والثلاثين من عمره. ولم يشترك في تشيع جنازته غير بضعة أفراد

ولم تكد جثته توارى في التراب حتى شرع بعض الأدباء في استعراض قصائده. وما لبثت أوستراليا أن وجدت فيه شاعرها القومي. ولا يوجد الآن تلميذ في مدارس أوستراليا لا يحفظ عن ظهر قلبه قصيدته المشهورة (الفارس المريض)

(الجريدة السورية اللبنانية)

ذكرى علامة ألماني

احتفل المعهد العلمي الألماني أخيراً بذكرى العلامة المخترع فرتز هابر الذي توفي منذ نحو عام في برلين، ودفن في صمت مطبق. ولهذا الاحتفال الذي يقيمه اعظم معهد علمي في ألمانيا، يجمع أقطاب العلم الألماني كله، مغزى مدهش. ذلك أن فرتز هابر يهودي تنكره ألمانيا الهتلريه، وتنكر كل جنسه، ولكن فرتز هابر هو أيضا اعظم كيماوي ومخترع ألماني ظهر في العصر الأخير، وهو الذي اخترع (غاز) الحرب الخانق، أمد ألمانيا خلال الحرب بأعظم سلاح استطاعت أن تصمد به لخصومها أعواماً، وقد لبث هابر عميد المباحث الكيماوية الألمانية حتى قام الطغيان الهتلري في ألمانيا، ونظمت مطاردة اليهود المعروفة،

ص: 70

فاعتكف العلامة الشيخ في شبه اعتقال، وتوفي بعيداً عن كل تكريم وضجة، ولكن ألمانيا الهتلرية تحاول اليوم أن تعيد صرح العسكرية البروسية القديمة، وهي لا ترى اليوم بأساً من أن تكرم ذكرى قطب من أقطاب الاختراعات الحربية، ولا بأس أن يجمتع أكابر العلماء الألمان برغم النظريات الجنسية لتكريم زميلهم وعميدهم الراحل الذي استطاع أن يستخرج (الآزوت) من الهواء، وأن يخترع (غاز) الحرب، وكذلك أقنعة النجاة الواقية من الغاز؛ وخطب عدة من أكابر العلماء بينهم بعض الرجال الرسميين في تمجيد ذكرى العلامة الراحل وذكرى وطنيته ونبوغه؛ وأكد العلامة بلانك والكولونل كيرث أن فرتز هابر يستحق لقب (العالم المجهول) وأنه لولا اختراعاته لما استطاعت ألمانيا أن تتابع الحرب منذ سنة 1915، وذكر الخطباء كيف وفق هابر إلى اختراع (الغاز) في أبريل سنة 1915 وأشرف بنفسه على أول هجوم استعمل فيه الغاز في منطقة (ايبر)؛ وأنه لو تقتصد ألمانيا في حرب (الغاز) لكان ظفرها في الحرب مرجحاً

ومع أن السلطات الرسمية صرحت بإقامة هذا الاحتفال، فإنها حظرت على الصحف أن تنشر عنه شيئاً؛ ولم يعرف إلا مما نشرته الصحف الأجنبية لمراسليها

وهكذا تعيش ألمانيا النازية في غمر من المتناقضات!

بعثة أثرية في الهند تعثر على اكتشاف غريب

عثرت بعثة أثرية إنجليزية في الهند على آثار قديمة يرجع عهدها إلى خمسة آلاف سنة. وقد تضاربت الآراء في هذه الاكتشافات الغربية التي وجدها هؤلاء إذ أنها تتألف من تماثيل متباينة الأشكال والأوصاف

فقد وجد رجال البعثة فيما وجوده قاعتين كبيرتين تحت سطح الأرض امتلأت الأولى بهياكل شبان طوال القامة، والثانية بهياكل متلاصقة الأجسام من رجال ونساء. فحار المكتشفون في هذه الهياكل وظلوا ينقبون ويعلمون حتى عثروا على لوحات كتبها المؤرخون القدماء أماطت اللثام عن سر الغرفتين الذي يعد في التاريخ أبرز حادث للتبذل والقساوة

وهذه اللوحات تشير إلى كاهنة شابة تدعى (لبيسوبامو) كانت تتمتع بنفوذ الملوك والملكات. وهذه الكاهنة كانت محبوبة من الشعب ومقدسة منه

ص: 71

ولكن حدث لسوء الحظ أنها أحبت شاباً من عامة الشعب فحنق أخوها على هذا الشاب وقتله. وغضبت الكاهنة وتبدلت أخلاقها واستحالت من فتاة محتشمة إلى امرأة متبذلة؛ وصارحت أخاها الذي قتل عشيقها الأول دفاعاً عن عرضها بأنها ستقدم نفسها إلى كل عابر، وأنها ستحب الرجال جميعاً وتنتقم منهم جميعاً

ومضت الكاهنة في حياة التبذل حتى أصبحت فضائحها حديث الناس. وعندئذ خطر لها أن تلتمس الحصانة بإيهام الناس أنها ارتفعت إلى مصاف الآلهة. ونجحت في ذلك، ولم تذكر لنا اللوحات كيف نجحت

ضمت الكاهنة إليها عدداً كبيراً من أجمل البنات أطلقت عليهن اسم (حاشية العذارى) واشترطت عليهن أن يحذين حذوها في التغرير بالرجال والتنكيل بهم، وتوعدت بالموت كل فتاة تحب رجلاً وتخلص له

وهكذا كانت الفتيات يرتدين الغلائل الرقيقة التي تكشف عن تقاطيعهن الجميلة وينطلقن في شوارع المدينة ليلاً لاصطياد الفتيان، ثم يعدن بهم إلى القصر حيث يقضي الجميع الليل كله في التبذل واحتساء الخمر وتعاطي الأفيون حتى إذا أقبل الفجر وضعت كل فتاة في كاس فتاها قطرة من سم عجيب لا تذكر بجانبه سموم يورجيا ودي مدسيس، وبعدئذ يأتي العبيد فيحملون الرجال إلى غرفة خاصة يقضون فيها نحبهم قبل أن يفيقوا من نشوة الخمر

وكان يتفق في بعض الأحيان أن تحب الفتاة أحد أولئك الرجال فتؤثر أن تموت معه، وتضع السم في كأسها وكأسه، فيحمل العبيد الاثنين إلى الغرفة الثانية الخاصة بالعاشقين

ولم تذكر اللوحات التي عثر عليها رجال البعثة كيف كانت خاتمة تلك الكاهنة المتألمة المبتذلة

(الأرز)

ص: 72

‌من روائع الشرق والغرب

من (شقائق الطور)

لشاعر الهند محمد إقبال

ترجمة الدكتور عبد الوهاب عزام

أيها الفاضل لا تخيم على الساحل. فهناك نغم الحياة واهنة. اقذف بنفسك في اليم وتقلب مع أمواجه، فالحياة الخالدة في هذا الجِلاد

لا تحدث بالحياة وحقائقها، فليست بصيرا بطرائقها. لقد انتشيتُ من لذة الأسفار، حتى لا أرى المنزل على الطريق إلا كالمنار

إن عالمنا الذي لا يُحد غريق في بحر الأيام، فانظر إلى القلب لترى الأيام غرقي في هذا الجام

أنا نجى طير المروج الخضراء، وأنا لسان البراعيم الخرساء، فإذا مت فاذرُ ترابي في الصبا، فلستُ أعرف إلا الطواف حول الورد

أُيظهر وادي الأزهار هذا كل كائن؟ فما الذي في ضمائر الشقائق المحترقة؟ نحن نرى المرج موجة من اللون والريح، فليت شعري ما المرج في نظر البلابل؟

أيها الغِر أنت ابن الإسلام، فاهجر الأنساب والألوان. إذا فخر العربي باللون والدم، والعصب والجلد، فليس منا ولسنا منه

لسنا من الأفغان ولا الترك والتتار؛ نحن بنو هذا المرج، نمتنا دوحة واحدة. إن فُرقة اللون والريح علينا حرام فقد أنبتنا ربيع واحد

لماذا تسألني ما أنا ومن أين أتيت؟ أنا ابن نفسي منذ حييت. أنا في هذا اليم موج لا يستقر، فإذا لم أتقلب على نفسي فنيت أنا في هذا اليم موج لا يستقر، فإذا لم أتقلب على نفسي فنيت

إن عالمنا صورة ناقصة، يتقلب بها الصباح والمساء. أعني أن مبرد القضاء يسوي هذه الدمية التي لم تتم

شق طريقك بفأسك، فالعذاب أن تسلك سبيل غيرك، إن أبدعت يدك عملا، فهو ثواب وإن

ص: 73

كان إثما

إن دليل القلب لا يطمئن إلى المنازل، ولا تأسره العناصر. لا تحسبنه مستريحاً في البدن، فهذا البحر لا يألف السواحل

أخذت خلوتي بين الماء والطين، وفررت من الفارابي وأفلاطون. ما اجتديت من أحد عينا، وما رأيت العالم إلا بعيني

أيها القلب خذ رمز الحياة عن البراعم، فالحقيقة في مجازها متجلية! إنها تنبت من التراب المظلم، ولكن نظراتها أشعة الشمس

عبد الوهاب عزام

ص: 74

‌الوحدة

'

لشاعر الحب والجمال لامرتين

مهداة إلى الأستاذ. . . أحمد حسن الزيات

لدى سرْحة من فوق قلة شاهق

جلست شريد الفكر منشعب القلب

يشيِّع طرفي الشمس عند دلوكها

ويرقب من تلك المشاهد ما يصبي

إذِ النهر صخابٌ تلاطم موجه!

قد انساب في الوادي فأمعن في الشِّعب

وإذْ طرفُ أمواج البحيرة راقدٌ

تراءى نجوم الليل في غمرها الرحب

وما زال ذوبُ التبر بعد غروبها

يُنير أعالي الدوْح فوق ذرى الهضْبِ

وراح مليك الليل يختال صاعداً

إلى عرشه العلوي في رفرفٍ رطب

وفي جنبات الأرض تبر مشعشع

به ازدهر الأفق الجميل من السكب

وقد رنَّ في الأجواء ناقوس معبدٍ

رنيناً يهز القلب في البعد والقرب

فكف عن الأعمال فلاح قريةٍ. . .!

وقد وقف الغادون من خشية الرب

قد اختلطت تلك الأرانين بالذي

تبقى من الضوضاء في يومنا المُصبي

ولكن نفسي من مباهج ما رأتْ

من المنظر الفتان خلو من الحب!!

أجل! كانت الدنيا بعيني كأنها

خيالٌ مطيفٌ لا يقر على هُدْب

وهل تدفئ الموتى من الشمس شعلة

تشع على الأحياء في السهل والكُثب؟

اقلب طرفي في الجبال وفي الربى

وفي الشفق الباكي من الشرق للغرب!!

وفي القفر، والمأهول، في غسق الدجا

لأنفض ما فيها؛ فابلغ من إربى

عسى أن أرى لي في محلٍ سعادةً

ولست بلاق أو أغيب في الترب

وما تصنع الوديان لي، وجواسق

على السفح بل تلك القصور التي تصبي

إذا هي لا تبدو لعيني جميلة. . . .

ولا سحرها ينفي بفتنته كربى!!!

ألا يا مغاني الأنس أنت عزيزة

على، ولكن قد خلوتن من حِبي

لغيبة مخلوق مدى الدهر واحد

أراكن قفراً في عيوني، وفي قلبي

سواء أتبدو الشمس أم هي تختفي

وتصحو سماء. . أم تلَفَّعٌ بالسحب

ويظلم ليل. . أم ينير صباحه

ويسعد أو يشقي أنيس مع السرب

ص: 75

فليس لنفسي في نهاري بغية

ولا في غدي مادمت أحيا بلالب

ولست أرى إذا أتبع الشمس ناظري

تدور على الأكوان في أفقها الرحب

أجل لا أرى إلا فراغاً وخلوةً

لنأى حبيب ليس يلفي لدى الترب

وما حاجتي فيمن تظلله السما

ومن تحت نور الشمس يهتز كالقضْب

وخلف مدار الشمس مدارها

على عالم أسمي تمنع بالحجب. .!

فلو أن نفسي أطلقت من قيودها

لألفت حبيب القلب يحيا مع الشهب

فأسعد باللقيا، وأنعم بالمنى

وأحسو رحيق الخلد من ريقها العذب

لدى مُتع لم تهف يوماً بمسمع

ولا خطرت في فكر ذي شغف صب

وأنّى لنفسي أن تطير فنلتقي. . .

وقد قُيدت من حمأة الطين بالجذب

فياليت شعري لِمْ قضى الله أن أرى

شريداً، وخلى ليس ينعشه قربي

إذا ما ذوت أوراق دوح بمرجها

وأسلمها قر الخريف إلى السَّلب

وهبَّت من القطب الرياح زعازعاً

عليها فألقتها أباديد في الترب

وحالي شبيه في حياتي بحالها

فياويح نفسي من زعازعها النكب

إلا فانثريني يا أعاصير مثلما

نثرت من الأوراق في جوك الرحب

فما بعد هذا الصبح إلا دجنَّة

وما بعد يأسي وانفرادي سوى خطبي

دير الزور

عبد الجبار الرجبي

ص: 76

‌الكتب

علم الدولة: تأليف الأستاذ احمد وفيق

أبو تمام: تأليف عمر فروخ

للأستاذ محمود الخفيف

أما أولهما وهو علم الدولة، فهو الجزء الثاني من تلك الموسوعة الكبيرة التي اضطلع بتأليفها وإهدائها إلى لغة الضاد الأستاذ أحمد وفيق؛ ولعل القراء يذكرون أني حين قدمت إليهم الجزء الأول منها أشرت إلى خطر هذا المؤلف الجليل لمصر والعالم الشرقي، ولا سيما في هذا العصر الذي تشغل السياسة فيه عقول بني الشرق في توثبهم وتطلعهم إلى الحرية

ومما نغتبط له بحق، وقد طال افتقارنا في نهضتنا العلمية إلى هذه الناحية من نواحي المعرفة، أن الأستاذ قد جرى في هذا المؤلف على طريقة البسط والعرض تعقبهما المناقشة والتحليل؛ فهو يستوعب هذا العلم ويلم بأطرافه، لا يغادر شيئاً مما قيل فيه، فضلاً عن أنه يسير في سرده مع التاريخ فينقلك من عصر إلى عصر ويريك مبلغ ما طرأ على نظريات هذا العلم من تطور حسبما مرت فيه من عصور. وهو إلى جانب هذا يقف عند كل نظرية مبنياً لك ما دار حولها من المناقشات ومقدار ما لاقت من تأييد أو تفنيد

أقول إن هذه الطريقة التي سار عليها الأستاذ المؤلف هي ميزة الكتاب الأساسية، وإن كان في القراء سواي من قد يعيبها، إذ يستحضر في ذهنه تلك الكتب التي وضعت في هذا العلم في غير لغتنا وكان قوامها التخصص والاستقصاء والتعمق، فالعالم هناك يتناول ناحية خاصة من جزيئات العلم ويعرضها في تحليل ودقة وتقصّ، مما يفتق الذهن ويرهفه ويلذه، ولكننا الآن أو على الأقل كثرتنا، لم تتعد بعد مرحلة الإلمام والاستيعاب. وخير ما يعمله المؤلف في هذه الحالة أن يعرفك إلى العلم، حتى إذا تم لك ذلك أمكنك أن تتابع فيه من يتفلسف ويتقصى

وقف الجزء الأول من هذا الكتاب عن عهد الإصلاح، فابتدأ به الجزء الثاني الذي أحدثك عنه، واختتم بالثورة الفرنسية، وهي فترة لذيذة ممتعة بما تخللها من مواقف وحوادث كان

ص: 77

لها أعظم الأثر في تطور فكرة الدولة؛ وحسبك من تلك الحوادث الثورة الفرنسية الكبرى، وما مهد لها به كبار الفلاسفة من آراء في هذا الموضوع الخطير

هذا ولقد ارتحت كثيراً إلى أسلوب الأستاذ وفيق لملاءمته لطريقته، فهو يتدفق من غير التواء ولا تعقيد، ويتبسط في غير حشو ولا إسفاف

والكتاب الثاني عبارة عن رسالة صغيرة موضوعها أبو تمام، شاعر الخليفة محمد المعتصم بالله، ويقع في مائة صفحة من القطع الصغير، صدره مؤلفه الأديب عمر فروخ بصورة خيالية للشاعر بريشته، وهو على صغر حجمه، قد جمع كثيراً مما يهم كل أديب معرفته عن أبي تمام، ولقد كان صاحبه موفقاً في تقسيم موضوعه، فابتدأ بالترجمة مبيناً حياة الشاعر عهداً عهدا، ولا يخفى على القارئ أثر ذلك في المساعدة على تفهم شعره. بعد ذلك أخذ يشرح خصائص أبي تمام وما امتاز به من غيره، وعرض أقوال المخالفين له والمعجبين به، ثم ختم بحثه بنقد فنون الشاعر، جاريا في ذلك وفق ما اصطلح عليه النقاد، دون أن يحول ذلك بين إدلائه برأيه في دقة وإنصاف جديرين بالثناء، فأفاض في نقد مدح أبي تمام وموقفه من ممدوحيه، ثم بسط طريقته في الرثاء ومكانته في هذا الباب، وتعرض لمقدرته في الوصف مستشهدا في ذلك كله بأبياته المشهورة محللاً لها مبينا رأيه فيها مما يشهد للمؤلف بحسن الذوق، ويكسب رسالته على الرغم من صغرها كثيرا من الثناء والتقدير

الخفيف

ص: 78